الكتاب: الاعتقاد القادري المؤلف: أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بنُ الحَسَنِ بنِ أَحْمَدَ بنِ الحَسَنِ بنِ خُدَادَادَ الكَرَجِيُّ، البَاقِلاَّنِيُّ، البَغْدَادِيُّ (المتوفى: 489هـ) كتبه وجمع الناس عليه: الخليفة القادر بالله (المتوفى: 22هـ) دراسة وتحقيق: عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف الناشر: مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج 18، ع 39، ذو الحجة 1427 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الاعتقاد القادري أبو طاهر الكرجي الكتاب: الاعتقاد القادري المؤلف: أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بنُ الحَسَنِ بنِ أَحْمَدَ بنِ الحَسَنِ بنِ خُدَادَادَ الكَرَجِيُّ، البَاقِلاَّنِيُّ، البَغْدَادِيُّ (المتوفى: 489هـ) كتبه وجمع الناس عليه: الخليفة القادر بالله (المتوفى: 22هـ) دراسة وتحقيق: عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف الناشر: مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها، ج 18، ع 39، ذو الحجة 1427 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الاعتقاد القادري دراسة وتعليق إعداد د. عبد العزيز بن محمد بن علي آل عبد اللطيف عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ملخص البحث يهدف هذا البحث إلى إبراز جهود الخليفة العباسي القادر بالله (ت 422هـ) في سبيل إظهار الإسلام وإقامة السنة. فالفصل الأول يتحدث عن نبذة موجزة عن سيرة القادر بالله، ثم يعرض جهوده في إقامة الإسلام والسنة، كإظهار الشروط العمرية، وإظهار مذهب أهل السنة واستتابة المبتدعة، وجهوده ضد الباطنية. ويتحدث الفصل الثاني عن الاعتقاد القادري، من جهة التحقيق في مؤلفه، ومناسبة تصنيفه، وكذا التحقيق في متن الاعتقاد القادري، والتعليق عليه، وما يتضمنه من مزايا، ما أعقب تدوينه من ثمرات وآثار، ويسبق هذين الفصلين تمهيدٌ يحوي أمثلة من جهود خلفاء بني العباس في إظهار الإسلام والسنة، كما يلحقه خاتمة تتضمن نتائج البحث.. مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: تميّزت سيرة الخليفة العباسي القادر بالله - رحمه الله - بمزايا ومواقف رائعة تقتضي البحث والتصنيف، فقد أظهر الإسلام وأقام السنة، فألزم أهل الذمة الشروط العمرية، وهتك أستار الباطنية، وطعن في نسب العبيديين، وذلك في وقت استفحل شأنهم وكثر دعاتهم، كما استتاب المبتدعة وقمعهم، وانتصر لأهل السنة. ومن مآثره أنه كتب الاعتقاد القادري، وهو اعتقاد يستحق الدراسة والتأليف لجملة أمور منها:- (أن هذا الاعتقاد على طريقة أهل السنة والجماعة، وقد أثنى عليه أئمة من أهل السنة كابن تيمية والذهبي وابن كثير وغيرهم. (أن لهذا الاعتقاد أثره الإيجابي ونفعه المتعدي في إظهار مذهب أهل السنة ومدافعة أهل البدعة، بل إن آثاره لم تقف عند بلد معيّن أو عصر محدد - كما سيأتي مفصّلاً - (يحتاج هذا الاعتقاد إلى تحقيق في مؤلفه، فمن قائل أن مؤلفه الخليفة القادر بالله، ومن قائل أن مؤلفه أبو أحمد الكرجي.. (كما أن متن الاعتقاد يحتاج إلى تحرير، فإن من أهل العلم من يقول: إنه طويل، مع أن المثبت منه لا يزيد عن بضع صفحات. (أن للاعتقاد القادري مزايا كثيرة ومهمة، قلما تجتمع في أكثر المتون، وهي مزايا تستحق الإظهار والبيان. فلعل هذا البحث القاصر يحقق ما آمله وأرجوه، والله المستعان وعليه التكلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 خطة البحث تتكون خطة البحث من مقدمة وتمهيد وفصلين وخاتمة. المقدمة: وتتضمن أهمية الموضوع، وأسباب اختياره. التمهيد: نبذة موجزة عن جهود خلفاء بني العباس في إظهار الإسلام والسنة. الفصل الأول: الخليفة القادر بالله وجهوده في إظهار الإسلام والسنة وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: نبذة موجزة عن سيرة الخليفة القادر بالله. المبحث الثاني: إظهاره الشروط العمرية. المبحث الثالث: إظهاره مذهب أهل السنة واستتابة المبتدعة. المبحث الرابع: جهوده تجاه الباطنية. الفصل الثاني: الاعتقاد القادري. وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: التحقيق في مؤلف الاعتقاد، ومناسبة تأليفه. المبحث الثاني: متن الاعتقاد القادري. المبحث الثالث: مزايا الاعتقاد القادري. المبحث الرابع: آثار الاعتقاد القادري. خاتمة: تتضمن نتائج البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 التمهيد : نبذة موجزة عن جهود خلفاء بني العباس في إظهار الإسلام السنة يحوي هذا التمهيد أمثلة مختارة من خلفاء بني العباس الذين لهم جهود متميزة في سبيل إظهار السنة وإقامة دين الله تعالى، وسيكون الحديث عن ذلك على النحو الآتي: المهدي:- وصفه الذهبي (1) بقوله: "إنه خائف من الله، معادٍ لأولي الضلالة، حَنِق عليهم. (2) " ومن جهوده في نصر الإسلام والسنة، أنه منع الناس من الكلام والخوض فيه (3) . وأهمّ الخليفة المهدي (4) أمر الزنادقة، فجدّ في طلبهم، وتتبعهم في سائر الآفاق، واستحضرهم، وقتلهم صبراً بين يديه (5) . كما أوصى المهدي بنيه باستئصال الزنادقة (6) ، فقال لابنه موسى (الهادي) : "يا بني، إن صار لك هذا الأمر، فتجرّد لهذه العصابة - يعني أصحاب ماني- فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم، وترك قتل الهوام تحرّجاً، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين، أحدهما: النور، والآخر: الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات ... فارفع فيها الخشب، وجرّد فيها السيف، وتقرّب بأمرها إلى الله لا شريك له. (7) " وقد أثنى شيخ لإسلام ابن تيمية (8) على المهدي؛ لما حصل في عهده من إظهار الإسلام والسنة، وقمع الكفر والبدعة. يقول ابن تيمية: " تجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوى كانت السنة وأهلها وأظهر وأقوى، وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك، مثل دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان، ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين، كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر، وأهل البدع أذل وأقل، فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من لا يحصي عدده إلا الله.   (1) . هو أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي، الإمام، الحافظ، المؤرخ، ولد سنة 673هـ بدمشق، له رحلات في طلب العلم، وصاحب مؤلفات كثيرة، توفي بدمشق سنة 748هـ. انظر: طبقات الشافعية 9/100، والبدر الطالع 2/110. (2) . سير إعلام النبلاء 7/403، وانظر: تاريخ الإسلام 10/444. (3) . انظر: المرجع السابق، 7/400، وتاريخ الإسلام 10/439. (4) . هو أبو عبد الله محمد بن أبي جعفر المنصور، ولد سنة 127هـ بأرض فارس، ولي الخلافة بعد وفاة أبيه، فردّ المظالم، وأحسن إلى الرعية، وقتل الزنادقة، وتوفي سنة 169هـ. انظر: تاريخ بغداد 5/391، وسير أعلام النبلاء 7/400. (5) . انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري 8/167، المنتظم لابن الجوزي 8/287، والبداية لابن كثير 10/149. (6) . الزندقة: لفظ أعجمي معرب، أخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام، ويطلق الزنديق على كل من: المجوسي، الدهري، والمنافق والجهمي. انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي صـ 31، والسبعينية لابن تيمية صـ 338، وفتح الباري 12/271. (7) . تاريخ الطبري 8/220 = باختصار، وانظر: تاريخ الاسلام للذهبي 10/444. (8) . هو أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيمية الحراني، الإمام الفقيه، المجتهد، المحدث، الحافظ، المفسر، الأصولي، الزاهد، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أفتى ودرّس وهو دون العشرين، وله مئات التصانيف، توفي سنة 728هـ. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/287، والعقود الدرية لابن عبد الهادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 - إلى أن قال- وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس، وأحسنهم إيماناً وعدلاً وجوداً، فصار يتتبع المنافقين الزنادقة. (1) ". ومن مناقب المهدي أيضاً: أنه ردّ المظالم (2) ، وأطلق خلقاً كثيراً من السجن. لقد أصلح الله تعالى المهدي دين هذه الأمة، فحقق نصراً للإسلام بقتل الزنادقة، كما حقق ظهوراً للسنة بمنعه الكلام وبغضه أهل الأهواء. كما جرى على يديه صلاح لدنيا الأمة من خلال إحسانه للرعية والرحمة بهم.. الرشيد:- قال ابن كثير في وصفه: "فضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جداً، قد ذكر الأئمة من ذلك شيئاً كثيراً، وقد كان الفضيل بن عياض يقول: ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمري، وقالوا: فلما مات الرشيد، وظهرت تلك الفتن والحوادث والاختلافات، وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك (3) ." لقد كان الرشيد (4) - رحمه الله - على طريقة أهل السنة من التعظيم والتسليم لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما هو واضح جلي في تلك الحكاية التي ساقها شيخ الإسلام الصابوني بسنده أن أبا معاوية الضرير حدّث هارون الرشيد بحديث أبي هريرة " احتج آدم وموسى.. (5) " فقال أحد الحاضرين: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما! فوثب به هارون، وقال: يحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعارضه بكيف (6) وفي رواية أخرى: " أن الرشيد غضب من ذلك غضباً شديداً، وقال: أتعترض على الحديث؟ عليّ بالنطع والسيف، فأحضر ذلك، فقام الناس إليه، يشفعون فيه، فقال الرشيد: هذه زندقة، ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبره من ألقى إليه هذا، فأقسم ذلك الرجل بالأيْمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة منه، وأنه يستغفر الله   (1) . نقض المنطق صـ 18، 19 = باختصار (2) . انظر: تاريخ بغداد للخطيب 5/393. (3) . البداية 10/221. (4) . هو أبو جعفر هارون بن المهدي بن المنصور، ولد بالري سنة 148هـ، كان أن أنبل الخلفاء، وأحشم الملوك، ذا حج وجهاد، وشجاعة ورأي، ومحاسنه كثيرة، وله أخبار شائعة في اللهو، توفي سنة 254هـ. انظر: سيرة أعلام النبلاء 9/286، تاريخ بغداد 14/5. (5) . أخرجه البخاري، ك القدر ح (6614) ، مسلم، ك القدر ح (2652) . (6) . أخرجه الصابوني في عقيدة السلف صـ 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ويتوب إليها منها، فأطلقه (1) ." وقال الصابوني (2) - بعد إيراده القصة -:- هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقابله بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد -رحمه الله- مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بكيف، على طريق الإنكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقه بالقبول.. (3) " كما عرف الرشيد بكراهيته للمراء والكلام والجدال (4) ، وكان يقول عن المراء في الدين: "إنه لخليق أن لا ينتج خيراً، وبالحرى ألا يكون فيه ثواب. (5) " إضافة إلى ذلك فقد أثنى عليه الأئمة، -كابن تيمية والذهبي ونحوهما- بكثرة الحج والغزو والجهاد في سبيل الله تعالى (6) . ومن قيامة بدين الله تعالى أنه أمر بهدم ما استحدث من الكنائس في مصر والعراق امتثالاً للأدلة الشرعية (7) . لاسيما وأن أبا يوسف - رحمه الله - قد أوصاه بهدم ما أحدث من بيعة أو كنيسة، كما جاء في كتاب الخراج، والذي ألّفه أبو يوسف استجابة لطلب الرشيد (8) . المتوكل: اشتهر المتوكل (9) بإظهار السنة وإخماد البدعة، وإقامة شرع الله تعالى في أهل الذمة، كما أنه قتل من ارتد عن دين الله عز وجل. يقول الحافظ ابن كثير: "لما ولي المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بولايته، فإنه كان محباً للسنة وأهلها، ورفع المحنة عن الناس، وكتب إلى الآفاق لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن.. (10) " وقال أيضا: "كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكف عن   (1) . البداية لابن كثير 10/215 = باختصار يسير. (2) . إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني الشافعي، محدث، فقيه، مفسر، واعظ، نصر السنة في خراسان، ولقِّب شيخ الإسلام، توفي سنة 449هـ. انظر: طبقات الشافعية 4/271، وسير أعلام النبلاء 18/40. (3) . عقيدة السلف وأصحاب الحديث صـ 321. (4) . انظر: تاريخ الطبري 8/347، وتاريخ بغداد 14/7، وسير أعلام النبلاء، 9/287، وتاريخ الإسلام 13/426. (5) . تاريخ الطبري 8/347، وتاريخ بغداد 14/7. (6) . انظر: نقض المنطق صـ 19، وسير أعلام النبلاء 9/287. (7) . انظر: جامع المسائل لابن تيمية 3/370، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 2/675. (8) . انظر: كتاب الخراج لأبي يوسف صـ 294، 295. (9) . هو أبو الفضل جعفر بن المعتصم بالله بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، ولد سنة 205هـ، ولي الخلافة بعد أخيه الواثق، فأظهر السنة وقمع البدعة، قتل سنة 247هـ. انظر: تاريخ بغداد 7/165، وسير أعلام النبلاء 12/30. (10) . البداية 10/337، وانظر: 10/351، وسير أعلام البنلاء 12/31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت، وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل.. وارتفعت السنة جداً في أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لا يولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد.. (1) " لقد أظهر المتوكل السنة ونشر الحديث، فأمر الفقهاء والمحدثين أن يجلسوا للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الردّ على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية والصفات. (2) وساق الخطيب البغدادي بسنده أن إبراهيم بن محمد التيمي قاضي البصرة يقول: "والخلفاء ثلاثة أبو بكر الصدّيق، قاتل أهل الردة حتى استجابوا له، وعمر بن عبد العزيز ردّ مظالم بني أمية، والمتوكل محا البدعة وأظهر السنة. (3) " وأما عن إقامته شرع الله تعالى في أهل الذمة، فيتمثّل ذلك بإلزامهم الشروط العُمرية، وهدم ما استحدثوا من الكنائس. ولذا قال ابن تيمية: "وكان في أيام المتوكل قد عزّ الإسلام، حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا الصغار. (4) " ولما ألزم المتوكل أهل الكتاب بشروط عمر الفاروق >، استفتى علماء وقته في هدم الكنائس والبيع، فأجابوه، فبعث بأجوبتهم إلى الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سواد العراق. (5) وقد بسط ذلك ابن كثير في تاريخه، فكان مما قاله:- "أمر المتوكل أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم.. وأن لا يُستعملوا في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم، وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة.. وأمر بتسوية قبورهم بالأرض، وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والآفاق. (6) " ومن محامد المتوكل أنه صادر أموال أحمد بن أبي داود، وسجن أصحابه، وأطلق من   (1) . البداية 10/316 = باختصار (2) . انظر: المنتظم 11/207، وسير أعلام النبلاء 12/34. (3) . تاريخ بغداد 7/170، وانظر: المنتظم 11/170. (4) . نقض المنطق صـ 20. (5) . انظر: جامع المسائل لابن تيمية 3/270، وأحكام أهل الذمة 2/691، 693، 700. (6) . البداية 10/313، 314 = باختصار، وانظر: تاريخ الطبري 9/196، والكامل لابن الأثير 7/52، والمنتظم 11/222، 238، 265، وسير أعلام النبلاء 12/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 كان حبسه الواثق ممن امتنع من القول بخلق القرآن، كما أمر بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، ودفعه إلى أوليائه (1) . كما أمر المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان بغداد؛ لأنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم، فضُرب بالسياط حتى هلك، ثم رمي به في نهر دجلة. (2) . وقتل المتوكل رجلاً كان نصرانياً فأسلم، ومكث سنين كثيرة، ثم ارتد فاستتيب، فأبى الرجوع إلى الإسلام، فضربت عنقه (3) . ولما ظهر شخص يزعم أنه ذو القرنين ويدّعي النبوة، أمر المتوكل بضربه بالسياط، فضرب ضرباً شديداً، فمات من بعد ضربه ذلك (4) . ولما توفي المتوكل، رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قيل له: بماذا؟ قال: بقليل من السنة أحييتها (5) . وبالنظر في جهود هؤلاء الخلفاء الثلاثة (المهدي والرشيد والمتوكل) نلحظ أنها جهود ظاهرة قوية، ومساعي جليلة في سبيل الإسلام والسنة، ومع أن خلفاء بني العبّاس المتأخرين لهم جهودهم في هذا المجال، إلا أنها لا تبلغ درجة أولئك الخلفاء السابقين في العصر العباسي الأول. فالمعتضد (6) مثلاً يُحمد على ما قام به إزالة سنة المجوس، وإبطال ما يُفعل في عيد النيروز من إيقاد النار، وصب الماء على الناس (7) . كما نهى الطرقية والمنجمين ونحوهم من الجلوس في المساجد والطرقات، ونهى عن بيع كتب الكلام والفلسفة والجدل بين الناس (8) . وأما المقتدي بأمر الله (9) فقد أحسن بإحيائه شعيرة الأمر بالمعروف في جميع البلدان، وإلزام أهل الذمة بلبس الغيار، وكسر آلات الملاهي، وإراقة الخمور، وإخراج أهل الفساد من البلاد (10) . وكذا الخليفة المستضيئ بأمر الله (11) "كان من خيار الخلفاء، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، مزيلاً عن الناس المكوسات والضرائب، ومبطلاً للبدع والمصائب. (12) "   (1) . انظر: المنتظم 11/251، وسير أعلام النبلاء 12/36، والبداية لابن كثير 10/316. (2) . انظر: تاريخ الطبري 9/201، والمنتظم 11/283، والبداية 10/323. (3) . انظر: تاريخ الطبري 9/207، والمنتظم 11/296. (4) . انظر: تاريخ الطبري 9/175، والكامل 7/50، والمنتظم 11/223، والبداية 10/314. (5) . انظر: تاريخ بغداد 7/170، 171، والبداية 10/351. (6) . هو أبو العباس أحمد بن الموفق بالله بن المتوكل، ولد سنة 242هـ، كان ملكاً مهيباً شجاعاً، حارب الزنج ونشر العدل، توفي سنة 289هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 13/463، وتاريخ بغداد 4/403. (7) . انظر: تاريخ الطبري 10/39، 53، وتاريخ الإسلام للذهبي 21/7. (8) . انظر: المنتظم 12/305، والبداية 11/64. (9) . هو أبو القاسم عبيد الله بن ذخيرة الدين بن القائم بأمر الله بن القادر بأمر الله، كان حسن السيرة فقد أزال المنكرات، توفي سنة 478هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 18/318، وشذرات الذهب 3/380. (10) . انظر: المنتظم 16/166، والكامل 10/23، وسير أعلام النبلاء 18/318، وابن كثير 12/137. (11) . هو أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد بن المقتفي، ولد سنة 536هـ، وولي الخلافة سنة 566هـ، كان من خيار الخلفاء، وكان عادلاً كريماً، توفي سنة 575هـ. انظر: البداية 12/304، شذرات الذهب 4/251. (12) . البداية لابن كثير 12/304. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وكان المستضيئ حريصاً على حضور مجالس ابن الجوزي ومواعظه (1) ، كما أمر المستضيئ بتقوية ابن الجوزي وتأييده من أجل إزالة الرفض (2) . بعد هذه النبذة الموجزة عن جهود خلفاء بني العباس في إظهار الإسلام والسنة، فيمكن التساؤل: أين تقع جهود الخليفة القادر بالله؟ هل تلحقه بالخلفاء المتقدمين أم المتأخرين؟ هذا ما سيتضح جوابه في الفصل الآتي. الفصل الأول: الخليفة القادر بالله وجهوده في إظهار الإسلام والسنة المبحث الأول: نبذة موجزة عن سيرة الخليفة القادر الله هو أبو العباس أحمد ابن الأمير إسحاق ابن الخليفة المتوكل ابن الخليفة المقتدر ابن الخليفة المعتضد ابن الأمير طلحة ابن الخليفة المتوكل ابن الخليفة المعتصم ابن الخليفة هارون المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور الهاشمي العباسي البغدادي. ولد سنة ست وثلاثين وثلاث مائة (3) . كان أبيض حسن الوجه، كثّ اللحية، يخضب (4) ، "وكان من الستر والديانة وإدامة التهجد بالليل، وكثرة البر والصدقات على صفة اشتهرت عنه، وعرف بها عند كل أحد (5) ." ووصفه بعض المؤرخين قائلا: "كان امرءاً صالحاً ورعاً تقياً، حسن الخليقة، جميل الطريقة، طلق النفس، كثير المعروف (6) ." وقال آخر: " كان عابداً زاهداً، يصحب العلماء، ولا يدخر شيئاً، ومكرماً للحديث وأهله (7) ." وأما عن خلافته فقد ولي الخلافة سنة 381هـ، إلى أن توفي سنة 422هـ، عن ست وثمانين عاماً، ولم يعمر أحد من الخلفاء قبله ولا بعده، مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سنة، وهذا ما لم يسبقه أحد إليه (8) .   (1) . انظر: المنتظم 18/218، 219، 221، 226، 229، 230، 231، 232، 235، 238، 248، 250. (2) . انظر: المنتظم 18/222، والفروع لابن مفلح 6/110. (3) . انظر: تاريخ بغداد 4/37، وطبقات الشافعية للأسنوي 2/310، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي 4/275. (4) . انظر: تاريخ بغداد 4/37، والكامل 9/415، وطبقات السبكي 2/311. (5) . تاريخ بغداد 4/37، وانظر: خلاصة الذهب للأربلي صـ 261، وسير أعلام النبلاء 15/127. (6) . أخبار الدول المنقطعة لعلي بن ظافر الحلبي صـ 256، وانظر: البداية 12/31. (7) . مختصر تاريخ الخلفاء لمغلطاي البكجري صـ 142. (8) . انظر: تاريخ بغداد 4/38، والمنتظم 15/220، وطبقات ابن الصلاح 1/325، والوافي بالوفيات 6/240، والبداية 11/308، 12/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وكان القادر من خيار الخلفاء، حيث أظهر الإسلام والسنة - كما سيأتي مفصلاً في موضعه- وأقام العدل، وفي هذا المقام يقول ابن الأثير: "وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك، فلما وليها القادر بالله أعاد جدّتها، وجدّد ناموسها، وألقى الله هيبته في قلوب الخلق، فأطاعوه أحسن طاعة وأتمها (1) ." وساق الصفدي حكاية طريفة تجلي حسن سياسة القادر ورفقه بالرعية، حيث قال الصفدي:- "بينما القادر ذات ليلة يمشي في أسواق بغداد، إذا سمع شخصاً يقول لآخر: قد طالت علينا دولة هذا الشؤم، وليس لأحد عنده نصيب، فأمر خادمًا كان معه أن يتوكل به، ويُحضره بين يديه فما شك أن يبطش، فسأله عن صنعته، فقال: إني كنت من السُعاة الذين يستعين بهم أرباب هذا الأمر على معرفة أحوال الناس - يريد أصحاب المطالعات- فمنذ ولي أمير المؤمنين أقصانا، وأظهر الاستغناء عنّا، فتعاطلت معيشتنا، وانكسر جاهنا عند الناس، فقال له: أتعرف من في بغداد من السعاة؟ قال: نعم، فأحضر كاتباً فكتب أسماءهم، وأمر بإحضارهم، ثم إنه أجرى لكل واحد منهم معلوماً، ونفاهم إلى الثغور القاصية ورتّبهم هناك عيوناً على أعداء الدين، ثم التفت إلى من حوله وقال: اعلموا أن أولئك ركّب الله فيهم شراً، وملأ صدورهم حقداً على العالم، ولا بدّ لهم من إفراغ ذلك الشر، فالأولى أن يكون ذلك في أعداء الدين، ولا ننغِّص بهم على المسلمين (2) ." فيلحظ الناظر إلى هذه الحكاية ما عليه القادر بالله من تفقد أحوال الرعية، وتجاوز عثراتهم، والإشفاق عليهم، حيث أجرى لأولئك القوم العطاء، كما يلحظ حسن تدبيره وسياسته إذا صرف هؤلاء القوم - أرباب المطالعات والتجسس - إلى ما هو أنفع فجعلهم عيوناً على أعداء الدين. ومما يجدر ذكره أن القادر بالله يعدّ من أهل العلم وساداتهم، حتى أن ابن الصلاح عدّه من فقهاء الشافعية، وأنه من خيار خلفاء بني العباس وأحبارهم (3) .   (1) . الكامل 9/415، وانظر: 9/81. (2) . الوافي بالوفيات 6/241. (3) . انظر: طبقات الشافعية لابن الصلاح 1/324، والبداية 11/309، وتاريخ الخلفاء للسيوطي صـ 491. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وقد درس القادر على أحمد بن محمد الهروي (1) أحد فقهاء الشافعية (2) . توفي القادر بالله - رحمه الله - ببغداد سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. أثنى العلماء على القادر ثناءً حسناً، فوصفه صاحب ذيل تجارب الأمم بقوله:- "سلك من طريق الزهد والورع ما تقدمت فيه خطاه، فكان راهب بني العباس حقاً، وزاهدهم صدقاً ساس الدنيا والدين، وأغاث الإسلام والمسلمين، واستأنف في سياسة الأمر طرائق قويمة، ومسالك مأمونة، لم تعرف منه زلة، ولا ذمت له خلة، فطالت أيامه، وطابت أخباره، وأقفيت آثاره، وبقيت على ذريته الشريفة أنواره. (3) " وقال عنه الحافظ الذهبي:- "كان حسن الطريقة، كثير المعروف، فيه دين وخير. (4) " والمقصود أن الخليفة القادر قد اجتمع فيه من خصال الخير ما لا يجتمع في أغلب الخلفاء، فهو من أهل العبادة والديانة، وأصحاب البر والصدقات، أوتي علماً وفقهاً، كما أقام العدل وأحسن إلى الرعية. المبحث الثاني: إظهاره الشروط العمرية لم أعثر - حسب اطلاعي - في شأن إظهار القادر الشروط العمرية إلا على معلومات يسيرة. فقد ساق ابن الجوزي الواقعة التي تبدو سبباً في إلزام النصارى بالشروط العمرية، وخلاصة هذه الواقعة أن في سنة 403هـ توفيت زوجة ابن أبي إسرائيل أحد رؤساء النصارى، فأُخرجت جنازتها، ومعها الطبول والصلبان والشموع، فأنكر ذلك بعض الهاشميين، فضربه بعض النصارى بدبوس في رأسه، فشجه، فثار المسلمون بهم، فانهزموا حتى لجأوا إلى كنيسة لهم هناك، فدخلت العامة إليها فنهبوا ما فيها، وما قرب منها من دور النصاري، قصدوا ابن أبي إسرائيل، فقاتلهم غلمانه، وانتشرت الفتنة ببغداد، وغلقت الجوامع، وقصد الناس الخليفة، فأمر بإحضار ابن أبي إسرائيل، فامتنع، فاشتدت الفتنة، ثم أحضر ابن أبي إسرائيل إلى دار الخلافة، فسكنت الفتنة، ثم أفرج عن ابن أبي إسرائيل. (5)   (1) . أبو حامد أحمد بن محمد الهروي، حافظ، مفسر، فقيه، توفي سنة 358هـ. انظر: طبقات الشافعية 3/45، سير أعلام النبلاء 16/273. (2) . انظر: تاريخ بغداد 4/38، والكامل 9/414، والمنتظم 15/220. (3) . ذيل كتاب تجارب الأمم للروذراوري 3/207، 208. (4) . تاريخ الإسلام 27/7. (5) . انظر: المنتظم 15/91، 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 ويمكن التعليق على هذه الحادثة بما يلي:- 1 - أظهر القادر بالله الشروط العمرية عقب هذه الحادثة، فألزم أهل الذمة بلبس الغيار.. فالنصارى - في تلك الحادثة - مخالفون للشروط العمرية التي اشترطها عمر الفاروق > على أهل الذمة من النصارى وغيرهم.. فإن مما شرطوه على أنفسهم:- "لا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر صليباً.. (1) "، وهذه الشروط مجمع عليها في الجملة بين العلماء. (2) وقد أحسن القادر في إحياء وتجديد هذه الشروط التي جددها الخلفاء السابقون أمثال عمر بن عبد العزيز، وهارون الرشيد، والمتوكل ونحوهم. (3) وأثنى شيخ الإسلام على هذا الصنيع فقال:- "وكان في أيام المتوكل قد عز الإسلام حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية، وألزموا الصغار، فعزت السنة والجماعة، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم، وكذلك في أيام المعتضد والمهدي والقادر، وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة، وأحسن طريقة من غيرهم، وكان الإسلام في زمنهم أعز، وكانت السنة بحسب ذلك. (4) " 2- نلحظ - في هذه الواقعة - التفات عامة المسلمين إلى الخليفة القادر، وميلهم إليه، حيث قصدوا دار الخلافة. كما يتجلى اهتمام القادر بالرعية، وحسن سياسته وتدبيره تجاه هذه الفتنة، فقد أنكر الخليفة ما جرى، وطالب بإحضار ابن أبي إسرائيل وتسليمه، من أجل إخماد الفتنة، فلما أُحضر إلى دار الخلافة، كفّ العامة وسكنت الفتنة، ثم أفرج عن ابن أبي إسرائيل. 3- لا يخلو زمن خلافة القادر من أحداث تحكي شغب النصارى، وبغيهم على المسلمين، وظلم بعض عامة المسلمين للنصارى. (5) لكن بإلزام النصارى الشروط العمرية سنة 403هـ اختفى الشغب واستقرت الأحوال، وكما اعترف بذلك جان مورييس فييه أحد النصارى المعاصرين. (6) 4- لعل إظهار القادر الشروط العمرية من أسباب تمكينه وتحقيق هيبته، ورحم الله   (1) . اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/320، 321، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 2/659 -662. (2) . انظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/321، وأحكام الذمة 2/663. (3) . مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/654، 655. (4) . نقص المنطق صـ 20. (5) . انظر: الكامل 9/136، والبداية 11/330. (6) . انظر: أحوال النصارى في خلاصة بني العباس لجان فييه صـ 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول:- "وكل من عرف سير الناس وملوكهم، رأى كل من كان أنصر لدين الإسلام، وأعظم جهاداً لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله أعظم نصرة وطاعة وحرمة، من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وإلى الآن. (1) " 5- تعصّب جان موريس فييه ضد القادر بالله، واتهمه بضعف الشخصية، وعدم الاستقلال برأيه!! حيث عقد مبحثاً مستقلاً عن أحوال النصارى من خلافة القادر (2) ، وحوى ذلك المبحث جملة من المغالطات والأكاذيب التي ليس هذا موضع فقدها. والذي يهمنا في هذا الموطن، ما ادّعاه من ضعف القادر، وأن سبب طول حياته بسبب ضعف سلطته! وذاك تحامل مكشوف، ودعوى مردودة، لاسيما وأن الكاتب نفسه قد نقض ذلك، حيث اعترف بتدّخل الخليفة - في حادثة جنازة النصرانية- ومبادرته إلى علاج هذه الفتنة وقدرته على احتوائها، وإن إظهاره الشروط العمرية سبب في تحقيق الهدوء! وكيف يوصف القادر بالله بضعف الشخصية، وأنه لا يستقل برأي، وقد أعاد للخلافة ناموسها، وألقى الله هيبته في قلوب الخلق - كما سبق ذكره- كما أنه استتاب أهل البدع - مع اشتهارهم- وغلّظ عليهم، وهتك أحوال العبيديين - وهم في أوج تسلّطهم - وشجع على كشف أستارهم وزندقتهم - كما سيأتي بيانه- إضافة إلى إظهاره الشروط العمرية، وظهور قوته تجاه البويهيين (3) !؟ وكما يقول د. عبد المجيد بدوي:-: "كان القادر نسيجاً وحده بين الخلفاء من بني العباس الذين عاصروا بني بويه، فلا غرابة أن يكون أقواهم، وأن يكون أول خليفة يعلن التمرد على البويهيين، ويحاول التخلص من سيطرتهم (4) ."   (1) . مجموع الفتاوى 28/640. (2) . انظر: أحوال النصارى في خلافة بني العباس صـ 255 - 275. (3) . انظر: التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني لعبد المجيد البدوي صـ 64. (4) . المرجع السابق صـ 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 المبحث الثالث: إظهاره مذهب أهل السنة واستتابة المبتدعة ولي القادر بالله الخلافة في زمن استفحلت فيه البدع والمحدثات، فظهر الرفض والاعتزال، وانتشرت دعوة العبيدين. (1) وكما يقول المقريزي - عن خلافة القادر -: "وفي أيامه عظمت الباطنية، واشتهر مذهب الاعتزال، والرافضة. (2) " إضافة إلى ذلك فقد وقع في خلافته الكثير من الفتن والقلاقل بين الرافضة وعوام أهل السنة. (3) ومع ذلك كله فقد تحرك القادر بالله، فأظهر السنة، وسعى إلى إخماد البدع، ونصر مذهب أهل السنة، واستتاب المبتدعة، وغلّظ عليهم - كما سيأتي بيانه- (ففي سنة 408هـ استتاب القادر فقهاء المعتزلة، فأظهروا الرجوع، وتبرأوا من الاعتزال، ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأنهم متى خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم. (4) واشتهرت هذه الواقعة، فساقها الأئمة في مؤلفاتهم، وأثنوا على القادر بذلك. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:- "ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام، وجهاد أعدائه، حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر، حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة.. وكذلك الخليفة القادر ربما اهتم بذلك، واستتاب المعتزلة من الفقهاء.. (5) " ويقول: - في موضع آخر:- "وكانت قد انتشرت إذ ذاك دعوة الملاحدة المنافقين.. (6) وكان هذا مما دعا القادر إلى إظهار السنة، وقمع أهل البدع، فكتب الاعتقاد القادري.. وأمر باستتابة من خالف ذلك من المعتزلة وغيره. (7) "   (1) . انظر: نقض التأسيس 2/331. (2) . السلوك لمعرفة دول الملوك 1/125. (3) . انظر: المنتظم لابن الجوزي 15/11، 198، 213، 214، والكامل 9/295، 305، 336، والبداية 11/325، 12/ 2، 6. (4) . انظر: المنتظم 15/125، 176، والكامل 9/305، وتاريخ الإسلام 28/27، والبداية 12/6. (5) . نقض المنطق صـ 13 = باختصار (6) . يعني العبيديين، والذين يزعمون أنهم فاطميون. (7) . نقض التأسيس 2/331 = باختصار، وانظر: الصفدية 2/162، والدرء 6/252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وقال الحافظ الذهبي:- "وفيها استتاب القادر بالله - وكان صاحب سنّة- طائفة من المعتزلة والرافضة، وأخذ خطوطهم بالتوبة. (1) " وقال ابن القيم (2) :- "وكان [القادر] قد استتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم.. فتحرك ولاة الأمور لإظهار السنة. (3) " (ونسوق دليلاً ثالثاً على جهود القادر في إظهار مذهب أهل السنة، ومحاربة البدعة، كما في الواقعة الآتية: ففي سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة أحضرتْ الشيعة مصحفاً، يدّعون أنه مصحف عبد الله بن مسعود > وهو يخالف المصاحف كلها، فجمع الأشراف والقضاة والفقهاء، وعرض المصحف عليهم، فأشار أبو حامد الأسفراييني بتحريقه، ففعل ذلك بمحضر منهم، لغضب الشيعة غضباً شديداً، وعزموا على إيذاء أبي حامد، وأوقعوا شغباً وفتنة، فغضب الخليفة القادر، وأرسل أعوانه لنصرة أهل السنة، وعوقب من كانت له يد في الفتنة، فهدأت البلاد، واستقرت الأحوال. (4) فهؤلاء العلماء - بما آتاهم الله من علم وبصيرة، وقوة وشجاعة في دين الله - أفتوا بتحريق هذا المصحف، وأوقعوه، وأما الخليفة القادر فقد أخمد الفتنة، وأزال شغب الشيعة وبغيهم. (ومن محامد الخليفة القادر أنه عزل خطباء الشيعة، واستبدل بهم خطباء من أهل السنة. وحكى ابن كثير هذه المحمدة قائلاً: " وعزل خطباء الشيعة، وولى خطباء السنة، ولله الحمد وعلى ذلك وغيره. (5) " ومن ذلك أن خطيب جامع براثا - وبراثا مأوى الرافضة- كان شيعياً غالياً،   (1) . العبر 3/98. (2) . هو الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، برع في علوم متعددة، كان واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذهب السلف، له تصانيف كثيرة، توفي بدمشق سنة 751هـ. انظر: البداية 14/234، والدرر الكامنة 4/21. (3) . الصواعق المرسلة 4/1286. (4) . انظر: المنتظم 15/59، وطبقات الشافعية للسبكي 4/65، والبداية 11/338، 339، وتاريخ الخلفاء للسيوطي صـ 488. (5) . البداية 12/26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فيذكر في خطبته أقوالاً غالية، وزندقة ظاهرة، كقوله: علي بن أبي طالب > محيي الأموات، البشري الإلهي..، فقُبض عليه، وجاء خطيب سني، فخطب الجمعة، فضربه عامة الشيعة، حتى كسروا أنفه وخلعوا كتفه، كادوا أن يقتلوه.. فانتصر الخليفة القادر لأهل السنة، وأهان الشيعة وأذلهم، وكتب الخليفة القادر كتاباً يحوي تفصيل هذا الواقعة، وما عند الرافضة من الإلحاد والانحراف، والتغليظ عليه وتهديدهم.. ثم اعتذر الرافضة عما فعلوه. (1) وإقصاء خطباء الشيعة وتولية خطباء من أهل السنة لهو دليل ظاهر على حكمة الخليفة القادر وقوته، فلا يخفى انتشار التشيع، وتغلغل نفوذهم آنذاك، سواءً من قبل البويهيين أو العبيديين، خاصة وأن الحاكم العبيدي قد بثّ دعاته في بلاد المشرق، فعمد الخليفة القادر إلى مدافعة ذلك فعزل خطباء الشيعة، وولّى خطباء من أهل السنة، من أجل نشر المذهب السني، وإيقاف المدّ الشيعي، ولما يحققه من نفوذ للخليفة العباسي. المبحث الرابع: جهوده تجاه الباطنية استفحل نفوذ العبيديين - في عصر القادر بالله - فنشط دعاتهم في نشر المذهب الباطني، وانتشروا في أطراف البلاد، فكان رسل العبيديين ودعاتهم يفدون من مصر إلى الأمراء والسلاطين، فدخل بعضهم في دعوتهم (2) ، وخطب بعض الأمراء للحاكم العبيدي وأظهر الطاعة له (3) ، بل أفضى الأمر إلى الخطبة في الحرمين سنة 396هـ، وأمِر الناس بالقيام عند ذكره.. قال الحافظ الذهبي- معلقاً على تلك الحادثة -:- "فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد كان هؤلاء العبيديون شراً على الإسلام وأهله من الشر. (4) " وقد أشار شيخ الإسلام إلى انتشار دعوة الباطنية قائلاً: "وكانت قد انتشرت إذ ذاك دعوة الملاحدة المنافقين الذين كانوا إذ ذاك بمصر، وقد بنوا القاهرة وغيرها، ولهم دعاة من أقاصي الأرض بالمشرق وغيره، وكان والد ابن سينا منهم. وفي ذلك صنف الناس الكتب في كشف أسرارهم وهتك أستارهم.. (5) "   (1) . انظر: المنتظم 15/198 -201، والكامل 9/393، والعبر 3/134، 135، والبداية 12/26، ومرآة الجنان لليافعي 3/34، 35. (2) . انظر: الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي صـ 292، 293، وسير أعلام النبلاء 15/132، والبداية 12/29، وأصول الإسماعيلية 1/282. (3) . مثل بعض الولاء في أرض خوارزم، وفي المقابل فإن بعض الأمراء سخر من دعوة الحاكم قائلاً: إني لا أذكرك إلا على المستراح، وبعضهم كتب على ظهر كتابه: "قل يا أيها الكافرون"، وعمد بعض الأمراء إلى قتل بعض دعاة الحاكم. انظر: الفرق بين الفرق صـ 292. (4) . تاريخ الإسلام 27/234. (5) . نقض التأسيس 2/331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 لقد أدرك الخليفة القادر بالله خطورة المد الباطني، وانتشار دعوتهم، والتي ظاهرها التشيع والرفض، وحقيقتها الكفر المحض، لاسيما وإن قرواش بن مقلد - أمير الموصل وما حولها - خطب للحاكم العبيدي سنة إحدى وأربعمائة، وبالغ في مدحه والدعاء له، وكان سبب ذلك أن دعاة الحاكم العبيدي وهداياه، كانت تتوالى إلى قرواش، فمال إليهم. فلما بلغ الخبر الخليفة القادر بالله، كتب يعاتب قرواش على ما صنع، وعزم الخليفة على محاربته، فحينئذ رجع قرواش عن رأيه، وندم على ما كان منه، وأعاد الخطبة للقادر بالله. (1) وفي السنة التالية لتلك الواقعة (402هـ) اتخذ الخليفة القادر بالله - من أجل مواجهة العبيديين ودعوتهم - محضراً يتضمن الطعن في أنسابهم، ويكشف حقيقة مذهبهم، وأنهم زنادقة كفّار. وكتب هذا المحضر، وأقره جمع من الأشراف والقضاة والمحدثين والفقهاء والعدول، وخلاصة هذا المحضر: أن الفاطميين ملوك مصر، منسوبون إلى ديصان بن سعيد الخرّمي، فليسوا من أهل البيت، ولا نسب لهم في ولد عليّ بن أبي طالب >، ولا يتعلقون منه بسبب، وأن الذي ادّعوه إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أحداً من أهل بيوتات علي بن أبي طالب > توقف عن إطلاق القول في أنهم كذبة، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في أول أمرهم.. وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فسّاق فجار، ملحدون زنادقة، معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمور، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادّعوا الربوبية. (2) تتجلى - في هذا المحضر - قوة وشجاعة الخليفة القادر بالله تجاه العبيديين، عكس أسلافه السابقين كالمطيع والطائع، والذين غلب عليهم الضعف أمام رفض البويهيين، وباطنية العبيديين. (3) فإن هذا المحضر إنما كُتِب عقب نفوذ وظهور مذهب الباطنية (4) - في عصر القادر-   (1) . انظر: المنتظم 15/74-77، 327، والكامل 9/223، وسير أعلام النبلاء 15/177، والبداية 11/343. (2) . انظر: المنتظم 15/82، 83، وتاريخ الإسلام 28/11، وسير أعلام النبلاء 15/177، والبداية 11/345، 346، والنجوم الزاهرة 4/229. (3) . انظر: سير أعلام النبلاء 15/164. (4) . انظر: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وانتشار دعاتهم، كما أشار إليه الذهبي قائلاً: "وفي هذا الوقت انبثت دعاة الحاكم في الأطراف، فأمر القادر بعمل محضر يتضمن القدح في نسب العبيدية.. (1) " ويتميّز هذا المحضر بتقريرات قوية، وعبارات جامعة، فهو يجزم بأن العبيديين أدعياء، فلا نسب لهم في ولد عليّ، ولا يتعلقون منه بسبب، وإنما هم منسوبون إلى ديصان الخرّمي. كما يقطع المحضر بأن العبيديين زنادقة كفار، ويورد شيئاً من كفرهم البواح وإلحادهم الصراح، ومناقضتهم لجميع مقاصد الشريعة الخمسة (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال) ، فهم ملاحدة كفار، يسفكون الدماء، يستحلون الخمور، ويستبيحون الفروج والأموال.. وهذا المحضر يتفق تماماً مع تقريرات سائر العلماء والمؤرخين، كما بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:- "قد علم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس، أو اليهود، هذا مشهور من شهادة علماء الطوائف من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وأهل الحديث، وأهل الكلام، وعلماء النسب، والعامة، وغيرهم، وهذا أمر قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم.. - إلى أن قال - وسبب ذلك أن الأنساب المشهورة أمرها ظاهر متدارك مثل الشمس لا يقدر العدو أن يطفئه، وكذلك إسلام الرجل وصحة إيمانه بالله والرسول أمر لا يخفى. وهؤلاء بنو عبيد القداح ما زالت علماء الأمة المأمونون علماً وديناً يقدحون في نسبهم ودينهم، لا يذمونهم بالرفض، التشيع، فإن لهم في هذا شركاء كثيرين، بل يجعلونهم من القرامطة الباطنية.. الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.. (2) " وتبدو حكمة القادر بالله، وحسن تدبيره في شأن الذين شهدوا في هذا المحضر، فمنهم أشراف أعلام أقروا بالطعن في أنساب العبيديين، وأنهم لا يتصلون بآل البيت، كما أن الحكم   (1) . سير أعلام النبلاء 15/132. (2) . مجموع الفتاوى 35/128، 130، 131 = باختصار وانظر: سير أعلام النبلاء 15/154، والبداية 11/346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 على العبيديين بالكفر أو الإلحاد قد قرره جمع من أصناف العلماء سواءً كانوا من المحدثين أو الفقهاء أو القضاة. لقد بيّن هذا المحضر - على إيجازه - حقيقة العبيديين نسباً وديناً، وفضح نفاقهم، وهتك أستارهم، حتى اضطر الحاكم العبيدي في سنة 403هـ - وهي السنة التي تلي كتابة المحضر- إلى إظهار منع الناس من سبّ الصحابة - رضي الله عنهم - وعقوبة من فعل ذلك. (1) وكما أدى هذا المحضر إلى امتناع الحاكم عن سبّ الصحابة في السنة التي تلي كتابة المحضر، فإنه أعقب - بعد أكثر من أربعين سنة - إلى التذكير به، وإعادة تقريره - في خلافة القائم بأمر الله. ففي سنة 444هـ كُتِب محضر يتضمن القدح في أنساب العبيديين، وأنهم خارجون عن الإسلام، وأقر هذا المحضر جمع من الأشراف والعلماء والقضاة. (2) لقد كانت جهود الخليفة القادر ضد الباطنية ظاهرة جريئة، مما شجع العلماء على تأليف الكتب في الردّ على الباطنية، حيث صنّف القاضي أبو بكر الباقلاني في تلك الوقت كتابه في الردّ على الباطنية، أتباع الحاكم العبيدي، وسماه "كشف الأسرار وهتك الأستار" بيّن فيه قبائحهم، ووضح أمرهم لكل أحد، وكان يقول فيهم: هم قوم يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض. (3) كما صنّف علي بن سعيد الاصطخري - أحد شيوخ المعتزلة - للقادر بالله كتاب "الرد على الباطنية" فأجرى عليه جراية سنية، فلما توفي الاصطخري نقل جرايته إلى ابنته. (4) الاعتقاد القادري المبحث الأول: التحقيق في مؤلف الاعتقاد ومناسبة تأليفه اشتهر أن الاعتقاد القادري ألّفه الخليفة القادر بالله، كما حكاه أكثر المؤرخين، لكن بعض العلماء المحققين يقرر أن هذا الاعتقاد - في الأصل من تأليف أبي أحمد الكرجي (5) ، وكتابة القادر بالله، كما سيأتي توضيحه..   (1) . انظر: اتعاظ الحنفا 2/98، والنجوم الزاهرة 4/236، والتاريخ السياسي والفكري لبدوي صـ 74، 75. (2) . انظر: المنتظم 15/ 336. (3) . انظر: الصفدية لابن تيمية 2/162، والبداية 11/346. (4) . انظر: المنتظم 15/100، والبداية 11/352، والنجوم الزاهرة 4/236. (5) . أبو أحمد محمد بن علي بن محمد الكرجي، الغازي المجاهد، وعرف بالقصّاب لكثرة ما قتل من الكفار في مغازيه، له عدة مصنفات، عاش إلى حدود 360هـ، وفيه يقول أبو الحسن الكرجي: وفي الكرج الغراء أو حد عصره أبو أحمد القصّاب غير مغالب تصانيفه تبدي غزير علومه فلست ترى علماً له غير سارب. انظر: سير أعلام النبلاء 16/213، وتذكرة الحفاظ 3/938، والوافي بالوفيات 4/114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 يقول الخطيب البغدادي:- "وكان [القادر] صنّف كتاباً في الأصول، ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز، وإكفار المعتزلة، والقائلين بخلق القرآن. (1) " وحكى جمع من المؤرخين ما قرره الخطيب هاهنا، كالأسنوي (2) ، والصفدي (3) ، وابن الصلاح (4) ، وابن كثير (5) ، والروحي (6) ، والسيوطي (7) . ويقول ابن الجوزي - في حوادث سنة 420هـ:- "جُمع الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء في دار الخلافة، وقريء عليكم كتاب طويل عمله القادر بالله، يتضمن الوعظ، وتفصيل مذهب أهل السنة، والطعن على المعتزلة..إلخ (8) " وساق ابن كثير ما حكاه ابن الجوزي مختصراً. (9) لكن شيخ الإسلام ابن تيمية يقرر أن هذا الاعتقاد من جمع الشيخ أبي أحمد الكرجي القصاب، وكتابة الخليفة القادر بالله، إذا يقول: "كتب [القادر] الاعتقاد القادري المنسوب إليه، وهو في الأصل من جمع الشيخ أبي أحمد القصاب (10) ، وهو من أجل المشايخ وأعلمهم، وله لسان صدق. (11) " وقرر شيخ الإسلام - في موضع آخر - أن عامة الاعتقاد القادري من نظم أبي أحمد الكرجي، حيث قال: "وكتب الإمام القادر الاعتقاد القادري المعروف، وعامته من نظم الشيخ أبي أحمد الكرجي. (12) " وقال - في موضع ثالث:- "وقال الشيخ أبو أحمد الكرجي، والإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة، في العقيدة التي ذكر أنها اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهي العقيدة التي كتبها الخليفة (13) القادر بالله (14) .   (1) . تاريخ بغداد 4/37. (2) . انظر: طبقات الأسنوي 2/310. (3) . انظر: الوافي بالموفيات 6/140. (4) . انظر: طبقات الشافعية لابن الصلاة 1/325. (5) . انظر: البداية 11/309. (6) . بلغة الظرفاء في تاريخ الخلفاء للروحي صـ 271. (7) . انظر: تاريخ الخلفاء صـ 486. (8) . المنتظم 15/197، 198. (9) . انظر: البداية 12/ 26. (10) . في المطبوع القصار، والصواب ما أثبته: القصاب، وكما جاء في غير موطن. (11) . نقض التأسيس 2/331. (12) . الصفدية 2/162. (13) . هكذا أثبت في الأصل الخطي - كما ذكر المحقق د. محمد رشاد سالم -، لكن المحقق استصوب: كتبها للخليفة، ولعل الصواب ما جاء في الأصل، وكما يشهد لذلك النقول السابقة عن ابن تيمية، وهو المثبت في أصل الصواعق المرسلة 4/1286، والعلو للذهبي 2/1303. (14) . الدرء 6/252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وكذا ساق ابن القيم تلك المقالة الأخيرة بحروفها. وحكى هذا القول الحافظُ الذهبي، فقال:- "قال العلامة أبو أحمد الكرجي في عقيدته التي ألّفها، فكتبها الخليفة القادر بالله، وجمع الناس عليها.. (1) " ولعل الأدق ما ذكره هؤلاء الأئمة - كابن تيمية والذهبي وابن القيّم، وأن هذا الاعتقاد- في الأصل - ألّفه أبو أحمد الكرجي، وكتبه الخليفة القادر بالله، وجمع الناس عليه. ففي هذا القول زيادة علم وتفصيل ليس في القول الأول، وربما أن الذين عزوه إلى القادر، كان باعتبار النسبة والاشتهار فاشتهر بأنه الاعتقاد القادري، ولذا فإن في قولهم شيئاً من التجوّز والإجمال، كما أن أولئك المحققين - كابن تيمية والذهبي - قد يجملون في مواطن، فينسبون الاعتقاد إلى القادر باعتبار تلك الشهرة، وكما جاء في غير موضع من كتبهم. (2) وأما عن مناسبة تأليف الاعتقاد القادري، فقد سبق الإشارة إلى نفوذ العبيديين الزنادقة، وانتشار دعاتهم، وكذا استفحال أهل البدع كالمعتزلة والرافضة ونحوهم. فصنف هذا الاعتقاد سنة 420هـ، وأقرّه الأشراف والفقهاء والقضاة وغيرهم، وذلك من أجل إظهار الإسلام والسنة، فإن نشر هذا الاعتقاد، والتأكيد عليه، والاحتفاء به من أهل العلم والدين يعدّ أعظم الأسباب في فضح مذهب العبيديين الباطنيين، فالاعتقاد القادري ينقض مذهب أولئك الباطنية الملاحدة، كما أن في هذا الاعتقاد تقريرات سنيّة يحصل بها الردّ على سائر أهل البدع من رافضة ومعتزلة ونحوهم- كما سيأتي الإشارة إليه - وقد ألمح ابن تيمية إلى مناسبة تأليف الاعتقاد القادري، فقال:- "وقال الشيخ أبو أحمد الكرجي الإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة، في العقيدة التي كتبها الخليفة القادر بالله، وقرأها على الناس، وجمع الناس عليها، وأقرتها طوائف أهل السنة، وكان قد استتاب من خرج عن السنة من المعتزلة والرافضة ونحوهم، وكان حينئذ قد تحرك ولاة الأمور لإظهار السنة، لما كان الحاكم المصري وأمثاله من أئمة الملاحدة قد انتشر أمرهم.. (3) "   (1) . العلو للعلي العظيم 2/1303. (2) . انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/175، وتاريخ الإسلام 28/268، والعبر 3/134. (3) . الدرء 6/252= باختصار يسير، وانظر: الصواعق المرسلة 4/1286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 المبحث الثاني: متن الاعتقاد القادري لا يتجاوز متن الاعتقاد القادري بضع صفحات، فقد نقله ابن الجوزي بتمامه وحروفه، في تاريخه (1) ، وأما حكاه ابن الجوزي من طول الكتاب (2) ، وكذا الذهبي (3) وابن كثير (4) ، فلعله باعتبار ما أُلحق به وأضيف إليه في تلك المجالس التي جُمع فيها العلماء من أجل إقرار هذا الاعتقاد، حيث تضمنت تلك المجالس شيئاً من أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، وفضائل الصحابة رضي الله عنهم، وحكاية مناظرة عبد العزير الكناني بشر المريسي، والطعن في القائلين بخلق القرآن. يقول الذهبي - في حوادث سنة 420هـ -:- "وفي شعبان جُمع العلماء والقضاة في دار الخلافة، وقريء عليهم كتاب طويل عمله القادر بالله، يتضمن الوعظ، وتفصيل مذهب السنة، والطعن على المعتزلة، وفيه أخبار كثيرة في ذلك. وفي رمضان جُمعوا أيضاً، وقريء عليهم كتاب طويل عمله القادر بالله، فيه أخبار وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه ردّ على من يقول بخلق القرآن، وحكاية ما جرى بين عبد العزيز وبشر المريسي ثم ختمه بالوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وفي ذي القعدة جمعوا الكتاب الثالث في فضل أبي بكر وعمر، وسبّ من يقول بخلق القرآن، وأعيد فيه ما جرى بين عبد العزيز وبشر المريسي، وأقام الناس إلى بعد العتمة حتى فرغ، ثم أخذ خطوطهم بحضورهم وسماع ما سمعوا. (5) " والمقصود أن الاعتقاد القادري لا يزيد عن بضع صفحات، حيث اقتصر ابن الجوزي على نقل هذا الاعتقاد بحروفه، دون أن يذكر تصرفاً أو اختصاراً، إضافة إلى أن ابن كثير قد أشار إلى ذلك بقوله: " وقد سرده ابن الجوزي بتمامه في منتظمه. (6) " كما أن الأئمة الذي احتجوا بهذا الاعتقاد - كابن تيمية والذهبي وابن القيم- لا تتجاوز نقولهم ما جاء في هذه الصفحات المعدودة - والله أعلم -   (1) . انظر: المنتظم 15/280 - 282. (2) . انظر: المنتظم 15/197. (3) . انظر: تاريخ الإسلام 28/286. (4) . انظر: البداية 12/26. (5) . تاريخ الإسلام 28/268 = بتصرف يسير (6) . البداية 12/49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وسنورد الاعتقاد القادري بعد مراجعته على نسخة خطية من المنتظم (1) ، وعلى أكثر من نسخة مطبوعة (2) ، وذلك على النحو التالي:- " يحب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل وحده لا شريك له لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وهو أول لم يزل وآخر لايزال، قادر على كل شيء، غير عاجز عن شيء، إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، غني غير محتاج إلى شيء، لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، يُطْعِم ولا يُطْعَم، لا يستوحش من وحدة، ولا يأنس بشيء، وهو الغني عن كل شيء، لا تخلفه (3) الدهور والأزمان وكيف تغيره الدهور والأزمان وهو خالق الدهور والأزمان، والليل والنهار والضوء والظلمة، والسموات والأرض، وما فيها من أنواع الخلق، والبر والبحر وما فيهما، وكل شيء حيّ أو موات أو جماد، كان ربنا واحد لا شيء معه، ولا مكان يحويه، فخلق كل شيء بقدرته، وخلق العرش لا لحاجته إليه، فاستوى عليه (4) كيف شاء وأراد، لا استقرار (5) ، راحة كما يستريح الخلق، وهو مدبِّر السموات والأرضين ومدبِّر ما فيهما، ومن في البر والبحر، ولا مدبِّر غيره، ولا حافظ سواه، يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم، ويميتهم ويحييهم، والخلق كلهم عاجزون، الملائكة (6) والنبيون والمرسلون والخلق كلهم أجمعون، وهو القادر بقدرة، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد، وهو السميع بسمع، والبصير (7) ببصر، يعرف صفتهما من نفسه. لا يبلغ كنههما أحد من خلقه، متكلم بكلام (8) لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين، لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه عليه السلام، وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله فهي صفة حقيقية لا مجازية، ويعلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق، تكلّم به تكليماً، وأنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - على لسان جبريل بعد ما سمعه جبريل منه، فتلا جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتلاه محمد على أصحابه، وتلاه أصحابه على الأمة، ولم يصر بتلاوة المخلوقين مخلوقاً؛ لأنه ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله به فهو غير مخلوق بكل (9) حال، متلواً ومحفوظاً ومكتوباً ومسموعاً، ومن قال إنه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة منه، ويعلم أن الإيمان قول وعمل ونية، وقول باللسان وعمل بالأركان والجوارح   (1) . وهي نسخة محفوظة في قسم المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم 7274. (2) . منها الطبعة الأولى في الهند سنة 1359هـ. (3) . لا تخلفه: لا تغيّره انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/212. (4) . زاد في الدرء 6/253: استواء استقرار، وكذا جاء في العلو للذهبي 2/1303، والصواعق المرسلة 4/1288. (5) . جاء في الصواعق المرسلة (4/1288) : لا استواء راحة. (6) . في المنتظم المطبوع: والملائكة، ولعل الصواب ما أثبته بحذف الواو كما جاء في المنتظم المخطوط ق 350، وكذا الدرء 6/254، والصواعق 4/1288. (7) . في المنتظم المطبوع: المبصر، والصواب ما أثبته، كما جاء في المنتظم المخطوط ق 350، كذا الدرء 6/254، والصواعق 4/1228. (8) . زاد في الدرء 6/254 يخرج منه وكذا الصواعق المرسلة 4/1288. (9) . في المنتظم المطبوع: فبكل حال، ولعل الصواب والذي يتفق مع سياق الكلام - ما أثبته بحذف الفاء، كما جاء في المنتظم المخطوط ق 350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وتصديق به، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو ذو أجزاء وشعب، فأرفع أجزائه لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، والإنسان لا يدري كيف هو مكتوب عندالله، ولا بماذا يختم له، فلذلك يقول: مؤمن إن شاء الله، وأرجو أن أكون مؤمناً، ولا يضره الاستثاء والرجاء، ولا يكون بهما شاكاً ولا مرتاباً، لأنه يريد بذلك ما هو مغيّب عنه عن أمر آخرته وخاتمته، وكل شيء يتقرب به إلى الله تعالى ويعمل لخالص وجهه من أنواع الطاعات فرائضه وسننه، وفضائله فهو كله من الإيمان منسوب إليه، ولا يكون للإيمان نهاية أبداً؛ لأنه لا نهاية للفضائل ولا للمتبوع (1) في الفرائض أبداً، ويجب أن يحبّ الصحابة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم، ونعلم أنهم خير الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن خيرهم كلهم وأفضلهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ويشهد للعشرة بالجنة ويترحم على أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن سبّ عائشة فلا حظ له في الإسلام، ولا يقول في معاوية إلا خيراً، ولا يدخل في شيء شجر بينهم، ويترحم على جماعتهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر، آية 10) ، وقال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} الأعراف، آية 43) ، ولا يكفّر بترك شيء من الفرائض غير الصلاة المكتوبة وحدها، فإنه من تركها من غير عذر وهو صحيح فارغ حتى يخرج وقت الأخرى فهو كافر وإن لم يجحدها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "بين العبد والكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر"، ولايزال كافراً حتى يندم ويعيدها فإن مات قبل أن يندم ويعيد، أو يضمر أن يعيد لم يصل عليه، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبيّ بن خلف، وسائر الأعمال لا يكفّر بتركها، وإن كان يفسّق حتى يجحدها، ثم قال: هذا قول أهل السنة والجماعة الذي من تمسك به كان على الحق المبين، وعلى منهاج الدين والطريق الواضح، ورجي به النجاة من النار ودخول الجنة، وإن شاء الله، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلم "الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم" وقال عليه السلام: "أيما عبد   (1) . هكذا في المطبوع: ولا للمتبوع، وأما المخطوط: ولا للمسموع.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 جاءته موعظة من الله تعالى في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبلها يشكر، وإلا كانت حجة عليه والله ليزداد بها إثما، ويزاد بها من الله سخطاً (1) جعلنا الله لآلائه من الشاكرين، ولنعمائه ذاكرين وبالسنة معتصمين وغفر لنا ولجميع المسلمين. (2) " وبعد أن سقنا الاعتقاد القادري بتمامه، فيمكن أن نتبعه بتعليقات يسيرة على النحو الآتي:- ابتدأ - الاعتقاد القادري - بالتوحيد، أهم أصول الاعتقاد وآكدها، فقرر ربوبية الله تعالى، وأنه عزّ وجل الغني الخالق القادر، ومدبِّر السموات والأرضين وما فيهن. ثم قرر الأسماء والصفات لله تعالى، إثباتاً بلا تمثيل، فأثبت الصفات لله تعالى: " وهو القادر بقدرة، وهو السميع بسمع، وهو البصير ببصر"، وفي هذا التقرير ردٌّ على المعتزلة القائلين: قادر بلا قدرة، سميع بلا سمع.. وأما قوله: "العالم بعلم أزلي غير مستفاد" فالمراد أن الله تعالى موصوف بصفة العلم منذ الأزل، فلم يزل سبحانه موصوفا بالكمال كما قال الإمام الطحاوي: "ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئاً قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً، ليس منذ خَلَق الخلق استفاد اسم الخالق، لا بإحداثه البرية اسم الباري. (3) " كما قرر الاعتقادُ أن كلام الله تعالى حيثما تصرّف فهو غير مخلوق، سواءً كان متلواً، أو محفوظاً، أو مكتوباً، أو مسموعاً، خلافاً للأشاعرة. وكما قال الإمام أحمد بن حنبل: "القرآن كلام الله حيث تصرّف وعلى كل وجهة. (4) " وقال شيخ الإسلام الصابوني:- "وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويُكتب في المصاحف، كيفما تصرف بقراءة قاريء، ولفظ لافظ، وحفظ حافظ، وحيث تلي..كله كلام الله جل جلاله غير مخلوق. (5)   (1) ..أخرجه ابن عساكر وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير ح (2245) . (2) . المنتظم 15/280 - 282. (3) . شرح العقيدة الطحاوية 1/96، 109. (4) . المسائل والرسائل المروية عن أحمد، للأحمدي 1/247، وانظر: 1/241. (5) . عقيدة السلف وأصحاب الحديث صـ 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وأثبت الاعتقادُ أن الإيمان قول وعمل، تقريراً لمذهب أهل السنة وردّاً على المرجئة، كما بيّن أن الإيمان ذو أجزاء وشعب خلافاً لأهل البدع من الوعيدية والمرجئة.. كما بيّنه شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: "وأصل نزاع هذه الفرقة في الإيمان من الخوارج والمرجئة، والمعتزلة والجهمية وغيرهم، وأنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، إذا زال بعضه، زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه، وبقاء بعضه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان (1) " (2) " وأما قوله - في الاعتقاد -: "ولا يكون للإيمان نهاية أبداً؛ لأنه لا نهاية للفضائل.." فهذا قرره جمع من السلف الصالح، فعن سلمان الفارسي> أنه قال: "لو تقطعت أعضاءً، ما بلغت الإيمان. (3) " "وقال الإمام الأوزاعي، والإمام مالك بن أنس:- ليس للإيمان منتهى، وهو في زيادة أبداً، وينكران على من يقول إنه مستكمل الإيمان (4) ." ومما قرره ابن بطة (5) - في شأن الإيمان -: " وله أول وبداية، ثم ارتقاء، وزيادة بلا نهاية. (6) " والمقصود أن زيادة الإيمان لا نهاية لها، وفي هذا التقرير ردّ على المرجئة الزاعمين أنهم قد استكملوا الإيمان. ثم أوجز الاعتقاد القادري الواجب تجاه الصحابة رضي الله عنهم، بأن نحبّهم ونترحم عليهم، ونشهد بأنهم خير الناس.. خلافاً لطريقة الروافض والنواصب. ثم قرر الاعتقادُ تكفير تارك الصلاة، وأن من تركها من غير عذر حتى يخرج وقت الأخرى فهو كافر.   (1) .أخرجه البخاري، ك الإيمان، ح (44) ، ومسلم ك الإيمان، ح (325) . (2) . مجموع الفتاوى 7/510. (3) . أخرجه الخلال في السنة 5/36. (4) . أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/333، 346. (5) . أبو عبد الله عبيد الله بن محمد العكبري، فقيه عابد، مستجاب الدعوة، كان أمّاراً بالمعروف نهّاءً عن المنكر، وله مصنفات، توفي بعكبر (القرب من بغداد) سنة 387هـ. انظر: طبقات الحنابلة 2/144، والمنهج الأحمد 2/810. (6) . الإبانة الصغرى صـ 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ولعل حجتهم في ذلك حديث أبي الدرداء > قال: "أوصاني خليلي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - بسبع: لا تشرك بالله شيئاً، وإن قُطِّعت أو حُرِّقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً، فمن تركها فقد برئت منه الذمة." الحديث. (1) يقول ابن القيم: "ولو كان باقياً على إسلامه، لكانت له ذمة الإسلام. (2) " وقوله في الاعتقاد - بشأن تارك الصلاة-: "ولا يزال كافراً حتى يندم ويعيدها، فإن مات قبل أن يندم أو يعيد، أو يضمر أن يعيد، لم يصلّ عليه، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبيّ بن خلف." وفي هذا إشارة إلى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الصلاة يوماً فقال:" من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نوراً ولا برهاناً، ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان، وأبيّ بن خلف. (3) " قال ابن القيم:- "وإنما خصّ هؤلاء الأربعة بالذكر، لأنهم من رؤوس الكفرة، وفيه نكتة بديعة، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة.. إما أن يشغله ماله، أو ملكه، أو رئاسته، أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رئاسة وزارة فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبيّ بن خلف. (4) " ثم خُتِم هذا الاعتقاد بالحث على لزوم السنة والجماعة، وما في ذلك من الوعد والترغيب. المبحث الثالث: مزايا الاعتقاد القادري بالنظر في محتوى الاعتقاد القادري، وملابسات تصنيفه، فيمكن إيراد المزايا التالية: (ظهر الاعتقاد القادري إبان قوة المعارض ونفوذه، فالعبيديون استفحل شأنهم وانتشر دعاتهم - كما سبق آنفاً- وكذا سائر أهل البدع من معتزلة ورافضة وأشبهاهم، فصنف هذا الاعتقاد في مواجهة المدّ العبيدي في أوج تسلطه، وفي صدّ تلك البدع الظاهرة   (1) . أخرجه ابن ماجه في الأشربه، ح (4034) ، واللالكائي 2/823، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/885-891، وقال البوصيري: " إسناده حسن، وشهر بن حوشب مختلف فيه." وصححه الألباني لشواهده في صحيح الترغيب والترهيب 1/227-229. (2) . كتاب الصلاة صـ 47. (3) . أخرجه أحمد 2/169، وابن حبان ح (1448) ، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/292) إلى الطبراني في الكبير والأوسط، وقال: " رجال أحمد ثقات". (4) . كتاب الصلاة صـ 46، 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 آنذاك، ولا يخفى أن في هذا التصنيف - في مثل تلك الأحوال - من المجاهدة البيّنة والمراغمة للخصوم ما ليس في غيره. (حظي تأليف هذا الاعتقاد بأنواع من الاحتفاء والاهتمام، وصَاحَب تصنيفه جملةٌ من المؤكدات والتقريرات، فقد جُمِع له أعداد كثيرة من الأشراف والشهود، والفقهاء، والقضاة، والزهّاد، وكان ذلك في دار الخلافة، ثم قريء عليهم، وأُخذت بعد ذلك خطوطهم بحضورهم، وسماع ما سمعوه، وتكرر ذلك غير مرة سنة 420هـ. كما قريء في المساجد والجوامع. (ألّف هذا الاعتقاد أبو أحمد الكرجي، وكتبه القادر بالله، وكلاهما شافعيان، وهذا يؤكد أن عقيدة أهل السنة والجماعة مقررة عند الأئمة من الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة، فليست هذه العقيدة مختصة بالحنابلة فحسب. يقول ابن تيمية: " قال بعض شيوخ المغاربة - العلماء الصلحاء -: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد بن حنبل يعني أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام، وإن كان لبعضهم من زيادة العلم والبيان، وإظهار الحق، ودفع الباطل ما ليس لبعض. (1) " ويقول في موطن آخر: " ليس لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة وأئمة أهل الحديث.. وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية، لأبين أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي.. (2) " وقد صنّف أئمة الشافعية عدة مصنفات في تقرير عقيدة السلف الصالح، مثل: المزني (3) ، ومحمد بن نصر المروزي (4) ، وعثمان بن سعيد الدارمي (5) ، وقوام السنة الأصفهاني (6) ، وابن كثير، والذهبي وغيرهم. فرحم الله أبا المظفر السمعاني إذ يقول: " فلا ينبغي لأحد أن ينصر مذهبه [أي الشافعي] في الفروع، ثم يرغب عن طريقته في الأصول (7) ."   (1) . حكاية مناظرة الواسطية (مجموع الفتاوى) 3/170= بتصرف يسير. (2) . المرجع السابق 3/189 = باختصار (3) . أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري، تلميذ الشافعي، الإمام الفقيه الزاهد، له مصنفات كثيرة، منها: مختصره في الفقه، توفي سنة 264هـ. انظر: طبقات السافعية للسبكي 2/93، وسير أعلام النبلاء 12/492. (4) . هو أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المروزي، ولد ببغداد سنة 202هـ، كان إمام عصره في الحديث، ومن أعلم الناس باختلاف العلماء، له مؤلفات، توفي سنة 294هـ. انظر: طبقات الشافعية 2/246، وسير أعلام النبلاء 14/33. (5) . أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي التميمي، الإمام، الحافظ، طاف بالبلاد في طلب العلم، له عدة مصنفات، توفي 280هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 13/319، وطبقات الشافعية 2/305. (6) . هو أبو القاسم إسماعيل بن محمد الفضل، إمام حافظ، حسن الاعتقاد، له عدة مصنفات، توفي سنة 534هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 20/80، وشذرات الذهب 4/105. (7) . فصول من كتاب الانتصار لأصحاب الحديث للسمعاني صـ 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أفيقال بعد هذا: إن عقيدة السلف الصالح إما هي للحنابلة فقط؟ (أورد الاعتقاد القادري جملة من مسائل الاعتقاد التي تميّز أهل السنة عن مخالفيهم، فقد قرر الاعتقاد مسائل مهمة في أصول الدين، والتي ضلّ فيها أهل الأهواء والبدع، فبيّن توحيد الربوبية ردّاً على العبيديين، وأثبت الصفات لله تعالى خلافاً للمعتزلة والأشاعرة، وقرر مسائل مهمة في الإيمان رداً على الوعيدية والمرجئة، وأوجب حبّ الصحابة رضي الله عنهم خلافاً للروافض. وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن شأن المصنفين في العقائد المختصرة على مذهب أهل السنة والجماعة أن يذكرون ما يتميّز به أهل السنة عن الكفار والمبتدعين (1) ." (مع أن هذا الاعتقاد من العقائد المختصرة إلا أنه تضمن تقريرات مهمة في الردّ على الفرق الكبار كالخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة.. وأيضاً فالاعتقاد وإن حوى أجوبة مجملة في الردّ على تلك الطوائف، إلا أنّه فصّل- إلى حد ما- في تقرير ربوبية الله تعالى، من أجل الردّ على العبديين، كما هو بيّن في مطلع هذا الاعتقاد.. فالاعتقاد القادري يقرر أن الله عزّ وجلّ واحد لا شريك له، على النقيض من مقالة الباطنية بإلهين اثنين، وهما السابق والتالي كالمجوس الثنوية. (2) " كما يثبت الاعتقاد ما لله سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلا، خلافاً للباطنية الذين ينفون أسماء الله تعال وصفاته. (3) ولا غرابة أن يجيئ هذا البسط في تلك العقيدة الموجزة، فإن أحوال وملابسات التأليف تقتضي هذا التفصيل، فالمذهب العبيدي الباطني استفحل شره، وانبث دعاته في كثير من الأصقاع، فكان المقام يقتضي التفصيل في تقرير ربوبية لله تعالى مناقضة لمذهب الباطنية. وهذه نهج سلكه سلفنا الصالح تجاه الانحرافات التي تظهر في عصرهم، فإنهم يلتفتون إلى مواجهتها، ويشتغلون بمدافعتها أكثر من غيرها.   (1) . شرح الأصفهانية صـ 14. (2) . انظر: فضائح الباطنية للغزالي صـ 38، وبيان مذهب الباطنية للديلمي صـ 34، وأصول الإسماعيلية لسليمان السلومي 2/534 - 574. (3) . انظر: فضائح الباطنية للغزالي صـ 38، وبيان مذهب الباطنية للديلمي صـ 34، وأصول الإسماعيلية لسليمان السلومي 2/534 - 574. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 فالإرجاء - مثلاً - ظهر في الكوفة، فاحتاج علماء السلف في الكوفة أن يظهروا إنكار مقالة الإرجاء، فتواترت أقوالهم أن الإيمان قول وعمل، وكانوا بهذا التقرير أكثر من غيرهم في سائر الأمصار. كما أن تعطيل الصفات ظهر في خراسان، فكثر من علماء خراسان آنذاك من إنكار التعطيل ما لم يوجد في بلدان لم تظهر فيهم تلك البدعة. (1) (نلحظ أن الاعتقاد القادري ذو ألفاظ سهلة ميسرة، وأن عباراته محكمة بيّنة، حيث خلى من الألفاظ الموهمة والعبارات المجملة. (إضافة إلى ما سبق فقد اشتمل الاعتقاد القادري على مسائل مهمة في الاعتقاد، فقد أثبت أن أسماء الله تعالى وصفاته حقيقية، كما ردّ على الأشاعرة في مسألة الكلام الإلهي، فقرر أن كلام الله تعالى سمعه جبريلُ من الله تعالى، وأن القرآن حيثما تصرّف فهو كلام الله سواءً كان متلواً، أو مكتوباً، أو مسموعاً، أومحفوظاً، خلافاً للأشاعرة الذي يزعمون أن القرآن هو الكلام النفساني، وهو معنى قائم بذات الله، وأما المتلو، أو المكتوب، أو المسموع، أو المحفوظ، فإنما هو عبارة تدلّ على كلام الله تعالى، وليس كلام الله. (2) كما أوجز الواجب تجاه الصحابة رضي الله عنهم، فأوجب محبتهم، وإثبات فضلهم والإمساك عما شجر بينهم.. كما قرر أن تارك الصلاة كافر، وحكاه عن أهل السنة، وهذا يتفق مع ما أورده محمد بن نصر المروزي في كتابه تعظيم قدر الصلاة، حيث حكى تكفير تارك الصلاة عن جمهور أصحاب الحديث. (3) ومع هذه المزايا، إلاَّ أن بعض الأئمة تعقّب هذا الاعتقاد، فقد ساق الحافظ الذهبي مآخذ لطيفة لبعض عبارات الاعتقاد. فقد حكى الذهبي هذه العبارات: " كان ربنا عزّ وجلّ وحد لا شيء معه، ولا مكان يحويه، فخلق كل شيء بقدرته، وخلق العرش لا لحاجة إليه، فاستوى عليه استواء استقرار   (1) . انظر: الإيمان لابن تيمية صـ 295، ومجموع الفتاوى 13/38. (2) . انظر: التسعينية لابن تيمية 3/846، 863، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 12/121، وشرح الطحاويه لابن أبي العز 1/202، 203. (3) . انظر: تعظيم قدر الصلاة 2/636. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 كيف شاء وأراد، لا استقرار راحة كما يستريح الخلق. (1) " ثم أعقبها بقوله: " قلت: ليته حذف "استواء استقرار" وما بعده، فإن ذلك لا فائدة فيه بوجه، والباري منزه عن الراحة والتعب. (2) " إلى أن قال (3) : "لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فهي صفة حقيقة لا صفة مجاز." قلت: "وكان أيضاً يسعه السكوت عن " صفة حقيقة" فإننا إذا أثبتنا نعوت الباري، وقلنا: تمرّ كما جاءت، فقد آمنا بأنها صفات، فإذا قلنا بعد ذلك، صفة حقيقة وليست بمجاز، كان هذا كلاماً ركيكاً نبطياً مغلثاً للنفوس فليُهدر، مع أن هذه العبارة وردت عن جماعة، ومقصودهم بها أن هذه الصفات تُمرّ ولا يتعرض لها بتحريف ولا تأويل كما يتعرض لمجاز الكلام، والله أعلم. وقد أغنى الله تعالى عن العبارات المبتدعة، فإن النصوص في الصفات واضحة، ولو كانت الصفات تُردّ إلى المجاز لبَطل أن تكون صفات لله، وإنما الصفة تابعة للموصوف فهو موصوف حقيقة لا مجازاً، وصفاته ليست مجازاً، فإن كان لا مثل له ولا نظير لزم أن يكون لا مثل لها. (4) " ويمكن أن يُستدرك على تعقيب الإمام الذهبي، فيقال: إن قوله "ليته حذف استواء استقرار" محل نظر، فإن عدداً كثيراً من أهل العلم قالوا: إن معنى استوى العرش: استقر (5) . وقال الحافظ ابن عبد البر (6) : "الاستواء الاستقرار في العلو، بهذا خاطبنا الله عزّ وجلّ. (7) " ولا محذور في تفسير الاستواء بالاستقرار، فإن ذلك لا يوهم نقصاً ولا تمثيلاً، بل هذا المعنى على الوجه اللائق بالله تعالى. لاسيما وأن تلك العبارة - التي تمنى الذهبي حذفها- قد نقلها أئمة كبار كابن تيمية   (1) . العلو للعلي العظيم 2/1303. (2) . العلو للعلي العظيم 2/1303. (3) . أي أبو أحمد الكرجي الذي ألّف الاعتقاد، وكتبه الخليفة القادر. (4) . العلو 2/1303، 1304. (5) . انظر: تفسير البغوي 2/165، وشرح حديث النزول صـ 390، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان 1/356. (6) . هو أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري القرطبي المالكي، حافظ المغرب، ومؤرخ أديب، ولد سنة 368هـ بقرطبة، رحل كثيراً، وتولى القضاء، له مؤلفات كثيرة، توفي بشاطبة سنة 463هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 18/153، والديباج المذهب 2/367. (7) . التمهيد 7/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 في كتابه "الدرء" (1) ، وابن القيم في كتابه "الصواعق المرسلة. (2) " وقررا ذلك دون تعقيب. وأما مقالة الذهبي: "وكان أيضاً يسعه السكوت عن "صفة حقيقية"، فإننا إذا أثبتنا نعوت الباري.. إلخ "، فإن الإمام الذهبي لا ينازع - هاهنا- في إمرار نصوص الصفات كما جاءت، بل إنه نفى المجاز في صفات الله تعالى، لكنه يقرر الاقتصار على إثبات الصفات، وأن تمرّ كما جاءت، ولا حاجة أن يزاد على ذلك فيقال: إنها صفة حقيقية؛ لأن ذلك كلام ركيك.. فهذا التعقيب أقرب ما يكون في اللفظ وصياغة العبارة، خاصةً وأن الذهبي في "تذكرة الحفاظ" قد ساق نفس الجملة - التي تعقّبها هاهنا- ثم قررها قائلاً: "نعم لو كانت صفاته مجازاً لتحتم تأويلها، ولقيل: معنى البصر كذا، معنى السمع كذا، ومعنى الحياة كذا، ولفسرت بغير السابق إلى الأفهام، فلما كان مذهب السلف إمرارها بلا تأويل، علم أنها غير محمولة على المجاز، وأنها حقّ بيّن. (3) " والمتأمل في تعقيب الإمام الذهبي هاهنا، يجد أن ذلك يتفق مع موقفه من الألفاظ التي لم ينصّ عليها الدليل، فالذهبي - مثلاً - أورد شعراً لابن الزاغوني قائلاً: عال على العرش الرفيع بذاته سبحانه عن قول غاوٍ ملحد. ثم قال الذهبي: "قد ذكرنا أن لفظة "بذاته" لا حاجة إليها، وهي تشغب النفوس، وتركها أولى. (4) " ويقول - في موضع آخر -: "نقول ينزل، وننهى عن القول ينزل بذاته، كما لا نقول: ينزل بعلمه، بل نسكت ولا نتفاصح على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبارات مبتدعة، والله أعلم. (5) " ولما أورد الذهبي مقالة بعض السلف في مسألة إثبات الحد لله تعالى، قال: "الصواب الكفّ عن إطلاق ذلك، إذ لم يأت فيه نصّ، ولو فرضنا أن المعنى صحيح، فليس لنا أن نتفوه   (1) . انظر: الدرء 6/253. (2) . انظر: الصواعق المرسلة 4/1288. (3) . تذكرة الحفاظ 3/939. (4) . سير أعلام النبلاء 19/606. (5) . سير أعلام النبلاء 20/331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 بشيء لم يأذن به الله خوفاً من أن يدخل القلب شيءٌ من البدعة، اللهم احفظ علينا إيماننا. (1) " فنلحظ أن الذهبي يقتصر على ما نصّ عليه الدليل بلفظه، وأنه لا حاجة إلى الزيادة على ذلك بتفصيل أو بيان. والذي عليه المحققون خلاف ما اختاره الذهبي، كما بيّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "والمقصود أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بُيِّنت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت به الألفة، وما كان معروفاً حصلت به المعرفة.. فإذا لم يكن اللفظ منقولاً، ولا معناه معقولاً ظهر الجفاء والأهواء. (2) " فقرر شيخ الإسلام أن مسلك الأئمة الكبار هو منع إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة دون الألفاظِ المأثورة، والألفاظِ التي بُيِّنت معانيها، فلا محذور في الألفاظ التي بُيِّنت معانيها الصحيحة، واللائقة بالله عز وجل، كما هو في تفسير الاستواء بالاستقرار، أو تقرير أن صفات الله حقيقة لا مجازاً، أو أن الله تعالى موصوف بعلو الذات، وأنه ينزل بذاته، لاسيما إذا كان هذا البيان في مقام الردّ على المنحرفين في باب الصفات، كمن ينكر استواء استقرار، أو يزعم أن صفات الله مجازية، أو ينكر علو الذات، أو يتأول النزول بنزول رحمته أو ملك. فلا محذور في الإخبار عن الله تعالى بألفاظ ذات معان صحيحة، خاصة وأن الذهبي قد أورد في كتابه "العلو" آثاراً كثيرة عن السلف في إثبات أن الله تعالى "بائن من خلقه" دون أن يتعقب ذلك. (3) مع أن عبارة "بائن من خلقه" نظير العبارات السابقة من جهة عدم النص على لفظها في الكتاب والسنة. (4) "وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل: هل لهم رخصة أن يقول الرجل كلام الله ثم يسكت. فقال -رحمه الله -: ولم يسكت لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت، ولكن   (1) . سير أعلام النبلاء 20/86، وانظر: ميزان الاعتدال 3/507. (2) . الدرء 1/271 = باختصار (3) . انظر: العلو 2/1048، 1091، 1113، 1214. (4) . انظر: مقدمة الألباني لمختصر العلو للذهبي صـ 18، 19، والنفي في باب صفات الله لأرزقي سعيداني صـ 130، 131، ومنهج الإمام الذهبي في العقيدة لسعيد الزهراني صـ 162-165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 حيث تكلموا لأي شيء لا يتكلمون. (1) " فالإمام أحمد غلّظ على الواقفة، وجعلهم جهمية (2) ؛ لأنهم لم يقولوا إن القرآن كلام الله غير مخلوق، ففي هذه العبارة: "غير مخلوق" توضيح وبيان وردّ على من زعم أنه مخلوق، أو شكّ في القطع أنه غير مخلوق. المبحث الرابع: آثار الاعتقاد القادري أعقب تصنيف الاعتقاد القادري آثاراً حميدة، وعواقب حسنة، سوءاً في زمن الخليفة القادر، أو ما بعده، فمن تلك الآثار ما يلي: 1 - يعدّ الاعتقاد القادري سبباً قوياً في هتك أستار العبيديين الباطنييين، والردّ على سائر أهل البدع من الرافضة والمعتزلة وأشباههم، وخاصة وأن تصنيف هذا الاعتقاد إبان نفوذ العبيديين واستفحال أهل البدع، كما أن هذا الاعتقاد قريء في المساجد والجوامع (3) ، وحمله الحجيج إلى أطراف الأرض. (4) 2 - أن الاعتقاد القادري يعدّ مصنفاً معتبراً يورده الأئمة المحققون المتأخرون في كتب الاعتقاد، فقد ساق ابن تيمية شيئاً من عبارات الاعتقاد (5) ، كما احتج به الذهبي في كتابه العلو (6) ، وكذا ابن القيم في كتابه الصواعق المرسلة -كما مر آنفاً- 3 - أعقب كتابة الاعتقاد القادري، استتابةُ من خالف ذلك من أهل البدع من المعتزلة والرافضة والخوارج. كما بيّن ذلك الحافظ الذهبي بقوله: "قال العلامة أبو أحمد الكرجي في عقيدته التي ألّفها، فكتبها الخليفة القادر بالله وجمع الناس عليها، وأمر باستتابة من خرج عنها من معتزلي، ورافضي وخارجي. (7) " وقال ابن القيم: "وقال الشيخ أبو أحمد الكرجي في أثناء المائة الرابعة في العقيدة التي ذكر أنها اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهي العقيدة التي كتبها للخليفة القادر بالله، وقرأها على الناس، وجمع الناس عليها، وأقرّ بها طوائف أهل السنة، وكان قد استتاب من خرج عن السنة   (1) . المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل 1/252. (2) . انظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل 1/253-256. (3) . انظر: المنتظم 16/106. (4) . انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/21. (5) . انظر: الدرء 6/253، 254. (6) . انظر: العلو 2/1303. (7) . العلو 2/1303 = باختصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 من المعتزلة والرافضة ونحوهم. (1) " والمقصود أن استتابة المخالفين من الآثار المباشرة والعملية للاعتقاد القادري. 4 - احتفى الخليفة القائم بأمر الله بن الخليفة القادر بالله بهذا الاعتقاد، حتى أن ابن الجوزي نسبه إليه، فسماه: الاعتقاد القادري والقائمي (2) ، ومن ذلك الاهتمام: أن الخليفة القائم أمر بقراءة الاعتقاد القادري، حيث أخرجه سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، فقريء في ديوان الخلافة، وحضر العلماء، وكتبوا أن هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر. (3) فلم يقتصر على مجرد قراءته وإقرار العلماء به، بل أضيف إلى ذلك أن من خالف هذا الاعتقاد، ليس مسلماً، بل هو فاسق كافر.. 5 - كان لهذا الاعتقاد أثره البيّن في مدافعة ما أظهر من البدع، ومن ذلك أثره في قمع بدعة الاعتزال سنة ستين وأربعمائة، وذلك أن ابن الوليد المعتزلي (4) عزم على إظهار المعتزلة، وحرّضه على ذلك جماعة من أهل مذهبه، فبادر جمع من الفقهاء وأهل الحديث بالقدوم على الخليفة القائم بالله، وسألوه إخراج الاعتقاد القادري وقراءته، فأجيبوا وقريء هذا الاعتقاد بمحضر من الجميع، واتفقوا - ومعهم الخليفة - على لعن من خالفه وتكفيره. ثم قريء الاعتقاد مرة أخرى، وحضره الخاص والعام. (5) 6 - احتج أئمة الحنابلة بهذا الاعتقاد في أكثر من واقعة، فالقاضي ابن أبي يعلي (6) لما قرر مذهب الحنابلة في صفات الله تعالى - وهو الإيمان بما وصف الله تعالى به نفسه، أو وصفه به رسوله > من غير تعطيل ولا تمثيل - احتج بالاعتقاد القادري قائلاً: "وما ذكرناه من الإيمان بأخبار الصفات، هو قول السلف بدءاً وعوداً، وهو الذي ذكره أمير المؤمنين القادر - رضوان الله عليه - في الرسالة القادرية قال فيها: "ما وصف الله سبحانه به نفسه، أو وصفه به رسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو صفات الله عز وجل، على حقيقته، لا على سبيل المجاز؛" وعلى هذا الاعتقاد جمع أمير المؤمنين القائم بأمر الله -رضوان الله عليه - من   (1) . الصواعق المرسلة 4/1286، انظر: الدرء لابن تيمية 6/252. (2) . انظر: المنتظم 16/106. (3) . انظر: المنتظم 15/279، والصفدية 2/162، والبداية 12/49. (4) . أبو علي بن الوليد، من شيوخ المعتزلة، كان مدرّساً لهم، فأنكر أهل السنة عليه، فلزم بيته حتى توفي سنة 478هـ. انظر: البداية 12/129، وشذرات الذهب 3/363. (5) . انظر: المنتظم 16/106، والبداية 12/96، وذيل طبقات الحنابلة 12/96. (6) . هو محمد بن محمد بن الحسين الغراء، ولد سنة 451هـ، برع في الفقه، وأفتى وناظر، له تصانيف كثيرة، توفي مقتولاً سنة 526هـ. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/176، وسير أعلام النبلاء 19/601. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 حضره مع الوالد السعيد (1) من علماء الوقت. (2) " ولما وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية بسبب ابن القشيري سنة تسع وستين وأربعمائة، فأمر الخليفةُ المقتدي بأمر الله محمد بن القائم بأمر الله وزيره نظام الملك بأن يصلح بينهم.. فقال الشريف أبو جعفر الحنبلي للوزير -رحمه الله:- فأي صلح يكون بيننا؟ إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية، أو دنيا، أو تنازع في ملك، فأما هؤلاء القوم فإنهم يزعمون أننا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافراً، فأي صلح بيننا، وهذا الإمام مفزع المسلمين، وقد كان جدّاه -القائم والقادر- أخرجا اعتقادهما للناس، وقريء عليهم في دواوينهم، وحمله عنهم الخراسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض، ونحن على اعتقادهما، فأرسل الوزير إلى الخليفة يعلمه بما جرى، فجاء الجواب بشكر الجماعة وخصوصاً الشريف أبا جعفر. (3) واحتج ابن تيمية بالاعتقاد القادري أثناء مناظرته لمخالفيه بشأن العقيدة الواسطية، فقال - يرحمه الله - "وخاطبتُ بعضهم في غير هذا المجلس، بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادري، التي فيها أن القرآن كلام الله، خرج منه، فتوقف في هذا اللفظ، فقلتُ: هكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما تقرّب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه. (4) " يعني القرآن، وقال خباب بن الأرت: "يا هنتاه، تقرّب إلى الله بما استطعت، فلن يتقرّب إليه بشيء أحبّ إليه مما خرج منه. (5) " (6) "   (1) . وهو القاضي أبو يعلى (2) . طبقات الحنابلة 2/210 = باختصار (3) . انظر: المنتظم 16/183، وذيل طبقات الحنابلة 1/21، والبداية 12/ 115. (4) . أخرجه أحمد 5/268، والترمذي 5/2911، والحاكم 1/555، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (5) . أخرجه البخاري تعليقاً في خلق أفعال العباد (93) ، والدارمي في الردّ على الجهمية (310) ، والحاكم 2/441، والبيهقي في الأسماء والصفات (514) ، وقال: إسناده صحيح. (6) . حكاية مناظرة الواسطية (مجموع الفتاوى) 3/175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 خاتمة : نخلص - في هذا الخاتمة - إلى النتائج التالية: (أن في خلفاء بني العباس من له جهود متميزة في إظهار الإسلام والسنة، ولاسيما في العصر العباسي الأول، كالمهدي والرشيد والمتوكل، كما أن في الخلفاء المتأخرين من يشاركهم في ذلك، أمثال المعتضد والمقتدي بأمر الله والمستضيء بأمر الله. وأما الخليفة القادر بالله - وإن كان متأخراً- فإن جهوده في إقامة دين الله تعالى، والذب عن السنة تلحقه بهؤلاء المتقدمين، فقد أقام الشروط العمرية، وأظهر مذهب السنة، واستتاب المبتدعة، وهتك أستار العبيديين. (تميز الخليفة القادر بالله بخصال قلما تجتمع في سائر الخلفاء، فقد كان عابداً زاهداً، عالماً فقيهاً، مقسطاً مهيباً، عاش ستة وثمانين عاماً، ولم يعمر أحد من الخلفاء قبله ولا بعده، مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سنة، وهذا ما لم يسبقه أحد إليه -كما سبق بيانه- (أن إقامة دين الله تعالى، وإظهار السنة سبب في حصول التمكين في الأرض، وتحقق الاستقرار (1) ، والخليفة القادر بالله لما أقام الإسلام وأظهر السنة، واستتاب المبتدعة، كان ذلك سبباً بيّناً في ظهور نفوذه، واستقرار خلافته، وتحقق هيبته. (تتجلى حكمة القادر بالله وفقهه ودرايته بالمصالح والمفاسد، ومعرفته بمراتب الشرور، ومن ذلك أن المعتزلة لما اشتهر أمرهم في عصره، عمد إلى منعهم من التدريس والمناظرات، واستتابهم.. لكن ذلك لم يمنع الخليفة القادر أن يجري على الاصطخري المعتزلي جرايةً سنية لأجل ما كتبه في الردّ على الباطنية، فلا يخفى البون الشاسع بين زندقة الباطنية وبدعة المعتزلة، فالباطنية مرتدون خارجون على الملة، وهم أكفر من اليهود والنصارى، بخلاف المعتزلة فإنهم بالجملة من أهل القبلة.   (1) . انظر: الفرقان بين الحق والباطل (مجموع الفتاوى) 13/177، 178، ومجموع الفتاوى 28/640. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 كما نلحظ حسن سياسة القادر، وتدرجه في مدافعة الطوائف المنحرفة الظاهرة في عصره، فقد ابتدأ بأشنعها وهم العبيديون الباطنيون، فكتب المحضر الشهير سنة 402هـ، والذي قدح في نسب العبيديين، وكشف عن زندقتهم وكفرهم الصراح، ثم انتقل القادر إلى مواجهة المعتزلة والرافضة فاستتابهم سنة 408هـ، ومنعهم من التدريس والمناظرات، وفي سنة 420هـ كتب الاعتقاد القادري في تقرير مذهب أهل السنة والردّ على عامة أهل البدع بما فيهم الأشاعرة. (تبيّن - من خلال هذا البحث - أن الاعتقاد القادري ألّفه أبو أحمد الكرجي، وكتبه القادر بالله، كما أن متن الاعتقاد القادري لا يتجاوز بضع صفحات. (أن للاعتقاد القادري مزايا عديدة ومهمة، يندر أن تجتمع في غيره، كما أن آثار وثمرات تصنيفه لم تقتصر على مكان محدد، أو زمان معيّن، فقد قريء في عدة أمصار، وحُمل إلى أطراف البلاد، كما قريء في أزمان مختلفة، واحتج به في عصور كثيرة. فاللهم ارحم الخليفة القادر، وارفع درجته في المهديين، وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 المصادر والمراجع م ... المصادر والمراجع 1 ... أحكام أهل الذمة، لابن القيم، ت: صبحي الصالح. 2 ... أحوال النصارى في خلافة بني العباس، لجان موريس فييه، ترجمة حسني زينه، 1990م، دار المشرق، بيروت. 3 ... أخبار الدول المنقطعة، لأبي الحسن علي بن ظافر الحلبي، ت: محمد مسفر الزهراني، مكتبة الدار، المدينة. 4 ... أصول الإسماعيلية، لسليمان السلومي، ط1، 1422هـ، دار الفضيلة، الرياض. 5 ... المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة، جمع: عبد الإله الأحمدي، ط1، 1412هـ، دار طيبة، الرياض. 5 ... اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، للمقريزي، ت: محمد حلمي أحمد، 1416هـ، مطبوعات وزارة الأوقاف، القاهرة. 6 ... اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، ت: ناصر العقل، ط1، 1404هـ، مكتبة الرشد، الرياض. 7 ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع: عبد الرحمن بن قاسم، 1416هـ، طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة. 7 ... الإيمان، لابن تيمية، ط3، 1401هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 8 ... البداية والنهاية، لابن كثير، ط1، 1348هـ، مطبعة كردستان، مصر. 8 ... مختصر تاريخ الخلفاء، لمغلطاي البكجري، ت: آسيا البارح، ط1، 2001م، دار الفجر، القاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 9 ... بلغه الظرفاء في تاريخ الخلفاء، لأبي الحسن الروحي، ت: عماد هلال وآخرون 1425هـ، مطبوعات مركز السيرة والسنة، القاهرة. 10 ... تذكرة الحفاظ، للذهبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 11 ... تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، للذهبي، ت: عمر تدمري، ط1، 1417هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. 12 ... تاريخ الأمم والملوك، لابن جرير الطبري، ت: محمد أبو الفضل، دار سويدان، بيروت. 13 ... تاريخ بغداد، أو مدينة السلام، للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت. 14 ... تاريخ الخلفاء، للسيوطي، ت: إبراهيم صالح، 1417هـ، دار البشائر دمشق. 15 ... التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي من القرن الخامس الهجري حتى سقوط بغداد، لعبد المجيد بدوي، ط 2، 1408هـ، دار الوفاء، مصر. 16 ... التسعينية، لابن تيمية، ت: محمد العجلان، ط1، 1420هـ، مكتبة المعارف، الرياض. 17 ... تعظيم قدر الصلاة، لمحمد بن نصر المروزي، ت: عبد الرحمن الفريوائي، ط1، 1406هـ، مكتبة الدار، المدينة. 18 ... التمهيد لما في المؤطا من المعاني والأسانيد، لأبي عمر بن عبد البرّ، ط وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب. 19 ... جامع المسائل، لابن تيمية، ت: عزيز شمس، ط1، 1422هـ، دار عالم الفوائد، مكة. 20 ... الخراج، لأبي يوسف، ت: محمد إبراهيم البنا، دار الإصلاح. 21 ... خلاصة الذهب المسبوك مختصر من سير الملوك، لعبد الرحمن سنبط الأربلي، ط2، مكتبة المثنى، بغداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 22 ... درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط2، 1411هـ، من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض. 23 ... الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب، ت: محمد حامد الفقي، 1372هـ، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة. 24 ... ذيل كتاب تجارب الأمم، لأبي شجاع ظهير الدين الروذراوري، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. 25 ... السلوك لمعرفة دولة الملوك للمقريزي، ت: عبد القادر عطا، ط1، 1418هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 26 ... السنة، للخلال، ت: عطية الزهراني، ط1، 1410هـ، دار الراية، الرياض. 27 ... سير أعلام النبلاء، للذهبي، ط1، 1409هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 28 ... شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد، دار الفكر، بيروت. 29 ... شرح حديث النزول، لابن تيمية، ت: محمد الخميّس، ط1، 1414هـ، دار العاصمة، الرياض. 30 ... شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، ت: عبد الله التركي، وشعيب الأرناؤوط، ط1، 1408هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. 31 ... الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، لابن بطة، ت: رضا معطي، المكتبة الفيصلية، مكة. 32 ... الصفدية، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط 2، 1406هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. 33 ... الصلاة وحكم تاركها، لابن القيم، ت: تيسير زعيتر، ط1، 1400هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 34 ... الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم، ت: علي بن محمد الدخيل الله، ط1، 1408هـ، دار العاصمة، الرياض. 35 ... طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تصحيح: محمد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة. 36 ... طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، ت: عبد الفتاح الحلو، ومحمود الطناحي، 1964م، القاهرة. 37 ... طبقات الشافعية، للأسنوي، ت: عبد الله الجبوري، 1400هـ، دار العلوم، الرياض. 38 ... طبقات الفقهاء الشافعية، لابن الصلاح، ت: محي الدين نجيب، ط1، 1413هـ، دار البشائر، بيروت. 39 ... العبر في خبر من غبر، للذهبي، ت: فؤاد سيد، 1961م، دائرة المطبوعات، الكويت. 40 ... عقيدة السلف وأصحاب الحديث، لابي عثمان الصابوني، ت: ناصر الجديع، ط1، 1415هـ، دار العاصمة، الرياض. 41 ... العلو للعلي العظيم، للذهبي، ت: عبد الله البراك، ط1، 1420هـ، دار الوطن، الرياض. 42 ... الفروع، لابن مفلح، راجعه: عبد الستار فراج، ط 4، 1405هـ، عالم الكتب، بيروت. 42 ... الفرق بين الفرق، لعبد القاهر البغدادي، ت: محي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت. 44 ... فصول من كتاب الإنتصار لأصحاب الحديث، لأبي المظفر السمعاني، جمع: محمد الجيزاني، ط1، 1417هـ، مكتبة أضواء المنار، المدينة. 45 ... فضائح الباطنية، لأبي حامد الغزالي، ت: عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت. 46 ... الكامل في التاريخ، لابن الأثير، 1386هـ، دار بيروت، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 49 ... مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، لعبد الله اليافعي، 1413هـ، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة. 51 ... المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لابن الجوزي، ت: محمد ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت. 52 ... منهج الإمام الذهبي في العقيدة وموقفه من المبتدعة، بحث لنيل درجة الماجستير في قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود (غير منشور) ، لسعيد بن عيضة الزهراني، 1411هـ. 53 ... ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، ت: علي البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، مصر. 54 ... النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، لابن تغري بردي، وزارة الثقافة، مصر. 55 ... النفي في باب صفات الله عزّ وجلّ بين أهل السنة والجماعة والمعطلة، لأزرقي سعيداني، ط1، 1426هـ مكتبة دار المنهاج، الرياض. 56 ... نقض تأسيس الجهمية (بيان تلبيس الجهمية) ، لابن تيمية، ت: محمد بن قاسم، ط 1، 1391هـ، مطبعة الحكومة، مكة. 57 ... نقض المنطق، لابن تيمية، ت: محمد عبد الرزاق حمزة، وسليمان الصنيع، دار المعز دمشق. 58 ... الوافي بالوفيات، للصفدي، ط2، 1401هـ، دار فرانز شتاير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278