الكتاب: تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن المؤلف: عبد العظيم بن الواحد بن ظافر ابن أبي الإصبع العدواني، البغدادي ثم المصري (المتوفى: 654هـ) تقديم وتحقيق: الدكتور حفني محمد شرف الناشر: الجمهورية العربية المتحدة - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر ابن أبي الأصبع الكتاب: تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن المؤلف: عبد العظيم بن الواحد بن ظافر ابن أبي الإصبع العدواني، البغدادي ثم المصري (المتوفى: 654هـ) تقديم وتحقيق: الدكتور حفني محمد شرف الناشر: الجمهورية العربية المتحدة - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر قال العبد الفقير إلى ربه، المستغفر من ذنبه، عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن أبي الإصبع عفا الله عنه: الحمد لله حمداً يستعذب الحامد مساغه، وصلى الله على من كانت أعظم آياته البلاغة وعلى آله وصحبه مازان حلى الكلام من صيغ له ومن صاغه. وبعد، فإني رأيت ألقاب محاسن الكلام التي نعتت بالبديع قد انتهت إلى عدد منه أصول وفروع: فأصوله، ما أشار إليها ابن المعتز في بديعه وقدامة في نقده، لأنهما أول من عني بتأليف ذلك. أما ابن المعتز فهو الذي سماه البديع، واقتصر في كتابه بهذه التسمية على خمسة أبواب، وهي: الاستعارة منفرداً بها،، على أن قدامة ذكر الاستعارة ولم يبوب عنها في المحاسن، وإنما جاء بها في ذكر المعاظلة من العيوب، وزعم أن المعاظلة ما استبشع من الاستعارة،، فاقتضى كلامه أن من الاستعارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قبيحاً وحسناً، فحسنها من المحاسن، وقبيحها من العيوب، ولم يذكرها في المحاسن، وابن المعتز ذكرها والتجنيس، والطباق متوارداً عن قدامة عليهما، ورد الأعجاز على الصدور منفرداً به، وختما بخامس عزا تسميته إلى الجاحظ، وهو المذهب الكلامي منفرداً به، وإن كان ما قبله من الأسماء الأربعة قد سبقت العرب إلى وضعها، وربما سبق ابن المعتز إلى نقلها وعدها. وقال ابن المعتز في صدر كتابه: وما جمع قبلي فنون البديع أحد ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، وألفته سنة أربع وسبعين ومائتين وأول من نسخه مني علي بن يحيى بن منصور المنجم، ثم قال بعد سياقه الأبواب الخمسة: ونحن الآن نذكر محاسن الكلام والشعر وإن كانت محاسنهما كثيرة لا ينبغي للعاقل العالم أن يدعي الإحاطة بها حتى يتبرأ من شرود بعضها عن علمه، وأحببنا بذلك أن نكثر فوائد كتابنا للمتأدبين ويعلم الناظر فيه أنا قد اقتصرنا بالبديع على الفنون الخمسة اختياراً من غير جهل بالطريقة، ولا ضيق في المعرفة، فمن أحب أن يقتدي بنا ويقتصر على تلك الخمسة بالبديع فليفعل، ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئاً إلى البديع وارتأى غير رأينا فله اختياره، وهذا حين ذكر الماسن ثم ذكر الالتفات، وقد توارد عليه هو وقدامة، وذكر اعتراض كلام في كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمه في بيت واحد أو جملة واحدة، وهذا الباب سماه قدامة التمام وسماه الحاتمي في الحلية التتميم. وهو مما توارد عليه قدامة، وابن المعتز، ثم ذكر من المحاسن الخروج من معنى إلى معنى، وهو الذي سماه الحاتمي الاستطراد، ناقلاً تسميته لا مخترعاً وهو من أفراد ابن المعتز، ثم ذكر تأكيد المدح بما يشبه الذم منفرداً به وذكر تجاهل العارف، وهو الذي سماه المتأخرون الإعنات والتشكيك وهذه التسمية غير مطابقة من كل وجه، والتشكيك باب مفرد بينه وبين تجاهل العارف فرق سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وهو من إفراد ابن المعتز، ثم ذكر الهزل الذي يراد به الجد منفرداً به، وذكر حسن التضمين منفرداً به، وذكر الكناية منفرداً بها، وذكر الإفراط في الصفة متوارداً عليها مع قدامة، وسماها قدامة المبالغة، وذكر التشبيه متوارداً هو وقدامة عليه، وذكر عتاب المرء نفسه منفرداً به، وذكر حسن الابتداءات، منفرداً به، وسماه من بعده براعة الاستهلال على اختلاف في شواهده، فهذه اثنا عشر باباً من المحاسن تضاف إلى أبواب البديع الخمسة فيصير بها ما اخترع ابن المعتز جميعه من ذلك سبعة عشر باباً. وأما قدامة فضمن كتابه الموسوم بنقد الشعر عشرين باباً، وهي: التشبيه والتمام، والمبالغة، والطباق، الجناس متوارداً هو وابن المعتز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 عليهن جميعاً، وبقية العشرين مما انفرد به قدامة، وهي: التكافؤ، وإن كان هذا الباب تداخل على قدامة في باب الطباق، وسأبين ذلك في موضعه، وصحة الأقسام، وصحة المقابلات، وصحة التفسير، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وهو باب فرع منه قدامة ستة أبواب، وهي المساواة، والإشارة، والإرداف، والتمثيل، ثم فرع من باب ائتلاف اللفظ مع المعنى أيضاً: الطباق، والجناس، وقد مضى ذكر توارده مع ابن المعتز عليهما، وذكر ائتلاف اللفظ مع الوزن، وائتلاف المعنى مع الوزن، وقد جعل المتأخرون هذين البابين باباً واحداً، وسموه والتهذيب والتأديب. لكن قدامة خص بهما الشعر، ومن سماهما تهذيباً وتأديباً لا يخص بهما الشعر دون النثر، ولا النثر دون الشعر، بشرط أن يعم بالتسمية فيقول: ائتلاف اللفظ مع المعنى مطلقاً، من غير أن يذكر الوزن وائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت وقد سماه من بعده التمكين وخص به الشعر أيضاً وهو لا يخصه وفرع قدامة من هذا الباب بأبي التوشيح والإيغال فهذه ثلاثة عشر باباً صحت لقدامة منفرداً بها، بعد إسقاط ما تداخل عليه، وهو التكافؤ، وإذا أضيفت إلى ما قدمه ابن المعتز من البديع وأضافه إليه من المحاسن صارت عدة الأصول من كتابيهما بعد حذف ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 تواردا عليه ثلاثين باباً سليمة من التداخل، وهذه أصول ما ساقه الناس في كتبهم من البديع إلى هلم جرا، ثم اقتدى الناس بابن المعتز في قوله: فمن أحب أن يضيف شيئاً من هذه المحاسن أو غيرها إلى البديع فليفعل فأضاف الناس المحاسن إلى البديع، وفرعوا من الجميع أبواباً أخرى، وركبوا منها تراكيب شتى، واستنبطوا غيرها بالاستقراء من الكلام والشعر حتى كثرت الفوائد، ورأوا ابن المعتز قد غلب اسم البديع على اسم المحاسن فسمى كتابه البديع وهو جامع لهما معاً فاقتدوا به، لأنه المخترع الأول للتصنيف، فسمى كل من وضع كتاباً في ذلك باسم إما مصرح بالبديع أو راجع معناه إليه، وكذلك فعل كل من عرف نوعاً منه عند سؤاله عنه، فإنه يقول: هذا الضرب الفلاني من البديع إلا من ألف في مجموع البلاغة، أو تعرف كنه الفصاحة، أو في النقد كتاباً، فإن له أن يسميه ما شاء، ولقد وقفت من هذا العلم على أربعين كتاباً منها ما هو منفرد به، وما هذا العلم أو بعضه داخل في بعضه كنقدي قدامة وبديع ابن المعتز، وحلية المحاضرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وكشفت عن الحالي والعاطل الذي ذكره الحاتمي في الحلية فلم أجد من يعترف بوقوفه عليه سوى ابن منقذ في بديعه، وكالصناعتين للعسكري، والعمدة لابن رشيق، وتزييف نقد قدامة له، ورسالة ابن بشر الآمدي التي رد بها على قدامة، وكشف الظلامة للموفق البغدادي، والنكت في الإعجاز للرماني، والجامع الكبير في التفسير له، والتعريف والإعلام للسهيلي، ودرة التنزيل وغرة التأويل للخطيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وأعجاز القرآن للبالقداني، والكشاف للزمخشري، وإعجاز الجرجاني المسمى بدلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة له، ونظم القرآن للجاحظ، والبيان والتبيين له، وإعجاز ابن الخطيب، ورسالة الصولي التي قدمها على شعر أبي نواس، ورسالته في أخبار أبي تمام، ورسالة ابن أفلح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وشروح أبي العلاء الثلاثة، وهي: ذكرى حبيب، وعبث الوليد، ومعجز أحمد، والمنصف لابن وكيع، والموازنة، للآمدي، والوساطة للجرجاني، والغرر والدرر للمرتضى، وكتاب الصرفة له، والمجاز لأخيه الرضى، وشرح حديث أم زرع للقاضي عياض رحمه الله وما لخصه في آخره من بديع الحديث، والحديقة للحجاري براء مهملة صاحب المسهب في أخبار أهل المغرب، وبديع التبريزي، وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 والمثل السائر لابن الأثير الجزري، والإقناع للصاحب ابن عباد، وبديع أبي إسحاق الأجدابي، وبديع شرف الدين التيفاشي، وهو آخر من ألف فيه تأليفاً في غالب ظني، وجمع ما لم يجمعه غيره لولا مواضع نقلها كما وجدها ولم ينعم النظر فيها، وبعض الأبواب التي تداخلت عليه. وإذا وصلت إلى بديع ابن منقذ وصلت إلى الخبط والفساد العظيم، والجمع من أشتات الخطإ وأنواعه من التوارد والتداخل، وضم غير البديع والمحاسن إلى البديع، كأنواع من العيوب، وأصناف من السرقات، ومخالفة الشواهد للتراجم، وفنون من الزلل والخلل يعرف صحتها من وقف على كتابه وأنعم النظر فيه، لا جرم أني لم أعتد بكتابه في عدة ما وقفت عليه من ذلك، وإن كنت قلما رأيت منها كتاباً خلا عن موضع نقد، بحسب منزلة واضعه من العلم والدراية، فمن قليل ومن كثير، وكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا من عصمة الله من أنبيائه، صلوات الله عليهم وسلامه والسعيد من عدت سقاطته، " وما أبرئ نفسي " ولا أدعي سلامة وضعي دون أبناء جنسي، غير أني توخيت تحرير ما جمعته من هذه الكتب جهدي، ودققت النظر حسب طاقتي، فتحرست من التوارد، وتجنبت التداخل، ونقحت ما يجب تنقيحه، وصححت ما قدرت على تصحيحه، ووضعت كل شاهد في موضعه، وربما أبقيت اسم الباب وغيرت مسماه إذ رأيت اسمه لا يدل على معناه، إلى أن جمعت جميع ما في هذه الكتب من الأبواب على ما قدمت من الشرائط، فكان ما جمعته من ذلك ستين باباً فروعاً بعد ما قدمته من الأصول، وهي: الاحتراس، والمواربة براء مهملة، والترديد، والتعطف، والتفويف، والتسهيم، والتورية، والتوشيح، والاستخدام، والتغاير، والطاعة والعصيان، والتسميط، والمماثلة، والتجزئة، والتسجيع، والترصيع، والتصريع، والتشطير، والتعليل، والتطريز، والتوشيح، والاشتراك، والتلفيف، والعكس، والإغراق، والغلو، والقسم، والاستثناء والاستدراك، وجمع المختلفة والمؤتلفة، والتوهيم، والاستطراد، والتكميل، والمناسبة، والتفريع، والتكرار، ونفي الشيء بإيجابه، والإيداع، والاستعانة والموازنة بزاي معجمة، والتذييل، والمشاكلة، والمواردة، والتهذيب، وحسن النسق، وبراعة التخلص، والانسجام، والحل، والعقد، والتعليق، والإدماج والازدواج، والاتساع، والمجاز، والإيجاز، وسلامة الاختراع من الاتباع، وحسن الإتباع، وحسن البيان، والتوليد، والتنكيت، والاتفاق، والإغراب، والطرفة. وأنعم النظر فيه، لا جرم أني لم أعتد بكتابه في عدة ما وقفت عليه من ذلك، وإن كنت قلما رأيت منها كتاباً خلا عن موضع نقد، بحسب منزلة واضعه من العلم والدراية، فمن قليل ومن كثير، وكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا من عصمة الله من أنبيائه، صلوات الله عليهم وسلامه والسعيد من عدت سقاطته، " وما أبرئ نفسي " ولا أدعي سلامة وضعي دون أبناء جنسي، غير أني توخيت تحرير ما جمعته من هذه الكتب جهدي، ودققت النظر حسب طاقتي، فتحرست من التوارد، وتجنبت التداخل، ونقحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ما يجب تنقيحه، وصححت ما قدرت على تصحيحه، ووضعت كل شاهد في موضعه، وربما أبقيت اسم الباب وغيرت مسماه إذ رأيت اسمه لا يدل على معناه، إلى أن جمعت جميع ما في هذه الكتب من الأبواب على ما قدمت من الشرائط، فكان ما جمعته من ذلك ستين باباً فروعاً بعد ما قدمته من الأصول، وهي: الاحتراس، والمواربة براء مهملة، والترديد، والتعطف، والتفويف، والتسهيم، والتورية، والتوشيح، والاستخدام، والتغاير، والطاعة والعصيان، والتسميط، والمماثلة، والتجزئة، والتسجيع، والترصيع، والتصريع، والتشطير، والتعليل، والتطريز، والتوشيح، والاشتراك، والتلفيف، والعكس، والإغراق، والغلو، والقسم، والاستثناء والاستدراك، وجمع المختلفة والمؤتلفة، والتوهيم، والاستطراد، والتكميل، والمناسبة، والتفريع، والتكرار، ونفي الشيء بإيجابه، والإيداع، والاستعانة والموازنة بزاي معجمة، والتذييل، والمشاكلة، والمواردة، والتهذيب، وحسن النسق، وبراعة التخلص، والانسجام، والحل، والعقد، والتعليق، والإدماج والازدواج، والاتساع، والمجاز، والإيجاز، وسلامة الاختراع من الاتباع، وحسن الإتباع، وحسن البيان، والتوليد، والتنكيت، والاتفاق، والإغراب، والطرفة. وأضفت هذه الأبواب الفروع إلى تلك الثلاثين الأصول فصارت الفذلكة تسعين باباً، ورأيت الأجدابي قد ذكر من محاسن القافية أربعة أبواب منها بابان هما باب واحد سماهما بتسميتين غير مطابقتين لمعناهما، فجعلتهما باباً واحداً على حكم ما أخذت به نفسي من حذف المتداخل، وسميته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الالتزام وعند ذكر شواهده يعلم مطابقة تسميته لمسماه، وبابان معناهما حسن سمي أحدهما بتسمية أيضاً غير لائقة، فسميته تشابه الأطراف وسنبين حسن هذه التسمية. وباب أيضاً سماه بما لا يوافق، فسميته التوأم فسلمت له ثلاثة أبواب عوضت بها ما تداخل في باب التهذيب من ائتلاف اللفظ مع الوزن، والمعنى مع الوزن، وما تداخل في باب التمكين من ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت لتصح العدة على شرط السلامة تسعين باباً كلها من المحاسن ليس فيها شيء من ضروب العيوب، وهي عند من لا يجعل التهذيب باباً واحداً، وليس ذلك بممتنع، ثلاثة وتسعون باباً ولما أمرني من لا محيد لي عن أمره، ولا محيص عن رسمه، سيد الفضلاء وقدوة البلغاء، وملجأ الأدباء، ومحط رحال الغرباء، وإمام الكرماء، القاضي الأجل الفاضل شرف الدين أبي الحسن بن القاضي الأجل الفقيه الإمام الورع العدل الرضي جلال الدين المكرم أبي الحسن موسى بن الحسن بن سناء الملك: كامل نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عموداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أمتعه الله بفضائله، كما أمتع الفضلاء بفواضله، ورحم سلفه، كما رحم به من عرفه، بجمع ما في كتب الناس من ذلك على سبيل الاختصار من الشواهد، وتجنب الإطالة بذكر كل الاشتقاق، إلا إيضاح مشكل، أو كشف غامض، أو زيادة بسط في الكلام، على أنه من كتاب الله تعالى، أو في بيت قد أهمل تقصي الكلام عليه، بادرت إلى امتثال أمره، واستخرت الله سبحانه وتعالى حالة الشروع في مرسومه، وسألته الإعانة على بلوغ غرضه، والهداية إلى ما يترجح عنده. ولما أخذت في ذلك عن لي استنباط أبواب تزيد بها الفوائد، ويكثر بها الإمتاع، نسجاً على منوال من تقدمني، واتباعاً لسنة من سبقني، ففتح علي من ذلك بثلاثين باباً، سليمة من التداخل والتوارد، لم أسبق في غلبة ظني إلى شيء منها، اللهم إلا أن يوجد في زوايا الكتب التي لم أقف على شيء مما اخترعته، فأكون أنا ومن سبقني إليه متواردين عليه، وما أظن ذلك، والله أعلم. ولما انتهى استخراجي إلى هذا العدد، أمسكت عن الفكر في ذلك ليكون ما أتيت به وفق عدد الأصول من هذا الشأن، وهذا أوان سياقة أبوابي التي استنبطتها، وضروبي التي استخرجتها؛ وهي: التخيير، والتدبيج، والتمزيج والاستقصاء، والبسط، والهجاء في معرض المدح، والعنوان، والإيضاح والفرائد، والحيدة والانتقال، والشماتة، والتهكم، والتندير، والإسجال بعد المغالطة، والإلغاز والتعمية، والتصرف، والنزاهة، والتسليم، والافتنان، والمراجعة، والسلب والإيجاب، والإبهام، والقول بالموجب، وحصر الجزئي وإلحاقه بالكلي، والمقارنة، والمناقضة، والانفصال، والإبداع، وحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الخاتمة، وألحقت ذلك بما تقدم من الأبواب، فصارت عدة أبواب هذا الكتاب مائة باب وثلاثة وعشرين باباً سوى إذا انشعب من أبواب الائتلاف من الجناس والطباق، والتصدير، ووسمته بتحرير التحبير، وبعض هذه الأبواب وهو الأقل يخص الشعر، وباقيها وهو الأكثر يعم الشعر والنثر، يعلم ذلك من تبحر في هذا الكتاب، فالذي يخص الموزون منها ثلاثة وعشرون باباً مراعاة لاشتراك القرآن العزيز مع النثر ودخوله في بابه، ولانفراد الموزون عن المنثور من كلام المخلوقين فثلاثة عشر باباً لا غير، والله أعلم، وهي: المواربة براء مهملة، والتسميط، والتجزئة، والتسجيع، والترصيع، والتصريع، والتشطير، والتطريز، والعكس، والإغراق، والغلو، والاستدراك، والاطراد، والتفريع والإيداع، والاستعانة، والموازنة، والمشاكلة، والمواردة من الفروع، ومن الأصول الهزل الذي يراد به الجد، وائتلاف اللفظ مع الوزن، وائتلاف المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 مع الوزن، وباقي الأبواب وهي مائة باب تعم الموزون والمنثور، وتوجد في الكتاب العزيز إلا الأقل لمن دقق النظر في الاستنباط والله سبحانه وتعالى المسئول في حسن التوفيق إلى التحقيق لنهتدي إلى سبيل الرشد ونهج الصواب وسعادة يرزق بها هذا التأليف حسن القبول من ذوي الألباب، إنه الكريم الوهاب، وهذا حين الشروع في تفصيل جملة الأبواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الجزء الاول باب الاستعارة حد الرماني الاستعارة بأن قال: هي تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل. وقال ابن المعتز: هي استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء قد عرف بها وقال ابن الخطيب في إعجازه: الاستعارة ذكر الشيء باسم غيره وإثبات ما لغيره له للمبالغة في التشبيه. وقال أيضاً: الاستعارة جعل الشيءِ الشيءَ، أو جعل الشيء للشيء لأجل المبالغة في التشبيه. وقلت: هي تسمية المرجوح الخفي باسم الراجح الجلي للمبالغة في التشبيه، كقول الله تعالى " وإنه في أم الكتاب " وكقوله سبحانه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " وكقوله عز وجل: " واشتعل الرأس شيباً ". ولا بد في الاستعارة من اعتبار ثلاثة أشياء أصول: مستعار، ومستعار منه، ومستعار له. فالمستعار في الآية الأخيرة: الاشتعال، والمستعار منه: النار، والمستعار له: الشيب، والجامع بين المستعار منه والمستعار له مشابهة ضوء النار لبياض الشيب، وفائدة ذلك وحكمته وصف ما هو أخفى بالتشبيه لما هو أظهر، وقد جاء الكلام في الاستعارة التي في الآية الأخيرة على غير وجهه، فإن وجه الكلام فيها أن يقال: واشتعل شيب الرأس، وإنما قلب لما يحصل في قلبه من المبالغة لكونه في حالة القلب يستفاد منه عموم الشيب لجميع الرأس، ولو جاء الكلام على وجهه لم يفد ذلك العموم، ومثال ذلك أنك لو قلت في مثاله اشتعلت النار في البيت: لصدق هذا القول على اشتعال النار في جانب واحد من البيت دون بقية جوانبه، وإذا قلت: اشتعل البيت ناراً أفاد هذا القول أن النار قد شملت جميع نواحي البيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وجهاته، وعلى هذا فاعتبر الاستعارة لتعلم أنها على قسمين: قسم يجيء الكلام فيه على وجهه فلا يفيد سوى إظهار الخفي فقط، أو المبالغة فحسب، وقسم يأتي الكلام فيه على غير وجهه فيفيد المعنيين معاً، وأحسنها ما قرب منها دون ما بعد ولم يسمع سامع في الاستعارة كقوله تعالى " والصبح إذا تنفس " فإن ظهور الأنوار في المشرق من أشعة الشمس قليلاً قليلاً بينه وبين إخراج النفس مشابهة شديدة. وأجل الاستعارات الاستعارة المرشحة كقوله تعالى: " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم " فإن الاستعارة الأولى وهي لفظة الشراء رشحت الثانية وهي لفظتا الربح والتجارة للاستعارة. والله أعلم. ومن أمثله الاستعارة في السنة النبوية قوله عليه السلام: " ضموا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء " فاستعار صلى الله عليه وسلم للعشاء الفحمة لقصد حسن البيان، لأن الفحمة هاهنا أظهر للحس من الظلمة فإن الظلمة تدرك بحاسة البصر فقط والفحمة تدرك بحاستي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 البصر واللمس لأنها جسم والظلمة عرض فكان ذكرها أعني الفحمة أحسن بياناً من ذكر الظلمة. ومن أمثلة الاستعارة الشعرية قول امرئ القيس: طويل ؟ وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل فإن هذا الشاعر استعار لظلمة الليل السدول المرخاة، لما بين المستعار والمستعار له من اجتماعهما في منع الأبصار من الإبصار، وفائدة هذه الاستعارة نقل الأخفى إلى الأظهر، لأن السدول يدرك بحاستي البصر واللمس، والظلمة تدرك بأحديهما دون الأخرى، ثم تمم بكونه جعل السدول مرخاة لأن ذكرها بدون هذا القيد لا يوفي بالمعنى الذي قصده من منع رؤية ما وراءها، لاحتمال أن تكون مرفوعة، وكذلك قصد في البيت الثاني بقوله تمطي بصلبه ... البيت فإنه أراد وصف الليل بالطول فاستعار له صلباً يتمطى به، إذ كان كل ذي صلب يزيد في طوله عند تمطيه شيء، وبالغ في طوله بأن جعل له أعجازاً يردف بعضها بعضاً، فهو كلما نفد عجز ردفه عجز، فلا تفني أعجازه، ولا تنتهي إلى طرف، كما قيل في قوله تعالى " لابثين فيها أحقاباً " قال قتادة: لا انقطاع لها، كلما مضى حقب جاء حقب بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وقال الحسن البصري: أما الأحقاب فليس لها عدد إلا الخلود، ثم أراد أن يصف الليل بعد نهاية الطول بالثقل على قلب ساهره، والضغط لمكابده، فاستعار له كلكلاً ينوء به، ولأجل هذه المعاني كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة والعدول إليها أولى لما تعطي من المعاني التي لا تحصل من لفظ الحقيقة. والاستعارة منها كثيف، وهو استعارة الأسماء للأسماء. وكل ما مر من الأمثلة غير الآية الأخيرة فهو شاهد لها. ولطيف، وهو استعارة الأفعال للأسماء كقول الله تعالى: " فما بكت عليهم السماء والأرض " وكقول أبي تمام بسيط من كل ممكورة ذاب النعيم لها ... ذوب الغمام فمنهل ومنسكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ؟ باب التجنيس حد الرماني التجنيس بأن قال: هو بيان المعاني بأنواع من الكلام يجمعها أصل واحد من اللغة، وجعله قسمين: جناس مزاوجة، وجناس مناسبة، فالمزاوجة كقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " وكقول عمرو بن كلثوم وافر: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا والمناسبة كقوله سبحانه: " يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار " وأما قدامة وابن المعتز وإن اختلفا في تسمية هذا الباب فقد اتفقا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 معناه، فقال قدامة في حده: هو اشتراك المعاني في ألفاظ متجانسة على جهة الاشتقاق كقول زهير: بسيط كأن عيني وقد سال السليل بهم ... وعبرة ما همو لو أنهم أمم وهذا الحد بعينه هو تجنيس المناسبة الذي ذكره الرماني، ولولا قول قدامة على جهة الاشتقاق لكان حده بعينه هو حد الرماني المطلق. وقال ابن المعتز هو أن تجيء الكلمة مجانسة أختها كقول الله تعالى: " فأقم وجهك للدين القيم " وكقول النعمان بن بشير لمعاوية: طويل: ألم تبتدركم يوم بدر سيوفنا ... وليلك عما ناب قومك نائم وهذا بعينه هو تجنيس المناسبة من جهة الاشتقاق ولم يخرج من جاء بعد هؤلاء عما حدوه به، لكنهم فرعوه ثمانية فروع، وعلى هذا التفريع أكثر المتأخرين سوى التبريزي، فإنه نقص من هذه الأقسام أربعة وأثبت أربعة، وخلط في الشواهد، وغير الأسماء، هذا وإن كان متأخراً عمن قسم التجنيس ثمانية أقسام، واخترع أسماءها، فإني لم أقف على صحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ذلك، ورأيت ابن منقذ قد أتى على الأقسام الثمانية، وفاته قسم تاسع أتى به التبريزي، وسنأتي به في موضعه. فمن فروع التجنيس تجنيس التغاير، وهو أن تكون إحدى الكلمتين اسماً، والأخرى فعلاً، وهذا سماه التبريزي التجنيس المطلق، كقوله تعالى: " إني وجهت وجهي " وكقوله تعالى: " أثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة " وكقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " عصية عصت الله ورسوله " و " غفار غفر الله لها " و " أسلم سالمها الله "، وكقول جرير وافر: كأنك لم تسر ببلاد نجد ... ولم تنظر بناظرة الخياما وقد فرع التبريزي من هذا القسم ضرباً سماه التجنيس المستوفي، وهو أن تتشابه الكلمتان لفظاً وخطاً، وإحداهما اسم والأخرى فعل، وأنشد فيه قول أبي تمام: كامل ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله وهذا الفرع وإن وضعت له تسمية تخالف تسميات الأقسام الثمانية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وكانت له صورة مثاله غير صور الأمثلة، فإنه داخل في القسم الذي إحدى كلمتيه اسم والأخرى فعل، فلذلك لم يعتد به قسماً مستقلاً. وتجنيس التماثل، وهو أن يكون الكلمتان اسمين أو فعلين، وهو على ضربين: ضرب تتماثل فيه الكلمتان سواء كانتا اسمين أم فعلين في اللفظ والخط كقول الشاعر: خفيف: عينه تقتل النفوس وفوه ... منه تحيى عين الحياة النفوسا وضرب لا تتماثل فيه الكلمتان إلا من جهة الاشتقاق، سواء أكانتا اسمين أم فعلين، كقوله تعالى " فروح وريحان " وقوله سبحانه: " وجنى الجنتين دان " وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الظلم ظلمات " وكقوله عليه السلام: " أسلم تسلم " وكقول البحتري وافر: نسيم الروض في ريح شمال ... وصوب المزن في راح شمول وهذان التجنيسان أعني التغاير والتماثل فرعان من التجنيس الذي أصله قدامة وابن المعتز، وباقي الثمانية استخرجها المتأخرون بالاستقراء، وهي تجنيس التصحيف، ولم يذكره التبريزي في أقسام التجنيس، وجعل التصحيف باباً مفرداً، تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط فارقاً بين الكلمتين كقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 " وهم يحسبون أنهم يحسنون " وكقوله صلى الله عليه وسلم: " لعله كان يتكلم بما لا يعنيه ويتحلى بما لا يغنيه " وكقول البحتري: طويل ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه وتجنيس التحريف، وهو أن يكون الشكل فارقاً بين الكلمتين أو بعضهما، وهذا أيضاً لم يذكره التبريزي، ومثاله قوله سبحانه: " إن ربهم بهم " وقوله تعالى: " ولكنا كنا مرسلين " وأما قوله سبحانه: " ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " فهو الغاية التي لا تدرك وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " الظلم ظلمات " وكقول أبي تمام: كامل هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم تبدل فيه الحركة بالحركة وقسم تبدل فيه الحركة بالسكون، وقسم يبدل فيه التخفيف بالتشديد، مثال الأول قول الشاعر: جبة البرد جنة البرد والبرد والبرد أردت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ومثال الثاني قولهم: البدعة شرك الشرك. ومثال الثالث قولهم: الجاهل إما مفرط وإما مفرط والآيات الثلاث من القسم الأول، والحديث من الثاني، والبيت من الأول أيضاً. وتجنيس التصريف مما لم يذكره التبريزي أيضاً، وهو اختلاف صيغة الكلمتين بإبدال حرف من حرف إما من مخرجه أو من قريب منه، كقوله تعالى: " وهم ينهون عنه وينأون عنه " وكقول الرسول عليه السلام " الخيل معقود بنواصيها الخير ". وكقول الشاعر: بسيط لا يذكر الرمل إلا حن مغترب ... له بذي الرمل أوطار وأوطان وتجنيس الترجيع، وهو الذي سماه التبريزي التجنيس الناقص، وسماه قوم تجنيس التذييل، وهو على الحقيقة الذي يوجد في إحدى كلمتيه حرف لا يوجد في الأخرى، وجميع حروف الأخرى موجود في الأولى، وقسم في وسطها وقسم في آخرها: مثال الأول قوله تعالى: " والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق " ومثال الثاني قولهم: من جد وجد، ومثال الثالث البيت الذي ذكر لأبي تمام وهو قوله: " يمدون من أيد " البيت. وقد تكون الزيادة حرفين: فإما أن يقعا في أول الكلمة ويكونا متقاربين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 كقولهم: ليل دامس، وطريق طامس، وإما أن يقعا في وسطها كقولهم: ما خصصتني بل خسستني. أو آخر الكلمة ويكونا متباعدين كقولهم: سالب وساكب. أو متقاربين كقولهم: شاحب وشاغب. ومن القسم الذي توسط في هذا الحرف الواحد قوله تعالى: " وإنه على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير لشديد " وقالوا: هو الذي يرجع فيه لفظ الكلمة الأولى في الكلمة الأخرى، كقول أبي تمام: طويل يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب وعندي أن تسميته تجنيس التداخل لدخول إحدى الكلمتين في الأخرى أو تجنيس التضمين لتضمن إحدى الكلمتين لفظ الأخرى أولى بالاشتقاق، إذ لا معنى لقولهم: يرجع لفظ إحدى الكلمتين في لفظ الأخرى لأن ظاهر الرجوع يؤذن بذهاب قبله ولا ذهاب، أو كما قالوا: تجنيس التذييل وتجنيس العكس، وهو مما لم يذكره التبريزي، وتعريفه أن تكون إحدى الكلمتين عكس الأخرى بتقديم بعض حروفها على بعض: كقوله تعالى: " أن تقول فرقت بين بني إسرائيل " وكقول عبد الله بن رواحة يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسيط تحمله الناقة الأدماء معتجراً ... بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وفي عطافيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن مكرم وكقول البحتري: طويل إذا احتربت يوماً فغاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها شواجر أرماح تقطع بينهم ... شواجر أرحام ملوم قطوعها أخذ البحتري معنى البيت الأول من رجل من بني عقيل، وقصر حيث قال: وافر ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي والبيت الثاني من بيتي البحتري أردت. وتجنيس التركيب مما لم يذكره التبريزي، وهو أن تركب كلمة من كلمتين ليماثل بها كلمة مفردة في الهجاء واللفظ، وهو قسمان: قسم تتشابه الكلمتان فيه لفظاً وخطاً، وقسم يتشابهان فيه لفظاً لا خطاً. فالأول كقول القائل: مجزوء الكامل يا من تدل بوجنة ... وأنامل من عندم كفى جعلت لك الفدا ... ألحاظ عينك عن دمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وكقول الآخر: متقارب إذا ملك لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذاهبه ومثال الثاني قول الشاعر: رمل مجزوء كلكم قد أخذ الجا ... م ولا جام لنا وما الذي ضر مدير ال ... جام لو جاملنا والأبيات الأولى من القسم الأول، والأخرى من القسم الثاني. فهذه أقسام التجنيس الثمانية. وأما القسم الذي جعلته لها تاسعاً، وهو الذي ذكره التبريزي وسماه التجنيس المضاف، وأنشد فيه قول البحتري: وافر أيا قمر التمام أعنت ظلماً ... على تطاول الليل التمام فهو مع قطع النظر عن الإضافة من تجنيس التحريف، لكن هو قسم قائم بذاته، لاتصال المضاف بالمضاف إليه. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 باب الطباق الطباق اللغوي الذي أخذ منه الصناعي هو قول العرب: طابق البعير في مشيه إذا وضع خف رجله موضع خف يده، وقد رد ابن الأثير على كل من ألف في الصناعة هذا الباب، وقال: إن الجمع من تسميتهم الضدين في هذا الباب خطأ محض، لأن أصل الاشتقاق يقتضي الموافقة لا المضادة، وهو أولى بالخطإ منهم، لأن القوم رأوا أن البعير قد جمع بين الرجل واليد في موطئ واحد، والرجل واليد ضدان، أو في معنى الضدين، فرأوا أن الكلام الذي قد جمع فيه بين الضدين يحسن أن يسمى مطابقاً لأن المتكلم به قد طابق فيه بني الضدين، وهو على ضربين: ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة، وضرب يأتي بألفاظ المجاز، فما كان منه بلفظ الحقيقة سمي طباقاً، وما كان بلفظ المجاز سمي تكافؤاً، فمثال التكافؤ قول أبي الشغب العبسي من إنشادات قدامة كامل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 حلو الشمائل وهو مر باسل ... يحمي الذمار صبيحة الإرهاق ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق: طويل وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عجاج لما كان قوله " حلو " و " مر " خارجاً مخرج الاستعارة إذ ليس الإنسان ولا شمائله مما يذاق بحاسة الذوق، كان هذا تكافؤاً. وكل أمثلة التكافؤ صالحة لأن تكون أمثلة لباب المقارنة من الأبواب التي استنبطتها، وستأتي في آخر الكتاب. وأما الطباق الذي يأتي بألفاظ الحقيقة فقد قسموه إلى ثلاثة أقسام: طباق الإيجاب، وطباق السلب، وطباق الترديد. فمثال طباق الإيجاب قوله تعالى " وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيى "، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع "، فانظروا إلى فضل هذه العبارة كيف أتت المناسبة التامة فيها ضمن المطابقة. وكقول علي كرم الله وجهه: من رضي عن نفسه كثر من يسخط عليه، وكقول دعبل الخزاعي: كامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى وهذا البيت مع سهولة سبكه وخفة ألفاظه وكثرة الماء في جملته قد جمع بين لفظي التكافؤ والطباق معاً، لأن ضحك المشيب مجاز، وبكاء الشاعر حقيقة، وكقول الفرزدق وهو من إنشادات ابن المعتز: كامل لعن الإله بني كليب إنهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار يستيقظون إلى نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار غير أن هذين البيتين من أفضل شعر سمعته في هذا الباب، لأنهما جمعا بين طباقي السلب والإيجاب، ووقع فيهما مع الطباق تكميل لم يقع مثله في باب التكميل، لأن هذا الشاعر لما وصف هؤلاء القوم بالضعف حيث قال: " لا يغدرون " وعلم أنه لو اقتصر على ذلك احتمل الكلام ضرباً من المدح، إذ تجنب الغدر قد يكون عن ضعف وعن عفة، أتى بصريح الهجاء ليدل بذلك على أنه أراد بكلامه الأول محض الهجاء، واقتضت الصناعة أن يأتي بذلك في لفظ ينتظم به وبما بعده طباق، فقال: " ولا يفون لجار " فتكمل الهجاء، إذ سلبهم الغدر والعجز والوفاء للؤم وحصل في البيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 مع الطباق والتكميل الدالين على غاية الهجاء إيغال حسن، لأنه لو اقتصر على قوله " لا يغدرون ولا يفون " تم له القصد الذي أراده، وحصل المعنى الذي قصده، لكنه لما احتاج إلى القافية ليصير الكلام شعراً أفاد بها معنى زائداً حيث قال: " لجار " لأن الغدر بالجار أشد قبحاً من الغدر بغيره فإن قيل: لعنة الشاعر لهم في أول كلامه تدل على أنه أراد بقوله: " لا يغدرون " الهجاء فبطل، تأويله. قلت: ظاهر الغدر القبح، وإنما يستحسن إذا أريد به وصف فاعله بالقدرة وهو من مذهب الجاهلية والشعر الإسلامي، فيحتمل منه لعنه لهم إذا حلمنا نفي الغدر عنهم على صفة المدح أنه أراد باللعنة المبالغة في استحسان ما وصفهم به، فإن من مذهب العرب ذلك، ألا تراهم كانوا يسمون نوادر الأشعار كالمعلقات وأمثالها المخازي والملاعن، لأن سامعها يقول: أخزاه الله ما أشعره، ولعنه الله ما أصدقه. وطباق السلب، وهو أن يأتي المتكلم بجملتين أو كلمتين، إحداهما موجبة والأخرى منفية، وقد تكون الكلمتان منفيتين، وقد تقدم في شعر الفرزدق مثال ما وقع في الكلمتان منفيتين، وأما ما وقعت فيه إحدى الكلمتين منفية والأخرى موجبة فمثاله قول بشر بن هارون وقد ظهر منه فرح عند الموت، وقيل له: أتفرح بالموت؟ فقال: ليس قدومي على خالق أرجوه كمقامي مع مخلوق لا أرجوه، وقد نظم منصور الفقيه هذا المعنى فقال كامل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 قد قلت إذ مدحوا الحياة فأطنبوا ... في الموت ألف فضيلة لا توصف منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف ومن أمثلة القسم الثاني من طباق السلب قول البحتري: طويل يقيض لي من حيث لا أعلم الهوى ... ويسري إلى الشوق من حيث أعلم وطباق الترديد، وهو أن يرد آخر الكلام المطابق على أوله، فإن لم يكن الكلام مطابقاً فهو رد الأعجاز على الصدور، ومثاله قول الأعشى بسيط لا يرقع الناس ما أوهوا وإن جهدوا ... طول الحياة ويوهون ما رقعوا وقد يقع في الطباق ما هو معنوي، كقوله تعالى: " إن أنتم إلا تكذبون، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون "، معناه ربنا يعلم إنا لصادقون، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 باب رد الأعجاز على الصدور وهو الذي سماه المتأخرون التصدير، وقد قسمه ابن المعتز ثلاثة أقسام الأول ما وافق آخر كلمة في البيت آخر كلمة في صدره، أو كانت مجانسة لها كقول الشاعر: كامل يلفي إذا ما كان يوم عرمرم ... في جيش رأى لا يفل عرمرم والثاني ما وافق آخر كلمة من البيت أول كلمة منه كقول الآخر: طويل سريع إلى ابن العم يشتم عرضه ... وليس إلى داعي الندى بسريع والثالث ما وافق آخر كلمة من البيت بعض كلماته في أي موضع كان، كقول الشاعر طويل: سقى الرمل جون مستهل غمامه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 هكذا عرف ابن المعتز هذا القسم الثالث من التصدير، وهو عندي مدخول التعريف من أجل قوله: ما وافق آخر كلمة من البيت بعض كلماته في أي موضع كانت، فإنها لو كانت في العجز لم يسم تصديراً لأن اشتقاق التصدير من صدر البيت، فلا بد من زيادة قيد في التعريف يسلم به من الدخل بحيث يقول: بعض كلمات البيت في أي موضع كانت من حشو صدره. وأظن ابن المعتز اتكل في ذلك على البيت الذي جاء به مثالاً ولا ألوم ابن المعتز. وهذا ابن الخطيب على تأخر زمانه وإطلاعه لأجل التأخر على أكثر ما قيل. وتقدمه في الفضائل قد جاء على بعض أقسام التصدير بقول الشاعر طويل: وإن لم يكن إلا معرس ساعة ... قليلاً فإني نافع لي قليلها ولم يضع ابن المعتز لهذه الأقسام اسماً يعرف بعضها من بعض، والذي يحسن أن نسمي به القسم الأول تصدير التقفية، والثاني تصدير الطرفين والثالث تصدير الحشو. وقد وقع من التصدير في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون " وقوله تعالى: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " وفي السنة النبوية من ذلك قوله عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وقد رأى أبا مسعود البدري يضرب عبداً له. " أبا مسعود، لله عليك أقدر منك عليه " وهذه الأقسام الثلاثة فيما الكلام فيه موجب. وفي التصدير قسم رابع ذهب عنه ابن المعتز، وهو يأتي فيما الكلام فيه منفي، واعتراض فيه إضراب عن أوله كقول الشاعر: طويل فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد وقد جاء قدامة من التصدير بنوع آخر غير ما ذكرنا، وسماه التبديل وهو أن يصير المتكلم الآخر من كلامه أولاً وبالعكس، كقولهم: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، ولم أقف لهذا القسم على شاهد شعري فقلت: منسرح. اصبر على خلق من تعاشره ... واصحب صبوراً على أذى خلقك ولم يفرد له قدامة باباً فأذكره في أبوابه. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 باب المذهب الكلامي المذهب الكلامي عبارة عن احتجاج المتكلم على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه، لأنه مأخوذ من علم الكلام الذي هو عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية وهو الذي نسبت تسميته إلى الجاحظ، وزعم ابن المعتز أنه لا يوجد في الكتاب العزيز، وهو محشو منه، ومنه فيه قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: " وحاجة قومه " إلى قوله عز وجل: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " وقوله تعالى: " أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى " وقوله سبحانه: " لو كان فيما آلهة إلا الله لفسدتا " وقوله: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " ومن هذا الباب نوع منطقي، وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين، فإن أهل هذا العلم قد ذكروا أن من أول سورة الحج إلى قوله: " وأن الله يبعث من في القبور " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 منطو على خمس نتائج من عشر مقدمات، فالمقدمات من أول السورة إلى قوله تعالى: " وأنبتت من كل زوج بهيج " والنتائج من قوله تعالى: " ذلك بأن الله هو الحق " إلى قوله: " وأن الله يبعث من في القبور " وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقال: الله أخبر أن زلزلة الساعة شيء عظيم، وخبره هو الحق، وأخبر عن المغيب بالحق، فهو حق فالله هو الحق، والله يأتي بالساعة على تلك الصفات، ولا يعلم صدق الخبر إلا بإحياء الموتى، ليدركوا ذلك، ومن يأتي بالساعة يحيي الموتى فهو يحيي الموتى، وأخبر أن يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب ولا يقدر على عموم الناس بشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير فالله على كل شيء قدير، وأخبر أن الساعة يجازي فيا من يجادل في الله بغير علم، ولا بد من مجازاته، ولا يجازي حتى تكون الساعة آتية. ولا تأتي الساعة حتى يبعث من في القبور فهو يبعث من في القبور وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من في القبور، وأن الله يبعث من في القبور. وقد ساق الرماني في الضرب الخامس من باب المبالغة أن إعجازه إخراج الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدل، للاحتجاج بقوله تعال: " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " وقوله سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " ونظائر هذه الآيات، ومن ذلك في الشعر قول النابغة يعتذر إلى النعمان: طويل حلفت فلم أترك لنفسي ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغشى وأكذب ولكنني كنت امرأ لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا فانظر إلى حذق الشاعر في الاحتجاج بقوله لهذا الملك: أنت أحسنت إلى قوم فمدحوك، وأنا أحسن إلى قوم فمدحتهم، فكما أن مدح أولئك لا يعد ذنباً فكذلك مدحي لمن أحسن إلي لا يعد ذنباً. ومن هذا الباب قول الفرزدق: طويل لكل امرئ نفسان: نفس كريمة ... ونفس يعاصيها الفتى ويطيعها ونفسك من نفسيك تشفع للندى ... إذا قل من أحرارهن شفيعها يقول هذا الشاعر: لكل إنسان نفسان: مطمئنة تأمر بالخير، وأمارة تأمر بالشر، والإنسان يعاصي الأمارة مرة ويطيعها أخرى، وأنت أيها الممدوح نفسك الأمارة إذا أمرتك بترك الندى شفعت المطمئنة إلى الأمارة في الندى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 في الحالة التي يقل الشفيع في الندى من النفوس، فأنت أكرم الناس ومن هذا الباب أيضاً قول ابن المعتز: مديد كيف لا يخضر عارضه ... ومياه الحسن تسقيه كأنه قال: كل نبت يسقى فهو أخضر، وشارب هذا الغلام نبت ومياه الحسن تسقيه، فيكف لا يخضر وعلى هذا فقس. ومن هذا الباب جواب سؤال مقدر، كقوله تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ": الآية، لأن التقدير أن قائلاً قال بعد قوله تعالى: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية، فقد استغفر إبراهيم لأبيه، فأخبر بقوله: " وما كان استغفار إبراهيم " الآية والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 باب الالتفات فسر قدامة الالتفات بأن قال: هو أن يكون المتكلم آخذاً في معنى فيعترضه إما شك فيه، أو ظن أن راداً يرده عليه، أو سائلاً يسأله عن سببه، فيلتفت إليه بعد فراغه منه فإما أن يجلي الشك فيه أو يؤكده، أو يذكر سببه كقول الرماح بن ميادة طويل. فلا صرمه يبدو ففي اليأس راحة ... ولا وصله يبدو لنا فنكارمه فكأن هذا الشاعر توهم أن قائلاً يقول له: وما تصنع بصرمه، فقال: لأن في اليأس راحة. وأما ابن المعتز فقال: الالتفات انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، ومثاله من القرآن العزيز قوله تعالى بعد الإخبار بأن الحمد لله رب العالمين: " إياك نعبد وإياك نستعين " وكقوله سبحانه: " إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين " وكقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 تعالى: " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم " ومثال ذلك من الشعر قول جرير وافر: متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام أو انصراف المتكلم عن الخطاب إلى الإخبار كقوله تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة " ومثال ذلك من الشعر قول عنترة كامل: ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم ثم قال يخبر عن هذه المخاطبة بقوله: كامل كيف المزار وقد تربع أهلها ... بعنيزتين وأهلنا بالغيلم أو انصراف المتكلم من الإخبار إلى التكلم كقوله تعالى: " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه أو انصراف المتكلم من التكلم إلى الإخبار كقوله تعالى: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " وقد جمع امرؤ القيس الالتفاتات الثلاثة في ثلاثة أبيات متتاليات، وهي قوله: متقارب تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود فخاطب في البيت الأول، وانصرف عن الخطاب إلى الإخبار في البيت الثاني وانصرف عن الإخبار إلى التكلم في البيت الثالث على الترتيب. وفي الالتفات نوع غير النوعين المتقدمين، وهو أن يكون المتكلم آخذاً في معنى فيمر فيه إلى أن يفرغ من التعبير عنه على وجه ما، فيعرض له أنه متى اقتصر على هذا المقدار كان معناه مدخولاً من وجه غير الوجه الذي بنى معناه عليه فيلتفت إلى الكلام، فيزيد فيه ما يخلص معناه من ذلك الدخل، كقول شاعر الحماسة: طويل فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد فإن هذا الشاعر بني معناه على أن المقبور قريب من الحي الذي يريد تعاهده بالزيارة، إذ القبور بأفنية البيوت غالباً، فلما فرغ من العبارة عن معناه الذي قدره على هذا التقدير، عرض له كأن قائلاً يقول له: وأي قرب بين الميت المدفون تحت التراب والحي، فالتفت متلافياً هذا الغلط بقوله: .................. بلى كل من تحت التراب بعيد كأن هذا الشاعر بنى معناه على أن المقبور إلى بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 والفرق بين الاحتراس والالتفات أن الاعتراض والانفصال يكونان في بيت واحد، وفي بيتين، وفي آية، وفي آيتين، والالتفات لا يكونان فيه إلا في بيت واحد وآية واحدة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 باب التمام وهو الذي سماه الحاتمي التتميم، وسماه ابن المعتز قبله: اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمه، وشرح حده: أنه الكلمة التي إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه أو مبالغته، مع أن لفظه يوهم بأنه تام، وهو على ضربين: ضرب في المعاني وضرب في الألفاظ: فالذي في المعاني هو تتميم المعنى، والذي في الألفاظ هو تتميم الوزن، والأول هو الذي قدمنا حده ومجيئه على وجهين للمبالغة والاحتياط، ويجئ في المقاطع كما يجئ في الحشو، مثل قوله تعالى: " وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين " فجاءت الفاصلة كلها تتميماً، لأن المعنى ناقص بدونها، لكنه متى جاء في المقاطع سمي إيغالاً، ويكثر مجيئه في الحشو ومثاله قوله سبحانه " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " فقوله تعالى: " من ذكر أو أنثى "، تتميم، وقوله: " وهو مؤمن " تتميم ثان في غاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 البلاغة التي بذكرها تم معنى الكلام، وجرى على الصحة، ولو حذفت هاتان الجملتان نقص معناه واختل من حسن البيان. من هذا القسم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: " ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة " فوقع التتميم في هذا الحديث في أربعة مواضع: منها قوله: مسلم، وقوله: لله، وقوله: كل يوم، وقوله: من غير الفريضة، ومن أناشيد قدامة على هذا القسم قول الشاعر طويل: أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه عاذوا بالسيوف القواضب فقوله: ويعطوه تتميم في غاية الحسن، وهذا شاهد ما جاء منه للاحتياط، ومثال ما جاء للمبالغة قول زهير بسيط من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة من والندى خلقاً فقوله على علاته تتميم جاء للمبالغة، وشاهده من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: " ويطعمون الطعام على حبه " إن عاد الضمير على الطعام، وإن عاد على اسم الله فهو للاحتياط. وأما الذي في الألفاظ فهو الذي يؤتى به لإقامة الوزن، بحيث لو طرحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الكلمة استقل معنى البيت بدونها، وهي على ضربن أيضاً: كلمة لا يفيد مجيئها إلا إقامة الوزن فقط، وأخرى تفيد مع إقامة الوزن ضرباً من المحاسن، والأولى من العيوب، والثانية من النعوت، وهذا موضع الثانية لا الأولى، ومثالها قول المتنبي كامل: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما فإنه جاء بقوله: " يا جنتي " لإقامة الوزن، وقصدها دون غيرها مما يسد مسدها ليكون بينها وبين قافية البيت مطابقة لو كان موضعها غيرها لم تحصل، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 باب الاستطراد ذكر الحاتمي في حلية المحاضرة أنه نقل هذه التسمية عن البحتري الشاعر، وهو الذي سماه ابن المعتز الخروج من معنى إلى معنى، وفسره بأن قال: هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه أو الشرط أو الإخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمن مدحاً أو قدحاً أو وصفاً أو غير ذلك، ورأيت غالب وقوعه في الهجاء، وإن وقع في غيره ولا بد من ذكر المستطرد به باسمه، بشرط ألا يكون جرى له ذكر في الكلام قبل ذلك، ومن أمثلته في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود " ومن أمثلته الشعرية قول حسان بن ثابت: كامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 إن كنت كاذبة التي حدثتني ... فنجوت منجا الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام فهاذ ما وقع من الاستطراد في الهجاء. وأما ما جاء منه في المدح والهجاء معاً فقول بكر بن النطاح طويل: عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى فقالت قم فجئني بكوكب فقلت لها هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب سلي كل شيء يستقيم طلابه ... ولا تذهبى يا بدر بي كل مذهب فأقسم لو أصبحت في عز مالك ... وقدرته أعيا بما رمت مطلبي فتى شقيت أمواله بنواله ... كما شقيت بكر بأرماح تغلب وهذا أبدع استطراد سمعته في عمري، فإنه قد جمع أحسن قسم وأبدع تخلص، وأرشق استطراد، وتضمن مدح الممدوح بالكرم، وقبيلته بالشجاعة والظفر، وهجاء أعدائهم بالضعف والخور، وهذا لم يتفق لمن قبله ولا لمن بعده إلى وقتنا هذا. ومن ظريف الاستطراد وغريبه قول بعضهم وأتى بالاستطراد في المجون وهو غريب جداً خفيف: اكشفي وجهك الذي أوحلتني ... فيه من قبل كشفه عيناك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 غلطي في هواك يشبه عندي ... غلطي في أبي علي بن زاكي وأحسب أن أول من استطرد بالهجاء السموءل حيث يقول طويل: وإنا أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول وفي النسيب امرؤ القيس حيث قال كامل: عوجاً على الطلل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن حمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 باب تأكيد المدح بما يشبه الذم أنشد ابن المعتز فيه قول النابغة الذبياني: طويل ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وقول النابغة الجعدي طويل: فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا وقد رأيت لابن المغربي الوزير مما هو داخل في هذا الباب ما يروق السامع، وهو قوله طويل: ويعدل في شرق البلاد وغربها ... على أنه للسيف والمال ظالم ورأيت أحسن من هذا لبعضهم، وهو طويل: ولا عيب فينا غير أن سماحنا ... أضر بنا والبأس من كل جانب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عائب أبونا أب لو كان للناس كلهم ... أباً واحداً أغناهم بالمناقب وقد خلط المتأخرون باب الاستثناء بهذا الباب، وكنت أرى أنهما باب واحد، إلى أن نبهني عليه عند قراءته من ألفت له هذا الكتاب، فرأيت إفراده منه، وسيأتي في موضعه بعد الفراغ من أبواب ابن المعتز وقدامة إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 باب تجاهل العارف وقد سماه من بعد ابن المعتز الإعنات، وهو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلاً منه به ليخرج كلامه مخرج المدح أو الذم، أو ليدل على شدة التدله في الحب، أو لقصد التعجب، أو التقرير، أو التوبيخ، وهو على قسمين: قسم يكون الاستفهام فيه عن شيئين أحدهما واقع والآخر غير واقع، وقد ينطق بأحد الشيئين ويسكت عن الآخر لدلالة الحال عليه. وهو على قسمين: موجب، ومنفي. وقد جاء منه في الكتاب العزيز ما لا يلحق سبقاً، كقوله تعالى: " أبشراً منا واحداً نتبعه " فهذا خارج مخرج التعجب، وقوله سبحانه: " أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " وهذا خارج مخرج التوبيخ، وقوله عز وجل: " أأنت قلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " وقوله تعالى: " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " وهذان الموضعان خرجا مخرج التقرير. وأما ما جاء منه في المدح فكقول بعض المحدثين بسيط بدا فراع فؤادي حسن صورته ... فقلت هل ملك ذا الشخص أم ملك وأما ما جاء منه للذم فكقول زهير بن أبي سلمى وافر: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء وأما ما دل منه على التدله في الحب فكقول العرجي بسيط بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكن أم ليلى من البشر وكل ما أوردناه من الآيات في هذا الباب مما نطق فيه بأحد الأمرين لدلالة القرينة على الآخر، وبيت المدح من القسم الأول، والبيتان الأخيران من القسم الآخر، والله أعلم، وهذا كله مما جاء من القسم الأول. ومما جاء من القسم الثاني في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم " فحصل في فصاحة النسوة من المبالغة والتهذيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ما لم يقع في فصاحة العرب حيث شبهوا كل من راعهم حسنه بالجن، وتبعهم المتنبي فقال: طويل لجنية أم غادة رفع السجف .................. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 باب الهزل الذي يراد به الجد وهو أن يقصد المتكلم مدح إنسان أو ذمه، فيخرج ذلك المقصود مخرج الهزل المعجب، والمجون المطرب، كما فعل أصحاب النوادر، مثل أشعب وأبي دلامة وأبي العيناء ومزبد ومن سلك سبيلهم، كما حكى عن أشعب أنه حضر إعذاراً صنعه بعض ولاة المدينة، وكان مبخلاً، فدعا الناس ثلاثة أيام وهو يجمعهم على مائدة عليها جدي مشوي، فيحوم الناس حوله، ولا يمسه منهم أحد لعلمهم ببخله، وأشعب في كل يوم يحضر ويرى الجدي، فقال في اليوم الثالث: زوجته طالق إن لم يكن عمر هذا الجدي بعد أن ذبح وشوي أطول منه قبل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ومن شواهد الهزل الذي يراد به الجد من الشعر العربي قول الشاعر: طويل إذا ما تميمي أتاك مفاخراً ... فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب وقد أنشد ابن المعتز في هذا الباب قول أبي العتاهية بسيط أرقيك أرقيك باسم الله أرقيكا ... من بخل نفسك عل الله يشفيكا ما سلم كفك إلا من يتاركها ... ولا عدوك إلا من يرجيكا والفاتح لهذا الباب امرؤ القيس حيث يقول طويل: وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بأن الفتى يهذي وليس بفعال وما رأيت أحسن من قوله ملتفتاً: وإن كان بعلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 باب حسن التضمين وهو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من بيت، أو من آية، أو معنى مجرداً من كلام، أو مثلاً سائراً أو جملة مفيدة، أو فقرة من حكمة كقول علي عليه السلام في جواب كتاب لمعاوية: " وما الطلقاء وأبناء الطلقاء، والتمييز بين المهاجرين الأولين وتبيين درجاتهم، وتعريف طبقاتهم، هيهات لقد حن قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها " فضمن كلامه هذا المثل العربي وهو قوله: " لقد حن قدح ليس منها " وكقوله في آخر هذا الكتاب: وإني مرقل نحوك بجحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، قد صحبتهم ذرية بدرية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وسيوف هاشمية عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك " وما هي من الظالمين ببعيد " فضمن كلامه هذه الآية. ومن إنشادات ابن المعتز في هذا الباب سريع: عوذ لما بت ضيفاً له ... أقراصه مني بياسين فبت والأرض فراشي وقد ... غنت قفا نبك مصارينى فضمن هذا الشاعر بيته الأول كلمة من السورة، وبيته الثاني جملة من البيت الذي هو أول القصيدة المشهورة. وقد وقع من ذلك في الكتاب العزيز ما تضمنه من التوراة كقوله سبحانه: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " الآية. ومن لطيف التضمين في الشعر قول أبي تمام طويل: لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي ... أرق وأحفى منك في ساعة الكرب فضمن بيته كلمات من البيت المشهور وهو بسيط المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار وفي الكتاب العزيز من هذا الباب ما حكاه فيه سبحانه من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك قوله: " محمد رسول الله " إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 قوله: " ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل " فضمن كتابنا صفتهم من الكتابين الأولين، والفرق بين التضمين والإيداع والاستعانة والعنوان أن التضمين يقع في النظم والنثر ولا يكون إلا بالنثر ويكون من المحاسن ومن العيوب، ولكنه لا يكون من العيوب إلا إذا وقع في النظم بالنظم، والإيداع والاستعانة وإن وقعا معاً في النظم والنثر فلا يكونان إلا بالنظم دون النثر. وأما العنوان فإنه يقع في النظم والنثر ولا يقع بالنثر، وهو بخلاف التضمين لا يكون إلا من المحاسن دون العيوب، والتضمين منهما معاً وسيأتي بيان ذلك في موضعه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 باب الكناية وهي أن يعبر المتكلم عن المعنى القبيح باللفظ الحسن، وعن الفاحش بالطاهر، كقوله سبحانه: " كانا يأكلان الطعام " كناية عن الحدث. وكقوله تعالى: " أو جاء أحد منكم من الغائط " كناية عن قضاء الحاجة، وكقوله عز وجل: " ولكن لا تواعدوهن سراً " كناية عن الجماع، قال امرؤ القيس طويل: ألا زعمت بسباسة الحي أنني ... كبرت وألا يحسن السر أمثالي ذهب كل من فسر شعره من العلماء أنه أراد بالسر الوقاع، وكقوله سبحانه: " وقد أفضى بعضكم إلى بعض " يريد به ما يكون بين الزوجين من المباضعة، وكقول الله تعالى: " الخبيثات للخبيثين "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وهو سبحانه يريد الزنا وعلى الجملة لا تجد معنى من هذه المعاني في الكتاب العزيز يأتي إلا بلفظ الكناية، لأن المعنى الفاحش متى عبر عنه بلفظه الموضوع له كان الكلام معيباً من جهة فحش المعنى، ولذلك عاب قدامة على امرئ القيس قوله طويل: فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول وقال أعني قدامة: وعيب هذا الشعر من جهة فحش المعنى، يريد أنه عبر عنه بلفظه، فجاء الكلام فاحشاً، وهو عيب، ولذلك تنزه القرآن عنه، ولو استعار امرؤ القيس لمعناه لفظ الكناية كما فعل في البيت الذي تقدم هذين البيتين لم يكن إلى عيبه سبيل. وفي السنة النبوية من الكناية ما لا يكاد يحصى، كقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يضع العصا عن كتفه " كناية عن كثرة الضرب أو كثرة السفر. وحكى ابن المعتز أن العرب كانت تقول: " فلان يخبأ العصا لمن به أبنة "، وأنشد رجز مجزوء: زوجك زوج صالح ... لكنه يخبا العصا ومن أناشيد ابن المعتز لبشار في اثنين كانا يتفاعلان خفيف: وإذا ما التقى مثنى وبكر ... زاد في ذا شبر وفي ذاك شبر وأنشد لأبي نواس في الكناية عن جلد عميرة ما لا يدرك شأوه وهو طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 إذا أنت أنكحت الكريمة كفؤها ... فأنكح حبيشاً راحة ابنة ساعد وقل بالرفا ما نلت من وصل حرة ... لها ساحة حفت بخمس ولائد ومن أحسن الكنايات في الهجاء قول بعض الشعراء يهجو إنساناً به داء الأسد، فكنى عن ذلك ورمى أمه بالفجور بطريق الكناية أيضاً حيث قال: وافر أراد أبوك أمك حين زفت ... فلم توجد لأمك بنت سعد يريد به عذرة، ثم قال وافر: أخو لخم أعارك منه ثوباً ... هنيئاً بالقميص المستجد يريد: جذاماً فإنه أخو لخم. وأنشد ابن المعتز في الكناية عن حجام لبعض الشعراء: طويل إذا عوج الكتاب يوماً سطورهم ... فليس بمعوج له أبداً سطر ومن نخوة العرب وغيرتهم كنايتهم عن حرائر النساء بالبيض، وقد جاء القرآن العزيز بذلك، فقال سبحانه: " كأنهن بيض مكنون " وقال امرؤ القيس طويل: وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل ومن مليح الكناية قول بعض العرب وافر: ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 سألت الناس عنك فخبروني ... هنا من ذاك يكرهه الكرام وليس بما أحل الله بأس ... إذا هو لم يخالطه الحرام فإن هذا الشاعر كنى بالنخلة عن المرأة، وبالهناء عن الرفث، فأما الهناءة فمن عادة العرب الكناية بها عن مثل ذلك، وأما الكناية بالنخلة عن المرأة فمن طريف الكناية وغريبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 باب الإفراط في الصفة وهو الذي سماه قدامة المبالغة، وسماه من بعده التبليغ، وأكثر الناس على تسمية قدامة، لأنها أخف وأعرف، ومن أناشيد ابن المعتز فيها: كامل ملك تراه إذا احتبى بنجاده ... غمر الجماجم والصفوف قيام وحد قدامة المبالغة بأن قال: هي أن يذكر المتكلم حالاً من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت، فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره ما يكون أبلغ في معنى قصده، كقول عمرو بن الأهتم التغلبي وافر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا وأنا أقول: قد اختلف في المبالغة، فقوم يرون أن أجود الشعر أكذبه وخير الكلام ما بولغ فيه، ويحتجون بما جرى بين النابغة الذبياني وبين حسان في استدراك النابغة عليه تلك المواضع في قوله طويل: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فإن النابغة إنما عاب على حسان ترك المبالغة، والقصة مشهورة، والصواب مع حسان، وإن روى عنه انقطاعه في يد النابغة، وقوم يرون المبالغة من عيوب الكلام، ولا يرون من محاسنه إلا ما خرج مخرج الصدق، وجاء على منهج الحق، ويزعمون أن المبالغة من ضعف المتكلم وعجزه عن أن يخترع معنى مبتكراً، أو يفرع معنى من معنى، أو يحلى كلامه بشيء من البديع، أو ينتخب ألفاظاً موصوفة بصفات الحسن، ويجيد تركيبها، فإذا عجز عن ذلك كله أتى بالمبالغة لسد خلله، وتتميم نقصه، لما فيها من التهويل على السامع، ويدعون أنها ربما أحالت المعاني فأخرجتها من حد الإمكان إلى حد الامتناع. وعندي أن المذهبين مردودان. أما الأول فلقول صاحبه: إن خير الكلام ما بولغ فيه، وهذا قول من لا نظر له، لأنا نرى أن أكثر الكلام والأشعار جارياً على الصدق، خارجاً مخرج الحق، وهو في غاية الجودة ونهاية الحسن وتمام القوة، كيف لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 والمبالغة ضرب واحد من المحاسن، والمحاسن لا تنحصر ضروبها، فكيف يقال: إن هذا الضرب على انفراده يفضل سائر المحاسن على كثرتها؟ وهذا شعر زهير والحطيئة وحسان ومن كان مذهبه توخي الصدق في شعره غالباً ليس فوق أشعارهم غاية لمترق، ألا ترى إلى قول زهير طويل: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم والى قول طرفة طويل: لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه في اليد ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود والى قول الحطيئة بسيط من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس فإنك تجد هذه الأشعار في الطبقة العليا من البلاغة وإن خلت من المبالغة. والذي يدل على أن مذهب أكثر الفحول ترجيح الصدق في أشعارهم على الكذب ما روى عن الحرورية امرأة عمران بن حطان الخارجي أنها قالت له يوماً: أنت أعطيت الله عهداً ألا تكذب في شعرك، فكيف قلت كامل مجزوء: فهناك مجزءة بن ثو ... ر كان أشجع من أسامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فقال: يا هذه إن هذا الرجل فتح مدينة وحده، وما سمعت بأسد فتح مدينة قط. وهذا حسان يقول بسيط وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس إن كيساً وإن حمقاً وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته: صدقاً على أن هؤلاء الفحول وإن رجحوا هذا المذهب لا يكرهون ضده، ولا يجحدون فضله، وقلما تخلو بعض أشعارهم منه، إلا أن توخى الصدق كان الغالب عليهم، وكانوا يكثرون منه، ومن أكثر من شيء عرف به، كما أن النابغة ومن شايعه على مذهبه لا يكره ضد المبالغة، وإلا فكل احتجاجاته على النعمان في الاعتذار جار مجرى الحقيقة، كقوله طويل: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب فعائب الكلام الحسن بترك المبالغة فقط مخطئ، وعائب المبالغة على الإطلاق غير مصيب، وخير الأمور أوساطها، وكيف تعاب المبالغة وقد وجدت في الكتاب العزيز على ضروب: منها المبالغة في الصفة المعدولة من الجارية لمعنى المبالغة فإنها جاءت على ستة أمثلة: فعلان كرحمان، عدل عن راحم للمبالغة ولا يوصف به إلا الله تعالى، لأن رحمته وسعت كل شيء، وفعال معدول عن فاعل للمبالغة كقوله تعالى: " لغفار لمن تاب " " تواب رحيم " " علام الغيوب " " فعال لما يريد " وفعول عدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 عن فاعل للمبالغة " كغفور " و " شكور " و " ودود "، وفعيل عدل عن فاعل، " كرحيم " و " حكيم " و " عليم " و " قدير " و " سميع " و " بصير " ومفعل معدول عن فاعل " كمدعس " و " مطعن "، ومفعال معدول عن فاعل للمبالغة " كمطعام " و " مطعان ". والضرب الثاني من المبالغة وهو ما جاء بالصيغة العامة في موضع الخاصة كقولك: أتاني الناس كلهم، ولم يكن أتاك سوى واحد أردت تعظيمه، ومن هذا الضرب قول أبي نواس سريع: وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ومن هذا الضرب في الكتاب العزيز قوله تعالى: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " فوعدهم سبحانه بجزاء غير مقدر، لمجيئه بالصيغة العامة تعظيماً له " وكل شيء عنده بمقدار " والضرب الثالث من المبالغة إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة، والإخبار عنه مجاز، كقول من رأى موكباً عظمياً أو جيشاً خضماً: جاء الملك نفسه وهو يعلم حقيقة أن ما جاء جيشه، وقد جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وجاء ربك والملك صفاً صفاً " فجعل مجيء جلائل آياته مجيئاً له سبحانه، وكقوله تعالى: " ووجد الله عنده فوفاه حسابه " فجعل نقله بالهلكة من دار العمل إلى دار الجزاء وجداناً للمجازى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 والضرب الرابع من المبالغة إخراج الممكن من الشرط إلى الممتنع، ليمتنع وقوع المشروط، كقوله تعالى: " ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ". والضرب الخامس من المبالغة ما جرى مجرى الحقيقة، وهو قسمان: قسم كان مجازاً فصار بالقرينة حقيقة، كقوله تعال: " يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار " فإن اقتران هذه الجملة بيكاد صرفها إلى الحقيقة فانقلبت من الامتناع إلى الإمكان. وقسم أتى بصيغة أفعل التفضيل، وهو محض الحقيقة من غير قرينة كقوله تعالى: " أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً ". والضرب السادس من المبالغة ما بولغ في صفته بطريق التشبيه، كقوله تعالى: " إنها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالات صفر " فهذه ضروب ما ورد من المبالغة في الكتاب العزيز. والمبالغة تأتي في الكلام على ضربين: ظاهرة ومدمجة، وكل ما قدمناه من مبالغات الكتاب العزيز من الظاهرة. ومن المدمجة قوله تعالى: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " فإن المبالغة أتت في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الآية مدمجة في المقابلة، والجواب: هذه المبالغة بالنسبة إلى المخاطَب إلى المخاطِب وقد جاء منها في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى كثرة، ولا يلحق بلاغة، كقوله عليه السلام مخبراً عن ربه أنه قال سبحانه: " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به " وقوله في بقية هذا الحديث: " والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ". ففي هذا الحديث مبالغتان: أحداهما كون الحق سبحانه أضاف الصيام إلى نفسه دون سائر الأعمال لقصد المبالغة في تعظيمه وتشريفه، وأخبر أنه عز وجل يتولى مجازاة الصائم بنفسه، مبالغة في تعظيم الجزاء وشرفه، ونحن نعلم أن الأعمال كلها لله سبحانه ولعبده باعتبارين: أما كونها للعبد فلأنه يثاب عليها، وأما كونها لله تعالى فلأنها عملت لوجهه الكريم، ومن أجله فتخصيص الصيام من بينها بالإضافة إلى الرب سبحانه، وتخصيص ثوابه بما خصصه به إنما كان للمبالغة في تعظيمه والحض عليه، والمبالغة الثانية إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تقديم القسم لتأكيد الخبر بأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ففضل تغيير فم الصائم بالإمساك عن الطعام والشراب على ريح المسك الذي هو أطيب الطيب على مقتضى ما يفهم من ريح المسك وريح تغير فم الصائم، وأتى المعنى بصيغة أفعل للمبالغة، فجمع هذا الكلام بين قسمي المبالغة المجازي والحقيقي. ومن أمثله المبالغة في الشعر قول امرئ القيس طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكاً ولم ينضح بماء فيغسل فإنه أخبر عن هذا الفرس أنه أدرك ثوراً وبقرة وحشية في مضمار واحد، ولم يعرق، ومثله قول أبي الطيب طويل: وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب وما يعاب من المبالغة إلا ما خرج به الكلام عن حد الإمكان إلى الاستحالة وأما إذا كان كقول قيس بن الخطيم طويل: طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائماً من دونها ما وراءها فإن ذلك من جيد المبالغة إذا لم يكن خارجاً مخرج الاستحالة مع كونه قد بلغ النهاية في وصف الطعنة، وما سمعت ولا غيري بمستمع مثل قول أبي تمام بسيط تكاد تنتقل الأرواح لو تركت ... من الجسوم إليها حين تنتقل فإنه لم يقنع في تصحيح المبالغة وقربها من الوقوع، فضلاً عن الجوار بتقديم كاد حتى قال: لو تركت؛ وهذا أصح بيت سمعته في المبالغة وأحسنه وأبلغه، وكقول شاعر الحماسة حيث بالغ في مدح ممدوحه بقوله طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكن ما لا يستطاع شديد فإن هذا الشاعر ألقى بيده وأظهر عجزه واعترف بقصوره عن شكر بر هذا الممدوح، وفطن إلى أنه لو اقتصر على ذلك لقيل له: عجزك عن شكر هذا الرجل لا يدل على كثرة بره، وإنما يدل على ضعف مادتك عن الشكر إذ لا يلزم من عجز الإنسان عن شيء تعظيم ذلك الشيء على الإطلاق، لاحتمال أن يكون العجز لضعف في الإنسان فاحترس عن ذلك بقوله: وما فوق شكري للشكور مزيد ثم تمم المعنى بأن قال: للشكور أي للمبالغ في الشكر، لأن شكور معدول عن شاكر للمبالغة كما تقدم ثم أظهر عذره في عجزه مع قدرته بأن قال في البيت الثاني: ولو كان مما يستطاع استطعته ثم أخرج بقية البيت مخرج المثل السائر حيث قال: ولكن ما لا يستطاع شديد فهذا أبلغ شعر سمعته في هذا المعنى لجودة مفردات ألفاظه، وسهولة سبكه ومساواة لفظه لمعناه، ومتانة مبناه، وكثرة معانيه، وصحة المبالغة فيه؛ فإن قيل: لم بالغت في وصف هذا الشعر وهو عندك داخل في القسم المعيب من المبالغة لكونه أخرج الكلام من حد الإمكان إلى حد الامتناع حيث جعل شكر هذا الممدوح لا يستطاع؟ فإني أقول: ليس كل بر يمكن شكره، ولا يقوم المدح بحقه، فإنا لو قدرنا أن إنساناً فك إنساناً من الأسر واستنقذه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 القتل لما وفى شكره ببره ولو كان أشكر الناس، واستنفد في شكره بقية عمره، لا سيما لو قدر أن ذلك الممتن ببقاء النفس أضاف إلى ذلك توابع إحسان، وعوارف امتنان، على ممر الزمان، فإن الشكر لا يقوم ببر ذلك الإنسان، ولو تجاوز فيه الشكور حد الإمكان، فقد وضح أن من البر ما لا يؤدي شكره، ومن هذا قول أبي نواس: لا تسدين إلى عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا وهذا سيد المرسلين الذي بعث بجوامع الكلم، وهو أفصح من نطق بالضاد بقول لعظمة نعم ربه عليه: " لا أحصى ثناء عليك ". ومعلوم أن نعم الله سبحانه لا يقوم شكر جميع العباد بمعشارها، ولا كذلك نعم بعضهم على بعض لكن يشبه شكر أحدنا نعمة صاحبه إلى شكر الرسول صلى الله عليه وسلم نعمة ربه كنسبة نعم بعضنا على بعض إلى نسبة نعم الله تعالى سبحانه على نبيه أو على عبد من عبيده، وإن كانت نعم الله تعالى على نبيه أعظم من نعمه على سائر خلقه، بدليل قوله تعالى: " وكان فضل الله عليك عظيماً " لأن بين بلاغة أحدنا وبين بلاغة الرسول كما بين نعمة أحدنا ونعمة الله سبحانه، وإذا وقع للقضية مثال واحد في الوجود علم إمكان وقوعها، وخرجت بذلك من حد الاستحالة والامتناع إلى حد الجواز والإمكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 والمذهب المرضي أن المبالغة ضرب من المحاسن إذا بعدت عن الإغراق والغلو، وإن كان الإغراق والغلو أيضاً ضربين من المحاسن إذا اقترنا، وعيبين إذا أطلقا، ألا ترى كل مبالغة وقعت في الكتاب العزيز كيف أتت على قسمين: قسم ممكن غير مقترن، وقسم غير ممكن لا يأتي إلا مقترناً، كقوله سبحانه: " يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار " وفي غير الممكن كقوله سبحانه: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " الآية، لأن المبالغة فيها عرفية، معناه أن علم ذلك متعذر عندكم، وإلا فهو بالنسبة إلى علم الله سبحانه ليس بمبالغة، وقد قال امرؤ القيس في غير الممكن طويل: من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا ولأن قوة الشعر وضعفه وماءه ورونقه أمر خارج عن البديع جملة، والمحاسن بتة، قرب شعر في غاية الجودة ونهاية القوة مع كونه قد بلغ فيه قائله إلى حد الإغراق أو الغلو، ورب شعر في غاية الرداءة مع الخلو عن هذين الضربين، فإن الكلام يكون جيداً بدون البديع، ورديئاً مع وجوده، فإنكار المبالغة في الكلام القوي الجيد ما لا سبيل إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وأما قول من قال: إن الكلام لا يحسن بدون المبالغة فإن لم يحمل كلامه على التقييد، وإلا فهو محال بين الإحالة، وأحسب قائل هذا ذهب إلى التمييز بين كلامين استويا في خفة مفردات الألفاظ وتوسط استعمالها وحسن تركيبها وخلو الكلام بعد التركيب عن العيوب جملة وتفصيلاً، وتماثلاً في جودة المعنى وتمامه، وكثرة الماء فيهما، وتحلياً من البديع بما أتى الطبع به عفواً من غير تكلف ولا تعسف، وقد بولغ في أحدهما مبالغة مرضية والآخر لم يبالغ فيه، فإن ما بولغ فيه أفضل من الآخر، وأكثر النقاد على أن خير الكلام ما كان متوسطاً بين الغلو والاقتصاد والسلامة والمتانة الغرابة والاستعمال والتصنع والاسترسال، وما أحسن قول البحتري فيما قدمته من هذا الكلام حيث قال يصف لفظ بعض الكتاب خفيف: في نظام من البلاغة ما شك ... ك امرؤ أنه نظام فريد وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديد حزن مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ القريب فأدرك؟ ... ن به غاية المرام البعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 باب التشبيه التشبيه عبارة عن العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حال أو عقد، هكذا حد الرماني، وهذا هو التشبيه العام الذي يدخل تحته التشبيه البليغ وغيره، ثم إن الرماني بعد حده قال: والتشبيه تشبيهان: تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما كتشبيه الجوهر بالجوهر، كقولك: ماء النيل مثل ماء الفرات، وتشبيه العرض بالعرض كقولك: حمرة الخد كحمرة الورد، وتشبيه الجسم بالجسم كقولك: الزبرجد مثل الزمرد، وتشبيه شيئين مختلفين بالذات يجمعهما معنى مشترك بينهما: كقولك، حاتم كالغمام، وعنترة كالضرغام، والتشبيه المتفق تشبيه حقيقة، والتشبيه المختلف تشبيه مجاز للمبالغة. وحد التشبيه البليغ إخراج الأغمض إلى الأظهر بالتشبيه مع حسن التأليف، ووقوع حن البيان فيه على وجوه، منها: إخراج ما لا تقع عليه الحاسة كقوله تعالى: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 شيئاً " فهذا بيان إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة، وقد اجتمعا في بطلان التوهم مع شدة الحاجة، ولو قيل: يحسبه الرائي ماء لكان بليغاً، وأبلغ منه لفظ القرآن لأن الظمآن أشد حرصاً عليه، وأكثر تعلق قلب به، وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من أحسن التشبيه، فكيف تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة الألفاظ وصحة الدلالة. ومنها إخراج ما لم تجربه العادة إلى ما جرت به العادة، كقوله تعالى: " وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة، وقد اجتمعا في معنى الارتفاع في الصورة. ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، كقوله تعالى: " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض " وهذا بيان قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، وقد اجتمعا في العظم وحصل من ذلك الوصف التشويق إلى الجنة بحسن الصفة وإفراط السعة. ومنها إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة، كقوله تعالى: " وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام " وهذا بيان قد أخرج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة، وقد اجتمعا في العظم إلا أن الجبال أعظم، وفي ذلك العبرة من جهة القدرة فيما سخر الله من الفلك الجارية على الماء مع عظمها ولطفه، وما في ذلك من الانتفاع بحملها الأثقال، وقطعها الأقطار البعيدة في المسافة القريبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ومنها إخراج الكلام بالتشبيه مخرج الإنكار كقوله تعالى: " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر " وهذا إنكار على من جعل حرمة الجماد كحرمة من آمن بالله، وفي ذلك أوفى دلالة على تعظيم حال المؤمن بالإيمان، وأنه لا يساوي به مخلوق ليس على صفته بالقياس. واعلم أن الشيء لا يشبه بنفسه ولا بغيره من كل وجه، فإن الشيئين إذا تشابها من جميع الجهات اتحدا، ولا يشبه الشيء بما هو دونه في الصفة الجامعة بينهما. والتشبيه الصناعي على ضربين: تشبيه بأداة، وتشبيه بغير أداة وفائدته قرب المشبه من المشبه به. وأدوات التشبيه خمسة: الكاف، وكأن، وشبه؛ ومثل، والمصدر، بتقدير الأداة. وفي المصادر ما لا يمكن تقدير الأداة فيه كقول الشاعر بسيط: فإنما هي إقبال وإدبار أي ذات إقبال وذات إدبار. وفي التشبيه نوع آخر لا بد من تقدير الأداة فيه كقوله تعالى: " وأزواجه أمهاتهم " وهو من غير القسمين أعني قسمي المصادر فالذي بالأداة قوله تعالى: " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " وكقول امرئ القيس طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل والذي بغير أداة كقوله سبحانه: " وهي تمر مر السحاب " وكقول حسان كامل: بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل وكل ضرب من هذين الضربين مقسم تسعة أقسام: وهذه الأقسام على ضربين أيضاً: ضرب متحد، وضرب متعدد، فالمتحد ينقسم وفق عدد أدوات التشبيه الخمس من تشبيه شيء بشيء، إلى تشبيه شيء بخمسة أشياء. والمتعدد أربعة أقسام: من تشبيه شيئين بشيئين، إلى تشبيه خمسة بخمسة، فشاهد تشبيه شيء بشيء قول امرئ القيس طويل: وجيد كجيد الرئم ليس بفا حش ... إذا هي نصته ولا بمعطل وشاهد تشبيه شيء واحد بشيئين قوله أيضاً طويل: وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع رمل أو مساويك إسحل وشاهد تشبيه شيء واحد بثلاثة أشياء قول البحتري سريع: كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو برد أو أقاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وتشبيه شيء واحد بأربعة أشياء قول امرئ القيس متقارب: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر يعل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحر وتشبيه شيء واحد بخمسة أشياء مثل قول الحريري بسيط يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلح وعن حبب وأما تشبيه شيئين بشيئين من المتعدد فكقول امرئ القيس طويل: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدي وكرها العناب والحشف البالي وتشبيه ثلاثة بثلاثة قول ابن المعلى " مجتث ": ليل وبدر وغصن ... شعر ووجه وقد خمر ودر وورد ... ريق وثغر وخد وتشبيه أربعة بأربعة قول امرئ القيس طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل ولقد غير أبو نواس في وجهه حيث قال سريع: تبكي فتذري الطل من نرجس ... وتمسح الورد بعناب فإن بيته أخصر وزناً وأبهر حسناً وأقصر معنى. وشاهد خمسة بخمسة قول أبي الفرج الوأواء بسيط فأمطرت لؤلؤاً من نرجس فسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد وعندي أن بيت الوأواء هو عين بيت أبي نواس وإنما حصلت فيه زيادة التشبيه لاتساع وزنه، فثبت الفضل لبيت أبي نواس بالسبق إلى نفس المعنى ونفس التشبيه. واعلم أن زيادة التشبيه بما زاد في بيت أبي الفرج الوأواء عن اللفظ لاتساع الوزن. ومن التشبيه نوعان آخران أحدهما تكون أدواته أفعال الظن واليقين كقولك: حسبت زيداً في جرأته الأسد، وعمراً في جوده الغمام والجارية في حسنها القمر، فحاصل ذلك تشبيه الجرئ بالأسد، والجواد بالغمام، والجارية بالقمر، ومنه في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود " حاصل ذلك تشبيه أهل الكهف في حال نومهم بحال الأيقاظ، ومن ذلك في الشعر قول شاعر الحماسة طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة. وذلك أنه لما كانت الشحمة بيضاء شبهوا كل بيضاء بها، وأخرج ذلك مخرج المثل. والنوع الآخر من التشبيه هو الذي يسمى تشبيه التوليد والتمثيل كقول الكميت بسيط أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم يشفي بها الكلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 باب عتاب المرء نفسه وهو من إفراد ابن المعتز، ولم ينشد فيه سوى بيتين ذكر أن الآمدى أنشدهما له عن الجاحظ طويل: عصاني قومي في الرشاد الذي به ... أمرت ومن يعص المجرب يندم فصبراً بني بكر على الموت إنني ... أرى عارضاً ينهل بالموت والدم وما أرى في هذين البيتين من عتاب المرء نفسه إلا ما يتحيل به لمعناهما، فيقدر أن هذا الشاعر لما أمر بالرشد وبذل النصح ولم يطع ندم على بذل النصيحة لغير أهلها، وملزوم ذلك عتابه لنفسه فيكون دلالة البيتين على عتابه لنفسه دلالة التزام لا دلالة مطابقة ولا تضمين. ومثل هذين البيتين قول دريد بن الصمة طويل: نصحت لعراض وأصحاب عارض ... ورهط بني السوداء والقوم شهدى وقلت لهم: ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فلما عصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتد وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد ولا يصلح أن يكون شاهد هذا الباب إلا قول شاعر الحماسة طويل: أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... لك الويل ما هذا التجلد والصبر وكقول ابن السليماني من شعراء الحماسة طويل: لعمرك إني يوم سلع للائم ... لنفسي ولكن ما يرد التلوم أأمكنت من نفسي عدوى ضلة ... ألهفي على ما فات لو كنت أعلم وقد جاء من هذا الباب في كتاب الله قوله سبحانه وتعالى: " يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله " والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 باب حسن الابتداءات هذه تسمية ابن المعتز، وأراد بها ابتداءات القصائد، وقد فرع المتأخرون من هذه التسمية براعة الاستهلال، وخصوا بها ابتداء المتكلم بمعنى ما يريد تكميله ولقد وقع في أثناء القصيدة. وقد روى أن أحسن ابتداء ابتدأ به مولد قصيدة قول إسحاق بن إبراهيم الموصلي، حيث يقول خفيف: هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل ومن إنشادات ابن المعتز في هذا الباب قول النابغة الذبياني طويل: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب ولعمري لقد أحسن ابن المعتز الاختيار، فإني أظنه نظر بين هذا الابتداء وبين ابتداء امرئ القيس في معلقته حيث قال طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل فرأى أن ابتداء امرئ القيس على تقدمه وكثرة معاني ابتداءاته متفاوت القسمين جداً، لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك، وكثرة المعاني بالنسبة إلى العجز ما لم يجمع العجز، فإن ألفاظ العجز غريبة بالنسبة إلى ألفاظ الصدر، والعجز أقل معان من الصدر بخلاف بيت النابغة، فإنه لا تفاوت بين قسميه البتة، فبيت امرئ القيس وإن كان أكثر معان من بيت النابغة، فبيت النابغة أفضل، من جهة ملاءمة ألفاظه، ومساواة قسمية، ومثل بيت النابغة قول زهير طويل: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله فإن قسمي هذا البيت متلائمان، فإن لفظ كل واحد منهما متوسط بين الغرابة والابتذال، وفي كل قسم منهما استعارتان، فقد تساويا في اللفظ والمعنى كبيت النابغة، وهذا من قول امرئ القيس طويل: خليلي مرا بي على أم جندب ... نقضي لبانات الفؤاد المعذب وإنما عظم ابتداء معلقة امرئ القيس في النفوس الاقتصار على سماع صدر البيت، فإنه يشغل الفكر بحسنه عن النظر في ملاءمة عجزه أو عدم ملاءمته، وهو الذي قيل عند سماعه للمنشد: حسبك، فإن قائل هذا الكلام أشعر الناس، لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت ولم يستنشد العجز منه شغلاً بحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الصدر عنه، وإذا تأمل الناظر في نقد البيت بكماله ظهر له تفاوت القسمين، فعلم جملة أن الابتداء غير موصوف بحسن الابتداء، إذ حسن الابتداء عبارة عن ملاءمة القسمين. ومن جيد ابتداءات المولدين قول أبي نواس وهو في غاية الحسن طويل: خليلي هذا موقف من متيم ... فعوجا قليلاً وانظراه يسلم وقوله طويل: لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم ومن إنشادات ابن المعتز لأبي تمام بسيط يا بعد غاية دمع العين إذ بعدوا ... هي الصبابة طول الدهر والكمد وإذا وصلت إلى قول البحتري طويل: بودي لو يهوى العذول ويعشق ... ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق وصلت إلى الغاية التي لا تدرك، وما سمع أشد مباينة كبيت جميل وهو قوله: طويل ألا أيها النوام ويحكم هبوا ... أسائلكم ل يقتل الرجل الحب؟ وهذا البيت الذي قال فيه الرشيد إما للمفضل الضبي أو غيره: هل تعرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بيتاً نصفه بدوي في، شمله وباقيه مخنث في بذلة فأنشده البيت فاستحسن ذكره. ولقد أحسن أبو الطيب ما شاء في قوله خفيف: تراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي لو لم يكدر صفوه ويقبح حسنه بقوله: كيف ترثي التي برى كل جفن ... راءها غير جفنها غير راقي وأكثر ابتداءات أبي العلاء المعري تأتي على سنن الصواب، كقوله: بسيط يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر وكقوله طويل: طربن لضوء البارق المتعالي ... ببغداد وهنا ما لهن ومالي وقوله طويل: مغاني اللوى من شخصك اليوم أطلال ... وفي النوم مغنى من خيالك محلال وكقوله خفيف: غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فهذه أمثلة ابتداءات القصائد. وأما أمثلة براعة الاستهلال فمنها قول محمد بن الخياط طويل: لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأنفدت ما عندي ولقد أحسن البحتري اتباعه في هذا المعنى حيث قال كامل: أعدت يداه يدي وشرد جوده ... بخلي فأفقرني كما أغناني ووثقت بالخلق الجميل معجلاً ... منه فأعطيت الذي أعطاني وإذا نظرت إلى فواتح السور الفرقانية جملها ومفرداتها رأيت من البلاغة والتفنن في الفصاحة ما لا تقدر العبارة على حصر معناه، ومن أراد الوقوف على ذلك فليقف على كتابي المنعوت بالخواطر السوانح في كشف أسرار الفواتح والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 باب صحة الأقسام وهذا أول أبواب قدامة وصحة الأقسام عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه، بحيث لا يغادر منه شيئاً، ومثال ذلك قوله تعلى: " هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً " وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق، والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين. ومن لطيف ما وقع في هذه الجملة من البلاغة تقديم الخوف على الطمع، إذ كانت الصواعق تقع من أول برقة، ولا يحصل المطر إلا بعد توافر البرقات، فإن تواترها لا يكاد يكذب ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة وتنتجع، فلا تخطئ الغيث والكلأ، والى هذا أشار المتنبي بقوله وافر: وقد أرد المياه بغير هاد ... سوى عدي لها برق الغمام فلما كان الأمر المخوف من البرق يقع من أول برقة، أتى ذكر الخوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 في الآية الكريمة مقدماً أولاً، ولما كان الأمر المطمع إنما يقع من البرق ناسخاً للخوف، لمجيء الفرج بعد الشدة، والميسرة بعد الأمر المخوف، أتى ذكر الطمع في الآية الكريمة ثانياً، وليكون الطمع بعد الحزن رحمة من الله سبحانه وتعالى بخلقه، وبشرى بحسن العاقبة لعباده، وقد أتى ابن رشيق بهذه الآية من شواهد التفسير، لما كان قوله سبحانه خوفاً وطمعاً كان مفسراً رؤية البرق، وهو قريب. ومما جاءت صحة الأقسام فيه مدمجة في المقابلة من الكتاب العزيز قوله سبحانه: " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون " وقد اعترضت المطابقة بين القسمين المتقابلين واستوعبت أقسام الأوقات من طرفي كل يوم ووسطه. ومن بديع صحة التقسيم قول علي عليه السلام: " أنعم على من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره " فإنه استوعب أقسام الدرجات العليا والسفلى والوسطى، وأقسام أحوال الإنسان وبين الفضل والنقص والكفاف وأتى في ضمن ذلك الطباق بين الغنى والحاجة والمناسبة في أميره ونظيره وأسيره. ومثال صحة الأقسام من الكتاب العزيز أيضاً قوله: " الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم " فلم يترك سبحانه قسماً من أقسام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الهيئات حتى أتى به، ومثل هذه الآية آية يونس وهي قوله تعالى: " وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً " لكن وقعت بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها البلاغة، فتضمن الكلام بها الائتلاف، وذلك أن الذكر يجب فيه تقديم القيام لأن المراد به الصلاة والله أعلم. والقيام واجب فيها للمستطيع، والقعود بعده عند العجز عن القيام، والاضطجاع عند العجز عن القعود، والضر يجب فيه تقديم الاضطجاع، وإذا زال بعض الضرر قعد المضطجع، وإذا زال كل الضرر قام القاعد فدعا لتتم الصحة وتكمل القوة، ويحصل التصرف، فإن قلت: هذا التأويل لا يتم إلا إذا كانت الواو هي العاطفة فلم عدل عنها وبها يحصل في الكلام حسن النسق وائتلاف الألفاظ مع المعاني إلى أو التي يسقط معها ذلك؟ قلت: تأثير الضر على أقسام: فإن من الضر ما يصرع المضرور عند وروده، ومنه ما يقعده، ومنه ما يأتي وصاحبه قائم ولا يبلغ به شيئاً من هذه الحالات، والدعاء عند أول مس الضر، فإن الضر والجزع عند الصدمة الأولى، فوجب العدول عن الواو لأو لتوخي الصدق في الخبر، والكلام على ذلك موصوف بالائتلاف وبحسن النسق، والخبر بذلك التأويل الأول عن شخص واحد، وبالتأويل الثاني عن أشخاص، فغلبت الكثرة، فوجب الإتيان بأو، وابتدئ بالشخص الذي يصرعه، لأن ضره أشد، فهو أكثر تضرعاً فوجب تقديم ذكره لأن تقديمه الأهم، وإذا تقدم ذكر المضطجع أوجب حسن الترتيب أن يليه ذكر القاعد وأن يلي ذكر القاعد ذكر القائم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فحصل حسن الترتيب، وائتلاف الألفاظ بمعانيها، وترجح مجيءُ أو على مجيءِ الواو، ولا تدل عليه من تعدد المضطرين دون الواو. وكقوله: " يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً " لأنه سبحانه إما أن يفرد العبد: بهبة الإناث أو بهبة الذكور أو يجمعهما له، أو لا يهبه شيئاً، ووقعت صحة الأقسام في هذه الآية على ترتيب البلاغة، وهو الانتقال من الأدنى إلى الأعلى فقدم هبة الإناث لتنتقل منها إلى أعلى منها، وهي هبة الذكور، ثم انتقل إلى أعلى منها وهي هبة الإناث والذكور، فجاءت كل أقسام العطية بلفظ الهبة، وأفرد معنى الحرمان بالتأخر لأن أفضاله على عباده أهم من حرمانه إياهم، وتقديم الأهم أولى، وقال في معنى الحرمان: ويجعل عادلاً عن لفظ الهبة لتأتي الألفاظ ملائمة للمعاني قياساً على قوله تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاماً " وهكذا الاعتداد بالماء والنار، فأتى لفظ العطاء بلفظ الزرع، ومعنى الحرمان بلفظ الجعل. وفي السنة من صحة الأقسام قول رسول الله عليه الصلاة والسلام " ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " ولا رابع لهذه الأقسام. ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله من تصدق من فضل، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت: فقال الحسن: ما ترك الأعرابي منكم أحداً حتى عمه بالمسئلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول نصيب طويل: فقال فريق القوم لا وفريقهم ... نعم وفريق ليمن الله ما ندري فليس في أقسام الإجابة غير ما ذكر. وقال بشار طويل: فراح فريق في الإسار، ومثله ... قتيل، ومثل لاذ بالبحر هاربه وأوجز من هذا في معناه قول عمرو بن الأهتم خفيف: اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل وهارب وأسير ومن جيد صحة الأقسام قول شاعر الحماسة طويل: وهبها كشيء لم يكن أو كنازح ... به الدار أو من غيبته المقابر فلم يبق في تقسيم المعدوم شيئاً حق ذكره، لأن الشيء إما مقدراً لم يوجد، أو قد وجدد وعدم إما بالنزوح أو بالفناء، وكقول أبي تمام في الأفشين وقد أحرق كامل: صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتاً، ويدخلها مع الفجار والبارع في هذا الباب قول عمرو بن كلثوم وافر: نطاعن ما تراخى الصف عنا ... ونضرب بالسيوف إذا غشينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وأحسب أن أول من نطق بصحة التقسيم زهير حيث قال: طويل وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي ونقل أبو نواس هذا المعنى من الجد إلى الهزل، فقال في الحض على الشرب منسرح: أمر غد أنت منه في لبس ... وأمس قد مر فاسل عن أمس وإنما الشأن شأن يومك ذا ... فباكر الشمس بابنة الشمس وكنت أظن أن زهيراً هو المبتدئ بصحة التقسيم حتى عثرت على قول امرئ القيس طويل: وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال فاستوعب آلات القتال، ورتبها في البيت على ما يكون عليه في الحرب من الأفضل فالأفضل. فتمت صحة التقسيم بجميع شروطها كما ترى، وما ألطف قول بعض المغاربة خفيف: شغل الدهر من لقاء حبيب ... ليت شعري متى؟ وكيف؟ وأينا؟ فاستوعب أقسام الظروف الزمانية والمكانية، وكيف التي يسأل بها عن الأحوال. والنادر في صحة الأقسام قول عمر بن أبي ربيعة طويل: تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول ولا أنت مقصر ولا قرب نعم إن دنت لك نافع ... ولا بعدها يسلى ولا أنت تصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 باب صحة المقابلات صحة المقابلات عبارة عن توخي المتكلم ترتيب الكلام على ما ينبغي، فإذا أتى بأشياء في صدر كلامه أتى بأضدادها في عجزه على الترتيب، بحيث يقابل الأول بالأول، والثاني بالثاني لا يخرم من ذلك شيئاً في المخالف والموافق، ومتى أخل بالترتيب كان الكلام فاسد المقابلة، وقد تكون المقابلة بغير الأضداد. والفرق بين المقابلة والمطابقة من وجهين: أحدهما أن المقابلة لا تكون إلا بالجمع بين ضدين فذين، والمقابلة تكون غالباً بالجمع بين أربعة أضداد: ضدان في صدر الكلام، وضدان في عجزه، وتبلغ إلى الجمع بين عشرة أضداد: خمسة في الصدر، وخمسة في العجز. والثاني أن المطابقة لا تكون إلا بالأضداد، والمقابلة تكون بالأضداد وبغير الأضداد. ومن معجز هذا الباب قوله تعالى: " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله " فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام، ثم قابلهما في عجز الكلام بضدين، وهما السكون والحركة على الترتيب، ثم عبر عن الحركة بلفظ الإرداف، فاستلزم الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 ضرباً من المحاسن زائداً على المقابلة، وعدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل لكون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة، وهي تشير إلى الإعانة بالقوة، وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل وسلامة الحس، وإضاءة الظرف الذي تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه، ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المأرب، ويتقي أسباب المهالك، والآية سيقت للاعتداد بالنعم، فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه وتابعه ليتم حسن البيان، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح، التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنها إلى ألفاظ كثيرة. فحصل في الكلام بهذا السبب عدة ضروب من المحاسن، ألا تراه سبحانه جعل العلة في وجود الليل والنهار حصول منافع الإنسان، حيث قال: " لتسكنوا ولتبتغوا " بلام التعليل، فجمعت هذه الكلمات المقابلة، والتعليل، والإشارة، والإرداف، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وحسن البيان، وحسن النسق، فلذلك جاء الكلام متلائماً آخذة أعناق بعضه بأعناق بعض، ثم أخبرن بالخبر الصادق أن جميع ما عدده من النعم بلفظه الخاص، وما تضمنته العبارة من النعم التي تلزم من لفظ الإرداف بعض رحمته، حيث قال بحرف التبعيض: " ومن رحمته " وكل هذا في بعض آية عدتها عشر كلمات، فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة المتظاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ومن أمثلة صحة المقابلات قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا الخرق في شيء إلا شانه " فقابل عليه السلام الرفق بالخرق، والزين بالشين بأحسن ترتيب وأتم مناسبة بين الرفق والخرق ولفظتي شانه وزانه. ومن أمثلة صحة المقابلات الشعرية قول القائل أحسبه كثيراً في مقابلة الأضداد من أناشيد قدامة طويل: فوا عجباً كيف اتفقنا فناصح ... وفي ومطوي على الغل غادر فإن هذا الشاعر لما قدم ذكر النصح والوفاء في صدر البيت، قابلهما بذكر الغل والغدر في عجزه على الترتيب، لا، الغل ضد النصح، والغدر ضد الوفاء. وقد وقع في مقابلة الأضداد ما جمع بين ستة أضداد وهو بيت أنشده أبو دلامة للمنصور، وقد سأله عن أشعر بيت في المقابلة فأنشده بسيط ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل فإن الشاعر قابل أحسن بأقبح، والدين بالكفر، والدنيا بالإفلاس، فجمع بيته ما لم يجمعه بيت قيل قبله في التقابل، ولا خلاف في أنه لم يقل قبله مثله، وأما بعده فقد غير المتنبي في وجوه الناس بقوله بسيط أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي فإنه جمع بين عشر مقابلات، قابل أزور بأنثنى، وسواداً ببياض، والليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 بالصبح، ويشفع بيغرى، ولفظة لي بلفظة بي على الترتيب، ولا أعلم في باب التقابل أفضل من هذا البيت لجمعه من المقابلات ما لم يجمعه بيت لشاعر قبله ولا بعده إلى يومنا هذا، مع ما فيه من تمكين قافيته، بخلاف البيت الذي أنشده أبو دلامة، فإن قافيته مستدعاة لكون حسن الأشياء التي ذكرها، وقبحها لا يختص بالرجل دون المرأة، والمعنى قد تم بدون ذكر الرجل، ولو كان لما اضطر إلى القافية التي أفاد بها معنى زائداً بحيث يقول: بالبشر لكان البيت نادراً، غير أن المقابلة التي في البيت الذي أنشده أبو دلامة أفضل من المقابلة التي في بيت أبي الطيب، لأن المقابلة التي في البيت الأول بالأضداد، والتي في بيت المتنبي بالأضداد وبغير الأضداد، والمقابلة بالأضداد أفضل مراعاة للاشتقاق، لأن التقابل: التضاد والتناقض، فبيت المتنبي فضل بالكثرة والبيت الأول أفضل بجودة المقابلة، وقد أنشد بعض المؤلفين في هذا الباب قول أبي نواس طويل: أرى الفضل للدنيا وللدين جامعاً ... كما السهم فيه الفوق والريش والنصل وزعم أن هذا البيت فاسد المقابلة من جهة أنه قابل الدنيا والدين الذين هما طرفان بطرفي السهم، وهما الفوق والنصل، ونفي الريش لا مقابل له، وعندي أن البيت صحيح المقابلة، لأن أبا نواس قصد أن الممدوح جمع من الدين والدنيا ما ينتفع به، وما لا بد للعاقل المكلف منه، وهما طرفا نقيض، كما جمع طرفا السهم ما لا غنى بالسهم عنه، لأن الفوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 موضوع الوتر، والريش الموصل، والنصل المصمى، فشبه الممدوح بالسهم الجامع لمصالح الطرفين، ولما كان الريش والفوق في طرف واحد كانا معاً مقابلين للنصل، إذ هو في الطرف الآخر، ولم يضر تعدادهما. وهو يريد الطرف الجامع لهما على أن الإخلال بصحة التقسيم في ظاهر اللفظ لا يفسد صحة المقابلة، فرب كلام وقع في ظاهر لفظه إخلال ببعض أقسامه، لكون ذلك القسم لم يذكر فيه بالفعل، وكان مذكوراً فيه بالقوة في باطنه، فجاء ظاهر لفظه يوهم الإخلال وهو بريء منه، كما جاء في قوله تعالى: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً " فقدم في صدر الكلام أمران: الوعد بالفقر، والأمر بالفحشاء، ثم قابل الشيئين في الظاهر بشيء واحد وهو الوعد. فأوهم أنه أخل بذكر الأمر، وليس كذلك، وإنما لما كان الفضل مقابلاً للفقر، والمغفرة مقابلة للأمر بالفحشاء لأن الفحشاء توجب العقوبة. والمغفرة تقابل العقوبة، استغنى بذكر المقابل عن ذكر مقابله، لأن ذكر أحدهما ملزوم ذكر الآخر، ومثل ذلك من الشعر الفصيح قول القائل وافر: أسرناهم وأنعمنا عليهم ... وأسقينا دماءهم الترابا فما صبروا لبأس عند حرب ... ولا أدوا لحسن يد ثواباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فإن ظاهر لفظ البيتين يؤذن بأن الشاعر أخل بمقابل قوله: وأسقينا دماءهم الترابا لأنه قابل اليأس بسلب الصبر، والإنعام بنفي الثواب، وليس الأمر كذلك لأن القتل والأسر داخلان في بأس الحرب، فهما شيء واحد وإن تعدد مقابلهما معاً بالصبر، لأنه يكون عليهما. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 باب صحة التفسير والتبيين وهو أن يأتي المتكلم في أول الكلام، أو الشاعر في بيت من الشعر بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه دون أن يفسر، إما في البيت الآخر، أو في بقية البيت إن كان الكلام الذي يحتاج إلى التفسير في أوله. ووقوع التفسير من الكلام على أنحاء: بعد الشرط، وما هو في معناه، وبعد الجار والمجرور، وبعد المبتدإ الذي التفسير خبره. فمثال ما وقع منه بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط قول الفرزدق طويل: لقد جئت قوماً لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملاً ثقل مغرم لألفيت منهم معطياً ومطاعناً ... وراءك شزراً بالوشيج المقوم ومثال ما جاء بعد الجار والمجرور قول الحسين بن مطير الأسدي كامل: وله بلا حزن ولا بمسرة ... ضحك يواصل بينه وبكاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وكلا الرجلين - أعني الفرزدق وابن مطير - لم يراعيا الترتيب، وإن كان عدم الترتيب مع حسن الجوار وقرب الملائم لا ينقص به حسن الكلام البليغ، بل هو عندي نوع من صحة التفسير، ألا ترى إلى قوله تعالى: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فأما الذين اسودت وجوههم " ثم قال بعد ذلك: " وأما الذين ابيضت وجوههم " ومثل ذلك قول الله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم " فإنه لما قدم ذكر الأبلغ على ما دونه - وطريق البلاغة الترقي - نعلم من هذا الترتيب أن توخي الملاءمة، وحسن الجوار أولى من حسن الترتيب، إذ كان اسم الله تعالى يختص به دون بقية أسماءه، وكان الرحمن وصفاً مختصاً به دون بقية صفاته، فأتبع الأخص بالأخص، ولتوخي الملاءمة ومراعاة حسن الجوار عدل عن الإيضاح، وتعمد التقديم والتأخير الذي هو أحد الوجوه الثلاثة التي يحصل بها الإشكال، فإن التنزيل لو كان في آية الطهارة، " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤسكم " لم تختلف العلماء في المسح والغسل، لكن القصد إلى نظم الكلام على الوجه الأحسن من مجاورة الملائم بالملائم ليكون لفظ الكلام مؤتلفاً مع معناه، عدل عن ذلك الترتيب إلى التقديم والتأخير، لأن كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضوء أصحابه والتابعين لهم بإحسان لم يرو أن أحداً منهم غسل رجليه قبل مسح رأسه، وإذا علم أن مسح الرأس مقدم على غسل الرجلين علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 أن الواجب غسل الرجل من حيث إنه سبحانه قدم ذكر مسح الرأس، ليعلمنا ترتيب غسل الأعضاء في الوضوء كما كانت في الغسل، فإن الغسل يختم فيه بغسل الرجلين، ولما أخر ذكر الرجلين أتى بالتحديد ليعلم أن الأمر فيهما معطوف على الأعضاء المغسولة، لا على العضو الممسوح، فإن المسح لم تضرب له غاية احتراساً ممن يظن أن الرجل ممسوحة، ولعربية الشافعي ومعرفته بكنه بلاغة العرب أوجب الترتيب في الوضوء، لكون الآية جاءت مرتبة للأعضاء، ولم يحفل بالتقديم والتأخير، وإن أوجب لبساً اتكالاً على ما في التحديد من دفع ذلك اللبس. وما سمعت ولا غيري بمستمع كقول الله سبحانه وتعالى: " سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " فإن صحة التقسيم اندرجت في صحة التفسير، واندمج الترتيب والتهذيب في صحة التقسيم، وحصل الائتلاف من حصول الترتيب، إذ قدم سبحانه النبات، وثنى بأشرف الحيوان، فكان غيره من الحيوان بطريق أولى، ثم ثلث بقوله: " ومما لا يعلمون " فاندرج تحت هذا العموم كل ما اختص الله بعلمه من المولدات الثلاث، بل من جميع المخلوقات من كل موجود سوى الله، فحصل الترقي على سنن الفصاحة، والمشي على نهج البلاغة وأتت الفاصلة في غاية التمكين، فالآية الكريمة لذلك تصلح أن تكون شاهداً للتفسير، والتقسيم، والتهذيب، والائتلاف، والتمكين، وإنما خصصت بها باب التفسير، لأنه أول مذكور فيها، ومنه تتفرع بقية ما انطوت عليه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 المحاسن، ولقد أحسن ابن شرف القيرواني في التفسير الواقع بعد الجار والمجرور حيث قال طويل: لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن فللخامل العليا وللمعدم الغنى ... وللمذنب العتبى وللخائف الأمن ون أناشيد قدامة فيما جاء من التفسير بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط قول صالح بن جناح اللخمي طويل: لئن كنت محتاجاً إلى الحلم إنني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج ثم فطن الشاعر إلى أنه أجمل في قوله: وإن كنت محتاجاً إلى الحلم، فإنني في بعض الأوقات إلى الجهل أحوج، ولم يبين كونه إذا احتاج إلى الجهل واضطر له هل يقدر على أن يجهل؟ فقال في البيت الثاني طويل: ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج فبين أن عنده حلم لمن يعامله بالحلم، وجهل لمن يعامله بالجهل، وهذا بسط قول عمرو بن كلثوم وافر: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا لكن بيت ابن جناح أمشى على سنن العدل من بيت ابن كلثوم لاستضاءته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 بنور القرآن العزيز، وتأدبه بأدبه لأنه عقد بالوزن قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ". ثم فطن - أعني ابن جناح - إلى كونه لم يتبين العلة التي تحوجه إلى الجهل، فقال في البيت الثالث طويل: فمن شاء تقويمي فإني مقوم ... ومن شاء تعويجي فإني معوج ومثال ما جاء من التفسير بعد خبر المبتدإ بشرط أن يكون المفسر مجملاً والمفسر له مفصلاً قول ابن الرومي كامل: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم وهذا أفضل ما سمعته في باب التفسير من الشعر، فإنه راعى فيه الترتيب أحسن مراعاة، فلو كمله بأن يستوعب فيه أقسام منافع النجوم بأن يضيف إلى ما ذكره سقياها الأرض، حصل في بيته صحة التقسيم مع صحة التفسير، وإن كان هذا غير لازم للشاعر، لكنه لو اتفق له ذلك كان أحسن. ولما لحظت ذلك خطر لي أن أعمل معناه على ما وقع لي من صحة التقسيم مع صحة التفسير، فقلت في شرف الدين حسن بن سناء الملك؛ طويل: لآبائك الماضين يا حسن الندى ... صفات بها لا غير تعلو المراتب وجوه وآراء وشهب عزائم ... وأيد بديجور الخطوب كواكب يماط الدجى منها ويهدي بها الورى ... ويرحم من يجنى وتسقى السحائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 ومن بديع التفسير قول أبي جعفر الخراز النظيري من نظر بلنسية، من شعراء المائة السادسة في ابن عباد طويل: وما زلت أجني منك والدهر ممحل ... ولا ثمر يجني ولا زرع يحصد ثمار أياد دانيات قطوفها ... لأغصانها ظل علي ممدد يرى جارياً ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهن تغرد ون التفسير نوع لا تعرف صحته، لأنه يأتي مفسراً لشيء مقدر في النفس، لم يجر له ذكر في الكلام الذي تقدم، لكنه يكون ملزوم الكلام المتقدم من ظاهر اللفظ، ولأن المفسر لا تنحصر تفاصيله كقول المتنبي كامل: وجلا الوداع من الحبيب محاسناً ... حسن العزاء وقد جلين قبيح فيد مسلمة وطرف شاخص ... وحشاً يذوب ومدمع مسفوح وذلك أن البيت الثاني لا يصلح أن يكون تفسيراً للبيت الأول، لأن البيت الأول أشار إلى صفات الحبيب، والبيت الثاني يشير إلى أحوال المحب، وإنما لما قال في البيت الأول إن الوداع جلا من الحبيب محاسناً قبح عند رؤيتها، كان كأنه قدر في نفسه أنه عندما تحقق مقارنة تلك المحاسن بقيت حاله على ما شرحه وفسره في البيت الثاني. ومن مليح التفسير وبديعه قول محمد ابن وهيب في المعتصم بسيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر ولقد أحسن مجد الملك بن شمس الخلافة حين تناول هذا المعنى ما شاء، فإنه وطأ له توطئة ملائمة، لو اقتصرنا في تفضيله عليها كانت كافية لا سيما وقد زاد فيه زيادة غير خافية عن ذي بصيرة حيث قال كامل: شيئان حدث بالقساوة عنهما ... قلب الذي يهواه قلبي والحجر وثلاثة بالجود حدث عنهم ... البحر والملك المعظم والمطر لكن واسطة الثلاثة خيرها ... وكذاك خير العقد واسطة الدرر ومن التفسير ضرب يأتي في حشو البيت وهو غريب في التفسير، لأن غالب مجيء التفسير إما في عجز البيت، أو في بيت آخر، وهو قول عمرو بن كلثوم وافر: ويوم كريهة طعناً وضرباً ... أقر به مواليك العيونا فقوله: " طعناً وضرباً " تفسير ليوم الكريهة. ومن لطيف التفسير وغريبه تفسير وقع بعد الإخبار، وهو غير الأقسام المتقدمة، وذلك قول أبي حية النميري طويل: فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين: كف ومعصم والمعنى من قول النابغة الذبياني كامل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد وبيت أبي حية أجزل لفظاً، وأتم معنى، وأحسن رونقاً وديباجة. ومن مليح التفسير الذي وقع في بيت قول بعض المغاربة بسيط صالوا وجالوا وضاؤوا واحتبوا فهم ... أسد ومزن وأقمار وأجبال فإنه أحسن فيه الترتيب، ووقع التفسير في عجز البيت كله، والمفسر في الصدر كل بحيث أتى كل قسم مستقلاً بنفسه، وجمع إلى ذلك المساواة، فإن لفظه طبق معناه، ومن التفسير نوع يتقدم التفسير فيه على المفسر، كقول زينب بنت زياد المؤدب من شواعر العرب طويل: ولا أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقلت حماتي عند ذاك وأنصاري غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والماء والنار فقولها: من مقلتيك وأدمعي ومن نفسي تفسير لبقية البيت. ومن معجز التفسير ما جاء في الكتاب العزيز منه كقوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومهم من يمشي على أربع " فذكر سبحانه الجنس الأعلى أولاً حيث قال: " كل دابة " فاستغرق أجناس كل ما دب ودرج. ثم فسر هذا الجنس بعد ذلك بالأجناس المتوسطة والأنواع، حيث قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فمنهم، ومنهم، ومنهم مراعياً للترتيب وذلك أنه قدم ما يمشي بغير آلة لكون الآية سيقت لبيان القدرة وتعجب السامع، وما يمشي بغير آلة أعجب مما يمشي بآلة، فلذلك كان تقديمه ملائماً لمقصود الآية، ثم ثنى بالأفضل فالأفضل، فأتى بما يمشي على رجلين، وهو الآدمي والطائر، لتمام خلق الإنسان وكمال حسن صورته، ولما في الطائر من عجب الطيران الدال على الخفة، مع ما فيه من كثافة الأرضية، وثلث بما يمشي على أربع لأنه أحسن الحيوان البهيم وأقواه، تغليباً له على ما يمشي على أكثر من الأربع من الحشرات، وإن كان داخلاً فيما يمشي على الأربع، وإنما خص ذلك بالذكر دونه لفضله عليه، فاستوعب الأقسام، وأحسن الترتيب، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المحاسن، وهي صحة التفسير وصحة التقسيم، مع مراعاة الترتيب، والإشارة، وائتلاف اللفظ مع المعنى وحسن النسق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 باب ائتلاف اللفظ مع المعنى ذا الباب ذكره قدامة وترجمه منفرداً، ولم يبين معناه، وشرحه الآمدي فأطال، ولم توف عبارته بإيضاحه؛ وتلخيص معنى هذه التسمية أن تكون ألفاظ المعنى المطلوب ليس فيها لفظة غير لائقة بذلك المعنى، ومثال ذلك قوله سبحانه: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب " فعدل سبحانه عن الطين الذي أخبر في كثير من مواضع الكتاب العزيز أنه خلق آدم منه، منها قوله تعالى: " إني خالق بشراً من طين " وقوله سبحانه حكاية عن إبليس: " خلقتني من نار وخلقته من طين " فعدل عز وجل. وهو أعلم. عن ذكر الطين الذي هو مجموع الراب والماء إلى ذكر مجرد التراب، لأنه أدنى العنصرين، وأكثفهما لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية بما يصغر أمر خلقه عند من ادعى ذلك، فهذا كان الإيتان بلفظة التراب أمتن بالمعنى من غيرها من العناصر ولو كان موضعه غيره لكان اللفظ غير مؤتلف بالمعنى المقصود، ولما أراد سبحانه الامتنان على بني إسرائيل بعيسى عليه السلام أخبرهم عنه أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيماً لأمر ما يخلقه بإذنه، إذ كان المعنى المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به. ومن ائتلاف اللفظ مع المعنى أن يكون اللفظ جزلاً إذا كان المعنى فخماً، ورقيقاً إذا كان المعنى رشيقاً، وغرساً إذا كان المعنى غريباً بحتاً، ومستعملاً إذا كان المعنى مولداً محدثاً، كقول زهير طويل: أثافي سفعاً في معرس مرجل ... ونؤباً كجذم الحوض لم يتثلم فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا أنعم صباحاً أيها الربع وأسلم فإن زهيراً لما قصد إلى تركيب البيت الأول من ألفاظ تدل على معنى عربي لكن المعنى غير غريب، ركبه من ألفاظ متوسطة بين الغرابة والاستعمال، ولما قصد في البيت الثاني إلى معنى أبين من الأول وأعرف وإن كان غريباً ركبه من ألفاظ مستعملة معروفة. ومن شواهد هذا القسم من الائتلاف من الكتاب العزيز قوله تعالى: " قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين " فإنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها، فإن والله وبالله أكثر استعمالاً وأعرف عند الكافة من تالله لما كان الفعل الذي جاور القسم أغرب الصيغ التي في بابه، فإن كان وأخواتها أكثر استعمالاً من تفتأ وأعرف عند الكافة، ولذلك أتى بعدهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 بأغرب ألفاظ الهلاك بالنسبة، وهي لفظة حرض ولما أراد غير ذلك قال في غير هذا الموضع " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " لما كانت جميع الألفاظ مستعملة وعلى هذا فقس. والله أعلم. ومن هذا الباب ملاءمة الألفاظ في نظم الكلام على مقتضى المعنى، لا من مجرد جملة اللفظ، فإن الائتلاف من جهة ما قدمنا من ملاءمة الغريب للغريب والمستعمل للمستعمل، لا من جهة المعنى، بل ذلك من جهة اللفظ. وأما الذي من جهة المعنى فقوله تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " فإنه سبحانه لما نهى عن الركون للظالمين، وهو الميل إليهم، والاعتماد عليهم، كان ذلك دون مشاركتهم في الظلم، أخبر أن العقاب على ذلك دون العقاب على الظلم، وهو مس النار، دون الإحراق والاصطلاء، وإن كان المس قد يطلق ويراد به الاستئصال بالعذاب وشمول الثواب أكبر مجازاً، ولما كان المس أول ألم أو لذة يباشرها الممسوس جاز أن يطلق على ما يدل عليه استصحاب تلك الحال مجازاً، والحقيقة ما ذكرناه وهو في هذه الآية الكريمة على حقيقته، والله عز وجل أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 باب المساواة وهذا الباب مما فرعه قدامة من الباب المتقدم عليه، وشرحه بأن قال: هو أن يكون اللفظ مساوياً للمعنى حتى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه وهذا من البلاغة التي وصف بها بعض الوصاف بعض البلغاء فقال: كانت ألفاظه قوالب لمعانيه، ومعظم آيات الكتاب العزيز كذلك، ومنها قوله تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " فإن قيل: معظم هذه الآية من باب الإشارة ، لأن العدل والإحسان والفحشاء والمنكر على قلة هذه الألفاظ تدل على معاني من أفعال البر وضدها لا تنحصر، ولا معنى للإشارة إلا دلالة اللفظ القليل على المعاني الكثيرة، فكيف تجتمع المساواة والإشارة؟ قلت: المساواة تطلق ويراد بها معنيان: أحدهما أن تكون ألفاظها ألفاظ المعنى الموضوعة له، فتلك هي التي لا تزيد على المعنى ولا تقصر عنه، وهي التي لا تجتمع مع الإشارة ولا الإرداف ولا غيرهما من الكلام الذي لفظه أقل من معناه، والثاني أن يكون لفظ الكلام غير لفظ معناه الموضوع له، كالإشارة والإرداف وما جرى هذا المجرى، فإن كانت كذلك ولم يأت المتكلم في أثناء الكلام وخلاله بلفظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 زائدة على لفظ المقصد الذي قصده لإقامة وزن أو لاستدعاء قافية أو تتميم معنى، أو لإيغال أو سجعة، فتلك أيضاً مساواة لأن لكل باب لفظاً يخصه، فمتى زاد على ذلك اللفظ الدال على ذلك المعنى المقصود كان الكلام غير موصوف بالمساواة. ومن هذا الباب في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك " الآية فإن قيل: لفظة القوم في قوله تعالى: " وقيل بعداً للقوم الظالمين " زائدة يمنع الآية أن توصف بالمساواة، فإنه لو قال وقيل بعداً للظالمين أجزأ. قلت: لما سبق قوله تعالى: " وكلما مر عليها ملأ من قومه " وقوله سبحانه: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا " أوجبت البلاغة أن يقول في آخر الكلام: " بعداً للقوم الظالمين "، ولو اقتصر سبحانه على لفظة الظالمين دون لفظة القوم لتوهم متوهم أن آلة التعريف في الظالمين للجنس وهو خلاف المراد، فإن المراد بالظالمين هاهنا قوم نوح الذين قدم ذكرهم ووصفهم بالظلم، ونهاه عن المخاطبة فيهم ليرتد عجز الكلام على صدره، ويعلم أن المدعو عليهم هم الذين تقدم ذكرهم احتراساً من وقوع هذا التوهم، ولا يحصل ذلك إلا بذكر القوم فقد صار الإتيان بها يفيد معنى لم يفده الكلام بدونها. واعلم أن البلاغة قسمان: إيجاز، وإطناب، والمساواة معتبرة في القسمين معاً، فأما الإيجاز فكقوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 والإطناب في هذا المعنى كقوله: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل " وكقوله سبحانه في قسم الإيجاز من غير هذا المعنى: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " وكقوله تعالى في الإطناب: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية، ولا بد من الإتيان بهذا الفصل لئلا يتوهم أن الإطناب لا يوصف بالمساواة. ومن شواهد المساواة قول امرئ القيس متقارب: فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد وإن تقتلونا نقتلكم ... وإن تقصدوا لدم نقصد وكقول زهير طويل: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وكقول طرفة طويل: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 باب الإشارة وهو أيضاً مما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وشرحه بأن قال: هو أن يكون اللفظ القليل مشتملاً على المعنى الكثير بإيماء أو لمحة تدل عليه، كما قال بعضهم في صفة البلاغة: هي لمحة دالة، وشرح هذا الحد أنها إشارة المتكلم إلى معاني كثيرة بلفظ يشبه..لقلته واختصاره بإشارة اليد، فإن المشير بيده يشير دفعة واحدة إلى أشياء لو عبر عنها بلفظ لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة جداً، ولا بد في الإشارة من اعتبار صحة الدلالة وحسن البيان مع الاختصار، لأن المشير بيده إن لم يفهم المشار إليه معناه بأسهل ما يكون، فإشارته معدودة من العبث، ولهذا قال هند ابن أبي هالة في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يشير بكفه كلها وإذا تعجب قلبها، وإذا حدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى " فوصفه ببلاغة اليد كما وصفه ببلاغة اللسان، يعني أنه يشير بيده في الموضع الذي تكون فيه الإشارة أولى من العبارة، وهذا حذق بمواضع المخاطبات. وقوله: " كلها " أي يفهم بها المخاطب كل ما أراده بسهولة فإن الإشارة ببعض الكف تصعب، وبكل الكف تسهل، فأعلمنا هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الوصاف أنه صلى الله عليه وسلم كان سهل الإشارة، كما كان سهل العبارة. وهذا ضرب من البلاغة الذي يمتدح بمثله، وهو أيضاً من بلاغة الواصف إذ أشار بقوله: كلها إلى كل المقصود الذي تدل عليه الإشارة، ومن حذق الواصف إتيانه بلفظ الإشارة في الوصف، لما أراد أن يصف الإشارة البديعية وقسمها قسمين: قسماً للسان وقسماً لليد، وقوله: " وإذا تعجب قلبها "، يعني أنه يشير بها على وجهها إذا كان المعنى الذي يشير إليه على وجهه ليس فيه ما يستغرب فيعجب منه، فإن الشيء المعجب إنما يكون معجباً لكونه غير معهود، فكأن الأمر فيه قد قلب لمخالفته المعهود، فلذلك يجعل صلى الله عليه وسلم قلب يده في وقت الإشارة إشارة إلى أن هذا الأمر قد جاء على خلاف المعهود، ولذلك تعجب منه. وقوله " وإذا حدث اتصل بها " يعني اتصل حديثه بها فيكون المعنى متصلاً، والمفهوم بالعبارة والإشارة متلاحماً، آخذة أعناق بعضه بأعناق بعض، وقوله: " فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى " يعني أنه عند انتهاء إشارته يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى مشيراً إلى أنه ختم الإشارة، لأن الإبهام بها يختم القبض، ولذلك عطف هذه الجملة بالفاء، ولم يأت بها معطوفة بالواو، كما أتى بما قبلها من الجمل لكونها آخر إشاراته، والواو لكونها غير مقتضية للترتيب، يجوز أن يكون المتأخر بها متقدماً ولا كذلك الفاء، إذ لا بد أن يكون المعطوف بها متأخراً لكونها موضوعة للتعقيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وأما اقتصاره على باطن الإبهام دون ظاهرها فمعناه أنه جعل آخر الإشارة متصلاً بأول العبارة اتصالاً متلائماً كملاءمة باطن الكف التي ضرب بها باطن الإبهام التي ضرب عليها، وهذه أيضاً من بلاغة الواصف رضي الله عنه ومن شواهد الإشارة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وغيض الماء " فإنه سبحانه أشار بهاتين اللفظتين إلى انقطاع مادة الماء من مطر السماء ونبع الأرض، وذهاب الماء الذي كان حاصلاً على وجه الأرض قبل الإخبار إذ لو لم يكن ذلك لما غاض الماء. وكقوله سبحانه: " فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين " فالمح كل ما تميل النفوس إليه من الشهوات وتلتذه الأعين من المرئيات، لتعلم أن هذا اللفظ القليل جداً عبر عن معان كثيرة لا تنحصر عداً. وكذلك قوله تعالى: " فانبذ إليهم على سواء " بمعنى قابلهم بما يفعلونه معك، وعاملهم بمثل معاملتهم لك سواء مع ما تدل عليه لفظة سواء من الأمر بالعدل، ومثل هذا المعنى قول زهير وافر: فإني لو لقيتك واتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء يعني: قابلت كل منكرة منك بكفئها. وإذا علمت ذلك فانظر ما بين هذا البيت وبين قوله تعالى: " فانبذ إليهم على سواء " لتعلم فرق ما بين الكلامين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ومن أمثلة هذا الباب قول امرئ القيس وافر: بعزهم عززت وإن يذلوا ... فذلهم أنالك ما أنالا فانظر كم تحت قوله: أنا لك ما أنا لا من أنواع الذل، وكذلك قوله للمسيب كامل: ولأشكرن غريب نعمته ... حتى أموت وفضله الفضل أنت الشجاع إذا هم نزلوا ... عند المضيق وفعلك الفعل فالحظ كم تحت قوله وفضله الفضل بعد إخباره بأنه يشكر غريب نعمته حتى يموت من أصناف المدح، وترجيح فضله على الشكر، وفي قوله غريب نعمته غاية المدح، إذ جعل نعمته نعمة لم يقع مثلها في الوجود قط، وكذلك قوله: وفعلك الفعل بعد إخباره بنزول القوم عند المضيق الدال على صبرهم وشجاعتهم، وما في ذلك من ترجيح شجاعة الممدوح عليهم. وكذلك قوله في صفة الفرس طويل: على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جرى غير كز ولا وان فإنه أشار بقوله أفانين جرى إلى جميع صنوف عدو الخيل المحمودة والذي يدل على أنه أراد الأفانين المحمودة، نفيه عن الفرس الكزوزة والونى، فسلبه صفات القبح من الجماح والحرن والاسترخاء والفتور، وجعله يعطي هذا الجري عفواً من غير طلب ولا حث، وهذا كمال الوصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وتمام النعت، ولو عدت هذه المعاني بألفاظها الموضوعة لها لاحتيج في العبارة عنها إلى ألفاظ كثيرة. ومن الإشارة نوع يقال له اللحن والوحي، وهو يجمع العبارة والإشارة ببعد لا يفهم طريقه إلا ذو فهم، كما قال الشاعر كامل: ولقد وحيت لكم لكيما تفطنوا ... ولحنت لحناً ليس بالمرتاب ومثال ذلك ما حكى عن رجل من بلعنبر، أسر في بكر بن وائل فسألهم أن يرسل إلى قومه؛ فقالوا: ترسل بحضرتنا، وخافا أن ينذرهم، فإنهم عزموا على غزو قومه، فحضروا وأحضروه عبداً، فقال له: أتعقل؟ قال: إني لعاقل، فأشار إلى الليل، وقال: ما هذا؟ فقال: الليل؛ فقال: أراك عاقلاً، فملأ كفه من الرمل وقال: كم عدد هذا؟ فقال: لا أدري وإنه لكثير، فقال: أيها أكثر: النجوم، أم النيران؟ فقال: إن كلا لكثرة، فقال: إيت قومي، وأقرئهم السلام وقل لهم: أكرموا فلاناً فإن قومه لي مكرمون، يعني أسيراً كان عند قومه من بكر بن وائل، ثم قل لهم: إن العرفج قد أوفى وقد اشتكت النساء، ومرهم أن يعروا ناقتي الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، ويركبوا جملي الأصهب، وبآية ما أكلت معكم حيساً وسلوا عن خبري أخي الحارث، فلما قال لهم العبد ذلك قالوا: لقد جن الأعور والله ما له ناقة ولا جمل، فلما سألوا أخاه سأل العبد عما قال له أولاً فأخبره، فشرحه، وقال لهم: قد أنذركم، أما الليل فإنه أشار إلى أنكم في عمياء مظلمة، وأما الرمل فإنه أشار إلى أنكم تغزون بمثل عدده، وأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 النجوم والنيران، فأشار بذلك إلى كثرة عدد عدوكم، وأما قوله: أوفى العرفج فإنه أشار إلى أن العدو قد استلأموا وركبوا، وأما قوله: اشتكت النساء، أي اتخذوا القرب للغزو، وأما الناقة الحمراء فعني الدهناء، وقوله أطلتم ركوبها، إشارة إلى أنكم قد عرفتم بإيطانها لطول مقامكم بها فأمركم أن ترحلوا عنها، وتنزلوا الصمان، وهو الجمل الأصهب الذي أمر كم بركوبه، ففعلوا فسلموا، وأما الحيس، فإشارة إلى أن عدوكم قد جمع لكم أخلاطاً كما جمع الحيس السمن والتمر والأقط والله أعلم. ومن أمثلة الوحي والإشارة بضرب من الاستعارة قول يزيد بن الوليد لمروان بن محمد، وقد بلغه عنه تلكؤه عن بيعته: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا قرأت كتابي هذا فاقعد على أيهما شئت. ومن ذلك قول الحجاج للمهلب: إن فعلت وإلا أشرعت لك صدر الرمح، فقال المهلب متى أشرع الأمير إلى صدر الرمح قلبت له ظهر المجن. ومن شواهده الشعرية قول امرئ القيس طويل: وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل وقوله عمرو بن معد يكرب طويل: فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وكقول شاعر الحماسة طويل: بني عمنا لا تنبشوا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا وكقول الآخر طويل: أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا وكل هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنشده العباس بن مرداس متقارب: أتجعل نهبي ونهب العبيد فقال: يا علي، اقطع لسانه عني، فأخذ علي بيده فأخرجه، فقال أقاطع لساني يا أبا الحسن؟ فقال: إني لممض فيك ما أمر، وكل هذا من قوله تعالى: " فما أصبرهم على النار " ويدخل في هذا قوله عز وجل: " وثيابك فطهر " أي بدنك، قال الأصمعي: في تفسير هذا الحرف: تقول العرب فدى لك ثوبي، يريدون نفسه، وأنشد وافر: ألا أبلغ أبا حفص رسولاً ... فدى لك من أخي ثقة إزارى وقال عنترة كامل: فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 باب الأرداف والتتبيع هذا الباب مما فرعه قدامة أيضاً من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وسماه هذه التسمية، وشرح تسميته بأن قال: هو أن يريه المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له، ويعبر عنه بلفظ هو ردفه وتابعه أي قريب من لفظه قرب الرديف من الردف، مثل قوله تعالى: " واستوت على الجودي " فإن حقيقة ذلك وجلست على هذا المكان، فعدل عن لفظ المعنى الخاص به إلى لفظ هو ردفه، وإنما عدل عن لفظ الحقيقة لما في الاستواء الذي هو لفظ الإرداف من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل، وهذا لا يحصل من قولك جلست أو قعدت أو غير ذلك من ألفاظ الحقيقة، إذ كان المراد والله أعلم الإخبار ينفي الأسباب الموجبة خوف أهل السفينة من السفينة في حالتي حركتها وسكونها، وذلك لا يحصل حتى يفهم السامع أنها جلست جلوساً متمكناً لا يمل فيه يوجب الخوف، ولا يحصل إلا بلفظ الاستواء دون غيره، وقد جاء في السنة من أمثلة هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن بعض النسوة في حديث أم زرع حيث قالت: " زوجي رفيع العماد، عظيم الرماد، قريب البيت من المناد " فإنها أرادت مدح زوجها بتمام الخلق والتقدم على قومه ونهاية الكرم، ولو عبرت عن هذه المعاني بألفاظها لاحتاجت بإزاء كل معنى لفظاً يخصه، فتكثر الألفاظ، ولا يدل كل لفظ إلا على معناه فقط، وألفاظ الإرداف كل لفظ منها يدل على جميع ما أرادت من صفات المدح على انفراد، لا، قولها رفيع العماد يدل على تمام الخلق إذ بناء البيوت على مقادير أجسام الداخلين لها غالباً، ويدل على عظم قدر صاحبه، إذ لا يقدر على أن يرفع بيته على البيوت إلا من قدره مرتفع على الأقد، ارويدل على الكرم أيضاً، لأن الوفود والضيفان يعمدون إلى قصد البيوت المرتفعة دون بيوت الصرم وكذلك عظم الرماد يدل على عظم القدر وعظم الكرم وكثرة الثروة، ومثله قولها " قريب البيت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الناد " ليسبق إلى الضيف، لأن الضيف يقصد النادي، وهو موضع مجمع رجال الحي للحديث، فإذا كان البيت قريباً منه كان صاحبه إلى الضيف أسبق، ولا تحصل هذه المعاني إلا من لفظ الإرداف، فإن قيل: فإذا كانت كل لفظة من ألفاظ الإرداف تدل على عدة معان فما الفرق بين الإرداف والإشارة؟ قلت: لفظ الإرداف يتضمن مع الدلالة على المعاني الكثيرة زيادة مدح للمدوح، ووصف للموصوف، ولفظ الإشارة لا يتضمن إلا الدلالة على كثرة المعاني فقط. ومن شواهد هذا الباب الشعرية قول امرئ القيس طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ويضحي فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل فإنه أراد أن يصف هذه المرأة بأنها مخدومة، لها من يكفيها أمر بيتها، فعبر عن ذلك بلفظ يدل على أنها موصوفة بالنعمة ودقة البشرة واقتبال الشباب وكثرة الحظوة وعظم الثروة، فعدل عن لفظ هذا المعنى الذي أراده إلى لفظ هو ردفه حيث قال: طويل ويضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى ............ لأنها لا تنام الضحى إلا وهي مخدومة عندها من يكفيها أمر بيتها، فهي لا تباشر الأعمال، ولذلك تكون منعمة مرفهة غير شظفة ولا ممتهنة، ألا تراه أكد ذلك بقوله: " لم تنتطق عن تفضل " أي لم تشد في وسطها نطاقاً على ثوبها الذي تنام فيه كفعل من يريد أن يعمل عملاً من النساء، ودل قوله: ويضحي فتيت المسك فوق فراشها على أنها حظية عند الرجال المثرين، وأنهم في غاية الميل إليها مع القدرة بالثروة على الاستكثار من حرائر النساء ومن الإماء، إما لإفراط جمالها، أو لسعد جدها، وأنها ممن يسمح لها من أعلى الطيب وأغلاه بما يبقى فتيته في صبيحة كل ليلة على فراشها، بعد ما يتصعد منه ويلصق بجسمها. ويعلق بشعرها وبشرتها؛ ولا يعطي قوله: إن هذه المرأة لها من يخدمها جميع ما يعطيه قوله: " نؤوم الضحى " فإن هذا اللفظ مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 دلالته على أنها مخدومة يدل على كثرة النوم الذي لا يكون إلا من غلبة الدم الطبيعي في سن النمو، وطبيعة الدم حارة رطبة، وهي طبع الحياة ومادتها. فيكون اللون به مشرقاً، والماء في الوجه كثيراً، والأخلاق حسنة، لأجل اعتدال المزاج، ولو ترك لفظ الإرداف وعبر عما قصده باللفظ الخاص وهو قوله: إنها مخدومة لم تحصل هذه المعاني التي حصلت من لفظ الإرداف، وكذلك لو قال: إنها من أهل الثروة لم يوف بما أراد من كونها معشقة للمثرين من الرجال، مع القدرة بالثروة على الاستكثار من النساء، وأنها ممن يسمح لها بذلك، فوجب العدول عن لفظ المعنى إلى لفظ الإرداف، لدلالته مع اختصاره على المعاني التي لا يدل عليها لفظ الحقيقة، ولما يتضمن من زيادة الوصف، وقد انتحل ابن رشيق أحد أسمى هذا الباب وهو التتبيع وأفرده بابا من الإرداف، وزعم أن غيره واستشهد عليه بشواهد فيها ما لا يمس به ألبتة، وبقيتها لا يعقل الفرق بينه وبين شواهد الإرداف، وهو يظن أنه قد فرق بينهما منها قول المتنبي طويل: إلى كم ترد الرسل عما أتوا له ... كأنهم فيما وهبت ملام وقال: أعني ابن رشيق دل هذا البيت على الشجاعة بلفظ الإرداف، ودل على الكرم بلفظ التتبيع يعني أن الإرداف اشتقاقه من الردف فلفظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أقرب إلى لفظ المعنى؛ والتتبيع: من التتابع، والتابع يكون قريباً ويكون بعيداً. ويعد ذلك على قدامة من أغاليطه وهو أولى بالغلظ منه، لأن التتبيع وإن كان في نفس الأمر كما ظنه لكنه في هذا الموضع أراد به التابع القريب بدليل أنه ذكره بلفظ التفعيل الدال على النكتتين، ولو لم يقصد ذلك لقال: الإتباع دون البعيد فإن الألفاظ إذا كانت من أجل الوضع تدل على معنيين بحيث لا يتخلص إلى أحدهما دون الآخر إلا بقرينة، كانت حال اقترانها بالقرائن مخلصة للمعنى الذي تدل عليه القرينة. وقدامة أتى بلفظ التتبيع مقترناً بالإرداف، فعلم أنه أراد التابع القريب والرديف تابع قريب، فلا فرق بينهما في هذا الموضع. وأما بيت المتنبي الذي أتى به ابن رشيق ليكون دليلاً له فهو دليل عليه، لأنه عكس ما فسره به، وذلك أن اللفظ الدال فيه على الكرم هو الذي يجب أن يسمى إردافاً لأنه أقرب إلى لفظ الكرم، لكونه صرح فيه بلفظ الهبة، واللفظ الدال على الشجاعة بعيد من لفظ الشجاعة بالنسبة إلى لفظ الكرم، وقدامة رأى الفصحاء قد دلوا تارة على مقاصدهم بألفاظ قريبة من الألفاظ الموضوعة لتلك المقاصد، وطوراً بألفاظ بعيدة من الألفاظ الموضوعة لتلك المقاصد فسمي الأول إردافاً، والثاني تمثيلاً، لأن المثل وإن وجد قريباً من المثل وبعيداً فلا يبلغ قرب التابع القريب ولا الرديف، وسيأتي بيان ذلك في الباب الذي يلي هذا الباب، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وأخذ ابن الأثير يؤيد ما ذكره ابن رشيق بأن قال: وفي الألفاظ ما يدل على المعنى بظاهره، وفيها ما يدل على المعنى بتأويله، والأول هو الإرداف، والثاني هو التتبيع، ومثال الأول قول عمر بن أبي ربيعة طويل: بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم وقال: بعد مهوى القرط يفهم منه طول العنق بغير تأويل، بخلاف قول المتنبي: إلى كم ترد الرسل عما أتوا له فإن صدر هذا البيت لا يدل على الشجاعة بظاهره، وإنما يدل عليها بالتأويل. ولو رأى ضياء الدين رحمه الله كتابه الذي سماه تزييف النقد، يرد به على قدامة رأى كتاباً يحلف الحالف صادقاً أنه ما تكلم فيه بحرف واحد إلا وهو مطبق الجفون ليس له وقت إفاقة ألبتة. وأما كلامه في هذا الفصل فما هو عندي بالبعيد من كلامه في هذا الكتاب الذي أشرت إليه. وأما قول ضياء الدين رحمه الله تعالى: إن مهوى القرط يدل على طول العنق بغير تأويل، فكل مميز من بنى آدم يعلم أن قولنا: طويلة العنق يفارق قولنا: بعيدة مهوى القرط من جهة أن الأول علامة لطول العنق، متى سمع فهم منه هذا المعنى، بخلاف قوله: بعيدة مهوى القرط، فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 لا يفهم منه معنى طول العنق إلا بالتأويل، وهو أن قرطها إنما كان بعيد موضع الهبوط لطول عنقها، فدلالة الأول دلالة مطابقة، ودلالة الثاني دلالة التزام، وكذلك قول المتنبي: إلى كم ترد الرسل فإنه أيضاً يدل على الشجاعة بالتأويل، فقد استويا في الدلالة على المعنى بالتأويل، إذ لا يصلح واحد منهما أن يدل على المعنى بظاهره، فلا فرق بينهما من هذا الوجه، وإنما الفرق بينهما من جهة القرب والبعد، فإن لفظ بعد مهوى القرط أقرب إلى لفظ طول العنق من لفظ رد الرسل إلى لفظ الشجاعة، فلا جرم أن الأول يسمى إردافاً، والثاني يسمى تمثيلاً، لقرب الإرداف من لفظ المعنى، وبعد التمثيل من لفظه، وليس العجب من كون هذا الموضع أشكل على ابن رشيق، فإنه قد أشكل عليه ما هو أوضح منه، وإنما العجب كيف يمشي على ضياء الدين رحمه الله مع رجاحة عقله، وثقوب ذهنه، وسلامة حسه والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 باب التمثيل ذا الباب أيضاً مما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى، وقال: هو أن يريد المتكلم معنى فلا يدل عليه بلفظه الموضوع له ولا بلفظ قريب من لفظه، وإنما يأتي بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف قليلاً، يصلح أن يكون مثالاً للفظ المعنى المراد، مثل قوله تعالى: " وقضي الأمر " وحقيقة هذا: أي هلك من قضى هلاكه، ونجا من قدرت نجاته، وإنما عدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ التمثيل لأمرين: أحدهما اختصار أمر اللفظ، والثاني كون الهلاك والنجاة كانا بأمر مطاع، إذ الأمر يستدعي آمراً، وقضاؤه يدل على قدرة الآمر، وطاعة المأمور، ولا يحصل ذلك من اللفظ الخاص. ومن شواهده في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم حكاية عن بعض النسوة في حديث أم زرع: " زوجي ليل تهامة، لا حر ولا برد، ولا وخامة ولا سآمة " فعدلت عن لفظ المعنى الموضوع له إلى لفظ التمثيل، لما فيه من الزيادة، وذلك تمثيلها الممدوح باعتدال المزاج المستلزم حسن الخلق، وكمال العقل اللذين ينتجان لين الجانب وطيب المعاشرة، وخصت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الليل بالذكر لما في الليل من راحة الحيوان، وخصوصاً الإنسان، لأنه يستريح فيه من الكد والفكر، ولكون الليل جعل سكناً، والسكن الحبيب، لا سيما وقد جعلته ليلاً معتدلتاً بين الحر والبرد، والطول والقصر، وهذا صفة ليل تهامة، لأن الليل يبرد فيه الجو بالنسبة إلى النهار مطلقاً، لغيبة الشمس، وخلوص الهواء من اكتساب الحر فيكون في البلاد الباردة شديدة البرد، وفي البلاد الحارة معتدل البرد مستطابه، فقالت: زوجي مثل ليل تهامة، وحذفت أداة التشبيه، ليقرب المشبه من المشبه به، وهذا مما يبين لك لفظ التمثيل في كونه لا يجيء إلا مقدراً بمثل غالباً، ولا كذلك لفظ الإرداف، وإلا فانظر إلى قول صاحبتها في الإرداف: زوجي رفيع العماد فتجدها قد وصفته بصيغة المبتدأ والخبر، لكون الخبر غير المبتدأ لأمثله، إّ لا يجوز هاهنا تقدير مثل في الكلام لتعلم أن لفظ الإرداف أقرب إلى لفظ المعنى من التمثيل. ومن شواهد التمثيل الشعرية قول الرماح بن ميادة طويل: ألم أك في يمنى يديك جعلتني ... فلا تجعلني بعدها في شمالكا فإن هذا الشاعر أراد أن يقول: ألم أكن قريباً منك، فلا تجعلني بعيداً عنك، فعدل عن هذا اللفظ الخاص إلى لفظ التمثيل، لما فيه من الزيادة في المعنى، لما تعطيه لفظتا اليمين والشمال من الأوصاف التي لا تحصل إلا بذكرهما، وذلك لأن اليمين أشد قوة من الشمال غالباً وهي أقرب إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ربها من الشمال لأنها بها يأخذ، وبها يعطي، وبها يبطش، وهي مكرمة عنده، قد أهلت لطعامه وشرابه واستغفاره وأذكاره، والشمال مؤهلة لاستنجائه، واستنثاره، والمهنة الدنية، واسم اليمين مشتق من اليمن، وهو البركة، واسم الشمال مشتق من الشؤم، وهو ضد البركة، ولهذا حض الشارع صلى الله عليه وسلم على التيامن، فقال لأنس لما أراد سقي أبكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو على شمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى يمينه أعرابي: اسق الأعرابي الأيمن فالأيمن. وقالت عائشة رضي الله عنها، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن حتى في وضوئه وانتقاله، وقال عمرو بن كلثوم وافر: صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وقال الله تعالى: " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود " وقال بعد ذلك: " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم " فكأن هذا الشاعر قال لممدوحه: ألم أكن مكرماً عندك فلا تجعلني مهاناً وكنت منك في المكان الشريف، فلا تتركني في المنزل الوضيع، وما سمعت في هذا الباب كقول شاعر الحماسة كامل: وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبهن حاسدة وهجن غيورا لأنه أراد أن يقول: أبدين خمص بطنها ودقة خصرها ورجاجة ردفها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 التمثيل، وهو يقابل الرياح التي تفعل هذا عند تقابلها، وحصل في البيت مع التمثيل تنكيت عجيب في قوله مع: العشي لأنه إنما خص العشي لأنه الوقت الذي تتخلى فيه النساء من شغلهن، ويبرزن للعبهن، وتنتدي الرجال للحديث، ليتم له ما قصد من اجتماع الحاسدة والغيور اللذين يريان هذه المرأة عند بروزها، وقد قيل: إن أكثر ما تتقابل الرياح في وقت العشي. ويلتحق بهذا الباب ما يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر كقوله تعالى: " ليس لها من دون الله كاشفة " وقوله سبحانه: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب " وقوله عز وجل: " صنع الله " وقوله: " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة " وقوله تبارك وتعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها " إلى كثير من الآي. ومما جاء من ذلك في السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " الحلال بين والحرام بين " وقوله عليه السلام: " لا ضرر ولا ضرار " وقوله عليه الصلاة والسلام: " خير الأمور أوساطها " وكقوله عليه السلام: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " وقد طوى كتاب أبي أحمد العسكري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 رحمه الله تعالى من هذا الباب على بدائع من جوامع الكلم لا يشق غبارها، ولا يقتحم تيارها، فمن أراد ذلك فعليه به. ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول زهير طويل: وهل ينبت الخطى إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل وكقول النابغة طويل: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب وكقول بشار طويل: فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه وكقول الآخر طويل: فما الكرج الدنيا ولا الناس قاسم وكقول الآخر مجزوء الخفيف: ما على الناس بعدها ... في الدنيات من حرج وكقول أبي تمام بسيط والنار قد تنتضي من ناضر السلم وكقوله وافر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 لسان المرء من خدم الفؤاد وكقوله وافر: فلو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع وكقوله كامل: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول وقد استخرجت أمثال أبي تمام من شعره فوجدتها تسعين نصفاً وثلاثمائة بيت وأربعة وخمسين بيتاً بعد استيعاب أمثال المتنبي فوجدتها مائة نصف وثلاثة وسبعين نصفاً وأربعمائة بيت؛ وأنا على عزم أن أخرج من أمثال أبي الطيب ما أخذ من أمثال أبي تمام فأجمعها، وأقدم قبلهما جميع ما وقع من الأمثال في الكتاب العزيز والسنة النبوية وقد أمضيت والحمد لله هذا العزم، وفرغت من كتاب الأمثال بزيادات على ذلك، وهي أمثال الأشعار الستة؛ والحماسة، بعد أن تلوت أمثال القرآن بأمثال دواوين الإسلام الستة، وختمت الجميع بأمثال العامة، لتكون إحماضاً يتروح إليه بعد الجد، وقد اقترح على زيادات فيه لم أكملها إلى الآن. ومن أمثلة هذا الباب للمتنبي قوله بسيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 أنا الغريق فما خوفي من البلل وقوله بسيط ليس التكحل في العينين كالكحل ولقد أحسن المعري حيث قال: بسيط لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 باب ائتلاف اللفظ مع الوزن قال قدامة: هو أن تكون الأسماء والأفعال تامة، لم يضطر الشاعر الوزن إلى نقصها عن البقية، ولا إلى الزيادة فيها، ولا يقدم منها المؤخر، ولا يؤخر منها المقدم، ولا يدخل فيها ما يلتبس به المعنى، ولم يأت قدامة بأمثلة في هذا الباب، ولم يذكر غير ذلك بل قال أعني قدامة: كل شعر سليم من هذا الذي قدمت ذكره هو مثال لهذا الباب، لكنه أتى في عيوب الوزن بأمثلة يجب ذكرها هاهنا ليعلم أن كل بيت جاء بضدها هو شاهد لهذا الباب، كقول القائل يصف درعاً كامل: من نسج داود أبي سَلاَّم فإنه يريد سليمان، لكن الوزن اضطره إلى حذف الياء والنون من سليمان، وتشديد اللام وتقديم الألف على الميم. ومثل ذلك قول الآخر " رجز ": حتى إذا خرت على الكلكال فإنه اضطره الوزن إلى زيادة الألف على بنية هذا الاسم، ومثال ما اضطر الوزن فيه إلى التقديم والتأخير قول الفرزدق طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وما مثله في الناس إلا مملك ... أخو أمه حي أبوه يقاربه فإن اضطرار الوزن حمله على رداءة السبك، فحصل في الكلام تعقيد يمنع من فهم معناه بسرعة، ولو قال: وما مثله إلا مملك أبوه يقارب خاله لسهل مأخذه، وقرب متناوله، ومهما كان الشعر سليماً من مثل هذا كان هو الشعر الذي ائتلف لفظه مع وزنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 باب ائتلاف المعنى مع الوزن وهو أن تأتي المعاني في الشعر على صحتها، لا يضطر الشاعر الوزن إلى قلبها عن وجهها، ولا خروجها عن صحتها، كقول عروة بن الورد وافر: فإني لو شهدت أبا سعاد ... غداة غد بمهجته يفوق فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوه إلا ما أطيق فإنه أراد أن يقول: فديت نفسه بنفسي ومالي، فألجأته ضرورة الوزن إلى قلب المعنى كما ترى، ومهما كان الشعر سليماً من مثل هذا كان الشعر الذي ائتلف معناه مع وزنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 باب ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت وهو الذي سماه من بعد قدامة التمكين، وهو أن يمهد الناثر لسجعة فقرته، أو الناظم لقافية بيته، تمهيداً تأتي القافية به متمكنة في مكانها، مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها، غير نافرة ولا قلقة، متعلقاً معناها بمعنى البيت كله تعلقاً تاماً، بحيث لو طرحت من البيت اختل معناه واضطرب مفهومه، ولا يكون تمكنها بحيث يقدم لفظها بعينه في أول صدر البيت، أو معنى يدل عليها في أول الصدر، أو في أثناء الصدر، ولا أن يفيد معنى زائداً بعد تمام معنى البيت، فإن الأول يسمى تصديراً والثاني توشيحاً، والثالث إيغالاً، ولا يقال لشيء من ذلك تمكين ألبتة، وقد جاء من ذلك في فواصل الكتاب العزيز كل عجيبة باهرة، ومنه قوله تعالى: " قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد " فإن هذه الآية الكريمة لما تقدم فيها ذكر العبادة والتصرف في الأموال كان ذلك تمهيداً تاماً لذكر الحلم والرشد، لأن الحلم: العقل الذي يصح به التكليف، والرشد حسن التصرف في الأموال، وكقوله تعالى: " سبحان الذي خلق الأزواج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " وكقوله سبحانه: " قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون، وما علينا إلا البلاغ المبين " وكقوله تعالى: " قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون " وكل فواصل الكتاب العزيز بين تمكين، وتوشيح، وإيغال وتصدير. ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول أبي تمام وافر: ومن يأذن إلى الواشين تسلق ... مسامعه بألسنة حداد وقوله أيضاً في غزل هذه القصيدة: مذاكي حلبة وشروب دجن ... وسامر قينة وقدور صاد وأعين ربرب كحلت بسحر ... وأجساد تضمخ بالجساد وقوله طويل: محاسن ما زالت مساو من النوى ... تغطى عليها أو مساو من الصد وقوله أيضاً طويل: أموسى بن إبراهيم دعوة خامس ... به ظمأ التثريب لا ظمأ الورد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أتاني مع الركبان ظن ظننته ... لففت له رأسي حياء من المجد أأتبع هجر القول من لو هجوته ... إذاً لهجاني عنه معروفه عندي نسيت إذاً كم من يد لك شاكلت ... يد القرب أعدت مستهاماً على البعد ومن زمن ألبستنيه كأنه ... إذا ذكرت أيامه زمن الورد وأنك أحكمت الذي بين فكرتي ... وبين القوافي من ذمام ومن عقد وأصلت شعري فاعتلى رونق الضحى ... ولولاك لم يظهر زماناً من الغمد وكقول البحتري طويل: فلم أر ضرغامين أصدق منهما ... عراكاً إذا الهيابة النكس أكذبا حملت عليه السيف لا عزمك انثنى ... ولا يدك ارتدت ولا حده نبا وكنت متى تجمع يمينك تهتك الضريبة أولا تبق للسيف مضربا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ألنت لي الأيام من بعد قسوة ... وعاتبت لي دهري المسيء فأعتبا وألبستني النعمى التي غيرت أخي ... علي فأمسى نازح الود أجنبا فلا فزت من مر الليالي براحة ... إذا أنا لم أصبح بشكرك متعبا وكقول المتنبي بسيط يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم ومنها: وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم لئن تركن ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن فارقتهم ندم إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... ألا تفارقهم فالراحلون هم ولم نسمع لمقدم شعراً أشد تمكين قواف من قول النابغة الذبياني كامل: كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندى زعم الهمام ولم أذقه بأنه ... يروي بريقته من العطش الصدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 باب التوشيح سمى هذا الباب توشيحاً لكون معنى أول الكلام يدل على لفظ آخره، فيتنزل المعنى منزلة الوشاح، ويتنزل أول الكلام وأخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح، وهذا الباب مما فرغه قدامة أيضاً، من ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت، وقال: هو أن يكون في أول البيت معنى إذا علم علمت منه قافية البيت، بشرط أن يكون المعنى المتقدم بلفظه من جنس معنى القافية بلفظه، أو من لوازم لفظه. ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين "، فإن معنى اصطفاء المذكورين تعلم منه الفاصلة، إذ المذكورون نوع من جنس العالمين، وكقوله تعالى: " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون "، فإنه من كان حافظاً لهذه السورة، متفطناً إلى أن مقاطع فواصلها النون المردفة، وسمع في صدر هذه الآية " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار " علم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الفاصلة " مظلمون "، فإن من انسلخ النهار عن ليله أظلم ما دامت تلك الحال. وكقول الراعي النميري وافر: فإن وزن الحصى فوزنت قومي ... وجدت حصة ضريبتهم رزينا فإن السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصى، وتحقق أن القافية مجردة مطلقة، رويها النون وحرف إطلاقها ألف، ورأى في صدر البيت ذكر الزنة، تحقق أن القافية تكون رزيناً ليس إلا. ومن عجائب أمثلة هذا الباب، ما حكي عن عمر بن أبي ربيعة المخزومي أنه أنشد عبد الله بن العباس رضي الله عنهما متقارب: تشط غدا دار جيراننا فقال له عبد الله: وللدار بعد غد أبعد فقال عمر: هكذا والله قلت، فقال له ابن العباس: وهكذا يكون ويقرب من هذه القصة قصة عدي بن الرقاع العاملي حين أنشد الوليد ابن عبد الملك بحضرة جرير والفرزدق كلمته التي مطلعها كامل: عرف الديار توهماً فاعتادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 حتى انتهى إلى قوله: تزجي أغن كأن إبرة روقه ثم شغل الوليد عن الاستماع، فقطع عدي الإنشاد، فقال الفرزدق لجرير: ما تراه يقول؟ فقال جرير: أراه يستلب منها مثلاً، فقال الفرزدق، يالكع، إنه سيقول كامل: قلم أصاب من الدواة مدادها فلما عاد الوليد إلى الاستماع وعاد عدي إلى الإنشاد قال: قلم أصاب من الدواة مدادها قال جرير للفرزدق: أكان قلبك مخبوءاً في صدره؟ فقال الفرزدق: شغلني سبك عن جيد الكلام، فقال الفرزدق: والله لما سمعت صدر بيته رحمته، فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسداً وعندي أن بين ابن العباس رضي الله عنه وبين الفرزدق في استخراجه العجزين كما بينهما في مطلق الفضل في كل فن، لأن بيت عدي من جملة قصيدة تقدم سماع معظما، قد علم أنها دالية مردفة بألف موصولة مخرجة قصيدة تقدم سماع معظمها، قد علم أنها دالية مردفة بألف موصولة مخرجة قصدية تقدم سماع معظمها، قد علم أنها دالية مردفة بألف موصولة مخرجة بألف من وزن معروف، ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفاً لها، قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه، مع العلم بسواده ما دل على عجز البيت، بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء، وبيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي من القوافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ولا رويه من أي الحروف، ولا حركة رويه من أي الحركات، فاستخراج عجزه ارتجالاً في غاية العسر ونهاية الصعوبة، لولا ما أمد الله تعالى به هؤلاء القوم من المواد التي فضلوا بها غيرهم، ومن حذق عبد الله بن العباس رضي الله عنهما ودقيق معرفته باختيار الكلام، جعله قافية للعجز الذي أتى بعد " أبعد " ولم يجعلها " أنزح " وكان ذلك ممكناً له، لكون " أبعد " أسرع ولوجاً في السمع، وأسبق إلى الذهن، وأدخل في القلب، وأكثر استعمالاً وأعرف عند الكافة، وبها جاء القرآن العزيز دون " أنزح " وهي أخف على اللسان، وأولى بالبيان، وربما اختلط التوشيح بالتصدير لكون كل منهما يدل صدره على عجزه. والفرق بينهما أن دلالة التصدير لفظية، ودلالة التوشيح معنوية. والفرق بين التوشيح والتمكين أن التوشيح لا بد أن تتقدم القافية معنى يدل عليها، ولا كذلك التمكين، ولا تكون كلمة التوشيح إلا في أول الصدر، وإن لم تكن كذلك فلا توشيح والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 باب الإيغال مسمى هذا النوع إيغالاً، لأن المتكلم أو الشاعر أوغل في الفكر حتى استخرج سجعة أو قافية تفيد معنى زائداً على معنى الكلام. وأصله من الإيغال في السير وهو السرعة، فإن الإيغال في السير يدخل السائر في المكان الذي يقصده بسرعة، يقال: أوغل في الأرض الفلانية أي بلغ منتهاها، أو ما قاربه فكأن المتكلم قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه، وبلغ إلى زيادته عن الحد، كما أن من دخل العريش مثلاً من أرض مصر فقد دخل مصر، فإذا أوغل في مصر فوصل إلى الصعيد يقال: قد أوغل في مصر لتجاوزه الحد بالزيادة عليه، فكذلك المتكلم إذا تم معناه ثم تعداه عند الإتيان بسجعة أو قافية بزيادة عليه، فقد أوغل في ذلك المعنى، ولا يكون موغلاً حتى ينتهي معناه إلى آخر البيت وهذا الباب مما فرعه قدامة أيضاً من إتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت، وفسره بأن قال: هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بقافيته، فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 أفاد بها معنى زائداً على معنى البيت نحو قول ذي الرمة طويل: قف العيس في آثار مية واسأل ... رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل فتم كلامه قبل القافية، فلما احتاج إليها أفاد بها معنى زائداً. وكذلك صنع في البيت الثاني حيث قال: أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعاً كتبذير الجمان المفصل فإنه تم كلامه بقوله: كتبذير الجمان، واحتاج إلى القافية فأتى بها تفيد معنى زائداً، ولو لم يأت بها لم يحصل. وقد حكى عن الأصمعي أنه سئل عن أشعر الناس فقال: الذي يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيراً، وإلى الكبير فيجعله خسيساً أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإن احتاج إليها أفاد بها معنى، فقيل له: نحو من؟ فقال: نحو الفاتح لأبواب المعاني امرئ القيس حيث قال طويل: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب فإنه انقضى كلامه عند قوله: " الجزع " ثم أفاد بالقافية معنى زائداً، إذ قال: " لم يثقب " لأن عيون البقر غير مثقبة. ونحو زهير حيث يقول طويل: كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنان لم يحطم فإن حب الفنا أحمر الظاهر، أبيض الباطن، فهو لا يشبه الصوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الأحمر إلا ما لم يحطم، وقد يكون الإيغال تتميماً كبيتي امرئ القيس وزهير، ولكن ذلك لا يسمى إلا إيغالاً لانتهاء المعنى إلى آخر البيت، وهذا إيغال الاحتياط، وهو دون إيغال المبالغة من جهة الاصطلاح لكونه لم يفد إلا الاحتياط من الدخل دون الإتيان بمعنى زائد على معنى الكلام، والإيغال الذي ليس بتتميم في بيتي ذي الرمة هو إيغال المبالغة. وأعظم ما وقع في هذا الباب قول الخنساء بسيط وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وعندي أن هذا البيت لو أفرد بالتمثيل في هذا الباب لأغنى عما ساقه قدامة في باب ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت من بابي التوشيح والإيغال، لأن صدره يدل على عجزه دلالة التوشيح، ومعنى جملة البيت كامل دون قافيته وفيه بوجودها زيادة لم تكن له قبلها، فإن هذه المرأة لم ترض لأخيها بأن تأتم به علية الناس، حتى جعلته علماً يأتم به أئمة الناس، وهذا تتميم أدمج في صدر لفظ التوشيح، ولم ترض تشبيهه بالعلم، وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية، حتى جعلت في رأسه ناراً. وإذا وصلت إلى بلاغة القرآن العزيز، وصلت إلى الغاية القصوى، وذلك قوله تعالى: " ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين " فإن المعنى قد تم بقوله سبحانه: " ولا تسمع الصم الدعاء " ثم أراد وهو يعلم تمام الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 بالفاصلة فقال: " إذا ولوا مدبرين " فإن قيل: فما معنى مدبرين؟، وقد أغنى عنها قوله: " إذا ولوا " قلت لا يغني عنها قوله: " ولوا " فإن التولي قد يكون بجانب دون جانب، بدليل قوله تعالى: " أعرض ونأى بجانبه " وإن كان ذكر الجانب هنا مجازاً، ولا شك أنه سبحانه لما أخبر عنهم أنهم صم لا يسمعون، أراد تتميم المعنى بذكر توليهم في حال الخطاب، لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة، فإن الأصم يفهم بالإشارة ما يفهمه السميع بالعبارة، ثم علم أن التولي قد يكون بجانب من المتولي، فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتول به، فيحصل له إدراك لبعض الإشارة، فجعل الفاصلة مدبرين ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب، بحيث صار ما كان مستقبلاً مستدبراً، فاحتجب المخاطب عن المخاطب، إذ صار من ورائه، فخفيت عن عينيه الإشارة، كما صم أذناه عن العبارة، فحصلت المبالغة في عدم الإسماع بالكلية وهذا الكلام وإن بولغ فيه بنفي الإسماع بتة، فهو من إيغال الاحتياط الذي أدمجت فيه المبالغة في نفي الإسماع، قد يأتي الاحتياط في غير المقاطع من مجموع جمل متفرقة في ضروب من الكلام شتى يجمعها معنى واحد كقوله تعلى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن " الآية، وقوله سبحانه: " قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات " وقوله: " فأتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 بسورة من مثله " كما يقول الرجل لمن يجحده: ما يستحق علي درهماً ولا دانقاً ولا حبة، ولا كثيراً ولا قليلاً، ولو قال: ما يستحق علي شيئاً، لأغنى في الظاهر عن ذلك، لكن التفصيل والتنزل دل على الاحتياط وعلى شدة الاستبصار في الإنكار. ومن إيغال الكتاب العزيز أيضاً قوله تعالى: " اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون "، فإن المعنى تم بقوله سبحانه: " من لا يسألكم أجراً " ثم أراد الفاصلة لمناسبة رءوس الآى، فأوغل بها كما ترى، حيث أتى بها تفيد معنى زائداً على معنى الكلام، وجاء في الكلام إيغال حسن بعد تتميم ولقد أحسن ابن المعتز في قوله لابن طباطبا العلوي متقارب: فأنتم بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمه المسلم فإنه أعطى بني عمه حقهم من الشرف، واعترف لهم من فضل الأبوين بما اعترف، ثم فطن إلى أنه إن اقتصر على ذلك فضلهم على بنته، فتحيل على المساواة، إذ لا طريق له إلى التفضيل بأن قال: ونحن بنو عمه المسلم فجعل هذا الفضيلة قبالة تلك، وهذا القسم من الإيغال يحسن أن يسمى إيغال التخيير، فإنه تخير من القوافي التي تفيد الإيغال قافية يكون ما تفيده موفياً بمقصوده من غير معارضة، فإنه لو قال: " بنو عمه الأفضل " لكونه مسلماً لعورض بحمزة رضي الله عنه، وهو إيغال الاحتياط، لكونه تتميماً للمعنى؛ وقد ذهب بعض النقاد إلى أنه بهذا الإيغال أراد الاستدلال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 على استحقاق بني العباس الخلافة وسوى بين بيته، وبيت مروان بن أبي حفصة وهو قوله كامل: أنى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام وبين البيتين بون بعيد في الجودة وصحة المعنى، فإن بيت ابن المعتز أٌصر وزناً وأصح معنى، وأعذب ألفاظاً، وأوجز جملاً، وأخف محملاً مع ما وقع فيه من التلطف لبلوغ الغرض من غير مجاهرة بلفظ ولا مواجهة بمضض، فأما صحة معناه بالنسبة إلى بيت مروان فمن جهة أن مروان زعم أن بني الأعمام أحق بالفضل من بني البنات. فأخذ بعموم هذا الاستدلال، وذهل عن أن هذه القضية التي هو آخذ فيها خارجة من هذا العموم، لأن بني علي بنو بنات وبنو أعمام، وما ذكره مروان لا يتناول إلا من لم يكونوا بني أعمام من بني البنات، فأما من لم يمت بالقربة من طرفيه ويدلي بالاستحقاق من جهة أبويه، فخارج عما ذكر، ولا يقال هذا ما يرد على مروان، لأنه صرح بالإرث، ولا الأعمام أحق بالإرث من بني البنات، فإني أقول: إن لم يرد بالإرث الفضل فكلامه محال، إذ لا يصح أن يريد إرث المال ولا إرث الخلافة، أما المال فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، وسيأتي بيان ذلك. وأما الخلافة، فلأن الخلافة لو كانت بالإرث لما وصلت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما قبل العباس رضي الله عنه فإذا أحسن الظن بمروان حمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قوله وراثة الأعمام على وراثة الفضل، وحينئذ يأتي ما ذكرناه، ولم يرد بالأعمام إلا بني الأعمام، وببني البنات إلا بني علي رضي الله عنهم فإنه مدح بالقصيدة الرشيد، وعرض بيحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي، والأول بنو أعمام فقط، والأخر بنو أعمام وبنو بنات، فكانت للأول مزية لم تكن للأخر، قابلها ابن المعتز بأن أباه بنو العم المسلم فكانت هذه بتلك، فحصلت المساواة، فثبت الفضل لبيته على بيت مروان وما يستكثر مثل هذا الجهل من مروان وهو يقول في هذه الأبيات للرشيد كامل: يا بن الذي ورث النبي محمداً ... دون الأقارب من ذوي الأرحام فليت شعري ما الذي ورثه العباس رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ذوي رحمه، وكيف يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يورث؟ وهذا أفضل الصحابة وأفقههم يحتج على فاطمة عليها السلام في أمر فدك والعوالي، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة " فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يورث فلم منعت فاطمة ما ادعت وإن كان لا يورث فلم يدعي هذا الجاهل أن العباس رضي الله عنه ورثه دون ذوي رحمه؟ وأصل الحديث يروون أن أبا بكر رضي الله عنه أعطى علياً عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه دون العباس، ثم لم يقنع مروان بهذا حتى قال: كامل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ما للنساء مع الرجال فريضة ... نزلت بذلك سورة الأنعام فما أدري على ماذا أحسده، أعلى معرفته بالفرائض، أم على حفظه للقرآن؟ وما أعلم من أين في سورة الأنعام ذكر شيء من الفرائض، أو حكم من أحكام المواريث، أو ذكر نسب أو شيء مما يقارب هذا الشأن، وليتني أعرف في أي موضع من القرآن ذكر أن النساء لا فريضة لهن مع الرجال؟ ومن يقع في مثل هذا لا يستعظم منه خطؤه في البيت الذي ذكرناه له أولاً، هذا الفساد من جهة المعنى. وأما ترجيح اللفظ فإن بيت ابن المعتز من محذوف المتقارب، حروفه ستة وثلاثون حرفاً، وبيت مروان من مقطوع الكامل، حروفه اثنان وأربعون حرفاً، إلى سهولة سبكه، وجودة تركيبه، وإيجاز جمله وخفة مفرداته، وكثرة استعمال كلماته، " فاعتبروا يا أولي الأبصار " ولم أر من أمثلة هذا الباب ممثل بيت من بيتي الحماسة أغفله النقاد وهو طويل: وما شنتا خرقاء واهيتا الكلى ... سقى بهما ساق ولما تبللا بأضيع من عينيك للدمع كلما ... توسمت داراً أو ترسمت منزلا والبيت الأول أردت، فإنه وقع الإيغال فيه بعد ثلاث جمل: في كل جملة تتميم، الأولى قوله: شنتا، فإن الشنة المزادة العتيقة، وإضافتهما إلى خرقاء التي هي ضد الصناع، يريد أن خرزهما غير محكم، فهما يضيعان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الماء أبداً، فصار ذلك تتميمين، ثم قال بعد ذلك واهيتا الكلى أي كلاهما مخروقتان، ثم أوغل بقوله: سقى بهما ساق ولما تبللا فإن المزادة إذا ابتلت تمدد أديمها، وانتفخت سيورها، وانسد أكثر بثوقها، وإذا كانت يابسة عدمت ذلك كله، فكانت للماء أضيع منها وهي مبتلة، ثم في مجموع البيتين بعد ذلك تفريع حسن، وستعلم حقيقة التفريع في بابه، فتقدر ما وقع في هذين البيتين منه قدره. ومن أعجب إيغال وقع في الشعر قول عبد الله بن الزبير الأسدي طويل: هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حولياً من الثلج أشهبا فإن هذا البيت وقع فيه الاستعارة، والتورية، والترشيح، والإيغال. لاحتياج المسافر للركوب، والتورية في قوله حولياً ولو لم يرشح بلفظه الركوب لما حصلت التورية في لفظ حولي، ورشح بمجموع الاستعارة والتورية للإيغال، إذ لو لم يذكر الركوب والحولي، لما حسن أن يقول: أشهبا وقد وقع من الإيغال في الكتاب العزيز قوله تعالى: " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً " ثم احتاج الكلام إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى، فلما أتى بها أفاد مجيئها معنى زائداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 والفرق بين التتميم والإيغال من ثلاثة أوجه: أحدهما أن التتميم لا يرد إلا على كلام ناقص شيئاً ما، إما حسن معنى أو أدب، أو ما أشبه ذلك، كالبيت الذي تقدم، فإن المعنى بدون قوله: ويعطوه ناقص. والإيغال لا يرد إلا على معنى تام من كل وجه. والثاني اختصاص الإيغال بالمقاطع دون الحشو مراعاة لاشتقاقه، لأن الموغل في الأرض هو الذي قد بلغ أقصاها أو قارب بلوغه، فلما اختص الإيغال بالطرف لم يبق للتتميم إلا الحشو. والثالث أن الإيغال لا بد وأن يتضمن معنى من معاني البديع، والتتميم قد يتضمن وقد لا يتضمن، وأكثر ما يتضمن الإيغال التشبيه، والمبالغة، حتى لو قيل: إنه لا يتعدى هذين الضربين لكان حقاً، والتتميم يتضمن طوراً المبالغة، ويتضمن حيناً الاحتياط، ويأتي مرة غير متضمن شيئاً سوى تتميم ذلك المعنى؛ والله أعلم. تمت أبواب قدامة بتمام هذا الباب، بعد أبواب ابن المعتز، وجميعها ثلاثون باباً وهي الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الجز الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ومن هاهنا نبتدئ في سياقه: أبواب المتأخرين بعدهما، فأولها: باب الاحتراس وهو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه دخل، فيفطن له، فيأتي بما يخلصه من ذلك، والفرق بين الاحتراس، والتكميل، والتتميم أن المعنى قبل التكميل صحيح تام، ثم يأتي التكميل بزيادة يكمل بها حسنه إما بفن زائد أو بمعنى، والتتميم يأتي ليتمم نقص المعنى ونقص الوزن معاً والاحتراس لاحتمال دخل على المعنى، وإن كان تاماً كاملاً، ووزن الكلام صحيحاً، وقد جعل ابن رشيق الاحتراس نوعاً من التتميم، وسوى بينهما، وقد ظهر الفرق بينهما، فجعلهما في باب واحد غير سائغ. والفرق بينه وبين المواربة بالراء المهملة أيضاً، أن الاحتراس يؤتى به وقت العمل عند ما يتفطن المتكلم لموضع الدخل، والمواربة يؤتى بها وقت العمل، وبعد صيرورة الكلام، والمواربة بالراء المهملة، تكون بالتصحيف والتحريف واهتدام الكلمة، والزيادة والنقص، والاحتراس بزيادة الجمل المفيدة المتضمنة معنى الانفصال عما يحتمله الكلام من الدخل، والمواربة تكون في نفس الكلام وتكون منفصلة عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 والاحتراس لا يكون إلا في نفس الكلام، وسيأتي بيان المواربة وأمثلتها في بابها. والفرق بين الاحتراس، والمناقضة والانفصال، أن الاحتراس هو ما فطن له الشاعر أو الناثر وقت العمل فاحترس منه. والانفصال ما لم يفطن له حتى يدخل عليه، فيأتي بجملة من الكلام، أو بيت من الشعر ينفصل به عنه ذلك الدخل. والفرق بين المواربة والانفصال، أن المواربة تكون كما تقدم في كلمة من الكلام، أو في كلام منفصل عنه، والانفصال لا يكون إلا ببيت مستقل، أو جملة منفردة، عن سياق الكلام متعلقة به، داخلة فيه. من أمثلة الاحتراس في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وقيل بعداً للقوم الظالمين " فإنه تعالى لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان، أعقبه بالدعاء على الهالكين ووصفهم بالظلم ليعمل أن جميعهم كان مستحقاً للعذاب احتراساً من ضعيف بتوهم أن الهلاك ربما شمل من لا يستحق العذاب، فلما دعا على الهالكين ووصفهم بالظلم علم استحقاقهم لما نزل بهم، وحل بساحتهم وظهر من ذلك صدق وعده لنبيه نوح عليه السلام، وأعملنا أنه قد أنجزه وعده الذي قال فيه: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون "، وأعجب احتراس وقع في كتاب الله الكريم قوله سبحانه: " ما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر "، فإنه تبارك وتعالى لما نفى عن حبيبه ورسوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 صلى الله عليه وسلم أن يكون بالمكان الذي قضى فيه لموسى عليه السلام الأمر، عرف المكان بالجانب الغربي، ولم يقل في هذا الموضع، كما قال في الإخبار عن موسى عليه السلام: " وناديناه من جانب الطور الأيمن " أدباً مع نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم أن ينفي عنه كونه بالجانب الأيمن، ولما أخبر عن موسى عليه السلام ذكر الجانب الأيمن تشريفاً لموسى عليه السلام فالمح لطيف هذا الاحتراس من بلاغة الكتاب العزيز جل المتكلم به. ومثال الاحتراس من السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان إحدى النسوة من حديث أم زرع، حيث وصفت زوجها فقالت: " المس مس أرنب، والريح ريح زرنب، وأغلبه والناس يغلب " فقولها: والناس يغلب احتراس حسن، لأنها لو سكتت على قولها: وأغلبه، لقيل لها: إن رجلاً تغلبه امرأة لمغلب ضعيف، فاحترست من ذلك فقالت: والناس يغلب، فناسبت بين قرائنها بجملة تتضمن معنى الاحتراس مما يتوجه على معنى المدح من الدخل الذي ينقص به المعنى، فحصل في الكلام احتراس مدمج في موضع إيغال. ومتى وقع الاحتراس والتتميم في موضع الإيغال أوهم أنه إيغال، فيجب أن نعرف أن الإيغال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 كون القافية تفيد الكلام معنى زائداً بعد تمام معناه وصحته، والإيغال يفارق التكميل بأمرين: مجيئه في القافية فقط، واختصاصه بالمعاني دون الفنون. ومن أمثال هذا الباب الشعرية قول الخنساء في أخيها صخر وافر: ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي ثم تخيلت أن قائلاً قال لها: لقد ساويت أخاك بالهالكين من إخوان الناس، فيكف أفرطت في الجزع عليه دونهم؟ فاحترست من ذلك بقولها وافر: وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 باب المواربة براء مهملة وهي من ورب العرق بفتح الواو والراء: إذا فسد، فهو ورب بكسر الراء، فكأن المتكلم أفسد مفهوم ظاهر الكلام بما أبداه من تأويل باطنه. وحقيقتها أن يقول المتكلم قولاً يتضمن ما ينكر عليه بسببه، لبعد ما يتخلص به منه، هذا إن فطن له وقت العمل وإلا ارتجل حين يجبه به ما يخلصه منه من جواب حاضر، أو حجة بالغة، أو تصحيف كلمة أو تحريفها، أو زيادة في الكلام أو نقص، أو نادرة معجبة، أو ظرفة مضحكة. فأما شاهد ما وقع من المواربة بالتحريف، فقول عتبان الحروري طويل: فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب فإنه لما بلغ الشعر هشاماً، وظفر به قال له: أنت القائل: ومنا أمير المؤمنين شبيب فقال: لم أقل كذا وإنما قلت: ومنا أمير المؤمنين شبيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فتخلص بفتح الراء بعد ضمها، وهذا ألطف مواربة وقعت، ودونها قول نصيب طويل: أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا كمدي من ذا يهيم بها بعدي وقيل له: اهتممت بمن يفعل بها بعدك، فقال: لم أقل كذا، وإنما قلت: فوا كمدي ممن يهيم بها بعدي فتخلص بإبدال كلمة من كلمة، فهذا وأشباهه يحتمل أن يكون الدخل وقع فيه للشاعر وقت العمل، ويحتمل ألا يكون وقع له، وارتجل التخلص عند سماعه، والذي لا يحتمل أن يكون فطن له حتى قيل له قول الأخطل طويل: لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعول فإلا تغيرها قريش بملكها ... يكن عن قريش مستماز ومزحل فقال له عبد الملك بن مروان: إلى أين يا بن اللخناء؟ فقال: إلى النار، فضحك منه، وسكت عنه، فتخلص بهذه النادرة. وقد تكون المواربة من غير هذين النمطين، كقوله عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 للعباس بن مرداس حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم متقارب: أتجعل نهبي ونهب العبيد بني عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وما أنا دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، اقطع لسانه عني، فقبض علي عليه السلام على يده وخرج به، فقال: أقاطع أنت لساني يا أبا الحسن؟ فقال: إني لممض فيك ما أمر.. فهذه أحسن مواربة سمعتها في كلام العرب، ثم مضى به إلى إبل الصدقة فقال: خذ ما أحببت أو كما قال. ومن المواربة متصل ومنفصل، وقد أتينا بأمثلة القسمين، فالمتصل منها ما كان تخلصه في نفس الكلام، المنفصل ما كان التخلص فيه من كلام آخر، كالذي تقدم لعلي عليه السلام والأخطل. ومن أوضح أمثلته قصة كثير مع عبد الملك بن مروان، وقد أنشده طويل: على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدى نسجها فأذالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 فقال له عبد الملك: قول الأعشى في صاحبه خير من قولك هذا في حيث يقول كامل: كنت المقدم غير لابس جنة ... بالسيف تضرب معلماً أبطالا فقال: الأعشى وصف صاحبه بالخرق، ووصفتك بالحزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 باب الترديد وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى، ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر، كقوله سبحانه وتعالى: " حتى يؤتى مثل ما أوتي رسل الله والله أعلم حيث يجعل رسالاته " فالجلالة الأولى مضاف إليها، والثانية مبتدأ بها وقوله: " ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا " وكقوله عز وجل: " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا ". ومن الترديد نوع يسمى الترديد المتعدد، وهو أن يتردد حرف من حروف المعاني، إما مرة أو مراراً، وهو الذي يتغير فيه مفهوم المسمى لتغير الاسم: إما لتغاير الاتصال؛ أو تغاير ما يتعلق بالاسم. ومثال هذا النوع قوله تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " فإن اتصال من بضمير المخاطبين الغائبين في الموضعين مع ما تضمنت مَن مِنْ معنى الشرط أصارت المؤمنين كافرين عند وقوع الشرط، وقد يرتد حرف الجر في الجملة من الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 والبيت من الشعر مراراً عدة في جمل متغايرة المعاني، ومثله قول الشاعر بسيط يريك في الروع بدراً لاح في غسق ... فليث عريسة في صورة الرجل وربما كان المتردد غير حرف الجر، كحرف النداء أو غيره، ومثاله قول المتنبي منسرح: يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليث الشرى يا حمام يا رجل ومثال المتردد من الجمل غير المتعددة قول أبي نواس بسيط صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء فقوله: مسها، ومسته ترديد حسن. وقد يلتبس الترديد الذي ليس تعددا من هذا الباب بباب التعطف؛ والفرق بينهما: أن هذا النوع من الترديد يكون في إحدى قسمي البيت تارة وفيهما معاً مرة، ولا تكون إحدى الكلمتين في قسم والأخرى في آخر، والمراد بقربهما أن يتحقق الترديد، والتعطف وإن كان ترديد الكلمة بعينها، فهو لا يكون إلا متباعداً، بحيث تكون كل كلمة في قسم. والترديد يتكرر، والتعطف لا يتكرر، والترديد يكون بالأسماء المفردة، والجمل المؤتلفة والحروف، والتعطف لا يكون إلا بالجمل غالبا، والفارق بين الترديد والتكرار أن اللفظة التي تكرر في التكرار لا تفيد معنى زائداً، بل الأولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 هي تبيين للثانية وبالعكس، واللفظة التي تتردد تفيد معنى غير معنى الأولى منهما، واشتقاقهما مشعر بذلك، لأن الراد من وجه لا يبلغ إلا الموضع الذي أراده، والكار هو الذي انتهى إلى الموضع المراد، وكر راجعاً، ومنه الكر والفر وقول امرئ القيس: مكر مفر وأنه لا يكر إلا بعد الفرار وبيت أبي نواس الذي قدمناه مما جاء الترديد في عجزه دون صدره. وأما ما جاء في الصدر والعجز فكقول أبي تمام طويل: ديار نوار ما ديار نوار ... كسونك شجواً هن منه عوار ومثال ما جاء في الصدر والعجز معاً قول أبي نواس خفيف: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... قبله ثم قبل ذلك جده ومن الترديد نوع آخر يسمى ترديد الحبك، ويسمى بيته المحبوك، وهو أن تبنى البيت من جمل ترد فيه كلمة من الجملة الأولى في الجملة الثانية، وكلمة من الثالثة في الرابعة، بحيث تكون كل جملتين في قسم، والجملتان الأخيرتان غير الجملتين الأوليين في الصورة، والجمل كلها سواء في المعنى، كقول زهير بسيط يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا فقد ردد كلمة من الجملة الأولى في الجملة الثانية، وردد كلمة من الجملة الثالثة في الجملة الرابعة ثنتان في كل قسم، وكل جملتين متفقتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 في الصورة غير أنهما مختلفتان، إذا نظرت إلى كل قسم وجملته، وإن اشتركا في المعنى، فإن صورة الطعن غير صورة الضرب، ومعنى الجميع واحد، وهو الحماسة في الحرب، والبيت أعني بيت زهير مع كونه من شواهد الترديد المحبوك، فإنه يصلح أن يكون من شواهد صحة التقسيم، لأنه استوفى فيه أقسام حالات المحارب، وإن جاءت صحة التقسيم مدمجة في الترديد، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 باب التعطف وقد سماه قوم المشاكلة وقد تقدم أن التعطف كالترديد في إعادة اللفظة بعينها في البيت، وأن الفرق بينهما بموضعهما وباختلاف التردد، وثبت أن التعطف لا بد وأن تكون إحدى كلمتيه في مصراع والأخرى في المصراع الآخر، ليشبه مصراعاً البيت في انعطاف أحدهما على الآخر بالعطفين في كل عطف منهما يميل إلى الجانب الذي يميل إليه الآخر. ومن أمثلته قول زهير بسيط من يلق يوماً على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا وكقول عقيل بن علفة طويل: فتى كان مولاه يحل بفجوة ... فحل الموالي بعده بمسيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وكقول أبي تمام كامل: فلقيت بين يديك حلو عطائه ... ولقيت بين يدي مر سؤاله وكقول المتنبي طويل: فساق إلى العرف غير مكدر ... وسقت إليه المدح غير مذمم وهذا البيت أفضل بيت سمعته في هذا الباب، فإنه انعطفت فيه ثلاث كلمات من صدره على ثلاث كلمات من عجزه، ففيه بهذا الاعتبار ثلاث تعطفات، وذلك قوله: فساق، فإنها انعطفت على قوله في العجز: وسقت، وقوله: إلي فإنها انعطفت على قوله في العجز: إليه وقوله غير، فإنها انعطفت على قوله في العجز غير، ثم في البيت من المناسبة ما لم يتفق في بيت غيره، فإن كل لفظة في صدره على الترتيب وزن كل لفظة في عجزه: وكل جملة كقوله فساق وسقت وإلي وإليه والعرف، والشكر، وغير مكدر، ومذمم فهذه مفردات الألفاظ، وأما الجمل المركبة فيها فانظراني قوله فساق إلي وسقت إليه والعرف والشكر، وغير مكدر، وغير مذمم، ولم أر مثل هذا اتفق إلا لأبي تمام في البيت الذي قدمته على هذا البيت، لأنه ساوى بيت المتنبي في التعطفات الثلاثة، والمناسبة الناقصة، وفضله بيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أبي تمام بالمناسبة التامة والطباق، وله فضيلة السبق، فثبت له التقدم هذا وقد أتى به توطئة لقوله كامل: وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله وقد جاء من التعطف في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إن معكم متربصون " فإن التعطف في هذه الآية الكريمة في موضعين. وكذلك جاء في قول سبحانه: " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم "، وكقوله سبحانه: " وهم عن الآخرة هم غافلون " والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 باب التفويف اشتقاق التفويف من الثوب الذي فيه خطوط بيض، وأصل الفوف: البياض الذي في أظفار الأحداث، والحبة البيضاء في النواة، وهي التي تنبت منها النخلة، والفوفة القشرة البيضاء التي تكون على النواة، والفوف: الشيء، والفوف: قطع القطن، وبرد مفوف: أي رقيق، فكأن المتكلم خالف بين جمل المعاني في التقفية كمخالفة البياض لسائر الألوان، لأن بعده من سائر الألوان أشد من بعد بعضا عن بعض، إذ هو بسيط بالنسبة إليهما، وكلها مركبة بالنسبة إليه، لأنه قابل لجميع الألوان، وجميع الألوان تقبل التغير إلى لون آخر بحسب التركيب، والشدة والضعف إلا السواد، فإنه لا يقبل تركيباً ألبتة، فهو ضد البياض ونقيضه، ولا جرم أن الجمع بينهما في الكلام يسمى مطابقة، بخلاف بقية الألوان، والتفويف في الصناعة: عبارة عن إتيان المتكلم بمعان شتى من المدح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أو الغزل، أو غير ذلك من الفنون والأغراض، كل فن في جملة من الكلام منفصلة من أختها بالتجميع غالباً، مع تساوي الجمل المركبة في الوزنية، ويكون بالجمل الطويلة والمتوسطة والقصيرة. فمثال ما جاء منه بالجمل الطويلة، قول النابغة الذبياني طويل: فلله عيناً من رأى أهل قبة ... أضر لمن عادى وأكثر نافعا وأعظم أحلاماً وأكبر سيداً ... وأفضل مشفوعاً إليه وشافعا وأحسب أن أول من نطق بالتفويف المركب من الجمل الطويلة عنترة، فقال كامل: إن يلحقوا أكرر، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن نزلوا بضنك أنزل ومثال ما جاء منه في الجمل المتوسطة قول أبي الوليد بن زيدون بسيط ته أحتمل، واحتكم أصبر، وعز أهن ... ودل أخضع، وقل أسمع، ومر أطع ومثال ما جاء منه بالجمل القصيرة قول المتنبي بسيط أقل أنل أقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وقد جاء من التفويف المركب من الجمل الطويلة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطئيتي يوم الدين " وفي الجمل المتوسطة قوله سبحانه: " تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي "، ولم يأت من الجمل القصيرة شيء في فصيح الكلام. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 باب التسهيم هو من الثوب المسهم، وهو الذي يدل أحد سهامه على الذي يليه، لكون لونه يقتضي أن يليه لون مخصوص له، بمجاورة اللون الذي قبله أو بعده. وهذا الباب عرفه من تقدمنى بأن قال: وأن يكون ما تقدم من الكلام دليلاً على ما يتلوه، ورأيت هذا التعريف وإن روعي فيه الاشتقاق لا يخص هذا الباب من البديع، بل يدخل معه غيره. والذي عندي أن هذا الباب من مشكلات هذا الفن، ويصلح أن يعرف بقول القائل هو أن يتقدم من الكلام ما يدل على ما تأخر منه، أو يتأخر منه ما يدل على ما تقدم بمعنى واحد أو بمعنيين، وطوراً باللفظ، كأبيات جنوب أخت عمرو ذي الكلب، فإن الحذاق ببنية الشعر وتأليف النثر يعلمون أن معنى قولها متقارب: فأقسم يا عمرو لو نبهاك يقتضي أن يكون تمامه: إذا نبها منك داء عضالا وليثاً غضوباً أفعى قتولاً، وموتاً ذريعاً، وسماً وحياً، وغضباً صقيلاً، كرباً شديداً، وغماً طويلاً، إلى أشياء يعز حصرها، لكن معنى البلاغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 تقتضي اقتصارها من ذلك كله على الأول، لكونه أبلغ، وإنما قلت: إنه أبلغ، لأن الليث الغضوب، والأفعى القتول، يمكن مغالبتهما وغلبهما، والسيف الصقيل يمكن التوقي منه، والحيدة عنه، وما كل جريح يتوقع موته، ولا ييئس من برئه، والكرب الشديد، والغم الطويل، يرجى انكشافهما، والسم الوحي، والموت الذريع، يريحان صاحبهما، فأشد من الجميع الداء العضال الذي لا يميت فيريح، ولا يأمل صاحبه مداواته فيستريح، فلذلك علم الحذاق باختيار الكلام وبنيته أن قولها: فأقسم يا عمرو لو نبهاك يقتضي أن يكون تمامه: إذاً نبها منك داء عضالا دون كل ما ذكرت وما لم أذكر، فإن ما ذكرت هو دليل على ما لم يذكر، إذ لا يخرج ما لم يذكر عن أن يكون أمراً يمكن مغالبته وغلبه، أو شيئاً يرجى انكشافه وزواله، أو شيئاً يريح بسرعة كالسم الوحي، والموت الذريع وكما يدل الأول على الثاني كما ذكرت كذلك، يدل الثاني على الأول، فإنه لو قيل لحاذق بما يصلح أن يوطأ لقولها إذا نبها منك داء عضالاً فإنه لا يجد إلا قولها: فأقسم يا عمرو لو نبهاك، فهذا ما يدل الأول فيه على ما بعده دلالة معنوية. وأما ما يدل فيه الأول على الثاني دلالة لفظية فقولها: إذن نبها ليث عريسة ... مفتياً مفيداً نفوساً ومالا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فإن العارف ببنية الشعر إذا سمع قولها: مفيتا مفيداً، تحقق أن هذا اللفظ يوجب أن يتلوه قولها نفوساً ومالاً، وكذلك قولها: وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكى الكلالا فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا والبيت الثاني أردت، وإن كان البيت الأول فيه من التسهيم ما فيه لكن الثاني أوضح، لأن قولها، يقتضي أن يتلوه: فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا ومن جيد أمثلة التسهيم قول عمرو بن كلثوم وافر: ونوجد نحن أحماهم ذماراً ... وأوفاهم إذ عقدوا يمينا واستخراج التسهيم من هذا البيت عسر جداً، وهو مما ينبغي أن يسأل عنه من يتعاطى هذه الصناعة، وطريق استخراجه منه أن يقال: لما قدم في صدر بيته الفخر بصفات المدح في الحرب، أوجبت عليه البلاغة أن يكمل الفخر بصفات المدح في السلم، والسلم لا يكون إلا بالعهود والأيمان، وهذان لا يمدح الإنسان فيها إلا بالوفاء بهما، إذ ليس من المدح أن تقول: حلف فلان ولا استحلف بل تقول: فلان وفى بعهده ويمينه، فلما اقتضى المعنى تكميل المدح في حالة السلم بالأمر الذي هو أس السلم وأصله، كما مدح في حالة الحرب بما هو من صفات المدح في الحرب، اقتضى اللفظ أيضاً أن يكون ما يأتي به من الألفاظ مناسباً لما قدمه، وقد قال في صدر البيت: ونوجد نحن أحماهم، فتعين لمراعاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 المناسبة أن يقول في العجز وأوفاهم، لا سيما وهي تعطي المعنى الذي يكمل به المدح، وقال: إذا عقدوا يميناً يريد الحالة التي هي أشد أحوال الحالف، فإنه لو قال: إذا حلفوا لم يعط من المعنى البليغ ما يعطيه عقدوا إذ الحالف قد يحلف لغواً، وتعقيد اليمين يدل على النية والتصميم، قال الله سبحانه: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " فقد اقتضى صدر هذا البيت من جهة اللفظ والمعنى أن يكون تمامه ما ذكره والله أعلم. ومن أمثلة هذا الباب للمحدثين قول البحتري، وهو مما جاءت دلالته لفظية أيضاً طويل: فليس الذي حللته بمحلل ... وليس الذي حرمته بحرام وكقول الآخر خفيف: من غصون كأنهن قدود ... وقدود كأنهن غصون وهذا البيت لا يصلح أن يكون شاهداً للتسهيم، لكون أوله لا يقتضي آخره لأنه لو قال: من غصون كأنهن قدود ... ذات نور مثل الثغور العذاب أو ذات ورد كأنه الوجنات، حسن أن يكون تماماً له، ومتى كان التقدير كذلك انخرم ضابط التسهيم، وإنما ذكرته سهواً كما سها من ذكره قبلي ثم فطنت لذلك بعد إثباته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 والفرق بين التسهيم والتوشيح من ثلاثة أوجه: أدها أن التسهيم يعرف به من أول الكلام آخره، ويعلم مقطعه من حشوه من غير أن تتقدم سجعة النثر ولا قافية الشعر، والتوشيح لا تعرف السجعة والقافية منه إلا بعد أن تتقدم معرفتهما. والآخر أن التوشيح لا يدلك أوله إلا على القافية فحسب، والتسهيم يدل تارة على عجز البيت وطوراً على ما دون العجز، بشرط الزيادة على القافية، وما حكيناه عن ابن العباس رضي الله عنه في بيت عمر بن أبي ربيعة، وعن الفرزدق في بيت عدي بن الرقاع فنادر لا يقاس عليه. والثالث أن التسهيم يدل تارة أوله على آخره، وطوراً آخره على أوله بخلاف التوشيح. وقد جاء من التسهيم في الكتاب العزيز قوله تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون " وقوله: " أفرأيتم الماء الذي تشربون " إلى آخر الآية. فانظر إلى اقتضاء أول كل آية آخرها اقتضاء لفظياً ومعنوياً، وائتلاف الألفاظ مع معانيها، ومجاورة الملائم بالملائم، والمناسب بالمناسب، لأن ذكر الحرث يلائم الزرع، وذكر الحطام يلائم التفكه ومعنى الاعتداد بالزرع يقتضي الاعتداد بصلاحه وعدم فساده، فحصل التفكه، وكذلك في بقية الآيات، فإذا علمت ذلك بهرج النقد عندك ما تقدم من الأشعار الفصيحة. والمعاني البليغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 باب التورية ويسمى التوجيه، وهي أن تكون الكلمة تحتمل معنيين، فيستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله، كقول علي عليه السلام في الأشعث بن قيس: وهذا كان أبوه ينسج الشمال باليمين، لأن قيساً كان يحوك الشمال التي واحدتها شملة. ومن شواهد هذا الباب الشعرية قول عمر بن أبي ربيعة خفيف: أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يجتمعان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان فذكر عمر الثريا وسهيلاً ليوهم السامع أنه يريد النجمين المشهورين، لأن الثريا من منازل القمر الشامية، وسهيلاً من النجوم اليمانية، وهو يريد صاحبته الثريا، وكان أبوها قد زوجها برجل من أهل اليمن يسمى سهيلاً، فتمكن لعمر أن ورى بالنجمين عن الشخصين، ليبلغ من الإنكار على من جمع بينهما ما أراد، وهذه أحسن تورية وقعت في شعر لمتقدم مرشحة، فإن قوله المنكح ترشيح للتورية على قلتها في أشعار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 المتقدمين وكثرتها في أشعار المحدثين، وخصوصاً شعراء العجم العصريين كالأرجاني وأمثاله، وأما البيت الثاني فإنه أبدع من البيت الأول، إذ أخرجه مخرج التعليل، للإنكار الذي وقع في عجز البيت الأول، وجاء فيه مع التعليل تنكيت حسن مدمج في تجنيس الازدواج، فإن قوله إذا ما استقلت وإذا استقل تجنيس ازدواج، والنكتة في ترجيح استقلت على أخواتها فيما يقوم مقامها إشارته بها إلى أن الزوج يبعد بالزوجة عن أهلها ووطنها، فيكون ذلك أشد تأنيباً له على تزويجه، وأدعى لندامته على ذلك، وكان من الاتفاق الحسن أن الرجل يماني القبيلة والبلد، والمرأة شامية، فحصل الاتفاق مدمجاً في الاستخدام، فإنه استعمل في هذا البيت احتمالي كل لفظة من قوله: شامية ويمان، وختم البيت بالتوشيح، وهو دلالة معنى صدر البيت على قافيته، فجاء في البيت سبعة أضرب من البديع: وهي التعليل، والاتفاق، والاستخدام، وتجنيس الازدواج في استقلت واستقل والإدماج والتنكيت، والتوشيح. وما رأيت لعربي ولا لعجمي مثل تورية وقعت للقاضي عياض صاحب الشفا في تعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحب الإكمال في شرح مسلم، وغيرهما في بيتين وصف فيهما صيغة نادرة أنشد فيهما الفقيه الإمام الحافظ المتقن العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري نفع الله به، وبلغه من خير الدارين كما بلغه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 من العلم نهاية مطلبه بالسند المتصل بقائلهما رحمه الله تعالى وهما بسيط كأن كانون أهدى من ملابسه ... لشهر تموز أنواعاً من الحلل أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل وإذا وصلت إلى ما وقع من التورية في الكتاب العزيز وصلت إلى الغاية القصوى، وهي قوله تعالى: " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم " فانظر إلى كون الضلال له محملان، وهما الحب وضد الهدى وكيف أهمل أحد الاحتمالين، وهو الحب، واستعمل دلالته على ضد الهدى، والمراد ما أهمل لا ما استعمل فستجده أوجز لفظ وأحلاه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 باب الترشيح وهو أن يؤتى بكلمة لا تصلح لضرب من المحاسن حتى يؤتى بلفظة تؤهلها لذلك كما حكيناه عن علي عليه السلام في قوله للأشعث بن قيس: " وهذا كان أبوه ينسج الشمال باليمين "، فإنهن عليه السلام لو قال ينسج الشمال بيده أو ينسج الشمال وسكت لم يكن في لفظة الشمال تورية ألبتة فلما قصد التورية عدل عن لفظ اليد، وعن الاقتصار على ما قبلها وأتى بلفظ اليمين ليرشح لفظة الشمال للتورية، ولا ينتقد علينا مجيء الآية الواحدة، والبيت الواحد شاهداً على عدة أبواب من المحاسن، فإن ذلك بحسب ما يكون في الكلام من البديع، فإن قيل: فما الفرق بين الترشيح والاستعارة، والتورية، وقد جعلت مثالهما واحداً؟ قلت: الفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها أن من التورية ما لا يحتاج إلى ترشيح، وهي التورية المحضة. والثاني أن الترشيح لا يخص التورية دون بقية الأبواب، بل يعم الاستعارة والطباق وغيرهما من كثير من الأبواب، ألا ترى إلى قول أبي الطيب كامل: وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لظننت فيه جهنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فإن قوله: يا جنتي رشحت لفظة جهنم للمطابقة، ولو قال مكانها يا منيتي لم يكن في البيت طباق ألبتة. الثالث: أن لفظة الترشيح في الكلام المورى غير لفظة التورية فإن التورية في قول علي عليه السلام في لفظة الشمال، والترشيح في لفظة اليمين، فإن قيل: لفظتا الثريا وسهيلاً رشحت كل واحدة منهما أختها للتورية، فإنه لولا ذكر سهيل لم تصلح الثريا للتورية، ولولا ذكر الثريا لم يصلح سهيل للتورية، كما أن لفظة اليمين هي التي رشحت الشمال للتورية، فلم يعقل الفرق إذاً بين التورية والترشيح. قلت: كل من لفظتي الثريا وسهيل لا يفتقر في التورية بهما إلى صاحبتهما، بخلاف لفظة اليمين، وذلك أن عمر لو قال خفيف: أيها المنكح الثريا زياداً ... عمرك الله كيف يجتمعان لصحت التورية بدون ذكر سهيل؛ لأن الثريا يقع على النجم وعلى المرأة، والنجم لا يجتمع ورجل أبداً، وكذلك لو عكس فقال: أيها المنكح الخلوب سهيلا ... عمرك الله كيف يجتمعان لصحت التورية أيضاً، لأن سهيلاً يقع على الكوكب، وعلى الرجل، والكوكب والمرأة لا يجتمعان، ولا كذلك لفظة اليمين، فإنها لو لم يؤت بها لم يكن في الشمال تورية أصلاً ورأساً، وإنما الواقعة التي وقعت لعمر اتفق له فيها موافقة اسم الزوجين لاسمي النجمين فتهيأ له من التورية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ما لم يتهيأ لغيره، وتمم المعنى كون الثريا التي هي النجم، وصاحبته شاميين، وسهيل وزوجها يمانيين، فتم لعمر ما أراده من الإنكار عليهما، وعلى من جمع بينهما، وحصل في بيتيه التورية والاتفاق، فلذلك حسناً جداً ومما يبين أن التورية المحضة لا تحتاج إلى ترشيح قول القاضي السعيد ابن سناء الملك رحمه الله تعالى مجزوء الكامل: يا هذه لا تستحي ... مني قد انكشف الغطاء فإن في قوله: قد انكشف الغطاء تورية غير مفتقرة إلى ترشيح، لأن ظاهر اللفظ يدل على أنه أراد انكشاف الأمر، وهو يريد انكشاف العضو فقصد الثاني وورى بالأول، ولا كذلك قول أبي تمام كامل: كشف الغطاء فأوقدى أو أخمدى فإن لفظة كشف الغطاء لا تحتمل إلا معنى واحداً، وهو الذي قصده أبو تمام من انكشاف الأمر. ومن الترشيح للتورية في الكتاب العزيز قوله تعالى: " اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه "، فإن لفظة ربك رشت لفظة ربه، لأن يكون تورية، إذ يحتمل أن يراد بها الإله سبحانه والملك، فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 لو اقتصر على قوله تعالى: " فأنساه الشيطان ذكر ربه " لم تدل لفظة ربه إلا على الإله، فلما تقدمت لفظة ربك صلحت للمعنيين. وأما ترشيح الاستعارة ففي قول بعض العرب طويل: إذا ما رأيت النسر عز ابن داية ... وعشش في وكريه طارت له نفسي فإنه شبه الشيب بالنسر لاشتراكهما في البيض، والشعر الأسود بابن داية، وهو الغراب لاشتراكهما في السواد، واستعار التعشيش من الطائر للشيب لما سماه نسراً، ورشح به إلى ذكر الطيران الذي استعاره من الطائر لنفسه، فقد رشح باستعارة إلى استعارة. وأما ترشيح التشبيه فكقول النابغة الذبياني طويل: إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب فإنه رشح بالاستعارة في قوله: أرقلوا إلى التشبيه في قوله: إرقال الجمال، فإنه تشبيه بغير أداة، وفحول النقاد تسمى هذا النوع من التشبيه استعارة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 باب الاستخدام وهو أن يأتي المتكلم بلفظة لها معنيان، ثم يأتي بلفظتين تتوسط تلك اللفظة بينهما، ويستخدم كل لفظة منهما لمعنى من معنى تلك اللفظة المتقدمة، وربما التبس الاستخدام بالتورية الضاً من كون كل واحد من البابين مفتقراً إلى لفظة لها معنيان. والفرق بينهما أن التورية استعمال أحد لمعنيين من اللفظة، وإهمال الآخر، والاستخدام استعمالهما معاً. ومن أمثلته قول البحتري كامل: فسقى الغضا والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانح وقلوب فإن لفظة الغضا محتملة الموضع والشجر والسقيا الصالحة لهما، فلما قال والساكنية استعمل أحد معنيي اللفظة، وهو دلالتها بالقرينة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الموضع، ولما قال: شبوه: استعمل المعنى الآخر، وهو دلالتها بالقرينة أيضاً على الشجر. وفي الكتاب العزيز من الاستخدام قوله تعالى: " لكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت "، فإن لفظة كتاب يراد بها الأمد المحتوم، والكتاب: المكتوب، وقد توسطت بين لفظتي أجل ويمحو، فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد، واستخدمت يمحو لمفهوم الآخر، وهو المكتوب والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 باب التغاير وهو تضاد المذهبين إما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئاً بذمه، أو يذم ما مدحه غيره، أو يفضل شيئاً على شيء، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلاً، أو يفعل ذلك مع غيره، فيجعل المفضول عند غيره فاضلاً، وبالعكس. فإما التفضيل بين الشيئين المتغايرين من كل وجه فلم يقل به إلا ضياء الدين بن الأثير رحمه الله تعالى، وسنأتي بتفصيل مذهبه في آخر هذا الباب، وأما مدح الإنسان ما ذمه غيره فلم أسمع فيه كقول الإمام علي عليه السلام في خطبة له مدح فيها الدنيا مغايراً لنفسه في ذمها عليها، أم هي المترجمة عليك؟ متى استهوتك، أم متى غرتك؟ كم غرتك؟ بمصارع آباك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك، وكم مرضت بيديك، تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فهي بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك، وإن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكته ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها، وقد آذنت ببينها ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها فمثلت لهم ببلائها الإبلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعاقبة، وابتكرت بفجيعة، ترغيباً وترهيباً، وتخويفاً وتحذيراً، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا، فقلت ناظماً لمعاني هذه الخطبة على أحد طريقي البلاغة، وهو الإيجاز خفيف: من يذم الدنيا بظلم فإني ... بطريق الإنصاف أثنى عليها وعظتنا بكل شيء لو أنا ... حين جدت في الوعظ من مصطفيها وأرتنا الوجهين منها فهمنا ... للهوى بالبيان من وجهيها نصحتنا فلم نر النصح نصحاً ... حين أبدت لأهلها ما لديها أعلمتنا أن المآل يقينا ... للبلى حين جددت عصريها كم أرتنا مصارع الأهل والأح؟ ... باب لو نستفيق بين يديها ولكم مهجة بزهرتها اغتر ... رت فأدمت ندامة كفيها أتراها أبقت على سبإ من ... قبلنا حين بدلت جنتيها يوم بؤس لها ويوم رخاء ... فتزود ما شئت من يوميها وتيقن زوال ذاك وهذا ... تسل عما تراه من حادثيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 دار زاد لمن تزود منها ... وغرور لمن يميل إليها مهبط الوحي والمصلى التي كم ... عفرت صورة بها خديها متجر الأولياء قد ربحوا الجن؟ ... نة فيها وأوردوا عينيها رغبت ثم رهبت ليرى كل؟ ... ل لبيب عقباه من حالتيها فإذا أنصفت تعين أن يث؟ ... نى عليها ذو البر من ولديها وأما قوله مغايراً لنفسه فإنه في أكثر كلامه يذم الدنيا، ومنه قوله: يا دنيا أبي تعرضت، أم إلي تشوفت؟ هيهات هيهات، غري غيري، قد بنتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق. وروى له عليه السلام في ذلك سريع: يا مؤثر الدنيا على دينه ... والتائه الحيران في قصده أصبحت ترجو الخلد فيها وقد ... أبرز ناب الموت عن حده هيهات، إن الموت ذو أسهم ... من يرمه يوماً بها يرده لا يشرح الواعظ صدر امرئ ... لم يعزم الله على رشده وأما ما جاء من ذلك في الشعر، فقول بعض العرب يمدح قوماً بالأنفة كامل: لا يشربون دماءهم بأكفهم ... إن الدماء الشافيات تكال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فإنه وصف هؤلاء القوم بالأنفة من أخذ الدية عن قتلاهم، فيصير حاصل ما يأخذونه شربهم اللبن، فكأنهم شربوا دماءهم، ثم قال: إن مثل هذا الدم لا يشفي، وإنما يشفي من الدماء ما أخذه مكايلة صاعاً بصاع، يعني دماً بدم كفء، فحاصل معناه أن الدماء تكال؛ وقال الآخر مغايراً لهذا المعنى وقد قتل بقتيله دونه معتذراً عن ذلك، مغايراً للمعنى الأول طويل: فيقتل خير بامرئ لم يكن له ... وفاء ولكن لا تكايل بالدم ويروى: لم يكن له بواء بباء موضع الفاء، أي كفء مأخوذ من قولهم لمن يقتلونه في دم: بؤبدم فلان، فذهب هذا القائل إلى أن قتيله لا نظير له، فلو ذهب إلى أنه لا يقبل به إلا كفأه لطاح دمه هدراً، إذ لم يجد له كفؤاً، فلهذا اضطر إلى قتل من دونه، ثم قال: لا تكايل بالدم، مستدلاً بذلك القول على صحة ما أتاه، لكون أرباب الدماء متفاوتي الدرجات، فلا تتكافأ دماؤهم، هذا مذهب الجاهلية، قد أتى الإسلام بخلافه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ولهذا قال عمر رضي الله عنه لجبلة: الإسلام ساوى بينكما فتغاير المعنيان، وهما مع المغايرة صحيحان، وقد أتى حكم الله في كتابه العزيز مغايراً هذا الحكم، فقوله تعالى: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل " وقوله: " الحر بالحر والعبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 بالعبد والأنثى بالأنثى " مما يصحح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تتكافأ دماؤهم "؛ وقد غايرت أحكام القرآن العزيز أحكام الجاهلية في عدة مواضع، وذم من ابتغى حكم الجاهلية، ومن ذلك ذم الظلم وأهله، وقد كانت العرب تمدحه وتمدح به وأشياء غير ذلك. ومن هذا قول أبي تمام يغاير جميع الناس في تفضيل التكرم على الكرم، بقوله لأبي سعيد الثغري خفيف: قد بلونا أبا سعيد حديثاً ... وبلونا أبا سعيد قديما ووردناه سائحاً وقليباً ... ودعيناه بارضاً وجميما فعلمنا أن ليس إلا بشق الن؟ ... نفس صار الكريم يدعى كريما ثم غايره المتنبي فقال على الطريق المألوف منسرح: لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... منفعة عندهم ولا جاها وهذا المعنى من قول أبي تمام بسيط لا يتعب النائل المبذول همته ... وكيف يتعب عين الناظر النظر وكل ذلك من قول بشار خفيف: ليس يعطيك للرجاء لوا الخو ... ف ولكن يلذ طعم العطاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وأبو تمام أخذ معناه الذي غاير فيه الناس من قبل إبراهيم بن سيار، النظام، لأنه غاير فيه جميع العلماء في استدلاله على أن شكر المنعم لا يجب عقلاً ولا شرعاً، وقال في نظم الدليل كلاماً نقحته وحررته فقلت: المعطي لا يعدو بعطائه أحد أربعة أقسام حاصرة: إما للخوف، وإما للرجاء، وإما لطلب الثناء، وإما للعشق في العطاء. فأما المعطي للخوف، فحثه على ذلك العطاء اتقاؤه ما خافه بعطائه، فلا يجب شكره، والمعطي للرجاء إما أن يرجو المكافأة عن عطائه ممن أعطاه، أو يرجو بذلك ثواب الله، وهو في كلتا حالتيه لا يجب شكره، والمعطي لطلب الثناء حق عطائه أن يثنى عليه، فإذا أثنى عليه، فقد سقط حقه، فلا يجب شكره، والمعطي للعشق في العطاء، مسكن بعطائه غليل قلبه، ومنفس به من كربه، فلا يجب شكره، ووجه الرد على النظام أن يقال: المعطي لطلب الثناء، إما أن يكون عطاؤه موجباً للثناء عليه، أو لا يكون، فإن كان الأول فقد وجب شكر المنعم، وإن كان الثاني فقد فسد التقسيم الأول، وصار للعطاء قسم خامس لغير العلل التي علل بها، ولم تبق علة لهذا التقسيم من العطاء سوى التبذير والعبث، وهذا القسم مرفوض لا يستحق الكلام عليه، فإن قيل المعطي للثناء قد يثني عليه وقد لا يثنى فإن أثنى عليه فقد سقط حقه، فلا يجب شكره، وإن لم يثن عليه خلا عطاؤه عن الفائدة. قلت: القعود عن أداء الواجب لا يسقط الواجب، فإن تارك الصلاة لا يسقط إخلاله بهذا الواجب وجوبها، ولا يخلو المثنى على المعطي لطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الثناء إما أن يكون فعل واجباً، فقد وجب شكر المعطي، وإما أن يكون ما فعله غير واجب فقد صار العطاء لا للثناء. ثم أقول: المعطي رغبة في الثناء لا يخلو إما أن يكون المثنى فعل بثنائه واجباً أولاً، فإن كان الأول فقد وجب شكر المنعم، وإن كان الثاني، فإما أن يكون عدم الثناء عليه من جهة تقصير المعطي، فقد بينا أن الإخلال لا يسقط وجوب الشكر، فإن قلت: إنما أثنى المثنى عليه تفضيلاً. قلت: هذا محال لأنه تقدم منه العطاء ليشتري به الثناء، فثناء المعطى ثمن لإنعام المعطي، فكيف يعد تفضلاً؟! فقد ثبت وجوب شكر المنعم، وفسد تقسيم النظام، ثم قول القائل: لا يخلو المعطي للثناء، إما أن يثني عليه وإما أن لا يثني عليه لازم في جميع الأقسام، فإن المعطي لطلب المكافأة. إما أن يكافأ، وإما أن لا يكافأ، وكذلك المعطى للخوف، ولم يبق قسم لا يدخله هذا الاحتمال، سوى المعطي للعشق في العطاء، فإنه وإن لم يجب شكره على نفس العطاء لكونه مسكناً به غليل قلبه، ومشبعاً غرض نفسه، فهو مشكور على عشق أحسن الخلال، وأكرم الفعال، وكيف لا يستحق المنعم الشكر، والمنعم على كل تقدير أحد رجلين: رجل مطبوع على العطاء مجبول عليه، فهو مشكور على كرم طبع، وسماحة جبلته، ورجل غير مطبوع على ذلك فهو يجاهد نفسه، ويغلب طبعه على التكرم حتى يتعمد العطاء ويتكلف الحباء، وهذا كما قال سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم: " إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تخاف الفقر وتأمل الغنى ". ومن هنا قال أبو تمام خفيف: فعلمنا أن ليس إلا بشق الن؟ ... نفس صار الكريم يدعى كريما ولقد أحسن المتنبي حين أخذ هذا المعنى من أبي تمام، وزاد عليه ونقله من فن المدح إلى فن الأدب، فقال مخرجاً ذلك مخرج المثل بسيط لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال ومن التغاير تفضيل القلم على السيف، والمعتاد عكس ذل، ويدل عليه قول البحتري في صاحب خراسان المعروف بابن هرمة بسيط تعنو له وزراء الملك راغبة ... وعادة السيف أن يستخدم القلما وما سمعت في هذا المعنى مثل قول ابن الرومي بسيط إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وغايره المتنبي فقال على الطريق المألوف بسيط حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم أكتب بها أبداً قبل الكتاب بنا ... فإنما نحن للأسياف كالخدم فانظر إلى تقصير المتنبي في المعاني وسبكها، وإلى كونه قليل الابتكار لا يتوكأ إلا على المعاني المطروقة، ولا يرى فيها إلا تابعاً مقصراً، فإنه أخذ هذا المعنى من قول أبي تمام بسيط السيف أصدق أنباء من الكتب فإن حاصل بيت المتنبي مأخوذ من هذا الصدر، ليس في بيته زائد على ما في الصدر، سوى ما أخذه من ابن الرومي وقصر وهو قوله في العجز: فإنما نحن للأسياف كالخدم لأن ابن الرومي جعل السيوف خدماً للأقلام، والمتنبي جعلها كالخدم، وفرق بين عين الشيء وبشبيهه، ولا يقال: إن صدر بيت المتنبي هو المأخوذ من صدر بيت أبي تمام، فلم قلت: إن بيت المتنبي كله مأخوذ من صدر بيت أبي تمام، لأني أقول: صدر بيت المتنبي مفتقر لما قبله، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 لتقديم ما بعده، لما فيه من الضمائر الظاهرة والمستترة التي متى أفرد لا يوجد فيه ما يعود عليه، فلا يكمل معناه الذي أخذه من بيت أبي تمام حتى يقدر تقديم العجز، فيصير تقدير البيت: نحن للأسياف كالخدم فاكتب بالأسياف قبل أن تكتب بنا، وحاصل هذا كله قول أبي تمام: السيف أصدق أنباء من الكتب فلم يرض أبو تمام أن يقول: السيف أصدق أنباء من القلم حتى قال: من الكتب التي لا تكتب إلا بالقلم، والدواة والقرطاس، والكاتب المطلق اليد واللسان والجنان فالحظ الفرق بين كلامه، وكلام المتنبي لتعلم مقدار ما بينهما. وقد غاير ابن الرومي الناس في إبطال فائدة التناسي حيث قال خفيف: ومعز عن الشباب مؤس ... بمشيب اللدات والأتراب قلت لما انتحى يعد أساة ... من مصاب يشيبه ومصاب ليس تأسو كلوم غيري كلومي ... ما بهم ما بهم وما بي ما بي فإنه غاير القائل طويل: ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده ... ولكن متى ما شئت جاوبني مثلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وأمثاله كثير، وكل ما أتيت به مما غاير فيه الشعراء بعضهم بعضاً. وأما ما يغاير الشاعر فيه نفسه، فكقول الفرزدق طويل: ؟ ألم تسمعا يا بني حكيم حنينها ... إلى السيف تستبكي إذا لم تعقر فذكر أن إبله تحن إلى السيف لإلفها به إذا لم يعقرها للضيفان. وقال يصفها بالجزع من الموت طويل: ترى النيب من ضيفي إذا ما رأينه ... ضموراً على جراتها ما يجيرها وهذا من قول بعض الشعراء يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم كامل: وأبيك حقاً إن إبل محمد ... عزل نوائح أن تهب شمال وإذا رأين لدى الفناء غريبة ... فدموعهن على الخدود سجال يقول هذا الشاعر: إذا هبت الشمال، وهي من ريح الشتاء، وهبوبها من علامات المحل، أيقنت هذه الإبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها للضيفان والجيران، فهي نوائح لذلك، واستعار لها لفظة عزل: من الرجال الذين لا سلاح معهم يدفعون به عنهم، أي هي لا تمانع؛ ثم قال في البيت الثاني: وإذا رأين ناقة غريبة عرفن أنها ناقة ضيف فتذرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 كل واحدة دمعها لا تدري أهي المنحورة أم غيرها؟ وقوله حقاً بعد القسم ليست من الحشو الذي تسد به الأبيات لإقامة الوزن، وإنما هي مؤكدة لصدق القسم، إذ المدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان في غيره لكانت حشواً لا يفيد إلا إقامة الوزن، وهذا من دقيق ما في الشعر، وهو من لطيف المدح، وقل كل مدح في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا التتميم الذي وقع لهذا الشاعر رضي الله عنه في المدح تتميم وقع للأخطل في الهجاء حيث قال بسيط وأقسم المجد حقاً لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر ومن التغاير ما قاله زبان بن منظور الفزري، وقد اتفق مع النابغة على الغزو، فوقعت جواده على النابغة، فتطير بها ورجع، ومضى زبان فغنم وسلم، فقال النابغة وافر: تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحاييناً وباطله كثير ومن ينزح به لا بد يوماً ... يجيء به نعي أو بشير فغاير النابغة معظم العرب في ذلك، وأعجبني مقاله لموافقته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا هامة ولا طيرة ولا صفر ". وهذه أمثلة التغاير في المعنى الواحد. وأما تغاير المعنيين المتضادين فإن الترجيح بينهما راجع إلى النظر في مفردات الألفاظ وتركيبها لتعلم كم في كل كلام منهما من ضروب العيوب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وأنواع المحاسن، ويقابل كل ضرب بضرب مثله: فما كانت محاسنه، أكثر وعيوبه أقل كان أفضل من الآخر، وهذا هو الذي أشار إليه ضياء الدين بن الأثير، ووعدت في أول هذا الباب بذكره، فإنه أيضاً غاير النقاد في هذا المكان، إذ عادتهم ألا يرجحوا بين الكلامين إلا إذا اشتركا في معنى واحد والله أعلم. ومثال ما تقع فيه المفاضلة بين الكلامين المختلفي المعنى قول الله سبحانه وتعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك " وقال عز وجل: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية، فإن الأولى في الطبقة العليا من البلاغة والفصاحة، والثانية في الطبقة الوسطى بالنسبة إليها، لأن الثانية وإن كانت بليغة فالأولى أبلغ، وإن كنت كثيرة المعاني، فالأولى أكثر، فالأولى أفضل مع كون مقصد الاثنين مغايراً مختلفاً، وعلى هذا فقس ترشد والله عز وجل أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 باب الطاعة والعصيان هذا النوع استنبطه أبو العلاء المعري عند نظره في شعر أبي الطيب المتنبي وشرحه له من قوله طويل: يرد يداً عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد وسماه الطاعة والعصيان، أعني المعري، وفسره بأن قال: وهو أن يريد المتكلم معنى من معاني البديع، فيستعصي عليه لتعذر دخوله في الوزن الذي هو آخذ فيه، فيأتي موضعه بكلام غيره يتضمن معنى كلامه، ويقوم به وزنه، ويحصل به معنى من البديع غير المعنى الذي قصده، كهذا البيت الذي ذكرته للمتنبي، فإنه أراد أن يكون في البيت مطابقة، فيحتاج لأجلها أن يقول: يرد يدا عن ثوبها وهو مستيقظ حتى إذا قال: ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد يكون في البيت مطابقة فلم يطعه الوزن فأتى بقادر مكان مستيقظ. لتضمنه معناه، فإن القادر لا يكون إلا مستيقظاً، وزيادة فقد عصاه في البيت الطباق، وأطاعه الجناس، لأن بين قادر وراقد تجنيس عكس. هذا كلام المعري على هذا البيت، وهذا المعنى من البديع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ولم يأت بشاهد غيره، وتبعه الناس بعد، فأثبتوا هذا الباب وتكلموا فيه بمثل هذا الكلام، واستشهدوا بهذا البيت، ولم يأت أحد منهم بغيره، وأضربوا جميعهم عن النظر فيه، إما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب، واعتقادهم فيه العصمة من الخطإ والسهو فيه، وإما أن يكونوا قد مر عليهم ما مر عليه في هذا البيت. والذي ذهب عليهم أن البيت ليس فيه شيء أطاع الشاعر، ولا شيء عصاه، ودليل ذلك أن قول المعري إن المتنبي أراد مستيقظاً، ليحصل منها ومن لفظة راقد طباق، فعصته لفظة مستيقظ لامتناعها من الدخول في هذا الوزن، فيحكم على المتنبي، لأنه لو أراد أن يكون في بيته طباق فحسب، كان له أن يقول: يرد يداً عن ثوبها وهو ساهر أو ساهد، ويحصل له غرضه من الطباق بالجمع بين ساهر وراقد، ولا يكون عصاه شيء وأطاعه غيره وإنما المتنبي قصد أن يكون في بيته طباق وجناس، فعدل عن لفظة ساهر وساهد إلى لفظة قادر، لأن القادر ساهر وزيادة، إذ ليس كل ساهر قادراً، والقادر لا بد أن يكون ساهراً، ليحصل بين قادر وراقد طباق معنوي، وجناس عكس، لأن الطباق أنواع: منه المعنوي، كما أن الجناس أنواع: منه جناس العكس، وكما لم يأت بأول نوع من الجناس، كذلك يم يأت بأول نوع من الطباق، وهو الطباق اللفظي، وأتى بالطباق المعنوي، لأن مذهبه ترجيح المعاني على الألفاظ، لا سيما وبالعدول عن الطباق اللفظي حصل في البيت الطباق والجناس معاً، وما كان فيه طباق وجناس أفضل مما ليس فيه سوى الطباق فقط، ولو عدل المتنبي إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ما ذكره المعري من الإتيان بشاهد مثلاً لفاته هذا الفضل، وأتى في بيته ما دل على عدم تدقيق النقد، إذ يأتي فيه بأول نوع من الطباق، ولم يقابله بأول نوع من الجناس، مع ثبوت نيته الجمع بنيهما، والله أعلم. فقد تبين من هذا البحث أن بيت المتنبي هذا لا يصلح أن يكون شاهداً على هذا الباب، لأنه لم يعصه فيه شيء ولم يطعه غيره، ولا بد إذ قد أثبت هذا الباب لرشاقة تسمية من الإتيان بشاهد يليق به؛ والذي يليق به من الشواهد قول عوف بن محلم السعدي سريع: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان لأنا نعلم أن أول ما يقصده المتكلم إخراج معناه في لفظ مساو له، إذ هو خير ضروب البلاغة لكونه وسطها، وخير الأمور أوسطها، ولذلك وصف به كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال هند بن أبي هالة في صفته: ويتكلم بجوامع الكلم قولاً فصلاً، لا فضلاً ولا تقصيراً؛ وقالت أم معبد في صفة كلامه أيضاً: حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خزرات نظم يتحدرن، وهذا المعنى بلفظه أخذه ذو الرمة فقال طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر فإذا اضطر الوزن إلى الزيادة على اللفظ أو النقص منه اضطراراً، فقد عصته المساواة وأطاعه غيرها مما يأتي في كلامه من البديع بعد الزيادة والنقص الذي استقام بهما الوزن، بشرط أن يكون عدوله عن المساواة إلى غيرها من البديع اضطراراً لا اختياراً. وقد يعدل المتكلم عن المساواة اختياراً، ولا تكون المساواة عصته إلا في ظن من يرى ظاهر كلامه فيجد فيه ما يوهم بأنه زيادة، ويكون عدوله لمعنى أجل من المساواة، فيكون قد أطاعه ذلك المعنى، ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قل رب احكم بالحق " فإن ظاهر اللفظ يوهم أن لفظة بالحق مستغنى عنها، للعلم بأن الله سبحانه لا يحكم إلا بالحق، فإنه قد ثبت أنه موصوف بالعدل بالدليل العقلي، فعدل عن المساواة، وأتى بهذه الزيادة ليضمن الكلام ضرباً من المحاسن يسمى الافتنان، فإن المراد تعجيل ما يستحقه الكفار من العذاب، ولذلك حصل في الكلام افتنان، وهو الجمع بين الأدب والهجاء، لأن من يستحق الدعاء عليه بالعقوبة ملوم، والله أعلم. وقد أفردت لهذه الآية الكريمة تأليفاً استخرجت منها ستة عشر ضرباً من البديع، خفت من سياقتها في هذا الكتاب من الإطالة، فعلى هذا يكون مراد عوف في بيته الذي قدمناه عند ما وقع المعنى في نفسه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وقصد إخراجه من القوة إلى الفعل أن يقول: إن الثمانين قد أحوجت سمعي إلى ترجمان، وعلم أن الوزن لا يستقيم إلا بزيادة كلمة على ذا اللفظ المساوي معناه، فأتى بها متضمنة معنى الدعاء للمدوح، ليحصل بها في الكلام ضرب من البديع، وهو التتميم، نظراً إلى نقص الوزن، والتكميل نظراً إلى كون المعنى تاماً، وليكون عوضاً مما فاته من المساواة حذقاً منه، ولو أتى بها لا يفيد إلا إقامة الوزن فحسب، كانت عيباً فليسوغ أن يقال: إن في هذا البيت طاعة وعصياناً، لكون الشاعر عصته فيه المساواة التي قصدها وقت الشروع في سبكه وبنيته، وأطاعه التتميم، وعلى هذا يكون كل بيت من شواهد التتميم، وقع التتميم الذي فيه زائداً على معناه غير متمم لنقصه شاهداً للطاعة والعصيان، ومثل هذا هو تتميم الوزن لا تتميم المعنى، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 باب التسميط وهو أن يعتمد الشاعر تصيير بعض مقاطع الأجزاء، أو كلها في البيت على سجع يخالف قافية البيت، كقول مروان بن أبي حفصة طويل: هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابو، وإن أعطوا أطابوا، وأجزلوا فأتت بعض أجزاء هذا البيت مسجعة على خلاف قافيته، لتكون القافية بمنزلة السمط، والأجزاء السجعة بمنزلة حب العقد، لكون التسميط يجمع حب العقد ويربطه، والفرق بين التسميط والتفويف، تسجيع بعض أجزاء بيت التسميط، وخلو كل أجزاء بيت التفويف من السجع بتة، والمراد بأجزاء التسميط بعض أجزاء التقطيع، ويسمى تسميط التبعيض. ومن التسميط نوع آخر يسمى تسميط التقطيع، وهو أن يسجع جميع أجزاء التفعيل على روى يخالف روى القافية، كقولي بسيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وأسمر مثمر بمزهر نضر ... من مقمر مسفر عن منظر حسن فجاءت جميع أجزاء التفعيل في هذا البيت من سباعيها وخماسيها مسجعة على خلاف سجعة الجزء الذي هو قافية البيت، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 باب المماثلة وهو أن تتماثل ألفاظ الكلام أو بعضها في الزنة دون التقفية، كقول الله سبحانه وتعالى: " وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب، إن كل نفس لما عليها حافظ " فالطارق والثاقب وحافظ متماثلات في الزنة دون التقفية، وقد تأتي بعض ألفاظ المماثلة مقفاة من غير قصد، لأن التقفية في هذا الباب غير لازمة، كقول امرئ القيس متقارب: فتور القيام، قطوع الكلام ... تفتر عن ذي غروب خصر كأن المدام، وصوب الغمام ... وريح الخزامى، ونشر القطر يعل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر، المستحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وكقول الشاعر على أصل الباب في التزام الزنة دون التقفية متقارب: صفوح، كريم، رصين إذا ... رأيت العقول بدا طيشها نداه سحوح على أنفس ... به اخضر لما سقى عيشها والبيت الأول أردت. والفرق بين المماثلة والمناسبة توالي الكلمات المستويات في المماثلة، وتفارقها في المناسبة ومن أمثلة المماثلة قول أبي ذؤيب وافر: معتقة، مصفقة، عقار ... شآمية، إذا جليت مروح فقوله: معتقة، مصفقة، شآمية متماثلة لتساوي الكلام في الزنة، وهذا البيت من أقوى دليل على أن التقفية في المماثلة غير لازمة، إذ لو كانت لازمة لأتى بشآمية على سجع معتقة مصفقة. لكنه لما لم يأت بأول العجز على سجع أول الصدر، علم أن التقفية في هذا الضرب غير لازمة. ومثله قول أوس بن حجر متقارب: مليح، نجيح، أخو مأقط ... يكاد يخبر بالغائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 باب التجزئة وهو أن الشاعر يجزئ البيت من الشعر جميعه أجزاء عروضية، ويسجعها كلها على رويين مختلفين، جزء يجزء، إلى آخر البيت الأول من الجزأين، على روى مخالف لروى البيت، والثاني على روى البيت كقول الشاعر " رمل ": هندية لحظاتها، خطية خطراتها، دارية نفحاتها ومثال الثاني الذي سجع كل ثان من أجزائه زائداً على قافيته قول أبي تمام طويل: تجلى به رشدي، وأثرت به يدي ... وطاب به ثمدي، وأورى به زندي وكقول المتنبي بسيط فنحن في جذل، والروم في وجل ... والبر في شغل؛ والبحر في خجل والتجزئة تفارق التسميط من وجهين: أحدهما تقسيم بيتها على ثلاثة أجزاء مسجعة إن كان سداسياً، أو أربعة مسجعة إن كان ثمانيا. والثاني التزام السجع في الأجزاء على قافية البيت والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 باب التسجيع وهو أن يتوخى المتكلم أو الشاعر في أجزاء كلامه، بعضها غير متزنة بزنة عروضية ولا محصورة في عدد معين، بشرط أن يكون روي الأسجاع روي القافية، والفرق بينه وبين التسميط كون أجزائه على روى قافيته، وبينه وبين التجزئة اختلاف زنة أجزائه، ومجيئها على غير عدد محصور معين، ومثاله قول أبي تمام طويل: تجلى به رشدي، وأثرت به يدي ... وطاب به ثمدي، وأورى به زندي وقول ديك الجن كامل: حر الإرهاب وسميه، بر الإيا ... ب كريمه، محض النصاب صميمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 والأجزاء المسجعة من هذا البيت التي هي بعض أجزائه غير متزنة زنة عروضية، وإن تماثلت في زنة بعضها لبعض، والفرق بينه وبين المماثلة، كون أجزائه المسجعة اتزنت زنة غير زنة عروضية، وأتت مفرقاً ما بينها، وأتى تسجيعها على روي بيتها، بخلاف أجزاء المماثلة، وتسجيع أجزاء المماثلة على غير روي بيتها والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 باب الترصيع الترصيع كالتسجيع في كونه يجزئ البيت إما ثلاثة أجزاء إن كان سداسياً، أو أربعة إن كان ثمانياً وسجع على ثاني العروضين دون الأول، وأكثر ما يقع الجزءان المسجع والمهمل في الترصيع مدمجين إلا أن أسجاع التسجيع على قافية البيت، والفرق بينه وبين التسميط المسمى تسمي التبعيض أن المسجع من قسمي التسميط معاً هي أجزاء عروضية، والمسجع من الترصيع أجزاء غير عروضية لوقوع السجع في بعض الأجزاء، ومثال الترصيع قول أبي صخر من أناشيد قدامة بسيط وتلك هيكلة خود مبتلة ... صفراء رعبلة في منصب سنم عذب مقبلها خدل مخلخلها ... كالدعص أسفلها مخضوبة القدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 سود ذوائبها، بيض ترائبها ... محض ضرائبها، صيغت على الكرم سمح خلائقها، درم مرافقها ... يروي معانقها من بارد شبم كأن معتقة، في الدن مغلقة ... صفراً مصفقة من رابئ ودم شيبت بموهبة، من رأس مرقبة ... جرداء مهيبة، في حالق شمم خالط طعم ثناياها وريقتها ... إذا يكون توالي النجم كالنظم فهذا القسم من الترصيع يحسن أن يسمى الترصيع المدمج، لا، كل جزء مسجع من أجزائه مدمج في الجزء الذي قبله فرقاً بينه وبين ما ليس كذلك من الترصيع، فإن من الترصيع ما أجزاؤه المسجعة غير مدمجة فيما قبلها، ومثاله قول مسلم بن الوليد بسيط كأنه قمر، أو ضيغم هصر ... أو حية ذكر، أو عارض هطل وهذا القسم من الترصيع بلتبس بالتسميط التباساً شديداً، والفرق بينهما أن التسجيع في التسميط على الجزء الأول من الأجزاء العروضية، وفي الترصيع على ثاني العروضيين، ألا ترى التسجيع من التسميط في بيت مروان جاء في الخماسي لما كان من بحر طويل، وجاء التسجيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 من الترصيع في بيت مسلم في الخماسي أيضاً لما كان البيت من بحر البسيط، لكون الخماسي أول الجزأين من الطويل والخماسي ثاني الجزأين من البسيط، وهذا الوضع مما يسأل عنه من يدعي هذا العلم. ويتنخل من ذلك أن الفرق بين التسميط والترصيع من وجهين: أحدهما كن الترصيع يكون بأجزاء مدمجة وغيرها، والتسميط لا يقع فيه الإدماج ألبتة. والثاني أن ما لا إدماج في أجزائه من الترصيع يقع التسجيع منه في ثاني العروضين، ومن التسميط في أولهما، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 باب التصريع التصريع على ضربين: عروضي، وبديعي، فالعروضي عبارة عن استواء عروض البيت وضربه في الوزن والإعراب والتقفية، بشرط أن تكون العروض قد غيرت عن أصلها لتلحق الضرب في زنته. والبديعي استواء آخر جزء في الصدر، وآخر جزء في العجز في الوزن والإعراب والتفقيه، ولا يعتبر بعد ذلك أمر آخر، وهو في الأشعار كثير، لا سما في أول القصائد، وكثير ما يأتي في أثناء قصائد القدماء؛ ويندر مجيئة في أثناء قصائد المحدثين، ووقوعه في الأعشار دليل على غزر مادة الشاعر، وحكمه في الكثرة والقلة حكمن بقية أنواع البديع، إذ كل ضرب من البديع متى كثر في شعر سمج، كما لا يحسن خلو الكلام منه غالباً، وكل ما جاء منه متوسطاً من غير تكلف فهو المستحسن، وقد يأتي بعض أوائل القصائد مصمتاً، ويأتي التصريع في أثنائها بعد ذلك. وقد قسمه أهل الصناعة قسمين: قسم سموه تصريع التكميل، وقسم سموه تصريع التشيطر، ورأيت منهم من جعل هذا القسم الثاني باباً مفرداً يسميه التشيطر من غير أن يضيف إليه لفظة التصريع. ومثال التصريع العروضي قول امرئ القيس طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي ومثال التصريع البديعي قوله في أثناء هذه القصيدة: ألا إنني بال على جمل بال ... يقود بنا بال ويتبعنا بال وقوله أيضاً بعد تصريع أول القصيدة المعلقة، وإن كان إطلاق التصريع عليها إطلاقاً بديعياً، لا عروضياً، إذ أولها عند العروضين مقفى لا مصرع طويل: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل ومثال ما وقع في أثناء القصيدة وأولها مصمت قوله متقارب: تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضيرك لو تنتظر فإن أول هذه القصيدة على أصح الروايتين لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر ثم والى التصريع بعد قوله: تروح من الحي أم تبتكر فقال أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وأهل البديع يسمون التقفية تصريعاً، إذ لا يعتبرون الفرق بينهما. والتصريع في أثناء القصائد والإصمات في أوائلها يستحسن من القدماء، ويستحسن من المحدثين، لأنه من العرب يدل على قوة العارضة وغزر المادة، وعدم الكلفة وتخلية الطبع على سجيته، وهو من المحدثين دليل على قوة التكلف غالباً، ولا يحسن التصريع لأنه لا يأتي منهم إلا مقصوداً، ولا يحسن التصريع إلى ابتداء شعر غير الشعر الذي تقدم ... ألا ترى إلى كون امرئ القيس لما فرغ من ذكر الحماسة في القصيدة الرائية التي ذكرنا منها الأبيات المتقدمة، وشرع في ذكر النسيب صرع، وإذا استقريت أشعارهم وجدت أكثرها كما ذكرت لك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 باب التشطير هذا أن يقسم الشاعر بيته شطرين، ثم يصرع كل شطر من الشطرين، لكنه يأتي بكل شطر مخالفاً لقافية الآخر ليتميز من أخيه، فيوافق فيه الاسم المسمى، وذلك كقول مسلم بن الوليد بسيط موف على مهج، في ويم ذي رهج ... كأنه أجل، يسعى إلى أمل وكقول أبي تمام بسيط تدبير معتصم، بالله منتقم ... لله مرتغب، في الله مرتقب وعندي أن بيت أبي تمام أولى من بيت مسلم بهذا الباب، لأنه عمد إلى كل شطر قدره بيتاً وصرعه تصريعاً صحيحاً، وبيت مسلم شطره الأول مصرع تصريعاً صحيحاً، وشطره الثاني ليس بمصرع لمخالفة روي وسطه روي آخره في الإعراب، اللهم إلا أن يجعل الشطر على ضربين: ضرب يصرع فيه أحد الشطرين دون الآخر، وضرب يصرعان فيه معاً. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 باب التعليل وهو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع، أو متوقع فيقدم قبل ذكره علة وقوعه، لكون رتبة العلة أن تقدم على المعلول، كقوله سبحانه: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " فسبق الكتاب من الله علة في النجاة من العذاب. وكقوله تعالى: " ولولا رهطك لرجمناك "، فوجود رهطه علة في سلامته من قومه، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لولا أخاف أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " فخوف المشقة على الأمة هو العلة في التخفيف عنهم من الأمر بالسواك عند كل صلاة. ومن الأمثلة الشعرية في ذلك قول البحتري متقارب: ولو لم تكن ساخطاً لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا فوجود سخط الممدوح هو العلة في شكوى الشاعر الزمان، وكقول أبي القاسم بن هانئ الأندلسي طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى ... لما كنت أدري علة للتيمم فعلل درايته علة التيمم بمصافحة رجل صاحبته صفحة الثرى وهذا من غلو ابن هانئ المعروف فلحى الله غلوه كيف يقول: إنه لم يدر علة التيمم إلا بما ذكر، وقد وردت علة التيمم من نص الكتاب والسنة: أما نص الكتاب فقوله تعالى: " فتيمموا صعيداً طيباً " وما نص السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " وحديث عمار بن ياسر في التيمم مشهور وأخرجه مسلم. أراد ابن هانئ الإغراب في هذا المعنى، فوقع فيما عادته أن يقع فيه من الغلو، وأحسن من قوله قول ابن رشيق القيرواني في تعليل قوله عليه السلام: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " حيث قال وافر: سألت الأرض لم جعلت مصلى ... ولم كانت لنا طهراً وطيبا فقالت غير ناطقة لأني ... حويت لكل إنسان حبيبا فتخلص مما وقع فيه ابن هانئ لكونه ذكر أنه سأل الأرض عن العلة التي بسببها جعلها الله تعالى لرسوله عليه السلام مسجداً وطهوراً، وتلطف في استخراج علة مناسبة لا حرج عليه في ذكرها بنفسه، فكيف وقد ذكرها على لسانها في جواب سؤاله، وأبو تمام الذي فتح له باب هذا المعنى ونبهه على استخراج هذه العلة بقوله طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 رباً شفعت ريح الصبا بنسيمها ... إلى الغيث حتى جادها وهو هامع كأن السحاب الغر غيبن تحتها ... حبيباً فما ترقا لهن مدامع والبيت الثاني، أردت لأن أبا تمام تلطف لمعناه غاية التلطف، إذ جعل دوام مطر السحاب على هذا الربا إنما كان بمنزلة البكاء من ثاكل دفن محبوباً له، فهو دائم البكاء على قبره، فكأنه جعل العلة في دوام السقيا كون الحبيب تحت تلك الأرض المسقية، ومن هاهنا جعل ابن رشيق العلة في كون الأرض مسجداً وطهوراً لكافة الناس الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كونها حوت لكل بشر حبيباً، وهذه كلها أمثلة الكلام الذي جاء على وجهه في تقديم علة حكمه على الحكم، وأما ما جاء منه متقدم المعلول على العلة إغراباً وطرفة، فكقول مسلم بن الوليد بسيط يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجى حذارك إنساني من الغرق فإن هذا البيت لم يسمع في هذا الباب مثله، لأنه مسلماً أغرب في معناه بتلطفه في تحسين إساءة الوشي، لإنجائه إنسان عينه من الغرق بالدمع، لامتناعه من البكاء لحذره منه، فغاير في ذلك الناس، أعني استحسان الإساءة، وكأنه سئل عن استحسانه إساءة الواشي، ففسر ذلك بنجاة إنسانه من الغرق، وأدمج في هذا المعنى معنى الاعتذار عن عدم البكاء، وتبيين العلة في ذلك من جهة حذره من الواشي بحبه، وفي ذلك فضيحة محبوبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 واحترس من توهم متوهم أن جمود عينه لغلبة جلده على حبه، وصبره على جزعه، إذ ذلك مناف لصحة مذاهب الناس في الغزل، وجاء في ضمن ذلك الإدماج بالمبالغة، إذ مفهوم كلامه وملزومه أنه لولا حذره من الواشي لبكى بدمع يغرق إنسانه بحيث لا ينحسر عنه الماء أبداً، فإنه أطلق عليه لفظ الغرق، وهذا حكم كل غريق، هذا إلى ما وقع في البيت من مساواة معناه للفظه، وائتلافه معه ومع وزنه، وحصول المطابقة اللفظية فيه، وعذوبة ألفاظه، وسهولة سبكه، وقرب متناوله، وصحة دلالته، وتمكين قافيته، فاشتمل هذا البيت على ثلاثة عشر نوعاً من البديع، وهي الإغراب والطرفة، والتعليق، والإدماج، والاحتراس، والمبالغة، والتعليل، والمطابقة، والمساواة، والتغاير، والتفسير، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع الوزن، والتمكين، وقد تشبث القاضي السعيد رحمه الله بأذيال مسلم في هذا المعنى، وأحسن ابتاعه باختيار بعض هذه الأنواع حيث قال خفيف: علمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح فالجامع بين هذا البيت والبيت الذي قبله وقوع الإحسان من الإساءة، فبيت السعيد وإن شارك بيت مسلم في المساواة، والتعليق، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع الوزن، وتمكين القافية، والتفسير والتعليل، فقد أعوزه الإغراب والمغايرة والمطابقة والاحتراس والإدماج والمبالغة، على أن صريح بيت السعيد مأخوذ من قول القائل منسرح: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 أعتقني سوء ما صنعت ال؟ ... رق فيا بردها على كبدي فصرت عبداً للسوء فيك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد وهذان البيتان في معناهما من أحسن ما سمع، وأكمل وأمتن شعر وأفضل، ولولا الإفراط في الإطالة بينت مانيهما، والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 باب التطريز وهو أن يبتدئ المتكلم أو الشاعر بذكر جمل من الذات غير مفصلة، ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب العدد الذي قدره في تلك الجملة الأولى، فتكون الذوات في كل جملة متعددة تقديراً والجمل متعددة لفظاً والصفة الواحدة المخبر بها عن تلك الذوات متعددة لفظاً، وعدد الجمل التي وصفت بها الذوات لأعدد الذوات عدد تكرار واتحاد لا تعداد تغير، وذلك كقول ابن الرومي وافر: أموركم بني خاقان عندي ... عجاب في عجاب في عجاب قرون في رؤوس في وجوه ... صلاب في صلاب في صلاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وكقوله وافر: وتسقيني وتشرب من رحيق ... خليق أن يلقب بالخلوق كأن الكأس في يده وفيها ... عقيق في عقيق في عقيق ومثل ذلك قول القائل، وأنا أشك هل هو لأبي نواس أو ابن المعتز وافر: فثوبي والمدام ولون خدي ... شقيق في شقيق في شقيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 باب التوشيع هو من الوشيعة، وهي الطريقة في البرد المطلق، فكأن الشاعر أهمل البيت كله إلا آخره، فإنه أتى فيه بطريقة تعد من المحاسن. وهو عند أهل الصناعة عبارة عن أن يأتي المتكلم أو الشاعر ابسم مثنى في حشو الجز، ثم يأتي تلوه باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى، يكون الأخير منهما قافية بيته أو سجعة كلامه، كأنهما تفسير ذلك. وقد جاء من ذلك في السنة ما لا يلحق بلاغة، وهو قوله عليه السلام: " يشب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص، وطول الأمل ". ومن أمثلة هذا الباب في الشعر قول الشاعر بسيط أمسى وأصبح من تذكاركم وصباً ... يرثي لي المشفقان الأهل والولد قد خدد الدمع خدي من تذكركم ... واعتادني المضنيان الوجد والكمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم ... وخانني المسعدان: الصبر والجلد لا غرو للدمع أن تجري غواربه ... وتحته المضرمان: القلب والكبد كأنما مهجتي شلو بمسبعة ... ينتابها الضاريان: الذئب والأسد لم يبق غير خفي الروح في جسدي ... فدى لك الباقيان: الروح والجسد وهذه الأبيات جيدة، لو لم يقع في البيت الأول منها تقصير عما يجب في مثله على الطريقة المحمودة من طرائق النسيب حيث قال: " يرثي لي المشفقان "، فإنه ليس من الكلام البليغ قول من يشكو محنة قد رثى لي المشفق منها، وأبلغ منه قول من يقول رثى لي العدو ورق لي الصخر، وأشباه ذلك وما بشعر قلته في هذا المعنى من بأس، وهو بسيط بي محنتان ملام في هوى بهما ... رثى لي القاسيان: الحب والحجر لولا الشفيقان من أمنية وأسى ... أودى بي المرديان: الشوق والفكر ويحسن أن يسمى ما وقع في بيتي تطريف التوشيع، إذ وقع التوشيع في طرفي كل بيت في أوله وآخره، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 باب العكس والتبديل وهو أن يأتي الشاعر إلى معنى لنفسه، أو لغيره فيعكسه، فمثال ما عكس الشاعر من المعاني لغيره قول أبي العتاهية يشبه الرايات بالسحاب وافر: ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب فعكسه علي بن الجهم فقال يشبه السحابة بالرايات طويل: فمرت تفوق الطرف حتى كأنها ... جنود عبيد الله ولت بنودها وما أدري كيف وصف ابن الجهم جنود ممدوحه بالتولي في الحرب! وهو من صفات الذم، فقال الله سبحانه وتعالى: " فلا تولوهم الأدبار ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وقال علي عليه السلام وقد قيل له ورثي عيه درع وهي صدر بلا ظهر: ألا وقيت ظهرك، فقال إن وليت فلا وألت هذا الإنكار وقع مني على ما روى لي عنه، فإن الذي روى لي البيت له ذكر أن عبيد الله المذكور فيه هو ممدوحه بهذه القصيدة، والعهدة على الراوي، ومن هذا القسم قول الشاعر بسيط قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل فعكسه غيره فقال بسيط وربما فات بعض القوم أمرهم ... مع التأني وكان الحزم لو عجلوا ومن القسم الثاني، وهو عكس الشاعر معنى نفسه قول الأول خفيف: وإذا الدر زان حسن نساء ... كان للدر حسن وجهك زينا ومثله قول الآخر طويل: منعمة الأطراف زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها ولبعض الشعراء فيمن مدحه، فتغير عليه ومطله بسيط ها قد غدا من ثياب الشعر في كفن ... وقد تعفت معاني وجهه الحسن وكان يعرض عني حين أبصره ... فصرت أعرض عنه حين يبصرني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 والبيت الثاني أردت: ومن هذا الباب قول بعضهم وافر: فإن أك في شراركم قليلاً ... فإني في خياركم كثير ويروي للرشيد هارون متقارب: لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي بسرى نموم مذيع فلولا دموع كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع والبيت الثاني أردت، هو كقول أبي نواس كامل: فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر ومن مليح العكس والتبديل قول عبد الله بن الزبير الأسدي وافر: رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا وقد استشهد قوم بهذا البيت على المطابقة، وهو بهذا الباب أولى لما فيه من عكس مطابقة عجزه لصدره، وتبديل الطباق في العجز. ومن باب العكس في الكتاب العزيز قوله تعالى " ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عيهم من شيء " والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 باب الإغراق الإغراق فوق المبالغة، ودون الغلو، ولا يقع شيء من الإغراق والغلو في الكتاب العزيز، ولا الكلام الصحيح الفصيح إلا مقروناً بما يخرجه من باب الاستحالة، ويدخله في باب الإمكان، مثل كاد وما يجري مجراها. ومن أمثلته قول ابن المعتز طويل: صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل فموضع الإغراق من البيت قوله: ظالمين يعني أنها استفرغت جهدها في العدو، فيما ضربناها إلا ظلماً، ولا جرم أنها خرجت من الوحشية إلى الطيرية، ولو لم يقل: ظالمين لما حسن قوله فطارت ولكنه بذكر الظلم صارت الاستعارة كأنها حقيقة. وقد أنشد بعض المؤلفين بيتين في هذا الباب مستحسناً لهما وهما متقارب: أليس عجيباً بأن امرأً ... شديد الجدال دقيق الكلم يموت وما علمت نفسه ... سوى علمه أنه ما علم وعندي أن هذين البيتين ليس فيهما إغراق ألبتة، بل لو قيل إنهما ليس فيهما مبالغة لما رد هذا القول، لأن الشاعر أخبر عن نفسه أو نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 من قصده بذلك أنه عارف بجهله، وأنه يموت وما علم سوى ذلك من نفسه، وهذا أصدق الشعر الذي استحسنه أكثر الفحول، وجاءت أكثر أشعارهم عليه، ولو كان قال: إنه يموت وما علم بجهله لكان ذلك إغراقاً، فلا تثبت له مبالغة إلا بوجه بعيد، وذلك أنه أثبت لنفسه الجهل المحض، ونفى عنها العلم بتة، وهو لا بد وأن يكون عالماً بشيء ما، فنفيه كل العلم عنه وهو يعلم بعضه إنما هو من جهة المبالغة. ولي في هذا المعنى بيت من أبيات ما به من بأس، وهو من أمثلة الباب طويل: جهلت ولم تعلم بأنك جاهل ... فمن لي بأن تدري بأنك لا تدري وبيت امرئ القيس في صفة النار الذي قدمت ذكره في باب المبالغة هو بالإغراق أولى، وقد أشرت إلى ذلك متقدماً عند ذكره وهو طويل: تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 باب الغلق وقد رأيت من لا يفرق بين الغلو والإغراق، ويجعل التسميتين لباب واحد، وعندي أن معنى البابين مختلف كاختلاف اسميهما، إلا أن الإغراق أصله في النزع، وأصل الغلو بعد الرمية، وذلك أن الرامي ينصب غرضاً يقصد إصابته، فيجعل بينه وبينه مدى يمكن معه تحيقي ذلك الغرض، فإذا لم يقصد غراً معيناً، ورمى السهم إلى غاية ما ينتهي إليه بحيث لا يجد مانعاً يمنعه من استيفاء السهم قوته في البعد سميت هذه الرمية غلوة فالغلو مشتق منها، ولما كن الخروج عن الحق إلى الباطل يشبه خروج هذه الرمية عن حد الغرض المعتاد إلى غير حد سمي غلواً، قال الله سبحانه وتعالى: " قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق " وهو لا يعد من المحاسن إلا إذا اقترن به ما يقربه من الحق، كقد للاحتمال، ولو ولولا للامتناع، وكاد للمقاربة، وأداة التشبيه، وآلة التشكيك، وأشابه ذلك من القرائن اللفظية. وقد يكون الغلو حقاً من جهة المعنى، كالغلو في الدين، فإنه قسمان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 حق وباطل، فالحق فحص الإنسان عن دينه، وإفراط ورعه وتحرجه، كقول بعضهم: إنما الزهد في الجلال، والغلو: الباطل، كقول النصارى في المسيح عليه السلام. وفي قوله تعالى " لا تغلوا في دينكم غير الحق " دليل على أن من الغلو ما هو حق، وهو ما أشرنا إلهي، وإن كان الغلو في الدين دين الله قد يكون في بعض الأحايين حقاً فالتوسط خير منه كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير الأمور أوساطها ". ومن شواهده المستحسنة قول مهلهل وافر: فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور وقد قيل: إن هذا البيت أكذب بيت قالته العرب، وإن بيت امرئ القيس في صفة النار أقرب منه إلى الحق، لأن فيه ما يخلص به من الطعن وهو اعترافه ببعد مسافة النار، وأنها لم يدنها إلا النظر العالي، وقالوا: حاسة البصر أقوى من حاسة السمع، لأن أقوى سمع وأصحه إنما يسمع أعظم صوت من ميل واحد، بشرط حمل الريح ذلك الصوت إلى جهة السامع في الليل عند هدوء الأصوات وسكون الحركات، وحاسة البصر تبصر الجواهر الشفافة، والأجسام الصقيلة، والأجرام المضيئة من بعد يتجاوز الحد بغير واسطة، ورؤية النيران العظيمة المرتفعة مواقدها للناظر المرتفع مكانه ممكنة من البعد ما لم يمنع من ذلك ضوء النهار، ويحول مخروط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ظل الأرض دونها، وقد كانت زرقاء اليمامة ترى الجيوش خيلها ورجلها، وتحزر أعدادها من مسيرة ثلاثة أيام، وتنذر به قومها، ويقع الأمر على ما أخبرت به، وقد تواتر الخبر عنها بذلك، وضرب بها المثل، وقد تقدم ذكر النابغة لها في قصة الحمام، فلهذا رجحوا بيت امرئ القيس على بيت مهلهل، وعندي أن بيت مهلهل أقرب إلى الصدق والاستحسان من بيت امرئ القيس على شرطهم، فإنهم شرطوا أن كل كلام تجاوز المتكلم فيه حد المبالغة إلى الإغراق والغلو، واقترن بما يقربه من الإمكان خرج من حد الاستقباح إلى حد الاستحسان، وقد تقدم في بيت مهلهل لولا، وهي من الحروف التي زعموا أن الكلام باقترانه بها يبعد من العيب بتة، وليس في بيت امرئ القيس شيء من ذلك، مع أنه قد صرح في البيت الذي قبله أن النار إنما شبت في وجه النهار، عند رجوع المغيرة، من المغار حيث قال: " تشب لقفال "، وضوء النهار يمنع من رؤية النيران والكواكب وجميع الأجرام المضيئة، وهذا القدر يدخل بيت امرئ القيس في باب الاستحالة، مع خلوه مما يقربه من الإمكان، والبيت الذي هو عندي من عيوب هذا الباب لمجيء الإفراط فيه غير مقترن بما يخلصه به من ذلك، وليس مما يحتمل تأويلاً يقربه من الصدق ميت النمر بن تولب الذي يشبه فيه نفسه بالسيف حيث قال بسيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أبقى الحوادث والأيام من نمر ... أسباد سيف صقيل أثره باد تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي وقد تأول بعضهم هذا البيت تأويلاً لو صح تخلص به قائله من العيب، وهو أن قوله: بعد الذراعين والساقين والهادي لم يرد أنك تحفر عنه بعد حفرك على هذه الأعضاء، لأنه لم يرد إلا أعضاء المضروب لا أعضاء الضارب، يعني بعد قده الذراعين والساقين والهادي، وهذا عندي لا يخلصه، فإنه على هذا التأويل لم يخرج عن كونه غلوا غير مقترن بما يخلص. والذي هو أقرب منه بحيث لا يجوز أن يؤتى به في باب الغلو ولا يخرج عن كونه مبالغة قول النابغة في صفة السيوف طويل: تقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقدن في الصفاح نار الحباحب وما تجاوز حد المبالغة فهو غلو، لا سيما وهو غير مقترن، وإذا ثبت أن بيت النابغة أحسن أحواله أن يعد من المبالغة لا من الإغراق، وأن بيت النمر قد تجاوز حدث فهو من الغلو ولما كان ما جاء من الغلو مستحسناً، لا يكون إلا باقترانه بما تقدم، وما جاء منه غير مقترن كان مستقبحاً. وجاء بيت النمر غير مقترن علم أنه من الغلو المستقبح. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 باب القسم وهو أن يريد الشاعر الحلف على شيء، فيحلف بما يكون له مدحاً، وما يكسبه فخراً، أو ما يكون هجاء لغيره، وأو ويعداً له، أو جارياً مجرى التغزل والترقق. فأما الأول فمثاله قول الأشتر النخعي كامل: بقيت وفرى وانحرفت إلى العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس إن لم أشن على ابن هند غارة ... لم تخل يوماً من نهاب نفوس وأبيات الأشتر تضمنت فخراً له، ووعيداً لغيره، فحصل فيها الأفتان مقترناً بالقسم، وكقول أبي على البصير كامل: أكذبت أحسن ما يظن مؤملى ... وهدمت ما شادته لي أسلافي وعدمت عاداتي التي عودتها ... قدما من الإتلاف والإخلاف وصحبت أصحابي بعرض معرض ... متحكم فيه ومال واف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وغضضت من نارى ليخفي ضوؤها ... وقريت عذراً كاذباً أضيافي وإن لم أشن على علي خلة ... تضحى قذى في أعين الأشراف وقد يقسم الشاعر بما يزيد الممدح مدحاً، كقول القائل كامل: آثار جودك في الخطوب تؤثر ... وجميل بشرك بالنجاح يبشر إن كان لي أمل سواك أعده ... فكفرت نعمتك التي لا تكفر وأما ما جاء من القسم في النسيب فكقول الشاعر طويل: جنى وتجنى والفؤاد مطيعه ... فلا ذاق من يجني عليه كما يجني فإن لم يكن عندي كعيني ومسمعي ... فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني ومما جاء في الغزل من القسم قول ابن المعتز بسيط. لا والذي سل من جفنيه سيف ردى ... قدت له من عذارية حمائله ما صارمت مقلتي دمعاً ولا وصلت ... غمضاً ولا سالمت قلبي بلابله وهذا أحسن ما وقع في الغزل من القسم، إذ القسم والمقسم عليه كله داخل في باب الغزل. ومن أحسن ما سمعت في القسم على المدح قول ابن خرداذبة طويل: حلفت بمن سوى السماء وشادها ... ومن مرج البحرين يلتقيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ومن قام في المعقول من غير رؤية ... بأثبت من إدراك كل عيان لما خلقت كفاك إلا لأربع ... عقائل لم تعقل لهن ثوان لتقبيل أفواه وإعطاء نائل ... وتقليب هندي وحبس عنان وإذا انتهيت إلى بلاغة الكتاب العزيز، انتهيت إلى نهاية البلاغة. ومنه قوله تعالى: " فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " فإنه قسم يوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة، وأكمل عظمة للحاصل من ربوبية السماء والأرض، وتحقق الوعد بالرزق، حيث أخبر سبحانه أن الرزق في السماء، وأنه رب السماء، فيلزم من ذلك قدرته على الرزق الموعود به دون غيره، فعلم أن لا رازق سواه، وأنه لا يحرم رزقه من خلقه، وأما ما حصل من الإيغال إذ قال في الفاصلة سبحان بعد تمام المعنى: " مثل ما أنكم تنطقون " فمثل هذا الوعد بما هو واقع معلوم ضرورة لا يرتاب منها أحد، وكقوله تعالى: " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " أقسم سبحانه بحياة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف الناس عظمته عنده، ومكانته لديه سبحانه، وأخبره بعد القسم بحياته أن المعرضين عنه في سكرتهم تسلية له، كما قال له في غير موضع: " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " وقوله: " قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون "، وهذه نهاية المحبة وغاية الملاطفة، إذ فداه بآيته، وقد كانوا كذلك، فإنه روى أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به " والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 باب الاستدراك والرجوع وهو على قسمين: قسم يتقدم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلم وتوكيد. وقسم لا يتقدمه ذلك، فمن أمثلة الأول قول القائل وافر: هو ابن الرومي: وإخوان تخذتهم دروعا ... فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي ولم أسمع في هذا الباب أحسن من أبيات ابن الدويدة المغربي فيمن أودعت عنده وديعة فادعى ضياعها فقال فيه كامل: إن قال قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي أو قال قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ومن هذا الباب قول القاضي الأرجاني، وهو لطيف جداً " رمل ": غالطتني إذ كست جسمي ضنى ... كسوة أعرت عن اللحم العظاما ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما والبيت الثاني أردت، وقد لطف القائل في شكوى الزمان طويل: ولي فرس من نسل أعوج سابق ... ولكن على قدر الشعير يحمحم وأقسم ما قصرت فيما يزيدني ... علواً ولكن عند من أتقدم هذه كلها شواهد القسم الأول من الاستدراك وأما شواهد القسم الثاني منه، وهو الذي لا يتقدم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد، فمثله قول زهير طويل: أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 باب الاستثناء الاستثناء استثناءان: لغوي وصناعي، فاللغوي؛ إخراج القليل من الكثير، وقد فرغ النحاة من ذلك مفصلاً في كتبهم. الصناعي هو الذي يفيد بعد إخراج القليل من الكثير معنى زائداً، يعد من محاسن الكلام، يستحق به الإيتان في أبواب البديع، ومتى لم يكن في الاستدراك والاستثناء معنى من المحاسن غير ما وضعا له، لا يعدان من البديع. فمن الاستدراك قول زهير طويل: أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله لأن العرب كانت تعد إتلاف المال في الخمر من المدح البليغ، قال شاعرهم كامل: شريب خمر مسعر لحروب فإنه لو اقتصر على صدر البيت دل على أن ما له موفور، وتلك صفة ذم، فاستدرك ما يزل هذا الاحتمال، وتخلص الكلام للمدح المحض، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ذلك في القرآن قوله تعالى: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " فإنه سبحانه لو اقتصر على قوله: " ولم تؤمنوا " لكان فيه تنفير لكونهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقادهما إيماناً، فأوجبت البلاغة أن يستدرك ما استدركه، ليعلمهم أن حقيقة الإيمان موافقة الجنان للسان بالتصديق، بدليل قوله: " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " فلما تضمن الاستدراك إيضاح ما أشكل عليهم عد من المحاسن، إذ صار الكلام به موصوفاً بحسن البيان لما أقام من الحجة عليهم. وهذا من الباب الذي قبل هذا، وإنما ذكرته هاهنا لما ذكرت أن الاستدراك والاستثناء الصناعيين لا بد أن يكون في كل واحد منهما معنى زائد غير ما وضع له يدخله في المحاسن. والاستثناء كقوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس " فإن في هذا الكلام معنى زائداً على مقدار الاستثناء، وذلك تعظيم أمر الكبيرة التي أتى بها إبليس من كونه خرق إجماع الملائكة، وفارق جميع الملإ الأعلى، بخروجه مما دخلو فيه من السجود لآدم، وذلك بمثابة قولك: أمر الملك بكذا وكذا فأطاع أمره جميع الناس من أمير ووزير إلا فلاناً، فإن الإخبار عن معصية هذا العاصي بهذه الصيغة مما يعظم أمر معصيته، ويفخم مقدار كبيرته بخلاف قولك: أمر الملك بكذا وكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 فعصاه فلان، وفي ضمن ذلك وصف الله سبحانه وتعالى بالعدل فيما ضربه على إبليس من خزي الدنيا وحتمه عليه من عذاب الآخرة. ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " فإن في الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تهويلاً على السامع لتمهيد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه، وحكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تعظيم المدة لكون أول ما يباشر السمع ذكر الألف، واختصار اللفظ، فإن لفظ القرآن أخصر من قولنا تسعمائة سنة وخمسون عاماً كيفما قدرت اللفظتين، فلأن لفظ القرآن يفيد حصر العدد المذكور، ولا يحتمل الزيادة عليه، ولا أن ينقص منه، فإن إخبارك عمن سكن دار ثلاثين يوماً، بأنه سكن عشرين يوماً صادق لأنه سكن العشرين وزيادة، بخلاف قولك: سكن أربعين إلا عشرة أيام، فإن هذا اللفظ لا يحتمل الزيادة. وكقوله سبحانه " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " فإنه سبحان هذا لما علم أن وصف الشقاء يعم المؤمن العاصي، والكافر المسيء، استثنى من حكم بخلوده في النار بلفظ مطمع، حيث أثبت الاستثناء المطلق وأكده بقوله، " إن ربك فعال لما يريد "، أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 من النار، ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة، أكد خلودهم بعد الاستثناء بما يرفع احتمال الاستثناء، حيث قال: " عطاء غير مجذوذ " أي غير منقطع، ليعلم أن عطاءه لهم الجنة غير منقطع، وهذه المعاني زائدة على الاستثناء اللغوي. من أمثلة الاستثناء البديعي في الشعر قول النميري طويل: فلو كنت بالعنقاء أو بأطومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني فإن هذا الاستثناء يتضمن زيادة مدح المادح الممدوح، وذلك أن هذا الشاعر يقول: إنني لو كنت في حال العدم البحت لأن العرب تضرب المثل بالعنقاء لكل شيء متعذر الوجود لخلتك متمكناً من رؤيتي، ليس لك مانع يمنعك منها إلا من جهتك، فأنت في القدرة على غير مغالب، وهذا نهاية المدح. وكقول أبي نواس طويل: لمن طلل عاري المحل دفين ... عفا آيه إلا خوالد جون فهذا الاستثناء تضمن تعظيم الشاعر لما فيه من تعظيم أحبائه، ودل على شرف نفسه وعلو همته، إذ لا يسمو إلا لحب الكرماء من الناس، وذلك أنه استثنى من آيات الطلل ذكره الخوالد الجون وهو يريد الأثافي، فكونه وصفها بالخلود يدل على عظمها دليل على عظم القدور، وعظم القدور دليل على عظم الكرم، وأكد ذلك بجعلها جوناً أي سوداً لكثرة الوقود عليها، وإن كان الجون يطلق على الأبيض والأسود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ولكن القرينة هاهنا خلصته إلى السواد فتم للشاعر من الفخر إلى أه لهذا الطلل ما أراد، وهذا مثل قول عمر بن أبي ربيعة طويل: بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم ومن الاستثناء نوع وقع لي فسميته استثناء الحصر، وهو غير الاستثناء الذي يخرج القليل من الكثير، كقول القائل طويل: إليك وإلا ما تحث الركائب ... وعنك وإلا فالمحدث كاذب فإن خلاصة هذا البيت قول الشاعر للممدوح: لا تحث الركائب إلا إليك، ولا يصدق المحدث إلا عنك، ولا يحصل هذا الحصر من الاستثناء الأول، فإن قوله تعالى: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " لا يمنع أن يقال: إلا خمسين عاماً وعاماً، لولا توخي الصدق في الخبر، وقوله ورهطه، لولا مراعاة الصدق، ولأن الصيغ التي قدرها المعترض لا يقع مثلها في الكلام الفصيح، فإنها عبارة أهل العي والفهه، فإن قلت: كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الاستثناء موضوع للحصر، فلا اختيار لهذا الاستثناء على الأول، وما قدرته في الاستثناء الأول يلزم مثله في هذا الاستثناء إذا أزلت منه التقديم والتأخير، وأتيت بالكلام على استقامته، قلت: الذي ميز هذا الاستثناء على الأول: هو ما فيه من التقديم والتأخير، فإنه على الصورة التي جاء عليها يفيد حصراً أشد من حصر جنس الاستثناء كله. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 باب الاشتراك وهو قسمان: معنوي ولفظي، وكل من هذين القسمين معيب، وغير معيب وحسن: فالمعيب المعنوي كقول الفرزدق طويل: وما مثله في الناس إلا مملك ... أبو أمه حيي أبوه يقاربه فإن لفظة حي مشتركة بين ضد الميت وبين القبيلة، فلما لم يميز بينهما في البيت بقرينة، أو ما يخلصه من الاشتراك ولا يبينه فيما بعد عد اشتراكاً معيباً، على أن البيت معيب من وجه آخر، وهو تعسف السبك، وقد مضى ذكره. ومثال المعنوي الذي ليس بمعيب ولا يحسن قول كثير طويل: وأنت التي حببت كل قصيرة ... إلي ولم يشعر بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطى شر النساء البحاتر فإن لفظة قصيرة مشتركة، فلو اقتصر على البيت الأول كان الاشتراك معيباً، لكنه لما أتى بالبيت الثاني زال العيب فبقي الاشتراك ليس بمعيب ولا بحسن، والذي منعه أن يعد حسناً ما في البيتين من التضمين، فإن ذلك جعل له منزلة بين منزلتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وأما الاشتراك الحسن المعنوي فهو اشتراك الشاعرين في معنى واحد، إذا شارك الأخير الأول اشتراكاً يوجبه له دون الأول، كسائر المعاني التي يتناولها الشعراء بعضهم من بعض. وأما الاشتراك اللفظي الذي ليس بمعيب مثل اشتراك الناس في مفردات الألفاظ، فإنها ليس أحد أحق بها من أد، فلا يعد الاشتراك في الألفاظ المفردة سرقة، فإن تضمنت معنى من معاني النفس، أو معاني اللفظ عد تناولها سرقة، ومثال الأول قول أبي نواس طويل: ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسر حتى ما تقل جفونها فلفظة الاستعفاء مشتركة بينه وبين الأبيرد في قوله يرثي أخاه أو ابنه طويل: وقد كنت أستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه وإن عظم الأجر فمثل هذا هو الاشتراك الحسن ومن الاشتراك الحسن اشتراك الشاعرين أو الشعراء في عمل شعر، وتسميه العرب التمليط بحيث يصنع كل واحد قسيماً، كما حكى عن امرئ القيس والتوءم إذ قال له: ملط أنصاف أبيات آتيك بها، ثم قال وافر: أحار ترى بريقاً هب وهناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فقال التوءم: كنار مجوس تستعر استعاراً فقال امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو سريج فقال التوءم: إذا ما قلت قد هدأ استطارا وأما الاشتراك المعيب فكقول الأسود بن يعفر في صفة الفرس كامل: بمقلص عبل جهير شده ... قيد الأوابد والرهان جواد فلفظ قيد الأوابد مشترك بين الأسود وامرئ القيس في قوله: قيد الأوابد هيكل وهذا الضرب مما يعد سرقة لتضمن اللفظ معنى الإرداف لا سيما والبيتان من باب الوصف للفرس. والاشتراك الذي ليس بمعيب ولا بحسن تناول الشاعر اللفظ المتضمن معنى من معاني البديع بحيث ينقله من فنن إلى فن، وذلك أن يأتي المتكلم بلفظ " قيد الأوابد " مثلاً في غير صفة الفرس وهذا وإن لم يقع فذكره مثال يقاس عليه. وكل هذه الأقسام التي قدمت ذكرها ليست من البديع في شيء، وإنما هي أقسام أحد ضربي الاشتراك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وأما الضرب الثاني منه، وهو الذي يتعلق بكتابنا، فهو مثل قول امرئ القيس طويل: كبكر مقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلل وقول ذي الرمة بسيط كحلاء في برج صفراء في دعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب فوقوع الاشتراك بينهما في وصف المرأة بالصفرة، غير أن الأول شبه الصفرة ببيضة النعام، والآخر بالفضة المموهة، فنقل الثاني لكونه من أهل المدر، متأخر الزمان، وقد رأى الخلف والملوك التشبيه العربي إلى التشبيه الملوكي. والفرق بين الاشتراك اللفظي الذي ليس بمعيب وبين الإيضاح أن الاشتراك في الألفاظ، والإيضاح في المعاني. والله أعلم. هذا الباب مما ظننت أنني استخرجته ولم أسبق إليه، فلما عثرت عليه بعد إتياني به لغيري غيرته باب سميته باب الفرائد فلينزل موضعه؟ ويعد هذا في أبواب من تقدمني، وموضعه بعد باب الاستثناء، وقد أتيت بالباب، فلينقل باب الاشتراك إلى موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 باب التلفيف وهو أن يقصد المتكلم التعبير عن معنى خطر له أو سئل عنه، فيلف معه معنى آخر يلازم كلمة المعنى الذي سئل عنه، كقول الله تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام وقد قال سبحانه له: " وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى " وكقول الرسول عليه السلام وقد سئل عن البحر في حديث أوله: إنا نركب البحر، فحواه السؤال عن ماء البحر هلا تجوز به الطهارة؟ فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 باب جمع المختلفة والمؤتلفة رأيت من المؤلفين من فسر هذه التسمية بما لا يليق بها، وقد استشهد عليها بشواهد من جنس ما فسر به، فاطرحت ذلك وفسرتها بما يليق واستشهدت عليها بشواهد مطابقة لتفسيري، وكذلك فعلت في أكثر الأبواب، ومن وقف على كتابي وكتب الناس في هذا الشأن علم صدق دعواى. والذي أقول في هذه التسمية: إنها عبارة عن أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما، ويروم بعد ذلك ترجيح بمعان تخالف معاني التسوية، كقول الخنساء في أخيها، وقد أرادت مساواته بأبيها مع مراعاة حق الوالد بزيادة فضل لا ينقص بها حق الولد كامل: جاري أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وهما وقد برزا كأنهما ... صقران قد حطا إلى وكر حتى إذا نزلت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر وعلا هتاف الناس أيهما ... قال المجيب هناك: لا أدري برقت صفيحة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري أول فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر وأول من فتح باب هذا المعنى فيما أظن زهير حيث قال بسيط هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا لكن لشعر الخنساء من الفضل في هذا المعنى ما ليس لغيره، وتداول الناس هذا المعنى بعدها، وابتذله الشعراء، فكان فيه أول تابع من المولدين أبو نواس حيث يقول منسرح: ثم جرى الفضل فانثنى قدماً ... دون مداه بغير ترهيق فقيل راشا سهماً تراد به ال؟ ... غاية والنصل سابق الفوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وقال البحتري لابن أبي سعيد الثغري كامل: جد كجد أبي سعيد إنه ... ترك السماك كأنه لم يشرف قاسمته أخلاقه وهي الردى ... للمعتدي وهي الندى للمعتفي فإذا جرى من غاية وجريت من ... أخرى التقى شأواكما في المنصف ومعنى البحتري هذا خالف فيه معاني من تقدمه من أبي نواس والخنساء وزهير، فإنهم رجحوا الأول في الفضل على الثاني ترجيحاً لا ينقص من فضل الثاني ولا يغض منه، والبحتري ساوى بين الثاني والأول من غير ترجيح، وكذلك قوله أيضاً كامل: وإذا رأيت شمائل ابنى صاعد ... أدت إليك شمائل ابنى مخلد كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم تعل رتبة فرقد عن فرقد ومقطوعتا البحتري ليستا من شواهد هذا الباب لما فيهما من المساواة دون الترجيح، وإنما ساق ذكرهما ذكر المعنى الذي ألم به البحتري من المعنى الأول، والله أعلم. ومن جمع المختلفة والمؤتلفة ضرب يأتي الشاعر فيه بأسماء مؤتلفة ثم يصفها بصفات مختلفة، كقول الشاعر بسيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 لله ليلتنا إذ صاحباى بها ... بدر وبدر سماوي وأرضي إن الهوى والهواء الطلق معتدلا ... هذا وهذا ربيع طبيعي بتنا جميعاً وكل في السماع وفي ... شرب المدام حجازي عراقي أسقى وأسقي نديماً غاب ثالثنا ... فالدور منا يميني شمالي ومن جمع المختلفة والمؤتلفة قو العباس بن الأحنف طويل: وصالكم صرم وحبكم قلى ... وعطفكم صد وسلمكم حرب فإن الوصل والحب، والعطف والسلم من المؤتلفة، والصرم والقلى والصد والحرب من المختلفة. وقد جاء الكتاب العزيز من باب المختلفة والمؤتلفة بمعجز لا يلحق سبقاً وهو قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً " فإن القرآن ساوى بين داود وسليمان في المنصب إذ أخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 أن كلاً منهما مرشح للحكم وأهل له، ثم رجح سلميان إذ أخبر عنه بأنه سبحانه فهمه القضية القاطعة للحكم بالعدل، ثم عاد إلى المساواة مراعاة لحرمة الوالد وفضله على الولد بقضية صرح فيها بالمساواة، إذ جعل فهم سليمان وجه المعدلة في الحكم فناله فضل الأبوة، فكان بمعنى الخنساء الذي أخرجته مع فصاحتها وشدة بلاغتها في عدة أبيات مسوقاً في آية وبعض أخرى، هذا إلى ما تضمن القرآن من الزيادة التي لم تقع للخنساء، وهي النكتة في قوله تعالى " وكنا لحكمهم شاهدين " إذ جمع الضمير الذي أضيف إليه الحكم، ومن حقه أن يكون مثنى لعلمه سبحانه أن الحكم من نوادر الأحكام المعادلة، ومثله يتبع ويعمل به، فأخبر أنه سبحانه شهد عليهما في هذا الحكم، وعلى كل من يحكم به تشريفاً لحكم العدل، وإن كان شهيداً على العدل والجور، ولكنه سبحانه يخص العدل بشهادته تشريفاً للعدل، كما قال تعالى " تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " نظراً لمن يعمل بحكم الله تعالى في الوصايا، ومن يتبعه، وأن حكم العدل يقتدي به، والخطأ ليس بقدوة، ولهذا قال: " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها " والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ؟ باب التوهيم وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها، ومراده على خلاف ما يتوهمه السامع فيها، كقول المتنبي متقارب: وإن الفئام التي حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس فإن لفظة الأرجل أوهمت السامع أن لفظة الفئام بالقاف لا بالفاء، ومراد الشاعر الفئام بالفاء التي هي الجماعات، هكذا روى البيت، والمبالغة تقتضيه، إذ القيام بالقاف يصدق على أقل الجمع من العدد، والفئام بالفاء: الجماعات، وأقل ما تكون كل جماعة أقل الجمع فمفهومها أكثر من مفهوم الأول، وما في ذكر القيام بالقاف من تعظيم الممدوح بقيام الناس على رأسه حاصل في عجز البيت في قوله: لتحسد أرجلها الأرؤس فإن مفهوم ذلك قيام من عاد الضمير من أرجلها عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ومن التوهيم قسم آخر، وهو أن يأتي المتكلم بلفظة يوهم بها أن في كلامه لحناً، فإذا انتقد من جهة المعنى وجد فيه جناس من البلاغة يصححه ويمشيه على طريق الإعراب، كقول الرسول عليه السلام: " وما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر " فإن لفظة العشر توهم أنها جاءت على غير الصواب، إذ كانت مؤنثة، والمعدود بها مذكر. والانفصال عن هذا الإشكال أنه لما كان العمل في العشر لا يخص الأيام دون الليالي، والمراد التحضيض على العمل فيها، اقتضت البلاغة الإتيان بما يدل عليهما فصرح بلفظ الأيام ليدل بها على ظرف الصيام، وأبدل منها لفظاً مؤنثاً ليدل به على ظرف القيام، ولما كان لفظ الأيام مؤنثاً ساغ أن يبدل منه المؤنث لكون الصناعة لفظية، ولهذا الموضع من البدل نظائر في القرآن: منها قوله تعالى: " أياماً معدودات " وقوله تعالى " وتلك الأيام نداولها بين الناس " وقد تخالف طريق الإعراب لأجل صحة المعنى المراد، وفي ذلك قوله تعالى: " وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون " والقياس أن يكون ينصرون مجزومة لأنها معطوفة على مجزوم، ولكن لما كان المراد الإخبار بأنهم لا ينصرون أبداً ألغى العطف، وأبقى صيغة الفعل على حالها، لتدل على الحل والاستقبال، ولو جزم لما دل إلا على الحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ومن التوهيم توهيم يوهم أنه طباق أو تورية، أو غير ذلك من المحاسن وليس عند التحقيق كذلك، كقول أبي تمام طويل: تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر فإن قوله: حمر، وخضر يوهم أن ذلك طباق، وليس بطباق، إذا الأحمر لا يضاد الأخضر، فهذا شاهد توهيم المطابقة. وأما شاهد توهيم التورية، فكقولي بسيط رمى ولا وتر عندي قوس حاجبه ... قلبي فقدرت أن القوس موتور فإن لفظة موتور توهم أن فيها تورية، وليست بتورية، لأن الصحيح أن يقال: قوس موترة لا موتورة، لأنها من فعل رباعي، والموتور هو الذي ثار لطلب وتره، والوتر والترة والتار بمعنى. وقد جاء من التوهيم في القرآن الكريم قوله تعالى: " ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " فإن لفظ " غفور رحيم " يوهم أن الغفران والرحمة للمكره لهن، وهما في الحقيقة لهن، وإنما ظهر اللفظ يوهم الأول قبل التدبر. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 باب الاطراد وهو أن تطرد للشاعر أسماء متتالية يزيد الممدوح بها تعريفاً، لأنها لا تكون إلا أسماء آبائه تأتي منسوقة صحيحة التسلسل غير منقطعة، من غير ظهور كلفة على النظم، ولا تعسف في السبك، بحيث يشبه تحدرها باطراد الماء لسهولته وانسجامه، فمتى جاءت كذلك دلت على قوة عارضة الشاعر وقدرته، كقول الأعشى طويل: أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ... وأنت الذي ترجو حباءك وائل وأحسن من هذا البيت قول دريد لكون الأسماء المطردة جاءت في عجز البيت طويل: قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب حتى قال عبد الملك بن مروان لما سمع هذا البيت: لولا القافية لبلغ به آدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ومن هذا الباب قول الحارث بن دوس الإيادي " رمل ": وشاب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد وقد أربى على هؤلاء الشعراء بعض القائلين خفيف: من يكن رام حاجة بعدت عن؟ ... هـ وأعيت عليه كل العياء ؟ فلها أحمد المرجى ابن يحيى ب؟ - ن معاذ بن مسلم بن رجاء فلو لم يقع في هذا البيت التضمين والفصل بين الأسماء بلفظة المرجى لكان غاية لا تدرك، وعقلية لا تملك، هكذا أعظم المؤلفون قبلي أمر هذا البيت، وأثنوا عليه بما حكيته عنهم، وعندي أنه دون بيت دريد بطبقات، وهي أن دريداً اطردت له أربعة أسماء سهلة السبك، مسلسلة الألفاظ بغير فصل في أربعة أجزاء من الطويل: جزآن خماسيان، وجزآن سباعيان، وهذا الشاعر اطردت له خمسة أسماء في ستة أجزاء سباعية، من الخفيف، مع الفصل والتكليف، والتضمين، " ولي في هذا الباب بيت لا بأس به بسيط أجل ملك إلى العلياء منسوب ... محمد بن أبي بكر بن أيوب وهو وإن قلت الأسماء فيه، إلا أن كونه في ابتداء القصيدة، وهو مصرع يحسن أن يكون من أمثلة الباب. وهذه شواهد ما جاء من الاطراد بأسماء إذا فصلت من الإضافة استقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 المضاف إليه بنفسه، وأما ما جاء الاطراد فيه بأسماء إذا فصلت لم يستقل المضاف إليه بنفسه، فكقول أبي تمام كامل: طلبت ربيع ربيعة الممهى لها ... ووردن ظل ربيعة الممدودا بكريها علويها صعبيها ال؟ ... حصنى شيبانيها الصنديدا ذهليها مريها مضريها ... يمنى يديها خالد بن يزيدا نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا والبيتان الأوسطان أردت. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الجزء الثالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 باب التكميل وهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر بمعنى من معاني المدح أو غيره من فنون إذا لشعر وأغراضه، ثم يرى مدحه بالاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل، فيكمله بمعنى آخر، كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة ورأى مدحه بالاقتصار عليها دون الكرم مثلاً غير كامل، فكمله بذكر الكرم، أو بالبأس دون الحلم، وما أشبههه، وقد جاء منه في الكتاب العزيز قوله تعالى: " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " فانظر هذه البلاغة، فإنه سبحانه وتعالى علم وهو أعلم أنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين وإن كانت صفة مدح، إذ وصفهم بالرياضة لأخوانهم المؤمنين والانقياد لأمورهم كان المدح غير كامل، فكمل مدحهم بأن وصفهم بالعزة على الكافرين فأتى بوصفهم بالامتناع منهم، والغلبة لهم، وكذلك قوله سبحانه " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " ومثال التكميل في الشعر قول كعب بن سعد الغنوي طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب فقوله: حليم مدح حسن، وقوله: إذا ما الحلم زين أهله احتراس، لولاه لكان المدح مدخولاً، إذ بعض التغاضي قد يكون عن عجز يوهم أنه حلم، فإن التجاوز لا يكون حلماً محققاً إلا إذا كان عن قدرة، وهو الذي قصده الشاعر بقوله: " إذا ما الحلم زين أهله " ويعضد هذا التفسير قول سالم ابن وابصة: بسيط وحلم ذي العجز ذلك أنت عارفه ... والحلم عن قدرة ضرب من الكرم فحاصل قول الغنوي أن ممدوحه حليم في الموضع الذي يحسن فيه الحلم، ثم رأى أن المدح بمجرد الحلم لا يكمل به المدح، لأن من لم يعرف منه إلا الحلم، ربما طمع فيه عدوه ونال منه ما يذم بسببه، فكمل مدحه بأن قال: مع الحلم في عين العدو مهيب ولقد أحسن هذا الشاعر في احتراسه في صدر البيت وعجزه معاً باحتراسين حسنين. أما الذي في الصدر فقد تقدم تنبيهنا عليه، وهو قوله: " إذا ما الحلم زين أهله "، وأما الذي في العجز فقوله: مع الحلم في عين العدو مهيب لأن المهابة قد تكون مع الجهل. ومن مليح التكميل قول السموءل: طويل: وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طل منا حيث كان قتيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فإنه لو اقتصر على صدر البيت كان مدحاً غير كامل، لأن موت الجميع قتلى وإن اقتضى وصفهم بالصبر، فهو يحتمل أن يكون عن ضعف وقلة جد في الحروب، فاحترس عن ذلك بأن قال: وما طل منا حيث كان قتيل وأحسن من ذلك كله قوله: " حيث كان " فإنه أبلغ وصف في الشجاعة من التكميل في النسيب قول كثير كامل: لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها فقوله: عند موفق تكميل حسن، غلا أنه دون الأول، وإنما كان مثل هذا تكميلاً لأنه لو قال: عند محكم لتم المعنى، لكن في قوله عند موفق زيادة كمل بها حسن البيت، والسامع يجد لهذه اللفظة من الموقع الحلو في النفس ما ليس للأولى، إذ ليس كل محكم موفقاً، فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله، وفي ذلك إشارة إلى أن عزة تستحق الحسن دون شمس الضحى، فيكون بهذه اللفظة مع التكميل مبالغة، والتكميل هاهنا من تكميل المعاني النفسية لا تكميل المعاني البديعية ولا الفنون. ومن التكميل الحسن قول أبي الحسين المتنبي وافر: أشد من الرياح الهوج بطشا ... وأسرع في الندى منها هبوبا فإنه فطن إلى أنه لو أقتصر على وصفه بشدة البطش دون أن يضيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 إلى البطش الكرم كان المدح غير كامل، فكمل المدح في عجز البيت بذكر الكرم، ولم يتجاوز في ذلك كله وصفي الريح التي شبه ممدوحه بها في حالتي بطشه وكرمه، وما حسن بيت أبي الطيب إلا لأنه أشرقت عليه أنوار أوصاف النبوة، فإنه نظر إلى الحديث الذي يرويه ابن عباس رضي الله عنهما حيث يقول: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ كان كالريح المرسلة ". وما وهم فيه المؤلفون في الموضع أنهم خلطوا التكميل بالتتميم، إذ ساقوا في باب التتميم شواهد التكميل، لأن كلا منهم ذكر قول عوف بن محلم السعدي سريع: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان من شواهد التتميم، ومعنى البيت تام بدون لفظة وبلغتها وإذا لم يكن المعنى ناقصاً فكيف يسمى هذا تتميماً!!، وإنما هو تكميل، وما غلطهم إلا من كونهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ وتتميم المعاني، فلو سموا مثل هذا تتميماً للوزن لكان قريباً، وإنما ساقوه على أنه من تتميم المعاني البديعة ولذلك أتوا بقول المتنبي طويل: ويحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا في باب التتميم، وهو مثل الأول، وإن زاد على الأول أدنى زيادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 لما في لفظة حاشاك بعد ذكر الفناء من حسن الأدب مع الممدوح، وربما سومح بأن يجعل هذا البيت في شواهد التتميم لهذه الشبهة. وأما الأول فمحض التكميل، ولا مدخل له في التتميم اللهم إلا أن يكون مرادهم بالتتميم تتميم الوزن، لا تتميم المعنى، فيجوز بهذا الاعتبار أن يسمى كل ماورد من الحشو الحسن سوءا كان متمماً للمعنى أو مكملاً تتميماً، لأنه به تم الوزن، ويكون من قسم تتميم الألفاظ، وما قدمناه من تتميم المعاني. ومن مليح التكميل قول النابغة الذبياني في وصف حمار وأتان وحشيين طويل: فإن هبطا سهلاً أثارا عجاجة ... وإن طلعا حزنا تشظت جنادل فإنه لو اقتصر على وصف صلابة حوافرهما بالمشي في السهل كان المدح لهما غير كامل، حتى يصفهما بالمشي في الحزن، فلا جرم أنه لما أراد تكميل المدح وأوجبت عليه الصناعة أن يقول في عجز البيت: الحزن كما قال في صدره: السهل، فوصفهما بما يوجب لهما بلوغ الغاية في صلابة الحوافر هذا ما نقلته من كلام الناس على هذا البيت، وفيه ما فيه، لأن الاقتصار على وصفهما بالمشي في السهل، وهو يريد وصفهما بصلابة الحوافر، نقص تام في المعنى المراد، فبقية البيت على هذا تتميم لا تكميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 والفرق بين التتميم والتكميل أن التتميم يرد على المعنى الناقص فيتممه والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله، إذ كان الكمال أمراً زائداً على التمام. والتتميم لا يكون إلا في المعاني دون الفنون، أعني بالمعاني معاني النفس، لا معاني البديع، التي هي أنواعه، وأعني بالفنون أغراض المتكلم ومقاصده، والتكميل يكون فيهما معاً، هذا إذا لم يرد بالتتميم تتميم الوزن كما قدمت. ومن أحسن التكميل تكميل وقع في قول شاعر الحماسة بسيط لو قيل للمجد: حد عنهم وخلهم ... بما احتكمت من الدنيا لما حادا فقوله: بما احتكمت من الدنيا، من التكميل العجيب، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 باب المناسبة المناسبة على ضربين: مناسبة في المعاني، ومناسبة في الألفاظ، فالمعنوية أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، كقول الله سبحانه وتعالى: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " فإنه سبحانه لما قدم نفي إدراك الأبصار له، عطف على ذلك قوله: " وهو اللطيف " خطاباً للسامع بما يفهم، إذ معترف العادة أن كل لطيف لا تدركه الأبصار ألا ترى أن حاسة البصر لا تدرك إلا اللون من كل متلون، والكون من كل متكون، فإدراكهما إنما هو للمركبات دون المفردات، ولذلك لما قال: " وهو يدرك الأبصار " عطف على ذلك قوله " الخبير " تخصيصاً لذاته سبحانه بصفات الكمال، لأن كل من أدرك شيئاً كان خبيراً بذلك الشيء، ومثل ذلك قوله عز وجل: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون " لما كان سبحانه هو الجاعل الأشياء على الحقيقة، وأضاف إلى نفسه جعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة، صار الليل كأنه سرمداً بهذا التقدير، وظرف الليل ظرف مظلم لا ينفذ فيه البصر، لا سميا وقد أضاف الإتيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 بالضياء الذي تنفذ فيه الأبصار إلى غيره، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة، فصار النهار كأنه معدوم، إذ نسب وجوده إلى غير موجد، والليل كأنه لا موجود سواه، إّ جعل كونه سرمداً منسوباً إليه سبحانه فاقتضت البلاغة أن يقول: " أفلا تسمعون " لمناسبة ما بين السماع، والظرف الليلي الذي يصلح للإسماع ولا يصلح لإبصار ولذلك قال في الآية التي تليها: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون لأنه لما أضاف جعل النهار سرمداً إليه صار النهار كأنه سرمد، وهو ظرف مضيء تنور فيه الأبصار، وأضاف الإتيان بالليل إلى غيره، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة، فصال الليل كأنه معدوم، إذ نسب وجوده إلى غير موجد، والنهار كأنه لا موجود سواه، إذ جعل وجوده سرمداً منسوباً إليه، فاقتضت البلاغة أن يقول: أفلا تبصرون، إذ الظرف معنى صالح للأبصار، وهذا من دقيق المناسب المعنوية. ومنها قوله تعالى: " أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون بمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون، أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون " فانظر إلى قوله سبحانه في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعية " أولم يهد لهم " ولم يقل أولم يروا، وقال تعالى بعد ذكر الموعظة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 " أفلا يسمعون " وكيف قال في صدر الآية التي موعظتها مرئية " أو لم يروا " وقال بعد الموعظة: " أفلا يبصرون " وكذلك قوله تعالى: " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً " فإن الكلام لو اقتصر فيه على قوله: " وكفى الله المؤمنين القتال " أوهم ذلك بعض الضعفاء موافقة الكفار في اعتقادهم أن الريح التي حدثت كانت سبب رجوعهم، ولم يبلغوا ما أرادوا، وربما توهموا ألا تكون من عند الله وإنما تقع اتفاقاً كما يجري في حروب المشركين بعضهم لبعض، فأخبر في فاصلة الآية عن نفسه بالقوة والعزة، ليعلم المؤمنين ويزيدهم يقيناً وثباتاً على أنه الغالب الممتنع، وأن حزبه كذلك، وإنما هو تنوع النصر للمؤمنين ليزيدهم إيماناً بعميم قدرته، فينصرهم مرة بالقتال كيوم بدر، وتارة بالريح كيوم الأحزاب، ومرة بالرعب كبني النضير، وطوراً ينصر عليهم كيوم أحد، وحيناً يعلمهم أن الكثرة لا تغني شيئاً، وأن النصر من عنده كيوم حنين وأمثال ذلك في الكتاب العزيز كثيرة لمن استقراه. ومن أمثلة المناسبة المعنوية في الشعر قول المتنبي طويل: على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كأن النبل في صدره وبل فإن بين لفظة السباحة، ولفظة الموج، ولفظة الوبل تناسباً معنوياً صار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 البيت به متلاحماً شديد ملاءمة الألفاظ وأحسن منه قول ابن رشيق القيرواني طويل: أصح وأقوى ما رويناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم وهذا أحسن شعر سمعته في المناسبة المعنوية، لأنه ناسب فيه بين الصحة والقوة، والرواية والخبر المأثور، والقدم مناسبة معنوية إذ هذه الألفاظ يناسب بعضها بعضاً، وكذلك ناسب في البيت الثاني بين الأحاديث والرواية والعنعنة مناسبة معنوية أيضاً، وأحسن من المناسبة الواقعة في البيت الأول ما وقع في البيت الثاني من صحة ترتيب العنعنة حيث أتى بها صاغراً عن كابر، وآخرا عن أول، كما يقع سند الأحاديث، لأن السيول فرع، والحيا أصله، ولذلك جعلها تروي عن الحيا إذ هي بمنزلة الولد، وهو بمنزلة الوالد، وكذلك الحيا فرع، والبحر أصله، ولذلك جعل الحيا يروي عن البحر، إذ الحيا بمثابة الولد والبحر بمثابة الوالد، ثم نزل البحر بمنزلة الولد، وجود الممدوح بمنزلة الوالد له لقصد المبالغة في المدح، ولذلك جعل البحر راوياً عن جود الممدوح، وهذا الذي تقتضيه الصناعة من الأدب مع الممدوح وحسن المبالغة في وصف جوده وفي الناس من سمى المناسبة المعنوية ملاءمة، إلا قدامة فإنه جعل الملاءمة ائتلاف ألفاظ الكلام بالمعنى الذي المتكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 آخذ فيه، وقصده بذلك أن يقال في لفظة من ألفاظ المعنى: لو كان موضع هذه غيرها لكان الكلام مؤتلفاً بمعانيه وألفاظه ملائمة له وما ذكرته من المناسبة فيه زيادة على هذا المقدار، إذ غيرها من الألفاظ يوفي بما قاله الناس في تفسير الائتلاف، ويزيد عليه زيادة معلومة عند أرباب النقد. وأما المناسبة اللفظية فهي توخي الإتيان بكلمات متزنات، وهي على ضربين: تامة وغير تامة، فالتامة أن تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة وأخرى ليست بمقفاة، فالتقفية غير لازمة للمناسبة. ومن شواهد المناسبة التي ليست بتامة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب " ومن شواهد التامة في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان يرقي به الحسنين عليهما السلام " أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لامة " ولم يقل ملمة، وهي القياس، لمكان المناسبة اللفظية التامة؛ ومثله قوله عليه السلام " ارجعن مأزورات غير مأجورات " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 والمستعمل موزورات، لأنه من الوزر غير مهموز فلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم مهموزاً لمكان المناسبة اللفظية التامة، وهذا من الفصاحة العجيبة. وأما ما جاء من السنة من أمثلة المناسبة الناقصة، فكقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً " فناسب صلى الله عليه وسلم بين أخلاق وأكناف مناسبة اتزان دون تقفية. ومما جمع بين المناسبتين قوله عليه السلام في بعض دعائه: " اللهم إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء؛ اللهم إني أسألك الفوز في القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء " فناسب صلى الله عليه وسلم بين قلبي وأمري، وغائبي وشاهدي، مناسبة غير تامة بالزنة دون التقفية، ثم ناسب بين القضاء والشهداء والسعداء والأعداء مناسبة تامة بالزنة والتقفية، ومن أمثلة المناسبتين الناقصة والتامة الشعرية قول أبي تمام طويل: مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فناسب حبيب بين مها وقنا مناسبة تامة، وبين الوحش والخط وأوانس وذوابل مناسبة غير تامة، وهذا البيت من أفضل بيوت المناسبة لما انضم إليها فيه من المحاسن، فإن فيه مع المناسبتين التشبيه بغير أداة والمساواة، والاستثناء، والطباق الفظي، وائتلاف اللفظ مع المعنى والتمكين، فأما المناسبة فقد ذكرناها، وأما التشبيه ففي قوله: مها وقنا، فإن التقدير كمها وقناً، فحذف الأداة ليدل على قرب المشبه من المشبه به، وأما الاستثناء البديعي ففي قوله: إلا أن هاتا أوانس وقوله: إلا أن تلك ذوابل ليثبت للموصوفات التأنيس والتحبب، وينفي عنهن النفار والتوحش، وكذلك فعل في الاستثناء الثاني، فإنه أثبت به لهن اللين واللدونة؛ ونفى عنهن ما يستهجن، وأما المطالبة ففي قوله الوحش والأوانس، وهاتا وتلك فإن هاتا للقريب، وتلك للبعيد، وأما المساواة فلأن لفظ البيت لا يفضل عن معناه، ولا يقصر عنه، وأما الائتلاف فلكون ألفاظه من واحد متوسطة بين الغرابة والاستعمال، وكل لفظة منها لائقة بمعناها، لا تكاد يصلح موضعها غيرها، وأما التمكين فلأن قافية البيت مستقرة في موضعها، غير نافرة من محلها، ومن غير أن يتقدمها شيء من لفظها يدل عليها، كما يقع في التوشيح والتصدير وقد غلط الأمدي في تغليط أبي تمام في هذا البيت، حيث زعم أنه نفى عن النساء لين القدود، معتقداً أن الرماح سميت ذوابل للينها، والمعروف عند أهل اللسان ضد ذلك، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 العرب تقول رمح ذابل إذا كان صلب الكعوب، ومن ذلك قولهم ذبلت شفتاه إذا يبستا، ولا تعرف العرب الذابل إلا اليابس الذي جفت رطوبته، ومن ذلك قولهم: نوارة ذابلة إذا جف ماؤها وأخذت في اليبس، وأوب تمام لا يشك أحد أنه أبصر من الآمدي باللغة، وأقعر منه بمعرفة اللسان العربي، ويقرب من هذا البيت قول البحتري طويل: فأحجم لما لم يجد فيك مطمعاً ... وأقدم لما لم يجد عنك مهربا فناسب بين أحجم وأقدم مناسبة تامة، وكذلك بين قوله: فيك وعنك، ومطمعاً ومهرباً، إلا أن مناسبة هاتين الجملتين غير تامة، وقد حصل في هذا اللفظ أيضاً المطابقة في أحجم وأقدم، والمساواة والائتلاف والتمكين، فقد استوى هو وبيت أبي تمام فيما ذكرنا وزاد عليه بيت أبي تمام بالتشبيه والاستثناء، ففضل بيت أبي تمام بالمعاني، وفضل بيت البحتري بالألفاظ، لأن ألفاظه أكثر استعمالاً وأعذب مذاقاً، وللمناسبة التامة فيه نصاعة وظهور أكثر من المناسبة التي في بيت أبي تمام، وإذا قست ما بين البيتين بما قدمت من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم سقطا دون كل جملة منه، إذ كل جملة منه يلي بعضها بعضاً؛ ومفردات الألفاظ تسير إلى معاني شتى، وإلا فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم تهدي بها قلبي، وما يحصل بها من منافع الدنيا والآخرة، ويتوقى من مضار الدنيا والآخرة بهدية القلب، والى قوله " وتجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 بها أمري " وما يكون من اجتماع الأمر من عدم التذبذب في كل شيء وحصول التثبت وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: " وتصلح بها غائبي " وما تشير هذه الجملة إليه من إصلاح الباطن، وما يكون في ذلك من الإخلاص، وكذلك قوله: وتدفع بها شاهدي، فإن من أصلح الله سبحانه باطنه أصلح الله تعالى ظاهره، وما وقع في ضمن هاتين الجملتين مع المناسبة من المطابقة بين غائبي وشاهدين وبذلك فاعتبر بقية الدعاء؛ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: الفوز بالقضاء فإنه رب قضاء نزل بغير صابر محتسب، فأوبقه وقل من يفوز عند نزول القضاء وكذلك قوله: ونزل الشهداء، أي قراهم أو منزلتهم، وهي أرفع المنازل، وما أعد لهم، ومثله قوله: وعيش السعداء، والنصر على الأعداء؛ فالحظ بدقيق النظر ما اشتملت عليه الألفاظ من المعاني تجدها لا تدخل تحت الإحصاء إلى سلاسة هذا النظم وعذوبة هذا اللفظ وعلوه مع كونه مستعملاً معروفاً، وفصاحته على كونه متداولاً مألوفاً، ووضوح معانيه، وحسن البيان فيه، بحيث لا يفتقر أحد إلى السؤال عن لفظ فيه قد استوى في فهمه الذكي والبليد والقريب من العل والبعيد، وما فيه من الماء والديباجة التي لا توفى العبارة بها، ولا يقدر البليغ على أن يصفها؛ وهذا أمر يدركه كل ذي ذوق سليم، وذهن مستقيم، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 باب التفريع التفريع نوعان: أحدهما أن يبدأ الشاعر بلفظة هي إما اسم، وإما صفة، ثم يكررها في البيت مضافة إلى أسماء وصفات يتفرع من جملتها أنواع من المعاني في المدح وغيره، كقول أبي الطيب المتنبي متقارب: أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء ... أنا ابن الضراب أنا ابن الطعان أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي ... أنا ابن السروج أنا ابن الرعان طويل النجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السنان حديد اللحاظ حديد الحفاظ ... حديد الحسام حديد الجنان وهذا النوع لم أسبق إلى استخراجه، وإنما لم أثبته فيما ابتكرته من الأبواب لكونه نوعاً من التفريع، فالذي يجب أن يسمى به تفريع الجمع، لأن كل بيت ينطوي على فروع من المعاني شتى من المدح تفرعت من أصل واحد؛ والنوع الآخر من التفريع وهو الذي تقدمني الناس باستخراجه وتسميته، إنما يتفرع منه معنى واحد من أصل واحد، إما في بيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أو أبيات، وإما في جملة من الكلام أو جمل، وهو أن يصدر الشاعر أو المتكلم كلامه باسم منفي بما خاصة ثم يصف الاسم المنفي بمعظم أو صافه اللائقة به إما في الحسن أو القبح، ثم يجعله أصلاً يفرع منه معنى في جملة من جار ومجرور متعلقة به تعلق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك، يفهم من ذلك مساواة المذكور بالاسم المنفي الموصوف كقول الأعشى بسيط ما روضة من رياض الحزن معشبة ... غناء جاد عليها مسبل هطل يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل يوماً بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل وقد سمى بعض المتأخرين هذا القسم من التفريع النفي والجحود لتقدم حرف النفي على جملته. وأكثر ما يقع الأصل في بيت والتفريع منه في بيت آخر إما قريباً منه، وإما بعيداً عنه، وقد يقع منه ما يكون الأصل والفرع معاً في بيت واحد كقول أبي تمام بسيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ما ربع مية معموراً يطيف به ... غيلان أبهى رباً من ربعها الخرب ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب ومن التفريع نوع غير النوعين الأولين، وهو تفريع معنى من معنى من غير تقدم نفي ولا جحود، كقول ابن المعتز سريع: كلامه أخدع من لفظه ... ووعده أكذب من طيفه وهو مختص بمعاني النفس دون معاني البديع، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 باب التكرار وهو أن يكرر المتكلم اللفظة الواحدة لتأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل أو الوعيد، فأما ما جاء منه للذم فكقول عبيد بن الأبرص كامل: هلا سألت جموع كن؟ ... دة يوم ولوا أين أينا وكقول مهلهل بن ربيعة أخي كليب في التهديد والوعيد مديد: يا لبكر أنشروا لي كليباً ... يا لبكر أين أين الفرار وأما ما جاء منه للمدح فكقول كثير عزة في عمر بن عبد العزيز طويل: فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم وكقول أبي تمام خفيف: بالصريح الصريح والأروع الأر ... وع منهم وباللباب اللباب وأما ما جاء منه في النسيب وهو لطيف جداً لبعض المحدثين متقارب: يقلن وقد قيل إني هجعت ... عسى أن يلم بروحي الخيال حقيق حقيق وجدت السلو ... فقلت لهن محال محال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وقد يجيء التكرار بالأسماء المضمرات أو المبهمات، كما يجيء بالمظهرات كقول الهذلي طويل: رفوني وقالوا يا خويلد لاترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وأما ما جاء منه للمدح منه للمدح في الكتاب العزيز فكقوله سبحانه: " والسابقون السابقون أولئك المقربون " وأما ما جاء منه للتهويل والوعيد فكقوله تعالى: " الحاقة ما الحاقة " وقوله عز وجل: " القارعة ما القارعة " وأما ما جاء منه للاستبعاد فكقوله تعالى: " هيهات هيهات لما توعدون " ومما جاء في السنة من التكرار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاية عن أم زرع: " أبو زرع وما أبو زرع " في معرض المدح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ؟ باب نفي الشيء بإيجابه وهو أن يثبت المتكلم شيئاً في ظاهر كلامه وينفي ما هو من سببه مجازاً. والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو الذي أثبته كقوله سبحانه وتعالى: " ... أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها " فإن ظاهر هذا الكلام يقتضي نفي هذه الجوارح، وملزومه يقتضي إثبات الإلهية لمن يكون له مثل هذه الجوارح؛ وباطن الكلام يوجب نفي الإلهية عمن يكون له، فضلاً عمن لا يكون له، لأنه المراد، وكقوله سبحانه: " لا يسألون الناس إلحفاً " فإن ظاهره نفى الإلحاف في المسألة، لا نفي المسألة، والباطن نفي المسألة بتة، وعليه إجماع المفسرين، وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وكقوله تعالى: " ولا شفيع يطاع " فالظاهر نفى شفيع يطاع، والمراد نفي الشفيع مطلقاً. ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول امرئ القيس طويل: على لاحب لا يهتدي بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وظاهر هذا الكلام يقتضي إثبات منار لهذه الطريق، ونفي الهداية به مجازاً، وباطنه في الحقيقة يقتضي نفي المنار جملة وتقدير المعنى أن هذه الطريق لو كان لها منار لكان لا يهدي به، فيكفف لا منار لها؟ كما تقول ملن تريد أن تسلبه الخير: ما أقل خيرك، فظاهر كلامك يدل على إثبات خير قليل وباطنه نفي الخير كثيره وقليله. ومن أمثلة هذا الباب أيضاً قول الزبير بن عبد المطلب يمدح عملية بن عبد الدار، وكان نديماً له طويل: صبحت بهم طلقاً يراح إلى الندى ... إذا ما انتشى لم تحتضره مفاقره ضعيف يحث الكأس قبض بنانه ... كليلاً على وجه النديم أظافره وظاهر البيتين يقتضي أن للممدوح مفاقر لم تحضره إذا انتشى، وأن له أظافر تخمش وجه نديمه خمشاً خفيفاً. وباطن الكلام في الحقيقة نفي المفاقر جملة والأظافر بتة. ومن هذا الباب قسم يوجب فيه المتكلم لنفسه شيئاً وينفيه بعينه عن غيره، أو ينفي عن موصوف ما صفة يوجبه لموصوف آخر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 كقول السموءل طويل: وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول وكقول الآخر طويل: هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ... ويملأ منها كل حجل ودملج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 باب الإيداع هذا الباب يسميه من لا يعرف اصطلاح أهل هذه الصناعة تضميناً، وكذلك يسمى الباب الذي بعده، وقد تقدم الفرق بين هذه الأبواب في باب التضمين، وشرح هذه التسمية أن يعمد الشاعر أو المتكلم إلى نصف بيت لغيره يودعه شعره سواء أكان صدراً أم عجزاً، وأما الناثر فإن أتى في نثره بنصف بيت لغيره سمى إيداعاً، وإن كان لنفسه سمى تفصيلاً، ومثال ما وقع من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات " وإن أوقعت الفصاحة مثل هذا غير مقصود، وكان من الأدب ألا يذكر هذا والله أعلم. والموهم أنه مودع في الكتاب العزيز قول امرئ القيس مجزوء الرمل: وجفان كالجواب ... وقدور راسيات إن صحت الرواية أنه كذلك، وإن روى التقديم والتأخير فبطل ذلك ومثال ما وقع من ذلك في النثر قول علي عليه السلام في جواب كتابه لمعاوية: " ثم زعمت أني لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليست بالجناية عليك، فيكون العذر إليك ". وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وهذا عجز بيت تمثل به أيضاً عبد الله بن الزبير وقد قال أهل الشام له: يا بن ذات النطاقين على سبيل المعيرة لها بذلك، نظر إلى أنها كانت خادمة لا مخدومة، على طريقة الجاهلية في مدح النساء وذمهم، فأنشد طويل: وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها لأن هذا الاسم من فخر أسماء رضي الله عنها، فإنه سماها به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخرجت له ولأبيها رضي الله عنه زاد الهجرة، فأخذ الإمام عجز هذا البيت فأودعه كلامه بعد أن وطأ له توطئة لائقة به. ملائمة له. ومن شواهده في الشعر قول أبي نواس طويل: تغنى وما دارت له الكأس ثالثاً ... تعزى بصبر بعد فاطمة القلب وقد يجتمع الإيداع والتضمين في شعر واحد، كقول علي ابن الجهم في فضل الشاعرة، وبنان المغنى مجزوء الرمل: كلما غنى بنان ... اسمعي أو خبرينا أنشدت فضل ألا ... حييت عنا يا مدينا عارضت معنى بمعنى ... والندامى غافلينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فوقع التضمين في البيت الأول، والإيداع في البيت الثاني وكنت نظرت إلى بيت لأبي الطيب وهو طويل: تذكرت ما بين العذيب بارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق فأودعت كل قسيم منه بيتاً من قصيدة مطلعها طويل: أعر مقلتي إن كنت غير مرافقي ... دموعاً لتبكي فقد حي مفارق فقد نضبت يوم الوداع مدامعي ... وشابت لتشتيت الفراق مفارقي والبيتان منهما: إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق ويذكرني من قدها ومدامعي ... مجر عوالينا ومجرى السوابق وإن أخذ نصف بيت لغيره، فابتدأ به وثنى عليه تتمة البيت لا غير فذلك تمليط. وإن بنى عليه كل ما يخطر له من أبيات لتمام غرضه، فذلك توطيد، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 باب الاستعانة وهو أن يستعين الشاعر ببيت لغيره، في شعره بعد أن يوطئ له توطئة لائقة به هنا بحيث لا يبعد ما بينه وبين أبياته، وخصوصاً أبيات التوطئة له، وقد شرط بعض النقاد التنبيه عليه، إن لم يكن البيت مشهوراً، وبعضهم لم يشترط ذلك، وهو الصحيح، فإن أكثر ما رأينا ذلك في أشعار الناس غير منبه عليه، وأما الناثر فإن أتى في أثناء نثره ببيت لنفسه سمى ذلك تشهيراً، وإن كان البيت لغيره سمى استعانة، كقول علي عليه السلام في خطبته المعروفة بالشقشقية: بينا هو يستقبلها في حياته، إذ عقد لآخر بعد وفاته سريع: شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيان أخي جابر فهذا البيت للأعشى استعان به علي عليه السلام كما ترى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ومثال الاستعانة في الشعر قول الحارثي طويل: وقائله والدمع سكب مبادر ... وقد شرقت بالماء منها المحاجر وقد أبصرت حمان من بعد أنسها ... بنا وهي منا موحشات دواثر كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر فقلت له والقلب مني كأنما ... ييقلبه بين الجوانح طائر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر فاستعان هذا الشاعر ببيتي حرقة بنت تبع، وأرشق من هذا وأخصر قول أبي نواس بسيط حتى تغني وما تم الثلاث له ... حلو الشمائل محمود السجيات يا ليت حظى من مالي ومن ولدي ... أني أجالس ليلى بالعشيات ووقع لي من طريق الاستعانة أبيات هجوت بها متطبباً يهودياً طويل: رأيت أبا الخير اليهودي ممسكا ... بقارورة كالورس راق حليبها وقد رش منها فوق صفحة وجهه ... وقال: لقد أحيا فؤادي طيبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فقلت له: ما هذه؟ قال: بولة ... لأسود يشفى الداء مني قضيبها قريبة عهد بالحبيب وإنما ... هوى كل نفس حيث حل حبيبها ولا يضر تصحيف الحرف أو تحريفه من الكلام المتقدم، ليدخل في معنى الكلام المتأخر عند الاستعانة كما فعلت ببيت من الحماسة حيث قلت طويل: إذا ما خليل صد عنك ملالة ... وأصبح من بعد الوفا وهو غادر فلا تحتفل واستغن بالله إنه ... على أن ترى عنه غنياً لقادر وهبه كشيء لم يكن أو كنازح ... به الدار أو من غيبته المقابر فإن هذا البيت كان نسيباً، وكان أوله وهبها فحرفت ضمير التأنيث لضمير التذكير حتى دخل في معناي. والفرق بين هذا القسم من الاستعانة، وبين المواربة، أن المواربة تكون في كلام المتكلم نفسه، والاستعانة لا تكون إلا بكلام غيره، وإن ابتدأ ببيت غيره وبنى عليه فذلك تأسيس، مشتق من أس البناء، فإن هذا الشاعر يكون قد جعل بيت غيره أساساً بنى عليه شعره، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 باب الموازنة وهو أن تأتي الجملة من الكلام، أو البيت من الشعر متزن الكلمات، متعادل اللفظات في التسجيع والتجزئة معاً في الغالب، كقول امرئ القيس متقارب: أفاد، وساد، وقاد، وزاد ... وشاد، وجاد، وزاد، وأفضل وكقول الآخر متقارب: وهوب، مهيب، رحيب الفناء ... ربيع، مرئ، رفيع الذرا والفرق بين الموازنة والمماثلة التزام التسجيع في الموازنة، وخلو المماثلة عنه، والفرق بينها أعني الموازنة وبين التجزئة مخالفة تسجيع أجزاء التجزئة، ومشابهة تسجيع أجزاء الموازنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 باب التذييل وهو أن يذيل المتكلم كلامه بجملة يتحقق فيها ما قبلها من الكلام، وتلك الجملة على قسمين: قسم لا يزيد على المعنى الأول، وإنما يؤتى به للتوكيد والتحقيق. وقسم يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر ليحقق به ما قبله. وإما أن يكتفي بما يتضمن من زيادة المعنى والفرق بينه وبين التكميل أن التكميل يرد على معنى يحتاج إلى الكمال، ولا كذلك معنى التذييل. ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز متضمناً القسمين معاً قوله تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله " ففي هذه الآية الكريمة تذييلان: أحدهما قوله تعالى: " وعداً عليه حقاً "، فإن الكلام قد تم قبل ذلك، ثم أتى سبحانه بتلك الجملة لتحقق ما قبلها. والآخر قوله سبحانه: " ومن أوفى بعهده من الله "، فخرج هذا الكلام مخرج المثل السائر لتحقيق ما تقدمه، فهو تذييل ثان للتذييل الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وقد جاء في السنة من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: " من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك " فقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا يهلك على الله إلا هالك "، تذييل في غاية الحسن، خرج الكلام فيه مخرج المثل. ومن هذا الباب في الشعر قول النابغة الذبياني طويل: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب فقوله: أي الرجال المهذب من أحسن تذييل وقع في شعر. وكقول بعض العرب كامل: ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل فعجز هذا البيت كله تذييل حسن، وكلا التذييلين من بيت الأعرابي وبيت النابغة من القسم الثاني من التذييل، وهو الذي خرج الكلام فيه مخرج المثل، وتذييل النابغة من القسم الوجيز من البلاغة لاختصار لفظه، وتذييل الأعرابي من القسم البسيط منهما، وإنما بسط الكلام فيه لما تضمن معنى التذييل من المطابقة في قوله أركبه وأنزل وتذييل النابغة خال من ذلك، ولقد أحسن بعض المحدثين في هذا الباب حيث قال المتقارب: صدقتكم الود أبغي الوصال ... وليس المكذب كالصادق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 فجازيتموني بطول البعاد ... وكم أخجل الحب من واثق فكل من عجزي البيتين تذييل من القسم الثاني، لخروج الكلام فيهما مخرج المثل. وأحسن من ذلك كله قول الحطيئة طويل: نزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد فإن عجز البيت كله تذييل خرج مخرج المثل في غاية الحسن، لأن صدر البيت استقل بالمعنى المراد على انفراده، وفيه مع اتصاله بالعجز تعطف حسن في قوله: يعطي ويعط، وبالتعطف صار بين العجز والصدر ملاحمة وملاءمة شديدة، ورابطة وثيقة، مع أن العجز إذا انفرد استقل مثلاً وتذييلاً، كما أن الصدر إذا انفرد استقل بالمعنى المقصود من جملة البيت، والغرض المطلوب والتمثيل أيضاً، وقل أن يوجد بيت بين صدره وعجزه مثل هذا التلاحم على استقلال كل قسم بنفسه وتمام معناه ولفظه. ومن التذييل الحسن قول أبي الشيص كامل: وأهنتني فأهنت نفسي عامداً ... ما من يهون عليك ممن أكرم فعجز البيت كله تذييل في ضمنه مطابقة لذكره الهوان والكرامة. ومن بعيد التذييل قول ابن نباتة السعدي بسيط لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 فإنه لما انقضى ما أراده من المدح بقوله: لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ثم احتاج إلى تتميم البيت وأراد إتمامه بتكرار المعنى المتقدم فيه استحساناً له وتوكيداً، وكره التكرير لا لمعنى زائد، وعلم أن لا مزيد على معناه في بابه، فأخرجه مخرج المثل حيث قال: تركتني أصحب الدنيا بلا أمل ليحصل ما أراده من التوكيد وزيادة المعنى، لأن المدح إذا خرج مخرج المثل كان أسير في الأرض، وفي ضمن ذلك لهج الناس بالمدح الخارج مخرج المثل، وهذا البيت وإن نظر فيه إلى قول المتنبي بسيط تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فلا يقول لشيء ليت ذلك لي فبيت ابن نباته أفضل من بيت المتنبي، لأنه أحسن الأدب مع ممدوحه، فلم يجعله في حيز من يتمنى شيئاً، وجعل قدرته وجوده أصاراً مادحة قد بلغ كل أمنيته فلم يبق له أمل: وإن كان في بيت المتنبي زيادة من جهة المبالغة في قوله: دون مبلغه واستعارة في اللفظ لقوله: تمسي الأماني صرعى ففي بيت ابن نباتة أن كل ما جعله المتنبي للممدوح، جعله ابن نباتة لشاعر الممدوح من نعمته وزيادة المبالغة في المدح بكونه أخرج المدح مخرج المثل كما بينا، فهو أسير وأبقى، وإذا أنصف الناظر في البيتين وجد معنى بيت المتنبي بكماله في صدر بيت ابن نباتة لأن حاصل بيت المتنبي أن الممدوح قدر على كل الأماني، وهذا قد استقل به صدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 بيت ابن نباتة، والذي في صدر البيت هو الذي في عجزه لأنه ملزومه، أعني بيت المتنبي، وكله في قول ابن نباتة: لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله وعجز بيت ابن نباتة ملزوم صدره، لأن من نال كل أمل صحب الدنيا بلا أمل، غير أن ابن نباتة لكونه أخرج العجز مخرج المثل صار كأنه قد استأنف معنى آخر مستقلاً بجميع معنى بيت المتنبي، مع كونه زاد بأن جعل للممدوح، حسن أدب معه، وبالغ بإخراج المدح مخرج المثل، فقد ترجح بيت ابن نباتة على بيت المتنبي من وجوه شتى، والله أعلم. وقد يختلط على بعض الناس هذه الأبواب الأربعة، وهي باب الإيغال، والتكميل، والتمكين، والتذييل، وأنا أشير إلى الفرق بينها فأقول: الإيغال لا يكون إلا في الكلمة التي فيها الروي وما يتعلق بها، وهو أيضاً مما يأتي بعد تمام المعنى كالتكميل والتذييل وأما التمكين فيفارق هذه الأبواب مزن كونه عبارة عن استقرار القافية في مكانها، لكنها لا تزيد معنى البيت شيئاً، ومتى حذفت القافية نقص المعنى، مع كونها غير نافرة من البيت، والتكميل وإن أتى بعد تمام المعنى فهو يفارق الإيغال من وجهين، أحدهما: كونه يأتي في الحشو والمقاطع، والإيغال التذييل لا يكونان إلا في المقاطع دون الحشو، والإيغال والتذييل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 لا يخرجان عن معنى الكلام المتقدم، والتميل لا بد أن يأتي بمعنى يكمل الغرض المتقدم إما تكميلاً بديعياً أو تكميلاً عروضياً، لأنه يكون بمعنى البديع كمطابقة تكمل جناساً، أو مبالغة تكمل تشبيها، أو بالفنون، والفنون عند أهل الصناعة هي ما ينتجها المتكلم من الأغراض والمقاصد كالمديح، والهجاء، والرثاء، والفخر، والوصف، وغير ذلك، والتذييل يفارق الإيغال لكونه يزيد على الكلمة التي تسمى إيغالاً، آخذاً في البيت من الجزء الذي هو الضرب إلى أول العجز والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 باب المشاكلة وهي أن يأتي المتكلم في كلامه أو الشاعر في شعره باسم من الأسماء المشتركة في موضعين فصاعداً من البيت الواحد، وكذلك الاسم في كل موضع من الموضعين مسمى غير الأول، تدل صيغته عليه بتشاكل إحدى اللفظتين الأخرى في الخط والفظ، ومفهومهما مختلف، ومن انشادات التبريزي في هذا الباب قول أبي سعيد المخزومي مديد: حدق الآجال آجال ... والهوى للمرء قتال وأنشد فيه قول الشماخ بسيط كادت تساقطني والرحل أن نطقت ... ورقاء حين دعت ساقاً على ساق وقال التبريزي: فلفظة الآجال الأولى أسراب البقر الوحشية، والثانية منتهى الأعمال، وبينهما مشاكلة في الخط واللفظ، وكذلك ساق الأولى التي هي ذكر الحمام، والثانية التي هي ساق الشجرة، وعندي أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ما أنشده التبريزي في هذا الباب داخل في أحد قسمي التجنيس المماثل، والذي ينبغي أن تفسر به المشاكلة قولنا: إن الشاعر يأتي بمعنى مشاكل لمعنى في شعر غير ذلك الشعر، أو في شعر غيره بحيث يكون كل واحد منهما وصفاً أو نسباً أو غير ذلك من الفنون، غير أن كل صورة أبرز المعنى فيها غير الصورة الأخرى، فالمشاكلة بينهما من جهة الغرض الجامع لهما، والتفرقة بينهما من جهة صورتيهما اللفظية، ومثال مشاكلة الشاعر نفسه قول امرئ القيس في صفة الفرس طويل: وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل وقوله في صفة الفرس أيضاً طويل: إذا ما جرى شوطين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب فامرؤ القيس في هذين البيتين قاصد وصف الفرس بشدة العدو، غير أنه أبرز المعنى الأول في صورة الإرداف، حيث قال: قيد الأوابد فجعله يدرك الوحش إدراك المطلق للمقيد، وأبرز الثاني في صورتي وصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وتشبيه بغير أداة، إذ شبه عدوه بعد جريه شوطين، وعرقه بهزيز الريح تمر بهذا الشجر الذي يسمع للريح فيه هزيز كفيف الفرس الحاد إذا خرق الريح بشدة عدوه، فكل معنى من هذين المعنيين مشاكل لصاحبه إذ الجامع بينهما وصف الفرس بشدة العدو، غير أن قدرة الشاعر تلاعبت به، فأبرزته في صور مختلفة، فهذا ما شاكل الشاعر فيه نفسه. وأما ما شاكل فيه غيره فكقول جرير بسيط إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا فإن مشاكلة قول عدي بن الرقاع كامل: وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم فالمشاكلة بين الرجلين من جهة أن كلا منهما وصف العيون بالمرض والفتور، فأبرز معناه في صورة غير الصورة الأخرى بحسب قوة عارضته في السبك، وحسن اختياره الفظ، وجودة ذهنه في الزيادة والنقص في التفضيل بين هذين الشعرين: شعر جرير، وعدي، بحيث لا يسعه هذا المكان. وقد اعترض على بيت عدي الأول بما اعترض به على بيت أبي تمام الذي يقول فيه طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 جذبت نداه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعاً بين أيدي القصائد فإن بعض الناس قال: ظباء جاسم كظباء غيرها من المواضع، فليس لذكرها فائدة إلا كونها قافية ليصير بها الكلام بيتاً من الشعر، كما أن غدوة السبت في بيت أبي تمام كغدوة الأحد وغيره من الأيام، فذكرها دون غيرها لا يفيد معنى زائداً، وإذا لم يفد معنى علم أنه حشو جئ به لإقامة الوزن، وقد اعترض على قول امرئ القيس طويل: ورضت فذلت صعبة أي إذلال باعتراض ظاهره يشبه الاعتراض على بيتي عدي وأبي تمام، وباطنه يخالفهما، فإن ابن سنان الخفاجي خطأ أبا هاشم في كونه ذهب إلى أن بيت امرئ القيس معيب بالحشو الذي لا يفيد معنى، لأنه قال: صعبة، حشو أو لفظة، فذلت، وسب أبا هاشم أقبح سب، والصواب مع أبي هاشم، لأن الذي قاله الخفاجي يردي به عليه قوله لو قال الشاعر، فرضت فذلت لم يكن في الكلام دليل على أن ثم صعوبة، وهذا عين الخطأ من الخفاجي، لأنه دل على وجود الصعوبة مرتين بقوله: فرضت، وقوله: فذلت، إذ لا يراض إلا الصعب، ولا يذل إلا ما كان ذا صعوبة، ولو لم يكن ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 صعوبة لكان قوله: فذلت، خطأ، لأن ما ليس بصعب فهو ذليل، إذ لا واسطة بين الذل والصعوبة، فبيت امرئ القيس معيب، بخلاف بيتي عدي وأبي تمام. والرد على هذا المعترض الذي اعترض على بيتي عدي وأبي تمام بأن قال: ذكر عدي جاسم دون غيرها من المواضع لأنها معروفة بأدم الظباء، وأدمة اللون دليل على الحرارة واليبس، وذلك يوجب شدة سواد العيون ونقاء بياضها، ولهذا قال: أحور، والحور نقاء بياض العين وشدة سوادها، وكذلك ذكر أبي تمام غدوة السبت وهو الوقت الذي وقعت فيه عطية الممدوح دليل على تعظيم العطية وتفخيم أمرها وجعلها من الغرائب التي لم يقع قبلها مثلها، فلأجل ذلك أرخ يوم وقوعها، وإذ لا يؤرخ إلا الكوائن العظام، والحوادث الجسام، ولو لم يذكر وقت وقوعها معيناً باسمه لم تحصل هذه المبالغات التي تزيد الممدوح مدحاً فدل على أنه قصد بها إفادة هذه المعاني، لا إقامة الوزن، ولو قصد إقامة الوزن فحسب، لما اقتصر على غدوة السبت دون غيرها مما يسد مسدها، فإنه لو قال: جذبت نداه بالمدائح جذبة استقام له الوزن، لو لم يكن أراد ما ذكرت، وقد عيب من هذا البيت قوله: جذبت نداه وما ناسبها من ألفاظ البيت، فإنهم قالوا: هذا دليل على أن نداه عسر على طالبه، صعب على محاوله، كما عابوا على ليلى الأخيلية قولها كامل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ومخرق عنه القميص تخاله ... بين البيوت من الحياء سقيما حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الجيوش زعيما وقالوا: لا يتحاج إلى أن يجذب لقضاء الحوائج حتى تتخرق قميصه إلا متقاعد عن الحوائج، وهذا الاعتراض غير جار على طريق الحق، فإن المعطي لا بد وأن يعطى بسبب من نفسه عشقاً في العطاء، فلا يحتاج إلى أحاديث تجذبه، وإما أن يعطي بسبب من خارج، والأول مطاوع لغرض نفسه، مسكن لغليل قلبه، ليست عليه مشقة في عطية، والأجر على قدر المشقة، وقد تقدم ذكر هذا الفصل، ونحن هاهنا مفتقرون إلى إعادته، والمشكور كل الشكر من غالب نفسه الأمارة، وأرغم أنف شيطانه، وأعطى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المتصدق لا يخرج الصدقة حتى يفكها من لحيي سبعين شيطاناً " أو كما قال، وقال صلى الله عليه وسلم " إنما الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر، وتأمل الغنى "، وخير المعطين من كان السبب الذي يجذبه إلى العطاء، سماع المدح والثناء، فقد ثبت أن بيتي عدي وأبي تمام مبرآن مما وسما به من العيب، وكذلك بيت الأخيلية، وهو يزيد عليهما بما تضمن من وصف الممدوح بالصبر على أذى أرباب الحوائج، والرضا من العيش بأدنى ملبس وأدنى عيش، مع القدرة التي دلت عليها بقولها: ............ رأيته ... تحت اللواء على الجيوش زعيما فلزم من ذلك أن لذته في اقتناء المحامد، لا في انتخاب الملابس، وما قيل إنه أحوج ذوي الحاجات إلى تخريق قميصه مدفوع بوصفها الممدوح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 بإفراط الحياء، فإن من كان بهذه المثابة كان أسرع إلى قضاء الحوائج للمحتاجين حال رؤيتهم، ويحمل تخريق القميص إما على كثرة المطالبين، وازدحام المحتاجين، أو على ما قدمناه من الرضا بأدنى العيش، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 باب المواردة وهي توارد الشاعرين المتعاصرين اللذين تجمعهما طبقة واحدة على معنى واحد إما مجرداً، أو ببعض ألفاظه أو بأكثرها أو كلها، فإن كان أحدهما أقدم، أو طبقته أرفع، حكم له على صاحبه بالسبق، وقد رأيت من يجعل اتفاق الشاعرين من طبقتين مختلفتين في عصرين متباينين إذا تقارب ما بينهما بعض التقارب في الأمرين، أو في القوة والقدرة توارداً، فمثال الأول قول امرئ القيس طويل: وقوفاً بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل وقول طرفة طويل: وقوفاً بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد ومثال ما جاء من القسم الثاني ما جرى لابن ميادة وقد أنشد محمد بن زياد الأعرابي قوله طويل: ونواره ميل إلى الشمس ظاهر فقال له محمد: أي يذهب بك؟، هذا للحطيئة، فقال ابن ميادة: الآن علمت أني شاعر حين وافقته، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 باب التهذيب والتأديب التهذيب عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله لينقح، ويتنبه منه لما مر على الناثر أو الشاعر حين يكون مستغرق الفكر في العمل، فيغير منه ما يجب تغييره، ويحذف ما ينبغي حذفه، ويصلح ما يتعين إصلاحه، ويكشف عما يشكل عليه من غريبه وإعرابه، ويحرر ما لم يتحرر من معانيه وألفاظه، حتى تتكامل صحته، وتروق بهجته، فإنه من رزق من أرباب البلاغة وأصحاب الفصاحة جودة ذهن، وغوص فكر، وكمال عقل، واعتدال مزاج، وحسن اختيار، ووقف على أقوال النقاد في حقيقة البلاغة، وكنه الفصاحة، وما عد من محاسن الكلام وعيوبه، ووقى شح نفسه، بحيث يسمح بطرح ما لا يقدر على تغييره من كلامه، كان كلامه موصوفاً بالمهذب، منعوتاً بالمنقح، وإن قل ابتكاره للمعاني، وقد كان زهير معروفاً بالتنقيح، فإنه روى أنه كان يعمل القصيدة في شهر، وينقحها في أحد عشر شهراً حتى سمى شعره الحولي المحكك ولا جرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 أنه قلما يسقط منه شيء، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه على جلالته في العلم، وتقدمه في النقد يقدمه على سائر الفحول من طبقته؛ قال ليلة لعبد الله بن العباس وهم سائرون إلى الشام: أنشدني شعر أشعر القوم، فقال: ومن ذاك؟ قال: زهير، قال: وبم استحق عندك ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيته لا يعاضل بين الكلام، ولا يتبع حوشي الألفاظ، ولا يمدح الرجال إلا بما يكون للرجال، وما ذاك إلا لتنقيحه شعره، وترداد نظره في كلامه ولهذا المعنى أشار أبو تمام بقوله كامل: خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب فإنه إنما خص تهذيب الفكر بالدجى لكون الليل تهدأ فيه الأصوات، وتسكن الحركات، فيكون الفكر فيه مجتمعاً، والخاطر خالياً، ولا سميا في وسط الليل عندما تأخذ النفس حظها من الراحة، وتنال قسطها من النوم، ويخف عليها ثقل الغذاء، فحينئذ يكون الذهن صحيحاً، والصدر منشرحاً، والقلب منبسطاً، واختياره وسط الليل دون السحر مع ما فيه من رقة الهواء، وخفة الغذاء، وأخذ النفس سهمها من الراحة، لما يكون في السحر من انتباه أكثر الحيوان الناطق والبهيم، وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات، وتقشع الظلماء، بطلائع الأضواء. وببعض ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 يتقسم الفكر، ويتذبذب الخاطر ويشتغل القلب، ويتفرق مجتمع الهم، ووسط الليل خال عما ذكرنا، ولهذا خص أبو تمام تهذيب الفكر بالدجى عادلاً عن الطرفين لما فيهما من الشواغل التي ذكرناها، وإنما دخلت لفظة الدجى على وسط الليل، لأنها جمع دجية، وطرف الليل لقربهما من الشمس لا يكون غيهبهما شديد الظلمة، والدجى شدة الظلمة، لأنه مجموع ظلمات، وإن كان الدجى قد يطلق على الليل كله، سواء كان مظلماً أو مقمراً، لكنه إطلاق مجازي حقيقته ما ذكرناه، وأبو تمام أراد هاهنا الحقيقة لا المجاز، لقصد المبالغة، ولما لحظ أبو تمام أن لفظة الدجى لعمومها وصلاحيتها في حالتي المجاز والحقيقة إلى أن تكون اسماً لليل كائناً ما كان احترس من ذلك بما جاء به التذييل حيث قال: ............... والليل أسود رقعة الجلباب ليخلص من الاشتراك الحاصل من لفظة الدجى على انفرادها، وليتبين أنه أراد الليالي السود التي سمتها العرب بالدآرى، لا الليالي البيض، ولا غيرها من الليالي التي فيها وقت مضئ في الجملة فراراً من ليل لا يخلو من الأصوات والحركات، مبالغة في وصف القصيدة بالتنقيح المرضي، في الوقت المختار لذلك، وقد جمع الكتاب العزيز هذه المعاني وأتى بها في أوجز لفظ وأجزله حيث قال سبحانه " إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً " واعلم أن التهذيب لا شاهد له يخصه، لأنه وصف يعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 كل كلام منقح محرر، إلا أنا نلخص فيه ما يعرف به، وهو أن نقول: كل كلام قيل فيه لو كان موضع هذه الكلمة غيرها، أو لو تقدم هذا المتأخر، أو تأخر هذا المتقدم، أو لو تمم هذا النقص، أو تكمل هذا الوصف، أو لو حذفت هذه اللفظة بتة، أو لو طرح هذا البيت جملة، أو لو وضح هذا المقصد أو تسهل هذا المطلب، لكان الكلام أحسن، والمعنى أبين، فهو خال من التهذيب، عار من التنقيح والتأديب. ومن أمثلة ما ذكرناه قول سيف الدولة بن حمدان يخاطب أخاه ناصر الدولة طويل: وما كان لي عنها نكول وإنما ... تجاوزت عن حقي ليغدو لك الحق فإن سيف الدولة كما قيل: كان قد عمل أولاً: وما كان عنها لي نكول ثم فطن إلى أن هذا السبك يستثقل لقرب الحروف المتقاربة المخارج بعضها من بعض، وإذا قدم لفظة " لي " على لفظة عنها سهل التركيب، وحصل التهذيب، فتقول وما كان لي عنها نكول لفصل لفظة عنها بين لي وبين نكول. ومن الأمثلة المبينة لهذا الباب قول القاضي السعيد ابن سناء الملك طويل: تغنى عليها حليها طرب بها ... وفاحت فقلنا: هذه الروضة الغنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 فإنه لو لم يقدم في صدر هذا البيت لفظة مشتقة من الغناء حصل بها في هذا البيت من الرونق ما لا يحصل بدونها، لكان البيت خالياً من التهذيب، فإن بوجودها حصل في البيت تصدير وتجنيس وائتلاف وتهذيب، وانتفى عنه من العيوب عدم الائتلاف، وقلق القافية، وبذلك تقدم التهذيب، وذلك أنه لو كان قال طويل: زهت بأزاهير الجمال وحسنها ... وفاحت فقلنا هذه الروضة الغنا لتبين قلق هذه القافية وتمكن تلك القافية الأولى، بسبب ما في البيت من التصدير. ومما جاء في الكتاب العزيز من أمثلة هذا الباب قوله تعالى: " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " فإن حسن الترتيب في نظم الكلام البليغ أمر مطلوب، ومن حسن الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل، وتعقيبه بالفعل، ثم الإتيان بالمفعول، فإن كان في الكلام مفعولان أحدهما تعذر وصول الفعل بنفسه إليه، والآخر تعدى إليه بنفسه قدم ما تعدى إليه الفعل بنفسه، وإذا علم ذلك كان لقائل أن يقول: لو توخى حسن الترتيب في عجز الآية لأتى وزن صدرها، والجواب أن حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع قوي، وهو مخافة أن تتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخارج، فيثقل الكلام بسبب ذلك، فإنه لو جاء الكلام فيه مرتباً لقيل: لئن بسطت يدك إلي، والطاء والتاء والياء متقاربات المخارج، فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدى الفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 إليه بالحرف على المفعول الذي تعدى إليه بنفسه، ولما أمن هذا المحذور في عجز الآية بما اقتضته البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية، لتضمنه معنى الفعل الذي تصح به المقابلة، جاء الكلام على ترتيبه من تقديم المفعول الذي تعدى الفعل إليه بنفسه، على المفعول الذي تعدى الفعل إليه بالحرف، وهذا من أحسن شواهد التهذيب والترتيب، والله أعلم. وكنت قد اطلعت على وصية وصى بها أبو تمام أبا عبادة البحتري في عمل الشعر، كان أبو تمام ارتجلها فجاءت محتاجة إلى تحرير بعض معانيها، وإيضاح ما أشكل منها، وزيادات يفتقر إليها فحررت منها ما يجب تحريره، وأضفت إليها ما تتعين إضافته، وذكرتها في كتابي المنعوت بالميزان في الترجيح بني كلام قدامة وخصومه وعلمت أن هذا الباب من هذا الكتاب أحوج إليها من ذلك، فأثبتها هاهنا بعد أن رأيت تقديم مقدمة يحتاج إليها، ويجب الاعتماد عليها، وهي التي يجب على من كان له ميل إلى عمل الشعر وإنشاء النثر أن يعتبر أولاً نفسه، ويمتحنها بالنظر في المعاني وتدقيق الفكر في استنباط المخترعات، فإذا وجد لها فطرة سليمة، وجبلة موزونة، وذكاء وقاداً، وخاطراً سمحاً، وفكراً ثاقباً، وفهماً سريعاً، وبصيرة مبصرة، وألمعية مهذبة، وقوة حافظة، وقدرة حاكية، وهمة عالية، ولهجة فصيحة، وفطنة صحيحة، وإن كانت بعض هذه الأوصاف غير لازمة لرب الإنشاء، ولا يضطر إليها أكثر الشعراء، لكنها إذا كملت في الشاعر والكاتب كان موصوفاً في هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الصناعة بكمال الأوصاف النفسية التي إذا أضيفت إليها الصفات الدرسية تكمل وتجمل من حفظ اللغات العربية، وتوابعها من العلوم الأدبية كالنحو والتصريف، والعروض والقوافي، وما سومح به الشعراء من الضرورات التي يلجئ إليها ضيق الوزن والتزام التقفية، ليعلم ما يجوز له استعماله، وما يجب عليه إهماله، ولينعم النظر في كتب البلاغة، ليعرف محاسن اللفظ مفرداً ومركباً، ومعانيه، ويحيط بما يتفرع من أصول النقد من البديع الذي هو رقوم الكلام، ونتائج مقدمات الأفهام، وليجعل عمدته على كتاب الله العزيز وليميز إعجازه أدق تمييز، فإنه البحر الذي لا تفنى عجائبه، ولا يظمأ فيه راكبه، منه استخرجت درر المحاسن، واستنبطت عيون المعاني، وعرف كنه البلاغة، وتحقق سر الفصاحة، وكذلك سنة الرسول عليه الصلاة والسلام فإن صاحبها بعث بجوامع الكلم، وبدائع الحكم، صلى الله عليه وسلم، وليحفظ أشعار العرب وأمثالها، وأنسابها وأيامها وسائر أخبارها، ومحاسن أثاراها، ومقاتل فرسانها الأنجاد، نوادر سمحائها الأجواد، ولا غنى به عن معرفة النجوم والأنواء، وعلم بهيئة المساء، وتعقل الآثار العلوية، والحوادث الأرضية، والمشاركة في الطب والطبائع والحساب، وما يحتاج إليه الكتاب من الفقه والحديث، ونقل التاريخ الصحيح ويكون ذلك المكتسب، من وراء أشياء لا تكتسب، ولا تحصل بالطلب، بل هي مما يجبل عليه الإنسان، ومن مواهب الرحمن، من عقل راجح، وذهن صاف، ورأي سديد ينتج ذلك مزاج معتدل ليحسن اختياره، ويجود انتخابه، فيتخير الألفاظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الرقيقة، والمعاني الرشيقة، ويتقن تأليف الكلام، وتركيب الألفاظ، وما بإيراد أبيات قلتهن في هذا المعنى من بأس وهي خفيف: انتخب للقريض لفظاً رقيقاً ... كنسيم الرياض في الأسحار فإذا اللفظ رق شف عن المع؟ ... نى فأبداه مثل ضوء النهار مثل ما شفت الزجاجة جسماً ... فاختفى لونها بلون العقار وأحسن من قولي ومن كل ما قيل علي ما بلغني في هذا المعنى قول أبي تمام في الحسن بن وهيب كامل: لم يتبع شنع اللغات ولا مشى ... رسف المقيد في طريق المنطق تنشق في ظلم المعاني إن دجت ... منه تباشير الكلام المشرق وكقول البحتري فيه كامل: فإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبه فاللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربه حكم سحائبها خلال بنانه ... هطالة وقليبها في قلبه كروض مؤتلفاً بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه وكأنها والسمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبه هذا إذا أراد المتكلم أن ينعت فاضلاً، أو يسمى أديباً كاملاً، فتعلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 بين العلماء درجته، وتطير بين الفضلاء سمعته، ويقبل قوله في لفظ كل كلام ومعناه، وليحذر من أن يقف خاطره بسبب معاندة الزمان، وتواتر صروف الحدثان، وتعذر المكسب، وعز المطلب وتقدم الجهال، واختصاص الأرذال بالأموال، فيكون ذلك داعياً إلى ترك الاشتغال، وسبباً في فتور عزمه عن تحصيل العلوم، وذريعة لقعوده عن رياضة نفسه، واستعمال خاطره، فيلحق بالأخسرين أعمالاً، والمخطئين أفعالاً وأقوالاً، بل يكون اجتهاده في ذلك اجتهاد راغب في الكمال، شديد الأنفة من مساومة الجهال، عاشق في تزكية نفسه، مائلاً للتقدم بنفس العلم على أبناء جنسه، وما أحسن قول القائل طويل: تعلم فليس المرء يولد عالماً ... وليس أخو علم كمن هو جاهل فإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل ولا بد للمجتهد من يوم تحمد فيه عاقبة اجتهاده، ويحصل فيه على مراده، وإن كان قصير الهمة مهين النفس، قد أوتي طبعاً في العمل سليماً، وذهناً مستقيماً، فظن أنه يستغني بذلك عن الاشتغال، ويبعد عم مماثلة الجهال، إدلالاً بطبعه، واتكالاً على حذقه، كأكثر شعراء زماننا وكتابه، والمنتظمين في سلك أرباب آدابه، حاشا من احتفل بالأدب احتفالاً أوجب لذوي الآداب، والانتفاع بهذا الكتاب، فلا يأنف من عرض ما يسمح به خاطره على من يحسن الظن بمعرفته، ويتحقق أن مرتبته في العلم فوق مرتبته، ولا تهمل ذلك فإن خطره عظيم، " وفوق كل ذي علم عليم "، هذا وإن كنت في ذلك كمن يصف الدواء ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 يستعمله، ويأمر بالعرف ولا يمتثله، غير أني أنهج الطريق، وأحض على التوفيق، لتحصل لي مثوبة الدلالة، وأكسب أجر الهداية، فإن الدال على الخير كفاعله، والمحرض على العمل كعامله، وليعتمد الراغب في نظم الشعر، وإنشاء النثر في وقت العمل على وصية الإمام أبي تمام التي وعدت سالفاً بنشرها، وهذا أوان ذكرها، وهي ما أخبر به الثقة عن أبي عبادة البحتري الشاعر أنه قال: كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم، ولم أكن وقفت على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضائه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت إليه، واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة: تخير الأوقات، وأنت قليل الهموم، وصفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات، إذا قصدت الإنسان تأليف شيء أو حفظه، قصد وقت السحر، وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم، وخف عنها ثقل الغذاء، وصفاً من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء، وسكنت الغمائم، ورقت النسائم، وتغنت الحمائم، وتغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه، واجتهد في إيضاح معانيه، فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً، والمعنى رشيقاً، وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق، والتعلل باستنشاق النسائم، وغناء الحمائم، والبروق اللامعة، والنجوم الطالعة، والتبرم بالعذال والعواذل، والوقوف على الطلل الماحل، وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فاشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأبن معالمه، وشرف مقاومه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وأرهف من عزائمه، ورغب في مكارمه، وتقاص المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالعبارة الزرية، والألفاظ الوحشية، وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام، وكن كأنك خياط يقدر الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضجر أرح نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من أشعار الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما استقبحوه فاجتنبه ترشد، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: الذي أوردته قبل هذه الوصية في بيت أبي تمام الذي هو: خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى البيت، وما فسرت به الدجى واختياره لوسط الليل دون طرفيه يناقض قوله في هذه الوصية: واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه، أن يختار وقت السحر. قلت: المقصد في البيت غير المقصد في الوصية، فإن المقصد في البيت التنقيح، وفي الوصية العمل والحفظ، والتنقيح يحتاج إلى خلو الخاطر وتدقيق النظر، وغوص الفكر أكثر من وقت الحفظ والعمل، والله أعلم. وما رأيت ولا رويت مثل وصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وصى بها كاتباً له يقول فيا: ألق دواتك، واجمع أداتك، وأرهف حدى قلمك إرهافاً، واحترس عند شقه احتراساً فإنك إن لم تتائم لسانه كدرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 بيانه، واستصلب المقط، وحرف القط، فإن لم تسمع لقطتك طنيناً غير خفي، وتنظر لها حرفاً كذباب المشرفي وإلا أعد القطة، فالقلم حف، وقرب بين الحروف، وباعد بين الصفوف، وتصفح ما كتبته وكرر النظر فيما حبرته، ليظهر لك رأيك قبل أن يخرج عنك كتابك، فالحظ هداك الله ما اختص الله سبحانه هؤلاء القوم من الخصائص التي أطلعهم على علوم ليست علومهم والى ما لم يهتد إليه أرباب تلك العلوم، ولم يدركها فهم حاذق من أرباب الفهوم، حتى صارت كلمات أحدهم قدوة يقتدى بها أرباب المعارف من الكتاب، وعلماً يهتدى به من ضل ومن أولى الألباب. وكنت قد جمعت فصولاً يحتاج إليها العامل في البلاغتين، والواضع في الصناعتين، من عدة كتب من كتب البلاغة، وحذفت منها ما لا يحتاج إليه، ونقحتها، وحررتها، وها أنا ذا أسوقها خاتمة لهذا الباب، والله الموفق للصواب، وهي: ينبغي لك أيها الراغب في العمل، السائل فيه عن أوضح السبل، أن تحصل المعنى عند الشروع في تحبير الشعر وتحرير النثر قبل اللفظ، والقوافي قبل الأبيات، ولا تكره الخاطر على وزن مخصوص، وروى مقصود، وتوخ الكلام الجزل، دون الرذل، والسهل، دون الصعب، والعذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 دون المستكره، والمستحسن دون المستهجن، ولا تعمل نظماً ولا نثراً عند الملل، ولا تؤلف كلاماً وقت الضجر، فإن الكثير معه قليل، والنفيس به خسيس، والخواطر ينابيع إذا رفق بها جمت، وإذا عنف عليها نزحت، واكتب كل معنى يسنح، وقيد كل فائدة تعرض، فإن نتائج الأفكار تعرض كلمعة البرق، ولمحة الطرف، إن لم تقيد شردت وندت، وإن لم تستعطف بالتكرار عليها صدت، والترنم بالشعر مما يعين عليه، قال الشاعر بسيط تغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لقول الشعر مضمار وقد يتحيل الشاعر حيناً ويستعصي عليه الشعر زماناً، كما روى عن الفرزدق أنه قال: لقد يمر على الزمن وإن قلع ضرس من أضراسي لأهون علي من أن أقول بيتاً واحداً، فإذا كان كذلك فاتركه حتى يجيئك عفواً، وينقاد إليك طوعاً، وإياك وتعقيد المعاني وتقعير الألفاظ، واعمل في أحب الأغراض إليك، وفيما وافق طبعك، فالنفوس تعطي على الرغبة ما لا تعطى على الرهبة، واعمل الأبيات مفرقة بحسب ما يجود بها الخاطر، ثم انظمها في الآخر، واحترس عند جمعها من عدم الترتيب، وتوخ حسن التنسيق عند التهذيب، ليكون كلامك بعضه آخذاً بأعناق بعض، فهو أكمل لحسنه، وأمتن لرصفه وجمل المبدأ والتخلص والمقطع، فإن ذلك أصعب ما في القصيد، واجتهد في تجويد هذه المواضع، وتجنب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 معارض أرباب الخواطر فيها، وتواردهم عليها، وميز في فكرك محط الرسالة، ومصب القصيدة قبل العمل، فإن ذلك أسهل عليك، وأشعرها أولاً، ونقحها ثانياً، وكرر التنقيح، وعاود التهذيب، ولا تخرجها عنك إلا بعد تدقيق النقد وإنعام النظر، وقد كان الحطيئة يعمل القصيدة في شهرين، وينقحها في شهرين اقتداء بزهير، فإنه كان راويته، وقد كان زهير يعمل القصيدة في شهر واحد وينقحها في حول كامل، حتى قيل لشعره: المنقح الحولي، والحولي المحكك. وفي ذلك يقول عدي بن الرقاع كامل: وقصيدة قد بت أجمع بينها ... حتى أقوم ميلها وسنادها نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها وفي الناس من رزق بديهة حسنة، وحدة خاطر، ونفاذ طبع؛ وسرعة نظم، يرتجل القول ارتجالاً، ويأتي به عفواً صفواً، فلا تقعد به عن قوم قد أتعبوا خواطرهم، وكدوا نفوسهم في التهذيب، وبذلوا جهدهم في التنقيح والتأديب واحذر إذا كاتبت من الإسراف في الشكر، فإنه إبرام يوجب للكلام ثقلاً، ولا تطل الدعاء فإنه يورث مللاً، ولا تجعل كلامك مبنياً على السجع كله، فتظهر عليه الكلفة، ويبين فيه أثر المشقة، ويتكلف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط، واللفظ النازل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وربما اشتد عيب كلمة المقطع رغبة في السجع، فجاءت نافرة من أخواتها، قلقة في مكانها بل اصرف كل النظر إلى تجويد الألفاظ، وصحة المعاني، واجتهد في تقويم المباني، فإن جاء الكلام مسجوعاً عفواً من غير قصد، وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان، وإن عز ذلك فاتركه وإن اختلفت أسجاعه، وتباينت في التقفية مقاطعة، فقد كان المتقدمون لا يحلفون بالسجع ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق عن غير قصد ولا اكتساب، وإنما كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، ومعانيهم ناصعة، وعبارتهم رائقة وفصولهم متقابلة، وجمل كلامهم متماثلة، وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام، ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام، كابن المقفع، وسهل بن هارون، وإبراهيم بن العباس، والحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة، وأبي عثمان الجاحظ، وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء، ولا تجعل كل الكلام شريفاً عالياً، ولا وضيعاً نازلاً، بل فصله تفصيل العقود، فإن العقد إذا كان كله نفيساً، لا يظهر حسن فرائده، ولا يبين كمال واسطته، وانظر إلى نظم القرآن العزيز كيف جمع طبقات البلاغة الثلاث، ليظهر فضل كل طبقة في بابها، وتبين محكم أسبابها، ويعلم أن أدناها بالنسبة إليها يعلو على أعلى الطبقات من كلام البلغاء، ويربى عليها، فإن الكلام إذا كان منوعاً افتنت الأسماع فيه، ولم يلحق النفوس ملل من ألفاظه ومعانيه، واعلم أن الألفاظ أجساد والمعاني أرواحا، فإذا قويت الألفاظ فقو المعاني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وإذا أضعفتها فأضعفها لتتوازن قوى الكلام، وتتناسب في الأفهام، واقصد القوافي السهلة المستحسنة، دون المستصعبة المستهجنة، والأوزان المستعملة الحلوة، دون المهجورة الكزة، فإن الشعر كالجواد، والقوافي حوافره، والألفاظ صورته، والمعاني سرعته، والأوزان جملته، واجعل كلامك كله كالتوقيعات، وعليك بالمقطعات فإنها في القلوب أحلى وأكمل، وفي المجالس أرشق وأجول، وبالأسماع أعلق، وبالأفواه أعبق، فإذا نثرت منظوماً فغير قوافي شعره إلى قوافي سجعه، وإذا أخذت معنى بيت من بيت فتجنب الألفاظ جملتها ما استطعت، أو معظمها، وغيرا لوزن والقافية، وزد في معناه، وانقص من لفظه، واحترس مما طعن عليه به، لتكون أملك له من قائله وإن كان التفضيل قد يقع بغير ما ذكرت، ومما يقدم به المتكلم على غيره حسن الأدب مع الممدوح، كقول ابن نباتة السعدي في سيف الدولة بن حمدان عفا الله عنه بسيط لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل فإنه أحسن الأدب مع ممدوحه، بخلاف المتنبي، فإن المتنبي قال في هذا المعنى بسيط تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي فإن المتنبي جعل ممدوحه ممن يصح منه التمني لو كانت بقيت له أمنيته. وابن نباتة جعل مادح ممدوحه لم تبق له أمنيته، ورفعه عن أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 هو ممن يصح أن يتمنى شيئاً، فكل ما جعله المتنبي لممدوحه، جعله ابن نباتة لشاعر ممدوحه، وهذا الأدب من قول الله سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: " الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين " فأسند أفعال الخير كلها لله، وأسند فعل الشر لنفسه، حسن أدب مع ربه. صلى الله عليه وسلم. ومثل ذلك قوله تعالى: " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " مقتضى الصناعة أن يؤتى بتجنيس الازدواج في صدر الآية، كما أتى به في عجزها، لكنه منع منه توخي التأديب والتهذيب في نظم الكلام، وذلك أنه لما كان الضمير الذي في " ليجزي " عائداً على الله سبحانه، وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاص إلى ردفه، حتى لا تنسب السيئة لله تعالى، فقال سبحانه في موضع.. " بالسيئة " " بما علموا " فعوض عن تجنيس المزاوجة الإرداف، لما في الإرداف من حسن الأدب مع الله تعالى، ليعلمنا ذلك، ولما كان قوله تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " قد أمن فيه هذا المحذور، أتى الكلام فيه على مقتضى الصناعة، والله أعلم. ومن أحسن ما وقع في هذا قوله تعالى: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار " لأنه سبحانه أدمج وهو أعلم في هذا الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وصف نفسه بالعدل فعلق فن الفخر بفن الأدب، إذ ظاهر الآية التأدب والموعظة، ووصف نفسه تعالى بالعدل فخر متعلق بذلك، مع ما في لفظ هذا الكلام من الملاءمة التي حصل بها ائتلاف اللفظ بالمعنى، لأن الركون إلى الظالم دون فعل الظالم نفسه، ومس النار دون إحراقها والدخول فيها، والعدل يقتضي أن يكون العقاب على قدر الذنب، فكان ذلك المساس ملائماً للركون دون غيره، فانظر ما انطوى عليه نظم هذه الألفاظ السبع من المعاني، وأنواع البديع، والائتلاف الذي دلت عليه الملاءمة، والإدماج، والتعليق والافتنان، والبسط، إذ عدل عن قوله " إلى الظالمين " إلى قوله " إلى الذين ظلموا " لما يحتمل الأول من الاستمرار في الظلم على سبيل الندور، ليلائم المعنى لفظ الركون ولفظ المساس، والمبالغة، لأنه إذ نهى عن الركون إلى من وقع منه الظلم في وقت دون وقت كان النهي عن الركون لمن استمر منه الظلم بطريق أولى، لترى ما تحت نظم هذا الكتاب العزيز من الخبايا التي هذا بعضها، وما خفي منها أكثر مما ظهر، والله أعلم. وإذا تقاربت الديار، تقاربت الأفكار، ولهذا قيل: الشعر محجة يقع فيها الخاطر على الخاطر، كوقوع الحافر على الحافر. واعلم أن من الناس من شعره في البديهة أبدع منه في الروية، ومن هو مجيد في رويته وليست له بديهة، وقلما يتساويان، ومنهم من إذا خاطب أبدع، وإذا كاتب قصر، ومنهم من بضد ذلك، ومن قوى نظمه ضعف نثره، ومن قوى نثره ضعف نظمه، وقلما يتساويان، وقد يبرز الشاعر في معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 من معاني مقاصد الشعر دون غيره من المقاصد، ولهذا قيل: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، وعنترة إذا كلب، والأعشى إذا طرب. وإياك وتعقيد المعاني بسوء التركيب، واستعمال اللفظ الوحشي، فإن خير الكلام ما سبق معناه إلى القلب، قبل وصول جملته إلى السمع، فإن علي بن عيسى الرماني ذكر أن أسباب الإشكال ثلاثة وكلها تغير الكلام عن الأغلب، كالتقديم، والتأخير، وسلوك الطريق الأبعد، وإيقاع المشترك وقد جمع هذه الأسباب الثلاثة قول الفرزدق طويل: وما مثله في الناس إلا مملك ... أبو أمه حي أبوه يقاربه فإن الممدوح: إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام ابن عبد الملك، فأبو أم هشام بن عبد الملك وهو المملك أبو إبراهيم ابن هشام بن إسماعيل المخزومي، فجد المملك وهو المملك لأمه أبو الممدوح، فالممدوح على هذا خال المملك، وحاصل معنى هذا البيت: وما مثل هذا الممدوح إلا ابن أخته، وأما التقديم والتأخير مع قوله وما مثله البيت فإن صحته وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه، فلما قدم وأخر حصل التعقيد. وأما سلوك الطريق الأبعد، فقوله: أبو أمه أبوه، وكان يجزئه قوله: جده أبوه. وأما المشترك ففي قوله حي لصلاحية اللفظ لضد الميت، وللقبيلة. انتهى كلام الرماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وليكن كلامك سليماً من التكلف، بريئاً من التعسف، وليحط لفظك بمعناك، وتشتمل عبارتك على مغزاك، واحذر الإطالة إلا فيما تحمد فيه، فإن البلاغة لمحة دالة، وقيل: سرعة جواب في صواب، وقيل: أن تقول فلا تبطئ، وأن تصيب فلا تخطئ، والصحيح من حدها أنها إيضاح المعنى بأقرب الطرق أسهلها، وإذا روعي الاشتقاق فيها قيل في حدها: هي بلوغ المتكلم بعبارته أقصى ما في نفسه، وإيصال ذلك لمخاطبه بأقرب الطرق وأسهلها والعي إكثار من مهدار، وإخطاء بعد إبطاء، كما جاء في المثل: " سكت ألفاً ونطق خلفاً ". وقدر اللفظ على قدر المعنى لا زائداً عليه، ولا ناقصاً عنه، كما قيل في مدح بعض البلغاء: كانت ألفاظه قوالب لمعانيه، وقيل في آخر: كان إذا أخذ شبراً كفاه، وإن أخذ طوماراً ملأه واستعمل التطويل في مكانه، والتقصير في مكانه، فقد قيل: إذا كان الإيجاز كافياً، كان الطويل عياً، وإذا كان التطويل واجباً، كان التقصير عجزاً ولهذا حد بعضهم البلاغة بأنها إيجاز من غير إخلال، وإطناب من غير إملال، وما أحسن ما أنشده الجاحظ في هذا الموضع، وهو كامل: يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وإياك أن تفرط فتكثر، أو تفرط فتقصر، وقد ذكر في كتابه المترجم بالبيان والتبيين أن الفارسي: سئل عن البلاغة فقال: معرفة الفصل من الوصل. وسئل اليوناني عنها فقال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وسئل الرومي عنها فقال: حسن الاقتصار عند البديهة، والغزارة يوم الإطالة. وسئل الهندي عنها فقال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة. وقال مرة: التماس حسن الموقع، والمعرفة بساعات القول، وقلة الخرق بما التبس من المعاني، أو غمض وشرد في اللفظ وتعذر، ورتبته أن تكون الشمائل مذروبة يعني المتكلم، والألفاظ معدلة، واللهجة نقية، وألا يكلم سيد الأمة بما يكلم به الأمة، ويكون في قوله فضل التصرف في كل طبقة، ولا يدقق المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، بل يصفيها كل التصفية، ويهذبها غاية التهذيب. ثم قال، أعني الجاحظ، وأما البراعة فقد قالوا فيها: يعني أهل اللغة: إنها الحذق بطريقة الكلام وتجويده، وأما الفصاحة فمختلف فيها فمن قائل بأنها جزالة اللفظ، وحسن المعنى، وقيل: الاقتدار على الإبانة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 كل معنى كامن في النفس، بعبارات جليلة، ومعان نقية بهية، والذي صح في تعريفها: أنها خلوص الألفاظ من التعقيد المبعد عن إدراك معانيها، وعن العيوب التي تعرض فيها، فإن اشتقاقها من الفصيح، وهو اللبن الذي خلص من رغوته أو لبئه، وإلا فانظر إلى قصص الكتاب العزيز كيف أتت تارة وجيزة، ومرة بسيطة كما قلت في وصفه في القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل: به قصص تأتيك طوراً بسيطة ... ليفهمها من بسطها المتبلد وطوراً بإيجاز يبث لذي حجاً ... له زند فهم ثاقب ليس يصلد وعلى الجملة، مهما كان الإيجاز كافياً، والمعنى به واضحاً، فالإطالة إن لم تكن عياً كانت عبثاً، ولم تزل الأجلاء المتقدمون يحمدون ذلك، ويذمون ما سواه، ويدلك على اختيار هذا المذهب ما يحكى عن أحمد بن يوسف الكاتب، فإنه قال: دخلت يوماً على المأمون وفي يديه كتاب، وهو يعاود قراءته تارة بعد أخزى، ويصعد نظره فيه ويصوبه، قال: فلما مرت على ذلك مدة التفت إلى وقال: يا أحمد، أراك مفكراً فيما تراه مني، فقلت: نعم، وقى الله أمير المؤمنين المكاره، وأعاذه من المخاوف، فقال: إنه لا مكروه في الكتاب، ولكني قرأت فيه كلاماً وجدته نظير ما سمعت الرشيد رحمه الله يقوله في البلاغة، فإني سمعته يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقريب من البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 من المعنى، وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى، حتى قرأت هذا الكتاب، ورمى به إلي وقال: هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا، قال: فقرأته، فإذا فيه كتابي إلى أمير المؤمنين، ومن قبلي من قوداه وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كافة تراخت أعطياتهم، فاختلت لذلك أوالهم، والتاثت معه أمورهم، فقال: فلما قرأته قال لي: يا أحمد، إن استحساني هذا الكلام بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطياتهم لسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه محله من صناعته، وروى أيضاً عن المأمون أنه أمر عمرو بن مسعدة الكاتب هذا أن يكتب لرجل يعني به إلى بعض العمل بالوصية عليه، وأن يختصر كتابه ما أمكنه حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد، فكتب إليه عمرو بن مسعدة: كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه، معنى بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله، إن شاء الله تعالى. وقد كان جعفر بن يحيى من تقدمه في هذه الصناعة يقول لكتابه: إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيعات فافعلوا. وأما قول قيس بن خارجة لما قيل له: ما عندك في حمالات داحس؟ فقال: عندي قرى كل نازل، ورضا كل ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها بالتواصل، وأنهى عن التقاطع، فإن ذلك لم يخرجه مخرج المدح للإطالة المذمومة، لأن الإطالة المذمومة هي إطالة العبارة عن المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الواحد بالألفاظ الكثيرة، وإنهما أراد قيس الإكثار من المعاني، فإذا كثرت المعاني احتاج المتكلم إلى كثرة الألفاظ للعبارة عنها لإيضاحها وليوفي بمقصوده فيها، ومتى طال الكلام كذلك كانت إطالته بلاغة لاعيا، فإن حقيقة البلاغة إيجاز من غير إخلال، وإطناب من غير إملال، لاسيما خطب الإملاكات، والسجلات التي تقرأ على رءوس الجماعات، فالمحمود في هذه المواضع الإطناب، والمذموم الإسهاب، وإنما كان الإطناب محموداً، والإسهاب مذموماً، لأن الإطناب تفخيم الأمر وتقويته وتوكيده وشد أواخيه، والإسهاب مأخوذ من السهب وهو المتسع من الفلاة التي لا ينتهي النظر فيه إلى علم يهتدى به، ولا معلم يؤوى إليه، فكأن المسهب اتسع في الكلام اتساعاً لا فائدة فيه، وقد شفيت الغليل في هذا الباب، وخرجت فيه عن شرط الكتاب، لاحتياج العامل إليه، واعتماد الناقد عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 باب حسن النسق حسن النسق من محاسن الكلام، وهو أن تأتى الكلمات من النثر والأبيات من الشعر متتاليات، متلاحمات تلاحماً سليماً مستحسناً، لا معيباً مستهجناً، والمستحسن من ذلك أن يكون كل بيت إذا أفرد قام بنفسه، واستقل معناه بلفظه، وإن ردفه مجاوره صار بمنزلة البيت الواحد، بحيث يعتقد السامع أنهما إذا انفصلا تجزأ حسنهما، ونقص كمالهما، وتقسم معناهما، وهما ليسا كذلك، بل حالهما في كمال الحسن وتمام المعنى مع الانفراد والافتراق كحالهما مع الالتئام والاجتماع. ومن شواهد هذا الباب في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ". فأنت ترى إتيان هذه الجمل معطوفاً بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة لأنه سبحانه بدأ بالأهم، إذ كان المراد إطلاق أهل السفينة من سجنها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ولا يتهيأ ذلك إلا بانحسار الماء عن الأرض، فلذلك بدأ بالأرض، فأمرها بالابتلاع، ثم علم سبحانه أن الأرض إذا ابتلعت ما عليها من الماء ولم تقطع مادة الماء تأذى بذلك أهل السفينة عند خروجهم منها وربما كان ما ينزل من السماء مخلفاً لما تبتلعه الأرض، فلا يحصل الانحسار فأمر سبحانه السماء بالإقلاع بعد أمره الأرض بالابتلاع، ثم أخبر بغيض الماء عند ما ذهب ما على الأرض، وانقطعت مادة السماء، وذلك يقتضي أن يكون ثالث الجملتين المتقدمتين، ثم قال تعالى: " وقضي الأمر "، أي هلك من قدر هلاكه، ونجا من قضيت نجاته، وهذا كنه الآية، وحقيقة المعجزة، ولا بد وأن تكون معلومة لأهل السفينة، ولا يمكن علمهم بها إلا بعد خروجهم منها، وخروجهم منها موقوف على ما تقدم، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون هذه الملة رابعة الجمل، وكذلك استواء السفينة على الجودي، أي استقرارها على المكان الذي استقرت فيه استقراراً لا حركة معه، لتبقى آثارها آية لمن يأتي بعد أهلها، وذلك يقتضي أن يكون بعد ما ذكرنا، وقوله سبحانه: " وقيل بعداً للقوم الظالمين "، هذا دعاء أوجبه الاحتراس ممن يظن أن الهلاك ربما شمل من لا يستحق، فدعا سبحانه على الهالكين، ووصفهم بالظلم احتراساً من هذا الاحتمال، وذلك يقتضى أن تكون بعد كل ما تقدم، والله أعلم. فانظر إلى حسن هذا النسق، وكيف وقع القول فيه وفق الفعل سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 ومن شواهد هذا الباب الشعرية قول زهير طويل: ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم فإنه نسق على هذا البيت اثنى عشر بيتاً كل بيت معطوف على ما قبله بالواو عطف تلاحم من غير تضمين. وحسن النسق تارة يكون في الأبيات بحيث يعطف بيت على بيت كما قدمنا من شعر زهير، وتارة في جمل البيت الواحد، كقول ابن شرف القيرواني بسيط جاور علياً ولا تحفل بحادثةٍ ... إذا ادرعت فلا تسأل عن الأسل سل عنه، وانطق به، وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل فالحظ حسن هذا النسق؛ وصحة هذا الترتيب فيه، واستيعاب هذا التقسيم، ووضوح هذا التفسير، وما رأيت من شواهد حسن النسق مما هو داخل في القسم الأول منه كقول أبي نواس كامل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وإذا جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كله في الكاس وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس فإن حسن النسق لاءم بين فنين متضادين في هذين البيتين: وهما المجون والزهد حتى صارا كأنهما فن واحد، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 باب الانسجام وهو أن يأتي الكلام متحدرا كتحدر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ، حتى يكون للجملة من المنثور والبيت من الموزون وقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس لغيره، مع خلوه من البديع، وبعده عن التصنيع. وأكثر ما يقع الانسجام غير مقصود، كمثل الكلام المتزن الذي تأتى به الفصاحة في ضمن النثر عفواً كمثال أشطار، وأنصاف، وأبيات وقعت في أثناء الكتاب العزيز ورويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن وقع من ذلك في غير القرآن بيتان فصاعداً سمى ذلك شعراً وإن لم يقصد، وأما القرآن العزيز فلم يقع فيه إلا مثال النصف، أو البيت الواحد، والبيت المفرد لا يسمى شعراً، وعلى ذلك أدلة لا يتسع هذا المكان لذكرها، وقد أتيت بها مستقصاة في كتابي المنعوت بالميزان الذي شرعت في عمله، أرجح فيه بين كلام قدامة وبين كلام خصومة، ولم يتكلم. ومثال الانسجام الذي وقع في الأشعار المقصودة قول الإمام أبي تمام بسيط إن شئت ألا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح الطلل وكقوله أيضاً كامل: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول وكقول البحتري طويل: فيا لائمي في عبرة قد سفحتها ... لبين، وأخرى قبلها لتجنب تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهباً غير مذهبي وكقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي طويل: على عصر أيام الصبابة والصبا ... ووصل الغواني والتذاذي بالشرب سلام امرئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب ومن هذا الباب للمتقدمين أكثر لامية الشنفري كقوله طويل: وفي الأرض مناى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول وكقول امرئ القيس طويل: أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمر القلب يفعل ولم أسمع في الانسجام كقول عبد الصمد بن المعذل يرثي الأمير سعيد بن سلم بقوله خفيف: كم يتيم خبرته بعد يتم ... وعديم نعشته بعد عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 كلما عضت الحوادث نادى ... رضى الله عن سعيد بن سلم والبيت الثاني أردت. وكقول شاعر الحماسة طويل: ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر قضى الله حب المالكية فاصطبر ... عليه، فقد تجري الأمور على قدر وقد يحصل الانسجام مع البديع الذي أتت به القريحة عفواً من غير استدعاء ولا كلفة، كقول أبي تمام بسيط إن شئت ألا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح الطلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 فأنت ترى انسجام هذا الكلام مع كون البيت قد وقع فيه المبالغة، والتعليق، والإشارة، فإنه علق عدم صبر المصطبرين برؤية الطلل على تلك الحالة، وأشار بقوله: " على أي حال أصبح الطلل " إلى أحوال كثيرة لو عبر عنها بلفظها لاحتاجت إلى ألفاظ كثيرة، وعلق أحد الأمرين بالآخر، إذ جاء بلفظ الشرط والمشروط. ومن الانسجام في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " والآية التي بعدها. وقوله تعالى " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وقوله سبحانه: " ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون " وأكثر القرآن من شواهد هذا الباب. ومن الانسجام في السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف القرآن: " إن الله أنزل هذا القرآن آمراً وزاجراً، وسنة خالية ومثلاً مضرباً، فيه نبأكم، وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول المدد، ولا تنقضي عجائبه، هو الحق، ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن قسم به أقسط ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن ابتعه، لا يعوج فيقوم، ولا يريغ فيستعتب ". فانظر إلى انسجام هذه العبارة وما جاء فيها من البديع غير مقصود، تشهد الخواطر السليمة أنه كلام مسترسل غير مرو ولا مفكر، فصلوات الله وسلامه على من بعث بجوامع الكلم، وأوتى هذه الفصاحة الرائعة، وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 باب براعة التخلص وهو امتزاج آخر ما يقدم الشاعر على المدح من نسب أو فخر أو وصف أو أدب أو زهد أو مجون أو غير ذلك بأول بيت من المدح. وقد يقع ذلك في بيتين متجاورين، وقد يقع في بيت واحد، وهذه وإن لم تكن طريقة المتقدمين في تغالب أشعارهم، فإن المتأخرين قد لهجوا بها وأكثروا منها، وهي لعمري من الماسن وهذا الباب قديم، وهو من أجل أبواب المحاسن، ويسمى معرفة الفصل من الوصل. وقد ذهب أصحاب الإعجاز إلى أنه وجه الإعجاز، وهو دقيق في عين الغبي خفي يخفى على غير الحذاق من ذوي النقد. وهو مبثوث في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره، فإنك تقف من الكتاب العزيز على مواضع تجدها في الظاهر فصولاً متنافرة لا تعرف كيف تجمع بينها، فإذا أنعمت النظر وكنت ممن له دربة بهذه الصناعة، ظهر لك الجمع بينهما، كقوله سبحانه وتعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير، وأتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً " فإنك إذا نظرت إلى قوله تعالى: " وآتينا موسى الكتاب " وجدت هذا الفصل مبايناً لما قبله حتى تفكر فتجد الوصل بين الفصلين في قوله: " سبحان الذي أسرى بعبده " فإنه سبحانه أخبر بأنه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته، ويرسله إلى عباده، كما أسرى بموسى من مصر ين خرج منها خائفاً يترقب، فأتى مدين، وتزوج بابنة شعيب، وأسرى بها فرأى النار، فخاطبه ربه وأرسله إلى فرعون، وآتاه الكتاب، فهذا الوصل بين هذين الفصلين، وأما الوصل بين ما ذكرت وبين قوله تعالى: " ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً " فقد كان على بني إسرائيل نعمة عليهم قدماً حيث نجاهم في السفن، إذ لو لم ينج أباهم من أبناء نوح لما وجدوا، وأخبرهم أن نوحاً كان شكوراً، وهم ذريته، والولد سر أبيه، فيجب أن يكونوا شاكرين كأبيهم. وأما في الشعر فأتم الناس براعة في التخلص وأول من أحسن في ذلك من القدماء في غالب ظني زهير، حيث قال بسيط إن البخيل ملوم حيث كان ول؟ ... كن الكريم على علاته هرم ولقد اتفق له في هذا البيت اتفاق صالح حيث جاء مدمجاً من جهة عروضه، فامتزج المعنيان والقسيمان امتزاجاً كلياً لفظياً ومعنوياً مع ما وقع في البيت من المطابقة اللفظية، ثم تأنث المتأخرون في ذلك، فمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 مجيد مبرز، ومن ضعيف مقصر، فمن المجيدين في ذلك الذي أتى فيه بما لا يلحق سبقاً مسلم بن الوليد، حيث قال طويل: أجدك ما تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر سريت بها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر فإن التخلص وقع في بيت واحد، وهو أحسن قسميه، إلى ما جاء في البيت من التعليق والإشارة، فإنه علق الغزل بالمدح، حيث أشار إلى فرط حب يحيى لولده جعفر، وهو الممدوح، وفي ذلك مدحه بالبر لأبيه، الذي أوجب له ذلك عليه، وفي وصفه بالبر لأبيه جما خير الدنيا والآخرة، فأدمج المبالغة في التعليق. ومن المجيدين في ذلك أيضاً أبو نواس حيث يقول طويل: تقول التي من بيتها خف محملى ... يعز علينا أن نراك تسير أما دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير فقلت لها، واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى في إثرهن عبير ذريني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير وكقول أبي تمام كامل: لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على إلف سواك تحوم وكقوله حيث يقول وافر: لقد أنست مساوئ كل دهر ... محاسن أحمد بن أبي دؤاد وكقوله معتذراً في وصف الإبل طويل: سرت تحمل العتبى إلى العتب والرضا ... إلى السخط والعذر المبين إلى الحقد وكقوله بسيط يقول في قومس صحبي وقد أخذت ... منا السرى وخطا المهرية القود أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا ... فقلت كلا ولكن مطلع الجود ومما تقدم فيه غيره قوله بسيط إساءة الحادثات استنبطى نفقاً ... فقد أظلك إحسان ابن حسان وكقوله بسيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 لم يجتمع قط في مصر ولا طرفٍ ... محمد بن أبي أيوب والنوب وكقوله كامل: فالأرض معروف السماء قرى لها ... وبنو الرجاء لهم بنو العباس على أن أبا الطيب المتنبي قد أتى في هذا الباب بما لا يقصر به عن لحاق أبي تمام ولا أمثاله من المجيدين، ويكفيه من ذلك قوله بسيط مرت بنا بين تربيها فقلت لها ... من أين جانس هذا الشادن العربا فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا وأما إذا وصلت إلى ابن حجاج في هذا الباب، فإنك تصل إلى ما لا تدركه الألباب، ومن ذلك قوله وافر: وقد بادلتها فمبالها لي ... بمشورة استها ولها قذالي كما لابن العميد جميع مدحى ... ودنيا ابن العميد جميعها لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وكقوله خفيف: فبهم قد أمنت خوف معادي ... وبهذا الوزير خوف زماني ومن براعة التخلص في الكتاب العزيز قوله تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص " فإنه سبحانه أشار بقوله: أحسن القصص إلى قصة يوسف، فوطأ بهذه الجملة إلى ذكر القصة مشيراً إليها بهذه النكتة من باب الوحي والرمز، وإنما كانت أحسن القصص بكون كل قضية منها كانت عاقبتها إلى خير، فإن أولها رميه في الجب، فكانت عاقبته السلامة، وبيع ليكون عبداً فاتخذ ولداً، ومراودة امرأة العزيز له فعصمه الله، ودخوله السجن، وخروجه ملكاً، وظفر إخوته به أولاً، وظفر بهم آخراً، وتطلعه إلى أخيه بنيامين، واجتماعه به، وعمى أبيه، ورد بصره، وفراقه له، ولأخيه، واجتماعه بهما، وسجود أبويه وإخوته له تحقيقاً لرؤياه من قبل. وكقوله تعالى: موطئاً للتخلص لذكر مبدأ خلق المسيح عليه السلام: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً " الآية. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ؟ باب الحل وهو أن يعمد الكاتب إلى شعر ليحل منه عقد الوزن فيصيره منثوراً، كما روى عن إبراهيم بن العباس الصولي أنه قال: ما اتكلت قط في مكاتباتي إلا على ما يجلبه خاطري، ويجيش به صدري، إلا قولي: " فأبدلوه آجالاً من آمال " فإني حللت قول مسلم بن الوليد بسيط موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل وقولي: وقد صار ما يحرزهم يبرزهم، وما يعقلهم يعتقلهم، فإني حللت فيه قول أبي تمام طويل: فإن باشر الإصحار فالبيض والقنا ... قراه، وأحواض المنايا مناهله وإن يبن حيطاناً عليه فإنما ... أولئك عقالاته لا معاقله والبيت الثاني أردت. ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " يعملون له ما يشاء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات " فإن ذلك حل قول امرئ القيس " رمل ": وقدور راسيات ... وجفان كالجواب على أن بعض الرواة ذكر أنه وضعه بعض الزنادقة، وتكلم على الآية الكريمة، وأن امرأ القيس لم يصح أنه تلفظ به، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 باب العقد وهو ضد الحل، لأنه عقد النثر شعراً. ومن شرائطه أن يؤخذ المنثور بجملة لفظه أو بمعظمه، فيزيد فيه، أو ينقص منه، أو يحرف بعض كلماته ليدخل به في وزن من أوزان الشعر، ومتى أخذ معنى المنثور دون لفظه كان ذلك نوعاً من أنواع السرقات بحسب الآخذ الذي يوجب استحقاق الأخذ للمأخوذ، ولا يسمى عقداً إلا إذا أخذ المنثور برمته، وإن غير منه بطريق من الطرق التي قدمناها كان المبقى منه أكثر من المغير بحيث يعرف من البقية صورة الجميع، كما فعل أبو تمام في كلام عزى به علي عليه السلام الأشعث بن قيس في ولده، فعقده أبو تمام شعراً فقال طويل: وقال علي في التعازي لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر أم تسلو سلو البهائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ومنه قول أبي العتاهية سريع: ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره يفخر فإنه عمد إلى قول علي بن أبي طالب عليه السلام: ما ابن آدم والفخر، وإنما أوله نطفة وآخره جيفة، فقعده شعراً. وكقوله، أعني أبا العتاهية وافر: كفى حزناً بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك من يديا وكانت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيا فإنه عقد قول بعض الحكماء في الإسكندر حين مات: إن كان الملك أمس أنطق منه اليوم، فهو اليوم أوعظ منه أمس، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 باب التعليق وهو أن يأتي المتكلم بمعنى في غرض من أغراض الشعر، ثم يعلق به معنى آخر من ذلك الغرض يقتضى زيادة معنى من معاني ذلك الفن، كمن يروم مدحاً لإنسان بالكرم فيعلق بالكرم شيئاً يدل على الشجاعة، بحيث لو أراد أن يخلص ذكر الشجاعة من الكرم لما قدر. ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " فإنه سبحانه لو اقتصر على وصفهم بالذل على المؤمنين، لاحتمل أن يتوهم ضعيف الفهم أن ذلهم عن عجز وضعف، فنفى ذلك عنهم، وكمل المدح له بذكر عزهم على الكافرين، ليعلم أن ذلهم للمؤمنين عن تواضع لله سبحانه، لا عن ضعف ولا عجز بلفظ اقتضت البلاغة الإتيان به، ليتمم بديع اللفظ كما تمم المدح، فحصل في هذه الألفاظ الاحتراس مدمجاً في المطابقة، وذلك تبع للتعليق الذي هو المطلوب من الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 ومن أمثلة التعليق قول المتنبي طويل: إلى كم ترد الرسل عما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام فعلق الكرم بالشجاعة لكونه شبه رسل العدو بالملام في الهبة، فهو كثير ما يردهم عما يطلبون منه تهاوناً بمرسلهم، وشجاعة عليهم، وتسرعاً إلى حربهم، ورغبة في ما دون سلمهم، ثم حصل من التشبيه الذي علق به الكرم بالشجاعة وصفه بغاية الكرم، إذ دل على أنه عاشق في الجود، ولا يسمع فيه ملاماً، ولا يصغي إلى عاذل، وقد يعلق المتكلم فناً من فنون الكلام بمعنى من معاني البديع، وما سمعت في ذلك أحلى من قول بعض العراقيين في بعض القضاة، وقد شهد عنده برؤية هلال الفطر، فلم يجز الشهادة " رمل مجزؤ ": أترى القاضي أعمى ... أم تراه يتعامى سرق العيد كأن ال؟ ... عيد أموال اليتامى فعلق خيانة القاضي في أموال اليتامى بما قدمه من خيانته في أمر العيد برابطة التشبيه. ومن مليح التعليق قول المتنبي في صفة الليل، وهو من الصنف الأول من التعليق وافر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد به على الدهر الذنوبا فإنه علق فن عتاب الزمان بفن الغزل اللازم من فن الوصف بواسطة أداة التشبيه، فعلق الافتنان بالتشبيه، فأحسن ما شاء. ومن أحسن ما سمعت في التعليق قول أبي نواس، وهو من الصنف الثاني من التعليق " مجزوء الوافر ": لهم في بيتهم نسب ... وفي وسط الملا نسب لقد زنوا عجوزهم ... ولو زنيتها غضبوا فإنه علق هجاءهم بفجور أمهم بدعونهم في النسب، فكان في ذلك هجاء أبيهم، لكونهم لم يرضوا نسبتهم إليه، فكأن الشاعر رأى هجاءهم بفجور أمهم دون هجائهم بدناءة أبيهم ناقصاً، فيتم ما أراد من هجائهم بما قال، وظرف ما شاء بقوله: " ولو زنيتها غضبوا ". ومثله قوله أيضاً إلا أن فيه زيادة على كل ما قدمنا لكونه يجمع صنفي التعليق. أما التعليق الأول فلأنه علق على التهكم بالهجاء، ولم يقتصر على الهجاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وأما الثاني فكونه علق الافتنان الذي هو الهجاء والفخر على ما بينه بمعنى التشبيه والإدماج وافر: فأعرض هيثم لما رآني ... كأني قد هجوت الأدعياء وقد آليت لا أهجو دعياً ... ولو بلغت مروءته السماء ومن لطيف تهكمه في هذا البيت قوله: ولو بلغت مروءته السماء وقد أدمج الافتنان في التهكم لأن معناه أني لا أهجو إلا من بلغت مروءته الغاية القصوى. وكذلك قصد الشعراء وعقلاء البلغاء، يتخيرون لهجائهم كما يتخيرون لمديحهم. وقد وقع لي في هذا الباب من المدح ما لا بأس بذكره، وهو الصنف الأول من التعليق طويل: تخيل أن القرن وافاه سائلا ... فقابله طلق الأسرة ذا بشرا ونادى فرند السيف دونك نحره ... فأحسن ما تهدي اللآلي إلى النحر فإني علقت ذكر الكرم بذكر الشجاعة، حيث وصفت الممدوح بطلاقته وتهلله استبشاراً بالقرن لما تخيله سائلاً، واهدائه فرند السيف وهو جوهره إلى نحره لما تخيل الفرند لآلئا، هذا إلى ما وقع في البيت الثاني من التورية بذكر النحر، والترشيح بذكر اللآلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ومن التعليق العجيب قولي أيضاً مما علقت فيه الاستعطاف بالعتب بطريق الإدماج طويل: ؟ أإخواننا بالله ما لجفائكم ... غدا لي بعد السلم وهو مصالت أحين أمنتم من ملامي وأيقنت ... نفوسكم أني مدى الدهر ساكت تخليتم عني وخنتم مواثقاً ... لها بعد توكيد العهود تهافت وأقررتم عين الحسود عليكم ... فسرت نفوس بالبعاد شوامت سأصبر حتى ينفد الصبر كله ... وينطق حالي والقوافي صوامت وأعطفكم بالشعر ما ذر شارق ... وأخلبكم بالنثر ما عج قانت وأعذر إن عرضت يوماً بعتبكم ... ليحيا وداد بالتجنب مائت وهأنا موصيكم وصية ناصح ... لكم وده عند الحفيظة ثابت بأن تتحاموا من فوات بوادري ... فإن بعيداً رد ما هو فائت وأن تهدموا ما قد بنيتم وتعطشوا ... من الود غرساً قد غدا وهو نابت ومن التعليق فرع يسمى تعليق الشرط، وهو أن يعلق المتكلم مقصوده على شرط يلزم من تعليقه مبالغة في ذلك المعنى، أو نوعاً من المحاسن زائداً على وقوع المشروط لوقوع الشرط، وذلك كقول أبي تمام طويل: فإن أنا لم يحمدك عني صاغراً ... عدوك فاعلم أنني غير حامد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فعلق صحة حمده لممدوحه على حمد عوده صاغراً إن لم يحمد الممدوح عدوه صاغراً لا يكون الشاعر له حامداً. وقد استقصيت الكلام على هذا البيت في باب المقارنة والفرق بين التعليق التكميل شدة ملاحمة الفنين في التعليق، واتحادهما، وإن وجد لفظيهما فيه وتخليص أحدهما من الآخر في التكميل، ولأن من التعليق تعليق الشرط، ومنه تعليق الفنون بالمعاني، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 باب الإدماج وهو أن يدمج المتكلم غرضاً له في ضمن معنى قد نحاه من جملة المعاني ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصد إليه، كقول عبيد الله بن عبد الله لعبد الله بن سليمان بن وهيب حين وزر للمعتضد، وكان ابن عبيد الله قد اختلت حاله، فكتب لابن سليمان طويل: أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم فقلت له: نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم فأدمج شكوى الزمان، وشرح ما هو عليه من الاختلال في ضمن التهنئة وتلطف في المسألة، ودقق التحليل لبلوغ الغرض، مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال، وحمايته من الإذلال، لا جرم أن ابن سليمان فطن لذلك ووصله واستعمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 ومن لطيف الإدماج قول ابن نباتة السعدي طويل: ولا بد لي من جهلة في وصاله ... فمن لي بخل أودع الحلم عنده فإنه أدمج الفخر في الغزل حين جعل حلمه لا يفارقه بتة، ولا ترغب نفسه عنه جملة، وإنما عزم على أن يودعه، إذ كان لا بد له من وصل هذا المحبوب، لأن الوادائع تستعاد، ثم استفهم عن الخل الصالح أن يستودع الحلم بلفظ يشعر بالاستبعاد والتعذر، فيكون مفهوم الخطاب بقيا حلمه لعدم من يصلح لأن يودعه عنده وأدمج الفخر في الغزل من جهة تصريحه بذكر الحلم، ورشح بالإدماج الطباق بين الحلم والجهل، ثم أدمج فيهما شكوى الزمان لتغير الإخوان بحيث إنهم لم يبق منهم من يستصلح لمثل هذا الشأن في الإشارة. ومثل هذا الإدماج ما وقع لبعض الأندلسيين في قوله وافر: أأرضى أن تصاحبني بغيضاً ... مجاملة وتحملني ثقيلا وحقك لا رضيت بذا لأني ... جعلت وحقك القسم الجليلا والبيت الثاني أردت، لأنه أدمج فيه الغزل في العتاب من الفنون، والمبالغة في القسم من البديع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 ومن شواهد الإدماج في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وله الحمد في الأولى والآخرة " فإن هذه الجملة أدمج فيها المبالغة في الحمد في ضمن المطابقة، إذ أفرد نفسه سبحانه بالحمد حيث لا يحمد سواه، إذ قال: وهو أعلم: " وله الحمد في الأولى والآخرة ". والفرق بين التعليق والإدماج أن التعليق يصرح فيه بالمعنيين المقصودين على شدة اتحادهما، والإدماج يصرح فيه بمعنى غير مقصود قد أدمج فيه المعنى المقصود، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 باب الإزدواج وهو أن يأتي الشاعر في بيته من أوله إلى آخره بجمل: كل جملة فيها كلمتان مزدوجتان، كل كلمة إما مفردة أو جملة. وأكثر ما يقع هذا النوع في أسماء مثناة مضافة كقول أبي تمام متقارب: وكانا جميعاً شريكي عنان ... رضيعى لبان، خليلى صفاء ومن الازدواج نوع يؤتى فيه بكلمتين صورتهما واحدة، ومفهومهما واحد، كقول ابن الرومي: مجزوء الكامل: أبدانهن وما لبس؟ ... ن من الحرير معاً حرير أردانهن وما مسس؟ ... ن من العبير معاً عبير وكقول بعض العرب بسيط ومطعم النصر يوم النصر مطعمه ... أني توجه والمحروم محروم فقوله: ومطعم النصر مطعمه، والمحروم محروم، ازدواج، والفرق بينه وبين التجنيس المماثل اختلاف معنى الكلمتين في التجنيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 واتفاقهما في الازدواج، على أن الرماني قد عد الازدواج تجنيساً، وذكر منه قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " وأفرده غير الرماني باباً، واستشهد عليه بالبيت الثاني من شواهد هذا الباب وأمثاله بغير ذلك، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 باب الاتساع وهو أن يأتي الشاعر ببيت يتسع فيه التأويل على قدر قوي الناظر فيه، وبحسب ما تحتمل ألفاظه، كقول امرئ القيس طويل: إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل فإن هذا البيت اتسع النقاد في تأويله، فمن قائل تضوع مثل المسك منهما نسيم الصبا، ومن قائل تضوع نسيم الصبا منهما، ومن قائل تضوع المسك منهما تضوع نسيم الصبا، وهذا هو الوجه عندي، ومن قائل تضوع المسك منهما بفتح الميم يعني الجلد بنسيم الصبا. وكقوله في صفة الفرس طويل: مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل لأن الحجر يطلب جهة السفل لكونها مركزه، إذ كل شيء يطلب مركزه بطبعه الذي جبل عليه، فالحجر يسرع انحطاطه إلى السفل من العلو من غير واسطة، فكيف إذا أعانته قوة دفاع السيل من عل، فهو حال تدحرجه يرى وجهه في الآن الذي يرى فيه ظهره لسرعة تقلبه، وبالعكس، ولهذا قال الشاعر، مقبل مدبر معاً يعني يكون إدباره وإقباله مجتمعين في المعية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ولا يعقل الفرق بينهما، وحاصل الكلام وصف الفرس بلين الرأس، وسرعة الانحراف، وشدة العدو، لكونه قال في صدر البيت إنه حسن الصورة، كامل النصبة في حالتي إقباله وإدباره، وكره وفره، ثم شبهه في عجز البيت بجلمود صخر حطه السيل من العلو لشدة العدو، فهو في الحالة التي يرى فيها لبته يرى فيها كلفه وبالعكس. هذا ولم تخطر هذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل. وإنما الكلام إذا كان قوياً من مثل هذا الفحل احتمل لقوته وجوهاً من التأويل بحسب ما تحتمل ألفاظه، وعلى مقدار قوى المتكلمين فيه، ولذلك قال الأصمعي: خير الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة، وقد غلط بعض الناس في تفسير هذا الكلام، وغلط الأصمعي فيه لسوء تفسيره، لأنه توهم أن الأصمعي أراد الشعر الذي ركب من وحشي الألفاظ، أو وقع فيه من تعقيد التركيب ما أوجب له غموض معناه، ولو كان كذلك كان ذلك شراً للشعر، وإنما أراد الأصمعي الشعر القوي الذي يحتمل مع فصاحته، وكثرة استعماله ألفاظه، وسهولة تركيبه، وجودة سبكه معاني شتى يحتاج الناظر فيه إلى تأويلات عدة، وترجيح ما يترجح منها بالدليل وجميع فواتح السور المعجمة من هذا الباب، فإن العلماء قد اتسعوا في تأويلها اتساعاً كبيراً، وإن ترجح من جميع أقوالهم كونها أسماء للسور، ثم اختلفوا في إعراب ما يتأتى فيه الإعراب منها، فبعضهم يرى فيه الحكاية، كما يرى ذلك في صاد، وقاف، ونون، فإن هذه الأسماء محكية ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 إلا، وبعضهم يرى الإعراب في المجموع خاصة، وينشد قول شريح بن أوفى العبسي قاتل محمد بن طلحة السجاد طويل: يناشدني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم وأما ما جاء من باب الاتساع في غير الفواتح فقوله تعالى: " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم " الآية فإن لفظها محتمل تأويلات شتى، فإن ظاهر الآية يقتضي إباحة الجمع بين تسع، ثم قوله بعد: " رباع ". " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ومن لم يعدل في الأربع جاز أن يعدل في الثلاث، فلم نزل إلى الواحدة؟ وهذه الظواهر مفتقرة إلى تأويلات تميط عنها هذه الإشكالات. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 باب المجاز المجاز عبارة عن تجوز الحقيقة، بحيث يأتي المتكلم لاسم موضوع لمعنى فيختصره إما بأن يجعله مفرداً بعد أن كان مركباً، أو غير ذلك من وجوه الاختصار، أو يذكر ما هو متعلق به، أو كان من سببه لفائدة. والمجاز جنس يشتمل على أنواع كثيرة، كالاستعارة والمبالغة والإشارة، والإرداف، والتمثيل، والتشبيه، وغير ذلك مما عدل فيه عن الحقيقة الموضوعة للمعنى المراد، فهذه الأنواع وإن كانت من المجاز فلكونها متعددة جعل لكل منها اسم يعرف به، ويميزه عن غيره من جنسه، كما جعل لأنواع جنس الحيوان من الأسماء التي تعرف أنواعها بالفصول، كالفرس، والجمل، والطائر، والإنسان وغير ذلك من قسمي الناطق والبهيم، وقد خص النقاد نوعاً من أنواع المجاز بإبقاء اسم المجاز عليه، وهو أقسام: منها: حذف الموصوف وإبقاء الصفة تدل عليه، كقوله تعالى: " هو الذي أرسل رسوله " فإن المراد هو الذي أرسل محمداً رسوله، وحذف الفاعل الذي فعله المستند إليه دال عليه كقوله تعالى: " حتى توارت بالحجاب ". ومنها حذف الأجوبة كقوله تعالى في حذف جواب لو: " ولو أن قرآناً سيرت به الجبال " الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ومنها الإتيان بجواب عن سؤال مقدر لدلالة الجواب عليه كقوله سبحان. " قيل ادخل الجنة " فإن المعنى كأن قائلاً قال: فما كانت عاقبة هذا الذي نصر الحق وبذل نفسه في ذات الله، فيقال: قيل له: ادخل الجنة. ومنها الاسم المضاف الذي حذف المضاف منه، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: " وأشربوا في قلوبهم العجل " أي حب العجل، وقوله تعالى: " ويا سماء أقلعي " أي ويا مطر السماء، أو يا سحاب السماء، أو يا سحاب لكونه بالنسبة للمخاطب عالياً، وكل ما علا الإنسان من سقف وسحاب وغيره يسمى سماء، وقد تجاوزت العرب حذف المضاف إلى حذف مضاف ثان بعد حذف المضاف الأول، كقول جرير وافر: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا فقوله: إذا نزل السماء، يريد مطر السماء، وهذا القسم الأول من المجاز، وقوله: رعيناه يريد رعينا ما ينبته مطر السماء، وهذا القسم الثاني من المجاز، وإنما اتفقوا على اسم المجاز على هذا القسم لخلوه من معنى زائد عن تجوز الحقيقة، يليق أن يكون تسميته من جنسه، كالاستعارة، والتشبيه، والمبالغة، والإرداف، والإشارة وغير ذلك، فلما لم يكن في هذا القسم غير تجوز الحقيقة اختصار أفرد باسم المجاز، إذ لا يليق به غيره، والمراد بذلك الاختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 باب الإيجاز الإيجاز اختصار بعض ألفاظ المعاني ليأتي الكلام وجيزاً من غير حذف لبعض الاسم، ولا عدول عن لفظ المعنى الذي وضع له، فإن الاختصار أن نحذف بعض الاسم كما قدمناه، فهو مجاز، وإن كان بتغير لفظ المعنى بوجه من وجوه التغير كان من أنواع المجاز التي قدمنا ذكر بعضها، كالاستعارة، والإشارة، والإرداف وغير ذلك. ومثاله أن يقتص المتكلم قصة بحيث لا يغدر منها شيئاً، في ألفاظ قليلة موجزة جداً، بحيث لو اقتصها غيره ممن لم يكن في مثل طبقته من البلاغة، أتى بها في أكثر من تلك الألفاظ، وأكثر قصص الكتاب العزيز من هذا القبيل، كقصة موسى عليه السلام في " طه "، فإن معانيها أتت بألفاظ الحقيقة تامة غير محذوفة، وهي مستوعبة في تلك الألفاظ. وقد رأيت أكثر العلماء على تقديم الأعشى في اقتصاصه قصة السموءل في أدراع امرئ القيس الشاعر التي أودعها عنده لما قصد قيصر، ووفاء السموءل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 بها، حتى سلمها لأهل امرئ القيس وبذل دونها دم ولده وهو يشاهده، وهي بسيط كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار إذ سامه خطتي خسف فقال له ... مهما تقول فإني سامع حار فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر فما فيهما حظ لمختار فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري إن له خلفا إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريماً غير عوار مالاً كثيراً وعرضاً غير ذي دنس ... وإخوة مثله ليسوا بأشرار جروا على أدب مني بلا نزق ... ولا إذا شمرت حرب بأغمار وسوف يخلفه إن كنت قاتله ... رب كريم وبيض ذات أطهار لا سرهن لدينا ضائع هدراً ... وكاتمات إذا استودعن أسرارى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 فقال يقدمه إذ قام يقتله ... أشرف سموءل فانظر للدم الجاري أأقتل ابنك صبراً أو تجئ بها ... طوعاً فأنكر هذا أي إنكار فشد أوداجه والصدر في مضض ... عليه منطويا كاللذع بالنار واختار أدراعه ألا يسب بها ... ولم يكن عهده فيها بختار وقال: لا نشتري عاراً بمكرمة ... واختار مكرمة الدنيا على العار والصبر منه قديماً شيمة خلق ... فزنده في الوفاء الثاقب الواري فانظر كيف أغنى الأعشى عن تحفظ القصة بطولها من يريد حفظها بهذه الأبيات التي استوعبها فيها مع ما انطوت عليه ألفاظها التي خرجت كلها مخرج الحقيقة من المدح للسموءل بالوفاء، ولابنه بالصبر على البلاء، والتحريض للممدوح على التخلق بمثل هذا الخلق، ليبقى له مثل هذا الذكر، والاحتراس في البيت الذي يقول فيه: أأقتل ابنك صبراً أو تجئ بها فإنه لما أضمر فيه ذكر الأدراع، فطن إلى أن البيت مفتقر إلى شرح إن لم يؤت به يتوقف السامع في فهمه، فاحترس عن ذلك بقوله: واختار أدراعه ألا يسب بها ليوضح أن الضمير في البيت الذي قبله يعود على الأدراع، فتلافى في ذلك الخلل، واستغنى عن الشرح المطول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 وقد ذكر الحاتمي في الحلية بعد هذه الأبيات قول بعض العرب يمدح بني كعب بقوله طويل: لعمري لنعم الحي حي بني كعب ... إذا نزل الخلخال منزلة القلب وقال الحاتمي: إذا ريعت ربة الخلخال، فأبدت ساقها للهرب فتكون قد أنزلت الخلخال منزلة القلب في الظهور، لأن عادة المرأة من العرب أن تبدى معصمها وتستر ساقها، ولا عار عليها في ذلك، وحاصل هذا الكلام مدح الحي بالمحاماة، وشدة البأس عند الخوف. وقد قيل فيه غير ذلك، وهو أن المرأة من الروعة تذهل فتلبس الخلخال موضع القلب دهشاً وحيرة، والمرجع في التفسيرين إلى مقصد واحد. وعندي أن هذا البيت لا يصلح أن يكون من شواهد الإيجاز، لأن حقيقة الإيجاز إخراج المعاني في قوالب ألفاظها الحقيقة الموضوعة لها، فإن الإيجاز إيجازان: إيجاز مجازى، وإيجاز حقيقي، فما كان منه حقيقياً بقي عليه اسم الإيجاز، وما كان مجازياً وضعوا لكل قسم منه اسماً يخصه ويناسب اشتقاقه، فإن المجاز إيجاز، وهو حذف بعض الكلام لدلالة الباقي عليه، أو للاستغناء بالقرينة، كقوله تعالى: " واسئل القرية " والإشارة والإرداف والتمثيل إيجاز، لكن هذه الأبواب تجيء بغير ألفاظ المعاني الموضوعة لها، وقول هذا الشاعر: إذا نزل الخلخال منزلة القلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وهو يريد إذا ارتاعت فلبست خلخالها في معصمها، أو ذهلت للخوف عن تخفرها، معلوم أنه غير لفظ المعنى الخاص، وهذا بالإشارة أولى، فإن شئت جعلته من شواهد الإشارة، ومن شواهد الاتساع، أو منهما، ثم ذكر أعني الحاتمي بيتي لبيد، وهما " رمل ": وبنو الديان أعداء للا ... وعلى ألسنهم ذلت نعم زينت أحسابهم أنسابهم ... وكذاك الحلم زين للكرم ولفظ البيت الأول لفظ الأرداف، فلا يصلح أن يكون من شواهد الإيجاز، لأنه أراد أن يقول: بنو الديان أجواد، فعدل عن هذا اللفظ إلى لفظ هو ردفه، وهو ذكر معاداتهم للا ليبالغ في وصفهم بالجود، والبيت الثاني جاء بلفظ الإشارة، إذ التزيين يكون بضروب من المحاسن، فإن قيل: إذا كان المجاز نوعاً من الإيجاز جاز أن يسمى كل صنف من ذلك النوع إيجازاً. قلت للتسميات علامات تعرف بها المسميات، ومن سمى النوع باسم الجنس فهو غير معرف لذلك النوع، فإنك لو قلت في حد الإنسان: هو حيوان، من غير ذكر الفصل لكنت غير معرف لحقيقته، لكونك لم تأت إلا بالقدر القدر المميز، ولما كان من الإيجاز ما يدل على المعنى بلفظ المعنى بلفظ الموضوع له، ومنه ما يدل على المعنى بلفظ هو ردف لفظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 تارة، وبلفظ هو مثل لفظه، أو به، وبلفظ مستعار من لفظه حيناً والحقيقة أصل، والمجاز فرع، والإيجاز أصل نفي الاسم الأصلي على الكلام الذي دل لفظه على معناه بظاهره، وسمى ما دل على معناه بالتأويل بأسماء مجازية، إذ كانت مسمياتها مجازية. ومن أمثلة الإيجاز قول النابغة الذبياني في اقتصاصه قصة الزرقاء. للنعمان بسيط فاحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع واردي الثمد يحفه جانبا نيقٍ وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد فحسبوه فألفوه كما حسبت ... تسعا وتسعين لم ينقص ولم يزد وكملت مائة منها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد فإن النابغة سرد هذه القصة بألفاظ الحقيقة عرية عن الحشو الخشن والمعيب، ولم يغادر منها شيئاً، ويروى البيت الأول سراع بسين مهملة، وهو أبلغ في وصف نظر الزرقاء، ويدل على صحة هذه الرواية أن قوله: واردى الثمد يغني عن قوله: شراع بشين معجمة فلم يبق الإسراع بسين مهملة لما يدل عليه من المبالغة في حدة نظر الزرقاء بدليل قوله بعد هذا البيت: وأسرعت حسبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 فإن قيل: فما الفرق إذا بين الإيجاز والمساواة؟ قلت: المساواة لا تكون إلا في المعنى المفرد يعبر عنه بلفظ مساو له لا يزيد عليه ولا يقصر عنه، والإيجاز يكون في ذكر القصص والأخبار التي تضمنت معاني شتى متعددة، وخلاصة ذلك أن المساواة في معاني الجمل التي تتركب منها الأبيات والفصول، والإيجاز في الأبيات والفصول. ومن الإيجاز نوع يختصر فيه بعض اللفظ ويؤتى بلفظ الحقيقة كقوله سبحانه: " والذين تبوءوا الدار والإيمان " فإن تقديره تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، كما تقول: " رجز ": علفتها تبناً وماء باردا وكما قال الشاعر كامل مجزوء: ورأيت زوجك في الوغى ... متقلد سيفاً ورمحا أي ومعتقلاً رمحاً ومن إيجاز الكتاب العزيز قوله سبحانه وتعالى: " إن الله يأمر العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " فإنه عز وجل أمر في أول الآية بكل معروف، ونهى بعد ذلك عن كل منكر ووعظ في آخرها أبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 موعظة وذكر ألطف تذكير بألفاظ اتفق فيها ضروب من المحاسن مع كونها ألفاظ الحقيقة، وهي صحة الأقسام، لأنها استوعبت جميع أقسام أجناس المعروف والمنكر، والطباقين اللفظي والمعنوي وحسن النسق والتسهيم، وحسن البيان، والإيجاز، وائتلاف لفظ الكلام مع معناه، والمساواة، وصحة المقابلة، وتمكين الفاصلة، فأما استيعاب الأقسام فلأنه سبحانه أمر بالعدل، وهو معاملة المكلف نفسه وغيره بالإنصاف، ثم أمر بعد العدل بالإحسان، وهو اسم عام يدخل تحته التفضل بعد العدل، وقدم ذكر العدل لأن العدل واجب، وتلاه بالإحسان لأن الإحسان مندوب، ليقع وضع الكلام على أحسن ترتيب، وخص ذا القربى بالذكر بعد دخوله في عموم من أمره بمعاملته بالعدل والإحسان لبيان فضل ذي القربى وفضل الثواب عليه، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي بصيغة تعريف الجنس ليستغرق كل ما يجب أن ينهى عنه، كما استغرق كل ما يجب أن يؤمر به، والمطابقة اللفظية في قوله تعالى: " يأمر " " وينهي "، والمعنوية في قوله سبحانه " بالعدل والإحسان " وإيتاء ذي القربى وقوله " الفحشاء والمنكر والبغي " فإن الثلاثة الأخر أضداد الثلاثة الأول، لأن الأول من الفعل الحسن، والآخر من الفعل القبيح، فطابق بين الحسن والقبح مطابقة معنوية. وحسن التنسيق في ترتيب عطف بعض الجمل على بعض كما ينبغي، حيث قدم العدل وعطف عليه الإحسان الذي هو جنس عام، وخص منه نوعاً خاصاً، وهو إيتاء ذي القربى، وعطفه عليه، ثم أتى بالأمر مقدماً، وعطف عليه النهي ثانياً، ثن رتب جمل المنهيات كما رتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 جمل المأمورات في العطف، بحيث لم يتأخر في الكلام ما يجب تقديمه ولم يتقدم في ما يجب تأخيره. وأما التسهيم فهو أن صدر الآية يدل على عجزها كما يدل صدر البيت المسهم على عجزه. وأما حسن البيان فلأن لفظ الآية لا يتوقف في فهم معناه أحد إذ سلم من التعقيد في نظمه، فقد دل على معناه دلالة واضحة بأقرب الطرق، واستوى في فهمه الذكي والبليد، والقريب من هذه الصناعة والبعيد. وأما الإيجاز فهو دلالة الألفاظ القليلة الحقيقية على المعاني الكثيرة من غير إشارة ولا إرداف ولا حذف. وأما ائتلاف لفظ الكلام مع معناه، فلأن كل لفظة لا يصلح مكانها غيرها. وأما المساواة فلأن ألفاظ الكلام قوالب لمعانيه، لا تزيد عليها، ولا تقصر عنها. وأما صحة المقابلة فلأن النهي قابل الأمر، والمنهيات قابلت المأمورات مع مراعاة الترتيب. وأما تمكن الفاصلة فلأن مقطع الآية مستقر في مكانه، مطمئن في موضعه ومعناه متعلق بما قبله إلى أول الكلام، لأنه لا تحسن الموعظة إلا بعد الأمر والنهي، فإن الوعد والوعيد لا يقعان إلا بعد امتثال الأمر أو مخالفته والتذكرة بعد الموعظة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ومن إيجاز الكتاب العزيز أيضاً قوله: " ولكم في القصاص حياة " لأنه قد أجمع النقاد على أن أبلغ كلام قيل في هذا المعنى قول القائل: " القتل أنفى للقتل " وإذا نظرت بين هذا الكلام وبين لفظ القرآن وجدت هذا الكلام ليس فيه من ضروب البديع سوى الإيجاز، مع كونه لم يخل من عيب، ووجدت لفظ القرآن قد جمع الآجام والإيضاح والإشارة والكناية والطباق وحسن البيان والإبداع، وسلم من العيب الذي جاء في ذلك الكلام. فأما الإيجاز فلأن اللفظ المماثل من لفظ القرآن للأول هو قوله تعالى: " القصاص حياة " وهو عشرة أحرف، والأول أربعة عشر حرفاً، وأما الإيضاح فإن لفظة القصاص أوضحت المعنى المراد، إذ هو قتل مقيد، لا قتل مطلق، وأما الإشارة، ففي قوله سبحانه: " حياة " فإن هذه اللفظة أشارت إلى أن القتل الذي أوجبه العدل يكف القتل الذي يأتي به العدوان، وفي ذلك حياة الأحياء. والكناية في قوله تعالى: القصاص فإنه كنى بهذه اللفظة عن الموت المستحق الذي يوجبه العدل. وأما الطباق ففي قوله " القصاص حياة " لأن القصاص الموت، فكأنه سبحانه قال: الموت حياة، وهذا طباق معنوي. وأما حسن البيان، فكون المخاطب فهم المراد من هذا النظم من غير توقف، وأما الإبداع فلأن في كل لفظة من هذا الكلام عدة من المحاسن، وأما السلامة من العيوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 بالنسبة فلأن الكلام خلا عن التكرار الذي وقع في الكلام الأول، فإن قيل لا يعد التكرار الذي وقع في قول القائل: " القتل أنفى للقتل " عيباً لاختلاف المعنى قلت: لكن اللفظ إذا اختلف معناه واتحدت صيغته اتحاداً لا يعد تحسيناً وكان الكلام به معيباً، فهذا عيب لفظ الكلام الأول الذي سلم منه لفظ القرآن، وأما عيب المعنى فلأن القائل سمى الخاص باسم العام، فإن مطلق القتل صالح للقصاص ولغيره، كما أنه صالح للعدوان ولغيره، وهذه العبارة موجبة للبس المضاد لحسن البيان الذي هو خارج مخرج العدوان ولفظ القرآن مخلص للعدل. وإذا وصلت في هذا الباب إلى قوله تعالى: " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " فإنه سبحانه أتى في هذه الآية الكريمة بأمرين ونهيين، وخبرين متضمنين بشارتين، في أسهل نظم، وأحسن لفظ، وأوجز عبارة، ولم يخرج الكلام عن الحقيقة في شيء من ذلك. واعلم أن الإيجاز على ضربين: ضرب بسيط وضرب مختصر، ويكون البسيط مختصراً بالنسبة لغيره، فالبسيط كقصة يوسف عليه السلام من قوله: " نحن نقص عليك أحسن القصص " إلى آخر القصة، والمختصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 مثل قوله على لسان يوسف عليه السلام: " هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي " اختصر القصة كلها في هذه الآية، لأنه ذكر أصول الأسباب المستلزمة جميع المسببات التي هي جملة القصة، فإن قوله: " هذا تأويل رؤياي من قبل " اقتصر على ذكر رؤياه التي كانت سبب حسد اخوته حين فعلوا به ما فعلوا، وذكر خروجه من السجن الذي كان سبباً في الملك الذي كان سبباً في اجتماعه بأبيه واخوته، فكأنه قد اقتص جميع القصة مختصرة لمن يشارك في علمها، فالأولى لعلم تفاصيلها، والثانية لعلم جملها، وهذا أحسن إيجاز وقع في كلام، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 باب سلامة الاختراع من الإتباع وهو أن يخترع الأول معنى لم يسبق إليه ولم يتبع فيه كقول، عنترة في وصف الذباب كامل: هزجاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم وكقول ابن الرقاع في تشبيه قرن الخشف كامل: تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها وكقول ذي الرمة في تشبيه الليل طويل: وليل كجلباب العروس أدرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وكقول النابغة الذبياني في وصف النسور طويل: تراهن خلف القوم زوراً عيونها ... جلوس الشيوخ في مسوك الأرانب فهذه اختراعات المتقدمين التي سبقوا إليها، ولم يلحقوا فيها. وما اختراعات المولدين التي سبق إليها قائلها ولم يتبع فيها قول السيد الحميري في علي عليه السلام بسيط لكن أبو حسن والله أيده ... قد كان عند اللقا للطعن معتادا إذا رأى معشراً حرباً أنامهم ... إنامة الريح في أبياتها عادا قال الحاتمي بعد إيراد هذين البيتين في هذا الباب: لم يسبق السيد إلى هذا المعنى، ولم يتبع فيه، فإنا ما سمعنا من شبه إنساناً بالريح غيره، وهذا وهم من الحاتمي لأن هذا المعنى لعبد الله بن العباس رضي الله عنه في الحديث الصحيح الذي وصف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجود في كل زمان، وخصوصاً في شهر رمضان حيث قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، كان كالريح المرسلة " فغاية ما فعله السيد أنه نقل المعنى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 الوصف بالجود إلى الوصف بالشجاعة، وإلا فنفس المعنى في الموضعين تشبيه الإنسان بالريح، غير أن السيد أخذ المعنى نثراً، فعقده بالوزن شعراً فله هذه الفضيلة لا فضيلة الاختراع، وعلى هذا يكون باب حسن الإتباع أحق بهذا الشعر من باب سلامة الاختراع، ومن الجب كيف ذهب ذلك على الحاتمي مع تقدمه في الأدب وحذقه بالنقد هذا على أننا جعلنا تشبيه الحميري نفس الإمام علي رضي الله عنه بالريح مجازاً، والحقيقة في ذلك غير هذا، لأن لفظ البيت يدل على أنه شبه بإنامة الإمام محاربيه بإنامة الرياح عاداً، فالشاعر إنما شبه إنامة بإنامة، لأنفس المنيم بنفس الريح، ومن اختراعات المحدثين قول ابن الرومي في تشبيه الرقاقة حين يبسطها الخباز في القطعة المشهورة التي أولها بسيط لا أنس ما أنس خبازاً مررت به ... يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر إلى قوله: إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمي فيه بالحجر وإذا وصلت إلى قول ابن حجاج في هذا البيت وصلت إلى الغاية التي لا تلحق، حيث يقول في رئيس كان قريباً من قلبه، بعيداً من رفده طويل: وإني والمولى الذي أنا عبده ... طريفان في أمر له طرفان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 بعيداً تراني منه أقرب ما ترى ... كأني يوم العيد من رمضان ومتى شئت أن تتلاشى في هذه المعاني عندك قديمها وحديثها فتدبر ما جاء من هذا الباب في الكتاب العزيز، مثل قوله تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " فانظر إلى غرابة هذا التمثيل الذي يتضمن هذا الإفراط في المبالغة مع كونه جارياً على الحق خارجاً مخرج الصدق، إذا اقتصر فيه على ذكر أضعف المخلوقات وأقلها سلباً لما تسلبه، وتعجيز كل من دون الله سبحانه كائناً من كان عن خلق مثله، ثم نزل بهم في التمثيل عن رتبة الخلق إذ هي مما يعجز عن مثلها كل قادر غير الله عز وجل إلى استنقاذ النزر التفه الذي تسلبه الذباب على ضعفها، لأن الظفر بنفسها أيسر من الظفر بما تسلبه، ولم يسمع مثل هذا التمثيل في بابه لأحد قبل نزول القرآن العزيز، ولم يتناوله متناول كما فعل في أكثر المعاني إلى الآن، ولو تتبع ذلك في الكتاب الكريم لوجد لهذا الموضع أمثال شتى كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " حمى الوطيس " و " مات حتف أنفه " " ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين "، " والسعيد من وعظ بغيره " في أشياء كثيرة مما اخترعه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبع فيه إلى الآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 باب حسن الإتباع وهو أن يأتي المتكلم إلى معنى اخترعه غيره فيحسن إتباعه فيه، بحيث يستحقه بوجه من وجوه الزيادات التي وجب للمتأخر استحقاق معنى المتقدم إما باختصار لفظه، أو قصر وزنه أو عذوبة قافيته وتمكنها، أو تتميم لنقصه، أو تكميل لتمامه، أو تحليته بحلية من البديع يحسن بمثلها النظم، ويوجب الاستحقاق كقول جاهلي في وصف جمل له طويل: وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا هاد شوقي من معاهدها ذكر وقلت له ذلفاء ويحك سببت ... لك الضرب فاصبر، إن عادتك الصبر فأحسن ابن المعتز ابتاعه في هذا المعنى حيث قال يصف خبله طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وخيل طواها القود حتى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخط ذبل صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بنا أيد سراع وأرجل فإن ابن المعتز عمد إلى معنى البيتين المتقدمين فعمله في صدر بيته الثاني، وذلك أن حاصل قول الجاهلي في بيته: إن هذا الجمل لا ذنب له. وإنما ضربته مرة بعد أخرى لما هيج لي ذكر معاهد هذه المعشوقة من الشوق، فتوهمت أنه بالضرب يخرج عن حد الاستطاعة، ويأتي من السير بما ليس في الطاقة، وأكد كون هذا العود لا ذنب له بقوله في البيت الثاني: وقلت له ذلفاء ويحك سببت ... لك الضرب فاصبر، إن عادتك الصبر يعني أنك لولا اشتياقي لذلفاء لم تكن محتاجاً إلى الضرب جملة، وأكد هذا التأكيد بكونه شهد له أن عادته الصبر فإن قيل: ظاهر قوله: قليل الذنب يدل على ذنب قليل، ولذلك قال عاودت ضربه أي أنه أذنب فضربته بها ثم لما اشتقت عاودت ضربه، فالضرب الأول، استحقاقاً، والثاني ظلماً. قلت: لو انفرد البيت الأول من الثاني ساغ هذا التأويل حملاً على الظاهر لكنه، مع انضمامه إلى البيت الثاني لا يسوغ، فإنه قال فيه: وقلت له ذلفاء ويحك سببت ... لك الضرب .............. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وآلة التعريف في الضرب للجنس، لأن ذلفاء هي التي سببت لك الضرب أولاً وأخراً، فإنك لولاها ما هاج لي من شوقي لمعاهدها فأذهلني حتى توهمت أن الضرب يخرج بك عن الحد الذي لم تكن محتاجاً إليه، ويدل على صحة ذلك شهادته له بالصبر مطلقاً في كل حال، إذ الألف واللام فيه للجنس أيضاً، وإذا كان صابراً مطلقاً دل صبره على شدة السير ومتابعته يجري ذلك الجري، فلا يقع ضربه إلا ظلماً، وأما قوله: قليل الذنب، فعلى عادة العرب في استعمال هذه اللفظة، وهي تريد مطلق النفي في قولهم: فلان قليل الخير وهم يريدون نفي الخبر عنه كثيره وقليله، وكل هذا حاصل في قول ابن المعتز " صببنا عليها ظالمين سياطنا " فإن قوله: صببنا هو عين قول العرب " عاودت ضربه " وما دل عليه لفظه من كون الضرب كان ظلماً هو عين قول ابن المعتز: ظالمين بلفظ الإيجاز، فحسن البيان في كلام ابن المعتز بخلاف كلام الأول، لأن دلالة اللفظ في كلام ابن المعتز دلالة مطابقة، ودلالة الأول دلالة التزام، ولم يعوز ابن المعتز من معنى الأول إلا التعليل، فإنه ذكر العلة التي لأجلها ضرب جملة ظلماً كما أعوز الأول من معنى ابن المعتز ذكر ثمرة الضرب وفائدته، فإن ابن المعتز لما قال: صببنا عليها ظالمين سياطنا قال عقيب ذلك: فطارت، وأدمج في ضمن هذه المبالغة التي هي ثمرة الضرب وصف الخيل بعدوها من موجبات الضرب، وحقق ظلمه لهن أنها لما خرجت من الوحشية إلى الطيرية فقد أحسن ابن المعتز الإتباع غاية الإحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 ومن حسن الإتباع اتباع أبي نواس جريراً في قوله " الوافر ": إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضاباً حيث قال ونقل المعنى من الفخر إلى المديح: سريع ليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد فزاد على جرير زيادات: منها أن جريراً أخرج كلامه مخرج الظن حيث قال: حسبت وإن كانت قد تقع بمعنى العلم خرجت المبالغة إلى حد الغلو، وعيب الكلام بما هو أشد من التقصير. ومنها أن جريراً لم يذكر من العالم سوى نوع الإنسان، وأبو نواس زاد على جرير بما يتضمنه ذكر العالم من الملائكة والجن والأفلاك وكل موجود سوى الله سبحانه، وأخرج كلامه مخرج الإسجال، بثبوت دعواه في هذا الممدوح بتعظيم قدرة الله تعالى على الإتيان بهذا الخارق الذي لا يقدر عليه غيره، واتبع أبا نواس في هذا المعنى الوزير المغربي فقال بسيط حتى إذا ما أراد الله يسعدني ... رأيته فرأيت الناس في رجل فإن الوزير أحسن إتباعه لأبي نواس بما وقع له من الزيادات، منها الإيجاز، فإنه عمل معنى عجز بيت أبي نواس في بعض عجز بيته، فنقله من ثمانية عشر حرفاً إلى أربعة عشر حرفاً، والتعليل في كونه جعل العلة في إسعاده رؤية هذا الممدوح، وجعل ذلك مراد الله سبحانه ليحقق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 مدحه بتحقيق وقوعه، وإن كان قد قصر عن أبي نواس في كونه اقتصر من العالم على ذكر الناس، كما فعل جرير، فقد جبر ذلك الوهن بما زاد من المبالغة في المدح فإنه جعل ممدوحه ابتداء سعادته ونقص من اللفظ. على أن ذكر الناس في بيتي جرير والوزير ملائم لذكر جرير بني تميم وذكر الوزير لفظة رجل، ولو لم يكن بيت أبي نواس أخصر وزناً من بيت جرير لكادا يتساويان. ومن أحسن ما سمعت في حسن الإتباع إتباع منصور الفقيه المصري رحمه الله تعالى عنترة في قوله كامل: إني أمرؤ من خير عبس منصبا ... شطري، وأحمي سائري بالمنصل فإن الفقيه قال في شريف سبه وكان شريفاً من جهة أبيه دون أمه " مجتث ": من فاتني بأبيه ... ولم يفتني بأمه ورام شتمي ظلماً ... سكت عن نصف شتمه فإن هذا الفقيه رحمه الله تعالى أحسن غاية الإحسان من وجوه: أحدها الإيجاز، فإنه عمل معنى عنترة الذي جاء به بيت من تام الكامل، المركب من اثنين وأربعين حرفاً في بيت من المجتث مركب من ستة وعشرين حرفاً. والمطابقة المعنوية حيث قال بأبيه وأمه، فإنه طابق في ذلك بين الذكر والأنثى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 هذا وبيته الذي أتى فيه على معنى غيره وزاد ما أبديناه من الزيادة بيت توطئه، كبيت وقع فيه من الإغراب والطرفة ما لم يقع في مثله، وهو قوله: سكت عن نصف شتمه ومن هذا الباب قول ابن الرومي طويل: تخذتكم درعاً حصيناً لتدفعوا ... نبال العدا عني فكنتم نصالها وقد كنت أرجو منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها فإن أنتم لم تحفظوا لمودتي ... ذماماً فكونوا لا عليها ولا لها قفوا وقفة المعذور عني بمعزل ... وخلوا نبالي للعدا ونبالها فاتبعه ابن سنان الخفاجي الحلبي فقال كامل: أعددتكم لدفاع كل ملمة ... عوناً فكنتم عون كل ملمة وتخذتكم لي جنة فكأنما ... نظر العدو مقاتلي من جنتي فلأنفضن يدي يأساً منكم ... نفض الأنامل من تراب الميت وألطف ما قيل في هذا المعنى قول القائل وافر: وإخوان تخذتهمو دروعاً ... فكانوها ولكن للأعادي وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي وقد تقدمت هذه الأبيات، وإنما أتيت بها هاهنا ليظهر لطفها بالنسبة إلى ما تقدمها في معناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ومن مليح حسن الإتباع ما وقع بي ابن الرومي وبين أبي حية النميري فيما قاله في زينب أخت الحجاج حيث قال طويل: تضوع مسكاً بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات يخمرن أطراف البنان من التقى ... ويبرزن شطر الليل معتجرات فهن اللواتي إن برزن قتلنني ... وإن غبن قطعن الحشا حسرات والبيت الأخير أردت، فإن ابن الرومي اتبعه فيه فقال وأتى بمعنى البيت كاملاً في نصف بيت: كامل: ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم وغير السعيد ابن سناء الملك رحمه الله من وجوه قائلي هذا المعنى قديماً وحديثاً حيث قال طويل: إذا هجرتني شيبتني بهجرها ... وإن واصلتني شيبتني بطيبها ومن محاسن هذا الباب أيضاً إتباع المعري أبا عبادة البحتري في قوله كامل: أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجب وبر راح وهو جفاء فقال المعري بسيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر لأنه استوعب معنى البيتين في صدر بيته، وأخرج العجز مخرج المثل السائر الصحيح، وعوض عما فاته من بديع الألفاظ مثل المطابقة المقابلة بالتجنيس والتمثيل، ففي بيت أبي عابدة من الإغراب والطرفة معنى لم يفت أبا العلاء، فإن كون الصلة بعينها قطيعة، والبر بنفسه جفاء، من الغريب الظريف، ولا جرم أنه أتى بذكر التعجب من ذلك، وكذلك طلب الاختصار من الإنسان، وجعل ما هو من أقوى أسباب الزيادة سببا في قطع الزيادة من الغريب الطريف أيضاً، وإذا نظرت إلى ما في بيت المعري من كونه يسد في التمثيل به مسد البيتين مع إيضاح معناه وما فيه من حسن البيان، وكون ما فيه من التجنيس والتصدير ليكون صلة بين المعنى والزيادة، وأساً لقافيته المستجادة، ثبت الفضل لبيت المعري. ولقد أحسن البحتري في إتباع الحزين الكناني في قوله بسيط يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم فإن البحتري قال بسيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 إن أطرق استوحشت للخوف أفئدة ... ويملأ الأرض من أنس إذا ابتسما ومن حسن الإتباع اتباع ابن المعتز بشار في قول بشار طويل: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه فإن ابن المعتز قال: طويل: إذا شئت أوقرت البلاد حوافرا ... وسارت ورائي هاشم ونزار وعم السماء النقع حتى كأنه ... دخان وأطراف الرماح شرار فإن بشاراً قال فوق رءوسنا والليل لا يخص رءوسهم لعموم ظلمته الآفاق، وابن المعتز تخلص من هذا الدخل بقوله: وعم السماء النقع دليل على كثرة الجيش وانتشاره، ولذلك قال في بيت التوطئة: أوقرت البلاد حوافراً، وكان مثل هذا لائقاً به لمكانه من الملك. ومن حسن الإتباع إتباعي ابن الرومي في قوله بسيط سد السداد فمى عما يريبكم ... لكن فم الحال مني غير مسدود فإني اتبعته في هذا المعنى فقلت كامل: هبني سكت أما لسان ضرورتي ... أهجى لكل مقصر عن منطقي فإن بيت ابن الرومي وقع فيه من المحاسن أربعة عشر ضرباً، وهي التجنيس في قوله سد السداد، والتفسير في قوله عما يريبكم، والاستدراك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 في قوله: لكن وما بعدها، والاستعارة في قوله: فم الحال، والتصدير فيما بين القافية وأول البيت، والتمثيل، فإن البيت خرج مخرج المثل، والمساواة، لأن لفظ البيت طبق معناه، والائتلاف، لأن كل لفظة من مفردات ألفاظه لا يصلح مكانها غيرها، والإرداف في قوله: لكن فم الحال، العجز كله: فإنه أراد أن يقول: سوء حالي ينطق بذمكم، فعبر عن المعنى بلفظ هو ردفه حيث قال: لكن فم الحال مني غير مسدود فراراً من التصريح بالذم والافتنان لأنه أشار إلى فن الفخر بوصف نفسه بالسداد، والبيت من فن العتاب، والتعليق لأن فن الفخر متعلق بفن العتاب، والإدماج لأن الإشارة فيه مندمجة في التفسير في قوله: عما يريبكم، لأن كل ما يريب لو عدد بلفظه الموضوع له لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة، والتعطف في ذكر الفم في صدر البيت مع ذكره في عجزه، والتهذيب لمجيء جملة صدره على ترتيب الوضع اللغوي البليغ، من تقديم الفعل على الفاعل، وتقديم الفاعل على المفعول، وتقديم المفعول الذي تعدى الفعل بنفسه إليه على الفعل الذي تعدى إليه بالحرف، وكذلك رتب العجز من تقديم حرف الاستدراك على الجملة الابتدائية، وتقديم المبتدإ على الخبر. واتفق في بيتي سبعة عشر ضرباً من البديع، وهي المطابقة في السكوت النطق، واستعارة اللسان للضرورة، والمبالغة في قولي: أهجى والتكميل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 في قولي: لكل مقصر، والتفسير في قولي: من منطقي، والتمكين من أجل أن القافية مستقرة في مكانها، والمساواة في كون لفظ البيت طبق معناه، والائتلاف في أن كل لفظة لا يقوم غيرها مقامها، والإيجاز في تفاصيل البيت وجملته بالنسبة إلى البيت الذي قبله، فإن قولي هبني سكت أوجز من قول ابن الرومي: سد السداد فمى، لأن ملخص كلامي سكت، وملخص كلامه: سد فمي. وقولي: لسان ضرورتي، أوجز من قوله فم الحال مني، وقولي: أهجي، أوجز من قوله غير مسدود، فهذا إيجاز تفاصيل البيت، وأما إيجاز جملته فلأن حروف بيتي اثنان وأربعون حرفاً، وبيت ابن الرومي خمسة وأربعون حرفاً، مع أنهما قد استويا في عدة المتحركات، إذ كل بيت منهما سبعة وعشرون متحركاً والانسجام بالنسبة، لأن بيتي جاء عرياً عن الكلفة بخلاف بيته، والإيضاح لأن المعنى المراد في ألفاظ بيتي أشد وضوحاً من معناه، فإن بيتي لا يفتقر في دلالته على معناه لشيء مقدر بخلاف بيته، ومفردات ألفاظي أشد وضوحاً لمعانيها من مفردات بيته، لأن قولي: أهجى، أدل على معنى الهجاء بظاهره من قوله: عما يريبكم، وكلا البيتين المراد به التهديد بصريح الهجاء نطقاً دون هيئة، وفي قولي هبني سكت، إشارة إلى أني لا أسكت، ثم قلت على حكم التنزل الجدلي: وهبني سكت أيسكت لسان ضرورتي؟ وفي قول ابن الرومي: سد السداد فمى عما يريبكم إسجال على نفسه بالسكوت عن هجوهم، وهذا غير مراده الذي أراده من التهديد، وإذا وضح معنى الكلام هذا الوضوح في لفظ قد انتخبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 مفرداته وحسن تركيبه وسهل فهمه، كان موصوفاً بحسن البيان دون غيره، ومنعوتاً بالتهذيب دون سواه، وإذا استوى البيتان في المعنى وكان أحدهما أخصر وزناً وأبلغ معنى وكانت محاسنه أكثر، وعرى مما وقع في أخيه من العيوب، كان قائل موصوفاً بحسن الإتباع، وبيتي كذلك، لا سيما وقد وقع فيه مع هذا الإبداع، وهو تضمن كل لفظة بديعاً أو بديعين، مثل تضمن هبني سكت، الترشيح للاستعارة التي في لسان ضرورتي، وفيها بعدها الضرب الجدلي الذي سماه أهل الصناعة المذهب الكلامي، وفي الضرب تفسير وتمكين، وفي جملة البيت ما تقدم، فحصل في البيت سبعة عشر ضرباً من البديع قد تقدم ذكرها مفصلة، وسياقها جملة: المطابقة، المذهب الكلامي، الترشيح، الاستعارة، المبالغة، التكميل، التفسير، التمكين، المساواة، الائتلاف، الإيجاز، الإيضاح، حسن البيان، الإبداع، التهذيب، الانسجام، حسن الإتباع، ففضل بيتي بيت ابن الرومي بثلاثة أضرب من البديع، وخلوه من العيب الذي بسببه امتنع به أن يوصف بالانسجام. ومن حسن الإتباع إتباع الأخطل النابغة الذبياني في قوله طويل: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع فقال طويل: وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما صنع الدهر فهذا من الإتباع الذي ليس بحسن، وإنما ذكرته في هذا الباب لأذكر بعده الإتباع الحسن فيبين فضله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 والضد يظهر حسنه الضد ومنه قول علي بن جبلة طويل: وما لامرئ حاولته منك مهرب ... ولو رفعته في السماء المطالع بلى هارب لا يهتدي لمكانه ... ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع فإني رأيت أكثر العلماء رجحوا هذا البيت على بيت النابغة، وفي الشعرين عندي بحث يضيق عنه هذا المكان، ومثل هذا المعنى قول سلم الخاسر بسيط فأنت كالدهر مبتوتاً حبائله ... والدهر لا ملجأ منه ولا هرب ولو ملكت عنان الريح أصرفها ... في كل ناحية ما فاتك الطلب وتناوله البحتري فقال: كامل: ولو أنهم ركبوا الكواكب لم يكن ... ينجيهم من خوف بأسك مهرب وكل هذه المعاني متلاشية في جنب قول الله تعالى: " يا معشر الجن الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " وقد جاء من ذلك في السنة النبوية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نصرت بالرعب، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل ". ومن حسن الإتباع إتباع نصيب الأعشى في قول الأعشى طويل: وإن عتاق العيس سوف تزوركم ... ثناء على أعجازهن معلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 فقال نصيب طويل: فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب ومنه ابتاع أبي تمام عنترة في قول عنترة كامل: فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلي بعبرة وتحمحم فقال: أعني أبا تمام بسيط لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه ... لخر يلثم منه موطئ القدم وابتعه البحتري فقال كامل: ولو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر واتبعه المتنبي فقال: كامل: لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محيية إليك الأغصنا وكل هذا من قوله تعالى: " يوم نقول لجهنم هل امتلأت " الآية، وقوله سبحانه: " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها " الآية وقوله عز وجل: " تكاد تميز من الغيظ "، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 باب حسن البيان حسن البيان عبارة عن الإبانة عما في النفس بألفاظ سهلة بليغة بعيدة من اللبس، كما قال الشاعر خفيف: خطباء على المنابر فرسا ... ن على الخيل قالة غير خرس لا يعابون صامتين وإن فا ... هوا أبانوا ولم يفوهوا بلبس والبيت الثاني أردت. وهو أعني حسن البيان إما بالأسماء والصفات المنفردة وإما بهما مؤتلفة، ودلالة الأول متناهية، ودلالة الثاني غير متناهية، فإن قائلاً لو قال: قد انتهى تأليف الشعر بحيث لا يمكن أن يؤتى بقصيدة إلا وقد قيلت من قبل، كان قوله محالاً، إلا أن تقول: أردت الوزن والتقفية لا غير، وأما جملة القصيد ومجموع صورتها فلا، لأن دلالة التأليف غير متناهية، كما أن الأعداد الممكنة ليس لها نهاية، غير أن البيان فيه الأقبح والأحسن، والوسائط بين هذين الطرفين، فالأقبح كبيان باقل وقد سئل عن ثمن ظبي كان معه، فأراد أن يقول: أحد عشر، فأدركه العي، حتى فرق أصابع يديه وأدلع لسانه، فأفلت الظبي، وهذا أقبح بيان، مع أن قد بالغ في الإفهام، لكونه أخرج تعريف العدد من السماع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 العيان، ومن هاهنا يعلم أنه ليس كل إيجاز بلاغة، ولا كل إطالة عيا، فإنه لا إيجاز في الإفهام أوجز من بيان باقل، لأن المخاطب فهم عنه بمجرد نظرة واحدة، ومع ذلك ضرب به المثل في العي بهذا البيان، والأحسن أن يقول: أحد عشر، والوسائط أن يقول مثلاً: ستة وخمسة، أو عشرة وواحد، أو خمسة وخمسة وواحد، والوسائط تعلو وتسفل بحسب قربها من البلاغة وبعدها بالنسب والإضافات، وبيان الكتاب العزيز وكل كلام بليغ فصيح من الأحسن دون الأقبح ودون الوسائط، لكن الأحسن أيضاً تتفاوت طبقاته كالوسائط، فمنه الأعلى والأدنى والأوسط بالنسبة، وحقيقة حسن البيان إخراج المعنى المراد في أحسن الصور الموضحة له، وإيصاله لفهم المخاطب بأقرب الطرق وأسهلها، لأنه عين البلاغة، وقد تكون العبارة عنه تارة من طريق الإيجاز، وطوراً من طريق الإطناب كثرة العبارة بسبب كثرة المعاني، والإسهاب كثرة العبارة عن المعنى الواحد، والمعاني القليلة، والأول بعينه هو حد البلاغة وحقيقتها، وبه جاء كل بيان القرآن، كقول الله تعالى وقد أراد أن يحذر من الاغترار بالنعم " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين " وكقوله تعالى وقد أراد أن يبين عن الوعد " إن المتقين في مقام أمين " الآية، وكقوله عز وجل وقد أراد أن يبين عن الوعيد " إن يوم الفصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 ميقاتهم أجمعين " وكقوله في الاحتجاج القاطع للخصم: " وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " وكقوله تبارك وتعالى وقد أراد أن يبين عن تقريع الكفار: " أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين " وكقوله تعالى وقد أراد أن يبين عن التحير: " ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون " وكقوله تعالى وقد أراد أن يبين عن العدل: " ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه " وأمثال هذه المواضع كثيرة لمن يتتبعها. ومما جاء من ذلك في الشعر قول أبي العتاهية منسرح: يضطرب الخوف والرجاء إذا ... حرك موسى القضيب أو فكر وكقول الآخر طويل: له لحظات عن خفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل فإن هذين الشاعرين أرادا مدح هذين الممدوحين بالخلافة، ووصفهما بالقدرة المطلقة وعظم المهابة بعد الله سبحانه، فإذا نظر أحدهما نظرة، أو حرك القضيب مرة، أو أطرق مفكراً لحظة، اضطرب الخوف والرجاء في قلوب الناس، فأبانا عن هذه المعاني أحسن إبانة بخلاف قولي طويل: بكفيه نفع العالمين وضرهم ... فنعمى لذي حسني وبؤسي لمجرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 فإني أردت الإبانة عن معنى أبي العتاهية والذي بعده، فأبنت عنه بياناً غير حسن ولا قبيح، ولم يكن في قوتي الإبانة عن المعنى بأحسن بيان كما فعلاً، فإن بيتي يصلح أن يكون في شواهد الوسائط في هذا الباب، وإن كان أبو العتاهية والذي بعده ألما في معناهما بالحزين الكناني حيث يقول في عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وقد وفد عليه وهو عامل مصر لأبيه بسيط لما وقفت عليه في الجموع ضحى ... وقد تعرضت الحجاب والخدم حييته بسلام وهو مرتفق ... وضجة الناس عند الباب تزدحم في كفه خيزران ريحها عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم يغضى حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم والبيت الأخير أردت. والفرق بين ما سميته في بيت أبي العتاهية والذي بعده حسن بيان وبين الإشارة، أن الإشارة لا تكون بلفظ الحقيقة، وحس البيان يكون بلفظ الحقيقة وبغيره، فما كان منه بلفظ الحقيقة فهو من البيان الأحسن، وما كان بغير لفظ الحقيقة فهو من البيان الحسن، ولا بد أن يكون لفظه أقرب إلى لفظ الحقيقة من لفظ الإشارة، كما أن لفظ الإشارة أقرب إلى لفظ المعنى من لفظ الإرداف، ولفظ الإرداف أقرب من لفظ التمثيل، ألا ترى أن لحظات الناظر تدل على الغضب والرضا أسرع ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 يدل قيد الأوابد على سرعة عدو الفرس، والإنسان يجد الفهم يسرع إلى مدلول اللحظات أقرب من سرعته إلى مدلول قيد الأوابد والفرق أيضاً بين حسن البيان والإيضاح، أن الإيضاح يكون بالعبارة الفاضلة والعبارة النازلة، وحسن البيان لا يكون إلا بالعبارة الفاضلة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 باب التوليد التوليد على ضربين: من الألفاظ ومن المعاني، فالذي من الألفاظ على ضربين أيضاً، توليد المتكلم من لفظه ولفظ غيره، وتوليده من لفظ نفسه، والأول هو أن يزوج المتكلم كلمة من لفظه إلى كلمة من غيره، فيتولد بينهما كلام ينقض غرض صاحب الكلمة الأجنبية، وذلك في الألفاظ المفردة دون الجمل المؤتلفة. مثاله ما حكى أن مصعب بن الزبير وسم خيله بلفظة عدة فلما قتل وصار إلى العراق رآها الحجاج فوسم بعد لفظة عدة لفظة الفرار فتولد بين اللفظتين غير ما أراده مصعب. ومن لطيف التوليد قول بعض العجم، وهو توليد المتكلم ما يريد من لفظ نفسه وافر: كأن عذاره في الخد لام ... ومبسمه الشي العذب صاد وطرة شعره ليل بهيم ... فلا عجب إذا سرق الرقاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 فإن هذا الشاعر ولد من تشبيه العذار باللام، وتشبيه الفم بالصاد لفظة لص، وولد من معناها ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النوم، فحصل في البيت توليد وإغراب وإدماج، وهذا من أغرب ما سمعت في ذلك، وهو الثاني من التوليد اللفظي. ومن توليد الألفاظ توليد المعنى من تزويج الجمل المفيدة. ومثاله ما حكى أن أبا تمام أنشد أبا دلف: على مثلها من أبع وملاعب فقال: من أراد نكتة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فولد بين الكلامين كلاماً ينافي غرض أبي تمام من وجهين: أحدهما خروج الكلام من النسيب إلى الهجاء بسبب ما انضم إليه من الدعاء، والثاني خروج الكلام من أن يكون بيتاً من شعر إلى أن صار قطعة من نثر. ومن هذا الضرب قول الشاعر طويل: ألوم زيادا في ركاكة عقله ... وفي قوله أي الرجال المهذب وهل يحسن التهذيب منك خلائقا ... أرق من الماء الزلال وأطيب تكلم والنعمان شمس سمائه ... وكل مليك عند نعماك كوكب ولو أبصرت عيناه شخصك مرة ... لأبصر منه شمسه وهو غيهب فإن هذا الشاعر زوج مدحة ممدوحه بتهذيب الأخلاق إلى قول النابغة أي الرجال المهذب فتولد بين الكلام ما ينافي غرض النابغة، حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 أخرج الشاعر كلامه مخرج المنكر على النابغة ذلك الاستفهام، وأوضح مناقضته للنابغة في بيته الثاني، وهو قوله: وهل يحسن التهذيب، البيت، وزوج قوله في عجز البيت الثالث: وكل مليك عند نعماك كوكب إلى قول النابغة: فإنك شمس والملوك كواكب بدليل قول الشاعر عن النابغة: تكلم والنعمان شمس سمائه البيت، فتولد بين الكلامين قوله طويل: ولو أبصرت عيناه شخصك مرة ... لأبصر منه شمسه وهو غيهب فهذا الضرب الأول من التوليد بأقسامه، وهو ما تولد من اللفظ. وأما الضرب الثاني منه، وهو ما تولد من المعاني، كقول القطامي بسيط قد يدرك المتأنى بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل فقال من بعده بسيط عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق فمعنى صدر هذا البيت معنى بيت القطامي بكماله، ومعنى عجز البيت مولد بينهما، وهو قوله: إن التخلق يأتي دونه الخلق والقطامي أخذ معناه من عدي بن زيد العبادي حيث قال سريع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 قد يدرك المبطئ من حظه ... والخير قد يسبق جهد الحريص وعدي نظر إلى قول جمانة الجعفي طويل: ومستعجل والمكث أدنى لرشده ... لم يدر في استعجاله ما يبادر ومن التوليد توليد بديع من بديع كقول أبي تمام طويل: له منظر قيد النواظر لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب فإنه ولد قوله: قيد النواظر من قول امرئ القيس: " قيد الأوابد " لأن هذه اللفظة التي هي قيد انتقلت بإضافتها من الطرد إلى النسيب، فكأن النسيب تولد من الطرد، وتناول اللفظة المفردة لا يعد سرقة كتناول هذه اللفظة. ومن التوليد نوع آخر وهو توليد المعاني، والذي مضى توليد الألفاظ، وهو أن يزوج المتكلم معنى من معاني البديع بمعنى فيه، فيتولد بينهما فن مدمج في فن كقولي طويل: شفيعي عند الغيد مسود وفرتي ... إذا ما غدا غيري وشافعه الوفر فإني لما زوجت التجنيس بالمبالغة تولد بينهما تفضيل الشباب على المال، فالتجنيس قولي: وفرتي والوفر والمبالغة تسميتي الشباب شفيعاً والوفر شافعاً، وفعيل من أبنية المبالغة بخلاف فاعل، وتفضيل الشباب جاء مدمجا في الغزل، لأن البيت بمعناه الذي قصد التغزل، وهذا توليد كما ترى، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 يقع في الكتاب العزيز من التوليد إلا توليد المعاني البديعية، ومن ذلك ما وقع في قوله تعالى: " قل رب احكم بالحق " فإني استخرجت من هذه الآية أربعة عشر نوعاً من البديع أمهاتها خمس، وهي: الأرداف والتتميم والائتلاف والتهذيب، وتولد من هذه الأمهات تسعة أضرب، وهي الإيضاح والإدماج والافتنان وحسن البيان والمقارنة والامتزاج والإيجاز والإبداع، والمثل السائر، وشرح ذلك يضيق عنه هذا المكان، وقد أفردته في صحيفة على انفراده، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 باب التنكيت وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون أشياء كلها يسد مسده، لولا نكتة في ذلك الشيء المقصود ترجح اختصاصه بالذكر دون ما يسد مسده، ولولا تلك النكتة التي انفرد بها لكان القصد إليه دون غيره خطأ ظاهراً عند أهل النقد. ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله سبحانه: " وأنه هو رب الشعرى " فإنه سبحانه وتعالى خص الشعري بالذكر دون غيرها من النجوم، وهو رب كل شيء، لأن العرب كان قد ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبد الشعرى، ودعا خلقاً إلى عبادتها، فأنزل الله سبحانه: " وأنه هو رب الشعرى " التي ادعيت فيها الربوبية دون سائر النجوم. وكقوله تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " فإنه سبحانه إنما خص " تفقهون " دون " تعلمون " لما في الفقه من الزيادة على العلم، والمراد الذي يقتضيه معنى هذا الكلام والتفقه في معرفة كنه التسبيح من الحيوان البهيم والنبات والجماد الذي تسبيحه بمجرد وجوده الدال على قدرة موجده ومخترعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 ومن غريب التنكيت قوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء " فإنه يقال: لم اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر التي يكون الله سبحانه المولدات الثلاث منها؟، فيقال: النكتة التي رجحت الاقتصار على الماء دون بقية العناصر قوله " كل دابة " بلفظ الاستغراق لكل ما دب، وليس في العناصر الأربعة ما يعم جميع المخلوقات إلا الماء، ليدخل الحيوان البحري فيها. من أمثلة هذا الباب الشعرية قول الخنساء وافر: يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس فخصت هذين الوقتين وإن كانت تذكره في كل وقت، لما في هذين الوقتين من النكتة المتضمنة تأبين الميت، والمبالغة في وصفه بالشجاعة والكرم، لأن طلوع الشمس وقت الغارات على العدى، ووقت غروبها وقت وقود النيران للقرى. ومن أمثلة الباب أيضاً قول المتنبي كامل: لو مر يركض في سطور كتابه ... أحصى بحافر مهره ميماتها فإنه إنما خص الميمات دون غيرها من الحروف، لكونها تشبه الحوافر من جهة استدارتها، فإن قيل: إن كان أراد تشبيه الحوافر فالعدول إلى العينات أولى، لأنها بالحوافر أشبه، ولا سيما عنده، حيث شبه الحافر بالعين، في قوله لسيف الدولة منسرح: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 أول حرف من اسمه كتبت ... سنابك الخيل في الجلاميد قلت: يترجح ذكر الميمات دون العينات لوجهين: أحدهما أن الميمات في الكلام أكثر من العينات، لأنها تقع أصلاً وزائدة، والعينات لا تقع إلا أصلية، والثاني أنها أصغر شكلاً، واختصاص ما هو أصغر وأكثر في باب الإحصاء أمدح للموصوف بالإحصاء من ذكر ما هو أقل وأكبر وإنما مدحه بالإحصاء في حالة الركض، لأن الإحصاء يدل على ثبات الجأش وحضور الحس وعدم الدهش والطيش في وقت الركض. ومن دقيق ما وقع في البيت من ملاءمة الألفاظ بعضها لبعض الدالة على الائتلاف قوله: مهره ولم يقل طرفه لكونه الطرف يقع على المهر، وعلى القارح فيتخلص من الاشتراك الموجب عدم الملاءمة لأن صغر حافر المهر ملائم لصغر شكل الميم، فحصل في البيت إدماج الائتلاف في المبالغة وتعليق المدح بالنبات بالوصف، وهذا من ألطف ما وقع في هذا الباب. ومن بديع أمثلة هذا الباب قول عنترة، وهو مما يسأل عنه كامل: ما راعني إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سوداً كخافية الغراب الأسحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 فإن لفظة الحمولة تدل على الرحيل، وكذلك كونها وسط الديار وعلوفتها هذا الحب المخصوص يدل على بعد الرحلة، فإنه حب يقوي أعصاب الإبل، وهذا العدد من الحلوبات السود الصقيلة الحسان يدل على كثرة المال وانتخابه، وكذلك لا يكون إلا للملوك، فهو يدل على أن المعشوقة من بنات الملوك، وفي ذلك فخر لمن يميل إليها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 باب الاتفاق وهو أن تتفق للشاعر واقعة تعلمه العمل في نفسه، فإن للسبق إلى معاني الوقائع التي يشترك الناس في مشاهدتها أو سماعها فضلاً لا يجحد، كما اتفق لبعض شعراء مصر، ويقال إنه الرضى بن أبي حصينة، وقد أغزى الملك الناصر صلاح الدين حاجبه حسام الدين لؤلؤ الإفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم، فظفر الحاجب بهم، فقال ابن أبي حصينة في تهنئته مخاطباً للإفرنج بسيط عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير ثم قال بعد أبيات مخاطباً للملك الناصر رحمه الله بسيط فأمر حسامك أن يحظى بنحرهم ... فالدر مذ كان منسوب إلى البحر وكما قال ابن الساعاتي وقد قصد الملك الناصر رحمه الله بيت يعقوب من حصون الشام فقال مخاطباً الإفرنج طويل: دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف وكما اتفق لي وقد لقي الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 عمه الملك الظافر الخضر بن يوسف بن أيوب رحمهم الله تعالى بملتقى الخابور والفرات، فاتفق لي أن قلت طويل: غدا مجمع البحرين شاطئ فراتنا ... ألم تر موسى فيه قد لقى الخضرا وكما قلت عند اجتماع الملك الأشرف هذا بأخيه الملك الكامل رحمهما الله تعالى بمصر من قصيدة أهنئ فيها مصر بذلك مخبراً عنها طويل: تقول وموسى قد أتى لمحمد ... أهل ليلة الإسراء عاد بها الدهر؟! وكقولي من قطعة هنأت بها فخر الدين عثمان بن قزل رحمه الله تعالى بمولودين جاءاه في ليلة واحدة " مجتث ": ليهن علياك بدرا ... ن زينا الخافقين الآن صرت يقينا ... عثمان ذا النورين ومن الاتفاق أن يتفق للشاعر أسماء لممدوحه ولآبائه يمكنه أن يستخرج منها مدحاً لذلك الممدوح، ولو لم تتفق تلك الأسماء على ما هي عليه لما اتفق استخراج ذلك المدح، كقول أبي نواس كامل: عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع وقد وقع في هذا البيت مع لطيف الاتفاق مليح الازدواج في قوله: عباس عباس، والفضل فضل ... والربيع ربيع ولأبي نواس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 من القسم الأول من الاتفاق ما لم يتفق مثله في مرثية يرثى بها خلفاً الأحمر منسرح: وكان ممن مضى لنا خلفاً ... وليس إذ بان منه من خلف فإنه اتفق له من اسم المرثي تورية حسنت موقع هذا البيت إلى أن أتى في الطبقة العليا والغاية القصوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 باب النوادر وهو الذي سماه قدامة قديماً الإغراب والطرفة، ولم يفرد له باباً في المحاسن فاذكره في أبوابه، وسماه من بعده التطريف، وسماه قوم النوادر، وقوم أبقوا عليه تسمية قدامة، وأفردوه باباً، فتبعتهم في ذلك، وأتيت به، وهو آخر أبواب من تقدمني من جميع الناس في غالب ظني وهو أن يأتي الشاعر بمعنى غريب لقلته في كلام الناس وليس من شرطه على رأي قدامة فيه غير ذلك وقال: لا يكون في المعنى إغراب إلا إذا لم يسمع مثله، والاشتقاق يعضد التفسير الثاني، والشواهد تعضد تفسير قدامة، لأن شواهد الباب وقع فيها ما يجوز أن يكون قائله لم يسبق إليه، وما يجوز أن يكون قد سبق إليه على قلته، واستدل قدامة على مراده بقول الناس: ورد طريف غريب، إذا جاء في غير وقته، أما كونه لم يرقط فهذا محال، وإنما المراد لم يوجد مثله في ذلك الزمان. ومن أمثلته للأوائل مدح زهير للفقراء والأغنياء معاً فإنه غريب، إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 العادة جارية بمدح الأغنياء غالباً، لأنه يقال: ما سمع قط مدح فقير حتى قال طويل: على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل ومن الغريب الطريف قول أبي تمام كامل: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس ومن الغريب الطريف أيضاً قول دريد طويل: ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنه قد سل من ماجد محض فإنه ما سمع من مدح من لا يعرفه قبله، وتبعه أبو نواس في ذلك فقال في القطعة التي أولها طويل: ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جني ويابس حبست بها صحبي فجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 ولم أدر منهم غير ما شهدت به ... بشرقي ساباط الديار البسابس ومن الإغراب اللطيف قول القائل كامل: عرض المشيب بعارضيه فأعرضوا ... وتقوضت خيم الشباب فقوضوا إن كان في الليل البهيم تبسطوا ... خفراً وفي الصبح المنير تقبضوا ولقد سمعت وما سمعت بمثلها ... بيتا غراب البين فيه أبيض ومن لطيف الإغراب وطريفه قول بعضهم " البسيط ": ظلت تبشرني عيني إذا اختلجت ... بأن أراك وقد كنا على حذر فقلت للعين أما كنت صادقة ... إني ببشراك لي من أسعد البشر فما جزاؤك عندي لست أعرفه ... بلى جزاؤك أن أحبوك بالنظر وأستر المقلة الأخرى فأحجبها ... عن أن تراك كما لم تأت بالخبر ومن الإغراب قسم آخر، وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى متداول معروف ليس بغريب في بابه فيغرب فيه بزيادة لم تقع لغيره، ليصير بها ذلك المعنى المعروف غريباً طريفاً، وينفرد به دون كل من نطق بذلك المعنى، وبيان ذلك أن تشبيه الحسان بالشمس والبدر متداول معروف، فلما أراد أبو تمام ارتكاب هذا المعنى، وفطن إلى أنه قد ذهبت طلاوته لكثرة ابتذاله تحيل له في زيادة طريفة لم تقع لغيره يصير بها المعنى غريباً بعد أن كان معروفاً، فقال طويل: فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع فإن حاصل كلامه تشبيه المرأة الموصوفة بالشمس، لكن التشكيك الذي أدخله في كلامه وذكر يوشع بعد إغرابه في التوطئة بإخباره بان هذه المرأة ردت بها الشمس برغم الليل، نقل المعنى من المعرفة إلى الغرابة، فلا جزم أنه استحقه بذلك دون كل من تناوله، ودون المبتدئ به ومن هذا القسم قول المتنبي بسيط يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع فإنه عمد إلى المعنى المعروف في هذا الفن من كون الطير تقع على القتلى وتتبع الجيوش ثقة بالشبع، فتجاوز بزيادة المبالغة المستحسنة إلى ما قال، والذي حسن البيت جداً إتيانه فيه بلفظة " تكاد " فإنها قلبت المستحيل ممكناً، فساغت المبالغة، وحصل له ما أراد من الإغراب والطرفة. ومن الإغراب أيضاً قول ابن شرف القيرواني كامل: غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم لو لم يبغضه عنده ابن رشيق حين أنشده إياه وقال: هل سمعت بهذا المعنى؟ فقال: سمعته وأخذته أنت أفسدته، فقال: ممن؟ فقال: من النابغة الذبياني حيث قال: طويل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذى العرى يكوي غيره وهو راتع فأما إفساده فلأنك قلت في صدر بيتك إنك عوقبت بجناية غيرك، ولم تعاقب صاحب الجناية. ثم قلت في عجز بيتك: إن صاحب الجناية قد شركك في العقوبة: فناقض معناك، وذلك أنك شبهت نفسك بسبابة المتندم، وسبابة المتندم أول شيء يتألم في المتندم، ثم يشركها المتندم في الألم فإنه متى تألم عضو من الحيوان تألم كله لأن المدرك من كل مدرك حقيقته، وحقيقته على المذهب الصحيح هي جملته المشاهدة منه، والمكوى من الإبل: يألم وما به عر البتة، وصاحب العر لا يألم جملة، فمن هاهنا أخذت المعنى وأفسدته، غير أن ابن شرف هذا له في هذا الباب ما لا يلحق، وهو قوله " رمل ": قلم قلم أظفار العدا ... وهو كالإصبع مقصوص الظفر أشبه الحية حتى أنه ... كلما عمر في الأيدي قصر والبيت الثاني أردت، وأما الأول فهو من باب الإغراب في البرد لأنه لا نكاية للعدى في تقليم أظفارهم، بل ذلك مما يحسن صورهم، ويزداد به نشاطهم، ويماط به الأذى عنهم عند تناول الطعام والشراب، وتقبل بذلك النفوس عليهم، ولا يقال: إنه أراد بالأظفار السلاح، فإن ذلك من الغيب الذي لا يعلم، إذ ليس في الكلام ما يشعر بهذه الاستعارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 ومما يفسد هذا التأويل قوله: كالإصبع، فإنه ذكر الإصبع، والمراد به ظاهر اللفظ فإنه يدل على أن الظفر على ظاهره إلا أن يتأول الإصبع، وأما تشبيه القلم بالإصبع فهو تشبيه يسلبه جميع المنافع والمضار، فإن الإصبع الواحدة على انفرادها قلما تعمل عملاً، وإن عملت عملاً كان غير متقن وكانت غير متمكنة منه، فلا معنى لها على انفرادها، وأنت ترى من ولد خداجاً ليس في كفه إلا إصبع واحدة غير منتفع بيده، ويشاهد ما بها من القبح، ولا يكون للإصبع جمال إلا مع انضمامها إلى أخواتها، واستعارة قصر الظفر له من أبرد الاستعارات، إلا أنه كفر بحسنات البيت الثاني سيئات البيت الأول أن الحسنات يذهبن السيئات وقد أتى أيضاً في هذا الباب بما هو أحسن من الأول وهو قوله بسيط أغنيتني عن جميع الناس كلهم ... ولم أجد مغنياً من سائر البشر كالحمد تجزي المصلى حين يقرأها ... وليس يغنيه عنها سائر السور هذا على مذهب الجمهور، فإنه مذهب مالك والشافعي وأحمد، إلا أبا حنيفة وصاحب الشعر مالكي، إذ هو مذهب أهل المغرب ولابن رشيق في هذا الباب ما لا يشق غباره وهو قوله " رجز ": كأنما الصبح الذي تفرا ... ضم إلى الشرق النجوم الزهرا فاختلطت فيه فصارت فجرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وقوله أيضاً متقارب: وما ثقلت كبراً وطأتي ... ولكن جررت ورائي السنينا وقد رأيت الحجاري صاحب الحديقة وصاحب المسهب في أخبار أهل المغرب سمى هذا الباب في الحديقة مناقلة، وفسره بأن قال: هو من مناقلة الخيل، وهي وضع الفرس في الوعر يده موضع رجله مخالفاً لمشيته المعتادة، وأنشد فيه قول ابن الرومي سريع: تستغفر الناس بأيديهم ... وهن يستغفرن بالأرجل فيا له من عمل صالح ... يرفع الله إلى أسفل فأغرب بمخالفة العادة. حيث ذكر أن هذه النسوة يفعلن بالأرجل ما يفعله الناس بالأيدي، والارتفاع إلى الأسفل من أغرب الغريب. ومن نوادر الإغراب قول الأرجاني كامل: شعري إذا ما قيل يرويه الورى ... بالطبع لا بتكلف الإلقاء كالصوت في قنن الجبال إذا بدا ... للسمع هاج تجاوب الأصداء ومن مليح هذا الباب قول بعضهم طويل: تواضع كالنجم استبان لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع ومن دونه يسمو إلى النجم صاعداً ... سمو دخان النار وهو وضيع ومن الإغراب نوع يغرب المتكلم فيه بأن يخرج معنى المدح في لفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 الغزل، فيأتي المدح هزازاً للمعاطف من الطرب، يكاد يؤكل بالضمير ويشرب، كقول أبي تمام في صفة عمورية بسيط ما ربع مية معموراً يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب ولا الحدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب سماحة غنيت منا العيون بها ... عن كل حسن بدا أو منظر عجب وحسن منقلب تبقى عواقبه ... جاءت بشاشته من سوء منقلب وكقول ابن سنان الخفاجي كامل: صبحتهم باللاذقية فالتقى ... بحران ماء راكد وعتاق سبق الظلام لها فعضت ورودها ... تبعاً وأنت لمثلها سباق حتى إذاً متع الضحى وتمارت ال؟ ... أبصار أيكما له الإشراق غادرتها دمنا على أطلالها ... يبكي الخليط وتذكر الأشواق وسننت دين قراك في عرصاتها ... فالنار تضرم والدماء تراق والبيت الرابع أردت، وإنما ذكرت ما قبله وما بعده لارتباطه بذلك، ولما في المجموع من كمال حسن المعنى، دون انفراد أحد الأبيات وما رأيت في عصرنا أغرب معان من القاضي السعيد بن سناء الملك رحمه الله. ومن غرائب معانيه قوله في عمياء تظرفا سريع: شمس بغير الليل لم تحتجب ... وما سوى العينين لم تكسف بغمده المرهف لكنها ... تقتل بالغمد بلا مرهف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 أبصرت منها الخلد في جؤذر ... ومقلتي يعقوب في يوسف وقوله كامل: ومع المشيب فبعد عندي صبوة ... يبلى القميص وفيه عرف المندل ؟ أنا جد أنصار النبي لأنني ... يا أشهل العينين عبد الأشهل وكقوله طويل: فلا تنكروا منها الخضاب فإنها ... هي الغصن في أطراف الورق الخضر وكقوله طويل: عليك زكاة فاجعليها وصالنا ... لأنك في العشرين وهي نصاب وكقوله في صبي مستحسن ضرب وحبس طويل: بنفسي الذي لم تضربوه لريبة ... ولكن ليبدو الورد في سائر الغصن وقالوا له شاركت في الحسن يوسفاً ... فشاركه أيضاً في الدخول إلى السجن وغرائب معانيه لو استقصيت لخرجنا بها عن الغرض المطلوب من الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 ومما وقع لي من باب الإغراب والطرفة قولي طويل: أراني لا ينفك نجمي هابطاً ... تراه يراه ربنا حسب الرجم حنتني الليالي فاغتديت كأنني ... أفتش دهري في التراب على نجمي فصرت إذا قوساً وعقلي رامياً ... ورامي الذي أصمى الرمايا به سهمي وقولي طويل: تحلمنا الأيام وهي سفيهة ... فيهدي إلينا برها من عقوقها وتهدي الدراري وهي من حيرة ترى ... وقد رجعت من مستقيم طريقها كما تحدث الطيش الطلى من سكونها ... فتغرب شمس العقل عند شروقها ومن الإغراب والطرفة نوع لا يكون الإغراب فيه في ظاهر لفظه، بل في تأويله، وهو الذي إذا حمل على ظاهره كان الكلام به معيباً جداً وإذا تؤول رده التأويل إلى نمط الكلام الفصيح، وأميط من ظاهره حدث العيب، فيكون التأويل هو الموصوف بالإغراب لا الظاهر، وذلك كقوله: " حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين " فإنهم أمسوا كما أصبحوا، فتكون لفظة فأصبحوا حشوا لا فائدة فيه، ومثل هذا يتحاشى عنه نظم القرآن، فإنك إذا قلت أصبح العسل حلواً وهو قد أمسى كذلك، كان قولك أصبح حشاً، لكن لما كان الأشقياء حالهم حال المرضى، وكان المريض تشتد عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 الآلام في الليل، وتخف في النهار، فتكون حاله عند الصباح صالحة بالنسبة إلى حاله بالليل، إلا المريض الذي لا يرجى برؤه، فإنه يصبح كما أمسى، فإذا أصبح كذلك يئس من فلاحه، ولما أشبهت حال هؤلاء الأشقياء حال المريض الذي قد تيقن هلاكه، أخبر عنهم بأنهم أصبحوا كما أمسوا خاسرين، وعلى هذا تكون لفظة أصبحوا قد تضمنت معنى أخرجها عن كونها حشواً، ورد الكلام الذي جاءت فيه إلى حده من الفصاحة، فعد التأويل الذي فعل بها ذلك غريباً طريفاً، والله أعلم. هذا آخر أبواب المتقدمين، وقد بقيت أبواب الأجدابي الثلاثة التي أولها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 باب الالتزام وهو أن يلتزم الناثر في نثره، أو الشاعر في شعره، قبل روي البيت من الشعر حرفاً فصاعداً على قدر قوته، وبحسب طاقته، مشروطاً بعدم الكلفة وقد جاء من ذلك في الكتاب العزيز مواضع رائعة الحسن، كقوله تعالى: " والطور وكتاب مسطور " وقوله سبحانه: " فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس " وقوله تعالى: " والليل وما وسق والقمر إذا اتسق " وقوله عز وجل " فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر " وقوله تعالى: " أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " وقوله عز من قائل: " ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون " وقوله جلت قدرته: " فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون " وقوله جل جلاله " كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق " وقوله عز وجل: " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " وأشياء كثيرة من فواصل القرآن العزيز تعجز الفصحاء أشد تعجيز وقد جاء في السنة من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أم زرع حكاية عن الأولى من النسوة قولها: " لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، وقول أم زرع في صفة حالها مع أبي زرع: فعنده أنام فأتصبح، وأقول فلا أقبح " وقولها في صفة الخادم " لا تقش طعامنا تقشيشاً ولا تملأ بيتنا تعشيشاً، ولا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تنفث ميرتنا تنفيثاً "، هذه رواية، وليست من أمثلة هذا الباب، والرواية الأخرى التي من أمثلة الباب تتمة القرائن الشينية، وهي قولها: ولا تخرج حديثنا تعشيشاً. وقولها أعني أم زرع: " فتزوجت بعده رجلاً سرياً، ركب فرساً شريا، وأراح على نغماً ثريا "، وكقول السادسة منهن: " إن أكل اقف وإن شرب اشتف وإن رقد التف "، وكقول الثامنة: " المس مس أرنب، والريح ريح زرنب "، ومن هذا الباب في الشعر قول امرئ القيس طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول إذا ما بكى من خلفها انحرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول وقد أكثر المتأخرون من هذا الباب قاصدين عمله، وما وقع منه لمتقدم فغير مقصود، حتى عمل المعري من ذلك ديواناً كاملاً مفرداً من ديوان شعره المعروف بسقط الزند، ومنه قوله طويل: لك الحمد أمواه البلاد بأسرها ... عذاب وخصت بالملوحة زمزم هو الحظ غير الوحش يستاف أنفه ... خزامى وأنف العود بالعود يخزم وكقول بعضهم بسيط سلم على قطن إن كنت نازله ... سلام من كان يهوى مرة قطنا أحبه والذي أرسى قواعده ... حباً إذا ظهرت آياته بطنا ما من غريب وإن أبدى تجلده ... إلا تذكر عند الغربة الوطنا ومن مليح ما جاء في الالتزام قول أبي نواس كامل: وأما وزند أبي علي إنه ... زند إذا استوريت سهل قدحكا إني لتأبى الصنع عالي همتي ... من غيركم وتعاف إلا مدحكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 باب تشابه الأطراف هذا الباب سماه الأجدابي التسبيغ، وفسره بأن قال: هو أن يعيد لفظ القافية في أول البيت الذي يليها، والتسبيغ زيادة في الطول، ومنه قولهم: درع سابغة، إذا كانت طويلة الأذيال، وهذه اللفظة في اصطلاح العرضيين عبارة عن زيادة حرف ساكن على السبب الخفيف في آخر الجزء، وعلى هذا لا تكون هذه التسمية لائقة بهذا المسمى، فرأيت أن أسمى هذا الباب تشابه الأطراف، لأن الأبيات فيه تتشابه أطرافها وما بأبيات قلتهن في هذا النوع من بأس، وهي طويل: خليلي إن لم تعذراني في الهوى ... ولم تحملا عني اذهبا ودعاني دعاني إليه الحب فالحب آنفا ... دعاني قلبي إذ دعاه جناني جناني في سكر فلا رعى عنده ... بكأس بها ساقي الغرام سقاني سقاني من لم يعنه من صبابتي ... ووجدي به ما شفني وعناني عناني منه ما براني ولم يكن ... ليرثي لما قد حل بي ودهاني دهاني الهوى من حيث لم أدر عندما ... رأى ما شجى قلبي الكئيب عياني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 عياني على قلبي تعدى بنظرة ... إلى ناظر باللحظ منه رماني رماني بسهم من كنانة لحظه ... أصاب فؤادي شجوه فشجاني شجاني بسقم من مراض جفونه ... وغض حياء منه حين سباني سباني بسحر ليس يبطل بالرقى ... تقر له في بابل الملكان ومنه في الكتاب العزيز قوله تعالى: " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري " وأنشد فيه قول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج طويل: إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال يحلبون صراها وأحسن من هذه الأبيات قول أبي نواس سريع: خزيمة خير بني خازم ... وخازم خير بني دارم ودارم خير تميم وما ... مثل تميم في بني آدم إلا البهاليل بنو هاشم ... وهم سيوف لبني هاشم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 باب التوءم وهذا الباب أيضاً سماه الأجدابي التشريع، وفسره بأن قال: هو أن يبني الشاعر البيت أو الناثر النثر على قافيتين إذا اقتصر على إحداهما كان البيت له وزن، وإن كمله على القافية الأخرى كان له وزن آخر، وتكون القافيتان متماثلتين، وتكونان مختلفتين، وهذه التسمية وإن كانت مطابقة لهذا المسمى فهي غير معلومة عند الكافة، فسميته التوأم، وهو أن يكون للبيت كما ذكر قافيتان، وصحة القول في تفسيره أن يقال: أنه متى اقتصر به على القافية الأولى كان من ضرب ذلك البحر الذي عمل الشاعر بيته منه، فإذا استوفى أجزاءه وبناه على القافية الثانية كان البيت من ضرب غير ذلك الضرب من ذلك البحر، وغالبه أن يختلف الرويان وإن جاز توافقهما، هذا إن كان الكلام شعراً، وذلك كقول الشاعر كامل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هدج الرئال، تكبهن شمالا ألفيتنا نفرى العبيط لضيفنا ... قبل القتال، ونقتل الأبطالا فإن هذا الشاعر لو اقتصر على الرئال، والقتال كان الشعر من الضرب المجزوء المرفل من الكامل، فإذا أتممت البيتين صارا من الضرب التام المقطوع منه، فقدر أن لكل بيت من هذين البيتين قافيتين على تساوي القافيتين في الردف وتماثل الرويين وإن اختلف المجرى فيهما، وعلى هذا بنى الحريري قوله في المقامات كامل: يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى، وقرارة لأكدار لأن اقتصاره على قوله شرك الردى تجعل الشعر من الضرب المجزوء من الكامل، وتمامه يجعله من الضرب المضمر المقطوع منه، وإن اختلف القافيتان والرويان والمجرى فيهما، وقد جاءت من هذا الباب في الكتاب العزيز أكثر سورة الرحمن كقوله تعالى: " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلآء ربكما تكذبان " يرسل عليكما شواظ من نار وغاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان وهكذا إلى آخر السورة فإنه يجوز الاقتصار على أولى الفاصلتين دون الثانية لو كان التنزيل كذلك، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 هذا آخر ما جمعته من كتب الناس بعد التنقيح والتحرير، وتغيير ما حسن فيه التغيير، وقد تكملت الأبواب بهذه الثلاثة التي عوضت بها ما تداخل في باب التمكين التهذيب تسعين باباً غير متداخلة ولا متواردة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 الجزء الرابع ومن هاهنا أشرع في إثبات الأبواب التي استنبطتها، والأنواع التي استخرجتها مفصلة مكملة، فأولها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 باب التخيير وهو أن يأتي الشاعر ببيت يسوغ أن يقفي بقواف شتى، فيتخير منها قافية مرجحة على سائرها بالدليل، تدل بتخيرها على حسن اختياره، كقول الشاعر بسيط إن الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت فإنه يسوغ أن يقول: فكيف حال غريب ما له حال أي ما له مال، ما له نشب، ما له سبب، ما له صفد، ما له سبب، ما له خطر، ما له أحد، ما وجد، ما له شيع، وإذا نظرت إلى قوله: ما له قوت وجدتها أبلغ من الجميع، وأدل على الفاقة، وأمس بذكر الحاجة، وأبين للضرورة، وأشجى للقلوب، وأدعى للاستعطاف، فلذلك رجحت على كل ما ذكرناه ومن هذا النوع في الكتاب العزيز قوله تعالى في أول الجاثية: " إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون فالبلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى: المؤمنين، لأنه سبحانه ذكر العالم بجملته، حيث قال: السموات والأرض، ومعرفة ما في العالم من الآيات دالة على صفاته لتقدم الموصوف وجوداً واعتقاداً على الصفات وكذلك قوله في الدالة على أن المخترع له قادر عليم حكيم وإن دل على وجود صانع مختار فدلالتها على صفاته مرتبة على دلالتها على ذاته، فلا بد أولاً من التصديق بذاته حتى تكون هذه الآيات دالة الثانية: لقوم يوقنون، فإن نفس الإنسان وتدبر خلق الحيوان، أقرب إليه من الأول، وتفكره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول، وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار، وإنزال الرزق من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، تقتضي رجاحة العقل ورصانته، ليعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلي التي هي أحسن منه، وعوارض عنه، ولا يجوز أن يكون بعضها صنع بعضا بعد قيام البرهان على أن للعالم الكلي صانعاً مختاراً، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة لقوم يعقلون وأن احتيج للعقل في الجميع، إلا أن ذكره هاهنا أمس بالمعنى من الأول، إذ بعض من يعتقد صانعاً للعالم ربما قال: إن بعض هذه الآثار يصنع بعضا، فلا بد إذاً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 التدبر بدقيق الفكر وراجح العقل، ومنه قوله تعالى: " فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر " ولا يجوز التبديل بينهما، إذ لا يجوز النهي عن انتهار اليتيم لمكان تأديبه، وإنما ينهى عن قهره وغلبته، كما لا يجوز أن ينهر السائل إذا حرم، وليرد رداً جميلاً، ومن ذلك قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " فإن قوله تعالى: " وإن تغفر لهم " ربما أوهم بعض الضعفاء أن الفاصلة لو كانت " غفوراً رحيماً " كانت أنسب لمكان " وإن تغفر لهم " ويذهل عن كونهم يستحقون العذاب دون الغفران، وإن قوله " العزيز الحكيم " بعد قوله " وإن تغفر لهم " أنسب، لأن من يغفر لمن يستحق العذاب إنما يكون من لا فوقه أحد يرد عليه حكمه، ومن كان كذلك كان عزيزاً ممتنعاً من الرد عليه، ومن كان حكيماً وضع الشيء في موضعه، وإن كان ظاهر فعله موهماً بأنه على خلاف الحكم، لخفاء وجه الحكمة بمكنون الغيب عن المخلوق القائم عن إدراك أسرار الربوبية. ومن التخيير ضرب غير هذا، وهو أن يؤتى بقطعة من الكلام أو بيت من الشعر قد عطف بعض جمله على بعض بأداة التخيير كقوله تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " وكقول الشاعر بسيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 خلو التفاخر أو حلوا اليفاع إذا ... ما أسنت الناس أولبوا الصريخ ضحى ولا يكون هذا الضرب من المحاسن حتى تكون الجمل المعطوف بعضها على بعض متضمنه صحة التقسيم كما جاء في الآية الكريمة، إذ حصر سبحانه وتعالى فيها أنواع الكفارة التي لا يجزئ الموسر غيرها، كما جاء في البيت من حصر أعظم الأسباب التي نفاخر بمثلها، وهي نهاية الكرم، وغاية الشجاعة إذا لا يحل بالمكان المرتفع من الأرض في المجاعة ليدل على بيته إلا الجواد المؤثر، كما قال شاعر الحماسة وافر: له نار تشب على يفاع ... إذا النيران ألبست القناعا ولم يك أكثر الفتيان مالاً ... ولكن كان أرحبهم ذراعا كما أنه لا يبادر إلى تلبية الصريخ عند الضحى، وهو وقت الغارات إلا أشجع القوم، ومن هذا القسم من التخيير قوله سبحانه وتعالى: " قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم " فانظر إلى حسن هذا التخيير وصحة الترتيب في الانتقال من الأدنى إلى الأعلى حتى بلغ النهاية في أوجز إشارة بقوله سبحانه بعد الانتقال من الحجارة إلى الحديد الذي هو أصلب منها: " أو خلقاً مما يكبر في صدوركم " غير حاصر لهم في صنف من الأصناف. والفرق بين التخيير بأو وحسن النسق من وجهين: أحدهما أن حسن النسق يكون بجميع حروف العطف وغالباً ما تقع الواو، وربما وقع منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 شيء بالفاء للتعاقب، أو بثم للمهلة والتراخي، ووقوعه بالواو أكثر، والتخيير لا يكون إلا بأو التي هي للتخيير خاصة. والثاني أن التخيير يشترط فيه صحة التقسيم، ولا كذلك حسن النسق، والفرق بين تخيير مقطع الكلام دون كل مقطع يسد مسده وبين التسهيم أن صدر كلام التخير لا يدل إلا على المقطع فقط، وصدر كلام التسهيم يدل على ما زاد على المقطع، إلى أن يبلغ عجز البيت، والفرق بين التخير والتوشيح التوطئة بتقديم لفظة القافية في أول البيت من التوشيح، ولا كذلك التخيير، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 باب التدبيج وهو أن يذكر الشاعر أو الناثر ألوانا يقصد الكناية بها أو التورية بذكرها عن أشياء من مدح أو وصف أو نسيب أو هجاء أو غير ذلك من الفنون، أو لبيان فائدة الوصف بها كقوله تعالى: " ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود " فإن المراد بذلك والله أعلم الكناية عن المشتبه والواضح من الطرق، لأن الجادة البيضاء هي الطريق الملحوب التي كثر السلوك فيها جداً، وهي أوضح الطرق وأبينها، ولهذا قيل: ركب بهم المحجة البيضاء ودونها المراء، ودون الحمراء السوداء التي كأنها في الخفاء والالتباس ضد البيضاء في الظهور والوضوح. ولما كانت هذه الألوان الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة، فالطرف الأعلى في الظهور البياض والطرف الأسفل في الخفاء السواد، والأحمر بينهما على حكم وضع الألوان في التركيب، وكانت ألوان الجبال لا تخرج عن هذه الألوان الثلاثة، والهداية بكل علم نصب للهداية تنقسم هذه القسمة، أتت الآية الكريمة على هذا التقسيم، فحصل فيها التدبيج وصحة التقسيم، وهي مسوقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 للاعتداد بالنعم على ما هدت إليه من السعي في طلب المصالح والمنافع، والفرار من المضار والمعاطب. ومن التدبيج الحسن قول الحريري: فمذ أزور الحبيب الأصفر، واغبر العيش الأخضر، أسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر، إلا أن تدبيج الآية الكريمة جاء بلفظ الكناية لبيان فائدة الوصف بالألوان، وتدبيج المقامة أتى بطريق التورية. ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول ابن حيوس الدمشقي خفيف: إن ترد علم حالهم عن يقين ... فالقهم يوم نائل أو نزال تلق بيض الوجوه سود مثار النقع خضر الأكناف حمر النصال وكقول بعض العرب طويل: زياد بن عين عينه تحت حاجبه ... وبيض الثنايا تحت خضرة شاربه وقد ساق بعض النقاد هذا البيت من شواهد العيوب، وقال: وجه العيب فيه كون العين لا تكون إلا تحت الحاجب، والثنايا تحت الشارب، وقد قال بعضهم في الرد على هذا العائب: الشاعر أراد أنه غير مشوه، قد خلق في أحسن تقويم، فلم تأت صورته مخالفة للصور، وعندي أن مثل هذا لا يعد عيباً، ولا يحتاج فيه إلى تكلف مثل هذا العذر، فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 قد ورد مثله في الكتاب العزيز للتوكيد والتهويل ليحصل الازدجار عن فعل من حل به ذلك، وهذا من بليغ الموعظة، وهو قوله سبحانه " فخر عليهم السقف من فوقهم " والسقف لا يكون إلا من فوق ولا سيما في هذا الموضع، لأنه سبحانه رفع فيه الاحتمال الذي يتوهم من أن السقف قد يكون تحت بالنسبة، فإن كثيراً من السقوف يكون أرضاً لقوم وسقفاً لآخرين، فرفع تعالى هذا الاحتمال بجملتين، وهما قوله تعالى " عليهم " ولفظة " خر " لأنها لم تستعمل إلا فيما هبط أو سقط من العلو إلى السفل، ومن ذلك أيضاً حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات الأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، الذي بين جمادى وشعبان " ورجب لا يكون إلا كذلك، وإنما هو صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يخبر عن شهر فرد غير موال للأشهر الحرم التي قبله عرفه بأنه بين هذين الشهرين احتراساً من كونه لو اقتصر على قوله: ورجب توهم بعض السامعين أنه ربما أراد صفر، لا سيما وقد كانت الجاهلية تحل صفر عاماً، وتحرمه عاماً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: صفر، في حديث خرجه الترمذي وأبو داود، وربما ظن الظان أنه أراد برجب صفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 وسماه رجباً ليعرف بتعظيمه، إذ الترجيب التعظيم، فاحترس من وقوع هذا اللبس بأن عرفه بأنه هو الذي بين جمادى، ليقطعه عما قبله، وبين شعبان، ليقطعه عما بعده، والتأويلات أوسع وأفسح من أن يخطئ معها عربي متقدم في لغته التي وضعها، وهو أعرف بمواقعها منا، لا سيما وقد قال امرؤ القيس مما يؤيد ذلك متقارب: لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر وفرج الفرس لا يكون إلا من دبر، لأن فرجها الذي يسد بذنبها هو ما بين قائمتي رجليها من عجب الذنب، إلى حافر الرجلين، وفي بعض ذلك ما يخرج بيت الشاعر عن العيب. ومن التدبيج قول أبي تمام في مرثيته لمحمد بن حميد الطوسي طويل: تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر وكقول البحتري طويل: تحسنت الدنيا بعدلك فاغتدت ... وآفاتها بيض وأكنافها خضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 باب التمزيج وهو أن يمزج المتكلم معاني البديع بفنون الكلام، أعني أغراضه ومقاصده بعضها ببعض بشرط أن تجمع معاني البديع والفنون في الجملة أو الجمل من النثر، والبيت أو البيوت من الشعر، كقول بكر بن النطاح طويل: بذلت لها ما قد أرادت من المنى ... لترضى فقالت: قم فجئني بكوكب فقلت لها: هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب سلي كل شيء يستقيم طلابه ... ولا تذهبي يا بدر بي كل مذهب فأقسم لو أصبحت في عز مالك ... وقدرته أعيا بما رمت مطلبي فتى شقيت أمواله بعفاته ... كما شقيت بكر بأرماح تغلب فإن التمزيج وقع في الثلاثة المتواليات من هذا الشعر بعد الأول، فأما الأول من الثلاثة فإنه مزج في صدره العتاب بالغزل بالمراجعة حيث قال: فقلت لها هذا التعنت كله لارتباط هذا الصدر بما قبله بسبب المراجعة التي فيهما إذ قال: " فقالت "، وأتى في عجز البيت بالتذييل ليتحقق العتاب، ويستدل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 صحة ما ادعاه من التعنت، فمزج المذهب الكلامي بالتذييل في العجز، كما مزج العتاب والغزل في الصدر، مع الارتباط بما قبل، وحقق ذلك بالمراجعة الحاصلة فيهما، فوقع التمزيج في البيت المذكور من الفنون في العتاب. والغزل ومن المعاني في المراجعة بسبب الارتباط والتذييل والمذهب الكلامي، ثم مزج المبالغة بالقسم في البيت الثاني من الثلاثة، والمدح بالغزل بواسطة الاستطراد، وأتى بالطامة الكبرى في البيت الثالث من الثلاثة، إذ مزج فيه الإرداف بالتشبيه والشجاعة بالكرم ومدح قبيلة الممدوح بمدحه وذم أعداءها والإيغال بالتشبيه. فأما الإرداف ففي قوله: شقيت أمواله بعفاته فإن أراد أن يقول: فتى جواد، فعدل عن هذا اللفظ إلى ردفه، لما في لفظ شقاوة الأموال بالعفاة من زيادة المعنى، وديباجة اللفظ التي لا توجد في لفظ الحقيقة، والتشبيه في قوله: كما شقيت هذه القبيلة بهذه القبيلة والقبائل المتعادون كثير، وإنما اقتصر على هاتين القبيلتين لما في ذكرهما من النكتة التي يزيد بها معنى المدح، وخص الممدوح به وأراد تكميل المدح ورأى أنه لو اقتصر على مدحه بالكرم كان المدح غير كامل، وأراد تكميل المدح بالشجاعة فأوجبت عليه الصناعة أن يأتي بالتنكيت في عجز البيت بحيث يكون بين العجز والصدر ارتباط يوجب لهما التلاحم، فوصل بينهما بكاف التشبيه مقتصراً على ذكر القبيلتين اللتين في ذكرهما نكتة حسنة، وهي مدح قبيلة الممدوح، والتعريض بذم قبيلة أعدائه، والمدح لقبيلة الممدوح مدح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 له، فيكمل له المدح الذي أراده، والتمزيج الذي قصده، والفرق بين التمزيج والتكميل والافتنان والتعليق والإدماج، فإن هذه الأبواب الخمسة ربما اشتبهت على كثير من الناس لكونها تجمع المعاني والفنون غالباً إذ أن التكميل لا يكون إلا في معاني النفوس وأغراضها معاً في البديع، ولا يكون أحد الأمرين فيه قد اتحد بالآخر، بحيث لا يظهر من الكلام إلا صورة أحد الأمرين دون الآخر، وإنما يؤخذ المعنى الآخر من الكلام بطريق القوة لشدة امتزاج المعنيين أو الفنين أو أحدهما بالآخر، وهذه حال التمزيج بمعاني النفوس ومعاني البديع والفرق بين التمزيج والافتنان أن الافتنان لا يكون إلا بالجمع بين فنين من أغراض المتكلم كالغزل والمدح والعتاب، والهجاء، والتهنئة، والتعزية، والتمزيج بخلاف ذلك، إذ هو يجمع الفنون والمعاني ويكون الأمران فيه متداخلين، والفنان فيه ظاهران، والفرق بين التمزيج والتعليق أن التعليق كالافتنان في اختصاصه بالفنون دون المعاني وظهور الفنين فيه معاً، إلا أن أحدهما متعلق بالآخر، والافتنان لا يكون إلا بالجمع بين فنين من أغراض المتكلم كالغزل والمدح، والعتاب والهجاء، والتهنئة والتعزية، والتمزيج بخلاف ذلك، إذ هو يجمع الفنون والمعاني، ويكون الأمران فيه متداخلين أي أحد الفنين فيه متعلقاً بالآخر ولا بد، وكلاهما يفارق الامتزاج في ظهور صور الأشياء التي تكون فيه، فإنها تمتزج في الامتزاج بحيث لا يظهر منها لكل شيئن إلا صورة واحدة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 والفرق بين التمزيج والإدماج أن الإدماج كالتعليق، لا يكون إلا بالفنون دون المعاني بخلاف التمزيج، وإن اشتبه التمزيج في إيجاد الصور لا يكون إلا بالمعاني البديعية دون المعاني النفسية، ودون الفنون، والفرق بين التعليق والتكميل دقيق وقد جاء في الكتاب العزيز من التمزيج قوله تعالى " رب احكم بالحق " فإنها امتزج فيها فنا الأدب والهجاء بمعنى الإرداف والتتميم وتولد من ذلك ما استخرجته منا من بقية المحاسن، فكان ذلك أربعة عشر نوعاً يضيق هذا المكان عن ذكرها مفصلة، وقد ذكرتها مفصلة في " بديع القرآن " العزيز والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 باب الاستقصاء وهو أن يتناول الشاعر معنى فيستقصيه إلى أن لا يترك فيه شيئاً، كقول ابن الرومي في صفة الحديث كامل: وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز شرك العقول ونزهة ما مثلها ... للمطمئن وعقله المستوفز فانظر إلى كون هذا الشاعر وصف حديث هذه المحبوبة بنهاية الوصف الحسن اللائق بمثله، حيث قال: وحديثها السحر الحلال، لفعله في العقول فعل السحر، وجعله حلالاً لصدق الوصف، وليضمن كلامه في صفته معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم " إن من البيان لسحراً، فإن سحر البيان سحر حلال، ثم رجع فاستدرك فيه فقال: ............... لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز لكون قتل المسلم بغير حق حرام، فحصل في البيت طباق معنوي، فكأنه قال سحر حلال لو لم يجن حرام، فطابق بين الحلال والحرام وأحدث براءة المسلم المقتول بالحديث من الإيغال الذي في قافية البيت، وهو قوله: المتحرز لأن المتحرز لا يقع في شيء من موجبات القتل، وفي ذلك مبالغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 في وصف الحديث بإفراط الالتذاذ الذي يزهق حبه النفس، ثم فكر فيما يعرض من الملل بسبب، طول الحديث فاحترس عن تلك بقوله: إن طال لم يملل ثم رأى أنه متى اقتصر على وصفه بالحسن حالة الإطالة دون الإيجاز كان مقصراً، فقال: وإن هي أوجزت إلى آخر البيت، ثم أراد وصفه بميل النفوس إليه إما اضطراراً أو اختياراً فقال، في الميل الاضطراري: شرك العقول، فأخبر أنه يصيد العقول قنصاً، ثم قال في الميل الاختياري مقسماً له قسمين حاصرين في حالتي الريث والعجل كامل: ........ ونزهة ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المستوفز وليس للمختار حالة زائدة على هاتين الحالتين إما أن يكون مطمئناً، أو مستوفزاً، فإن كان مطمئنا كان هذا الحديث نزهته، وإن كان مستوفزاً كان عقلته، فلم يبق في هذا المعنى مقالاً لمن بعده، ولقد أحسن ابن مناذر في استقصائه معنى من معاني الغزل حيث قال طويل: فوالله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جحد جد البين أم أنا غلبه فإن استطع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه فإنه لما علم أنه متى اقتصر على البيت الأول لا يكون مستقصياً للمعنى أتى بتفصيل ما أجمله في البيت الأول بما جاء به في البيت الثاني، ليكون قد أتى على جميع ما يجب ذكره من المعنى الذي قصده: وإذا وصلت في هذا الباب إلى قول البحتري في صفة إنضاء الإبل خفيف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 كالقسي المعطفات بل الأس؟ ... هم مبرية بل الأوتار وصلت إلى الغاية في الشعر، لأنه جمع مع الاستقصاء المبالغة والرمي على الترتيب، على مقتضى البلاغة، والتتميم في موضعين، في قوله: المعطفات، وقوله: مبرية والإيغال في القافية، وقد جاء في الكتاب العزيز من ذلك ما لا يلحق سبقاً، وهو قوله تعالى: " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت " فانظر إلى استقصاء هذا المعنى حين لم يبق فيه بقية لأحد، وذلك أنه بعد قوله: " جنة من نخيل وأعناب " قال: " تجري من تحتها الأنهار " وكمل الوصف بقوله: " له فيها من كل الثمرات " فأتى بكل ما في الجنان ليشتد الأسف على إفسادها ثم قال " وأصابه الكبر " ثم استقصى المعنى الذي يوجب تعظيم المصاب بقوله بعد وصفه بالكبر " وله ذرية " ولم يقتصر على كونه له ذرية حتى قال: " ضعفاء " ثم ذكر استئصالها بالهلاك في أسرع وقت حيث قال: " فأصابها إعصار فيه نار " فلو اقتصر على ذكر الإعصار لكان كافياً، لكن لما علم الله سبحانه: " فيه نار ثم أخبر باحتراقها لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا يقوم إحراقها بإطفاء أنهارها وتجفيف كل أوراقها وثمارها، فأخبر بإحراقها احتراساً من ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وهذا أحسن استقصاء وأتمه، بحيث لم يبق في المعنى المقصود موضع استدراك، والفرق بين الاستقصاء والتتميم، والتكميل كون التتميم يرد على معنى ناقص فيتمم بعضه، والتكميل يرد على التام فيكمل وصفه، والاستقصاء له مرتبة ثالثة، فإنه يرد على الكامل فيستوعب كل ما تقع عليه الخواطر من لوازمه، بحيث لا يترك لآخذه مجالاً لاستحقاقه من هذه الجملة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 ؟ باب البسط وهو أن يأتي المتكلم إلى المعنى الواحد الذي يمكنه الدلالة عليه باللفظ القليل، فيدل عليه باللفظ الكثير ليضمن اللفظ معاني أخر يزيد بها الكلام حسناً، لولا بسط ذلك الكلام بكثرة الألفاظ لم تحصل تلك الزيادة ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها " فانظر هداك الله إلى هذا البسط في الآيات الكريمات بالنسبة إلى قوله في غير موضع. من القرآن: " الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام " لتعلم أنه بسط سبحانه الكلام في هذه الآية ليفيد البسط معاني من تفصيل الأخبار، وإيضاح المعنى وتفسير ذلك الإجمال، وإخراجها مخرج التفريع لمن جعل لله تبارك وتعالى أنداداً من مخلوقاته فإن قلت التفريع يحصل بقوله: " الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام " فما فائدة البسط؟ قلت فائدته جليلة، فإن الاستدلال بما قرب من نظر الخصم أوضح من الاستدلال بما بعد، فإن تقدير أقوات الحيوان البري والبحري، وتخصيص كل صنف بقوت مألوف يميل إليه بطبعه، كاللحوم للسباع، والحب للبهائم، والأوساخ وما أشبهها للهمج، والبقول وسائر الخضروات لغير هذه الأصناف، وجميع بعض أصناف الحيوان البهيم البري والبحري، وتركه تلك الأقوات الموجبة لكفاية ما يخرج من الأرض من جميع الحيوان أقرب لفهم المخاطب، ولاحتمال أن يقع في بعض النفوس أن هذه الأمور من صنع السموات والأرض، لا من صنع صانعهما كما يعتقد بعض الناس فاقتضت البلاغة أن يقدم ذكر الأرض لقربها من المخاطب، ولأن الأنداد منها كالحجارة التي نحتت وعبدت والأنصاب التي نجرت من الأخشاب، والصور التي اتخذت من المعادن، وليعرف بعظمة قدرته في خلقه الأرض كلها في يومين، ثم ثنى بذكر الجبال التي تثبت الأرض، وتكون الجواهر المعدنية منها. ثم يذكر البركة التي لولاها لما نبت النبات، ولا عاش الحيوان، ولا تنوع الجماد، ولا حصلت المنافع التي بها قوام الأجسام، ممتناً بذلك على عباده، وحق له الامتنان، ثم ثلث بذكر تقدير الأقوات، ليحض بذلك على التوكل، ويبعث النفوس على الاشتغال عن الفكر في التكسب بصالح الأعمال، ثم أخبر أن ذلك كله في يومين آخرين، بقوله سبحانه: " في أربعة أيام " يعني. والله أعلم. أنه أرسى الجبال وبارك في الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وقدر فيها أقواتها، مع خلقه لها في أربعة أيام، ثم ختم بذكر خلق السموات السبع، والعناصر الأربعة، إذ هي سموات بالنسبة إلى المخاطب، غير أنه أفرد من ذلك السموات السبع بالذكر، منبهاً على فضلها بالنسبة إلى العناصر وعظمتها، وما تعرف العرب وغيرهم من نجومها، والهداية بها، وأنوائها، وإنزال الغيث من جهتها، ومقدمات ذلك من الرعد والبرق والرياح، ومنافع النيرين، ثم أخبر سبحانه أنه خلق ذلك كله في يومين ثم اقتصر عز وجل في هذه الآية الكريمة على ذكر الأفلاك السبعة دون الفلكين الآخرين، منطقة البروج والأطلس، لكون السبعة هي المعروفة عند العرب الذين نزل عليهم القرآن وجاء بلسانهم، لأن معرفة الفلكين الآخرين موقوفة على علوم ليست من علوم العرب، فإن قلت: فالعرب تعرف الأنواء وكواكبها في الفلك الثامن، فلم اقتصر على ذكر السبعة دونه؟ قلت: إنما عرفت الأنواء بالقمر لحلوله في المنازل، ومسير القمر أسرع مسير، وهي كثيراً ما تتأمله، لسفرها فيه وسراها، وعرفت الكواكب السيارة لقرب سيرها بالنسبة، وعرف مسير المنازل أيضاً بحركاتها القسرية وأما حركة فلكها التي دلت عليها كواكبه الثابتة، فليس من علوم العرب وإن كانت تعرفها، كما ذكرت تنقل القمر، وقد ذكره الله سبحانه على انفراده، وخصه من بين الأفلاك السبعة بالذكر لميزته، فقال تعالى: " والسماء ذات البروج " فأفاد سبحانه بهذا البسط حصول ضروب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 من البديع في الكلام لولا البسط لم تحصل، وهي المذهب الكلامي والإدماج والإرداف والتفسير. فأما المذهب الكلامي ففي قوله تعالى: " ذلك رب العالمين " فإنها نتيجة قوله تعالى: " ثم استوى إلى السماء " إلى قوله سبحانه: " قالتا أتينا طائعين " فإن تقدير الكلام في ذلك والله أعلم. لا تطيع السماء والأرض إلا رب العالمين، فإنهما عبارة عن العالمين، وقد أطاعت الله سبحانه فهو رب العالمين، والإدماج: إدماج الإرداف في المذهب الكلامي، لأنه وهو أعلم أن يقول: " قل أئنكم لتكفرون " بالقادر المطلق، فعدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ هو ردفه حيث قال: بالذي فعل وصنع وعدد من قدرته ما لا يقدر عليه غيره، والتعليق في كونه تبارك وتعالى علق فن الفخر بفن العتاب، إذ وصف نفسه صادقاً بما هو أهله، وأثنى على ذاته بما يستحقه في ضمن العتب الموبخ، والتقريع المثرب حيث قال: أئنكم لتكفرون، وتجعلون، والتفسير في قوله " ذلك رب العالمين " فإنه أتى بهذه الجملة مفسرة لذلك الإجمال الذي في قوله تعالى: الذي خلق وفعل وصنع، فأتى بالصفات قبل ذكر الموصوف، ولما أراد تبيين ذكر الموصوف وتعريفه قال سبحانه: " ذلك رب العالمين " فهذه فائدة البسط والإطناب في الكلام الذي عدل فيه عن الإيجاز والاختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ومما جاء من ذلك في السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الدين النصيحة " قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم " وحاصل هذا الكلام إذا ورد من طريق الاختصار أن يقول بعد تخصيص الله تعالى بالذكر وكتابه ونبيه أن يقول: وللمسلمين فإنها لفظة جامعة للأئمة وللعامة، فبسط هذه اللفظة ليفرد الأئمة بالذكر من جملة المسلمين، ولم يمكن الاقتصار على الأئمة فيكون المعنى ناقصاً، إذ تمامه لا يكون إلا بذكر عامة المسلمين، فأتى بذلك البسط ليفيد تتميم المعنى بعد تخصيص من يجب تخصيصه بالذكر، والله أعلم. ومن شواهد البسط الشعرية للمتقدمين قول امرئ القيس كامل: نظرت إليك بعين جازئة ... حوراء حانية على طفل فإن حاصل البيت تشبيه عين هذه الموصوفة بعين الظبية، فبسط الكلام ليزيده البسط معنى لولاه لم يوجد فيه، فإن لنظر الظبية إلى خشفها عاطفة عليه بحنو واشفاق من الحسن ما ليس لمطلق نظرها أو لنظرها في غير هذه الحالة. ومن أمثلته للمحدثين قول ابن المعتز في الخيري منسرح: قد نفض العاشقون ما صنع ال؟ ... دهر بألوانهم على ورقه فإن حاصل هذا المعنى الإخبار بصفرة الخيرى فبسط هذا اللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 الذي لو اقتصر عليه حصل به المراد، لما في البسط من إدماج الغزل في الوصف بغير لفظ التشبيه، ولا قرينته المعتادة، إذ هو من قسمي التشبيه اللذين بأداة وبغير أداة، بل تشبيه لا ظاهر ولا مقدر يفهم من فحوى الخطاب، إذ مفهوم اللفظ أن صفرة الخيرى تشبه صفرة ألوان المهجورين. من هذا الباب أيضاً قول البحتري وقد تقدم في باب حسن الإتباع كامل: أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجباً وبر راح وهو جفاء فإن حاصل البيتين أنك قطعتني عنك خجلاً من كثرة عطائك، فبسط هذا الكلام لتحصل زيادات من البديع لولا البسط ما حصلت كالطباق في البيت الأول، بذكر السواد والبياض، والمقابلة في البيت الثاني بذكر الصلة والقطيعة، والغدو والرواح، والبر والجفاء، وعلى هذا فاعتبر ما تسمعه من الكلام الذي يقع فيه مثله، وقسه عليه. والفرق بين البسط والاستقصاء أن الاستقصاء هو حصر كل ما يتفرع من المعنى ويتولد عنه، ويكون من سببه ولوازمه، بحيث لا يترك فيه موضعاً قد أخلقه بجدة الآخذ له، فيستدركه ليستحقه بذكره، والبسط نقل المعنى من الإيجاز إلى الإطناب بسبب بسط العبارة عنه، وإن لم يستقص كل ما يكون من لوازمه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 ؟ باب الهجاء في معرض المدح وهو أن يقصد المتكلم إلى هجاء إنسان فيأتي بألفاظ موجهه ظاهرها المدح وباطنها القدح، فيوهم أنه يمدحه وهو يهجوه، كقول بعضهم في بعض الأشراف وافر: له حق وليس عليه حق ... ومهما قال فالحسن الجميل وقد كان الرسول يرى حقوقا ... عليه لغيره وهو الرسول فأما ألفاظ البيت الأول على انفرادها فلا تكاد تصلح إلا للمدح ولا يفهم منها غيره؛ وأما البيت الثاني لو انفرد أيضاً لما فهم منه مدح ولا هجاء، وكان إلى باب من الأبواب أقرب من هذين البابين، لكمه لما اقترن بالأول أهل نفسه وأخاه للهجاء، وعدل بألفاظهما عن الثناء وحصل من اجتماعهما ما ليس لكل منهما على انفراده. ومن أمثلة هذا الباب أيضاً قول عبد الصمد بن المعدل أو أبي العميثل في أبي تمام وقد كانت في لسانه حبسة رمل مجزوء: يا نبي الله في الشع؟ ... ر ويا عيسى بن مريم أنت من أشعر خلق الله ... ما لم تتكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 فإن حال هذين البيتين حال البيتين اللذين قبلهما، إذ الأول منهما إذا انفرد كان مدحاً محضاً، وإ؟ ذا اجتمعا صار هجواً بحتاً، غير أن ثاني الآخرين مخالف لثاني الأولين. ومن ملح هذا الباب قول السعيد بن سناء الملك رحمه الله في قواد سريع: لي صاحب أفديه من صاحب ... حلو التأني حسن الإحتيال لو شاء من رقة ألفاظه ... ألف ما بين الهدى والضلال يكفيك منه أنه ربما ... قاد إلى المهجور طيف الخيال وهذا النمط غير النمط الأول الذي قدمناه، وهذا من لطيف التوجيه، ولقد تشبثت بأذيال القاضي السعيد رحمه الله في هذا المقطوع بقولي فيمن ادعى الفقه والكرم وانتحل هاتين الشيمتين دون بقية الشيم، وهو ممن يتهم سريع: ابن فلان أكرم الناس لا ... يمنع ذا الحاجة من فلسه وهو فقيه ذو اجتهاد وقد ... نص على التقليد في درسه يستحسن البحث على وجهه ... ويوجب الدخل على نفسه وكل توطئة وقعت في هذا النمط الثاني صالحة للمدح البحت فإذا اقترنت بأبيات المعاني انقلب ما كان فيها مدحاً تهكماً، وصارت هي بنفسها هجاء، والذي أفرد هذا الباب بنفسه عن باب التهكم مع أن الذي فيه من المدح تهكم هو أن التهكم لا تخلو ألفاظه من لفظة من اللفظ الدال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 على نوع من أنواع الذم، أو لفظة يفهم من فحواها الهجو، وسيأتي بيان ذلك في باب التهكم، وألفاظ المدح في هذا الباب لا يقع فيها شيء من ذلك، ولا تزال مفرقة ومجتمعة تدل على مجرد المدح حتى يقترن بها ما يصرفها عن ذلك، وشواهد التهكم لا تخلو عن ألفاظ التهكم في أبيات التوطئة، وأبيات المعاني، وما يقع في هذا الباب من التهكم إنما يقع في التوطئة دون أبيات المعاني، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 باب العنوان وهو أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أبو مدح أو هجاء أو عتاب أو غير ذلك، ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنواناً لأخبار متقدمة، وقصص سالفة، كقول أبي نواس بسيط يا هاشم بن خديج ليس فخركم ... بقتل صهر رسول الله بالسدد أدرجتم في إهاب العير جثته ... لبئس ما قدمت أيدكم لغد إن تقتلوا ابن أبي بكر فقد قتلت ... حجراً بدارة ملحوب بنو أسد ويوم قلتم لعمرو وهو يقتلكم ... قتل الكلاب لقد أبرحت بالولد ورب كندية قالت لجارتها ... والدمع ينهل من مثنى ومن وحد ألهى امرأ القيس تشبيب بغانية ... عن ثأره وصفات النؤي والوتد فقد أتى أبو نواس في هذه الأبيات بعدة عنوانات: منها قصة قتل محمد بن أبي بكر، وقتل حجر أبي امرئ القيس، وقتل عمرو بن هند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 كندة في ضمن هجاء من أراد هجوه، ومعيرة المهجو بما أشار إليه من الأخبار الدالة على هجاء قبيلته وملوكهم، ومثل ذلك قول أبي تمام في استعطافه مالك بن طوق على قومه كامل: رفدوك في يوم الكلاب وشققوا ... فيه المزاد بجحفل كلاب وهم بعين أباغ راشوا للعدا ... سهميك عند الحارث الحراب وليالي الثرثار والحشاك قد ... جلبوا الجياد لواحق الأقراب فمضت كهولهم ودبر أمرهم ... أحداثهم تدبير غير صواب ثم قال بعد ذلك: كامل لك في رسول الله أعظم أسوة ... وأجلها في سنة وكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 أعطى المؤلفة القلوب رضاهم ... كملاً ورد أخائذ الأحزاب والجعفريون استقلت ظعنهم ... عن قومهم وهم نجوم كلاب حتى إذا أخذ الفراق بقسطه ... منهم وشط بهم عن الأحباب ورأوا بلاد الله قد لفظتهم ... أكنافها رجعوا إلى جواب فأتوا كريم الخيم مثلك صافحاً ... عن ذكر أحقاد وذكر ضباب فانظر إلى ما أتى به أبو تمام في هذه الأبيات من العنوانات من السيرة النبوية وأيام العرب كيوم الكلاب، وأخبار بني جعفر بن كلاب مع ابن عمهم جواب، وكقوله أيضاً لأحمد بن أبي دواد: وافر: تثبت إن قولاً كان زوراً ... أتى النعمان قبلك في زياد فأرث بين حي بني جلاح ... لظى حرب وحي بني مصاد وغادر في صدور الدهر قتلى ... بني بدر على ذات الإصاد فأتى بعنوان مشيراً إلى قصة النابغة حين وشى به الواشون إلى النعمان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وما جر ذلك السعي من الحروب التي انطوت عليها قطعة من أيام العرب، وكقوله لابن أبي دواد أيضاً: كامل فاسمع مقالة زائر لم تشتبه ... آراؤه عند اشتباه البيد أسرى طريداً للحياء من التي ... زعموا وليس لرهبة بطريد كنت الربيع أمامه ووراءه ... قمر القبائل خالد بن يزيد فالغيث من زهر سحابة رأفة ... والركن من شيبان طود حديد وغدا تبين ما براءة ساحتي ... لو قد نفضت تهائمي ونجودى هذا الوليد رأى التثبت بعد ما ... قالوا يزيد بن المهلب مودى فتزحزح الزور المؤسس عنده ... وبناء هذا الإفك غير مشيد وتمكن ابن أبي سعيد من حجى ... ملك بشكر بني الملوك سعيد ما خالد لي دون أيوب ولا ... عبد العزيز ولست دون وليد نفسي فداؤك أي باب ملمة ... لم يرم فيه إليك بالإقليد لما أظلتني غمامك أًصبحت ... تلك الشهود على وهي شهودي من بعد ما ظنوا بأن سيكون لي ... يوم ببغيهم كيوم عبيد نزعوا بسهم قطيعة يهفو به ... ريش العقوق فكان غير سديد وإذا أراد الله نشر فضيلة ... ما كان يعرف فضل عرف العود لولا التخوف للعواقب لم تزل ... للحاسد النعمى على المحسود العنوانات في بعض هذه الأبيات، وإنما جئت بجملتها لئلا يتجرأ حسنها، فمن عنواناتها إشارته إلى خبره مع ابن أبي دواد فيما نقل عنه من غضه من مضر على سبيل الحسد له، حتى حجبه عنه وجفاه، ولم يرجع إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 إلا بشفاعة خالد بن يزيد الشيباني، ثم ذكر قصة يزيد بن المهلب حين هرب من حبس الحجاج، وكتب فيه إلى الوليد بما أحفظه عليه، حتى حلف على قتله، فاستشفع بسليمان أخيه، واستجار به، فأجاره، وأرسل به مع ولده أيوب، وولد الوليد عبد العزيز، ووصى ولده ألا يدع يده من يده إلا بعد أمانه، وألا يوصل إليه بسوء إلا بعد قتله، ثم أشار إلى قصة عبيد بن الأبرص مع النعمان حين لقيه في ويوم بؤسه وقتله، وهذه القصص معروفة عند الأخباريين، فلم أطل بسياقة تفاصيلها، والكتاب العزيز محشو بعنوانات العلوم، فمنها قوله سبحانه: " ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد " الآية، فإن فيها عنوان العلم المعروف بالآثار العلوية، ومن ذلك قوله تعالى: " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب " وهذا عنوان العلم المنسوب إلى أقليدس، لأن المثلث الشكل أول أشكاله، وهو أصل الأشكال، وهو شكل إذا نصب في الشمس لا يوجد له ظل لتحديد رؤوس زواياه، والله أعلم. ومن ذلك قوله تعالى: " وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين " ثم ذكر سبحانه في تفسير ذلك ملكوت السموات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 مدمجاً فيه ملكوت الأرض، فإن أفول الكواكب والنيرين إنما يكون بما يحول بين الأبصار وبينها من مخروط ظل الأرض، وهذا عنوان العلم المعروف بالمجسطي والله أعلم وقوله تعالى في بقية الآية المذكورة: " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً " إلى آخر الآية، وهذا عنوان علم الكلام في ترتيب نظم الدليل على حدوث العالم بما دل عليه أفول الكواكب من التغيير، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 باب الإيضاح وهو أن يذكر المتكلم كلاماً في ظاهره لبس، ثم يوضحه في بقية كلامه، كقول الشاعر طويل: يذكرنيك الخير والشر كله ... وقيل الخنا والعلم والحلم والجهل فإن هذا الشاعر لو اقتصر على هذا البيت لأشكل مراده على السامع، لجمعه بين ألفاظ المدح والهجاء، فلما قال بعده طويل: فألقاك عن مكروهاً متنزها ... وألقاك في محبوبها ولك الفضل أوضح المعنى المراد، ورفع اللبس، وأوضح الشك وقد يكون الإيضاح في الوصف الذي لا يتعلق به مدح ولا هجاء، وذلك أن يخبر المتكلم بخبر واحد عن شيء واحد يقع التعجب منه، ويشكل الأمر فيه، ثم يوضح ذلك الإشكال بأن يخبر عنه بما يفهم منه كشف اللبس عن الجزء الأول، كقول ابن حيوس الدمشقي كامل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه فإنه لو اقتصر على البيت الأول أشكل الأمر على السامع من جهة الوجه وإن كان حسناً لا يغني به النديم عن الخمر فأوضح اللبس في البيت الثاني. والفرق بين الإيضاح والتفسير أن التفسير تفصيل الإجمال، والإيضاح رفع الإشكال، لأن المفسر من الكلام لا يكون فيه إشكال ألبتة، وقد جاء من الإيضاح في الكتاب العزيز قوله تعالى " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " فإنه لو قدر الاقتصار على هذا المقدار لالتبس الأمر على المخاطب لكونه لا يدري هل أراد الله تعالى بقوله حكاية عنهم " هذا الذي رزقنا من قبل " الإشارة إلى صنف الثمرة، أو مقدار اللبس بقوله " وأتوا به متشابهاً " يعني والله أعلم أشياء يشبه بعضها بعضاً، وهي متغايرة الأصناف، لأن الوجه الثاني يوجب اللبس الذي وقع الفرار منه، لأنه لا يدري هل قولهم: " هذا الذي رزقنا من قبل " أي غير ما رزقنا، وحقيقته أو غيره، لكنه هو في المقدار مثله، فلما قال سبحانه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 " وأتوا به متشابهاً " ارتفع هذا اللبس أيضاً لكون البلاغة تقتضيه، وإنما اقتضته البلاغة لكونه من المعلوم، إذ المداومة على مأكول واحد توجب السأم والملل، وإن كمال التنعم وتمام التفكه التلون في المطاعم، والتفنن في المآكل، فعلم من فحوى الخطاب أنه أراد سبحانه وهو أعلم الصنف لا المقدار ومن الإيضاح قوله تعالى: " ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم " وقال في غير هذا الموضع " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم " ثم قال سبحانه في الأولى: " نحن نرزقكم "، وفي الثانية: " نحن نرزقهم "، وإيضاح هذا الإشكال أن يقال: إنه سبحانه لما قال في الأولى " ولا تقتلوا أولادكم من إملاق " دل هذا اللفظ على أن الفقر كان حاصلاً بقتلهم الأولاد بسبب وجوده، فلا جرم أنه سبحانه وتعالى قال: " نحن نرزقكم " أي ما يغني فقركم، ولما قال في الثانية " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق "، دل على أنهم أغنياء وإنما هم يخشون الفقر فلا جرم أنه قال: نحن نرزقهم، أي لا تظنوا أنكم ترزقون الأولاد من رزقكم فتفتقرون، نحن نرزقهم. ومثل هذه الآية قوله تعالى: " إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي " فلقائل أن يقول: لم قدم التمدح بذكر الحب قبل النوى؟ ولم قال سبحانه: يخرج الحي من الميت، بلفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 الفعل؟، ثم قال: " ومخرج الميت من الحي " بلفظ الفاعل، والجواب أن يقال: تقديم الحب على النوى من المهم، والبلاغة تقديم المهم، كما قيل: إن المهم المقدم فإن ما كان مهماً فتقديم التمدح به أولى، لأنه قوت المخاطب وقوت دوابه، وذكر ذلك إنما هو في معرض الاعتداد بالنعم عليه، فكان تقديمه أولى، والنوى إنما ذكر لتتميم المعنى، ليكمل التمدح فإنه في ذكره إشارة إلى الاعتداد على المخاطب بما يتفكه به، وطريق التهذيب والترتيب أن يكون ذكر ما يتفكه به بعد ذكر الأقوات التي لا غنى عنها، ولا بد للحيوان منها. وأما قوله: " يخرج الحي " بلفظ الفعل عند تقديم إخراج الحي لما في الحي من الحركة التي تعينه عند الخروج، فخروجه أسهل على مخرجه من خروج الميت من الحين فاقتضت البلاغة تقديمه بلفظ الفعل المقتضى للحال والاستقبال ليكون ذكر خروج الميت بعده انتقالاً من الأدنى إلى الأعلى، وجعل خروج الميت مستنداً إلى لفظ الفاعل المضاف الدال على المضي ليكون خروج الأصعب مفروغاً من وقوعه، ليكون أدل على القدرة وأبلغ في التمدح، والله أعلم. ومن الإيضاح نوع يتقدم الإيضاح فيه على الإشكال كقوله تعالى: " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " إذ لو لم تتقدم تسمية النساء بالحرث، وهو موضع الزرع لوهم متوهم من قوله " أنى شئتم " إباحة الوطء في غير المكان المشروع، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 باب التشكيك وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظة تشكك المخاطب هل هي حشو أو أصلية لا غنى بالكلام عنها، مثل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين " فإن لفظة " بدين " تشكك السامع هل هي فضلة، إذ لفظة " تداينتم " تغني عنها، والناظر في علم البيان يعلم أنها أصلية، لأن لفظة الدين لها محامل، وتقول: داينت فلاناً المودة يعني جازيته ومنه " كما تدين تدان ". ومن ذلك قول رؤبة " رجز ". داينت أروى والديون تقضى ... فمطلت بعضاً وأدت بعضا وأمثال هذا. وكل هذا هو الدين المجازى الذي لا يكتب ولا يشهد عليه، ولما كان المراد في الآية الكريمة تبيين الدين المالي الذي يكتب ويشهد عليه وفيه، وتبيين الأحكام المعلقة به، وما ينبغي أن يعمل فيه، أوجبت البلاغة أن تقول " بدين " معناه يكتب ويشهد فيه، ليقول: " فاكتبوه "، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 ومن التشكيك ضرب آخر، وهو أن يأتي المتكلم بجمل من المعاني في كلامه، كل جملة معطوفة على الأخرى بأو التي هي موضوعة للتشكيك لا التي للتخيير والإباحة، كقول البحتري سريع: كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منضد أو بر أو أقاح ومن التشكيك نوع التبس على بعض المؤلفين حتى أدخله في باب تجاهل العارف، وهو أن يرى المتكلم شيئاً شبيهاً بشيء فيشكك نفسه فيه، لقصد تقريب المشبه من المشبه به، ثم يعود عن المجاز إلى الحقيقة، فيزيل ذلك التشكيك، فإن لم يعد إلى الحقيقة فهو تجاهل العارف وإن عاد فهو التشكيك المحض، وهو كقول سلم طويل: تبدت فقلت الشمس عند طلوعها ... بجلد غنى اللون عن أثر الورس فلما كررت الطرف قلت لصاحبي ... على مرية ما هاهنا مطلع الشمس فانظر كيف رجع إلى التحقيق بعد التشكيك، وقد خفى هذا الفرق عن ابن رشيق وغيره حتى أدخلوه في باب تجاهل العارف، وهذا خلاف قول أبي تمام طويل: فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع فإن سلماً رجع عن التشكيك وأبو تمام لم يرجع، فكان بيت سلم من التشكيك المحض، وبيت حبيب من تجاهل العارف، وقد ظهر الفرق بين البابين، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 باب الحيدة والانتقال وهو أن يجيب المسؤول بجواب لا يصلح أن يكون جواباً عما سئل عنه، أو ينتقل المستدل إلى الاستدلال غير الذي كان آخذاً فيه، وإنما يكون هذا بلاغة إذا أتى به المستدل بعد معارضة بما يدل على أن المعترض لم يفهم استدلاله، فينتقل عنه إلى استدلال يقطع به الخصم عند فهمه، وقد جاء في الكتاب العزيز من ذلك قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام في قوله للجبار: " ربي الذي يحيي ويميت " فقال الجبار: " أنا أحيي وأميت " ثم دعا بإنسان فقتله، ودعا بمن وجب عليه القتل فأعتقه، فلما علم الخليل أنه لم يفهم معنى الإماتة والإحياء اللذين أرادهما انتقل إلى استدلال آخر فقال: " إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب " فأتاه باستدلال لا يجد لاسمه اسماً مشتركاً معه، فتعلق بظاهره على طريق المغالطة، أو لأنه لم يفهم إلا ذلك الوجه الذي تعلق به، فلا جرم أن الجبار انقطع وأخبر الله سبحانه عنه بذلك حيث قال تعالى: " فبهت الذي كفر " وفيه نوع يحيد المسئول عن خصوص الجواب إلى عمومه، لتفيد تلك الحيدة زيادة بيان لا تحصل بخصوص الجواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 كقول عائشة رضي الله عنها وقد سألتها امرأة أتدخل المرأة الحمام؟ فقالت: " كل امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها فقد عصت " أو كما قالت: " فانظر إلى حيدتها عن الخصوص إلى العموم، لتفيد زيادة في البيان، وتستوعب جميع أحكام الباب " صواب الحديث: ما من امرأة خلعت ثيابها في غير بيتها، إلا هتكت ما بينها وبين الله من حجاب. فهذا مثال ما يأتي من الحيدة بسبب سوء فهم الخصم أو لقصد الزيادة المفيدة. وأما ما يأتي بسبب صحة المعارضة على طريق المغالطة كقول الشاعر منسرح: رأيته في الظلام منبطحاً ... يضرب في باب سرمه بوق فقلت ماذا؟ فقال يبهتني ... أنت تقول القرآن مخلوق وقول الآخر منسرح: قالت أحب العذار أول ما ... يبدو على الخد غير معوج قلت: اسكتي لا يقال لائطة ... قالت: وإلا عذارك الثلجى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 باب الشماتة وهو إظهار المسرة بمن نالته محنة، أو أصابته نكبة، ولم أستمع في ذلك مثل قول ابن الرومي كامل: لا زال يومك عبرة لغدك ... وبكت بشجوعين ذي حسدك فلئن بكيت لطالما نكبت ... بك همة لجأت إلى سندك لو تسجد الأيام ما سجدت ... إلا ليوم فت في عضدك يا نعمة ولت غضارتها ... ما كان أقبح حسنها بيدك فلقد غدت بردا على كبدي ... لما غدت ناراً على كبدك ورأيت نعمى الله زائدة ... لما استبان النقص في عددك لم يبق لي مما برى جسدي ... إلا بقايا الروح في جسدك وقد جاء من الشماتة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " فلفظة " ذق " شماتة، وبقية الكلام تهكم. وأما الشماتة المحضة في القرآن فقوله تعالى لفرعون: " آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 باب التهكم يقال: تهكمت البئر إذا تهدمت، وتهكم عليه: اشتد غضبه. والمتهكم المتكبر وقال أبو زيد: تهكمت: تعتبت، وهكمت، عيرته تهكيماً عبته، وعلى هذا يكون التهكم إما لشدة الغضب قد أوعد بلفظ البشارة أو لشدة الكبر وتهاونه بالمخاطب قد فعل ذلك أو ذكر بفعله عند العقوبة على سبب المعيرة له، فهذا أصله. وهو في الاستعمال عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع الإنذار، والوعد في مكان الوعيد، والمدح في معرض الاستهزاء، فشاهد البشارة من الكتاب العزيز قوله تعالى: " بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً " وقد مر في الباب الذي قبله قوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " وهو شاهد الاستهزاء بلفظ المدح. ومن التهكم قول الزمخشري في تأويل قوله تعالى: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " قال: هم الحرس من حول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 السلطان يحفظونه على زعمه من أمر الله على سبيل التهكم به، فإنهم لا يحفظونه من أمر الله في الحقيقة إذا جاء، والله أعلم. ومنه أيضاً قوله تعالى: " قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين " فقوله سبحانه " إيمانكم " تهكم، والله أعلم. ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم " بشر مال البخيل بحادث أو وارث ". وشاهد المدح في موضع الاستهزاء قول ابن الذروى في ابن أبي حصينة من أبيات خفيف: لا تظنن حدبة الظهر عيباً ... فهي في الحسن من صفات الهلال ؟ وكذاك القسي محدودبات وهي أنكى من الظبا والعوالي وإذا ما علا السنام ففيه ... لقروم الجمال أي جمال وذنابى القطاة وهي كما تع ... لم كانت موصوفة بالجلال وأرى الانحناء في منسر البا ... زي لم يعد مخلب الرئبال كون الله حدبة فيك إن شئ ... ت من الفضل أو من الإفضال فأتت ربوة على طود حلمٍ ... طال أو موجةً ببحر نوال ما رأتها النساء إلا تمنت ... لو غدت حليةً لكل الرجال ثم ختمها بقوله: وإذا لم يكن من الهجر بدٌ ... فعسى أن تزورني في الخيال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 وكقول ابن الرومي سريع: فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل وأحسب أن أول من نطق بالتهكم في شعره امرؤ القيس، حيث يقول: متقارب: فأنشب أظفاره في النسا ... فقلت هبلت ألا تبصر فإن قوله للثور هبلت ألا تبصر من التهكم اللطيف. وأطرف ما سمعت في التهكم قول حماد عجرد مجزوء الكامل: فيا ابن نوح يا أخا ال؟ ... حلس ويا بن القتب ومن نشا والده ... بين الربا والكثب يا عربي يا عربي ... يا عربي يا عربي والفرق بين التهكم والهزل الذي يراد به الجد أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل، وهو ضد الأول، لأن الهزل الذي يراد به الجد يكون ظاهره هزلاً وباطنه جداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 ؟ باب التنذير وهو أن يأتي المتكلم بنادرة حلوة، أو مجنة مستطرفة، وهو يقع في الجد والهزل ومن لطيف ما جاء منه في الجد وبديعه قوله تعالى: " فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت " فانظر مبالغته سبحانه وتعالى في وصف المنافقين بالجبن والخوف حيث أخبر عنهم بالخبر الصادق أنهم عند الخوف تدور أعينهم عند النظر كحالة من يغشى عليه من الموت، ولو اقتصر سبحانه وتعالى على قوله " كالذي يغشى عليه " كان كافياً في المقصود، لكن أراد الزيادة على المقدار الذي قصد من المبالغة، فأوغل بقوله سبحانه " من الموت " إذ حالة المغشى عليه من الموت أشد من حالة غيره، ولا شك في أن المنافقين من الجبن والخوف من الموت بهذه المثابة، وذلك الذي دعاهم إلى النفاق، فإن من كان قوي النفس شجاع القلب، لا يرتضي النفاق، إذ هو لا يخشى الموت ولا يخافه، وفي هذا الكلام من طريف التندير لمن يتدبره ما يبهرج كل نادرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 وأما ما جاء منه في الهزل فكقول أبي تمام فيمن سرق له شعراً، وهو محمد بن يزيد الرقى خفيف: من بنو بحدل من ابن الحباب ... من بنو تغلب غداة الكلاب من طفيل من عامر أو من الحا ... رث أم من عتيبة بن شهاب إنما الضيغم الهصور أبو الأش؟ ... بال هتاك كل خيس وغاب من عدت خيله على سرح شعري ... وهو للحين راتع في كتاب يا عذارى الكلام صرتن من بع؟ ... دي سبايا تبعن في الأعراب ؟ لو ترى منطقي أسيراً لأصبح؟ ... ت أسيراً ذا عبرة واكتئاب ثم ختمها بقوله:؟ طال رغبي إليك مما أقاسي؟ - هـ ورغبي يا رب فاحفظ ثيابي وكقوله في هجاء موسى بن إبراهيم الرافقي كامل: عجباً لقوم يسمعون مدائحي ... لك لم يقولوا قم فأنت مصاب نبزوا بكذاب مسيلمة فقد ... غلطوا ومانوا بل أنا الكذاب وما رويت ألطف من قول ضياء الدين موسى بن ملهم الكاتب في الرشيد عمر الفوى وكان به داء الثعلب وهو من نوادر ما قيل في أقرع وافر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 أقول لمعشر غلطوا وغضوا ... من الشيخ الرشيد وأنكروه هو ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى يضع العمامة تعرفوه والفرق بين التندير وما قبله من باب التهكم وما يلتبس بالتهكم من الهزل الذي يراد به الجد أن التندير ظاهره وباطنه هزل بخلاف البابين، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 ؟ باب الإسجال بعد المغالطة وهو أن يقصد الشاعر غرضاً من ممدوح، فيأتي بألفاظ تقرر بلوغه ذلك الغرض، فيسجل عليه ذلك، مثل أن يشترط لبلوغ ذلك الغرض شرطاً يلزم من وقوعه وقوع ذلك الغرض، ثم يقرر وقوع ذلك الغرض مغالطة، ليقع المشروط كقول بعض المحدثين بسيط جاء الشتاء وما عندي لقرته ... إلا ارتعادي وتصفيقي بأسناني فإن هلكت فمولانا يكفنني ... هبني هلكت فهبني بعض أكفاني وقد تأتى المغالطة بلا إسجال إذا أراد المتكلم إخفاء مراده فسأل عن شيء وهو يريد غيره بشرط أن يكون المسئول عنه يتعلق بمراده تعلقاً قريباً لطيفاً، كقول أبي نواس خفيف: أسأل القادمين من حكمان ... كيف خلفتم أبا عثمان فيقولون لي جنان كما س ... رك من حالها فسل عن جنان ما لهم لا يبارك الله فيهم ... كيف لم يغن عندهم كتماني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 فإنه سأل عن أخى سيد جنان وإنما أراد جناناً، ويقع الإسجال بغير مغالطة، وهذا القسم هو الذي يأتي في الكتاب العزيز كثيراً، ومنه قوله تعالى: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 باب الفرائد هذا باب مختص بالفصاحة دون البلاغة، لأن مفهومه إتيان المتكلم بلفظة تتنزل من كلامه منزلة الفريدة من حب العقد تدل على عظم فصاحته وقوة عارضته، وشدة عربيته، حتى إن هذه اللفظة لو سقطت من الكلام لعز على الفصحاء غرامتها وهي كقول أبي نواس كامل: وكأن سعدي إذ تودعنا ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا فلفظة اشرأب من الفرائد التي لا نظير لها في فصيح الكلام، ولا يقع مثلها إلا على سبيل الندور، وكقوله أيضاً بسيط حتى إذا ما غلا ماء الشباب لها ... وأفعمت في تمام الجسم والعصب فاستعارة الغليان لماء الشباب من الفرائد البديعة، وكذلك قول أبي تمام وافر: وقدما كنت معسول الأماني ... ومأدوم القوافي بالسداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 فلفظة مأدوم من الفرائد التي لا يقدر على نظيرها، ولا يعثر على شبيهها وكقول البحتري في المعتز بالله خفيف: لا بس حلة الوفاء ومن أب ... هة السيف أن يكون محلى فقوله أبهة من الفرائد الغريبة في مكانها التي يعجز الفصحاء عن الإتيان بها، وقد جاء في الكتاب العزيز من ذلك غرائب يعز حصرها، منها قوله سبحانه وتعالى: " فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين " وانظر إلى قوله تعالى: " فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً " فألفاظ هذه الجملة كلها فرائد معدومة النظائر، وكقوله عز وجل: " حتى إذا فزع عن قلوبهم " فانظر إلى لفظة " فزع " وغرابة فصاحتها، تعلم أن الفكر لا يكاد يقع على مثلها وكقوله تبارك وتعالى: " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " وهذه الفريدة في هذه الآية أعجب من كل ما تقدم، فإن لفظة " خائنة " سهلة مستعملة، كثيرة الجريان على ألسن الناس، لكن على انفرادها، فلما أضيفت إلى " الأعين " حصل لها من غرابة التركيب ما جعل لها في النفوس هذا الموقع العظيم، بحيث لا يستطاع الإتيان بمثلها، ولا يكاد يقع في شيء من فصيح الكلام شبهها، وأشباه ذلك في الكتاب العزيز لا يدخل تحت الحصر، وقد ورد في السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام مواضع شريفة، منها قوله عليه السلام: استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 من صدور الرجال من النعم من عقلها فالمح لفظتي استذكروا، وتفصيا لترى ما يذهل عقل السامع فصاحة، ويروعه جزالة وحلاوة، وكذلك قوله عليه السلام: " إذا ذكر الصالحون فحى هلاً بعمر " فإن لفظة " حى، هلاً " من الفرائد العجيبة وفيها من الفصاحة ما يعجز عن مثله كل فصيح، وعلى هذه الأمثلة فقس ترشد إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 باب الإلغاز والتعمية ويسمى المحاجاة، والتعمية أعم أسمائه، وهو أن يريد المتكلم شيئاً فيعبر عنه بعبارات يدل ظاهرها على غيره، وباطنها عليها، وهو يكون في النثر والشعر، فمما جاء منه في النثر ما أملاه على السيد الشريف العالم الفاضل تاج الدين والشرف ابن الحلبي أبقاه الله من رسالة ذكر أنها أملاها عليه منشئها، فحفظها ثم نسيها، ولم يبق على خاطره منها إلا ما أذكره، وهو، بلغني أيدك الله أنك ركبت الأفق، وسرت تطأ ذوائب النجم من عن يمين جعفر، وشمال سعيد، حتى أتيت إلى الضرير، فطفقت تستحسن عينيه ملياً، وقصدت ابنة الوادي فبقرت بطنها عن خمس كأصابع الكف، وأتاك الغلام ببيضاء من ملاح القرية، فأصليت الجميع ناراً تلظى، فبردت بنارهن ناراً محرقة، ورأيت عثمان وهو يسر أبا بكر فقتلته. ومنها ورويت أن الشافعي قال: لا بأس بالمرأة إذا احتاجت أن تبيع زوجها لتنفق ثمنه. وذكر لي الشريف تاج الشرف أن منشئها كان شريفاً عباسياً، وانسى اسمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 ومن النثر الذي جاء في هذا الباب قول ابن جراح ملغزاً في دملج: ماشئ وجهه قمر، وقلبه حجر، إن نبذته صبر، واعتزل البشر، وإن قرعته ملأ الأسماع، وإن أدخلته السوق أبى أن يباع، وإن فككت شطره دعا لك، وإن ركبت نصفه الآخر هالك، وربما كثر مالك، وإن رخمته آلمك عند الفجر، وأورثك الضجر وقت العصر. ومثال ما أتى من هذا الباب في الشعر قول بعض العرب ملغزاً في الأيام " رجز ": وسبعة كلهم إخوان ... ما إن يموتون وهم شبان لم يرهم في موضع إنسان ومن ذلك قول أبي العلاء المعري ملغزاً في الإبرة مما أنشدنيه الفاضل عفيف الدين علي بن عدلان النحوي عفا الله عنه طويل: سعت ذات سم في قميصي فغادرت ... به أثراً والله شاف من السم كست قيصراً ثوب الجمال وتبعاً ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم وللمعري ملغزاً في الهريسة: طويل أتتنا وما لاح الصباح وقد سرت ... إلينا الدجى إن الحرائر لا تسرى منعمة بيضاء ما نفحاتها ... بعطر ولكن هن أشهى من العطر لها والد عال وأم كريمة ... وحاضنة سوداء جائشة الصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 إذا أودعت سراً غلا في ضميرها ... فباتت من السر المصون على الجمر وكقوله ملغزاً في قطعة ملح من ملح الطعام من إنشاد المذكور طويل: وبيضاء من سر الملاح ملكتها ... فلما قضت إربي حبوت بها صحبي فباتوا بها مستمتعين ولم تزل ... تحثهم بعد الطعام على الشرب وأمثلة هذا الباب من الشعر لا تحصى كثرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 باب التصرف وهو أن يأتى من قوة الشاعر إلى معنى فيبرزه في عدة صور، تارة بلفظ الاستعارة، وطوراً بلفظ الإيجاز، وآونة بلفظ الإرداف، وحيناً بلفظ الحقيقة، كقول امرئ القيس يصف الليل طويل: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل فإنه أبرز هذا المعنى في لفظ الاستعارة، تم تصرف فيه فأتى به بلفظ الإيجاز، فقال: طويل: فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل فإن التقدير: فيا لك من ليل طويل، فحذف الصفة، لدلالة التشبيه عليها، ثم تصرف فيه فأخرجه بلفظ الإرداف فقال طويل: كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل ثم تصرف فيه فعبر عنه بلفظ الحقيقة فقال طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل ولا شبهة في أن هذا إنما يأتي من قوة الشاعر وقدرته، ولذلك أتت قصص القرآن الكريم في صور شتى من البلاغة ما بين الإيجاز والإطناب واختلاف معاني الألفاظ، وشهرة ذلك تغني عن شرحه. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 باب النزاهة وهو يختص غالباً بفن الهجاء، وإن وقع نادراً في غيره، فإنه عبارة عن نزاهة ألفاظ الهجاء وغيره من الفحش حتى يكون الهجاء كما قال فيه أبو عمرو بن العلاء وقد سئل عن أحسن الهجاء فقال: الذي إذا أنشدته العذراء في خدرها لا يقبح عليها، مثل قول جرير كامل: لو أن تغب جمعت أحسابها ... يوم التفاخر لم تزن مثقالا وكقوله وافر: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا وكقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي طويل: ظللت كأني لرماح دريئة ... أطاعن عن أبناء حرب وفرت وقال ابن الأعرابي: أهجي بيت وأمضه قول الشاعر طويل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 وقد علمت عرساك أنك آيب ... تخبرهم عن جيشهم كل مرتع ومن شواهد هذا الباب للمولدين قول أبي تمام: بسيط مودة ذهب أثمارها شبه ... وهمة جوهر معروفها عرض وقوله: بني لهيعة ما بالي وبالكم ... وفي البلاد مناديح ومضطرب لجاجة لي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجتكم في أنكم عرب وكالذي قاله معد بن الحسين بن جبارة لرجل كان يدعو قوماً إلى سماع قينة له، ثم انكشف له بعد ذلك أنهم ينالون منها القبيح بسيط ألم أقل لك إن القوم بغيتهم ... في ربة العود لا في رنة العود لا تأسفن على الشاة التي عقرت ... وأنت غاد بها في مسرح البيد فانظر إلى هذه المعاني ونزاهة ألفاظها، وقس على ذلك. وقد وقع من النزاهة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض، أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون " فإن ألفاظ الذم للمخبر عنهم في هذه الآية أتت منزهة عما يقع في غير هذا القسم من الهجاء واتفق في هذه الآية من النزاهة صحة الأقسام، فإنه لم يبق بعد قوله " أفي قلوبهم مرض " إلى قوله " أن يحيف الله عليهم ورسوله " قسماً من هذا المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 حتى ذكره، لأن المرض عبارة عن إبطان الكفر، والريبة والشك والتردد وذكر الخوف من الحيف، فذكر جميع الأقسام التي هي أسباب القعود عن الإجابة لحكم الله ورسوله، وحصل مع ذلك الافتنان، فإنها تضمنت فن الفخر بوصف نفسه ورسوله بالعدل مدمجاً في الإيغال الذي وقع في فاصلة الآية، فإن ملزوم قوله تعالى " بل أولئك هم الظالمون " وصفه ورسوله بالعدل، فاقترن التشكيك بصحة الأقسام، وأدمج الافتنان في الإيغال، فسبحان المتكلم بهذا الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 باب التسليم وهو أن يفرض المتكلم فرضاً محالاً إما منفياً أو مشروطاً بحروف الامتناع، ليكون ما ذكره ممتنع الوقوع لامتناع وقوع مشروطه، ثم يسلم بوقوع ذلك تسليماً جدلياً، ويدل على تقدير عدم الفائدة في وقوعه على تقدير وقوعه، كقوله: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إليه إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " فكأن معنى الكلام والله أعلم أنه ليس مع الله سبحانه من إليه، وكأن قائلاً قال: لو سلمنا أن معه إلهاً للزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله بما خلق، وعلو بعضهم على بعض، فلا يتم في العالم أمر ولا ينفذ حكم، والواقع خلاف ذلك، ففرض إلهين فصاعداً محال، ومثال ذلك قول الطرماح بسيط لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد فهذا أيضاً على تقدير التسليم أن الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن تخفى عليه خافية، فقال الشاعر: لو كان مما يجوز أن يخفى عليه شيء من خلقه خفيت عليه هذه القبيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 باب الافتنان وهو أن يفتن المتكلم فيأتي بفنين متضادين من فنون الكلام في بيت واحد أو جملة واحدة مثل النسيب والحماسة والهجاء والهناء والعزاء. فأما ما افتن فيه بالجمع بين النسيب والحماسة فكقول عنترة كامل: إن تغد في دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس، المستلئم وكقول عبد الله بن طاهر بن الحسين وافر: أحبك يا ظلوم وأنت عندي ... مكان الروح من جسد الجبان ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان ومما جمع فيه بين تهنئة وتعزية قول بعض الشعراء ليزيد بن معاوية حين دفن أباه وجلس للناس بسيط اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا لا رزء أصبح في الأقوام تعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 وأحسن شعر فنن فيه بالجمع بين تهنئة وتعزية قول أبي نواس للعباس بن الفضل بن الربيع يعزيه بالرشيد ويهنئه بالأمين طويل: تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساو مرة ومحاسن وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن والأمثلة في هذا الباب كثيرة جداً. ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " فجمع هذا الكلام بين الوعد والوعيد. ومما جمع فيه بين التعزية والفخر قوله سبحانه: " كل من عليها فان ويبق وجه ربك ذو الجلال والإكرام ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 باب المراجعة وهو أن يحكى المتكلم مراجعة في القول، ومحاورة في الحديث جرت بينه وبين غيره أو بين اثنين غيره بأوجز عبارة وأرشق سبك وأسهل ألفاظ، إما في بيت واحد، أو في أبيات، أو جملة واحدة، كقول عمر بن أبي ربيعة " رمل ": بينما ينعتني أبصرنني ... مثل قيد الرمح يعدو بي الأغر قالت الكبرى: ترى من ذا الفتى ... قالت الوسطى لها: هذا عمر قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه، وهل يخفى القمر؟ وفي الأبيات خبئان يدلان على قوة عارضة الشاعر وحذقه بمعرفة وضع الكلام مواضعه: أحدهما، وهو الذي يدل على قوة العارضة، أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت كلها مرفوعة كما قيل في أرجوزة رؤبة التي أولها " رجز ": قد جبر الدين الإله فجبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 فإنهم قالوا: إنها تزيد على التسعين شطراً، ولو أطلقت قوافيها لكانت كلها مفتوحة. والخبء الآخر كونه جعل التي عرفته وعرفت به وشبهته تشبيهاً يدل على شغفها به هي الصغرى، ليدل بدليل الالتزام على أنه فتى السن إذ الفتية من النساء لا تميل إلا للفتى من الرجال غالباً وختم قوله بما أخرجه مخرج المثل السائر موزوناً، ولا يقال إنما مالت الصغرى له دون أختها لضعف عقلها وعدم تجربتها، فإني أقول: قد تخلص من هذا الدخل بكونه أخبر أن الكبرى التي هي أعقلهن ما كانت رأته قبل، وإنما كانت تهواه على السماع به، فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف لها، أظهرت من وجدها به على مقدار عقلها ما أظهرت من سؤالها عنه فحسب، ولم تتجاوز ذلك، أو سألت عنه وقد علمته لتلتذ بسماع اسمه من باب تجاهل العارف الذي توجبه شدة الوله والعقل يمنعها من التصريح، والوسطى سارعت إلى التعريف باسمه للعلم، فكانت دون الكبرى في الثبات الذي توجبه سنها وتوسطها، والصغرى لكون منزلتها في الثبات دون الأختين أظهرت من معرفته وصفته ما دلت به على شدة شغفها به، وكل ذلك وإن لم يكن كذلك فألفاظ الشعر تدل عليه. ومن جيد أمثلة هذا الباب قول أبي نواس مجزوء الرمل: قال لي يوماً سليما ... ن وبعض القول أشنع قال صفني وعلياً ... أينا أتقى وأنفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 قلت إني إن أقل ما ... فيكما بالحق تجزع قال: كلا قلت: مهلاً ... قال قل لي: قلت: فاسمع قال: صفه قلت: يعطى ... قال: صفني قلت: تمنع وإلى لطافة البحتري في باب المراجعة تنتهي الرياسة حيث قال خفيف: بت أسقيه صفوة الراح حتى ... وضع الكأس مائلاً يتكفا قلت: عبد العزيز تفديك روحي ... قال: لبيك قلت: لبيك ألفا هاكها، قال: هاتها، قلت: خذها ... قال: لا أستطيعها، ثم أغفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 باب السلب والإيجاب وهو أن يقصد المادح أن يفرد ممدوحه بصفة مدح لا يشركه فيها غيره، فينفيها في أول كلامه عن جميع الناس، ويثبتها لممدوحه بعد ذلك، كقول الخنساء في أخيها طويل: وما بلغت كف امرئ متناولاً ... من المجد إلا والذي نلت أطول وما بلغ المهدون للناس مدحة ... وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل فقصد أبو نواس أخذ معنى الثاني من البيتين فلم يتهيأ له أخذه إلا في بيتين، وقصر عنه بعد ذلك تقصيراً كثيراً، وناهيك بأبي نواس، وذلك أنه قال طويل: إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني أما كون معنى البيتين من معنى البيت الثاني من شعر الخنساء فلأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 حاصل بيتي أبي نواس أنك فوق ثنائنا الصالح عليك، وإن مدحنا غيرك كان له لفظ المدح ولك معناه، وهذا كله هو عين قول الخنساء: وما بلغ المهدون للناس مدحة لأن حاصل قولها إن مدح المادحين فيك أفضل من مدحهم للناس، وإن أطنبوا في مدح الناس هو قول أبي نواس في بيته الأول طويل: فأنت كما نثني وفوق الذي نثني وقصر أبو نواس عن لحاقها في الزيادة التي هي قولها: وإن أطنبوا، وقولها: " وما بلغ المهدون للناس " فكل هذه المبالغات قصر عنها أبو نواس، وأما قول أبي نواس في بيته الثاني " فأنت الذي نثني " هو عين قولها إلا الذي فيك أفضل فإن مفهومه أن كل من يهدي مدحاً لأحد من البشر له فيك فضل مما أهدى لغيرك، ووجه تقصير أبي نواس في هذا المعنى أنه جعل ممدوحه يمدح بالنية دون القول، وبالتأويل دون التصريح، والخنساء جعلت أخاها ممدوحاً من جميع الناس بالتصريح والمعنى بأفضل ما مدح به كل الناس، فبين المعنيين من البون ما تراه. ومن هذا الباب ما يقع في التشبيه والإخبار وغيرهما بحيث يكون للمشبه أو المخبر عنه صفات فينفي بعضها ليثبت بعضها وينفي واحدة ليوجب أختها، أو يسلبها ويوجب غيرها، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام " أما ترضى أن تكون مني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " فسلب النبوة ليوجب بقية المنازل التي كانت لهارون من موسى عليهما السلام. ومن ذلك قول الشاعر طويل: فصرت كأني يوسف بين اخوتي ... ولكن تعدتني النبوة والحسن فسلب نفسه هاتين الصفتين من صفات يوسف عليه السلام ليثبت ما عداهما مما امتحن به يوسف من إخوته، وهذا البيت وإن كان من شواهد الاستدراك فهو مما يليق أن يستشهد به هاهنا. ومن ذلك قول ابن الرومي طويل: كأنا مع الجدران في جنباته ... دمى في انقطاع الرزق لا في المحاسن لما كانت الدمى موصوفة بهاتين الصفتين، وكانت إحداهما لائقة بالمعنى الذي قصده، أثبتها ونفى ما عدها من الصفة التي لا تليق بغرضه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 باب الإبهام وهو أن يقول المتكلم كلاما يحتمل معنيين متضادين، لا يتميز أحدهما على الآخر، ولا يأتي في كلامه بما يحصل به التمييز فيما بعد ذلك، بل يقصد إبهام الأمر فيهما قصداً، والفرق بينه وبين الاشتراك المعيب أن الاشتراك لا يقع إلا في لفظة مفردة لها مفهومان، لا يعلم أيهما أراد المتكلم، والإبهام لا يكون إلا في الجمل المركبة المفيدة، ويختص بالفنون كالمديح، والهجاء، وغيرهما، ولا كذلك الاشتراك، والفرق بينه وبين الإيضاح أن البيت الملتبس الذي يفتقر إلى الإيضاح يتضمن ألفاظ المديح الصريح والهجاء البين فيكون فيه مدح وهجاء، والإبهام لا يفهم من ألفاظه مدح ولا هجاء البتة، بل يكون لفظه صالحاً للأمرين، وإن لم يكن فيه من لفظ المدح والهجاء شيء. ومثاله ما حكى أن بعض الشعراء هنأ الحسن بن سهيل بصهر المأمون مع من هنأه، فأثاب الناس كلهم وحرمه، فكتب إليه: إن أنت تماديت على حرماني عملت فيك بيتاً لا يعلم أحد مدحتك فيه أم هجوتك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 فاستحضره وسأله عن قوله، فاعترف، فقال: لا أعطيك أو تفعل، فقال مجزوء الخفيف: بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من؟ فلم يعلم أراد بقوله: " ببنت من " في الرفعة أو في الضعة، فاستحسن الحسن منه ذلك، وناشده، أسمعت هذا المعنى أم ابتكرته؟ فقال: لا والله، إلا نقلته من شعر شاعر مطبوع كان بعث به، ففصل قباء عند خياط أعور اسمه زيد، قال له الخياط على طريق العبث به: سآتيك به لا يدري أٌباء هو أم دواج فقال الشاعر: لئن فعلت لأعلمن فيك بيتاً لا يعلم أحد ممن سمعه أدعوت لك فيه أم دعوت عليك؟ ففعل الخياط، فقال الشاعر مجزوء الرمل: جاء من زيد قباء ... ليت عينيه سواء فما علم أحد هل أراد أن الصحيحة تساوي السقيمة أو العكس، قال: فاستحسن الحسن صدقه، أضعاف استحسانه حذقه، وأضعف جائزته. ومن إبهام العرب قول رجل من بني عبد شمس بن سعد بن تميم طويل: تضيفني وهنا فقلت أسابقي ... إلى الزاد شلت من يدي الأصابع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 ولم تلق للسعدي ضيفاً بقفرة ... من الأرض إلا وهو صديان جائع فإن ظاهر الشعر مبهم معناه، فيظن سامعه أنه أراد ضيفاً من البشر، فيكون قد هجا به نفسه، وإنما هو يصف ذئباً غشى رحله في الليل وهو بالقمر وهو فخر محض، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 باب القول بالموجب وهو أن يخاطب المتكلم مخاطباً بكلام فيعمد المخاطب إلى كل كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظة ما يوجب عكس معنى المتكلم، وذلك عين القول بالموجب، لأن حقيقته رد الخصم كلام خصمه من فحوى لفظه كقول ابن حجاج خفيف: قلت: طولت قال، لي: بل تطول؟ ... ت وأبرمت قلت: حبل ودادي ومن شواهده أيضاً كامل: إن قال: قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي أو قال: قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع وقد مر هذان البيتان في باب الاستدراك، والفرق بين القول بالموجب وبين التعطف من وجهين: أحدهما أن اللفظة التي تزيد في التعطف لا تكون مع أختها في قسم واحد، وإنما تكون كل لفظة في شطر. والثاني أن الثانية من كلمتي التعطف لا تكون عكس معنى الكلام، وهذه تعكس معناه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 ؟ باب حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع ما فيجعله بالتعظيم له جنساً بعد حصر أقسام الأنواع منه والأجناس كقوله تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر " الآية فإنه سبحانه تمدح بأنه يعلم ما في البر والبحر من أصناف الحيوان والنبات والجماد حاصراً لجرئيات المولدات ورأى أن الاقتصار على ذلك لا يكمل به التمدح، لاحتمال أن يظن ضعيف أنه يعلم الكليات دون الجزئيات، فإن المولدات وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى جملة العالم فكل واحد منها كلي بالنسبة إلى ما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف، فقال لكمال التمدح " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " وعلم أن علم ذلك يشاركه فيه من مخلوقاته كل ذي إدراك، فتمدح بما لا يشارك فيه، فقال: " ولا حبة في ظلمات الأرض " ثم ألحق هذه الجزئيات بعد حصرها بالكليات حيث قال: " ولا رطب ولا يابس " لأن جميع المولدات لا تخرج عن هذين القسمين، وتنظم إليها الأمهات التي هي العناصر الأربع التي تولدت منها المولدات، ثم قال: " إلا في كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 مبين " إشارة إلى أن علمه بذلك علم من معلومه مقيد في كتاب مبين فهو يأمن الضلال والنسيان كما قال: " علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " ومثل هذا التمدح قوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة " فإنه سبحانه لما تمدح بعلم الغيب، وعلم أن التمدح بذلك على انفراده لا يحصل به كمال التمدح، فقال: " والشهادة " لأن علم الغيب بالنسبة إلينا علم كلي، وعلم الشهادة بالنسبة إلينا علم بالجزئيات، والاقتصار على علم الغيب يوهم بعض الضعفاء أنه لا يعلم من المشاهدات ما يعلمه، فكان التمدح بعلم الشهادة أبلغ، ولذلك شاع الانتقال إليه. وكقول الشاعر طويل: إليك طوى عرض البسيطة جاهل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر وكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر والبيت الأخير أردت، فإن هذا الشاعر قصد تعظيم الممدوح وتفخيم أمر داره التي قصده فيها، ومدح يومه الذي لقيه فيه، فجعل الممدوح جميع الورى والدار التي لقيه فيها الدنيا، واليوم الذي رآه فيه الدهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 فجعل الجزئي كلياً بعد حصر أقسام الجزئي، أما جعله الجزئي كلياً فلأن الممدوح جزء من الورى، والدار جزء من الدنيا، واليوم جزء من الدهر، وأما حصر أقسام الجزئي فلأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان، فقد حصر ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 باب المقارنة وهو أن يقرن الشاعر الاستعارة بالتشبيه أو المبالغة، أو غير ذلك من المعاني في كلامه بوصل يخفي أثره ويدق موضعه، إلا عن الحاذق المدمن النظر في هذه الصناعة ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون " فإن هذه الآية الكريمة اقترن فيها التنكيت بتجنيس التغاير، أما التنكيت ففي قوله تعالى " على ظهورهم " والنكتة في ترجيح الحمل على الظهور دون الرؤوس كون الظهور أقوى للحمل، فأشار بها سبحانه إلى ثقل الأوزار، والتجنيس بين أوزارهم ويزرون، لأن الأولى اسم، والثانية فعل وأكثر ما يقع ذلك بالجمل الشرطية، كقول إدريس بن اليمان من شعراء المغرب طويل: وكنت إذا استنزلت من جانب الرضا ... نزلت نزول الغيث في البلد المحل وإن هيج الأعداء منك حفيظة ... وقعت وقوع النار في الحطب الجزل فإن هذا الشاعر لاءم بين الاستعارة بقوله في صدر البيت الأول. وكنت إذا استنزلت من جانب الرضا وبين التشبيه بقوله في عجز البيت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 " نزلت نزول الغيث ": أي مثل نزول الغيث، أحسن ملاءمة، إذ جعل أول العجز فعلاً مضارعاً للفعل الذي في الصدر، ومصدر ذلك الفعل هو الذي لاءم بين القسمين في المعنى، فحصل بذلك التلاحم اللطيف، والاتصال الدقيق، وقارن بين الاستعارة والتشبيه أحسن مقارنة، وكذلك فعل في البيت الثاني حيث قال بعد ذكر تهييج الحفيظة: وقت وقوع النار، فهذا مثال ما اقترنت فيه الاستعارة بالتشبيه، وأما ما اقترنت فيه الاستعارة بالمبالغة فمثاله قول النابغة الذبياني طويل: وأنت ربيع ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنية قاطع فإنه سمى الممدوح ربيعا استعارة لكونه يحيا به النبات والحيوان وسماه سيفاً لأنه تموت به الأقران، وفي ضمن كل استعارة منها مبالغة تامة أما الأولى منها فجارية على التحقيق بأن إحياء الربيع أعم من إحياء الكريم فجعل الكريم ربيعاً مبالغة ممكنة جارية على التحقيق، وأما الثانية فإنها أبلغ من الأولى حيث جعل سيفاً أعيرته المنية قاطعاً، فإنه لو عكس حتى يجعله مستعيراً للمنية كان ذلك بليغاً، والأول أبلغ فقد اقترن في هذا البيت المبالغة والتكميل، فإنه لما فرغ من صدر البيت ورأى نفسه قد مدح ممدوحه بمجرد الكرم وعلم أن المدح غير كامل، فكمله بالشجاعة فحصل في البيت تكميل مقترن بالمبالغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 ومن أحسن ما سمعت في المقارنة قول أبي تمام طويل: فإن أنا لم يحمدك عني صاغراً ... عدوك فاعلم أنني غير حامد فإن هذا البيت وقعت فيه مقارنتان: إحداهما في ظاهره، والأخرى في باطنه، فوقع في ظاهره المبالغة مقترنة بالتكميل في قوله: " يحمدك عدوك صاغراً "، لأن حمد العدو مبالغة، وكونه صاغراً تكميل، وفي باطن البيت الافتنان مقترن بالإدماج، إلا أن الافتنان فيه مدمج في المبالغة، وذلك أنه لا يقدر على أن يجعل عدو الممدوح يمدحه صاغراً إلا بما يجيد فيه من المدائح التي تدعو استجادتها واستحسانها كل من يسمعها إلى حفظها واللهج بها من صديق وعدو، فيضطر العدو إلى أن يلهج بتلك المدائح المقولة فيه: وهو صغير عند نفسه وعند من يسمعها، يقول: ليس بعاقل من يعادي من يقال فيه مثل هذا فيصغر عند نفسه وعند غيره، ويهون مقداره، وفي ذلك افتخار للشاعر ومدح للممدوح، وهذان فنان: أحدهما مديح، والآخر افتخار، الأول ظاهر وهو المديح، والثاني باطن وهو الافتخار وحصل بسبب ذلك في البيت تعليق لطيف، وهو تعليق صحة مدح الشاعر على مدح عدو الممدوح له صاغراً، فإنه شرط على نفسه أنه ما لم يمدح ممدوحه عدوه فهو غير حامد له. ومن أحسن ما سمعت في ذلك قول تميم بن مقبل طويل: لدن غدوة حتى نزعنا عشية ... وقد مات شطر الشمس والشطر مدنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 وهذا مما اقترن فيه الإرداف بالاستعارة، لأنه عبر عن الغروب بموت شطر الشمس في أول العجز، واستعار للشطر الثاني الدنف في آخر العجز، وهذا بليغ جداً، حيث أتت المقارنة فيه في قسم واحد. والفرق بين المقارنة والتعليق والإدماج أنها في المعاني، وذانك في الفنون والمعاني معاً. ومن المقارنة ما يقرنه الشاعر من شعره غيره بشعره، وهو عكس الإبداع والاستعانة، لأن الشاعر في هذين البابين يقدم شعر نفسه على شعر غيره وفي المقارنة يقدم شعر غيره على شعر نفسه، كما قال الرشيد هارون للجماز يوماً: أجز وابده، الملك لله وحده، فقال الجماز: وللخليفة بعده وللمحب إذا ما حبيبه بات عنده، وهذا شاهد القسم الثاني منها. ومن المقارنة ما يقرنه الشاعر من شعر نفسه فيكون في فن، فإذا قرن البيت بآخر صار من فن غيره، وقد جاء من شواهد هذا القسم ما استشهدنا به في باب الهجاء في معرض المدح، وهو الذي قاله بعض الشعراء في بعض الأشراف وافر: له حق وليس عليه حق ... ومهما قال فالحسن الجميل وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لغيره وهو الرسول فإن البيت الأول مدح محض، فلما اقترن بالثاني صار هجواً بحتاً، وهذا أوضح فرق بين المقارنة والتعليق والإدماج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 باب المناقضة وهو تعليق الشرط على نقيضين: ممكن ومستحيل، ومراد المتكلم المستحيل دون الممكن، ليؤثر التعليق عدم وقوع المشروط، فكأن المتكلم ناقض نفسه في الظاهر، إذ شرط وقوع أمر بوقوع نقيضين، ومثال ذلك قول النابغة الذبياني وافر: وإنك سوف تحلم أو تناهى ... إذا ما شبت أو شاب الغراب فإن تعليقه وقوع حلم المخاطب على شيبه ممكن، وعلى شيب الغراب مستحيل، ومراده الثاني لا الأول، لأن مقصوده أن يقول: إنك لا تحلم أبداً. والفرق بينه وبين نفي الشيء بإيجابه أن هذا الباب ليس فيه نفي ولا إيجاب، ونفي الشيء بإيجابه ليس فيه شرط ولا معناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 ومن المناقضة نوع آخر يرجع أصله إلى الأول، وهو أن يأتي في لفظ الوعد ما يدل على الوعيد، فيسر المخاطب ويسوءه في وقت واحد، فيتوجه على ذلك اللفظ إشكال يوضحه بعده، كقوله تعالى: " إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون " فقوله سبحانه: " إنا كاشفوا العذاب " وعد، ووصف كشف العذاب بالقلة وعيد، فهو يسر ويسوء في حالة واحدة، وإنما وصفه بالقلة المنافية للكرم من أجل أنه علق كشف العذاب بشرط عدم العود إلى موجب العذاب، فاقتضت البلاغة أن يقول قليلاً ليدمج في دلائل النبوة الإخبار بالغيب، وهو وقوع العود، فيرشح بذكر لفظة " قليلاً " للإيضاح والإخبار بوقوع العود الذي اقتضى أن يكون كشف العذاب قليلاً من أجله. والشرط المأخوذ من قوة الكلام هو الذي يرد هذا النوع إلى النوع الأول. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 باب الانفصال وهو أن يقول المتكلم كلاماً يتوجه عليه فيه دخل إذا اقتصر عليه، فيأتي بعده بما ينفصل به عن ذلك إما ظاهراً أو باطناً يظهره التأويل كقوله تعالى: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون " فإن على ظاهر هذه الآية حصل من جهة أن الطائر يطير بجناحيه، فيكون الإخبار بذلك عرياً عن الفائدة، والانفصال عن ذلك هو أنه سبحانه لما قال: " وما من دابة في الأرض " أوجبت البلاغة أن يردف ذلك بقوله " ولا طائر " في السماء أو في الجو " يطير بجناحيه " فأراد الإيجاز، فوجب أن يحذف إحدى الجملتين إما في السماء أو يطير وما فيها من الضمير، ولا سبيل إلى حذف الفعل، لأنه الذي يتعلق به الجار والمجرور الذي يمر بجناحيه وذكره مطلوب في الآية، لأن ذكر الجناح يفصل صاحبه من الهمج الذي يظهر وهو يخال أنه يطير كالنمل والجعلان وغير ذلك، لأن هذا الصنف قد ذكر في صنف ما دب ودرج في الأرض، والآية قصد بها صحة التقسيم، لأنه سبحانه لما استوعب كل ما يدب على الأرض في صدرها أراد الإتيان بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 يعم الذي يطير في الجو، ولا يطير في الجو إلا طائر، ولا يسمى طائراً إلا إذا طار بجناحين، ولا تسمى آلة الطيران جناحاً إلا إذا كانت ذات قصب وريش وأباهر وخوافي وقوادم، فقوله سبحانه: " ولا طائر " بعد ذكر الدواب موضح لما أراد من صحة التقسيم، ولفظة طائر رشحت لفظة يطير لمجيئها بعدها، ولفظة يطير رشحت الإتيان بلفظة الجناحين، فحصل من مجموع ذلك الانفصال عن الدخل المتوجه على ظاهر الآية، والله أعلم. وكقول أبي فراس مجزوء الرمل: في حرام الناس إن كن؟ ... ت من الناس تعد ؟ ولقد نبيت إبلي؟ - س إذا راك يصد ليس من تقوى ولكن ... ثقل فيك وبرد فإن أبا فراس لو اقتصر على البيت الثاني لكان الهجاء فيه غير مخلص، وكان يتوجه دخل بسبب احتمال البيت للمدح، والإتيان به في معرض الهجو، فانفصل عن هذا الدخل بالبيت الثالث. والفرق بينه وبين الاحتراس عموم الاحتراس وخصوص هذا الباب، لأن البيت المدخول من هذا الباب يكون الدخل المتوجه عليه من جهة كونه صالحاً لضدين من الفنون، وهو في سياق أبيات مقصودة في فن واحد منهما، والاحتراس يكون بيته مدخولاً من هذا الوجه وغيره، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 ؟ باب الإبداع وهو أن تكون مفردات كلمات البيت من الشعر، أو الفصل من النثر، أو الجملة المفيدة، متضمنة بديعاً بحيث تأتي في البيت الواحد والقرينة الواحدة عدة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جملته، وربما كان في الكلمة الواحدة المفردة ضربان فصاعداً من البديع، ومتى لم تكن كل كلمة بهذه المثابة فليس بإبداع، وما رأيت في جميع ما استقريت من الكلام المنثور والشعر الموزون كآية كريمة من كتاب الله تعالى: استخرجت منها إحداً وعشرين ضرباً من المحاسن، وهي قوله تعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ". وهي المناسبة التامة بين أقلعي وابلعي، والمطابقة بذكر الأرض والسماء، والمجاز في قوله " يا سماء " فإن المراد والله أعلم يا مطر السماء، والاستعارة في قوله " أقلعي "، والإشارة في قوله تعالى " وغيض الماء " فإنه عبر بهاتين اللفظتين عن معان كثيرة، والتمثيل في قوله تعالى " وقضي الأمر " فإنه عبر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بلفظ فيه بعد عن لفظ المعنى الموضوع له، والإرداف في قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 " واستوت على الجودي " فإنه عبر عن استقرارها بهذا المكان، وجلوسها جلوساً متمكناً لا زيغ فيه ولا ميل، بلفظ قريب من لفظ المعنى، والتعليل، لأن غيض الماء علة الاستواء، وصحة التقسيم إذ استوعب سبحانه أقسام أحوال الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء، واحتقان الماء الذي ينبع من الأرض، وغيض الماء الحاصل على ظهرها. والاحتراس في قوله تعالى: " وقيل بعداً للقوم الظالمين " إذ الدعاء يشعر بأنهم مستحقوا الهلاك احتراساً من ضعيف يتوهم أن الهلاك لعمومه ربما شمل من يستحق ومن لا يستحق فتأكد بالدعاء على الهالكين لكونهم مستحقين ذلك، والإيضاح في قوله للقوم ليتبين لهم أن القوم هم الذين سبق ذكرهم في الآية المتقدمة عليها، حيث قال تعالى: " وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه " وفي قوله قبل ذلك " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " فأتى سبحانه في آخر هذا الآية بلفظة القوم التي الألف واللام فيها للعهد ليبين أنهم القوم الذين سبق ذكرهم ووصفهم بالظلم كما وصفهم في أول الكلام بالظلم، وذلك مما يوضح المعنى ويبينه، فعلم أن لفظة القوم هاهنا ليست فضلة في الكلام، وأنها يحصل بسقوطها لبس في المعنى، وعدم بيان الكلام محتاج له، والمساواة، لأن لفظ الآية لا يزيد على معناها، وحسن النسق لأنه سبحانه عطف القضايا بعضها على بعض بحسن ترتيب حسبما ما وقعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 وائتلاف اللفظ مع المعنى، لأن كل لفظة لا يصلح موضعها غيرها، والإيجاز لأنه سبحانه اقتص القصة بلفظها مستوعبة بحيث لم يخل منها بشيء في أخصر عبارة، والتسهيم، لأن أول الآية إلى قوله تعالى: أقلعي يقتضي آخرها، والتهذيب، لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن كل لفظة سمحة سهلة، مخارج الحروف عليها رونق الفصاحة، مع الخلو عن البشاعة والتركيب، سليمة من التعقيد وأسبابه، والتقديم والتأخير والحذف المخل والزيادة المسهبة وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام، ولا يشكل عليه شيء من هذا النظام، والتمكين، لأن الفاصلة مستقرة في قرارها، مطمئنة في مكانها، غير قلقة ولا مستدعاة، والانسجام، وهو تحدر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء وينساب انسياب العليل من الهواء، وما في مجموع الآية من الإبداع وهو الذي سمى به هذا الباب من أن كل لفظة لا تخلو عن أن يستخرج منها ضرب أو ضربان من البديع، فهذه آية عدة ألفاظها سبع عشرة لفظة تتضمن إحدا وعشرين ضرباً من البديع غير ما يتعدد من ضروبها، فإن الاستعارة وقعت منها في موضعين: وهما استعارة الابتلاع للأرض، والإقلاع للسماء. والمجاز في مكانين، في قوله سبحانه " ويا سماء " وفي الإشارة والتمثيل والإرداف لأن المجاز مجازان: مجاز بالحذف، ومجاز بالتغيير، وقد وقعا معاً فانظر رحمك الله إلى عظمة هذا الكلام، لتعلم ما انطوى عليه نظمه، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 تضمنه لفظه، وقد وقع لي بيت من قصيدة أشرفية وقع فيه ستة عشر ضرباً من البديع بعد ما تكرر فيه من ضروب البديع، وهو طويل: فضحت الحيا والبحر جوداً فقد بكى ال؟ ... حيا من حياء منك والتطم البحر فاتفقت فيه الاستعارة في ثلاثة مواضع: في افتضاح الحياة، وبكائه، وحيائه، والمبالغة إذ جعلت الممدوح يفضح الحيا والبحر بجوده، والتفسير في قولي " جودا " وقولي " من حياء منك "، والإغراق لما في جملة القافية من زيادة المبالغة، والترشيح بذكر الاستعارة الأولى للاستعارة الثانية، والتجنيس بين الحيا والحيا، التورية في قولي والتطم البحر والترشيح للتورية بذكر البكاء، فإن ذكره هو الذي يرشح للتورية، وصحة التقسيم في حصر القسمين اللذين يضرب بهما المثل في الجود، إذ لا ثالث لهما، والتصدير في كون البحر مذكوراً في صدر البيت، وهو قافية، والتعليل في كون العلة في بكاء الحيا والتطام البحر فضيحتهما بجوده، والتسهيم في كون صدر البيت عطف بعضها على بعض بأصح ترتيب، والإرداف، لأني عبرت عن نهاية جوده بفضوح الحيا والبحر، والتمثيل في كوني عبرت عن عظم الجود ببكاء الحيا من الحياء والتطام البحر، فهذا ما في تفاصيل البيت وأما ما في جملته، فالمساواة، لكون لفظه قالباً لمعناه، وائتلاف لفظه مع معناه في كون ألفاظ البيت ملائمة مختارة، لا يصلح موضع كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 لفظة غيرها، ولم يحصل فيه من تعقيد السبك والتقديم وأسبابه وسوء الجوار ما يوجب له الاستثقال. والإبداع هذا بابه، لكون كل لفظة من مفرداته تتضمن نوعاً أو نوعين من البديع، فقد حصل فيه ستة عشر ضرباً من البديع، وتكررت الاستعارة فيه في ثلاثة مواضع، والترشيح في موضعين، والتفسير في موضعين، وهو ثنتا عشرة لفظة، والله عز وجل أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 ؟ باب حسن الخاتمة يجب على الشاعر والناثر أن يختما كلامهما بأحسن خاتمة، فإنها آخر ما يبقى في الأسماع، ولأنها ربما حفظت من دون سائر الكلام في غالب الأحوال فيجب أن يجتهد في رشاقتها ونضجها وحلاوتها وجزالتها، وقد رأيت القاضي الفاضل عبد الرحيم رحمه الله تعالى كثيراً ما كان يحترز في ذلك ويتوخاه، فيأتي منه بكل نكتة ترقص لها القلوب، وتغنى عن النسيب في المحبوب، فمن ذلك خاتمة كتاب أجاب به القاضي السعيد بن سناء الملك رحمه الله حيث قال: وهذا القاضي مسؤول في أن يتخولنا ببدائعه ويؤمننا دثور الفكر بروائعه، ولا يضن علينا بما هو سهل عليه من منافعه وإلا دخل فيمن منع الماعون، وخرج من الذين هم لأمانات الفضيلة وعهدها راعون. وقوله في خاتمة رسالة كتبها للملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى في حق أولاد ابن أبي اليسر، وقد قصدوه بعد موت أبيهم، فخلع عليهم، فأعلموا الفاضل بذلك، وسألوه كتاباً إليه على يدهم بالوصية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 عليهم، والإذن لهم في تقبيل يده، فقال في آخره، وإن يبسط لهم وجهه الكريم عند مثولهم وسلامهم، لينزع بشره حداد الحزن عن قلوبهم كما نزع بره حداد المآتم عن أجسامهم؟ لا زال مولانا عاقلة الدهران جنى على أوليائه وداهم ولا عدموه منعماً إن سألوه أعطاهم، وإن لم يسألوه بدأهم، والمتقدم في جميع فنون البلاغة، وخصوصاً هذا النوع منها على بلغاء البدو والحضر، بل على جميع فصحاء البشر، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن عمه علي بن أبي طالب عليه السلام، فمن خواتم كلامه قوله في آخر جواب أجاب به معاوية: ثم ذكرت أن ليس لي ولأصحابي عندك إلا السيف، فلقد أضحكت بعد استعبار، متى ألفيت بني عبد المطلب من الأعداء ناكلين، وبالسيوف مخوفين، لبث قليلاً يلحق الهيجا حمل فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وإني مرقل نحوك بجحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، قد صحبتهم ذرية بدرية، وسيوف هاشمية، عرفت مواقع نضالها في أخيك وخالك وجدك، " وما هي من الظالمين ببعيد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 وأما حسن الخاتمة في الشعر فقليل في أشعار المتقدمين، وأكثر ما عني بذلك المحدثون، فمن المجيدين في ذلك أبو نواس، حيث قال في خاتمة قصيدة مدح بها الأمين كامل: فبقيت للعلم الذي تهدى به ... وتقاعست عن يومك الأيام وكقوله في خاتمة قصيدة مدح بها الخصيب عامل مصر كامل: أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر لا تعقدا بي عن مدى أملي ... شيئاً فما لكما به عذر ويحق لي إذ صرت بينكما ... ألا يحل بساحتي فقر وكقوله فيه طويل: وإني جدير إذ بلغتك بالغنى ... وأنت بما أملت منك جدير فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور وكقوله للعباس بن الفضل بن الربيع طويل: إليك غدت بي حاجة لم أبح بها ... أخاف عليها شامتاً فأدراي فأرخ عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدماً على عواري وكقول أبي تمام في خاتمة القصيدة التي ذكر فيها فتح عمورية بسيط إن كان بين ليالي الدهر من رحم ... موصولة وذمام غير منقضب فبين أيامك اللاتي نصرت بها ... وبين أيام بدر أقرب النسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم ... صفر الوجوه وجلت أوجه العرب وكقوله في خاتمة قصيدة اعتذر بها إلى ابن الهيثم كامل: أأقنع المعروف وهو كأنه ... قمر الدجى إني إذا للئيم مثر من المال الذي ملكتني ... أعناقه ومن الوفاء عديم فأروح في بردين لم يلبسهما ... قبلي فتى وهما الغنى واللوم وكقوله في قصيدة استعطف بها ابن الزيات طويل: أكابرنا عطفاً علينا فإننا ... بنا ظمأ برح وأنتم مناهل وكقوله في خاتمة قصدية اعتذر فيها إلى موسى بن إبراهيم الرافقي طويل: فإن يك ذنب عن أوتك هفوة ... على خطاء مني فعذري على عمد وكقوله في خاتمة قصيدة مخاطباً مالك بن طوق بسيط لا توقظوا الشر عن قوم فقد غنيت ... دياركم وهي تدعي زهرة النعم هذا ابن خالكم يهدي نصيحته ... من يتهم فهو فيكم غير متهم وكقول أبي الطيب المتنبي في خاتمة قصيدة من السيفيات وافر: فلا حطت لك الهيجاء سرجاً ... ولا ذاقت لك الدنيا فراقا وكقوله في خاتمة أخرى من السيفيات بسيط لا زلت تضرب من عاداك عن عرض ... يعاجل النصر في مستأخر الأجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 وكقوله أيضاً لسيف الدولة وقد ذكر الخيل بسيط فلا هممت بها إلا على ظفر ... ولا وصلت بها إلا إلى أمل وكقوله فيه أيضاً طويل: أخذت على الأرواح كل ثنية ... من العيش تعطي من تشاء وتحرم فلا موت إلا من سنانك يتقى ... ولا رزق إلا من يمينك يقسم وكقوله في خاتمة القصيدة التي هنأ بها أبا وائل بخلاصه من الأسر متقارب: فذي الدار أغدر من مومس ... وأخدع من كفة الحابل تفانى الرجال على حبها ... ولا يحصلون على طائل وقوله في خاتمة قصيدة ودع بها ابن العميد طويل: فجد لي بقلب إن رحلت فإنني ... أخلف قلبي عند من فضله عندي فلو فارقت جسمي إليك حياته ... لقلت أصابت غير مذمومة العهد وجميع خواتم السور الفرقانية في غاية الحسن ونهاية الكمال، لأنها بين أدعية ووصايا وفرائض، وتحميد وتهليل، إلى غير ذلك من الخواتم التي لا يبقى في النفوس بعدها تطلع ولا تشوف إلى ما يقال، كالدعاء الذي ختمت به سورة البقرة، والوصايا التي ختمت بها آل عمران، والفرائض التي ختمت بها النساء، والتبجيل والتعظيم الذي ختمت بهما المائدة، والوعد والوعيد الذي ختمت بهما، الأنعام، والتحريض على العبادة بوصف حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 الملائكة التي ختمت به الأعراف، والحض على الجهاد وصلة الأرحام اللذين ختمت بهما الأنفال، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه والاعتداد على الأمم به، ووسيلته ووصيته، والتهليل، الذي ختمت به براءة وتسليته عليه السلام التي ختمت بها سورة يونس، ومثلها خاتمة هود، ووصف القرآن ومدحه الذي ختمت بها سورة يونس، ومثلها خاتمة هود، ووصف القرآن ومدحه الذي ختمت به يوسف، والرد على من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ختمت به الرعد، ومدح القرآن وذكر فائدته والعلة في إنزاله الذي ختمت به إبراهيم، ووصية الرسول التي ختمت بها الحجر، وتسلية الرسول عليه السلام وطمأنينته ووعد الله سبحانه الذي ختمت به النحل، والتحميد الذي ختمت به سبحان وتحضيض الرسول صلى الله عليه وسلم على الإبلاغ والإقرار بالبشرية والأمر بالتوحيد الذي ختمت به الكهف، وقد أتيت على نصف القرآن ليكون مثالاً لمن نظر في بقيته ولم أطل بالبقية لكثرة سور النصف الأخير والله أعلم. هذا آخر الأبواب التي استنبطها، وهي ثلاثون باباً، وبها تكملت عدة أبواب الكتاب مائة وواحد وعشرون باباً سليمة من التداخل والتوارد، بعد ما حذفت من أبواب ليس فيها للمتقدمين سوى الأسماء ومسمياتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 متداخلة في غيرها، ومن أأنعم النظر في الكتب التي نظرت فيها ودقق الفكر في كتابي، وقع على صحة ما ذكرت، فرحم الله من نظر فيه، وسد ما يجده من الخلل، واغتفر ما يقع عليه من السهو الزلل، وعمل بقولي سريع: ما أحسن الإغضاء من منصف ... يعلم أن الكامل الله إن أبصرت عيناك عيباً فجد ... بفضل عفوٍ عند رؤياه قال صاحب الكتاب: كنت قد سودت من هذا الكتاب نسخة قبل هذا النسخة مختصرة جداً حسبما ما رسم لي من ألفته له، ورسم أن يبيضها الفاضل ضياء الدين موسى بن ملهم الكاتب، وفقه الله تعالى، فلما بيضها تفضل وكتب في آخرها بسيط هذا كتاب بديع ما رأى أحد ... مثلاً له في مبانيه ومعناه حوى تصانيف هذا العلم أجمعها ... وزادنا جملاً عما سمعناه لا تعجبوا من لطيف الحجم قام به؟ ... ذا الفن أجمع أقصاه وأدناه فقد رأيتم عصا موسى كم التقفت ... ولم يزيد قدرها عما عهدناه لقد عجبت من غفلة السابقين إلى هذا العلم عما اهتدى إليه هذا المصنف، وكيف مروا معرضين عما استخرج من درر هذا المؤلف، وصفوا صورة جواد وتركوا وصف سبق، وشببوا بظبي وأضربوا عن حسن عينيه وعنقه، واشتغلوا عن حمد الغيث، وشكر ودقه، بالإطناب في تشبيه رعده وبرقه، فذكر ما نسوه، وكمل ما نقصوه لا جرم أنه سبق أولهم، وأصبح أفضلهم وكل هذا بسعادة من صنف لأجله كتابه، وقصد به بابه وجنابه، فإن سعادته ترد الآجن عذباً، واليابس رطباً، وتنشر موتى الإملاق قبل المعاد، وتغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 اسمي شر وظلوم بسعدي وسعاد، وهمته تنظر من أعلى العلو إلى الشمس، وقدرته تكاد ترد الماضي وتصير اليوم أمس، لا زال بابه مقصوداً، وقاصده محسوداً، والقدر من أعوانه معدوداً، وإن كان القدر بهذا القدر مسعوداً. تم الكتاب بحمد الله تعالى وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623