الكتاب: الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري المؤلف: أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370 هـ) المجلد الأول والثاني: تحقيق/ السيد أحمد صقر الناشر: دار المعارف - الطبعة الرابعة [سلسلة ذخائر العرب (25)] المجلد الثالث: تحقيق / د. عبد الله المحارب (رسالة دكتوراه) [قال المحقق في آخره: الكتاب لا يزال ناقصا .. ولعل الله يمن بالعثور على نسخة كاملة لهذا الكتاب النفيس ..] الناشر: مكتبة الخانجي - الطبعة الأولى، 1994 م عدد الأجزاء: 3   أعده للشاملة/ فريق رابطة النساخ برعاية (مركز النخب العلمية)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري الآمدي، أبو القاسم الكتاب: الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري المؤلف: أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت 370 هـ) المجلد الأول والثاني: تحقيق/ السيد أحمد صقر الناشر: دار المعارف - الطبعة الرابعة [سلسلة ذخائر العرب (25)] المجلد الثالث: تحقيق / د. عبد الله المحارب (رسالة دكتوراه) [قال المحقق في آخره: الكتاب لا يزال ناقصا .. ولعل الله يمن بالعثور على نسخة كاملة لهذا الكتاب النفيس ..] الناشر: مكتبة الخانجي - الطبعة الأولى، 1994 م عدد الأجزاء: 3   أعده للشاملة/ فريق رابطة النساخ برعاية (مركز النخب العلمية)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو القاسم: الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي: هذا ما حثثت - أدام الله لك العز والتأييد، والتوفيق والتسديد - على تقديمه من الموازنة بين أبي تمام حبيب أوس الطائي وأبي عبادة الوليد بن عبيد البحتري في شعريهما، وقد رسمت من ذلك ما أرجو أن يكون الله عز وجل قد وهب فيه السلامة، وأحسن في اعتماد الحق وتجنب الهوى المعونة منه برحمته. ووجدت - أطال الله عمرك - أكثر من شاهدته ورأيته من رواة الأشعار المتأخرين يزعمون أن شعر أب يتمام حبيب بن أوس الطائي لا يتعلق بجيده جيد أمثاله، ورديه مطروحٌ ومرذول؛ فلهذا كان مختلفاً لا يتشابه، وأن شعر الوليد ابن عبيد البحتري صحيح السبك، حسن الديباجة، وليس فيه سفسافٌ ولا ردي ولا مطروح، ولهذا صار مستوياً يشبه بعضه بعضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ووجدتهم فاضلوا بينهما لغزارة شعريهما وكثرة جيدهما وبدائعهما، ولم يتفقوا على أيهما أشعر، كما لم يتفقوا على أحدٍ ممن وقع التفضيل بينهم من شعراء الجاهلية والإسلام والمتأخرين، وذلك كمن فضل البحتري، ونسبه إلى حلاوة اللفظ، وحسن التخلص، ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقرب المآتي، وانكشاف المعاني، وهم الكتاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة، ومثل من فضل أبا تمامٍٍ، ونسبه إلى غموض المعاني ودقتها، وكثرة ما يورد مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراء أصحاب الصنعة ومن يميل إلى التدقيق وفلسفي الكلام. وإن كان كثير من الناس قد جعلهما طبقة، وذهب إلى المساواة بينهما. وإنهما لأن البحتري أعرابي الشعر، مطبوعٌ، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ ووحشي الكلام؛ فهو بأن يقاس بأشجع السلمي ومنصور وأبي يعقوب المكفوف وأمثالهم من المطبوعين أولى، ولأن أبا تمام شديد التكلف، صاحب صنعةٍ، ومستكره الألفاظ والمعانين وشعره لا يشبه أشعار الأوائل، ولا على طريقتهم؛ لما فيه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الاستعارات البعيدة، والمعاني المولدة، فهو بأن يكون في حيز مسلم بن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه، وعلى أنى لا أجد سبكة وصحة معانيه، ويرتفع عن سائر من ذهب هذا المذهب وسلك هذا الأسلوب؛ لكثرة محاسنه وبدائعه واختراعاته. ولست أحب أن أطلق القول بأيهما أشعر عندي؛ لتباين الناس في العلم، واختلاف مذاهبهم في الشعر، ولا أرى لأحد أن يفعل ذلك فيستهدف لذم أحد الفريقين؛ لأن الناس لم يتفقوا على أي الأربعة أشعر في امرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى، ولا في جرير والفرزدق والأخطل، ولا في بشار ومروان والسيد، ولا في أبي نواس وأبي العتاهية ومسلم؛ لاختلاف آراء الناس في الشعر، وتباين مذاهبهم فيه. فإن كنت - أدام الله سلامتك - ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق فالبحتري أشعر عندك ضروةً. وإن كنت تميل إلى الصنعة، والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة، ولا تلوى على غير ذلك فأبو تمام عندك أشعر لا محالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فأما أنا فلست أفصح بتفضيل أحدهما على الآخر، ولكني أوازن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، وبين معنى ومعنى، فأقول: أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي ذلك المعنى، ثم أحكم أنت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحطت علماً بالجيد والردئ. وأنا أبتدئ بما سمعته من احتجاج كل فرقة من أصحاب هذين الشاعرين على الفرقة الأخرى، عند تخاصمهم في تفضيل أحدهما على الآخر، وما ينعاه بعضٌ على بعضٍ؛ لتتأمل ذلك، وتزداد بصيرة وقوة في حكمك إن شئت أن تحكم، أو اعتقادك فيما لعلك تعتقده مع احتجاج الخصمين به: 1 - قال صاحب أبي تمام: كيف يجوز لقائل أن يقول إن البحتري أشعر من أبي تمام وعن أبي تمام أخذ، وعلى حذوه احتذى، ومن معانيه استقى؟ وباراه حتى قيل: الطائي الأكبر، والطائي الأصغر، واعترف البحتري بأن جيد أب يتمام خيرٌ من جيده، على كثرة جيد أبي تمام؛ فهو بهذه الخصال أن يكون أشعر من البحتري أولى من أن يكون البحتري أشعر منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 2 - قال صاحب البحتري: أما الصحبة فما صحبه ولا تلمذ له، ولا روى ذلك أحدٌ عنه، ولا نقله، ولا رأى قط أنه محتاج إليه، ودليل هذا الخبر المستفيض من اجتماعهما وتعارفهما عند أبي سعيدٍ محمد بن يوسف الثغري وقد دخل إليه البحتري بقصيدته التي أولها: أأفاق صبٌ من هوى فأفيقا؟ وأبو تمام حاضر، فلما أنشدها علق أبو تمام أبياتاً كثيرة منها، فلما فرغ من الإنشاد أقبل أبو تمام على محمد بن يوسف فقال: أيها الأمير، ما ظننت أحداً يقدم على أن يسرق شعري وينشده بحضرتي حتى اليوم، ثم اندفع ينشد ما حفظه. حتى أتى على أبيات كثيرة من القصيدة، فبهت البحتري، ورأى أبو تمام الإنكار في وجه أبي سعيد محمد بن يوسف، فحينئذ قال له أبو تمام: أيها الأمير، والله ما الشعر إلا له، وإنه أحسن فيه الإحسان كله، وأقبل يقرظه ويصف معانيه، ويذكر محاسنه، ثم جعل يفخر باليمن، وأنهم ينبوع الشعر، ولم يقنع من محمد بن يوسف حتى أضعف للبحتري الجائزة. فهذا الخبر الشائع يبطل ما ادعيتم؛ إذ كان من يقول هذه القصيدة التي هي من عين شعره وفاخر كلامه، وهو لا يعرف أبا تمام إلا أن يكون بالخبر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 يستغنى عن أن يصحبه أو يتلمذ له أو لغيره في الشعر. وقد أخبرني أنا رجلٌ من أهل الجزيرة - ويكنى أبا الوضاح، وكان عالما بشعر أبي تمام والبحتري وأخبارهما - أن القصيدة التي سمعها أبو تمام من البحتري عند محمد ابن يوسف وكان أول اجتماعهما وتعارفهما القصيدة التي أولها: فيم ابتدار كما الملام ولوءا؟ وأنه لما بلغ إلى قوله فيها: في منزلٍ ضنكٍ به القنا ... بين الضلوع إذا انحنين ضلوعا نهض إليه أبو تمام فقبل بين عينيه: سروراً به، وتحفياً بالطائية، ثم قال: أبى الله إلا أن يكون الشعر يمنياً. 3 - قال صاحب أبي تمام: إلا أنه - مع هذا - لا ينكر أن يكون قد استعار بعض معاني أب يتمام؛ لقرب البلدين، وكثرة ما كان يطرق سمع البحتري من شعر أبي تمام فيعلق شيئاً من معانيه، معتمداً للأخذ أو غير معتمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وليس ذلك بمانع من أن يكون البحتري أشعر منه؛ فهذا كثير قد أخذ من جميل، وتلمذ له، واستقى من معانيه، فما رأينا أحداً أطلق على كثير أن جميلاً أشعر منه، بل هو - عند أهل العلم بالشعر والرواية - أشعر من جميل. وهذا ابن سلام الجمحي ذكره في كتاب الطبقات في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام، وجعله مع البعيث والقطامى، وذكر أنه عند أهل الحجاز خاصة أشعر من جرير والفرزدق والأخطل، وجعل جميلا في الطبقة السادسة مع عبد الله بن قيس الرقيات والأحوص ونصيب، إلا أنه قال: إن جميلاً يتقدمه في النسيب. وهذا غير مقبول منه؛ لأنه إنما يحكيه عن نفسه، وأهل الحجاز إنما قدموا كثيرا من أجل نسيبه، وحسن تصرفه فيه. وقد حكى عن جرير أنه قال في بعض الروايات: كثير أنسبنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ويدل على تقدمه في النسيب قول أبي تمام في قصيدة يمدح بها أبا سعي الكاتبي أولها: من سجايا الطلول أن لا تجيبا لو يفاجى ركن المديح كثيراً ... بمعانيه خالهن نسيبا طاب فيه المديح والتذ، حتى ... فاق وصف الديار والتشبيبا أراد أن كثيراً لو فاجأه هذا المديح - على حسن نسيبه - لخاله نسيبا، وخص كثيراً لشهرته بالنسيب وبراعته، واحتمل ضرورة الشعر، ورد كثيرا إلى التكبير فقال كثيراً ولم يقل جميلا ولا جريراً ولا غيرهما، مما لا ضرورة في اسمه. وعلى أن كثيراً قد ذكر اسمه في شعره مكبراً: إما ضرورة، وإما اعتماداً لتفخيم اسمه وأن لا يأتي به محقراً، فقال: وقال لي الواشون: ويحك؟ إنهابغيرك حقا يا كثير تهيم وقد ذكر أبو تمام كثيراً في مواضع أخر فجاء به مكبراً في قصيدة يمدح بها الحسن بن وهب ويصفه بالبلاغة، وهو قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 فكأن قسا في عكاظٍ يخطب ... وكثير عزة يوم بين ينسب وذلك لعلم أبي تمام بتقدم كثير في النسيب على غيره، وشهرته بالتجويد فيه، على أن جميلا لا شعر له مما يعتد به إلا في النسيب والغزل. فقد علمتم الآن أن هذه خلةٌ لا توجب لكم تفضيل أب يتمام على البحتري من أجل أنه أخذ شيئاً من معانيه. وأما قول البحتري " جيده خير من جيدي، ورديئي خير من رديئه " فهذا الخبر - إن كان صحيحاً - فهو للبحتري، لا عليه؛ لأن قوله هذا يدل على أن شعر أبي تمام شديد الاختلاف، وشعره شديد الاستواء، والمستوى الشعر أولى بالتقدمة من المختلف الشعر، وقد اجتمعا - نحن وأنتم على أن أبا تمام يعلو علوا حسناً وينحط انحطاطاً قبيحاً، وأن البحتري يعلو بتوسط، ولا يسقط، ومن لا يسقط ولا يسفسف أفضل ممن يسقط ويسفسف. والذي نرويه عن أبي علي محمد بن العلاء السجستاني - وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 صديق البحتري - أنه قال: سئل البحتري عن نفسه وعن أبي تمام، فقال: هو أغوص على المعاني مني وأنا أقوم بعمود الشعر منه وهذا هو الذي يعرفه الشاميون، دونن غيره. وسمعت أبا علي محمد بن العلاء أيضاً يقول: كان البحتري عند نفسه أشعر من أبي تمام ومن سائر الشعراء المحدثين. وقد ذكر أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح في كتابه الذي ذكر فيه أخبار الشعراء نحواً من ذلك. قال أبو علي محمد بن العلاء: كان البحتري إذا شرب وأنس أنشد شعره، وقال: ألا تسمعون؟ ألا تعجبون؟ قال: وكان - مع هذا - أحسن الناس أدب نفسٍِ، لا يذكر شاعر محسنٌ أوغير محسنٍ إلا قرظه، ومدحه، وذكر أحسن ما فيه. قال أبو علي: ولم لا يفعل ذلك؟ وقد أسقط في أيامه أكثر من خمسمائة شاعر، وذهب بخيرهم، وانفرد بأخذ جوائز الخلفاء والملوك دونهم؟. فلو لم يفعل ذلك إلا استكفافاً وحذراً من بيت واحد يندر فيبقى على الزمان لكان من الحظ له أن يفعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قال: وكذلك كان أبو علي دعبل بن علي الخزاعي يهجو الملوك والخلفاء ولا يكاد يعرض لشاعر إلا ضرورة، وقد حذر في أول كتابه الذي ألفه في الشعر من التعرض للشاعر، ولو كان من أدون الناس صنعة في الشعر، وقال: رب بيت جرى على لسان مفحم قيل فيه " رب رميةٍ من غير رامٍ " فسارت به الركبا، ولذلك يقول في بعض شعره: لا تعرضن بمزحٍ لامرئٍ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة فرب قافية بالمزح جاريةٌ ... مشئومةٌ لم يرد إنماؤها نمت ثم نرجع إلى قول الخصمين: 5 - قال صاخب أب يتمام: فأبو تمام انفرد بمذهبٍ اخترعه، وصار فيه أولاً وإماماً متبوعاً، وشهر به حتى قيل: هذا مذهب أب يتمام، وطريقة أب يتمام، وسلك الناس نهجه، واقتفوا أثره، وهذه فضيلة عرى عن مثلها البحتري. 4 - قال صاحب البحتري: ليس الأمر لاختراعه لهذا المذهب على ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وصفتم، ولا هو بأول فيه، ولا سابق إليه، بل سلك في ذلك سبيل مسلم، واحتذى حذوه وأفرط وأسرف، وزال عن النهج المعروف، والسنن المألوف، وعلى أن مسلماً أيضاً غير مبتدع لهذا المذهب، ولا هو أولٌ فيه، ولكنه رأى هذه الأنواع التي وقع عليها اسم البديع - وهي: الاستعارة، والطباق، والتجنيس - منشورة متفرقة في أشعار المتقدمين، فقصدها، وأكثر في شعره منها، وهي في كتاب الله عز وجل أيضاً موجودة، قال الله تعالى: " واشتعل الرأس شيباً " وقال تبارك وتعالى: " وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار " وقال: " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة "؛ فهذه من الاستعارة التي هي مجاز في القرآن. وقال امرؤ القيس: فقلت له لما تمطى بجوزه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل فجعل الليل يتمطى، وجعل له إردافا وكلكلاً. وقال زهير: صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فجعل للصبا أفراساً ورواحل. وقال طفيلٌ الغنوى: وجعلت كورى فوق ناجيةٍ ... يقتات شحم سنامها الرحل فجعل الرحل يقتات السنام وقال لبيدٌ الجعفي: وغداة ريحٍ قد كشفت وقرةٍ ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فجعل للشمال يداً، وللغداة زماماً؛ فهذه كلها استعارات. وقال الله جل وعز في التجنيس: " وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين "، " فأقم وجهك للدين القيم " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عصية عصت الله ورسوله، وغفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ". وقال القطامى: ولما ردها في الشول شالت ... بذيالٍ يكون لها لفاعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وقال أيضاً: كنية الحي من ذى القيظ فاحتملوا ... مستحقبين فؤاداً ما له فاد وقال جرير: وما زال معقولاً عقالٌ عن الندى ... وما زال محبوساً عن المجد حابس وقال ذو الرمة: كأن البرى والعاج عيجت متونه ... على عشرٍ يؤمى به السيل أبطح وقال ارمؤ القيس: لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسنى من دائه ما تلبسا وقال الفرزدق: خفاف أخف الله عنه سحابه ... وأوسعه من كل سافٍ وحاصب ذكر ذلك كله أبو العباس عبد الله بن المعتز في كتاب البديع. قال: ومن الطباق قول الله تعالى: " ولكم في القصاص حياةٌ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع ". وقال زهير: ليثٌ بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا فطابق بين الصدق والكذب. وقال طفيلٌ الغنوى: بساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مبذول فطابق بين قوله " يصان " وبين قوله " مبذول ". فتتبع مسلم بن الوليد هذه الأنواع، واعتدها، ووشح شعره بها، ووضعها في موضعها، ثم لم يسلم مع ذلك من الطعن، حتى قيل: إنه أول من أفسد الشعر، روى ذلك أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح، قال: وحدثني محمد بن قاسم بن مهرويه، قال: سمعت أبي يقول: أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، ثم اتبعه أبوتمام، واستحسن مذهبه، وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خالٍ من بعض هذه الأصناف، فسلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 طريقاً وعراً واستكره الألفاظ والمعاني، ففسد شعره، وذهبت طلاوته، ونشف ماؤه؛ وقد حكى عبد الله بن المعتز في هذا الكتاب الذي لقبه بكتاب البديع أن بشاراً وأبا نواس ومسلم بن الوليد ومن تقيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم. ثم إن الطائي تفرع فيه، وأكثر منه، وأحسن في بعض ذلك، وأساء في بعض، وتلك عقبى الإفراط، وثمرة الإسراف. قال: وإنما كان الشاعر يقول من هذا الفن البيت والبتين في القصيدة، وربما فرئ في شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيتٌ واحدٌ بديعٌ، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى قدراً، ويزداد حظوة بين الكلام المرسل. وقد كان بعضهم يشبه الطائي في البديع بصالح بن عبد القدوس في الأمثال، ويقول: لو كان صالحٌ نثر أمثاله في تضاعيف شعره وجعل منها فصولا في أبياته لسبق أهل زمانه، وغلب على ميدانه. قال ابن المعتز: وهذا أعدل كلامٍ سمعته. قال صاحب البحتري: فقد سقط الآن احتجاجكم باختراع أبي تمام لهذا المذهب وسبقه إليه، وصار استكثاره منه وإفراطه فيه من أعظم ذنوبه، وأكبر عيوبه، وحصل للبحتري أنه ما فارق عمود الشعر وطريقته المعهودة، مع ما بحده كثيراً في شعره من الاستعارة والتجنيس والمطابقة، وانفرد بحسن العبارة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وحلاوة الألفاظ، وصحة المعاني، حتى وقع الإجماع على استحسان شعره واستجادته، وروى شعره واستحسنه سائر الرواة على طبقاتهم واحتلاف مذاهبم؛ فمن نفق على الناس جميعا أولى بالفضيلة، وأحق بالتقدمة. 5 - قال صاحب أبي تمام: إنما أعرض عن شعر أبي تمام من لم يفهمه؛ لدقة معانيه، وقصور فهمه عنه، وفهمه العلماء والنقاد في علم الشعر، وإذا عرفت هذه الطبقة فضيلته لم يضره طعن من طعن بعدها عليه. 6 - قال صاحب البحتري: إن ابن الأعرابي وأحمد بن يحيى الشيباني - وقبلهما دعبل بن علي الخزاعي - قد كانوا علماء بالشعر وكلام العرب، وقد علمتم مذاهبهم في أبي تمام، وازدراءهم بشعره، وطعن دعبل عليه، وقوله: إن ثلث شعره محالن وثلثه مسروق، وثلثه صالح. وروى أبو عبد الله محمد بن داةد بن الجراح في كتاب الشعراء عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن الهيثم بن داود عن دعبل أنه قال: ما جعله الله من الشعراء، بل شعره بالخطب والكلام المنثور أشبه منه بالشعر، ولم يدخله في كتابه المؤلف في الشعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وقال ابن الأعرابي في شعر أب يتمام: إن كان هذا شعراً فكلام العرب باطلٌ، روى ذلك أبو عبد الله محمد ابن داود عن البحتري عن ابن الأعرابي. وحكى محمد بن داود أيضاً عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن حذيفة بن محمد - وكان عالماً بالشعر - أنه قال: أبو تمام يريد البديع فيخرج إلى المحال. وروى عنه أنه قال: دخل إسحاق بن إبراهيم الموصلي على الحسن بن وهب وأبو تمام ينشده، فقال له إسحاق: يا هذا لقد شددت على نفسك. وذكره أيضاً أبو العباس عبد الله بن المعتز في كتاب البديع. وغير هؤلاء العلماء ممن أسقط شعره كثيرٌ: منهم أبو سعيد الضرير، وأبو العميثل الأعرابي صاحبا عبد الله بن طاهر " القيمان بأمر خزانة الحكمة " بخراسان، وكانا من أعلم الناس بالشعر، وكان عبد الله بن طاهر لا يسمع من شاعر إلا إذا امتحناه وأنشدهما شعره ورضياه، فقصدهما أبو تمام بقصيدته التي يممدح فيها عبد الله بن طاهر وأولها: هن عوادي يوسف وصواحبه ... فعزماً فقدماً أدرك الثأر طالبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فلما سمعا هذا الابتداء أعرضا عنه، وأسقطا القصيدة، حتى عاتبهما أبو تمام، وسألهما النظر فيها، فلولا أنهما ظفرا ببيتين مسروقين فيها استحسناهما فعرضا القصيدة على عبد الله بن طاهر وأخذا له الجائزة لكان قد افتضح، وخابت سفرته، وخسرت صفقته، والبيتان: وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه أخذ معنى البيت الأول من قول البعيث: أطافت بعثٍ كالأسنة هجدٍ ... بخاشعةٍ الأصواء غبرٍ صحونها وأخذ معنى البيت الثاني من قول الآخر: غلام وغى تتحمها فأبلى ... فخان بلاءه الدهر الخؤون وكان على الفتى الإقدام فيها ... وليس عليه ما جنت المنون ولما أوصلا إليه الجائزة قالا له: لم تقول مالا يفهم؟ فقال لهما: لم لا تفهمان ما يقال؟ فكان هذا مما استحسن من جوابه. وهذا أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 علمناه دون له كبير شيء، وهذه كتبه وأماليه وإنشاداته تدل على ذلك، وكان يفضل البحتري، ويستجيد شعره، ويكثر إنشاده، ولا يميله؛ لأن البحتري كان باقياً في زمانه، أخبرنا أبو الحسن الأخفش قال: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد المبرد يقول: ما رأيت أشعر من هذا الرجل، يعني البحتري، لولا أنه ينشدني لما أنشدكم لملأت كتبي وأمالي من شعره. قال صاحب البحتري: فقد بطل احتجاجكم بالعلماء، وتفضيلكم شعره. 7 - قال صاحب أب يتمام: أما احتجاجكم بدعبل فغير مقبولٍ ولا معولٍ عليه؛ لأن دعبلاً كان يشنأ أبا تمام ويحسده، وذلك مشهور معلوم منه؛ فلا يقبل قول شاعر في شاعر، وأما ابن الأعرابي فكان شديد التعصب عليه؛ لغرابة مذهبه، ولأنه كان يرد عليه من معانيه ما لايفهمه ولا يعلمه، فكان إذا سئل عن شيء منها يأنف أن يقول لا أدري فيعدل إلى الطعن عليه، والدليل على ذلك أنه أنشد يوماً أبياتاً من شعره، وهو لا يعلم قائلها، فاستحسنها وأمر بكتبها، فلما عرف أنه قائلها قال: خرقوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والأبيات من أرجوزته التي أولها: وعاذل عذلته في عذله ... فظن أنى جاهلٌ من جهله وكان أبن الأعرابي - على علمه وتقدمه - قد حمل نفسه على هذا الظلم القبيح والتعصب الظاهر، فما تنكرون أيضاً أن تكون سائر من ذكرتموه مثل حاله؟ 10 - قال صاحب البحتري: لا يلزم ابن الأعرابي من الظلم والتعصب ما ادعيتم، ولا يلحقه نقصٌ في قصور فهمه عن معاني شاعرٍ عدل في شعره عن مذاهب العرب المألوفة إلى الاستعرات البعيدة المخرجة للكلام إلى الخطأ أو الإحالة، بل العيب والنقص في ذلك يلحقان أبا تمام؛ إذ عدل عن المحجة إلى طريقةٍ يجهلها ابن الأعرابي وأمثاله، وأما ما استحسنه ابن الأعرابي من شعر أب يتمام على أنه لأعرابي فأمر بكتبه، ثم أمر بتخريقه لما علم أنه قائله، فذلك غير منكر، ولا يدخل ابن الأعرابي في التعصب والظلم؛ لأن الذي يورده الأعرابي - وهو محتذٍ على غير مثال - أحلى في النفوس، وأشهى إلى الأسماع، وأحق بالزيادة والاستجادة مما يورده المحتذى على الأمثلة، وعذر ابن الأعرابي في هذا واضحٌ، وقد سبقه الأصمعي، وذلك أن لإسحاق بن إبراهيم الموصلي أنشد الأصمعي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 هل إلى نظرةٍ إليك سبيل ... فيروى الصدى ويسفى الغليل؟ إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثيرٌ ممن تحب القليل فقال الأصمعي: لمن تنشدني؟ فقال: لبعض الأعراب، فقال: هذا والله هو الديباج الخسرواني، قال: إنهما لليلتهما، فقال: لا جرم والله إن أثر الصنعة والتكلف بينٌ عليهما. حدثنا بهذا الحديث أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش النحوي، قال: حدثنا أبو الحسن المهراني، قال: حدثني أبو خالد يزيد بن محمد المهلبي، قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: أنشدت الأصمعي، إلا أنه ذكر عن إسحاق أنه قال له: إنهما لليلتهما، فقال الأصمعي: أفسدتهما؛ فالأصمعي في هذا غير ظالم؛ لأن إسحاق - مع علمه بالشعر، وكثرة روايته - لا ينكر له أن يورد مثل هذا؛ لأنه يقوم في النفس أنه قد احتذاه على مثال، وأخذه عن متقدم، وإنما يستطرف مثله من الأعرابي الذي لا يعول إلا على طبعه وسليقته، وابن الأعرابي في أبي تمام أعذر من الأصمعي في إسحاق؛ لأن أبا تمام كان مغرماً مشغوفاً بالشعر، وانفرد به، وجعله وكده، وألف كتباً فيه، واقتصر من كل علم عليه، فإذا أورد المعنى المستغرب لم يكن ذلك منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ببدعٍ له؛ لأنه يأخذ المعاني ويحتذيها، فليس لها في النفوس حلاوة ما يورده الأعرابي القح. 9 - قال صاحب أبي تمام: فقد أررتم لأبي تمام بالعلم والشعر والرواية، ولا محالة أن العلم في شعره أظهر منه في شعر البحتري، والشاعر العالم أفضل من الشاعر غير العالم. 10 - قال صاحب البحتري: فقد كان الخليل بن أحمد عالماً شاعراً، وكان الأصمعي عالماً شاعراً، وكان الكسائي كذلك، وكان خلف بن حيان الأحمر أشعر العلماء، وما بلغ بهم العلم طبقة من كان في زمانهم من الشعراء غير العلماء؛ فقد كان التجويد في الشعر ليست علته العلم، ولو كانت علته العلم لكان من يتعاطاه من العلماء أشعر ممن ليس بعالم؛ فقد سقط فضل أب يتمام من هذا الوجه على البحتري، وصار البحتري أفضل وأولى بالسبق؛ إذ كان معلوما شائعاً أن شعر العلماء دون شعر الشعراء، ومع ذلك فإن أبا تمام تعمد أن يدل في شعره على علمه باللغة وبكلام العرب؛ فيعمد لادخال ألفاظ غريبة في مواضع كثيرة من شعره، وذلك نحو قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 هن البجارى يا بجير ... أهدى لها الأبؤس الغوير وقوله: قدك اتئب أر بيت في الغلواء وقوله: أقرم بكرٍ تبارى أيها الحفض وهذا في شعره كثير موجود، والبحتري لم يقصد هذا، ولا اعتمده، ولا كان له عنده فضيلة، ولا رأى أنه علم؛ لأنه نشأ ببادية منبج، وكان يتعمد حذف الغريب والوحشي من شعره؛ ليقربه من فهم من يمتدحه، إلا أن يأتيه طبعه باللفظة بعد اللفظة في موضعها من غير طلب لها، ويرى أن ذلك أنفق له؛ فنفق، وبلغ المراد والغرض؛ ويدلك على ذلك أنه كان يكنى أبا عبادة، ولما دخل العراق تكنى أبا الحسن؛ ليزيل العنجهية والأعرابية، ويساوي ف يمذاهبه أهل الحاضرة، ويتقرب بهذه الكنية إلى أهل النباهة والكتاب من الشيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وقد ذكر بعضهم أنه كان يكنى أبا الحسن، وأنه لما اتصل بالمتوكل وعرف مذهبه عد لإلى أب يعبادة، والأول أثبت، وقد حكى أبوعبد الله محمد بن داود بن الجراح في كتاب الشعراء أن أبا عبادة كنية البحتري القديمة؛ فشتان ما هما، من حضري تشبه بأهل البدو فلم ينفق بالبادية، ولا عند أكثر الحاضرة، وبدوي تحضر فنفق في البدو والحضر. 11 - قال صاحب أب يتمام: فقد عرفناكم أن أبا تمام أتى في شعره بمعانٍ فلسفية، وألفاظ غريبة، فإذا سمع بعض شعره الأعرابي لم يفهمه، فإذا فسر له فهمه واستحسنه. 12 - قال صاحب البحتري: هذه دعاوٍ منكم على الأعراب في استحسان شعر صاحبكم إذا فهموه، ولا يصح ذلك إلا بالامتحان، ولكنكم معترفون ومجمعون مع من هو معكم وعليكم أن لصاحبكم إحسانات وإساءات، وأن الإحسان للبحتري دون الإساءة، ومن أحسن ولم يسء أفضل ممن أحسن وأساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 13 - قال صاحب أبي تمام: ما أجمعنا معكم أن صاحبكم لم يسء، بل هو قد أساء في قوله: يخفى الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمةٌ بغير إناء وهذا وصف للإناء لا للشلااب؛ لأنه لو ملأ الإناء دبساً لكان هذا صفته. وقال: صحكاتٌ في إثر مقام الضحك، والرعد مقام العطايا، وإنما كان يجب أن يقيم الغيث مقام العطايا، لا الرعد، وله لحون في شعره معروفة نحو قوله: ونصبته علماً بسامراء وقوله: نبرات معبد في الثقيل الأول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وقوله: عرج بذي سلمٍ فثم المنزل ... ليقول صبٌ ما يشاء ويفعل وأشباه لهذا كثيرة؛ فقد تساويا في الغلط. 14 - قال صاحب البحتري: ما نعينا على أبي تمام اللحن - وهو في شعره كثير لو تتبع - فتنعوا مثله على البحتري؛ لأن اللحن لا يكاد يعرى منه أحد من الشعراء المحدثين، ولا يسلم منه شاعر من الشعراء الإسلاميين؛ وقد جاء في أشعار المتقدمين ما علمتم من الإقواء وغير الإقواء مما لا يقوم العذر فيه إلا بالتأويلات البعيدة، وعلى أنه ليس شيء مما عبتم به البحتري من اللحن خارجا عن مقاييس العربية، ولا بعيداً من الصواب، بل قد جاء مثله كثير في أشعار القدماء والأعراب والفصحاء، ولو كان هذا موضع ذكره لذكرناه، ونحن لو رمنا أن نخرج ما في شعر أبي تمام من اللحن لكثر ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 واتسع، ولوجدنا منه ما يضيق العذر فيه، ولا يجد المتأول له مخرجاً منه إلا بالطلب والحيلة والتمحل الشديد، وذلك مثل قوله: ثانيه في كبد السماء، ولم يكن ... لأثنين ثانٍ إذ هما في الغار معنى هذا البيت أن بابك صار جاراً في الصلب لمازيار، وهو ثانية في كبد السماء، ولم يكن ثانياً لاثنين إذ هما في الغار: أي هو ثاني اثنين في الصلب لمازيار الذي هو رذيلة، وليس هو ثانياً في الغار؛ لأن هذه فضيلة؛ فكان يجب أن يقول في البيت " ولم يكن لاثنين ثانياً "؛ لأنه خبر يكن، واسمها هو اسم بابك مضمر فيها؛ فليس إلى غير النصب سبيل في البيت، وإلا بطل المعنى وفسد، وفساده أنك إذا أخليت " يكن " من ضمير بابك وجعلت قوله " ثاني " اسمها كان ذلك خطأ ظاهراً قبيحاً؛ لأنك إذا قلت: كان زيد وعمرو اثنين ولم يكن لهما ثان، كنت مخطئاً؛ لأن كل اثنين أحدهما ثانٍ للآخر، وكذلك إذا قلت: كانوا ثلاثةً ولم يكن لهم ثالث، كنت مخطئاً؛ لأن أحد الثلاثة هو ثالثهم، وإنما تكون مصيباً إذا قلت: كانا اثنين ولم يكن لهما ثالث، وثلاثةً ولم يكن لهم رابع، وأيضاً فإنه لو أراد هذا المعنى لم يكن في البيت فائدة البتة؛ لأنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 يكون المعنى حينئذٍ أن بابك ثاني مازيار، فأي فائدة في هذا مع ما فيه من الخطأ الفاحش؟ وأي تعلق لهذا المعنى بما قبله في البيت؟ وقال في آخر قصيدة: شامت بروقك آمالي بمصر، ولو ... أضحت على الطوس لم تستبعد الطوسا فأدخل في طوس الألف واللام، وهي اسم بلدة معروفة، وقال: إحدى بني بكر بن عبد مناه وإنما هي مناة في الإدراج، كما قال الله وتبارك وتعالى " ومناة الثالثة الأخرى " وإنما تكون بالهاء في الوقف، لا في الحركة والدرج. وقال في هذه القصيدة: لولا صفاتٌ في كتاب الباه وإنما هي الباءة بالمد في تقدير الباعة، وإن كان قد حكى الباه في بعض اللغات الرديئة، والردى لا يقتدى به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وقال: فكم لي من هواء فيك صافٍ ... غذى جوه، وهوى وبي فقال غذى وهو غذٍ بالتخفيف. وقال في قصيدة: على الأعادي ميكالٌ وجبريل فأوقع الإعراب على الياء من الأعادي، وذلك غير جائز لمتأخر. وقال: ستين ألفاً وسبعيناً ومثلهما ... كتائب الخيل تحميها الأراجيل فنون النون من " سبعين " وهذا لا يسوغه محدثٌ، ونحو هذا مما ليست بنا حاجة إلى ذكره؛ لأنا لم نتتبعه ولا عبناه به؛ لما وصفناه في باب اللحن وكثرته في أشعاره المتأخرين، وإنما عبناه بخطائه في معانيه، وإحالته في استعارته، وكثرة ما بورده من الساقط والغث البارد، مع سوء سبكه، ورداءة طبعه، وسخافة لفظه، مما سنذكره في باب آخر من الاحتجاج عليكم. فأما ما عبتم به البحتري من قوله: يخفى الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمةٌ بغير إناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فما زالت الرواة وشيوخ أهل الأدب والعلم يستحسنون هذا البيت ويستجيدونه له، وذكره عبد الله بن المعتز بالله - وقد علمتم فضله وعلمه بالشعر - في باب ما اختاره من التشبيه في كتابه الذي نسبه إلى البديع، ولكنكم أبيتم إلا إفساده، ثم أجلبتم وأكثرتم أن تنعوا على شاعر محسن بيتاً واحداً، فما زلتم تبحثون وتتحملون حتى وجدتم أبياتأً تحتمل من التأويل ما يحتمله الأول، وهو قوله: ضحكاتٌ في إثرهن العطايا ... وبروق السحاب قبل رعوده وكلا البيتين إلى الصواب أقرب، ومن الخطأ أبعد، فأما قوله: يخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمةٌ بغير إناء فإنما قصد إلى وصف هيئة الشراب في الإناء، ولم يقصد إلى وصف الشراب خاصة، ولا إلى الإناء، كما ادعيتي، ولو أراد وصف الإناء لكان مصيباً؛ لأن الزجاجة أيضاً يوصف ما فيها، وتقع المبالغة في نعتها، وقد جاء في وصف أواني الشراب ما جاء، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول علي بن العباس بن جريج الرومي يصف قدحاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 تنفذ العين فيه حتى تراها ... أخطأته من رقة المستشف كهواء بلا هباء مشوب ... بضياء، أرقق بذاك وأصف وسط القدر: لم يكبر لجرعٍ ... متوالٍ، ولم يصغر لرشف لا عجول على العقول جهول ... بل حليم عنهن من غير ضعف فالزجاجة إذا رقت وصفت وسلمت من الكدر اشتد صفاؤها وبريقها، فإذا وقع فيها الشراب الرقيق اتصل الشعاعان، وامتزج الضوءان، فلم تكد الزجاجة تتبين للناظر، ولو صببنا دبساً أو عسلا أو لبناً وماء كدراً في إناء هذه صفته في الرقة لما خفى الإناء على الناظر؛ لأن هذه الأشياء لا شعاع لها ولا ضياء يتصل بشعاع الإناء وضوئه، وقد سبقه إلى هذا المعنى علي بن جبلة فقال: كأن يد النديم تدير منها ... شعاعاً لا تحيط عليه كاس وقال الآخر، أنشده أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش: وإذا ما مزجت في كأسها ... فهي والكأس معاً شيءٌ أحد فأنتم في هذه المعارضة بالخطأ أجدر، وبالعيب أحرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وأما قوله: وبروق السحاب قبل رعوده فإنه أقام الرعد مقام الغيث؛ لأنه مقدمة له، وعلم من أعلامه، ودليل من أقوى دلائله، ألا ترى أن برق الخلب لا رعد له، وقد قال الأعشى: والشعر يستنزل الكريم كما اس ... تنزل رعد السحابة السبلا فجعل الرعد هو الذي يستنزل المطر، وقال الكميت: وأنت في الشتوة الجماد إذا ... أخلف من أنجمٍ رواعدها وإذا كان البرق ذا رعدٍ فقلما يخلف. ومثل هذا في كلام العرب - مما ينوب فيه الشيء عن الشيء، إذا كان متصلا به، أو سبباً من أسبابه، أو مجاوراً له - كثيرٌ؛ فمن ذلك قولهم للمطر: سماء، ومنه قولهم: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، قال الشاعر: إذا نزل السماء بأرض قومٍ ... رعيناه وإن كانوا غضابا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أراد إذا سقط المطر رعيناه، يريد رعينا النبت الذي يكون عنه، ولهذا سمى النبت ندى؛ لأنه عن الندى يكون، وقالوا: ما به طرقٌ، أي ما به قوة، والطرق: الشحم، فوضعوه موضع القوة؛ لأن القوة عنه تكون، وقولهم للمزادة: راوية، وإنما الرواية البعير الذي يسقي عليه الماء، فسمى الوعاء الذي يحمله باسمه، ومن ذلك الحفض متاع البيت، فسمى البعير الذي يحمله حفضاً. ومن ذلك قول المسيب بن علسٍ: وتمد ثنى جديلها بشراع أراد بدقلٍ، فقال: بشراع؛ لأن الشراع عليه يكون. وهذا باب واسع، وأيسر من أن يحتاج إلى استقصائه. وبعد؛ فلو كان هذان البيتان خطأ - كما ادعيتم وأخذتم على هذا الشاعر المجتمع على إحسانه غلطاً من غيرهما في شعره - لما كان بذلك داخلا في جملة المسبوقين، ولا الخطاطئين في الشعر؛ لجودة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 نظمه، واستواء نسجه، ووقوع لفظه في مواقعه، ولأن معانيه تصح بالنقد، وتخلص على السبك. أبو تمام يتبهرج شعره عند التفتيش والبحث، ولا تصح معانيه على التفسير والشرح. 17 - قال صاحب أب يتمام: لئن أسرفتم في الذم، وبالغتم على صاحبنا في الطعن، وتجاوزتم الحد الذي يقف عنده المحتج المناظر، إلى مذهب المسقط المغالط، والمتعصب المتحامل - فلسنا نمنع أن يكون صاحبنا قد وهم في بعض شعره، وعدل عن الوجه الأوضح في كثير من معانيه، وغير منكرٍ لفكر نتج من المحاسن ما نتج، وولد من البدائع ما ولد، أن يلحقه الكلال في الأوقات، والزلل في الأحيان. بل من الواجب لمن أحسن إحسانه أن يسامح في سهوه، ويتجاوز له عن زلله، فما رأينا أحداً من شعراء الجاهلية سلم من الطعن، ولا من أخذ الرواة عليه الغلط والعيب. هذا الأصمعي قد عاب امرأ القيس بقوله: وأركب في الروع خيفاتةً ... كسا وجهها صعفٌ منتشر وقال: شبه شعر الناصية بسعف النخلة، والشعر إذا غطى العين لم يكن الفرس كريماً، وذلك هو الغمم، والذي يحمد من الناصية الجثلة، وهي التي لم تفرط في الكثرة فتكون الفرس غماء، والغمم مكروه، ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 تفرط في الخفة فتكون الفرس سفواء، والسفا أيضاً مكروهٌ في الخيل، والجيد ما قال عبيد: مضبرٌ خلقها تضبيراً ... ينشق عن وجهها السبيب وروى ذلك عنه أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني. وقال أيضاً: سمعت الأصمعي يقول: أخطأ امرؤ القيس في قوله: لها متنتان خظايا كما ... أكب على ساعديه النمر لأن المتن لا يوصف بكثرة اللحم، ويستحب منه التعريف، وكذلك الوجه كما قال طفيلٌ: معرقة الألحى تلوح متونها وأخذ عليه في قوله وصف الفرس: فللسوط ألهوبٌ، وللساق درةٌ ... وللزجر منه وقع أخرج مهذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وقال: هذه الفرس بطيئة؛ لأنها تحوج إلى السوط، وإلى أن تركض بالرجل وتزجر؛ ويقال: إن أول من عابه بهذا البيت زوجته لما اجتكم إليها هو وعلقمة الفحل، فغلبت علقمة، فطلقها. وقد أخذ أيضاً عليه قوله: أغرك مني أن حبك قاتلي وقال: إذا لم يغر هذا فأي شيء يغر؟ وعيب زهير بن أبي سلمى بقوله: يخرجن من شرباتٍ ماؤها طحلٌ ... على الجذوع يخفن الغمر والغرقا وقالوا: ليس خروج الضفادع من الماء خوف الغمر والغرق، وإنما ذلك لأنها تبيض في الشطوط. وعيب على كعب ابنه قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ضخمٌ مقلدها فعمٌ مقيدها وقالوا: إنما توصف النجائب برقة المذبح وأخذ على النابغة قوله يصف عنق المرأة بالطول: إذا ارتعثت خاف الجبان رعثها ... ومن يتعلق حيث علق يفرق وهذا قريب من قول أبي نواس: وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق بل أبو نواس أعذر؛ لقوله " لتخافك " يريد لتكاد تخافك، والشعراء تسقط " تكاد " في الشعر وهي تريدها. وجاء في القرآن مثل ذلك، قال الله عز وجل: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال "، أي لتكاد تزول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وقال الشاعر: يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظراً يزيل مواطئ الأقدام أي: نظراً يكاد يزيل، فأضمر " يكاد " واللام إذا جاءت كانت أدل عليها، وقال الله عز وجل: " وبلغت القلوب الحناجر " أي: كادت. وأخذ على النابغة قوله: ألكنى يا عيين إليك قولاً ... ستحمله الرواة إليك عني وقالوا: فاعتذر له الأصمعي، وقال: هذا مما حملته الرواة علىلنابغة! كأنه يدفع أن يكون قوله. وأخذ على المسيب قوله: وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناجٍ عليه الصيعرية مكدم قال: الصيعرية صفةٌ للنوق، لا للفحول، فسمعة طرفة بن العبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 - وهو صبي - فقال: استنوق الجمل، وضحك منه، ويقال: إن المسيب قال: أخرج لسانك يا فتى، فأخرجه، فقال: ويلٌ لهذا من هذا، يعني رأسه من لسانه. وأخذ على المرقش قوله: صحا قلبه عنها سوى أن ذكرةً ... إذا خطرت دارت به الأرض قائما قالوا: من إذا ذكر دارت به الأرض ليس بصاحٍ. وأخذ على عدي بن ويد قوله: يبذ الجياد فارهاً متتابعاً وقالوا: لا يقال للفرس فارهٌ، وإنما يقال له: جواد، وكريم، والفاره: البغل والحمار. وأخذ عليه أيضاً قوله في صفة الخمر: والمشرف الهيدب يسعى به ... أخضر مطموثاً بماء الحريص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الحريص: سحابة تحرص وجه الأرض: أي تقشره لشدتها، ويقال: الحريص اسم نهر بناحية الحيرة، فوصف الخمر بالخضرة، وما وصفها بذلك أحد غيره. وأخذ على الأعشى قوله: وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاوٍ شلولٌ مشلٌ شلشلٌ شول وقالوا: هذه الألفاظ كلها التي بعد " شاوٍ " متقاربة في المعنى. وقرئ على الأصمعي قول أبي ذؤيب الهذلي: قصر الصبوح لها فشرج لحمها ... بالنى فهى تثوخ فيها الإصبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 تأبى بدرتها إذا ما استكرهت ... إلا الحميم فإنه يتبضع فقال: هذه الفرس تساوى درهمين؛ لأنه جعلها كثيرة اللحم، رخوة، يدخل فيها الإصبع، حرونا، إذا حركت قامت، إلا العرق فإنه يسيل. وقرئ على الأصمعي قول أبي النجم: يسبح أولاه ويطفو آخره فقال: حمار الكساح إذاً أفره منه. وعاب الأصمعي ذا الرمة في قوله: حتى إذا دومت في الأرض أدركها ... كبرٌ ولو شاء نجى نفسه الهرب وقال: الفصحاء لا يقولون دوم في الرض، وإنما يقولون: دوم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 السماء، إذا حلق، ودوى في الأرض، إذا ذهب. وكان الأصمعي أيضاً يعيبه في قوله: ونقرى عبيط الشحم والماء جامس وقال: إنما يقال للجامد من السمن وما أشبهه جامس، وروى ذلك عنه أبو حاتم. وحكى أبو نصر عن الأصمعي قال: كنا نظن الطرماح شيئاً حتى قال: وأكره أن يعيب على قومي ... هجائي الأرذلين ذوى الحنات لأنها إحنةٌ وإحنٌ، ولا يقال حناتٌ. وأخذ على الآخر قوله: فما رقد الولدان حتى رأيته ... على البكر يمريه بساقٍ وحافرٍ فسمى رجل الإنسان حافراً، وهذه استعارةٌ في نهاية القبح. وكذلك قول الآخر: قد أفنى أنامله عضه ... فأضحى يعض على الوظيفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فجعل له وظيفا مكان الرجل. وكذلك قول الآخر: سأمنعها أو سوف أجعل أمرها ... إلى ملكٍ أظلافه لم تشقق وقال الحطيئة: قروا جارك العيمان لما جفوته ... وقلص عن برد الشراب مشافره وعيب على أيمن بن خريم قوله يمدح بشر بن مروان: فإنا قد وجدنا أم بشرٍ ... كأم الأسد مذ كاراً ولوداً وقالوا: أخطأ في أن جعل أم الأسد ولودا؛ لأن الحيوانات الكريمة عسرةٌ نزرة النتاج، والصواب قول كثير: يغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلاتٌ نزور وقال جرير: صارت حنيفة أثلاثاً؛ فثلثهم ... من العبيد، وثلثٌ من مواليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فقيل لرجل من بني حنيفة: من أي الأثلاث أنت؟ فقال: من الثلث الملغى. وسمع إسحاق بن إبراهيم الموصلي عمارة بن عقيل ينشد لجرير: لما تذكرت بالديرين أرقتني ... صوت الدجاج وقرعٌ بالنواقيس فقال: أخطأ والله أبوك، التأذين لا يكون في أول الليل، وقال من طلب العذر لجرير: أرقني انتظار صوت الدجاج. وعاب الأخطل الفرزدق في قوله: أبنى غذانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال لولا عطية لاجتدعت أنوفكم ... من بين ألام أعين وسبال قال: وكيف وهبهم له وهو يهجوهم بمثل هذا الهجاء؟ وقال عطية حين بلغه الشعر: ما أسرع ما رجع أخي في هبته؟ ومدح الفرزدق الحجاج وقد دخل عليه ببيت واحد، فقال: ومن يأمن الحجاج والطير تتقيعقوبته إلا ضعيف العزائم؟ فقال له الحجاج: الطير تتقى الثوب، وتتقي الصبى، ما جئت بشيء؟ وإنما أراد الفرزدق الطائر الذي يطير في السماء فليست تناله يدٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وعيب على الأخطل قوله في عبد الملك بن مروان: وقد جعل الله الخلافة منهم ... لأبيض لا عاري الخوان ولا جدب وهذا لا يمدح به خليفة .. وأراد أن يمدح رجلا من بني أسد كان أجاره، فهجاه؛ وكان يقال لقوم الرجل: القيون، يعيرون بذلك، فقال: قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فاليوم طير عن أثوابه الشرر أي: فاليوم نفى ذلك عن نفسه، فما زاد على أن نبه عليه، وقد كان له في الممادح متسعٌ. وأراد أن يهجو سويد بن منحوفٍ فمدحه، وذلك قوله: فما جذع سوءٍ خرب السوس وسطه ... لما حملته وائلٌ بمطيق وأخذ على الفرزدق قوله يمدح وكيع بن أبي سويد: إذا التقت الأبطال أبصرت وجهه ... مضيئاً، وأعناق الكماة خضوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فقالوا: أساء القسمة، وأخطأ الترتيب؛ وإنما كان يجب أن يقول: أبصرته ساميا وأعناق الملوك خضوع، أو أبصرت لونه مضيئاً وألوان الكماة كاسفة. ومن خطأ الشعر قول عدي بن الرقاع يذكر الباري تبارك وتعالى: وكفك بسطةٌ ونداك سحٌ ... وأنت المرء تفعل ما تقول فجعل ربه مرءاً، وعابه الأصمعي في قوله: لهم رايةٌ تهدى الجموع كأنها ... إذا خطرت في ثعلب الرمح طائر وقال: الراية لا تخطر، إنما الخطران للرمح. ومن فاسد اللفظ وقبيحه قول ذي الرمة: فأضحت مباديها قفاراً رسومهاكأن لم سوى أهل من الوحش تؤهل أراد: كأن لم تؤهل سوى أهل من الوحش. ومن خطأ المديح قول الكميت يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 إلى السراج المنير أحمد لا ... تعدل بي رغبةٌ ولا رهب عنه إلى غيره، ولو رفع الن ... اس إلى العيون وارتقبوا وقيل أفرطت، بل قصدت، ولو ... عنفني القائلون أو ثلبوا لج بتفضيلك اللسان، ولو أكثر فيك الضجاج واللجب فمن يعنفه ويؤنبه على مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكثر عليه فيه الضجاج واللجب؟ وهذا لو كان قاله بين المشركين وفي صدر الإسلام لعل العذر كان يتسع له فيه، وقد اعتذر له معتذر واحتج بأن قال: لم يرد النبي عليه الصلاة والسلام خاصةً بهذا الخطاب، وإنما أراد أهل بيته؛ لأنه قد قال فيهم من الشعر ما قال، ولأن بني أمية كانت تعنف من يمدحهم، وتنكر أشد الإنكار على من يتخونهم، ويغرق في الثناء عليهم والوصف لهم. وعيب أيضاً الكميت بأن جمع كلمتين لا تشبه إحداهما الأخرى، وذلك قوله: وقد رأينا بها حوراً منعمةً ... روداً تكامل فيها الدل والشنب وقال: الدل إنما يكون مع الغنج أو نحوه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 والشنب إنما يكون مع اللعس أو ما يجري مجراه من أوصاف الثغر والفم؛ والجيد ما قاله ذو الرمة: لمياء في شفتيها حوةٌ لعسٌ ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب ولو استقصينا هذا الباب لطال جداً، وإنما أوردنا ههنا منه مثالا لتعلموا أن فحول الشعراء - الذين غلبوا عليه، وافتتحوا معانيه، وصاروا قدوة، واتبعهم اشعراء، واحتذوا على حذوهم، وبنوا على أصولهم - ما عصموا من الزلل، ولا سلموا من الغلط. هذا في المعاني التي هي المقصد والمرمى والغرض، فأما ما بوبه النحويون من عيوب الشعر في الإقواء والإكفاء والسناد، وغي رذلك مما هو عيبٌ في اللفظ دون المعنى، فليست بنا حاجةٌ إلى ذكره، لكثرته وشهرته. وكذلك ما أخذته الرواة على المحدثين المتأخرين - من الغلط والخطأ واللحن - فاشٍ أيضاً وأشهر أيضاً من أن يحتاج إلى أن تبرهنه أو ندل على ذلك؛ فلم يك أحد من متقدم ولا متأخر في خطئه ولا سهوه وغلطه مجهول الحق، ولا بمجحود الفضل، بل عفى عندكم إحسانه على إساءته، وعلا تجويده على تقصيره، فكيف خصصتم أبا تمام دون غيره بالطعن، وعبتموه دون من سواه بالزلل والوهن؟ ولم يك بذلك بدعاً، ولا منفرداً، ولا إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 سابقاً؛ فبخستم حق الإحسان الذي انتشر في الآفاق، وسارت به الركبان، وتمثل به المتمثل، وتأدب بحفظه وإنشاده المتأدب، مما إن ذكرناه لم تنكروه، وأقررتم بفضله، وأجمعتم على استجادته واستحسانه، فهل الظلم المستقبح والتعصب المستهجن إلا ما أنتم مرتكبوه وخابطون فيه؟ 18 - قال صاحب البحتري: أما أخذ السهو والغلط على من أخذ عليه من المتقدمين والمتأخرين؛ ففي البيت الواحد، والبيتين، والثلاثة؛ وربما سلم الشاعر المكنر من ذلك بنة، وتعرى منه، حتى لا تؤخذ عليه لفظة؛ وأبو تمام لا تكاد تخلو له قصيدةٌ واحدةٌ من عدة أبيات يكون فيها مخطئاً، أو محيلا، أو عن الغرض عادلا، أو مستعيراً استعارة قبيحة، أو مفسداً للمعنى الذي يقصده بطلب الطباق والتجنيس، أو مبهماً بسوء العبارة والتعقيد حتى لا يفهم، ولا يوجد له مخرج، مما لو عددناه لكان كثيراً فاحشاً، فكيف يكون ما أخذ على الشعراء من الوهم وقليل الغلط عذراً لمن لا تحصى معايبه ومواقع الخطأ في شعره؟ ... وعلى أن أكثر ما عددتموه - مما أخذته الرواة على الشعراء - صحيح، والسهو فيه إنما دخل على الرواة، ولو كان هذا موضع ذكره لذكرناه. 17 - قال صاحب أبي تمام: فبم تدفعون قول البحتري يرثى أبا تمام ودعبلاً، ويذم من بقي بعدهما من الشعراء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قد زاد في كلفي، وأوقد لوعتي ... مثوى حبيبٍ يوم مات ودعبل وبقاء ضرب الخثعمي وشبهه ... من كل مضطرب القريحة مجبل أهل المعاني المستحيلة إن هم ... طلبوا البراعة بالكلام المقفل أخوى لا تزل السماء مخيلةً ... تغشا كما بحيا السحاب المسبل جدثٌ لدى الأهواز يبعد دونه ... مسرى النعى ورمةٌ بالموصل فمحال أن يرثى البحتري أبا تمام ويذكر من بعده من الشعراء بأن قرائحهم مضطربة ومعانيهم مستحيلة، وعنده أن أبا تمام تلك صفته، فلم تنكرون فضل من يعترف البحتري بفضله، ويشهد في الشعر له، وتنسبون العيب إليه وهذه صفته عنده، وتلحقونه به وهو يبرئه منه؟ 18 - قال صاحب البحتري: ولم لا يفعل البحتري ذلك وقد كان هو وأبو تمام - بعد اجتماعهما وتعارفهما - متصافيين على القرب والبعد، متحابين متلائمين على الدنو والشحط، يجمعهما الطلب والنسب والمكتسب، ولم يكن في زمانهما شاعر مشهور يفد على الملوك ويجتدي بالشعر وينتسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 إلى طيء سواهما، فليس بمنكرٍ أن يشهد أحدهما لصاحبه بالفضل، ويصفه بأحسن ما فيه، وينحله ما ليس فيه، وخاصةً في الشعر؛ ثم في تأبين الميت فإن العادة جرت بأن يعطى من التقريظ، والوصف، وجميل الذكر، أضعاف ما كان يستحقه، فلا تدفعوا العيان؛ فلن يمحق وصف البحتري أبا تمام في حياته وتأبينه إياه بعد وفاته ما ظهر من مقابحة وفضائح شعره. 19 - قال صاحب أب يتمام: فقد علمتم وسمعتم الرواة وكثيراً من العلماء بالشعر يقولون: جيد أبي تمام لا يتعلق به جيد أمثاله، وإذا كان جيد دون جيده لم يضر ما يؤثر من رديئه. 20 - قال صاحب البحتري: إنما صار جيد أب يتمام موصوفاً لأنه يأتي في تضاعيف الردئ الساقط؛ فيجئ رائقاً لشدة مباينته ما يليه، فيظهر فضله بالإضافة، ولهذا قال له أبو هفان: إذا طرحت درة في بحر خرء فمن الذي يغوص عليها ويخرجها غيرك؟ والمطبوع الذي هو مستوى الشعر قليل السقط لا يبين جيده من سائر شعره بينونةً شديدةً، ومن أجل ذلك صار جيد أب يتمام معلوماً وعدده محصوراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وهذا عندي - أنا - هو الصحيح؛ لأني نظرت في شعر أبي تمام والبحتري وتلقطت محاسنهما، ثم تصفحت شعريهما بعد ذلك على مر الأوقات؛ فما من مرة إلا وأنا الحق في اختيار شعر البحتري ما لم أكن اخترته من قبلن وما أعلم أني زدت في اختيار شعر أبي تمام ثلاثين بيتاً على ما كنت اخترته قديما. 23 - قال صاحب أبي تمام: أفتنكرون كثرة ما أخذه البحتري من أب يتمام، وإغراقه في الاستعارة من معانيه؟ فأيهما أولى بالتقدمة: المستعير، أو المستعار منه؟ 24 - قال صاحب البحتري: قد ابتدأنا بالجواب عن هذا في صدر كلامنا، ونحن نتمه في هذا الموضع إن شاء الله تعالى: أما ادعاؤكم كثرة الأخذ منه فقد قلنا إنه غير منكرٍ أن يكون أخذ منه من كثرة ما كان يرد على سمع البحتري من شعر أب يتمام؛ فيعتلق معناه: قاصداً الأخذ، أو غير قاصدٍ، لكن ليس كما ادعيتم وادعاه أبو الضياء بشر بن يحيى ف يكتابه؛ لأنا وجدناه قد ذكر ما يشترك الناس فيه، وتجري طباع الشعراء عليه، فجعله مسروقاً، وإنما السرق يكون في البديع الذي ليس للناس فيه اشتراك، فما كان من هذا الباب فهو الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أخذه البحتري من أبي تمام، لا ما ذكره أبو الضياء وحشا به كتابه، وأنا أذكر هذين الشيئين في موضعهما من الكتاب، وأبين ما أخذه البحتري من أبي تمام على الصحة، دون ما اشتركا فيه؛ إذ كان غير منكر لشاعرين متناسبين من أهل بلدين متقاربين أن يتفقا في كثير من المعاني، لا سيما ما تقدم الناس فيه، وتردد في الأشعار ذكره، وجرى في الطباع والاعتياد من الشاعر وغير الشاعر استعماله. وبعد؛ فينبغي أن تتأملوا محاسن البحتري، ومختار شعره، والبارع من معانيه والفاخر من كلامه؛ فإنكم لا تجدون فيه على غزره وكثرته حرفاً واحداً مما أخذه من أبي تمام، وإذا كان ذلك إنما يوجد في المتوسط من شعره فقد قام الدليل على أنه لم يعتمد أخذه، وأنه إنما كان يطرق سمعه فيلتبس بخاطره فيورده. تم احتجاج الخصمين بحمد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 * منهج الآمدي في الكتاب وأنا أبتدئ بذكر مساوى هذين الشاعرين؛ لأختم بذكر محاسنهما، وأذكر طرفاً من سرقات أبي تمام ، وإحالاته، وغلطه، وساقط شعره، ومساوى البحتري في أخذ ما أخذه من معاني أب يتمام، وغير ذلك من غلطٍ في بعض معانيه، ثم أوزان من شعريهما بين قصيدتين إذا اتفقتا في الوزن ولاقافية وإعراب القافية، ثم بين معنى ومعنىً؛ فإن محاسنهما تظهر في تضاعيف ذلك، ثم أذكر ما انفرد به كل واحد منهما فجوده من معنى سلكه ولم يسلكه صاحبه، وأفرد بابا لما وقع في شعريهما من الشبيه، وبابا للأمثال، أختم بهما الرسالة، وأتبع ذلك بالاختيار المجرد من شعريهما، وأجعله مؤلفاً على حروف المعجم؛ ليقرب متناوله، ويسهل حفظه، ةتقع الإحاطة به، إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 * سرقات أبي تمام كان أبو تمام مشتهراً بالشعر، مشغوفاً به، مشغولا مدة عمره بتخيره ودراسته، وله كتب اختيارات فيه مشهورة معروفة؛ فمنها: الاختيار القبائلي الأكبر اختار فيه من كل قبيلٍ قصيدةً، وقد مر على يدى هذا الاختيار، ومنها اختيارٌ آخر ترجمته القبائلى، اختار فيه قطعاً من محاسن أشعار القبائل، ولم يورد فيه كبير شيء للمشهورين؛ ومنها: الاختيار، الذي تلقط فيه محاسن شعر الجاهلية والإسلام، وأخذ من كل قصيدة شيئاً حتى انتهى إلى إبراهيم بن هرمة، وهو اختيار مشهور معروف باختيار شعراء الفحول، ومنها اختيار تلقط فيه أشياء من الشعراء المقلين ولا شعراء المغمورين غير المشهورين، وبوبه أبواباً، وصدره بما قيل في الشجاعة، وهو أشهر اختياراته، وأكثرها في أيدي الناس، ويلقب بالحماسة، ومنها اختيار المقطعات، وهو مبوب على ترتيب الحماسة، إلا أنه يذكر فيه أشعار المشهورين وغيرهم والقدماء والمتأخرين، وصدره بذكر الغزل، وقد قرأت هذا الاختيار، وتلقطت منه نتفاً وأبياتاً كثيرة، وليس بمشهور شهرة غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ومنها اختيار مجرد في أشعار المحدثين، وهو موجود في أيدي الناس؛ وهذه الاختيارات تدل على عنايته بالشعر، وأنه اشتغل به، وجعله وكده، واقتصر من كل الآداب والعلوم عليه؛ فإنه ما شيء كبير من شعر جاهلي ولا إسلامي ولا محدث إلا قرأه واطلع عليه، ولهذا أقول: إن الذي خفى سرقاته أكثر مما قام منها، على كثرتها. وأنا أذكر ما وقع إلي في كتب الناس من سرقاته، وما استنبطته أنا منها واستخرجته؛ فإن ظهرت بعد ذلك منها على شيء ألحقته بها، إن شاء الله. 1 - قال الكميت الأكبر، وهو الكميت بن ثعلبة: ولا تكثروا فيه اللجاج؛ فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا أخذه الطائي فقال: السيف أصدق أنباء من الكتب وذلك أن أهل التنجيم كانوا حكموا بأن المعتصم لا يفتح عمورية، وراسلته الروم: إنا نجد في كتبنا أن مدينتنا هذه لا تفتح إلا في وقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 إدراك التين والعنب، وبيننا وبين ذلك الوقت شهورٌ يمنعك من المقام فيها البرد والثلج، فأبى أن ينصرف، وأكب عليها حتى فتحها وأبطل ما قالوه؛ فلذلك قال الطائي: السيف أصدق أنباء من الكتب هو أحسن ابتداءاته. 2 - وقال النابغة يصف يوم الحرب: تبدو كواكبه والشمس طالعةٌ ... لا النور نورٌ ولا الإظلام إظلام أخذه الطائي، فقال وذكر ضوء النهار وظلمة الدخان في الحريق الذي وصفه: ضوءٌ من الناء والظلماء عاكفةٌ ... وظلمةٌ من دخان في ضحى شحب فالشمس طالعةٌ من ذا، وقد أفلت ... والشمس واجبةٌ من ذا، ولم تجب 3 - وقال الأعشى: وإن صدور العيس سوف يزوركم ... ثناءٌ على أعجازهن معلق أخذه الطائي فقال: من القلاص اللواتي في حقائبها ... بضاعةٌ غير مزجاةٍ من الكلم 4 - وقال مسلم بن الوليد في صفة الخمر: قتلت وعاجلها المدير ولم يقد ... فإذا به قد صيرته قتيلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أخذه الطائي وأحسن الأخذ فقال: إذا اليد نالتها بوترٍ توفرت ... على ضغنها ثم استقادت من الرجل فإن كان أخذها من ديك الجن فلا إحسان له؛ لأنه أتى بالمعنى بعينه، قال ديك الجن: تظل بأيدينا تقعقع روحها ... وتأخذ من أقدامنا الراح ثارها كذا وجدته فيما نقلته، وليس ينبغي أن يقطع على أيهما أخذ من صاحبه؛ لأنهما كانا في عصر واحد. 5 - وقال الأعشى: وأرى الغواني لا يواصلن ارمأ ... فقد الشباب، وقد يصلن الأمردا أخذ الطائي المعنى والصفة فقال: أحلى الرجال من النساء مواقعاً ... من كان أشههم بهن خدودا 6 - وقال البعيث: وإنا لنعطى المشرفية حقها ... فتقطع في أيماننا وتقطع فقال الطائي: فما كنت إلا السيف لا قى ضريبة ... فقطعها ثم انثنى فتقطعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 7 - وقال الطائي: وركبٍ كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه أخذ صدر البيت الأول من قول كثير: وركبٍ كأطراف الأسنة عرجوا ... قلائص في أصلابهن نحول ويشبه قول البعيث: أطافت كالأسنة هجدٍ ... بخاشعة الأصواء غبرٍ صحونها وأخذ معنى البيت الثاني من قول الآخر. غلام وغى تقحمها فأبلى ... فخان بلاءه الدهر الخؤون فكان على الفتى الإقدام فيها ... وليس عليه ما جنت المنون 8 - وقال جران العود العود يصف الخيال: سقياً لزورك من زورٍ أتاك به ... حديث نفسك عنه وهو مشغول فذكر العلة في طروق الخيال، وهو السابق إلى هذا المعنى، فأخذه العباس ابن الأحنف فقال: خيالك حين أرقد نصب عيني ... إلى وقت أنتباهى ما يزول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وليس يزورني صلة، ولكن ... حديث النفس عنك هو الوصول فتبعه الطائي فقال: زار الخيال لها، لا، بل أزاركه ... فكرٌ إذا نام فكر الخلو لم ينم وقال في هذا المعنى أيضاً: نم فما زارك الخيال، ولكن ... ك بالفكر زرت طيف الخيال 9 - وقال أبو تمام الطائي: أما الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح فيك، كما علمت، جليل فاذهب فأنت طليق عرضك؛ إنه ... عرضٌ عززت به وأنت ذليل أخذه من قول هشام المعروف بالحلو أحد الشعراء البصريين يهجو بشار ابن برد: بذلة والديك كسبت عزا ... وباللوم اجترأت على الجواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وأخذه إبراهيم بن العباس فقال وأجاد وأحسن: نجا بك عرضك منجى الذباب ... حمته مقاذره أن ينالا 10 - وقال الطائي: والشيب إن طرد الشباب بياضه ... كالصبح أحدث للظلام أفولا أراد قول الفرزدق: والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليلٌ يصيح بجانبيه نار فقصر عنه. 11 - وقال قيس بن ذريح: بليعٌ إذا يشكو إلى غيرها الهوى ... وإن هو لاقاها فغير بليغ أخذه الطائي فقال: لم تنكرين مع الفراق تبلدي ... وبراعة المشتاق أن يتبلد؟! 12 - وقال الحطيئة: إذا هم بالأعداء لم يثن همه ... حصان عليها لؤلؤٌ وشنوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فأخذه كثير فقال: إذا هم بالأعداء لم يثن همه ... حصانٌ عليها عقد در يزينها أخذه الطائي فخلط؛ لقصده إلى مجانسة اللفظ، فقال: عداك حر الثغور المستضامة عن ... برد الثغور، وعن سلسالها الخصب 13 - وقال مسلم بن الوليد: قد عود الطير عادات وثقن بها ... فهن يتبعته في كل مرتحل أخذه الطائي فقال: وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش، إلا أنها لم تقاتل فأتى في المعنى زيادةً، وهي قوله " إلا أنها لم تقاتل " وجاء به فيبتين. [وأخطأ أيضاَ في المعنى بقوله: ((في الدماء نواهل)) والنهل: هو الشرب الأول، والعلل: الشرب الثاني والعقبان لا تشرب الدماء، وإنما] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 تأكل اللحم. وقد ذكر المتقدمون هذا المعنى؛ فأول من سبق إليه الأفوه الأودى، وذلك قوله: وترى الطير على آثارنا ... رأى عين ثقة أن ستمار فتبعه النابغة فقال: إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب فأخذه حميد بن ثور فقال يصف الذئب: إذا ما غدا يوماً رأيت غمامةً ... من الطير ينظران الذي هو صانع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقال أبو نواس: تتأيا الطير غزوته ... ثقةً بالشبع من جزره أي: تتعمد وتقصد. 14 - وقال منصور النمري يمدح الرشيد: وعينٌ محيطٌ بالبرية طرفها ... سواءٌ عليه قربها وبعيدها أخذه أبو تمام فقال: أطل على كلى الآفاق حتى ... كأن الأرض في عينيه دار عجز هذا البيت حسنٌ جداً، وبيت النمري أحب إلى؛ لأن معناه أشرح 15 - وقال مسلم بن الوليد: فلما انتضى الليل الصباح وصلته ... بحاشيةٍ من لونه المتورد أخذه أبو تمام فقال: حطت على قبة الإسلام أرحله ... والشمس قد نفضت ورساً على الأصل [أو أخذه من قول النمري: أجد ولما يجمع الليب شمله ... فما حل إلا وهو ورد المغارب] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 هذا ما ذكره ابن المنجم، والذي أظنه أنه أخذه من قول الآخر: والشمس صفراء ... كلون الورس 16 - وقال مرار الفقعسي في وصف الأثافي: أثر الوقود على جوانبها ... بخدودهن كأنه لطم أخذه أبوتمام فقال: أثافٍ كالخدود لطمن حزناً ... ونؤيٌ مثملا انقصم السوار أورد المعنى في مصراع، وأتى بالمصراع الثاني بمعنى آخر يليق به فأجاد، إلا أن بيت المرار أشرج وأوضح معنىٍ، لقوله " أثر الورود على جوانبها " فأبان المعنى الذي من أجله أشبه الخدود الملطومة. 17 - وقال أبو نواس: فالخمر ياقوتةٌ والكأس لؤلؤةٌ ... من كف لؤلؤةٍ ممشوقة القد أخذه أبو تمام فقال وأساء: أوردةٌ بيضاء بكرٌ أطبقت ... حبلا على ياقوتةٍ حمراء لأن قوله " أطبقت حبلا " كلام قبيح مستكره جداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 18 - وقال أبو تمام: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول أخذه من قول كثير: إذا وصلتنا خلةٌ كي تزيلها ... أبينا، وقلنا: الحاجبية أول وذكر محمد بن داود بن الجراح في كتابه أنه أخذ المعنى من قول ابن الطثرية إذ يقول: أتاني هوها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً فارغاً فتمكنا وهذا أجود ما قيل في هذا المعنى؛ لأنه ذكر الصلة. 19 - وقال أبو تمام: وما سافرت في الآفاق إلا ... ومن جدوالك راحلتي وزادي مقيم الظن عندك والأماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد أخذه من قول أبي نواس: وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وقد كان ابن أبي دؤاد سأله عن هذا المعنى أنشده القصيدة، فقال: أهو مما اخترعته؟ فقال: أخذته من قول ابن هاني: وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ 20 - وقال ابن الخياط في قصيدة يمدح بها المهدي، فأجازه بجائزة ففرقها في الدار، فبلغه فأضعف له الجائزة، فقال: لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدى أخذه أبوتمام فقال: علمني جودك السماح؛ فما ... أبقيت شيئاً لدى من صلتك وبيت ابن الخياط أبلغ وأجود. 21 - وقال دعبل بن علي: وإن امرأ أسدى إلى بشافعٍ ... إليه ويرجو الشكر مني لأحمق شفيعك فاشكر في الحوائج؛ إنه ... يصونك عن مكروهها وهو يخلق فأخذه أبو تمام فقال وألطف المعنى وأحسن اللفظ: فلقيت بين يديك حلو عطائه ... ولقيت بين يدي مر سؤاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وإذا امرءٌ أهدى إليك صنيعةً ... من جاهه فكأنها من ماله 22 - وقال مسلم بن الوليد ف يالحجاب، وأخطأ ف يالمعنى: كذلك الغيث يرجى في تحجبه ... حتى يرى مسفراً عن وابل المطر أخذه أبو تمام فقال: ليس الحجاب بمقصٍ عنك لي أملاً ... إن السماء ترجى حين تحتجب إلا أن لبيت أبي تمام وجهاً من الثواب، وقد ذكرته في بابٍ ف يهذا الكتاب مع ما أخذ على مسلم بن الوليد في بيته من العيب. 23 - وقال النابغة الجعدي: وتستلب الدهم التي كان ربها ... ضنيناً بها، والحرب فيها الحرائب فأخذه أبو تمام فقال وقصر عنه: لما رأى الحرب رأى العين نوفلسٌ ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب أو أخذه من قول إبراهيم بن المهدي: وسعروا الحرب واسم الحرب قد علموالو ينفع العلم مشتقٌ من الحرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 24 - وقالت مريم بنت طارق ترثى أخاها، في أبيات أنشدها ابن الأنباري في أماليه: كنا كأنجم ليلٍ بينها قمرٌ ... يجلو الدجى، فهوى من بينها القمر أخذ أبو تمام اللفظ والمعنى، فقال: كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء من بينها البدر أو أخذه من قول جرير يرثي الوليد بن عبد الملك: أمسى بنوه وقد جلت مصيبتهم ... مثل النجوم هوى من بينها القمر ولست أدري أيهما أخذ من صاحبه؟ أمريم أخذت من جرير، أم جرير أخذ منها؟ وروى دعبل بن علي الخزاعي لأبي سلمى المونى، من ولد زهير، واسمه مكنفٌ وهو الذي كان يهجو بني القعقاع آل ذفافة العبسي فيقول: إن الضراط به تعاظم مجدكم ... فتعاظموا ضرطاً بني القعقاع قال دعبل: فلما مات ذفافة رثاه أبو سلمى فقال: أبعد أبي العباس يستعتب الدهر ... وما بعده للدهر عتبي ولا عذر؟ [إذا ما أبو العباس خلى مكانه ... فلا حملت أنثى ولا مسها طهر]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ألا أيها الناعي ذفافة ذا الندى ... تعست وشلت من أناملك العشر ولا مطرت أرضاً سماءٌ، ولا جرت ... نجومٌ، ولا لذت لشاربها الخمر كأن بني القعقاع بعد وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر توفيت الآمال بعد ذفافةٍ ... فأصبح في شغلٍ عن السفر السفر يعزون عن ثاوٍ تعزى به العلا ... ويبكى عليه البأس والمجد والشعر وما كان إلا مال من قل ماله ... وذخراً لمن أمسى وليس له ذخر قال أبوعبد الله محمد بن داود بن الجراح: قال أبو محمد اليزيدي: أنشدني دعبلٌ هذه القصيدة، وجعل يعجبني من الطائي في ادعئه إياها، وتغييره بعض أبياتها. 25 - وقال مسلم بن الوليد يرثي: فاذهب كما ذهبت غوادي مزنةٍ ... أثنى عليها السهل والأوعار أخذ أبو تمام المعنى وقصر ف يالعبارة، فقال: وقفنا فقلنا بعد أن أفرد الثرى ... به ما يقال في السحابة تقلع وتقصيره عن مسلم أن مسلماً قال " أثنى عليها السهل والأوعار " فأراد أن هذه السحابة عمت بنفعها، وفي قول أبي تمام " ما يقال في السحابة تقلع " إبهام؛ لأنه لم يفصح بالثناء عليها وأنها نفعت، وقد يقال في السحابة إذا أقلعت ما هو غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 المدح والثناء، إذا نزلت في غير حينها، وف يغير وقت الحاجة إليها، وكثيراً ما يضر المطر إذا كانت هذه حاله، وإن كان أبو تمام لم يرد هذا القسم، وإنما أراد القسم الآخر فقط؛ فقصر في العبارة والشرح، ألا ترى إلى قول الشاعر الأول ما أحسن ما شرط، وهو طرفة: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمةٌ تهمى قال " غير مفسدها " لما دعا لها بالسقيا التي تدوم، وقال البحتري: ألح جوداً فلم تضرر سحائبه ... وربما ضر عند الحاجة المطر وقول أبي تمام " ما يقال في السحابة تقلع " يحتاج إلى تفسير مع سرقته المعنى. 26 - وقال العباس بن الأحنف: سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا أخذه الطائي فقال: أآلفة النحيب، كم افتراقٍ ... أظل فكان داعية اجتماع؟ وبيت الأعرابي وهو عروة بن الورد - أجود من بيتهما، ومنه أخذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أنى للمقام أطوف 27 - وقال أبو تمام: أسربل هجر القول من لو هجوته ... إذاً لهجاني عنه معروفه عندي أخذ المعنى من قول بعض الخوارج وسامه قطري بن الفجاءة قتال الحجاج، لأن الحجاج كان من عليه، فقال: أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيدٍ تقر بأنها مولاته إني إذاً لأخو الدناءة، والذي ... غطت على إحسانه جهلاته ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف فاحتجت له فعلاته أأقول جار علي؟ لا، إني إذاً ... لأحق من جارت عليه ولاته وتحدث الأقوام أن صنائعاً ... غرست لدي فحنظلت نخلاته 28 - وقال قيس بن الخطيم: قضى لها الله حين صورها الخ ... الق أن لا يكنها سدف أخذه أبو تمام فقال: فعجبت من شمسٍ إذا حجبت بدت ... من نورها، فكأنها لم تحجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أو أخذه من قول أبي نواس: ترى ضوءها من ظاهر الكأس ظاهراً ... عليك، ولو غطيتها بغطاء 29 - وقال مسلم بن الوليد: يصيب منك مع الآمال طالبها ... حلماً وعلماً ومعروفاً وإسلاماً أخذه أبو تمام فقال وبرز عليه وإن كان بيت مسلم أجمع للمعنى: نرمي بأشباحنا إلى ملكٍ ... نأخذ من ماله ومن أدبه 30 - وقال أبو نواس: تبكي البدور لضحكه ... والسيق يضحك إن عبس أراد ههنا بالبدور حمع بدرة، فأخذه أبو تمام فقال وقصر عنه: كل يومٍ له وكل أوان ... خلٌ ضاحكٌ ومالٌ كئيب فبإزاء هذا البيت قول أبي نواس " تبكي البدور لضحكه " وقوله " والسيف يضحك إن عبس " فضلٌ. 31 - وقال جرير: وهن أضعف خلق الله أركانا أخذه أبو تمام فجعله في الخمر، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وضعيفةٍ فإذا أصابت فرصةً ... قتلت، كذلك قدرة الضعفاء 32 - وقال رجل من بني أسد، وكان أبو عبد الله الجرشي - أحد شعراء الشاميين - أنشدنيه لبعض شعراء بني أسد: تغيبت كي لا تجتويني دياركم ... ولو لم تغب شمس النهار لملت وظننته مصنوعا حتى وجدت عبد الله بن المعتز بالله ذكر في كتابه المؤلف في سرقات الشعر عجز هذا البيت: ولو لم تغب شمس النهار لملت للكميت بن زيد فأخذه الطائي فقال: فإني رأيت الشمس زيدت محبةً ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد فأما قول الإيادي: فإني رأيت القطر يسأم دائباً ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا فمن أبي تمامٍ أخذه؛ لأنه متأخر بعده. 33 - وقال مسلم بن الوليد: موفٍ على مهجٍ واليوم ذو رهجٍ ... كأنه أجلٌ يسعى إلى أمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فأخذه الطائي فقال وقصر: رآه الملج مقتحماً عليه ... كما اقتحم الفناء على الخلود 34 - وقال قطري بن الفجاءة: ثم انثنيت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الاقدام أخذه أبو تمام فقال وكأنه عكس المعنى وكلاهما جيد حسن: ومجربون سقاهم من بأسه ... فاذا لقوا فكأنهم أغمار وقد كرر هذا المعنى في بيت آخر فقال: كهل الأناة فتى الشذاة إذا غدا ... للحرب كان الاجد الغطريفا 35 - وقال آخر: يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالطعان هم تجار ويروى بالرماح أخذه الطائي فقال وقصر وغير المعنى وجاء بغرض آخر لفظ لأخلاق التجار وإنهم ... لغدا بما ادخروا له لتجار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 36 - وقال أبو نواس بمدح الخصيب: فما جازه جودٌ، ولا حل دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير أخذه أبو تمام فقال بمدح ابن أبي داود، وقصر عنه: إليك تناهى المجد من كل وجهةٍ ... يصير فما يعدوك حيث تصير 37 - وقال جرير يهجو الأخطل: ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلاً تكر عليكم ورجالاً أخذه أبو تمام فقال: حيران يحسب سجف النقع من دهشٍ ... نقى يحاذر أن ينقض أو جرفاً وأخذ جرير المعنى من قول الله تعالى: " يحسبون كل صيحةٍ عليهم ". 38 - وقال مسلم يرثي: سلكت بك العرب السبيل إلى العلى ... حتى إذا سبق الردى بك حاروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 نفضت بك الآمال أحلاس المنى ... واسترجعت نزاعها الأمصار أخذه أبو تمام فقال: توفيت الآمال بعد محمدٍ ... فأصبح مشغولاً عن السفر السفر أو أخذ ذلك من أبي سلمى يرثى ذقاقة العبسى كما حكى دعبلٌ. 39 - وقال توبة بن الحمير: يقول أناسٌ: لا يضرك نأيها ... بلى كل ماشف النفوس يضيرها أخذه أبو تمام فقال وزاد فيه: لا شيء ضائر عاشقٍ، فإذا نأى ... عنه الحبيب فكل شيءٍ ضائره 40 - وقال عنترة: فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أخذه أبو تمام فقال: يحملن كل مدججٍ، سمر القنا ... بإهابه أولى من السربال قال ذلك لأنه ظن أن عنترة أراد الثياب نفسها، وإنما أراد عنترة بقوله " ثيابه " نفسه. 41 - وقال مسلم بن الوليد: يكسو السيوف نفوس الناكثين به ... ةيجعل الهام تيجان القنا الذبل أخذه أبو تمام وأساء الأخذ وتعسف اللفظ فقال: أبدلت أرؤسهم يوم الكريهة من ... قنا الظهور قنا الخطى مدعما أو أخذا المعنى جميعاً من قول جرير: كأن رؤوس القوم فوق رماحنا ... غداة الوغى تيجان كسرى وقيصرا 42 - وقال امرؤ القيس: سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال أخذه أبو تمام وعدل به إلى وجه المديح فقال: سما للعلا من جانبيها كليهما ... سمو حباب الماء جاشت غواربه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وما قيل في إخفاء الحركة والدبيب أبلغ ولا أبرع من بيت امرئ القيس هذا. 43 - وقال الفرزدق يهجو جريرا: أنتم قرارة كل مدفع سوأةٍ ... ولل سائلة تسيل قرار أخذ أبو تمام اللفظ والمعنى جميعاً فقال: وكانت لوعةً ثم اطمأنت ... كذاك لكل سائلةٍ قرار 44 - وقال محمد بن بشير الخارجي من خارجة عدوان: وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام أخذه أبو تمام فقال: فلو أبصرتهم والزائريهم ... لما مزت الحميم من البعيد فقصر عن الأول. 45 - وقال بعض الأعراب يصف المصلوب، أنشده ثعلب: قام ولما يستعن بساقه ... آلف مثواه على فراقه كأنما يضحك في أشداقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 أخذ أبو تمام قوله " آلف مثواه على فراقه " فقال: لايبرحون ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفرٍ من الأسفار 46 - وقال مسلم بن الوليد وهو معنى سبق إليه: لا يستطيع يزيدٌ من طبيعته ... عن المروءة والمعروف إحجاماً أخذ أبو تمام المعنى فكشفه وأحسن اللفظ وأجاد فقال: تعود بسط الكف حتى لوانه ... دعاها لقبضٍ لم تجبه أنامله 47 - وقال ذو الرمة: وليلٍ كجلباب العروس أدرعته ... بأربعةٍ والشخص في العين واحد أحم علافيٌ، وأبيض صارمٌ ... وأعيس مهرىٌ، وأروع ماجد أخذه أبو تمام فقصر وليس هو المعنى بعينه، فقال: البيد والعيس والليل التمام معاً ... ثلاثةٌ أبداً يقرن في قرن والذي اتبع ذا الرمة فأحسن الاتباع البحتري في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 يا خليلي بالسواجير من أد ... بن معنٍ وبحتر بن عتودٍ اطلبا ثالثاً سواي؛ فإني ... رابع العيس والدجى والبيد 48 - وقال النابغة الذبياني، وكان الأصمعى يتعجب من جودته: وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل على بأن أخشاك من عار اخذه أبو تمام فقال وزاد ذكر الموت: خضعوا اصولتك التي هي عندهم ... كالموت يأتي ليس فيه عار 49 - وقال كعب بن زهير يمدح قريشا: لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل أخذه أبو تمام كما قال لي بعض الرواة فقال يرثي بني حميد: لو خر سيف من العيوق منصلتا ... ما كان إلا على هامتهم يقع روى الشاميون أن أبا تمام سئل عن هذا المعنى فقال أخذته من قول نادبه: لو سقط حجر من السماء على رأس يتيم ما أخطأ فأما قول كعب لا يقع الطعن إلا في نحورهم فإنما أراد أنهم لا يولون الدبر وليس من معنى أبي تمام في شيىء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 50 - وقال أبو تمام يصف الراية: تخفق أثناؤها على ملك ... يرى طراد الأبطال من طراده أخذه من قول أبي نواس: تعد عين الوحش من أقواتها وأخذهأبو النواس من قول أبي النجم: تعد عانات اللوى من مالها 51 - وقال أبو تمام يستهدي نبيذا: وهي نزر لو أنها من دموع الصب لم تشف منه حر الغليل أخذه من قول الآخر أو أخذه الآخر منه والمعنيان متشابهان: لو كان ما أهديته إثمدا ... لم يكفإلامقلة واحدة 52 - وقال يصف مغنية تغني بالفارسية: ولم أفهم معانيها ولكن ... شجت كبدي فلم أجهل شجاها أخذه من قول الحسين بن الضحاك على مافي قول الخليع من المناقضة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وما أفهم ما يعني ... مغنيا إذا غنى سوى أني من حبي ... له أستحسن المعنى لأنه قال: ماأفهم ما يعني ثم قال: استحسن المعنى وإنما أراد بالمعنىللحن لامعنى القول0 وأجود من ذلك كله قول حميد بن ثور يصف الحمامة: ولم أر مثلى شاقة صوت مثلها ... ولا عربياً شاقه صوت أعجما 53 - وقال الفرزدق يرثى امرأ له ماتت حاملا: وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا وفي بطنه من درام ذو حفيظة ... لوان المنايا أمهلته لياليا فقال أبو تمام وأجاد اللفظ وأحسن الأخذ أصاب التمثيل، فقال يرثى ابنين صغيرين ماتا لعبد الله بن طاهر: لهفى على تلك المخايل فيما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا إن الهلال إذا رأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملا 54 - وقال أبو تمام: صلتانٌ أعداؤه حيث حلوا في حديث من ذكره مستفاض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فأخطأ في قوله ((مستفاض)) وإنما هو مستفيض، وقد احتج له محتج بأ، قال: أراد مستفاض فيه، وإنما جعلهم يفيضون في ذكره لأنهم أبداً على حال وجلٍ واحتراسٍ من شدة الخوف منه، ألا تراه قال ((حيث حلوا)) أى هم بهذه الحال قريباً كانت دراهم منه أو بعيدا. وأخذ هذا المعنى من قول أعشى باهلة يرثى أخاه لأمه المنتشرة: لا يأمن القوم ممساه ومصبحه ... في كل فج وإن لم يغز ينتظر أو من قول عروة الصعاليك: وأن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشؤف أهل الغائب المنتظر وهذان البيتان جميعاً أوضح وأشرح وأجود من بيت أبي تمام، وقد قيل: أنه أراد أن أعداه يقرّون بفضله، وفيضون في ذكر مناقبه، وذلك محتمل، والمعنى الأول أقوى وأفشى في كلامهم. 55 - وقال بشار بن برد: شربنا من فؤاد الدّن حتى ... تركنا الدن ليس له فؤاد أخذه أبو تمام فقصّ عنه فقال: غدت وهي أولى من فؤاد بعزمتى ... ورحت بما في الدن أولى من الدن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وقال أبو نواس: ما زلت آخذ روح الزق في لطف ... وأستبيح دماً من غير مجروح حتى غدوت ولي روحان في بدني ... والدن مطرح جسم بلا روح 56 - وقال الأخطل: تدب دبيباً في العظام كأنها ... دبيب نمال في نقاً يتهيل أخذه أبو تمام فأسد المعنى فقال: إذا الرّاح دبت فيه تحسب جسمه ... لما دب فيه قريةً من قرى النمل 57 - وقال أبو دواد الإيادي: لا أعد الإقلال عدماً، ولكن ... فقد من قد فقده الإعدام أخذ أبو تمام صدر البيت فقال: يحسب الإقلال عدماً، بل يرى ... أن المقلّ من المروءة معدم 58 - وقال أبو الهدى: وترى سهيلاً في السّماء كأنه ... ثورٌ يعارضه هجان الربب أخذه أبو تمام فقال: أراعى من كواكبه هجانا " ... سواما " لا تريع إلى المسيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 59 - وقال أبو نواس: شققت من الصبا واشتق منى ... كما اشتقت من الكرم الكروم أخذه أبو تمام فقال: ألذ مصافاة من الظل فى الضحى ... وأكرم فى اللأواء عودا " من الكرم 60 - وقال مسلم بن الوليد: نمضى المنايا كما تمضى أسنته ... كأن فى سرجه بدرا " وضرغاما " أخذه أبو تمام فقال: فتى من يديه البأس يضحك والندى ... وفى سرجه بدر وليث غضنفر 61 - وقال ابن هرمة: استبق عينيك لا يود البكا بهما ... واكفف بوادر من عينيك تستبق ليس الشؤون وان جادت بباقية ... ولاالجفون على هذا ولا الحدق أخذه أبو تمام فقال: ولا تبقى على ادمان هذا ... ولا هذا العيون ولا القلوب 62 - وقال أبو تمام يهجو السراج: يا ابن الخبيثة لم تعرض صخرة ... صماء من مجدى لعرض زجاج؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أخذه من قول الآخر وأظنه بشارا: ارفق بعمرو اذا حركت نسبته ... فانه عربى من قوارير 63 - وقال الشاعر (العديل بن الفرخ): مها مه أشباه كأن سرابها ... ملاء بأيدى الغاسلات رحيض أخذه أبو تمام فقال: وبساط كأنما الآل فيه ... وعليه سحق الملاء الرحيض 64 - وقال أبو تمام: فا شمالوا يلجلجون دؤوبا " ... مضغا " للكلال فيها أنيض أخذه من قول زهير: تلجلج مضغة فيها أنيض ... أصلت فهى تحت الكشح داء 65 - وقال أبو نواس: سن للناس الندى فندا ... فكأن البخل لم يكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أخذه أبو تمام فقال: مضوا وكأن المكرمات لديهم ... لكثرة ما أوصوا بهن شرائع 66 - وقال فى الغزل: مستحيل أن تحتويك الظنون ... كيف يحوى مالا تراه العيون غير أنا نقول: أنك خلق ... حركات مخلوقة وسكون أخذه من قول أبى نواس وقصر عنه: سبحان من خلق الخلق من ضعيف مهين يسوقه من قرار الى قرار مكين حتى بدت حركات مخلوقة من سكون 67 - وقال أبو العتاهية: كم نعمة ل ايستقل بشكرها ... لله فىطى المكاره كامنه اخذه الطائى فقال وأحسن لأنه جاء بالزيادة التى هى عكس الشىء الأول: قد ينعم الله بالبلوى وان عظمت ... ويبتلى الله بعض القوم بالنعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 68 - وقال آخر: ليست تكون المكرما ... ت بغير إنفاق الدراهم فأخذ الطائي فقال: ولم يجتمع شرق وغرب لقاصد ... ولا المجد في كف امريء والدراهم وقال آخر، ولست أدرى أهو قبل الطائي أو في أيامه: ما كنت أحسب أن بحراً زاخراً ... عم البرية كلها. إرواء أضحى دفيناً في ذراع واحد ... من بعد ما ملك الفضاء فضاء فقال الطائي، وأبر عليه وعلى كل من ذكر هذا المعنى: وكيف احتمالي للسحاب صليعةً ... بإسقائها قبراً وفي لحده البحر 69 - وقال آخر: نؤى كما نقص الهلال محاقة ... أو مثل ما فصم السوار المعصم أخذه أبو تمام فقال: ونؤى مثلما انفصم السوار 70 - وقال أخر في السحاب: كأن عينين باتا طول ليلهما ... يستمطران على غدرانه المقلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فقال الطائي، وحول المعنى، وأجاد: كأن الغمام الغر غيبن تحتها ... حبيباً؛ فما ترقى لهن مدامع 71 - وقال الطائي: وليست بالعون العنس عندي ... ولا هي منك بالبكر الكعاب أخذه من قول الفرزدق: وعند زياد لو يريد عطاءهم ... رجال كثير قد ترى بهم فقرا قعود لدى الأبواب طالب حاجة ... عوان من الحاجات أو حاجة بكرا 72 - وقال الآخر، وهو معبد الهذلى: أي عيشٍ عيشي إذا كنت منه ... بين حل وبين وشك الرحيل؟ كل فج من البلاد كأنّى ... طالبٌ بعض أهله بذحول فقال الطائي: كان له ديناً على كل مشرق ... من الأرض، أو ثأراً لدى كل مغرب 73 - وقال آخر، وأنشده ابن أبي طاهر والأخفش للأرقط بن دعبل: نهنه دموعك من سح وتسجام ... البين أكثر من شوقي وأسقامى وما أظن دموع العين راضية ... حتى تسح دماً هطلاً بتسجام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 أخذ الطائي معنى البيتين ولفظهما فقال: ما اليوم الأول توديعى ولا الثاني ... البين أكثر من شوقى وأحزاني وما أظن النوى ترضى بما صنعت ... حتى تبلغنى أقصى خراسانِ 74 - وأنشدنى ابن أبي طاهر لدعبل: إن جاء مر تغباً سائلٌ ... آلت إليه رغبة السائل أخذه أبو تمام فقال: وأني أرجو عاجلاً أن تردنى ... مواهبه بحراً مواهبي 75 - وقال دعبل بن على: وأسمرٌ في رأسه أزرق ... مثل لسان الحيّة الصادى أخذه الطائي فقال: مثقفات سلبن الروم زرقتها ... والعرب أدمتها، والعشاق القضفا فزاد المعنى بأن شبه زرقتها بزرقة الروم، وسمرتها بسمرة العرب، ولكن قول دعبل ((مثل لسان الحية الصادى)) ليس لحسنة نهاية. 76 - وقال أبو نواس: وأطعم حتى ما بمكة آكل ... وأعطى عطاءً لم يكن بضمار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 أخذ الطائي معنى صدر البيت فقال: فنول حتى لم يجد من ينيله ... وحارب حت ىمن يحاربه 77 - وقال أبو نواس في أرجوزة يصف فيها الحمام ويمدح فيها قوما: بشرهم قلب النّوال اللاّحق ... كالبرق يبدو قبل جودٍ دافق والغيث يخفى وقعه للرّامق ... إن لم يجده بدليل البارق أخذ المعنى أبو تمام فقال: يستنزل الأمل البعيد ببشره ... بشر الخيمة بالربيع المغدق وكذا السحائب قلّما تدعو إلى ... معروفها الرّوّاد ما لم تبرق 78 - وقال أبو العتاهية: وإن إذا ما تركنا السّؤا ... ل منه فلم نبغه يبتدينا وإن نحن لم نبغ معروفه ... فمعروفه أبداً يبتغينا وقال مسلم بن الوليد في معنى بيت العتاهية الأول: أخ لي يعطيني إذا ما سألته ... ولو لم أعرض بالسؤال ابتدا نيا أخذ أبو تمام معنى هذا البيت ومعنى بيت أبي العتاهية الأول فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 ورأينيى فسألت نفسك سيبها ... لى ثم جدت وما نظرت سؤالى أو لعله أخذ من قول منصور النمري: رأيت المصطفى هارون يعطى ... عطاءً ليس ينتظر السؤالا وأجود من هذا كله قول سلم الخاسر: أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال وأخذ أبو تمام معنى بيت أبي العتاهية الثاني فقال: كالغيث إن جئته وافاك ريقه ... وإن تحملت عنه كان في الطلب 79 - وقال مسلم: وما كان مثلي يعتريك رجاؤه ... ولكن أسءت شيمة من قتى محض أخذه أبو تمام وزاد زيادة حسنة، فقال: فإن كان ذنبي أن أحسن مطلبي ... ففي سوء القضاء لى العذر 80 - وأنشد أبو تمام في الحماسة: ترد السباع معى فالفى كالمدل السباع أخذ المعنى من فيه فقال: أبن مع السباعي الماء حتى ... لخالته السباع من السباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 81 - وقال النظار بن هشام الأزدى: يعف المرء ما استحيا ويبقى ... نبات العود ما بقيى اللحاء وما في أن يعيش المرء خير ... إذا ما المرء زايله الحياء أخذ أبو تمام معنى البيتين وأكثر لفظهما، فقال: يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقى اللحاء فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء 82 - وقال أبو نوّاس: أبن لى كيف صرت إلى حريمى ... ونجم الليل مكتحل بقار أخذه الطائي فقال: إليك هتكنا جنح ليل كأنه ... قد اكتحلت منه البلاد بإثمد 83 - وسمع أبا نواس يقول: تبكى فتذرى الدر من نرجس ... وتلطم الورد بعناب فقال وأساء كل الإساءة وقصر وقبح صدر البيت: ملطومة ٌ بالورد أطلق طرفها ... في الخلق؛ فهو مع المنون محكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 84 - وقال أبو تمام: ومما كانت الحكماء قالت: ... لسان المرء من خدم الفؤاد أخذه من الجعد بن ضمام أحد بني عامر بن شيبان، ذكره أبو تمام في اختبارات القبائل: إن البيان مع الفؤاد، وإنما ... جعل اللسان بما يقول رسولا 85 - وقال طريح الثقفي يرثي قوماً: فلله عينا من رأى قط حادثاً ... كفرس الكلاب الأسد يوم المشلل أخذه أبو تمام فأجاد في الأخذ فقال: من لم يعاين أبا نصرٍ وقاتله ... فما رأى ضبعاً في شدقها سبع وهذا معنى متداول، وقد يجوز أن يكون أخذه الطائي من غير هذا الموضع. 86 - وقال مروان بن أبي حفصة: ما ضرني حسد اللئام، ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو التقصير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أخذه أبو تمام، فقال: وذو النقص في الدنيا بذي الفضل مولع 87 - وقال أبو دهبل الجمحي: ما زلت في العفو للذنوب وإط ... لاق لعانٍ بجرمه غلق حتى تمنى البراة أنهم ... عندك أمسوا في القد والحلق أخذه أبو تمام فقال: وتكفل الأيتام عن آبائهم ... حتى وددنا أننا أيتام 88 - وقال زيد الخيل الطائي: وأسمر مربوعٌ يرى ما رأيتهبصيرٌ إذا صةبته بالمقاتل أخذه أبو تمام فقال: من كل أسمر نظار بلا نظرٍ ... إلى المقاتل ما في متنه أود 89 - وقال أبو نخيلة في مسلمة بن عبد الملك: ونوهت من ذكرى، وما كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 أخذه أبو تمام فقال: لقد زدت أوضاحي امتداداً، ولم أكن ... بهيماًن ولا أرضى من الأرض مجهلا ولكن أيادٍ صادفتني جسامها ... أغر فوافت بي أغر محجلا 90 - وقال المسيب بن علس: هم الربيع على من كان حلمهم ... وفي العدو مناكيدٌ مشائيم وقال علاقة بن عركي التيمي يرثي قوماً: وكنتم قديماً في الحروب وغيرها ... ميامين للأدنى لأعدائكم نكدا ومثله قول كعب بن الأجذم: بنو رافعٍ قومٌ مشائيم للعدى ... ميامين للمولى وللمتحرم أخذ الطائي هذا المعنى فقال في مدح أبي سعيد: إذا ما دعوناه بأجلح أيمنٍ ... دعاه ولم يظلم بأصلع أنكد 91 - وقال دكينٌ الراجز: عارى الحصى يدرس ما لم يلبس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 أخذه أبو تمام فقال: تجدد كلمات لبست، وتبقى ... إذا ابتذلت، وتخلق في الحجاب أو أخذه من قول الراجز: عودٌ على عودٍ من القدم الأول ... يميته الترك ويحييه العمل يعني طريقاً. 92 - وقال تميم بن أبي بن مقبل: قد كنت راعي أبكارٍ منعمةٍ ... فاليوم أصبحت أرعى جلةًً شرفا يريد عجائز، أخذه الطائي فقال وعدل بشطر البيت إلى وجه آخر فأحسن: كنت أرعى الخدود، حتى إذا ما ... فارقوني بقيت أرعى النجوما 93 - وقال حسان بن ثابت الأنصاري: والمال يغشى رجالا لا طباخ بهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 أخذه الطائي فقال: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حربٌ للمكان العالي 94 - وقال أبو تمام في وصف الشعر: ولكنه صوب العقول: إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب أخذه من قول أوسٍ: أقول بما صبت على غمامتي ... ودهري، وفي حبل العشيرة أحطب 95 - وقال أمية بن أبي الصلت: عطاؤك زينٌ لامرئ إن حبوته ... بخيرٍ، وما كل العطاء يزين أخذه الطائي فقال: ما زلت منتظراً أعجوبةً زمناً ... حتى رأيت سؤالاً يجتنى شرفا 96 - وقال كثير: ونازعني إلى مدح ابن ليلى ... قوافيها منازعة الطراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أخذه الطائي فقال: تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل 97 - وقالت محياة بنت طليق من بني تيم الله بن ثعلبة: نعى ابنى مجل صوت ناعٍ أصمني ... فلا آب محموداً بريدٌ نعاهما وقال سفيان بن عبد يغوث النصرى: صمت له أذناي حين نعيته ... ووجدت حزناً دائماً لم يذهب أخذه الطائي فقال: أصم بك الناعي وإن كان أسمعا ... وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا ونحوه قول الحارث بن نهيك الدارمي: ففقأ عيني تبكاؤه ... وأورث في السمع مني صمم 98 - وقال شقران بن عرباض القشيري: فما السائل المحروم يرجع خائباً ولكن بخيل الأغنياء يخيب وقال آخر - وهو الشجاع الهاتف - في خبر عن ابن الكلبي، ورواه ابن دريدٍ: لاتزهدن في اصطناع العرف من أحدٍ ... إن الذي يحرم المعروف محروم أخذه أبو تمام فقال: وإني ما حورفت في طلب الغنى ... ولكنما حورفتم في المكارم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 99 - وقال عنترة: والطعن مني سابق الآجال وإنما أراد الآجال سابقة طعني؛ لشدة خوفه إذا سدد سنانه للطعن. أخذه الطائي فغيره تغييراً حسناً فقال: يكاد حين يلاقي القرن من حنقٍ ... قبل السنان على حوبائه يرد 100 - وقال عدي بن الرقاع بمدح بعض بني مروان: وإذا رأيت جماعة هو فيهم ... نبئت سؤدده وإن لم تسأل أخذه الطائي فقال: يحميه لألاؤه ولوذعيته ... عن أن يذال بمن أو ممن الرجل فقصر عديٌ بالممدوح؛ إذ جعله إذا كان في جماعة لم يعرف حتى تنبئ عنه شمائله، وتبعه أبو تمام في التقصير. 101 - وقال: طلب المجد يورث المرء خبلاً ... وهموماً تقضقض الحيزوما فتراه، وهو الخلى، شجياً ... وتراه، وهو الصحيح، سقيما أخذ قوله " وهموماً تقضقض الحيزما " من قول لقيط الإيادي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه ... همٌ يكاد حشاه يحطم الضلعا 102 - وأخذ معنى قوله: ولهته العى فليس يعد ال ... بؤس بؤساً ولا النعيم نعيما من قول لقيطٍ أيضاً: لامترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروهٌ به خشعا 103 - وقال أبو العارم الطائي: غبي العي، أو فهمٌ تغابى ... عن الشذان والفكر القواصي أخذه أبو تمام، فقال وزاد عليه وأحسن: ليس الغبي بسيدٍ في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي أو أخذه من قول دعبل: تخال أحياناً به غفلةٌ ... من كرم النفس، وما أعلمه! 104 - وتمثلت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته عليه السلام فيما روى عنها، ولا أعلم صحته: صبت على مصائبٌ لو أنها ... صبت على أليام عدن لياليا ومثله قول الطائي: عادت له أيامه مسودةً ... حتى توهم أنهن ليالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 105 - وقال ابن أذينة: أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني أخذه الطائي فقال: الرزق لا تكمد عليه؛ فإنه ... يأتي ولم تبعث إليه رسولا 106 - وقال الطائي: وجه العيس وهي عيسٌ إلى الل ... هـ فآضت من الهواجر شيما أخذه من قول ابن هرمة: بدأت عليها وهي عيسٌ فأصبحت ... من السير جوناً لاحقات الغوارب 107 - وأنشد الأشنا نداني ف يالمعاني يذكر الإبل: ردت عواري غيطان الفلا، ونجت ... بمثل إيبالةٍ من حائل العشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 أخذه أبو تمام فقال: فكم جزع وادٍ جب ذروة غاربٍ ... وبالأمس كانت أتمكته مذانبه 108 - وقال أبو تمام: لو أضخنا من بعدها لسمعنا ... لقلوب الأيام منك وجيبا أخذه من قول أبي النواس: حتى الذي في الرحم لم يك نطفةً ... لفؤاده من خوفه خفقان 109 - وقال آخر: يا حبذا ريح الجنوب إذا غدت ... بالفجر وهي ضعيفة الأنفاس قد حملت برد الثرى، وتحملت ... عبقاً من الجثجاث والبسباس أخذه الطائي فقال: أرسى بناديك الندى، وتنفست ... نفساً بعقوتك الرياح ضعيفا 110 - وقال نصيب: وقد عاد ماء الأرض ملحاً؛ فزادني ... على ظمئي أن أبحر المشرب العذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أخذه أبو تمام فقال: كانت مجاورة الطلول وأهلها ... زمناً عذاب الورد فهي بحار 111 - وقال غيلان بن سلمة الثقفي يصف فرساً: نهد كتيس أقب معتدلٍ ... كأنما في صهيله جرس أخذه أبو تمام فقال: صهصلقٌ في الصهيل تحسبه ... أشرج حلقومه على جرس 112 - وقال الفرذدق: قيامٌ ينظرون إلى سعيدٍ ... كأنهم يرون به هلالا أخذه أبو تمام فقال: رمقوا أعالي جذعه فكأنما ... رمقوا الهلال عشية الإفطار 113 - وقال ابن مناذر في البرامكة: إذا وردوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر لهم رحلةٌ في كل يومٍ إلى العدى ... وأخرى إلى البيت العتيق المشهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أخذه أبو تمام فقال: حين عفى مقام إبليس سامى ... بالمطايا مقام إبراهيما 114 - وقال أبو تمام: فحيوا بالأسنة ثم ثنوا ... مصافحة بأطراف الرماح أخذ قوله " فحيوا بالأسنة " من قول مسلم بن الوليد: فحيوا بأطراف القنا، وتعانقوا ... معانقة البغضاء غير التودد وأخذ قوله " مصافحة بأطراف الرماح " من قول أب يإسحاق التغلبي: دنوت له بأبيض مشرقي ... كما يدنو المصافح للسلام 115 - وقال جرير في يزيد بن معاوية: الحزم والجود والإيمان قد نزلوا ... على يزيد أمين الله فاختلفوا ألم به أبو تمام فقال: من البأس والمعروف والجود والتقى ... عيالٌ عليه، رزقهن شمائله فقال " عيال عليه " وهو نحو قول جرير " نزلوا على يزيد " ولعل أبا تمام أخذه من قول دعبلٍ: تنافس فيه الحزم والبأس والتقى ... وبذل الهى حتى اصطحبن ضرائرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 116 - وقال الكميت يصف الخيل: يفقهن عنهم إذا قالوا، ويفقههم ... مستطعمٌ صاهلٌ منهم ومنتحم أخذه أبو تمام فقال: وهو إذا ما ناجاه فارسه ... يفهم عنه ما تفهم الإنس 117 - وقال الكميت أيضاً: وألقين البرود على خدودٍ يزين الفداغم بالأسيل يريد بالفداغم الوجوه اللحيمة؛ فقال أبو تمام: وثنوا على وشى الخدود صيانةً ... وشى البرود بمسجفٍ وممهد 118 - وقال الأبيرد الرياحي: وكنت أرى هجراً فراقك ساعةً ... ألا، لا، بل الموت التفرق والهجر أخذه أبو تمام فقال: الموت عندي والفرا ... ق كلاهما ما لا يطاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 119 - وأنشد أبو العباس المبرد للعتبى: أضحت بخدى للدموع رسوم ... أسفاً عليك، وفي الفؤاد كلوم والصبر يحسن من المواطن كلها ... إلا عليك؛ فإنه مذموم قال: وأخذه الطائي فقال في إدريس بن بدر السامي: دموعٌ أجابت داعي الحزن همع ... توصل منا عن قلوبٍ تقطع وقد كان يدعي لابس الصبر حازماً ... فأصبح يدعى حازماً حين يجزع قال: وجاء به الطائي في موضع آخر. فقال: الصبر أجمل غير أن تلذذي ... في الحب أحرى أن يكون جميلا 120 - وقال الراجز، أنشده يعقوب بن السكيت: قد أضحت العقدة صلعاء اللمم ... وأصبح الأسود مخضوباً بدم العقدة: موضعٌ ذو شجر لا يفنى فيذهب، وصلعاء اللمم: الجماجم، وهو جمع لمة، فجعله مثلا لرؤوس النبت أكلته الإبل فصارت لممه صلعاً، والأسود: الحية تطؤه الإبل فتقتله؛ فظفر بهذا أبو تمام فقال: حتى تعمم هامات الربى من نوره وتأزر الأهضام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 والأهضام: ما انخفض من الأرض. ووجدت ابن طاهر خرج سرقات من المعاني بالمشترك بين الناس مما لا يكون مثله مسروقا 1 - فمن السرق قول أبي تمام: كما كاد ينسى عهد ظمياء باللوى ... ولكن أملته عليه الحمائم أخذه من قول العتّابي: بكى واستملّ الشوق من في حمامة ... أبت في غصون الأيك إلا الترنما أظن قوله " في حمامة " أراد به من صوت حمامة، دعته إليه الضرورة، وليس هذا موضع " في " وقوله " أملته " من قول العتّابي " واشتملّ ". وقد جاء مثله في أشعارهم: 2 - وقال: أخذه وقوله: لا تنشجن لها فإن بكاءها ... ضحكٌ، وإن بكاءك استغرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 من قوله الآخر: فإن إن بكيت بكيت حقاًّ ... وإنك في بكائك تكذبينا 3 - وقال: فنول حتى لم يجد من ينيله أخذه من قول علي بن جبلة: أعطيت حتى لم تجد لك سائلاً ... وبدأت إذا قطع العفاة سؤالها وقد ذكرت أخذه هذا المعنى فيما تقدم من غير ابن جبلة: 4 - وقال: إني لأعجب ممن في حقيبته ... من المنى بحورٌ كيف لا يلد أخذه من مروان في قوله: لو كان يحمل من هذا الورى ذكر ... لكنت أول خلق الله بالولد ومن قوله أيضاً: لو كان يخلق في بطن امرئ ولد ... لأصبح البطن منه ضامناً ولدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 5 - وقال: يحميه لألاؤه ولو ذعيته ... عن أن يذال بمن أو ممن الرجل أخذه من قول حسان: إذا ما ترعرع فينا الغلام ... فما إن يقال له من هوه وقد ذكرت أخذه هذا المعنى فيما تقدم من غير حسان. 6 - وقال: فلا تطلبوا أسيافهم في جفونها ... فقد أسكنت بين الطلى والجماجم أخذه من قول عنترة: ولم يعلم جوية أن نبلى ... يكون جيرها البطل النجيد 7 - وقال: يتجنب الآثام ثم يخافها ... فكأنما حسناته آثام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أخذه من قول أبي العتاهية: لم تنتقصني إذ أسأت وزدتني ... حتى كأن إساءتي إحسان 8 - وقال الطائي: أجل أيها الربع الذي خفّ آهله ... لقد أدركت فيك النوى ما تحاوله أخذه من قول العرجي: ألا أيها الربع الذي بان آهله ... لقد أدركت فيك النوى ما تحاوله 9 - وقال: لا تذيلن مصون همك وانظر ... كم بذي الأيك دوحة من قضيب أخذه من قول الأشهب بن رميلة: على بني يشد الله أزرهم ... والدوح ينبت عيداناً فيتكهل 10 - وقال: أظله البين حتى إنه رجل ... لو مات من شغله بالبين ما علما أخذه من قول أبي الشيص: وكم من ميتة قد مت فيه ... ولكن كان ذاك وما شعرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وبيت أبي تمام أجود. 11 - وقال في وصف الرماح: كأنها وهي في الأكباد والغة ... وفى الكلى تجد الغيظ الذى تجد أخذه من قول النمري: ومصلتاتٍ كأن حقداً ... منها على الهام والرقاب 12 - وقال: إذا ما أغاروا فاحتووا مال معشرٍ ... أغارت عليهم فاحتوته الصنائع أخذه من قول الآخر: إذا أسلفتهن الملاحم مغنماً ... دعاهن من كسب المكارم مغرم 13 - وقال: وركبٍ كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه وقد ذكرت أخذ هذا المعنى فيما تقدم من كثير. 14 - وقال: توفيت الآمال بعد محمدٍ ... فأصبح مشغولاً عن السفر السفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أخذه من قول عصام الجرجرائي: ألا في سبيل الله آمالك التي ... توفين لما اغتالك الحدثان وقد تقدم ذكر هذا وأنه أخذه من موضع آخر. 15 - وقال: تعليفها الإسراج والإلجام أخذه من قول جرير: حراجيج يعلفن الذميل، كأنها ... معاطف ظبيٍ أو حنى الشراجع 16 - وقال: ذاك الذي كان لو أن الأنام له ... نسلٌ لما عليهم جبنٌ ولا بخل أخذه من قول أبي السمط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 لو كان جدكم شريكٌ والداً ... لناس لم تلد النساء بخيلا 17 - وقال: حمراء من حلب العصير كسوتها ... بيضاء من حلب الغمام الرقرق أخذه من قول مسلم: صفراء من حلب العصير كسوتها ... بيضاء من حلب الغيوم البجس 18 - وقال: أخذ قوله: بياض العطايا في سواد المطالب من قول بعض العرب: همامٌ عطاياه بدورٌ طوالعٌ ... على آمليه في سواد المطالب ومن قول الأخطل: رأين بياضاً في سواد كأنه ... بياض العطايا في سواد المطالب 19 - وأخذ قوله: ناجيت ذكرك، والظلماء عاكفةٌ ... فكان يا سيدي أحلى من الشهد من قول ابن أبي أمية: كم ليلةٍ نادمني ذكره ... يسعدني المثلث والزير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 20 - وأخذ قوله: والعيش غضُ والزمان غلام من قول الأخطل: سعيت شباب الدهر لم تستطعهم ... أفالآن لما أصبح الدهر فانيا؟ 21 - وقال أخذ قوله: ذاك الذي أحصى الشهور وعدها ... طمعاً لينتج سقبةً من حائل من قول أعرابي: إنا وجدنا طرد الحوامل ... خيراً من التاتان والمسابل وعدة العام وعام قابل ... ملقوحة في بطن ناب حائل 22 - وأخذ قوله: يعلون حتى ما يشك عدوهم ... أن المنايا الحمر حيٌ منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 من قول مسلم بن الوليد: لو أن قوماً يخلقون منيةً ... من بأسهم كانوا بني جبريلا 23 - وأخذ قوله: لو كان في الدنيا قبيلٌ آخرٌ ... بإزائهم ما كان فيها معدم من قول بشار بن برد: لو كان مثلك آخر ... ما كان في الدنيا فقير 24 - وقال في قوله: ذقنا الصدود، فلما اقتاد أرسننا ... حنت حنين عجولٍ بيننا الرحم من قول الأسود بن يعفر: سما بصرى لما عرفت مكانه ... وأطت إلى الواشحات أطيطا 25 - وأخذ قوله: صفراء صفرة صحةٍ قد ركبت ... جثمانه في ثوب سقمٍ أصفر من قول على بن رزين الكوفي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 بيضاء رعبوبةٌ صفراء من غير 26 - وقال في قوله: لم تكمدي فظننت أن لم تكمدي من قول بعضهم: لا تنكري جزع المحب؛ فإنه ... يطوى على الزفرات غير حشاك أو أخذه من قول مسلم بن الوليد: قد أولعته بطول الهجر غرته ... لو كان يعرف طعم الهجر ما هجرا 27 - وقال في قوله: سقى الغيث غيثاً وارت الأرض شخصه ... وإن لم يكن فيه سحابٌ ولا قطر من قول عقيق بن سليك العامري: سقاك الغيث إنك كنت غيثاً 28 - وقال في قوله: أمن بعد طي الحادثات محمداً ... يكون لأثواب العلى أبداً نشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 من قول أبي نواس: طوى الموت ما بيني وبين محمدٍ ... وليس لما تطوى المنية ناشر 29 - وقوله أيضاً: ومن العجائب ناصحٌ لا يشفق من قول المخبل: ولا يعدم الغاوى على الغي لائما ... وإن هو لم يشفق عليه يلوم 30 - وأخذ قوله: من شرد الإعدام عن أوطانه ... بالبذل حتى استطرف الإعدام من قول الأعشى: هم يطردون الفقر عن جارهم ... حتى يرى كالغصن الناضر وفي قول أبي تمام زيادةٌ حسنة، وهي قوله: " حتى استطرف الإعدام ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 31 - وأخذ قوله: حلفت، إن لم تثبت، أن حافره ... من صخر تدمر، أو من وجه عثمان من قول الآخر: لو كان حافر برذوني كأوجهكم ... بني بديل، لما أنعلته أبدا باب ومما نسبه فيه ابن أبي طاهر إلى السرق ما ليس بمسروق؛ لأنه مما يشترك فيه الناس من المعاني والجاري على ألسنتهم، ومنه ما نسبه إلى السرق والمعنيان مختلفان. 32 - فمن الأول قول أبي تمام: ألم تمت يا شقيق الجود مذ زمنٍ؟ ... فقال لي: لم يمت من لم يمت كرمه وقال: أخذه من قول العتابي: ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور ومثل هذا لا يقال له مسروق؛ لأنه قد جرى في عادات الناس - إذا مات الرجل من أهل الخير والفضل، وأثني عليه بالجميل - أن يقولوا: ما مات من خلف مثل هذا الثناء، ولا من ذكر بهذا الذكر. وذلك شائع في كل أمة، وفي كل لسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 33 - وقال أبو تمام: إذا عنيت بشيءٍ خلت أنى قد ... أدركته أدركتني حرفة الأدب وقال: أخذه من قول الخريمى: أدركتني وذاك أول دائي ... بسجستان حرفة الآداب و ((حرفة الآداب)) لفظة قد اشترك الناس فيها، وكثرت على الأفواه، حتى سقط أن نظن أن واحداً يستملها من آخر، هذا قول أبي طاهر. ولم يقل أبو تمام ((أدركتنى حرفة الأدب)) إنما قال ((أدركتنى حرفة العرب)) وقد ذكرت غلطه فى هذه اللفظة عند ذكر البيت فى الموازنة. 34 - وقال في قوله: لو العافون كم لك فى الندى ... من لذة أو فرحة لم تحمد أخذه من قول بشار: ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ... ف، ولكن يلذ طعم العطاء وما إخاله احتذى في هذا البيت على قول بشار؛ لأن بشار قال: ليس يعطيك رغبة في جزاء يرجوه، ولا خوفاً من مكروه، ولكن لالتذاذه العطية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وأراد أبو تمام أن الطالبين لو علموا التذاذه الندى لم يحمدوه، والمعنيان إنما اتفقا في طريق التذاذ الممدوح بعطائه فقط؛ وهذا ليس من بديع المعانى التى يختص بها شاعر فيقال: إن واحد أخذه من الآخر؛ لأن العادة جارية بأن يقال: فلان لا يعطى متكارهاً ولا متكلّفاً، بل يعطى عن نية صادقة، ومحبة لبذل المعروف تامة، ونحو هذا من يقول. 35 - وقال في قوله: لو كان ينفخ قين الحى في فحم من قو الأغلب: قد قاتلوا لو ينفخون في فحم ... ما جبنوا ولا تولوا من الأمم وهذا معنى شائع من معاني العرب، وجار في الأمثل أن يقولوا: قد فعلت كذا، واجتهدت في كذا لو كنت تنفخ في فحم ٍ؛ لأن النفخ يحي النار ويشعلها، والنفخ في حطب ليس بفحم ولا أخذت النار فيه لا يورى ناراٍ. 36 - وقال في قوله: والموت خير من سؤال سؤول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 من قول محمود: وارغب إلى ملك الملوك، ولا تكن ... بادى الضراعة طالباً من طالب ومثل هذا لا يكون مسروقاً؛ لأنه على الألسن أن يقال: وقع سائل على سائل، ومجندٍ على مجتدٍ، ووقع البائس على الفقير، وأمثال هذا. 37 - وقال في قوله: همةٌ تنطح النجوم، وجدٌ ... آلفٌ للحضيص فهو حضيض من قول أعرابي: همته قد علت وقدرته ... في اللحد بين الثرى مع الكفن وهذا أيضاً من المعاني المشتركة الجارية في العادة أن يقولوا: همته في علاء، وجده في سفال، وهمته ناطقة وجده أخرس، وهمة ذات حراك وجدٌ ساكن، وهمة فلان ترفعه وجده يضعه؛ وما أشبه هذا. 38 - وقال في قوله: تقبل الركن ركن البيت نافلةً ... وظهر كفك معمورٌ من القبل من قول عبد الله بن طاهر: أعلت له ذكره فكافأها ... بأن توالى في ظهرها القبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وليس بين المعنيين اتفاق إلا بذكر قبل الكف، وهذا ليس من المعاني المبتدعة؛ لأن الناس أبداً يقولون: ما خلق وجهه إلا للتحية، وكفه إلا للقبل، كما قال دعبل: فباطنها للندى ... وظاهرها للقبل ومثل هذا، مما نطقوا به كثيراً، فلا يكون عندي مسروقاً. 39 - وقال في قوله: نظرت فالتفت منها إلى أح ... لى سوادٍ رأيته في بياض من قول كثير: وعن نجلاء تدمع في بياضٍ ... إذا دمعت وتنظر في سواد وليس بين المعنيين اتفاق إلا بذكر البياض والسواد، والألفاظ غير محظورة، وأبو تمام إنما قال " فالتفت منها إلى أحلى سواد " يعني حدقتها " في بياض " يعنى شحمة عينها، وهذا هو الصحيح، وقد قيل: سواد عينها في بياض وجهها، وكثير أراد أن عينها تدمع إذا دمعت، يريد خدها، وتنظر في سواد، يعني حدقتها، وهذا المعنى غير ذاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 40 - وقال في قوله: وكم لك لولا ما أخففها ... به من الشكر لم تحمل ولم تطق بالله أدفع عني ثقل فادحها ... فإنني خائف منها على عنقى من قول أبي نواس، والمعنيان مختلفان؛ لأن أبا نواس قال: لا تسدين إلى عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا أنت امرؤٌ جللتني نعماً ... أوهت قوى شكرى فقد ضعفا فذكر أن نعم الممدوح قد غلبت الشكر، فاستعفاه من نعمة أخرى حتى يقوم بشكر نعمته السالفة، وأبو تمام قال: لولا ما أخففها به من الشكر لم أطق حملها، ثم أحسن وألطف في قوله " فإنني خائف منها على عنقي " ومعنى أب ينواس أجود وأبرع. 41 - وقال في قوله: أعمل النتف والطلا وقديماً ... كان صعباً أن تشعب القاروره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 من قول الأعشى: كصدع الزجاجة ما تستطي ... ع كف الصناع لها أن تحيرا قلت: ووقع في شعر الأعشى أيضاً قوله: فبانت وفي الصدر صدعٌ لها ... كصدع الزجاجة لا يلتئم وهذا معنى متداول مشهور مبذول من معانيهم في الزجاج، قد نطق به الناس، وأكثروا فيه حتى سقط أن يقال: إن أبا تمام أخذه من الأعشى، وقد تقدم فيه المسيب بن علس فقال: بانت وصدع القلب كان لها ... صدع الزجاجة ليس يتفق وقال آخر: مثل صدع الزجاج أعيا الصناعا وقال آخر: وتفرقت نياتهم فتصدعوا ... صدع الزجاجة ما لها تيفاق ومثله كثير. 42 - وقال في قوله: إذا سيفه أضحى على الهام حاكماً ... إذا العفو منه وهو في السيف حاكم من قول مسلم بن الوليد: يغدو عدوك خائفاً؛ فإذا رأى ... أن قد قدرت على العقاب رجاكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 والمعنيان مختلفان؛ لأن أبا تمام قال: إذا حكم سيف الممدوح على الهام حكم عفوه على السيف، ومسلم قال: إن عدو الممدوح يخافه؛ فإذا رأى أن قد قدر على العقاب رجاه؛ فليس هذا المعنى من ذلك في ئيء. 43 - وقال في قوله: فإن هزرئتم سللناها وقد غنيت ... دهراً وهام بني بكر لها غمد من قول سعد بن ناشب: فإن أسيافنا بيضٌ مهندةٌ ... عتقٌ، وآثارها في هامهم جدد والمعنيان مختلفان؛ لأن أبا تمام قال: " وهام بني بكر لها غمد " وهذا قال: " وآثارها ف يهامهم جدد " فهذا غير ذلك. وقال في قوله: رمنا الصدود فلما اختار ألفتنا ... حنت حنين عجول بيننا الرحم من قول الأسود بن يعفر: سما بصري لما عرفت مكانه ... وأطت إلي الواشجات أطيطا فهذا قال: إنه لما عرفه أطت إليه الواشجات أي الحقوق والقرابة والرحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أي حنت أليه، وأبو تمام قال: لما صددنا وفارقنا الألفة حنت بيننا الرحم، فهذا كقول قيس بن الخطيم في حربهم: لما بدت نحونا جباههم ... حنت إلينا الأرحام والصحف أي لما صافونا للحرب حنت إلينا الرحم والصحف، يريد العهود، والله أعلم. 44 - وقال في قوله: فلو كانت الأزراق تجري على الحجى ... هلكن إذاً من جهلهن البهائم من قول أب يالعتاهية: إنما الناس كالبهائم في الرز ... ق، سواءٌ جهولهم والحليم وبين المعنيين خلاف؛ فإن أبا العتاهية أراد أن رزق كل نفس يأتيها - جاهلةً كانت أو عالمةً - كما يأتي البهائم، وهذا قائم في الفطرة والعقول؛ فتتفق الحخواطر في مثله. وأبو تمام قال: إن الرزق لو جرى على قدر العقل لهلكت البهائم، وهذه زيادة في المعنى حسنة، وإن كان إلى مذهب أبي العتاهية يؤول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 45 - وقال في قوله: وأشجيت أيامي بصبر حلون لي ... عواقبه، والصبر مثل اسمه صبر من قول أبي الشيص: يصبرني قومٌ براءٌ من الهوى ... وللصبر تاراتٍ أمر من الصبر فقول الناس: الصبر مرٌ، والصبر كاسمه صبر، وقولهم: الصبر محمود العاقبة، وإن كان مراً؛ لا يكون مسروقاً فيقال: إن واحداً أخذه من آخر، وقول أبي الشيص: إن للصبر تارات يكون فيها أمر من الصبر، أي: له تارات يكون فيها شديد المرارة، وقول أبي تمام: أشجيت أيامي بصبر حلت لي عواقبه، ثم قال: والصبر مر عواقبه، يريد في الحلق، أي لو جرعته لكان مقطعه شديد المرارة، وإنما قال هـ1اليجتمع له في البيت حلاوة عواقبه ومرارة عواقبه، هذا تفسيره على ما رواه ابن أبي طاهر، ولم يقل أبو تمام والصبر مر عواقبه، وإنما قال: والصبر مثل اسمه صبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 46 - وقال في قوله: لئن ذمت الأعداء سوء صباحها ... فليس يؤدي شكرها الذئب والنسر من قول مسلم: لو حاكمتك فطالبتك بذحلها ... شهدت عليك ثعالبٌ ونسور وذكر وقوع الذئاب وغيرها والنسور وما سواها من الطير على القتلى معنى متداولٌ ومعروفٌ، وهو في بيت أبي تمام غيره في بيت مسلم؛ لأن مسلماً قال لممدوحه: لو حاكمتك - يريد الفرقة والعصب التي لقيتك - في مطالبتك بثأر من قتلت منها لشهدت عليك الثعالب والنسور، وأبو تمام قال على سبيل الاستهزاء: لئن ذمت الأعداء سوء صباحها فليس يؤدي الذئب والنسر شكرها؛ لكثرة ما أكلا منها، وهذا المعنى غير ذاك، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الجزء الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. قال أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي عفا الله عنه: قد ذكرت في الجزء الأول احتجاج كل فرقة من أصحاب أبي تمام حبيب ابن أوسٍ الطائي وأبي عبادة الوليد بن عبيد البحتري على الأخرى في تفضيل أحدهما على الآخر، وقلت: إني أبتدئ - بعد هذا الباب - بذكر معايبها؛ لأختم الكتاب بوصف محاسنها؛ فأتبعت ذلك بما خرجته من سرقات أبي تمام وبيضت آخر الجزء لألحق به ما وجدته منها في دواوين الشعراء فعلمت عليه، وما أجده بعد ذلك؛ فإنه كثير السرق جدا. وقد سمعت أبا علي محمد بن العلاء السجستاني يقول: إنه ليس له معنى انفرد به فاخترعه إلا ثلاثة معان، وهي قوله: تأبى على التصريد إلا نائلاً ... إلا يكن ماءً قراحاً يمذق نزراً كما استكرهت عائر نفحةٍ ... من فأرة المسك التي لم تفتق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وقوله: بني مالك قد نبهت خامل الثرى ... قبورٌ لكم مستشرفات المعالم رواكد قيس الكف من متناول ... وفيها على لا ترتقى بالسلالم وقوله: وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها اسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود ولست أرى الأمر على ما ذكره أبو علي، بل أرى أن له - على كثرة مآخذه من أشعا ر الناس ومعاينهم - مخترعات كثيرةً، وبدائع مشهورة، وأنا أذكرها عند ذكر محاسنه إن شاء الله تعالى. ومع هذا فلم أر المنحرفين عن هذا الرجل يجعلون السرقات من كبير عيوبه؛ لأنه باب ما يعرى منه أحدٌ من الشعراء إلا القليلب، بل الذي وجدتهم ينعونه عليه كثرة غلطة، وإحالته، وأغاليطه في المعاني والألفاظ. وتأملت الأسباب التي أدته إلى ذلك؛ فإذا هي ما رواه أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح في كتاب الورقة عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن حذيفة بن أحمد أن أبا تمام يريد البديع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 المحال، وهذا نحو ما قاله أبو العباس عبد الله بن المعتز بالله في كتابه الذي ذكر فيه البديع، وكذلك ما رواه محمد بن داود عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن أبيه أن أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، وأن أبا تمام تبعه فسلك في البديع مذهبه فتحير فيه، كأنهم يريدون إسرافه في طلب الطباق والتجنيس والاستعارات، وإسرافه في التماس هذه الأبواب وتوشيح شعره بها، حتى صار كثيرٌ مما أتى به من المعاني لا يعرف ولا يعلم غرضه فيها إلا مع الكد والفكر وطول التأمل، ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالظن والحدس، ولو كان أخذ عفو هذه الأشياء ولم يوغل فيها، ولم يجاذب الألفاظ والمعاني مجاذبة ويقتسرها مكارهة، وتناول ما يسمح به خاطره وهو بجمامه غير متعب ولا مكدود، وأورد من الاستعارات ما قرب في حسن، ولم يفحش، واقتصر من القول على ما كان محذوا الشعراء المحسنين؛ ليسلم من هذه الأشياء التي تهجن الشعر وتذهب ماءه ورونقه، ولعل ذلك أن يكون ثلث شعره أو أكثر منه - لظننته كان يتقدم عند أهل العلم بالشعر أكثر الشعراء المتأخرين، وكان قليله حينئذٍ يقوم مقام كثير غيره؛ لما فيه من لطيف المعاني ومستغرب الألفاظ، ولكنه شره إلى إيراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 كل ما جاش به خاطره ولجلجه فكره، فخلط الجيد بالردئ، والعين النادر بالرذل الساقط، والصواب بالخطأ. وأفرط المتعصبون له في تفضيله، وقدموه على من هو فوقه من أجل جيده، وسامحوه في رديئه، وتجاوزوا له عن خطائه وتأولوا له التأول البعيد فيه، وقابل المنحرفون عنه إفراطاً بإفراط فبخسوه حقه، واطرحوا إحسانه، ونعوا سيئاته، وقدموا عليه من هو دونه. وتجاوز ذلك بعضهم إلى القدح في الجيد من شعره، وطعن فيما لا يطعن عليه فيه، واحتج بما لا تقوم حجة به، ولم يقنع بذلك مذاكرة وقولاً حتى ألف في ذلك كتاباً، وهو أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عمار القطر بلى المعروف بالفريد، ثم ما علمته وضع يده من غلطه وخطئه إلا على أبيات يسيرة، ولم يقم على ذلك الحجة، ولم يهتد لشرح العلة، ولم يتجاوز فيما نعاه بعدها عليه الأبيات التي تتضمن بعيد الاستعارة وهجين اللفظ، وقد بينت خطأه فيما أنكره عليه من الصواب في جزء مفرد إن أحب القارئ له أن يجعله من جملة هذا الكتاب ويصله بأجزائه فعل ذلك إن شاء الله تعالى؛ فإن الذي تضمن يدخل ف يمحاسن أبي تمام التي ذكرت أنى أختم كتابي هذا بها وبمحاسن البحري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وأنا أذكر ما غلط فيه أبو تمام من المعاني والألفاظ، مما أخذته من أفواه الرجال وأهل العلم بالشعر عند المفاوضة والمذاكرة، وما استخرجته أنا من ذلك واستنبطته، بعد أن أسقطت منه كل ما احتمل التأويل، ودخل تحت المجاز، ولاحت له أدنى على. وأنا أبتدئ بالأبيات التي ذكرت أن أبا العباس أنكرها، ولم يقم الحجة على تبيين عيبها وإظهار الخطأ فيها، ثم أستقصى الاحتجاج في جميع ذلك؛ لعلمي بكثرة المعارضين ومن لا يجوز على هذا الشاعر الغلط، ويوقع له التأول البعيد، ويورد الشبه والتمويه. وبالله أستعين، وهو حسبي ونعم الوكيل. 1 - أنكر أبو العباس أحمد بن عبيد الله على أبي تمام قوله: هاديه جذعٌ من الأراك، وما ... تحت الصلا منه صخرةٌ جلس قال: هذا من بعيد خطائه أن شبه عنق الفرس بالجذع، ثم قال " جذع من الأراك " ومتى رأى عيدان الأراك تكون جذوعاً؟ وتشبه بها أعناق الخيل!. وأخطأ أبو العباس في إنكاره على أبي تمام أن شبه عنق الفرس بالجذع، وتلك عادة العرب، وهو في أشعارها أكثر من أن يحصى، وقد بينت ذلك فيما غلط فيهأبو العباس على أبي تمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وأصاب أبو العباس في إنكاره أن تكون عيدان الأراك جذوعاً، وإن لم يلخص المعنى؛ لأن عيدان الأراك لا تغلظ حتى تصير كالجذوع، ولا تقاربها. فإن قيل: إن الشجرة من الأراك قد تعظم حتى تصير دوحة يستظل بها الجماعة من الناس والسرب من الوحوش، وذلك معروف موجود، وقد قال الراعي: غذاه وحولى الثرى فوق متنه ... مدب الأتى والأراك الدوائح والدوائح: العظام منه، جمع دوحة. قيل: إن الأمر وإن كان كذلك في بعض شجر الأراك من علوها وتشعب أغصانها في الغلظ، ولو انتهت إلى هذه الحالة - وذلك غير معولم - لما قيل لها أيضاً " جذوع "؛ لأن الجذع إنما هو للنخلة فقط، وقد يقال على سبيل الاستعارة لما يشبه بالنخلة، قال الراجز: بكل طرفٍ أعوجي صهال ... يمشي إذا ما قيد مشى المختال تحت هواد كجزوع الأوقال فقال: " كجذوع الأوقال " والأوقال: جمع وقلة وهي شجرة المقل؛ لأن فيها شبهاً من النخل من جهة الخوص والليف. فإن قيل: فقد قال ذو الرمة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وهادٍ كجذع الساج سامٍ يقوده ... معرق أحناء الصبيين أشدق قيل: ذو الرمة إنما قال ذلك على التشبيه؛ لأن العود من الساج يشبه الجذع المنحوت في غلظه وهيئته، وعود الأراك من أبعد شيء من ذلك؛ لأنه لا يمتد ولا يستوى استواء الجذع ولا غيره من أجناس الشجر التي تمتد أبدانها علواً امتداداً مستوياً، وذلك لرقته وشدة التووائه وتشعبه. 2 - وأنكر أبو العباس قول أبي تمام: رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه ... بكفيك ما ماريت في أنه برد وقال: هذا هو الذي أضحك الناس منذ سمعوه وإلى هذا الوقت، ولم يزد على هذا شيئاً، والخطأ في هذا البيت ظاهر؛ لأنى ما علمت أحداً من شعراء الجاهلية والإسلام وصف الحلم بالقرة، وإنما يوصف الحلم بالعظم والرجحان والثقل والرزانة، ونحو ذلك، كما قال النابغة: وأعظم أحلاماً وأكبر سيداً ... وأفضل مشفوعاً إليه وشافعا وكما قال الأخطل: شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وكما قال أبو ذؤيب: وصبرٌ على حدث النائبات ... وحلمٌ رزينٌ وقلبٌ ذكي وكما قال عدي بن الرقاع في مثل ذلك: في شدة العقد والحلم الرزين وفي ال ... قول الثبيت إذا ما استنصت الكلم وقال أيضاً: أبت لكم مواطن طيباتٌ ... وأحلامٌ لكم تزن الجبالا وكما قال عدي أيضاً: الجامع الأصيل وسؤدداً ... غمراً يقاس به وحكمةً حازم وكما قال أيضاً: قرمٌ له مع دينه وتمامه ... حلمٌ إذا وزن الحلوم ثقيل وقال الفرزدق: أحلامنا تزن الجبال رزانةً ... وتخالنا جنا إذا ما نجهل وقال أيضاً: إنا لتوزن بالجبال حلومنا ... ويزيد جاهلنا على الجهال وكما قال الآخر: وعظيم الحلم لو وازنته ... بثبيرٍأو برضوى لرجح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ومثل هذا كثير في أشعارهم، ألا ترى أنهم إذا ذموا الحلم كيف يصفونه بالخفة؛ فيقولون: خفيف الحلم، وقد خف حلمه؟ وقال عياض بن كثير الضبي: تنابلةٍ سودٍ خفافٍ حلومهم ... ذوى نيرب في الحي يغدو ويطرق وقال عقبة بن هبيرة الأسدي: أبنى المغيرة قبل آل خويلدٍ ... يا للرجال لخفة الأحلام وقال قد بن مالك الأسدي: كأن جرادةً صفراء طارت ... بأحلام الغواضر أجمعينا جعلها صفراء لأنها ذكر، وهو أسرع من الأنثى وأخف. وقال ابن قيس الرقيات، ووجدتها في ديوانه، والصحيح أنها لأبي العباس الأعمى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 حلماء إذا الحلوم استخفت ... ووجوهٍ مثل الدنانير ملس وقال قيس بن عمير الكناني: كمثل الحصى بكر، ولكن خيانة ... وغدرٌ وأحلامٌ خفافٌ عوازب فهذه طريقة وصفهم الحلم، وإنما مدحوه بالثقل والرزانة، وذموه بالطيش والخفة. وأيضاً فإن البرد لا يوصف بالرقة، وإنما يوصف بالمتانة والصّفاقة، وأكثر مايكون ألواناً مختلفة، كما قال يزيد بن الطثرية: أشافتك أطلال الدّيار كأنما ... معارفها بالأبرقين برود والأبرق والبرقاء من الأرض: ما كان فيها حجارة ورمل؛ فقيل ((برقاء)) لاختلاف الألوان فيها، ومن ذلك الجبل الأبرق الذي فتل من قوى مختلفة الألوان؛ فلذلك شبه الشاعر معارف الديار بالبرود لاختلاف ألوان البرود. ولولا أنه قال ((رقيق حواشي الحلم)) ما ظننت أنه شبه بالبرد إلا لمتانته، وهذا عندما أفحش الخطأ، ثم قوله ((لو أن حلمه في بكفيك)) كلام في غاية القبح والسخافة، وأظن أبا العباس بن عمار إنما أنكر هذه اللفظة فقط. وإنى لأعجب من اتباع البحترى إياه في البرد - مع شدة تجنبه الأشياء المنكرة عليه - حيث يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وليال كسين من رقة الصيف ... فخلين لأنهن برود وكيف لم يجد شياً يجعله في الرقة غير البرد؟ ولكن الجيد في وصف الحلم قوله متبعاً للمذهب الصحيح المعروف: خفت إلى السؤدد المجفو نهضته ... ولو يوازن رضوى حلمه رجحا وقوله: فلو وزنت أركان رضوى ويدبل وقيس بها في الحلم خف ثقيلها وأبو تمام لا يجهل هذا من أمر الحلم، ويعلم أن الشعراء إليه تقصد، وإياه تعتمد، ولعله قد أورد مثله، ولكنه يريد أن يبتدع فيقع في الخطأ. 3 - وأنكر أبو العباس على أبى تمام قوله: من الهيف لو أن الخلاخل صورت ... لها وشحاً جالت عليها الخلاخل ولم يذكر موضع العيب فيه، ولا أراه علمه، وأنا أذكره وألخصه فأقول: إن هذا لذى وصفه أبو تمام ضد ما نطقت به العرب، وهو أقبح ما وصف به النساء؛ لأن من شأن الخلاخيل والبرين أن توصف بأنها تعض في الأعضاد والسواعد وتضيق في الأسواق، فإذا جعل خلاخيلها وشحاً تجول فقد أخطأ الوصف؛ لأنه لا يجوز أن يكون الخلخال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الذي من شأنه أن يعض بالساق - وشحاً حائلا على جسدها ح لأن الوشاح هو ما تقلده المرأة متشحة به، فتطرحه على عاتقها، فيستبطن الصدر والبطن، وينصب جانبه الآخر على الظهر حتى ينتهي إلى الحجز، ويلتقى طرفاه على الكشح الأيسر؛ فيكون مها في موضع حمائل السيف من الرجال، وإذا كانت هذه صورة الوشاح فغير جائز يوسف بالسعة والطول، ليدل على تمام المرأة وطولها، وكون ذلك لائقاً بتشبيه النساء في البيت الثاني بقنا الخط، وإنما يوصف الوشاح بالقلق والحركة ليستدل بذلك على دقة الخصر؛ لأنه يقلق هناك إذا كان الخصر دقيقاً، والبط اضمر، بل حركته تدل على ضمر البطن أكثر، وليس طوله في نفسه مما يدل على امتلاء ولا خمص، وإذا كان الخلخال - وهو الحلقة المستديرة المعروف قدرها - وشاحاً للمرأة فإن يأخذ أعلى جسده كله، وإذا كانت كذلك فقد مسخت إلى غاية القماءة والصغر، وصارت في هيئة الجعل؛ وقد تصف العرب الخصر بالدقة، ولكن تعطى كل جزء من الجسد قسطه من الوصف، كما قال امرؤ القيس: طوال المتون والعرانين كالقنا ... لطاف الخصور في تمامٍ وإكمال ألا تراه قال لطاف الخصور قال في تمام وإكمال ولو قال هذا الشاعر لو أن الخلاخيل صيرت لها حقباً لصح له المعنى كما قال منصور النمرى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فلو قست يوماً حجلها بحقابها ... لكانا سواءً، لا، بل الحجل أوسع فجعل حجلها - وهو الخلخال - أوسع من حقابها، والحقاب: ما تديره المرأة على خصرها؛ فهو يختص بالخصر، وكذلك النطاق، والوشاح لا يختص بالخصر، وإنما يعلق حتى ينتهى إليه إذا كان الخصر دقيقا والبطن ضامراً، فاتبع أبو تمام منصوراً في المعنى فأخطأ. ومن عادة العرب أنها لا تكاد تذكر الهيف وطي الكشح ودقة الخصر إلا إذا ذكرت معه من الأعضاء ما يستحب فيه الامتلاء والرى، على ما عرفتك، كما قال ذو الرمة: عجزاء، ممكورةٌ، خمصانةٌ، قلق ... منها الوشاح وتم الجسم والقصب وكما قال أيضاً: وفي العاج منها والد ماليج والبري ... قنا مالئٌ للعين ريان عبهر أناةٌ تلوث المرط منها بدعصةٍ ... ركامٍ، وتجتاب الوشاح فيقلق وكما قال: ترى خلفها نصفاً قناةً قويمةً ... ونصفاً نقاً يرتج أو يتمرمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وكما قال الشنفري: فدقت، وجلت، واسبكرت، وأكملت ... فلوجن إنسانٌ من الحسن جنت أي: دق منها ما ينبغي أن يدق، وجل منها ما ينبغي أن يجل؛ فهذا هو تمام الوصف. وقال تميم بن أبي مقبل: هيف المردى رداحٌ في تأودها ... مخطوفةٌ منتهى الحشاء عطبول فقال " هيف المردى " ثم قال " رداح " والرداح: العظيمة العجز، وهذا مقول ذي الرمة " خلفها نصفا قناة قويمة " وقوله " عطبول " قويمة العنق. وقال تميم أيضاً: من الهيف مبدانٌ ترى نطقاتها ... بمهلكةٍ أخراصهن تذبذب فجعلها هيفاء، وهي الخميصة البطن، ثم قال مبدان؛ فصار البدن لا يمنع من الهيف، ولا يضاده. وقال تميم أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وقد دق منها الخصر حتى وشاحها ... يجول، وقد عم الخلاخيل والقلبا وقال علي بن أبي هلقمة الجرمي: ترى حجلها ملآن ليس بزائدٍ ... يجول، ولم تملأ وشاحاً ولا عقدا فإن ذلك من شأن الوشاح؛ لأن من سبيله أن يكون جائلا إذا انتهى إلى خصرها لدقته، ومن شأن العقد أن يجول أيضاً على عنقها وترائقها؛ لقلة اللحم هناك، وذاك هو المحمود من الوصف، وقال امرؤ القيس: على هضيم الكشح ريا المخلخل وقال طرفة بن العبد: وملأى السوار مع الدملجين ... وأما الوشاح عليها فجالا وقال علقمة بن عبدة: صفر الوشاحين، ملأى المرط، خرعبةٌ، ... كأنها رشأٌ في البيت ملزوم وقال المرار: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بيض العوارض بدنٌ أبدانها ... رجح الروادف ضمر الخصار وقال كثير: كسون الريط ذا الهدب اليماني ... خصوراً فوق أعجازٍ ثقال وقال كثير أيضاً: يجول الوشاح بأقرابها ... وتأبى خلاخلها أن تجولا وقال آخر: عقيليةٌ، أما ملاث إزارها ... فدعصٌ، وأما خصرها فبتيل يريد كأنه لدقته مقطوعٌ مما يليه. وهذا كله ضد ما قاله أبو تمام. فإن حمل بعض من يريد إقامة العذر له نفسه على أن يقول: إنما ذهب في قوله " جالت عليها الخلاخل " إلى قولهم: فلان يدخل في الخاتم لظرفه ولين أخلاقه، لا لضيق مفاصله! قيل: هذا من كلام العامة، وقول أب يتمام: " من الهيف " يمنع هذا التأول ويحجز عنه؛ لأن الهيف الخميصات البطون، الواحدة هيفاء، وإلى هذا ذهب، لا إلى وصف الأخلاق ورقة الطباع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فإن قال قائل: إنما قال " لو أن الخلاخيل صيرت لها وشحاً " أي لو ساغ ذلك وجاز، كما يقال: لو دخل أحد في سم الخياط لرقته وحسن أخلاقه لدخل زيد، وكما قال الشاعر: لو طار ذو حافرٍ سرعةٍ طارا وكما قال الآخر: لو كان يقعد فوق الشمس من كرمٍ ... قومٌ لسؤددهم أو مجدهم قعدوا قيل: هذا مذهبٌ حسن معروف من مذاهبهم، ولكن ليس بينه وبين قول أبي تمام شبه، وإنما كان يشبهه لو قال: " لو أن الخلاخيل تكون مكان الوشاح لجال عليها " ولو قال هذا أيضاً لكان يعد مخطئا؛ لأنه سواء عليه قال هذا أو قال قصر ظهرها أو بعض خلقها أو ضم بعض أعضائها إلى بعض، حتى لو يكون خلخالها مكان وشاحها لجال عليها، ومثل هذا لا يقوله أحد إلا الكشحى وأبو العير، ولفظ بيته أقبح من هذا، وأشنع؛ لأنه إنما أخرجه مخرج الحقيقة، أو ما يقارب الحقيقة، نحو قول القائل: لو تغطت هندٌ بشعرها لغطاها، ولو سترت وجهها بذراعها لسترته، ولو مسستها لثاخت الإصبع فيها، أو لأدمتها، وهذا ضرب من المبالغة، وهو إلى الحقيقة أقرب، وليس من الأبيات المذكورة في شيء ولا على سياقة ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 اللفظ، والإحالة فيما مخرجه الحقيقة أقبح من الإحالة فيما مخرجه مخرج التوسع؛ والمبالغة. وبعد فإن أبا تمام إنما قال: من الهيف، والهيفاء هي الضامرة البطن، وقد تكون ضامرة مطوية وخصرها غير دقيق؛ لأنها قد تكون من ضمرها عريضة الحقوين، فيضطرب الوشاح هناك، لأنه إنما يجري من أحد جانبيها على حقو واحد. واضطراب الوشاح لا يدل على دقة الخصر خاصة؛ لأنه قد يضطرب والخصر غير دقيق، وصمته ولزومه لا يوجب عرض الخصر لا محالة، لأنه غير مطيف به، وإنما يقع طرفه على أحد جانبيه، فما وجه جعل الخلخال في موضع الوشاح؟ فإن قيل: لم يذهب إلى دقة الخصر، وإنما ذهب إلى وصف البطن بالضمر، لأنه قال: من الهيف والهيف، الضوار البطون. قيل: فهذا موضع غلطه وإحالته، لأن ضيق الخلخال والوشاح لا يوجب ضمر البطن، ولا يدل على ذلك أيضاً طوله ولا قصره: وإنما يدل على الضمر حركته لا غير، وطوله إنما يدل على طول الطهر. وقصره على قصره، والخلخال بمعزل عن ذلك كله. وإنما سمع أبو تمام قول علي بن جبلة: فلو قست يوما حجلها بحقابها ... لكانا سواء، لا بل الحجل أوسع فاتبعه فأخطأ وأحال؛ لأن العقاب لا يخص غير الخصر، فأراد ابن جبلة أن يدل على دقة الصر فقال: لو قيس خلخالها بحقابها لكانا سواء وكان الخلخال أوسع؛ لأن الخلخال مستدير كاستدارة العقاب، ودقة الخصر تقتضي ضيق العقاب. كما أن تمام الظهر وطل القناة يقتضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 طول الوشاح وطول حمائل السيف؛ لأنهما يخصان القمامة، ألا ترى إلى قول أبي نواس: أشم طوال الساعدين كأنما ... يناط نجاد سيفه بلواه وكما قال البحتري: ينوس إذا تمطى في النجاد وكان ينبغي لأبي تمام لما وصف النساء في البيت التالي بالطول والتمام فقال: قنا الخط إلا أن تلك ذوابلٌ أن يصف الوشح بالطول والتمام؛ لأن الوشاح من المرأة في موضع خمائل السيف، فكيف يجعلها مثل الخلاخل ويجعل الخلاخل مثلها؟. وقد يبالغ الشاعر في أشياء حتى يخرج منها إلى المحال، ويخرج بعضها مخرج النادر، فيستحسن ولا يستقبح، نحو قول الشاعر: من رأى مثل حبنى ... تشبه البدر إذ بدا يدخل اليوم خصرها ... ثم أردافها غدا ومثل هذا كثير، وقد بالغ النابغة في وصف عنق المرأة بالطول، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 إذا ارتعثت خاف الجبان رعاثها ... ومن يتعلق حيث علق يفرق فجعل القرط يخاف أن يسقط من هناك فيلك، وإنما أخرج هذا كالمثل: أي لو كان مما يقع منه الخوف لخاف، وقال ذو الرمة: والقرط في حرة الذفرى معلقه ... تباعد الحبل منه فهو يضطرب فدل بقوله: " تباعد الحبل منه " على طول عنق المرأة؛ فهذه المبالغة لائقة مستحسنة؛ لأنه دل على الوصف بالشيء الذي يخص الموصوف، لا بالشيء الذي يخص غيره، ولو كان أبو تمام قال: " لو أن الخلاخيل صيرت لها نطقاً " لكان أتى بالصواب؛ لأن النطاق هو كل ما يدار على الخصر مثل المنطقة من سير كان أو ثوب أو غيرهما، أو لو قال " حقباً " لأن الحقاب والنطاق بمنزلة واحدة، وأظنه أراد أن يقول هذا فغلط فجعل مكانه الوشاح. وقد بالغ أبو العتاهية في وصف الخصور بالدقة، فقال: ومخصراتٍ زرننا ... بعد الهدو من الخدور نفجٌ روادفهن يل ... بسن الخواتم في الخصور لم يرد أن خواتمهن في خصورهن؛ لأن هذا محال، وإنما ذهب إلى مثل قولهم: " جفنة يقعد فيها خمسة " أي: لو قعدوا فيها لو سعتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وقال الآخر: لها حافرٌ مثل قعب الولي ... د يتخذ الفأر فيه مغارا أي: لو اتخذ فيه مغاراً لوسعه، فكذلك قوله: " يلبسن الخواتم في الخصور " أي: تصلح خصورهن أن تدخل في خواتمهن لدقتها، وكل ما دنا منم المعاني من الحقائق كان ألوط بالنفس، وأحلى في السمع وأولى بالاستجادة. فهذا ما أنكره أبو العباس مما أبو تمام فيه غالطٌ، وهو ثلاثة أبيات. 4 - ومما أخطأ فيه الطائي البيت الذي بعد قوله: من الهيف لو أن الخلاخل صيرت ... لها وشحاً جالت عليها الخلاخل وهو قوله: مها الوحش إلا أن هاتا أوانسٌ ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل وإنما قيل للقنا " ذوابل " للينها وتثنيها، فنفى ذلك عن قدود النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 التي من أكمل صفاتها التثنى واللين والانعطاف، كما قال تميم بن أبي بن مقبل: يهززن للمشي أوصالاً ... هز الجنوب ضحى عيدان يبرينا أو كاهتزاز ردينى تداوله ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا فشبه تميمٌ قدودهن بالردينى للينه وتثنيه لا غير، هذا أجود من كل ما قاله الناس في مشي النساء وحسن قدودهن، وقوله " مها الوحش " أراد كمها الوحش إلا أن هاتا أوانس؛ فوضع المشبه به في مكان المشبه، وهذا في كلامهم شائع مستفيض. 5 - ومما أخطأ فيه الطائي أقبح خطأ قوله: قسم الزمان ربوعها بين الصبا ... وقبولها ودبورها أثلاثا لأن الصبا هي القبول، وليس بين أهل اللغة وغيرهم في ذلك خلافٌ. فإن قيل: إنما سميت الصبا قبولا؛ لأنها تقابل الدبور؛ فلعله استعار هذا الاسم للدبور، فقال " بين الصبا وقبولها " يريد الدبور لأنها تقابل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الصبا فكأنه أراد بين الصبا ومقابلتها أي الريح المقابلة لها. قيل: هذا غلط من وجوه: منها: أنه قد ذكر الدبور في البيت مرة؛ فلا يجوز أن يأتى بها مرة ثانية. ومنها: أنه ما سمع من العرب " زيدٌ قبولك " أي: مقابلك، ولا " دار زيد قبول دار عمرو " بمعنى مقابلتها؛ فإنما خصت الصبا وحدها بهذا الاسم؛ لأنها تأتي من الموضع الذي يقبل منه النهار، وهو مطلع الشمس، وقيل لها " دبور " لأنها ضدها، أخذه من أقبل وأدبر، ولو جاز هذا في كلامهم وساغ في لغتهم أو كان مثله مسموعا منهم لساغ أن تسمى الشمال أيضاً قبولا؛ لأنها تقابل الجنوب، وأن تسمى الجنوب قبولا؛ لأنها تقابل الشمال. وما أظن أحداً يدعى هذا، ولا يستجيز أن يعارض بمثل هذه المعارضة، ولا أن يحد لغةً غير معروفة، وينسب إلى العرب ما لم تعلمه ولم تنطق به. ومنها - وهي أولاها في فساد هذا التأويل -: أنه قال: " بين الصبا وقبولها ودبورها أثلاثا " وقوله " أثلاثا " يدلك أنه أراد ثلاث رياحٍ، وأنه توهم أ، القبول ريحٌ غير الصبا، وهذا واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 والجيد قول البحتري: متروكةٌ للريح بين شمالها ... وجنوبها ودبورها وقبولها فجاء بالرياح الأربع. وقال البحتري أيضاً: شنئت الصبا إذ قيل وجهن قصدها ... وعاديت من بين الرياح قبولها فقوله " وجهن " يعني الحمول، والهاء في " قبولها " راجعةٌ إلى الرياح. وهذا مما يوهمك أنه أراد ريحين، وإنما أراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ريحاً بعينها، وسماها باسميها، فقال: شنئت الصبا، وعاديت القبول: أي أبغضت هذين الاسمين؛ لأن حمول الظاعنين توجهت نحوها، ولم يقل إن الحمول توجهن إلى وجهتين مختلفين. وحكى ابن الأعرابي - أو حكى عنه - أنه قال: القبول كل ريحٍ طيبة المس لينة، لا أذى فيها، سميت قبولا لأن النفس تقبلها، وأظن الأخطل - إن كانت الرواية صحيحة - لهذا قال: فإن تبخل سدوس بدرهميها ... فإن الريح طيبةٌ قبول أي: طيبة لا تمنعنا الانصراف والسير، وهذه لبست من الريح التي ذكرها أبو تمام في شيء؛ لأن هذه على هذا الوصف: قد تكون الشمال، وتكون الجنوب، وتكون الصبا، وذلك إنما أراد ريحاً بعينها؛ لأنه قال: " بين الصبا وقبولها " فجعلها مضافة إليها، كما لو قال " بين الشمال وجنوبها " لأنهما ريحان معروفتان، وهما أختان مختلفتان تعتقبان، وكذلك لو قال " بين الصبا ودبورها " وكذلك لو قال " بين القبول ودبورها " أو " بين القبول وشمالها " فإذا ذكرت القبول مع هذه الرياح المعروفة كانت هي الصبا، وليس هذا موضع القبول التي هي الريح اللينة المس الطيبة على ما ذكر؛ لأنه وصف مجهول، ويجوز أن يكون لكل ريح ولا يقع في هذا الموضع؛ لأنك إذا عنيتها بقولك " قد هبت الصبا وقبولها " لم يدر أي ريح هي؛ فما معنى إضافتها إلى الريح المعروفة التي هي إذا لان مسها جاز أن تسمى بذلك الاسم؟ خذا خلفٌ من القول إذا قيل. وأيضاً إن أبا تمام إنما أراد أن هذه الرياح عفت هذه الديار، وذهبت بها؛ فما وجه ذكره لريح طيبة لينة المس مع الدبور؟ هذا محال أن يكون أراده، كيف والديار يدعى لها بهبوب الرياح اللينة الضعيفة لئلا تعفوها؟ ألا ترى قول أبي تمام: أرسى بناديك الندى وتنفست ... نفسا بعقوتك الرياح ضعيفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقال البحتري: وإذا هبت الرياح نسيماً ... فعلى ربع دارها والجناب فشرط أن تكون الرياح نسيما، وقال: راحت لأربعك الرياح مريضةً ... وأصاب مغناك الغمام الصيب فشرط أن تكون الرياح مريضةً؛ لئلا تعفوها وتمحوها. فإن قيل: فلعله أراد " بين الصبا وقبولها " أي: بين الصبا سهلها ولينها، ولا يكون يريد بالقبول اسمها المعروف، وإنما يريد الاسم الذي يقع للريح اللينة المس، فكأنه قال " بين القبول وقبولها " كما يقال: " جاءنا عباسٌ وعباسه " أي: ووجهه العباس، و " أتانا الضحاك وضحاكه " أي: ووجهه الضحاك؛ لأن التعبيس والضحك في الوجه، و " فتنتنا حوراء بحوارئها " أي: بعينها الحوراء. قيل: هذا كله لفظ سائغ مستقيم، غير أنا ما سمعنا مثل هذا في الريح، ولا علمناه في اللغة، ولا وجدنا في الشعراء أحداً قال: " الصبا وقبولها "، ولا " الجنوب وقبولها " ولا " الشمال وقبولها " أي: سهلها ولينها، ولو أراد الطائي ذلك كان أيضاً مخطئاً؛ لأن الريح لينها وشديدها ريحٌ واحدة، وقد قال أبو تمام " أثلاثا " فدل على أنه أراد ثلاث رياح، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 كان أراد ريحاً أخرى غير الصبا فقد قدمت القول في أن ذلك غير سائغ ولا مستقيم، وقد استقصى أصحاب الأنواء في كتبهم ذكر الرياح وأصوافها ونعوتها، واستشهدوا بأكثر ما سمعوه من أشعار العرب فيها، وبالغ أبو حنيفة الدينورى في ذلك؛ فما منهم أحد ذكر أن القبول غير الصبا، وإنما قال ابن الأعرابي في نوادره: إن العرب تسمى كل ريح طيبةٍ لينة المس قبولاً، قال الأخطل: فإن تبخل سدوس بدرهميها ... فإن الريح طيبةٌ قبول فإنما أراد الصبا؛ لأنها ريحٌ محبوبة تنسب إلى الطيب، وهي دائمة الهبوب لينة المس معتدلة في أكثر أوقاتها: أي فإن منعت سدوس نائلها فإن الريح طيبة قبول، أي: هي صباً ما تمنعنا من الانصراف والرحيل؛ فإن كان ما ذكره ابن الأعرابي صحيحاً - وهو الصحيح إن شاؤ الله - فإنهم إنما قالوا لكل ريح طيبة لينة قبول تشبيها لها بالصبا، كأنهم إن هبت شمالٌ لينة، قالوا: هذه الصبا، أو هذه القبول، أي: كالصبا أو كالقبول، فأسقطوا حرف التشبيه، وجعلوا المشبه في مكان المشبه به، كما تقول إذا شممت أترجةً طيبة العرف: هذه المسك، أو كالمسك، وإذا رأيت وجهاً حميلا قلت: هذا هو البدر، وإن شئت كان المعنى: هذه المسك حقا، وهذا هو البدر يقينا، ولوهبت شمال شديدة مزعجة حتى تقول: هذه هي الدبور بعينها - لكان هذا من أسوغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 كلام وأصحه، فإن كانت العرب سمت الشمال والجنوب - إذا هبتا هبوباً سهلا ليناً - قبولا فإنما شبهوها بالصبا وأعاروها اسمها. وإنما قيل لها قبول لأنها تأتي من مطلع الشمس، وهو الموضع الذي يقبل منه النهار، وقيل للدبور دبوراً لأنها تهب من حيث يدبر، وقد قيل غير ذلك، وهذا هو الصحيح. وحكى بعضهم عن النضر بن شميل أنه قال: القبول ريحٌ تلى الصبا ما بينها وبين الجنوب، وهذا غير معروف ولا معول عليه، وقد ذكر بعضهم أن قوما شموا الشمال قبولاً، قال: وليس ذلك بثبت، ولا معول عليه إلا أن يكون قاله على هذا الوجه الذي ذكرته على التشبيه. والله أعلم. وبيت أبي تمام لا يحتمل أن يتأول فيه هذه الريح؛ لأنه أراد محو الديار، ولا تذكر في محو الديار القبول الخفيفة الهبوب الطيبة المس مع الدبور التي لا تكاد تهب، فإن هبت لم تأت إلا شديدة مزعجة. ولو قال آخر ممن لا تمييز معه: أراد بين الصبا وقبولها، أي: الريح التي قبلتها، كأنها قابلتها فقبلتها فهي قبولها، يعني ريحاً من الرياح، كما يقال: فاخرته ففخرته، وخاصمته فخصمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قيل: هذا خطأ من وجوه: منها أن الريح التي تقابل الصبا مقابلة صحيحة هي الدبور، وقد ذكرت في البيت الأول؛ فلا يجوز أن يرددها؛ ومنها: أنك لا تقول قابلت زيداً فقبلته، مثل فاخرته ففخرته؛ لأنك إذا قابلته فقد صرت قابلته وصار قبالتك؛ فليس أحدكما في هذا بأفضل من آخر، وذلك مثل قولك: واجهته، وآزيته، وساويته، وحاذيته؛ لأنك في هذه الأفعال مثله وهو مثلك؛ فلا يجوز أن تقول فيه: فعلته: أي غلبته؛ ومنها: أنك إذا قلت " زيد ضاربٌ عمراً، وضروب عمرو، وقاتلٌ بكراً، وقتول بكرٍ " لم تدل على أنه كانت هناك مضاربة بينهما ومقاتلة؛ لأنه يجوز أن يكون الضرب وقع من أحدهما ولم يقع من الآخر. ولذلك أصل؛ فلذلك لا يدل قوله " قبولها " على أنه كانت هناك مقابلة، كما لا يدل قولك " زيد ضارب عمرو " على أنه كانت مضاربة بينهما حتى غلب زيد عمراً بالضرب، وإذا لم يكن على الشيء دليل لم تقم به حجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 6 - ومن خطائه قوله: وصنيعةٍ لك ثيبٍ أهديتها ... وهي الكعاب لعائذ بك مصرم حلت محل البكر من معطى، وقد ... زفت من المعطى زفاف الأيم غلطه وقع في البتين جميعاًن وقالوا: أراد بقوله " وصنيعة لك " أي: للممدوح " ثيب " أي: قد افترعت " أهديتها وهي الكعاب لعائذ بك مصرم " أي: قليل المال، وجاء بالكعاب على أنها تقوم مقام البكر ليجعلها في البيت ضد الثيب فتصبح له القسمة: أي هذه الصنيعة ثيبٌ عندك: أي قد اصطنعت مثلها مراراً، وهي الكعاب - يريد البكر - عند هذا العائذ بك؛ لأنها أول ما اصطنعته إليه أو لأنها أكبر صنيعة صنعتها عنده. قالوا: والكعاب هي التي كعب ثديها، وقد تكون بكراً، وتكون ثيباً، فليست ضد اً للثيب في البيت، ولا تصح بها قسمته؛ لأن اسم الكعاب لا يزول عنها إذا افترعت حتى ينهد ثديها ويرتفع. قالوا: واعتمد أن يشرح هذا المعنى في البيت الثاني فقال: حلت محل البكر من معطى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وذلك معنى قوله: " وهي الكعاب لعائذ بك " ثم قال: " زفت من المعطى زفاف الأيم "، وهو يريد معنى قوله: " وصنيعة لك ثيب " على أن الأيم هي الثب. وقالوا: هذا خطأح لأن الأيم هي التي لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيبا، قال الله عز وجل: " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم " أفتراه قال أنكحوا الثيبات من النساء دون الأبكار؟ إنما أراد تبارك اسمه أنكحوا النساء اللواتي لا أزواج لهن؛ فالثيب والبكر والصغيرة والكبيرة ممن لا زوج لها تدخل في الآية، قال الشماخ: يقر بعيني أن أحدث أنها ... وإن لم أنلها أيمٌ لم تزوج وهذا هو المعروف في كلامهم. وهذا الذي ذكروه من غلطه في الأيم هو كما ذكروه، فأما ما ادعوه في البيت الأول من الغلط في الكعاب بأن أقامها مقام البكر فليس ذلك بغلط، والمعنى صحيح، وقد جاء مثله في أشعار العرب، قال قدامة بن ضرار الحنفى: غداة خطبنا البيض بالبيض عنوةً ... وأبن إلينا ثيباتٍ وكعبا أراد بالكعب الأبكار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وقال جرير يهجو امرأة: وقد حملت ثمانية وتمت ... لتاسعة وتحسبها كعابا فأقام الكعاب مقام البكر، وجعلها ضد الثيب، ومثله في كلامهم كثير موجود، فعلوا ذلك - وإن كان الكاعب قد تكون بكراً وتكون ثيباً - لأن أول أحوال الكواعب أن يكن قد ناهزن حد البلوغ، وبدت ثديهن بالتكعيب؛ فهن في هذه الحال أكثر ما يكن أبكاراً وغير ذات أزواج، قال عمرو ابن معد يكرب: تركوا السوام لنا وكل خريدةٍ ... بيضاء خرعبة وأخرى ثيب فأقام الخريدة مقام البكر، وجعلها ضد الثيب في البيت، والخريدة الدرة، والخريدة هي الحيية حكى اللحيانى قال: سمعنا أعرابياً من كلب يقول الخريدة الدرة التي لم تثقب وهي من النساء البكر، والخرعبة: اللينة المفاصب الطويلة، هذه قد تكون بكرا، وقد تكون ثيباً، إلا أنه جعلها بكراً؛ لأن الحياء أكثر ما يكون في الأبكار. فقد صح معنى بيت أبي تمام الأول ف يالكعاب، وبقى الغلط قائماً في الأيم، وجعلها في البيت الثاني ضد البكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فإن قيل: فلم لا يكون لأبي تمام إقامة الأيم في البيت الأول مقام الثيب؛ إذ كانت الأيم قد تكون ثيبا، كما أقمت الكعاب في البيت الثاني مقام البكر؛ إذ كانت الكعاب قد تكون بكراً، وتتجاوز له في هذا كما تجاوزت لبه في تلك؟ قيل: لفظة كعاب تدل بصيغتها على صغر السن كما عرفتك؛ فهي في الأكثر تكون بكراً غير مفترعة؛ فلذلك استحسنوا أن أقاموا الكعاب مقام البكر، ولفظة أيم لا تدل على حد في السن: من صغر، ولا كبر، ولا على بكورة، ولا افترع؛ فلا تجوز إقامتها مقام الثيب بحال، وقد غلط في الأيم بعض كبار الفهاء فجعلها مكان الثيب، وذلك لحديثٍ روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لحقه السهو في تأويله فحمله على غير معناه؛ فلعل أبا تمام من هذا الوجه قد لحقه الغلط. وقد ذكر أبو تمام معنى هذين البيتين في موضع آخر، فقال - وقد ذكر صنيعةً أيضاً -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وليست بالعوان العنس عندي ... ولا هي منك بالبكر الكعاب والعوان: هي التي بين المسنة والصغيرة السن، وهي التي قد عرفت الأمور، وجرت عليها التجربة؛ فلذلك قيل: العوان لا تعلم الخمرة، ومنه قيل: حربٌ عوا، وهي التي قوتل فيها مرةً بعد مرةٍ، وإنما استعير لها اسم المرأة في هذه الحال، كما قال الشاعر: الحرب أول ما تكون فتيةٌ فاستعار لها أول ما تبدأ وتنشأ اسم الفتاة، وأراد أبو تمام أن هذه الصنيعة ليست بالعوان عندي: أي ليست صنيعةً قد تقدمتها لك لدى صنائع تشبهها لبعظمها وجلالها، ولا هي بالبكر منك: أي ليست مع ذلك بكر صنائعك، بل قد أسديت كثيراً مثلها إلى غيري، وهذا هو المعنى الذي قصده في البيتين المتقدمين، إلا أنه جعل " العنس " هنا في موضع العانس كأنه أراد أن يقول: وليست بالعوان العانس عندي فغلط فقال العنس ولاعانس: هي التي حبسها أهلها عن التزويج حتى جاوزت حد الفتاة، والعنس: اسم من اسماء الناقة، وهي التي قد انتهت في شدتها وقوتها، فأين وصف الناقة من وصف المرأة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فإن قيل: إن أبا تمام لم يرد غير العنس، ولم يرد العانس؛ لأنه لو أراد العانس لكان مخطئاً من وجهٍ غير الذي ذكرته، وهو أن العوان - فيما ذكر بعض أهل اللغة - الثيب، وقيل: إنها التي كان لها زوج، وجرير قد أفصح أنها ذات الزوج في قوله: وأعطوا كما أعطت عوانٌ حليها ... أقرت لبعل بعد بعلٍ تراسله فكيف يكون العانس وصفاً للعوان، ولاعانس هي التي حبست عن التزويج؟ قال عامر بن جوين الطائي: ووالله ما أحببت حبك عانساً ... ولا ثيباً لو أن ذاك أتاني فجعلها ضد الثيب، والعنس أولى بأن تكون وصفاً للعوان من العانس، ويكونان جميعاً من أوصاف العوان؛ لأن العوان إذا أريد بها الناقة، وهي دون المسنة وفوق الفتية، فهي حينئذ الكاملة، والعنس: الناقة التي قد انتهت في قوتها، فهما صفتان متفقتان استعارهما الشاعر للصنيعة من أوصاف النوق، كما استعار البكر الكعاب من أوصاف النساء. قيل: هذا غلط من الاحتجاج، وتعسف من التأويل، وإنما يستدل ببعض الألفاظ على بعض، كما يستدل على المعنى بما يقترن ويتصل به، فيكون في ذلك بيانٌ وإيضاح، أما العوان والبكر - وإن كان قد وصف بهما غير المرأة من البهائم وغير البهائم - فإن البكر في البيت لا تكون مستعارة إلا من أوصاف النساء، من أجل ما اقترن بها من لفظ الكعاب التي هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 مخصوصة بوصف الجارية التي قد كعب ثديها، فلا تكون العوان في صدر البيت من أوصاف النوق، والبكر في آخره من أوصاف النساء؛ فعلمنا أنه لم يرد بالعنس إلا العانس فغلط، كأنه أراد أن هذه الصنيعة ليست في حال ما هي عندي بالعوان العانس، ولا ف يحال ما هي عندك بالبكر الكعاب؛ لأن المرأة تكون كاعباً وبكراً في حال، وعواناً وعانساً ف يحال أخرى، فتنتقل في هذه الأوصاف، والعنس لا موضع لها ههنا. وأما قوله " إنه لو أراد العانس كان مخطئاً؛ لأن العانس هي التي حبست عن التزويج حتى جازت حد الفتاة؛ فلا تكون وصفاً للعوان؛ لأن العوان عند أهل اللغة الثيب " فيقال: إنه إنما كان يسوغ لك هذا التأويل لو زال اسم العنوس عن المرأة إذا تزوجت، فأما وهو باقٍ عليها بعد التزويج الذي صارت به ثيباً فلم لا يكون وصفاً للعوان التي هي أيضاً ثيب عندك، ألا ترى إلى قول كثير: فإن طلابي عانس أم ولدة ... لمما تمنيني النفوس الكواذب فقال ((عانساً)) وجعلها أم ولدة. فإن قال: فلعل أبا تمام لم يرد هذا وإنما أراد بالعنس مصدر عنست المرأة تعنس عنساً وعنوساً، فجعل المصدر - وهو عنوس - وصفاً للعوان مكان العانس، والمصادر قد تجعل أوصافاً في مكان أسماء الفعالين. قيل له: المصدر المعروف في مصدر ((عنست المرأة)) وهو العنوس، ولم يسمع العنس، وعلى أن الأصمعى قد أنكر عنست مخففاً، وقال: إنما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 عنست تعنس تعنيساً بالتشديد، حكى ذلك عنه يعقوب بن السكيت، وهب أن قد جاء العنس مصدر عنست فليس في كل موضوع يسوغ أن تكون المصادر أو صافاً، وإنما تكون أوصافاً على وجه من الوجوه وطريقة من اللفظ، وهي قولهم: إنما زيد دهره أكلٌ ونومٌ، وإنما عمرو أبداً قيامٌ وقعودٌ؛ فإن شئت كان المعنى إنما زيد ذوأ كل ونوم، وإنما عمرو ذو قيام وقعود فتقيم المضاف إليه مقام المضاف؛ لأنه يدل عليه، أو تجعل زيداًنفسه الأكل والنوم وعمرا القيام والقعود على المبالغة؛ لأن ذلك كثير منهما، كما قالت الخنساء: ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبالٌ وإدبار فجعلت الناقة هي الإدبار والإقبال لأن ذلك كثر منها، وإن شئت كان المعنى ذات إقبال وإدبار، فأقمت المضاف إليه مقام المضاف؛ فهذه طريقة الوصف بالمصادر، وإذا تأولت بالعنس المصدر في قوله " وليست بالعوان العنس " كان ذلك كقولك: ليست هند بالصبية الصغر، تريد الصغيرة، ولا دعد بالهرمة الكبر، تريد الكبيرة؛ فهذا لا يسوغ في منطق ولا يعرف في لغة، ولكن قد تستعمل هذه المصادر وصفاً على نحو ماذكرته؛ فيقال هند الحسن كله، ودعد الجمال أجمعه، وزيد الهرم أقصاه، وعبد الله البغض نفسه، والتينة عينه، وإن شئت كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 المعنى هند صاحبة الحسن كله، ودعد ذات الجمال أجمعه، وزيد أخو الهرم، وعبد الله ذو التيه؛ فأقمت المضاف إليه مقام المضاف: كما قال الله عز وجل: (وسأل القرية التي كنا فيها) يريد أهل القرية، وإن شئت جعلت هنداً هي الحسن، هي الجمال، على المبالغة، لما كانتا غايتين فيهما، وجعلت زيداً هو الهرم، وعبد الله هو التيه، لما كانا متناهيين في هذين الوصفين. ولو كان أبو تمام اقتصر على ذكر العوان والبكر - وهما اللفظتان اللتان استعارتهما الشعراء في هذا المعنى، ولم يخلط بهما العنس والكعاب والثيب والأيم - لكان قد سلك الطريق المستقيم، فأتى باللفظ المألوف المستعمل، وتخلص من فاحش الخطأ، وإنما أراد معنى قول الفرزدق: وعند زيادٍ لو تريد عطاءه ... رجالٌ كثيرٌ قد ترى بهم فقرا قعودٌ لدى الأبواب طالب حاجةٍ ... عوان من الحاجات، أو حاجة بكرا أي: منهم طالب حاجةٍ عوان: أي حاجة قد عرفها وصارت عادةً له ورسماً يتطلبه في كل حين، ومنهم طالب حاجة بكر: أي أول ما يلتمسه منه ويقترحه عنده، فأخب أبو تمام أن يزيد على هذا المعنى ويغرب، فأخرجه ذلك إلى الخطأ. وقد أحسن محمد بن حازم الباهلي في قوله: أبا جعفرٍ يا بن الجحاجحة الغر ... بدت حاجةٌ، والحر يأوى إلى الحر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وقد لبستني منك بالأمس نعمةٌ ... فهل لك في أخرى عوانٍ إلى بكر على أنها إن أمكنت أو تعذرت ... فإنك بين الشكر مني والعذر فهذه طريقة الشعراء في العوان والبكر. 7 - ومن خطائه قوله: الود للقربى، ولكن عرفه ... للأبعد الأوطان دون الأقرب لأنه نقص الممدوح مرتبةً من الفضل، وجعل وده لذوى قرابته، ومنعهم عرفه، وجعله في الأبعدين دونهم، ولا أعرف له ف يهذا عذراً يتوجه. وقد عارضني في معنى هذا البيت غير واحدٍ ممن ينتحل نصرة أبي تمام. فقال بعضهم: إن العرف ما يتبرع به الإنسان؛ فلذلك جعله في الأباعد، فأما الأقارب فإن برهم وصلتهم من الحقوق الواجبة اللازمة. قلت: إن كنت تريد الحقوق التي تلزم وتجب من طريق الحكم فإن ذلك إنما هو للآباء والأجداد، والأمهات والأولاد، والأعمام والأخوال، والإخوة والأخوات إذا كانوا فقراء محتاجين؛ فيجب لهم من الإنفاق عليهم بقدر القوت والكفاية، وهذا لا يخرج أن يسمى معروفاً، ألا تراهم يقولون: أنل أباك من معروفك، أو أنل أمك من معروفك؛ فلا يكون هذا قبيحاً، بل حقاً، وقال الله عز وجل فيما فرض على الرجال للنساء: " وعلى المولد له رزقهن وكسوتهن بالمعروف "، فقد صار الفرض ههنا معروفاً؛ لأن المعروف هو الحسن الجميل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 القول والفعل الذي قد عرفت المصلحة فيه؛ فصار معهوداً معتاداً إذاأورد لم تنفر النفوس منه فتنكره، وهذا لا يكون الإنسان محموداً به إذا أعطاه هذه الطبقة من أهله حتى يمدح بفعله ويفتخر له به، بل يكون مذموماً إذا اقتصر عليه ولم يتجاوزه إلى التوسعة عليهم، والإغناء لهم، إن كان من ذلك ممكناً وعليه مقتدراً، فما بال غير هؤلاء من الأقارب ممن ليس له حق من طريق الحكم، وهم بنو الأعمام الذين هم الأعضاد والعدة، وبهم تكون النصرة، وكذلك بنو الأخوات وبنو الأخوال لم يجعل المعروف - الذي هو تبرع - في الأباعد دونهم ويخرجون منه. وإن أردت الحقوق التي يلزمها الإنسان نفسه تكرماً وتفضلاً فذلك حقيقة العرف الذي يتبرع المرء به، ويحمد عليه، ويمدح بفعله إياه، وإعطتئه له، ويذم إذا منعه. والأقارب على الاختلاف في طبقاتهم وأنسابهم أولى به من الأباعد؛ فمن جعله في الأباعد دونهم فذلك منه غاية اللؤم، ونهاية العقوق، وعين الحمق، وإن وصفه واصفٌ به فقد بالغ في ذمه، وتناهى في هجائه. وقال آخر: قوله " الو للقربى " قد جمع لهم الود والعرف وغيره؛ لأن الود يشتمل على ذلك كله، والعرف الذي خص به الأبعدين لا يجمع الوداد؛ إذ ليس كل من أسديت إليه معروفاً فقد وددته، فقد أعطى ذوى القربى أكثر مما أعطى الأبعدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 فقلت له: وليس كل من وددته أيضاً فقد أسديت إليه نائلا ولا معروفا، ولا يتضمن لفظ الود غير المحبة فقط، وعلى أن قوله " دون الأقرب " توكيد يوجب إخراج الأقارب عن العرف، وتخليصه للأبعدين، فما معنى هذا التأويل الذي تأولته؟ فأقام على أن الود يجمع العرف والصلة، وهذا غير معروف، ولا موجود في كلام الناس، وقد قال المقنع الكندي: فإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلفٌ جدا إذا جمعوا صرمى معاً وقطيعتي ... جمعت لهم مني مع الصلة الودا فأفصح هذا بأنه يجمع لهم بين الصلة والود وقال البحتري: مودةٌ وعطاءٌ منك نلتهما ... ورب معطى نوال غير مودود فقال " مودة وعطاء منك نلتهما " فلو كانت المودة لا تكون إلا ومعها عطاء لم يكن لهذا القول معنى، وكذلك البيت قبله، وقال " رب معطى نوال غير مودود " ورب مودود غير معطى نوال، ألا ترى إلى قول الأعشى: بانت وقد أسأرت في النفس حاجتها ... بعد ائتلافٍ، وخير الود ما نفعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فأراد أن الود قد يكون ولا نفع معه، وقال أبوتمام: قراني اللهى والود حتى كأنما ... أفاد الغنى من نائلي وفوائدي وعارض آخر بمثل هذه المعارضة سواء، فأجبته بمثل هذا الحواب، وقلت له: إن كان الأمر على ما تزعم وتركناك على شهوتك في أن الود يجمع المحبة والصلة فقد ناقض إذاً هذا الشاعر نفسه في البيت، فإنه إن كان أراد بقوله " الود للقربى " المحبة والمعروف جميعا فقد قال في عجز البيت " ولكن عرفه في الأبعد الأوطان دون الأقرب " فأخرج الأقرب من العرف بقوله " دون " فلو كنت تركته على ما يقتضيه ظاهر لفظه من حرمان الأقرب كان ذلك أقل قبحا من المناقضة. فقال: إنما أراد بقوله " ولكن عرفه في الأبعد الأوطان دون الأقرب " إفراد العرف للأبعد، وألا يجمعه له مع الود كما جمعهما للأقرب. فقلت: قوله " دون " يفسد عليك هذا التأويل، وما أراك إلا قد أوضحت فيه الإحالة والمناقضة وبينتهما؛ لأنك في هذا كقائل قال: الود والمال جميعا لزيد، والمال لعمرو مفرداً دون زيد، فكيف يجمع المال مع الود لزيد أولا ويفرد عمراً به دون زيد آخراً؟ وهذا أقبح ما يكون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المناقضة. وإنما كان يصح هذا الكلام أن لو قال: الود والمال لزيد، والمال لعمرو دون الود؛ فيكون قد أخرج عمراً من الود إخراجا مؤكداً بقوله " دون الود "، فأما الكلام الأول فمتناقض، كما عرفتك. وكذلك بيت أبي تمام، كان يتأول على هذا أن لو قال " دون الود " لا دون الأقرب، وما ظننت أن أحداً يدعى مثل هذه الدعوى، ولا أن له حاجة تدعو إلى مثل هذا الاحتجاج. ويجب أن ياقل لهذا المعارض: هل يجوز عندك أن تكون مودة لا معروف معها؛ إذ ليس كل من وددته فقد أنلت معروفاً؟ فإن قال " لا " كابر وسقط كلامه، وإن قال " نعم " قيل: قد أخرجت لفظة الود عن أن تدل بمجردها على المعروف إلا بشيء يقترن بها. وقال آخر: إنما أخرج أقاربه من المعروف لأنم في غنى وسعة بغناه وسعة حاله؛ فلذلك أفردهم بالود. قلت له: فإن كانوا أغنياء بغناه فقد أوسعهم من معروفه، فما كان ينبغي للشاعر أن يشرط للأباعد دونهم. وقلت له: وكيف يعلم أنهم أغنياء، وليس في ظاهر البيت دليل عليه؟ قال: كذا نوى وأراد، قلت: وليس العمل على نية المتكلم، وإنما العمل على توجيه معاني ألفاظه، ولو حملت قول كل قائل وقعل كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فاعل على نيته لما نسب أحد إلى غلطٍ ولا خطأ في قول ولا فعل، ولكان من سدد سهماً وهو يريد غرضاً فأصاب به عين رجلٍ فذهبت، غير مخطئ؛ لأنه ما اعتمد إلا الغرض، ولا نوى غير القرطاس. وقال آخر: أراد بقوله " ولكن عرفه في الأبعد الأوطان دون الأقرب " أي: بعد الأقرب، كما تقول: جائني الأمير فمن دونه، أي: فمن بعده. قلت: فإنما معنى " فمن دون " أي: فمن هو أدون منه في الرتبة، بعده كان مجيئه أو قبله. وقال آخر: إنما أراد أبو تمام بقوله " دون الأقرب " أي: فضلاً عن الأقرب أو: فكيف الأقرب؛ لأن هذا مذهبٌ للناس: أن يضعوا " دون " في هذا الموضع فيقولوا: أنا أرضى بالقليل دون الكثير، أي: فضلا عن الكثير، وأنا أقنع بقرصٍ من شعير دون ما سواه، أي فضلاً عما سواه، وهذا مذهبٌ صحيح معروف. قلت له: هذا توهم منك فاسد، وتأولٌ لهذا الكلام على غير وجهه المقصود؛ لأن معنى " دون " عند أهل اللغة التقصير عن الغاية؛ فمعنى قوله " أنا أرضى بالقليل دون الكثير " أي أرضى بالقليل، ولا أنتهى إلى الكثير: أي لا أطمح إليه، وأرضة بقرص من شعير ولا أنتهى إلى ما سواه؛ فهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 حقيقة معنى هذا اللفظ، وأما ما تأولته فإنما هو بمعنى " بله " التي تأتي في الكلام وموضعها دع، كقول كثير: بسطت لباغي العرف كفا بسيطةً ... تنال العدى، بله الصديق، فضولها أى: تنال العدى فدع الصديق، أى: لا تصل إلى العدى إلا بعد أن تصل إلى الصديق، و " دون " لا تتضمن هذا المعنى ولا تؤديه. قال: فقد تأتى " دون " بمعنى فوق " كما تأتى فوق بمعنى دون فى قول الله عز وجل: (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا " ما بعوضة فما فوقها) ذكر أن معناه فما دونها لأن " فوق " قد تكون دون عند ما هو فوقها و " دون " قد تكون فوق عندما هو تحتها فيجوز أن يكون أراد الشاعر بقوله " دون الأقرب " أى: فوق الأقرب بمعنى زيادة على ما أعطاه الأقرب أو تكون " دون " ههنا بمعنى أمام لأن بعض أهل اللغة جعلها من الأضداد وأنها تأتى بمعنى خلف وبمعنى أمام لأن بعض أهل اللغة جعلها من الأضداد وأنها تأتى بمعنى خلف وبمعنى أمام مثل وراء، فيكون معنى قوله " دون الأقرب " أى: أمام عرفه فى الأقرب أى: قبله. قلت له: أما ما قيل فىقوله عز وجل (فما فوقها) معناه فما دونها فان أهل العربية على خلاف ذلك وليس لهذه اللغة عندهم ألا وجهان: أحدهما: أن يكون (فما فوقها) بمعنى فما هو أكبرمنها لأن البعوضة غاية فى الصغر فيكون المعنى أنه عز وجل لا يستحى أن يضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 مثلا " ما بين هذا الشىء الذى هو نهاية الصغر الى ما هو فوقه أى: ما زاد عليه وتجاوز (هـ) والوجه الآخر: (أن يكون (فما فوقها) بمعنى) فما فوقها فى الصغر وهذا قول أبى العباس محمد بن يزيد المبرد وأبى إسحاق الزجاج والكسائى من قبلهما وأبى عبيدة وما أظن غير هؤلاء (من النحويين) يقول إلا مثل قولهم. وأما ما ذكرت من أن دون تأتي بمعنى خلف وأمام، وأنها عند أهل العربية من الأضداد نحو " وراء " فقد أخبرتك أن معناها عند أهل العربية التقصير عن الغاية، وإذا كان الشيء وراء الشيء أو أمامه أو يمنة منه أو شأمة صلح في ذلك كله أن تقول: هو دونه، ألا ترى أنك إذا قلت " بيوت بني فلان دون الحرة "، صلح أن تكون دونها إلى مهب الشمال، أو إلى مهب الجنوب، أو إلى غيرهما من الجهات؛ فلا يعلم المخاطب أي الجهات التي تعنى، فليس هذا من الأضداد في شيء، وإنما جعلها قوم من الأضداد لما رأوها تستعمل في هذه الوجوه لما فيها من الإبهام، وكذلك " وراء " إنما هي من المواراة والاستتار؛ فما استتر عنك فهو وراء: خلفك كان أو قدامك، هذا إذا لم تره ولم تشاهده، وأما إذا رأيته فلا يكون أمامك ووراءك، وإنما قال لبيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصي تحنى عليها الأصابع بمعنى أليس أمامي؛ لأنه قال ذلك قبل أن يرى ويشاهد نفسه وقد لزم العصاء وقد قال الله عز وجل: " وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينةٍ غصبا " قالوا: إنه كان أمامهم، وصلح ذلك لأنهم لم يعاينوه ولم يشاهدوه. فقد وضح لك الآن معنى " دون " وأنها لا تخرج عن بابها الذي وضعت له، ألا ترى أنك تقول: نزلت في القرية دون النخل؛ فيجوز أن تكون القرية أمام النخل، وخلفه، وأن يكون المعنى أنك أفردت القرية بنزولك، ولم تعرج على النخل، وكذلك " لقيت زيداً دون عمرو " و " أكلت السمك دون اللبن " أخرجت عمراً من لقائك، واللبن من أكلك، وكذلك قول الطائي " دون الأقرب " قد أخرجهم من العرف، وهذا لا شيء أوضح منه. وقد حمل بعضهم نفسه على أن قال: " إنما " أراد الطائي " لكن عرفه في الأبعد الأوطان دون عرفه في الأقرب " وهذا من أفحش الخطأ؛ لأن قوله: " دون الأقرب " مثل قولك: " ودى لزيد دون عمرو "؛ فليس معناه كمعنى قولك: ودى لزيد دون ودى لعمرو؛ لأنك في الأول قد أخرجت عمراً من الود وأفردت زيداً به، وفي الثاني جعلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الود لزيد دون الود لعمرو، أي: أقل منه؛ فهذا معنى وذاك معنى آخر. وأيضاً فلو اعتمد أبو تمام هذا المعنى لكان قد أخرج " لكن " التي إنما تدخل للأستدراك من أن يكون استدرك بها شيئاً؛ فلا يكون لها في البيت معنى البتة. وقال آخر ممن يلتمس العذر لأبي تمام: إنما هذا على طريق الإيثار كما يؤثر الإنسان على نفسه، فكذلك يؤثر على أقاربه. قيل له: الإثار على النفس حسنٌ جداً، وصاحبه ممدوحٌ، كما قال الله عز وجل: " ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصةٌ " وكما قال أبو خراشٍ الهذلي: أرد شجاع الجوع قد تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم وكما قال عروة بن الورد: أقسم جسمي في جسوم كثيرةٍ ... وأحسو قراح الماء والماء بارد والإيثار إنما يكون إيثاراً ويقع الحمد به إذا آثر الإنسان غيره على نفسه أو على ولده، وفي بعض الأحوال فأما إذا آثر بعض الطالبين على بعض بغير سبب يعلم فهو بذلك مذموم وغير ممدوح، فكيف إذا آثر البعيد على القريب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وقد جاء في أشعار العرب من الحث على بر الأقارب ومن حمد من وصلهم وذم من حرمهم ما هو أشهر وأكثر من أن يخفى؛ قال زهير: وليس مانع ذى قربى وذى رحمٍ ... يوماً، ولا معدماً من خابطٍ ورقا وقال أبو دواد الإيادي: إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم ... فرش واصطنع عند الذين بهم ترمى وقال حاتم الطائي: لا تعذليني على مالٍ وصلت به ... رحماً قريباً؛ فخير المال ما وصلا وقال أوس بن حجر: أليس بوهابٍ مفيدٍ ومتلفٍ ... وصولٍ لذى قربى هضيم لمهتضم؟ وقال زهير: وذى نسبٍ ناءٍ بعيدٍ وصلته ... بمالٍ، وما يدري بأنك واصله وقال كثير: بسطت لباغي العرف كفاً بسيطةً ... تنال العدى بله الصديق فضولها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 هذا المعنى أولى بالصواب من قول الطائي؛ لأنه أراد أن عرفه ينال العدى فضلا عن الصديق؛ لأن قوله " بله الصديق " أي: فدع الصديق لأنه لا يصل إلى العدى إلا بعد أن يصل إلى الصديق؛ قال كثير أيضاً: لأهل الود والقربى عليه ... صنائع بثها برٌ وصول وللفقراء عائدةٌ ورحم ... فلا يقصى الفقير ولا يعيل ألا تراه بدأ بأهل وده وقرابته فجعل صنائعه فيهم، ثم ثنى بالفقراء فجعل لهم عائدة ورحما: أي رحمة؟ وقال كثير أيضاً: ولم يبلغ الساعون في المجد سعيه ... ولم يفضلوا إفضاله في الأقارب جزتك الجوازي عن صديقك نضرةً ... وقربت من مأوى طريدٍ وراغب وصاحب قوم معصم بك حقه ... وجار ابن ذى قربى وآخر جانب رأيتك والمعروف منك سجيةٌ ... تعم بخيرٍ كل جادٍ وغائب جادٍ يقال: فلانٌ يجدو ويجتدى، أي: تعم بالمعروف من هو بحضرتك ومن هو غائب عنك؛ فجعل كثير كما ترى معروفه عموما في الأقارب وف يالأباعد إلى الحاضر والغائب. وقال ابن هرمة: كم نائلٍ وصلاتٍ قد نفحت بها ... ونعمةٍ منك لا تحصى أياديها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 عند الأقارب والأقصين نفعهما ... بيضٌ روائحها، تحدو غواديها وقال كنانة بن عبد ياليل الثقفى: صلاةٌ وتسبيحٌ وإعطاء نائلٍ ... وذو رحمٍ تناله منك إصبع يريد بقول إصبع معروف ونائل. وقال إسماعيل بن يسار النسائي: وإذا أصبت من النوافل رغبةً ... فامنح عشيرتك الأداني فضلها وقال المسشيب بن علسٍ في منع الأقارب: من الناس من يصل الأبعدين ... ويشقى به الأقرب الأقرب وقال الحارث بن كلدة الثقفي يذم فاعل ذلك: من الناس من يغشى الأباعد نفعهويشقى به حتى الممات أقاربه فإن يك خيرٌ، فالبعيد يناله ... وإن يك شرٌ، فابن عمك صاحبه فقد تراه كيف ذم على حرمان القريب. وقال مسافر بن أبي عمرو بن أمية في نحو ذلك: تمد إلى الأقصى بذديك كله ... وأنت على الأدنى صرورٌ مجدد وإنك لو أصلحت من أنت مفسدٌ ... توددك الأقصى الذي تتودد الصرور: الضيق حلمة الثدي؛ والمجدد: الذي انقطع لبنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فهذه طريقة القوم في هذا، وهذا مذهب سائر الأمم. وأما قول أبي تمام: وربما عدلت كف الكريم عن ال ... قوم الحضور، ونالت معشراً غيبا فليس هو من بيته الأول في شيء، وقد أدرك فيه الغرض، كأنه يعذر من فعل هذا: أي ربما اتفق أن يفعله من غير قصد أيضاً، وليس هذا بمحمود. وقد ذهب البحتري إلى نحو ما ذهب إليه أبو تمام فقال: بل كان أقربهم من سيبه نسباً ... من كان أبعدهم من جذمه رحما إلا أنه لم يخرجهم من معروفه، وإن كان أيضا قد دخل تحت الإساءة. ونحو هذا قول البحتري أيضا: إذا قسمه عدلاً: ففيكم نواله، ... وفي سر نبهان بن عمرو مآثره وما عجبٌ أن تشهدوا الطعن دونه ... وما عشرتكم في نداه عشائره فأي قسمة عدل ههنا: أن يجعل نداه في غير قومه، ويقتصر بهم على أن يحوزوا الفخر بمآثره؟ وإن كان قد دل بقوله " وما عشرتكم في نداه عشائره " على أنه لم يحرمهم نواله البتة. والأحسن في هذا قوله: فإن تنفرد عنا قشيرٌ بمجده ... فلم تنفرد عنا بنائله الجزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فأعطاهم المجد والنائل جميعا. وشبيهٌ بهذا أو قريبٌ منه قوله: عطاؤك ذا القربى جزيلٌ، وفوقه ... عطاؤك في أهل الشناءة والبعد فقال " عطاؤك ذا القربى جزيل " ثم قال " وفوقه عطاؤك في أهل الشناءة والبعد " فقوله " وفوقه " أي: أجزل منه، وقد يكون " فوقه " بمعنى زيادة عليه، والمعنى الأول بالبيت أليق. والجيد في هذا البعيد من العيب قوله: ظل فيها البعيد مثل القريب ال ... مجتبى والعدو مثل الصديق يريد نعمته ولا أعرف لأبي تمام فيما قال عذراً يتوجه، ولا وجدت فيما تصفحته من أشعار العرب ما يجانسه إلا قول عامر بن صعصعة بن ثور الفقعسي: لمن يزورك من أشرافنا لطفٌ ... وذى القرابة إدناءٌ وتقريب وأطن أبا تمام عثر به واستغر به فأخذ المعنى وزاد عليه زيادةً أخرجته إلى ذم الممدوح؛ لأن هذا الشاعر قال " لمن يزورك من أشارفنا لطفٌ " أي: بر، " ولذى القرابة إدناء وتقريب " ولم يقل إدناء وتقريب دون البر، كما قال أبو تمام؛ لأن البر واللطف إذا كانا للغريب الزائر، وكان الإدناء والتقريب في تلك الحال لذى القرابة - فقد يجوز أن يمنحه البر واللطف في حالٍ أخرى ووقت آخر، ولا يوصل البر إليه في وقت إيصاله إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الغريب، وهذا إن كان يقع في الأكثر فلا عيب على هذا الشاعر فيما قاله. ولله در أبي عبادة الوليد بن عبيد البحتري إذ يقول في هذا المعنى: ما إن يزال الندى يدنى إليه يداً ... ممتاحةً من بعيد الدار والرحم وقوله: وما أضعت الحق في أجنب ... فكيف تنسى واجباً في شقيق؟ 8 - ومن خطائه قوله: يدي لمن شاء رهنٌ لم يذق جرعاً ... من راحتيك درى ما الصاب والعسل لفظ هذا البيت مبنيٌ على فساد؛ لكثرة ما فيه من الحذف؛ فكأنه أراد بقوله " يدي لمن شاء رهن " أي: أصافحه وأبايعه معاقدةً أو مراهنة إن كان من لم يذق جرعاً من راحتيك درى ما الصاب والعسل، ومثل هذا لا يسوغ؛ لأنه حذف " إن " التي تدخل للشرط، ولا يجوز حذفها؛ لأنها إذا حذفت سقط معنى الشرط، وحذف " من " وهي الاسم الذي صلته " لم يذق " فاختل البيت، وأشكل معناه. والحذف لعمري كثيرٌ في كلام العرب، إذا كان المحذوف مما تدل عليه جملة الكلام، قال الله عز وجل: " أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجلٍ مسمى "، أراد عز وجل أو لم يتفكروا فيعلموا " أنه ما خلق ذلك إلا بالحق، أو لم يتفكروا فيقولوا "، وأشياء هذا كثيرٌ. ومن باب الحذف والاختصار قوله تعالى: " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ". قال أبو عبيدة: العرب تختصر الكلام لعلم المخاطب بما أريد، كأنه أراد فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم، وقوله عز وجل: " إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات " يفسر ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، وفي الشعر مثل هذا موجود، قال الشاعر: لو قلت ما في قومها لم تأثم ... يفضلها في حسبٍ وميسم يريد أحدٌ يفضلها، فخذف " أحد "؛ لأن الكلام يدل عليه، ذكر ذلك سيبويه. وأنشد في باب الحذف: وما الهدر إلا تارتان فمنهما ... أموت، وأخرى أبتغي العيش أكدح يريد فمنهما تارة أموت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فإن تأول متأولٌ هذا البيت على ألفاظٍ أخر محذوفة غير اللفظ الذي ذكرته فالاختلال بعد قائم؛ لكثرة ما حذف منه، وسقوط الدليل عليه. 9 - ومن خطائه قوله: شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحت كما محت وشائع من برد جعل الوشائع حواشي البرد أو شيئاً منها، وليس الأمر كذلك، إنما الوشائع غزلٌ من اللحمة ملفوفٌ يجره الناسج بين طاقات السدى عند النساجة قال ذو الرمة: به ملعبٌ من معصفاتٍ نسجنه ... كنسج اليمانى برده بالوشائع فأما قول كثير: ديارٌ عفت من عزة الصيف بعدما ... تجدّ عليهن الوشيع المنمنما فإنما أراد بالوشيع هنا سد به الخصائص بين الشيئين، وهو من وشائع الغزل مأخوذ، والمنمنم: مأخوذ من النمام، أي بعد ما كانت هذه الديار تجد بالوشيع، أي: يخصص به خيامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ومثل أبي تمام لا يسوغ له الغلط في مثل هذا؛ لأنه حضرى، إنما يسامح في ذلك البدوى الذي يريد الشئ ويلم يعاينه فيذكر غيره؛ لقلة خبره بالأشياء التي تكون بالأمصار. وأما أبو تمام فليست هذه حاله، ما جهل هذا، ولكنه سامح نفسه فيه، ألا ترى إلى قوله في موضوع آخر يصف قصيدةً: الجد والهزل في توشيع لحمتها ... والنبل والسحف والأشجان والطرب فقال ((في توشي لحمتها)). 10 - ومن خطائه قوله: لو كان في عاجل من آجل بدل ... لكان في وعده من رفده بدل ولم لا يكون في عاجل من آجل بدل؟ والناس كلهم على اختيار العاجل إيثاره وتقديمه على الآجل، ألا ترى قول الذي قول القائل الذي قد صار مثلا: 3 والنفس ملوعة بحب العاجل والعاجل أبداً هو المطلوب والمرغوب فيه، حتى إن قليلة يؤثر على كثير الأجل، كام قال الآخر: أعذل عاجل ما أشتهى ... أحب من الأكثر الرائث كأنه يريد عاجل ما اشتهى مع القلة أحب من الأكثر المبطئ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فمن شأن العاجل أبدا أن يكون أفضل الأعواض والأبدال من كل آجل إذا كان في خير، فعلجل الخير من آجله، كما أن عاجل الشر شر من آجلهن لأن العاجل شئ قد وقع: إن كان خيراً فقد حصل نفعه، أو شراً فقد تجعل ضرره، آجل الخير يخشى فؤته، وربما وقع الإخفاق منه، كما أن آجل الشر يرجى زواله، وربما لم يقع، فكيف لا يكون العجل بدلاً أو خلفاً من الآجل؟ فإن قال قائل: إن الذي أراد أبو تمام وقاله صحيح، ومذهبه فيه مستقيم؛ لأن العاجل لا يكون أبداً بدلاً ولا خلفاً من الآجل؛ لأن البدل لا يكون قبل المبدل منه، ولا الخلف يتقدم على ما هو الخلف له؛ لأنه إنما قيل له خلف لإتانه خلف الذي هو قدامه؛ فأبو تمام إنما أنكر أن يكون العاجل بدلاً أو خلفاً من الآجل على هذه السبيل. قيل: هذا غلط من التأويل أو مغالطة؛ لأنه ليس على هذا الوجه منع أبو تمام من أن يكون العاجل بدلاً من الآجل؛ فيحتج بأن هذا أولى بالتقديم وهذا أولى بالتأخير من طريق الترتيب، وإنما أراد أنه لا يقوم في الحاجة إليه، فكيف يكون الأول مقام الثاني والمتقدم مقام المتأخر؟ وكان وجه الكلام الذي يصح به المعنى ويستقيم أن يقول: لو كان في عاجل قول بدل من آجل فعلٍ لكان في وعده من رفده بدل0 فإن قال: فهذا هو الذي أبو تمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 قيل: ليس الأمر كذلك لأن طريقة لفظه في البيت أن يكون معناه لوكان فيشيء عاجل من شىء آجل بدل. وبعد؛ فلو أراد ما ظننته وذهبت إليه - وذلك ليس بمعلوم، ولا في البيت عليه دليل - لم يلتفت إلى إرادته؛ لأنك إذا فصلت الإضافة من عاجل قول أو آجل فعل ففرقت بين المضاف والمضاف إليه لم يدل أحدهما على الآخر؛ لأن لفظة ((عاجل)) لا تدل غير مضافةٍ على ما تدل عليه لفظة " عاجل قولٍ " كما أن لفظة " آجل " لا تدل على " آجل فعلٍ " ولا يدلان أيضاً على شيء مضمر، كما أن قولك: " زيد أول ناطقٍ وآخر ساكتٍ، وعمرو أول خارج وآخر قادمٍ، وبكر أول آخذٍ وآخر تارك " إذا أفردت " أول " و " آخر " لم يدلا على شيء مما أضيف إليه. ألا ترى أن الأصمعي أنكر على ذى الرمة قوله يصف الوتر: كأنه في نياط القوس حلقوم فقال: حلقوم ماذا؟ إذ كان يجب أن يقول: حلقوم طائر، أو حلقوم قطاةٍ، أو غيرهما مما يشبه الوتر في الدقة، وإلا فقد يكون الحلقوم حلقوم فيل، أو حلقوم بعير، وهذا من الأصمعي إنكارٌ صحيحٌ، وإن كان لا يلزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ذا الرمة فيه ما يلزم أبا تمام؛ لأن العرب لا تشبه الوتر إلا بحلقوم الطائر. وذلك قول الراجز: لأم ممر مثل حلقوم النغر أخذه أبو نواسٍ فقال: لأم كحلقوم النغر وقال الراجز: لأم كحلقوم القطاة تغترف وأبو تمام إنما أراد أن هذا الممدوح يقيم وعده لصحته مقام عطيته، وأحب الإغراق على رسمه فأخطأ في تمثيل ما مثل بذكر العاجل والآجل؛ لأنه أطلق القوم عموماً لا يدل على الخصوص. والجيد النادر في هذا قول البحتري: لو قليلٌ كفى امرأ من كثيرٍ ... لاكتفينا بقوله من فعاله وأحسن الراعي في قوله: ضافى العطية: راجيه وسائله ... سيان، أفلح من يعطى ومن يعد 11 - ومن خطائه قوله: بيوم كطول الدهر في عرض مثله ووجدى من هذا وهذاك أطول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فجعل للدهر - وهو الزمان - عرضاً، وذلك محض المحال، وعلى أنه ما كانت به إليه حاجة؛ لأنه قد استوفى المعنى بقوله: " كطول الدهر " فأتى على العرض في المبالغة. فإن قيل: فلم لا يكون سعةً ومجازا؟ قيل: هذه ألفاظ صنعتها صنعة الحقيقة، وهي بعيدة من المجاز؛ لأن المجاز في هذا له صورة معروفة، وألفاظ مألوفة معتادة، لا يتجاوز في النطق بها إلى ما سواها، وهي قول الناس: عشنا في خفض ودعة زماناً طويلا عريضاً، وما زلنا في رخاء ونعمةٍ الدهر الطويل العريض. وإنما أرادوا إتمامه وكماله واتساعه لهم بما أحبوه؛ لأنهم إذا وصفوا بالطول والعرض ماله طول وعرضٌ على الحقيقة فإنما يريدون تمامه وكماله وسعته، نحو قولهم: ثوبٌ طويل عريض، أي: تام واسع، وأرض طويلة عريضة، أي: تامة في الطول والسعة، وكذلك إا وصفوا ما ليس له طول ولا عرض على الحقيقة فإنما يريدون التمام والكمال، ألا ترى إلى قول الراعي: أنت ابن فرعى قريشٍ لو تقاسمها ... في المجد صار إليك العرض والطول فاستعار للمجد ههنا الطول والعرض؛ لأنه أراد صار إليك المجد بتمامه وكماله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وكذلك قول كثير: بطاحيٌ له نسبٌ مصفى ... وأخلاقٌ لها عرضٌ وطول أي: لها سعة وتمام وكمال في الفضائل والمحاسن، وكذلك قوله: إذا ابتدر الناس المكارم بزهم ... عراضة أخلاق ابن ليلى وطولها أي بزهم منه أخلاقه وتمامها وكمالها ف يالفضل؛ لأن الأخلاق تمدح بالسعة وتذم بالضيق، إلا أن أكثر ما يأتي في كلامهم العرض المراد به السعة إذا جاء مفرداً عن الطول، نحو قولهم: فلان في نعمةٍ عريضة، وله جاهٌ عريض، وكما قال الله عز وجل: " وجنةٍ عرضها السموات والأرض " أي: سعتها، وكما قال الله عز وجل في موضع آخر: " وإذا مسه الشر فذو دعاء عريضٍ "، وكما قال تميم بن أبي بن مقبل: يقطعن عرض الأرض غير لواغبٍ ... وكأن بحريها لهن صحار أي: يقطعن سعة الأرض، وكما قال الآخر: سأجعل عرض الأرض بيني وبينهم ... وأجعل بيتي في غنى وأعصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وكما قال العجاج: إذا تغشوا بعد أرصٍ أرضا ... حسبتهم زادوا عليها عرضا أي: سعة وكثرة، وكما قال تميم بن أبي بن مقبل أيضاً: حتى إذا الريح خبت بالسفا خبباً ... عرض البلاد أشت الأمر واختلفا أي: سعة البلاد؛ فهذا إذا جري على هذا اللفظ المستعمل حسن ولم يقبح، وإذا عدلت به عن هذه الطريقة وهذه الألفاظ المألوفة إلى ما يشبه الحقائق أو يقاربها كنت مخطئاً؛ لأنك إذا قلت: " مضى لنا في الخفض والدعة دهرٌ طويل كأن طوله كعرضه " لم يجز ذلك؛ لأن هذا على هذا الترتيب كأنه وصفٌ لأشياء مجسمة، كما قال الطائي: بيمٍ كطول الدهر في عرض مثله فكان بهذا اللفظ كأنه يذرع ثوياً أو يمسح أرضاً أو يصف بالاجتماع والتدوير رجلا، كما قال تميم بن أبي بن مقبل: وكل يمانٍ طوله مثل عرضه ... فليس له أصلٌ ولا طرفان فإن قيل: فإذا جعلت للزمان العرض الذي هو سعة على المجاز فلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 لا تجعل له العرض الذي هو خلاف الطول على المجاز؟ قيل له: العرض الذي هو خلاف الطول حقيقة، والزمان لا عرض له على الحقيقة، فكيف تكون الحقيقة مجازا؟ فإن قيل: فإن الزمان لا يوصف بالسعة، كما لا يوصف بالعرض، فلم استعرت له العرض الذي هو السعة؟ قيل: العرض - وإن جاء وصفاً وحلية للزمان في قولهم: عاش فلان في نعمة زمناً طويلاً عريضاً - فإنما صلح لأنك وصلته بالطول، وقرنته به، فكأن المعنى عاش في زمن تم له وكمل واتسع، كما أخبرتك، والزمان قد يوصف بالسعة فيقال: قد اتسع لك الوقت والزمان في فعل كذا، ولا يقال عرض لك في الوقت سعة، والعرض ههنا هو السعة، ولكن أجرى هذا على حسب ما استعملوه، وإنما يراد في الوقت فسحة لك وامتداد يراد به معنى الطول، وقال ضرار بن الخطاب: ولولا هاجرٌ وبنو قتال ... وما لاقيت في الزمن العريض فذكر العرض مفرداً عن الطول: أي الزمن الذي اتسع لك، وقد يجوز - إن قلت: عاش في الخير دهراً عريضاً - أن تريد بالعرض سعة الخير فيه، لا سعته في نفسه، كما قالوا " ليل نائم " أي: ينام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 فيه، " ولمحٌ باصر " أي: يبصر به. وإنما تستعار اللفظة لغير ما هي له إذا احتملت معنى يصلح لذلك الشيء الذي استعيرت له ويلييق به؛ لأن الكلام إنما هو مبنيٌ على الفائدة في حقيقته ومجازه، وإذا لم تتعلق اللفظة المستعارة بفائدة في النطق فلا وجه لاستعارتها، ولو كان الزمان يوصف بالعرض على الحقيقة - وهذا محال - لما كان في بيت أبي تمام معنى؛ لأنه إنما أراد أن يبالغ في طول وجده؛ إذ كان الوجد يوصف بالطول، كما يوصف به الشسوق والغرام ونحوهما؛ فيقال: طال وجدي، وطال شوقي، وطال غرامي. وكذلك الزمان إنما يوصف بالطول؛ فيقال: طال ليلي، وطال نهاري، فما كانت حاجة إلى العرض؛ وإنما فضل وجده على الدر وعلى اليوم الذي جعله كالدهر من جهة الطول لا من جهة العرض، ألا تراه قال: ووجدي من هذا وهذاك أطول وقد ذكر أبو تمام العرض في بيت آخر فقال: إن الثناء يسير عرضاً في الورى ... ومحله في الطول فوق الأنجم وكيف يعقل سير الثناء عرضاً في الورى وهو لم يحدد موضعاً بعينه فيحسن فيه ذكر الطول أو العرض، فيكون كما قال الراعي: وجرى على حرب الصوى فطردته ... طرد الوسيقة في السماوة طولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فحسن أن يقول " طولا " لأنه ذكر السماوة، ودكما قال النابغة، ويقال: إنه محمول عليه: جنيدبن مع الغطاط يقدن حتى ... قطعن الحزن عرضاً والرمالا فصلح لأنه ذكر أنهن قطعن أرض الحزن والرمال؛ ومثل قول أب يتمام قول المرار: فلو كانت تجوب الأرض عرضاً ... ولكن جوبهن الأرض طولا وله، ولبيت أب يتمام معنى غامض يصحان به، وأنا أذكره مع شرح المعاني الغامضة من شعر أبي تمام. ومما يشبه قول أب يتمام: بيوم كطول الدهر في عرض مثله أو يقاربه قول الكميت يصف عدة قوم بالكثرة: كالليل، لا، بل يضعفو ... ن عليه من بادٍ وحاضر وكيف يتحصل مقدار الليل حتى يتحصل ضعفه؟؟ وهذا أيضاً يصح على السبر والتفتيش، إذا حصل معناه، وذلك أن الليل لا يغشى الأرض كلها بظلمته، وإنما يغشى بعضها، فلعل الكميت أراد أنهم يأخذون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الأرض ضعف ما أخذه الليل منها إذا غشيها، على سبيل المبالغة، وكما قال الأحمر بن شجاع الكلبي: بجأواء تعشى الناظرين كأنها ... دجى الليل، بل هي من دجى الليل أكثر 12 - وقال أبو تمام: ورحب صدرٍ لو أن الأرض واسعةٌ ... كوسعه، لم يضق عن أهله بلد وهذا أيضاً غلط؛ من أجل أن كل بلد يضيق بأهله، وليس شيقه من جهة ضيق الأرض؛ لأن الأرض لو كانت واسعةً عشرة أشعافها في المقدار، أو ألف ضعفٍ مثلها لما كان ذلك بموجب أن يكون الحزن أو الصمان أو الغول أو نجد أو المدينة أو مكة أو الكوفة أو البصرة، في قدر مساحة كل ناحية منها، أو أوسع وأزيد مما هي علمه الآن، إذ لم يختط البصرة ولاكوفة من اختطهما، ولا أسس مكة والمدينة من أسسهما على قدر سعة الأرض وضيقها، ولا صار قدر الحزن والصمان هذا القدر، في ذرعهما ومساحتهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 على قدر مساحة الأرض وذرعها بقسطٍ أخذاه منها، وإنما ذلك على حسب ما أدى إليه الاجتهاد والاختيار ممن أسس كل بلدة ومصر كل مصر. وكان ينبغي أن يقول: ورحب صدر لو أن الأرض واسعة كوسعه لم يسعا الفلك ولضاقت عنها السماء، أو أن يقول: لو أن سعة كل بلد أو مصرٍ كسعة صدره لم يضق عن أهله بلد، وكان حينئذ يكون المعنى لائقاً مستقيما. والجيد الصحيح ف يهذا المعنى قول البحتري: مفازة صدرٍ لو تطرق لم تكن ... ليسلكها فرداً سليك المقانب أي: لم يكن ليسلكه إلا بدليلٍ لسعته، وأيضاً فإن الجزء من الأرض وهو ما يكون فيه الحيوان والنبات، وإنما مقداره على ما يقوله أهل الهندسة الربع من الأرض أو أقل من الربع، والمسكون من جملة ذلك لعله لا يكون جزءاً من ألف جزء من ذلك؛ فما معنى جعله ضيق البلدان الضيقة إنما هو من أجل ضيق الأرض؟ فإن قيل: فإنما أراد بقوله " لو أن الأرض " أي لو أن البلدان واسعة. قيل: لا يدل قوله " الأرض " وهو لفظ عمومٍ على البلدان التي هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 مخصوصة، ولا يكون الغلط إلا هكذا: أن يريد القائل لفظة تدل على معنى فيأتي بأخرى ليست فيها على ذلك المعنى دلالة. 13 - ومن خطائه قوله: وكلما أمست الأخطار بينهم ... هلكى تبين من أمسى له خطر لو لم تصادف شيات البهم أكثر ما ... في الخيل لم تحمد الأوضاح والغرر فالأوضاح: هي البياض في الأطراف، وقد يكون أيضاً في البهم، وكذلك أيضاً الغرر قد توجد في البهم كثيرا، وهذا فساد في ترتيب البيت؛ لأنه ليس إذا وجدت شيات البهم - وهي صغار الغنم - أكثر ما في الخيل، أو وجدت شيات الخيل أكثر ما في البهم كان ذلك موجبا لحمد الأوضاح والغرر، وإنما كان يصح نظم الكلام لو لم توجد الأوضاح والغرر في البهم، حتى تكون مخصوصة بالخيل؛ فيقول: لو لم تعدم الأوضاح والغرر في البهم لما حمدت في الخيل، فأما أن توجد شيات البهم في الخيل كثيراً، أو شيات الخيل في البهم دائما، فليس هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 بموجبٍ حمد الأوضاح والغرر في الخيل؛ لأن الأوضاح والغرر موجودة في الغنم أيضاً. وقال طارق بن شهابٍ المازني يصف المعزى وتيس الغنم وراحت أصيلاناً كأن ضروعها ... دلاءٌ، وفيها واتد القرن لبلب له رعثاتٌ كالشنوف، وغرةٌ ... شديخٌ، ولونٌ كالوذيلة مذهب فذكر أن له غرة. قال آخر ف يوصف عنز سوداء: سوداء إلا وضحاً في الشوى ... كأنما الجوزاء في الأكرع فذكر بياض أكرعها، وذلك موضع التحجيل، بل لو قال: " لو لم تقل الأوضاح والغرر في البهم، لما حمدت في الخيل " لكان أقرب إلى الصواب؛ لأنى أظنها ف يالبهم أقل، وف يالخيل أكثر، وليس في هذا البيت دليل عل هذا ولا ذاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 14 - ومن خطأ المديح قوله: سأحمد نصراً ما حييت، وإنني ... لأعلم أن قد جل نصرٌ عن الحمد فإنه رفع الممدوح عن الحمد الذي ندب الله عباده إليه بأن يذكروه به، وينسبوه إليه، وافتتح فرقانه في أل سورةٍ بذكره، وحث عليه، وللعرب في ذكر الحمد ما هو كثير في كلامها وأشعارها، ما فيهم من رفع أحداً عن أن يحمد، ولا من استقل الحمد للممدوح، قال زهير بن أبي سلمى: متصرف للحمد، معترف ... للرزء، نهاضٍ إلى الذكر فقوله " متصرف للحمد " أي حيث ما رأى خلة تكسبه الحمد التمسها وطلبها. وقال زهيراً أيضاً: أليس بفياضٍ يداه غمامةٌ ... ثمال اليتامى في السنين محمد؟ فقوله " محمد " أي: يحمد كثيراً. وقال الأعشى: ولكن على الحمد إنفاقه ... وقد يشتريه بأغلى الثمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقال أيضاً: يشتري الحمد بأغلى سعيه ... واشتراء الحمد أدنى للربح وقال أيضاً: إليك أبيت اللعن كان كلالهاإلى الماجد الفرع الجواد محمد فوصفه بأن جعله محمداً: أي يحمد كثيراً. وقال الآخر: ومن يعط أثمان المحامد يحمد فهذه هي الطريقة المعروفة في كلام العرب، ولو قال الطائي " لو جل أحد عن المدح لجللت عنه " كان أعذر، كما قال البحتري: لو جل خلقٌ قط عن أكرومةٍ ... تبنى جللت عن الندى والباس أي: كنت تجل لعلو شأنك عن أن يقال: سخى، أو شجاع؛ إذ كان هذان الوصفان قد يوصف بهما من هو دونك. وقال البحتري أيضاً: واحمد أنفس ما تعوضه امرؤٌ ... رزئ التلاد إن المرزأ عوضا فأما قول البحتري: كيف نثنى على ابن يوسف؟ لا كي ... ف؟ سرى مجده فعاب الثناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ففوته الثناء إنما معناه عظم أن يدركه ويبلغ حده، ألا تراه قال " كيف نثنى على ابن يوسف؟ لا كيف؟ " أي: لا طريق إلى كيفية الثناء الذي يستحقه ويليق به، ثم قال " سرى مجده فعاب الثناء " قطعاً من الكلام الأول. 15 - ومن خطائه قوله: ظعنوا فكان بكاي حولاً بعدهم ... ثم ارعوبت، وذاك حكم لبيد أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها ... بالدمع أن تزداد طول وقود وهذا ما خلف عليه العرب، وضد ما يعرف من معانيها؛ لأن المعلوم من شأن الدمع أن يطفئ الغليل، ويبرد حرارة الحزن، ويزيل شدة الوجه، ويعقب الحرارة، وهو في أشعارهم كثيرٌ موجود ينحى به هذا النحو من المعنى؛ فمن ذلك قول أمرئ قيس: وإن شفائي عبرةٌ مراهقةٌ ... فهل عند الرسم دارس ن معول؟ وقول ذي الرمة: لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد، أو يشفى نجى البلابل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وقال الفرزدق: فقلت لها: إن البكاء لراحة ... به يشتفى من ظن أن لا تلاقيا وهو كثير في أشعارهم، ما عدل به أحدٌ منهم عن هذا المعنى، وكذلك المتأخرون، هذا السبيل سلكوا، وأبو تمام من بينهم ركب هذا المعنى؛ وكرره في شعره متبعاً لمذاهب الناس؛ فمن ذلك قوله: نثرت فريد مدامع لم تنظم ... والدمع يحمل بعض ثقل المغرم وقال في موضوع آخر: واقعاً بالخدود، والحر منه ... واقعٌ بالقلوب والأكباد وقال أيضاً: فافزع إلى ذخر الشؤون وعذبها ... فالدمع يذهب بعض الجهد الجاهد وقال أيضاً: فلعل عينك أن تجود بمائها ... والدمع منه خاذل ومواس وقال أيضاً: فلعل عبرة ساعة أذريتها ... تشفيك من إرباب وجد محول فلو كان اقتصر على هذا المعنى الذي جرت به العادة في وصف الدمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لكان المذهب الصحيح المستقيم. ولكنه أحب الإغراب؛ فخرج إلى مالا يعرف في كلام العرب، ولا مذاهب سائر الأمم. وقد تبعه على الخطأ البحترى فقال: فعلام فيض مدامع تدق الجوى ... وعذاب قلب في الحسان معذب قوله: تدق الجوى من قولهم لم يدق الأرض منه شئ أي: لم يصل، وفي شعر امرئ القيس ما فيه مودقى أي: على أثرى. وأصله من الدنو، فكأنه قال تدق الجوى، يقال: أتان وديقٌ، أي: تدنو من الفحل، ومنه الوديقة الهاجرة؛ لدنو الحرن وقيل لقطر المطر ودٌٌ لا نحلا به من السحاب ودنوه من الأرض. 16 - ومن خطائه قوله: رضيت وهل أرضى إذا كان مسخطى ... من الأمر ما فيه رضا من له الأمر فمعنى هل في هذا البيت التقرير، والتقرير على ضربين: تقرير للمخاطب على فعل قد مضى ووقع، أو على فعل هو في الحال ليوجب المقرر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ذلك ويحققه، ويقتضى من المخاطب في الجواب الاعتراف به، نحو قوله: هل أكرمتك؟ هل أحسنت إليك؟ هل أودك وأوترك، وهل أقضى حاجتك؟ وتقرير على فعل يدفعه المقرر وينبغي أن يكون قد وقع، نحو قوله: هل كان قط إليك شيء كرهته؟ هل عرفت منى غير الجميل؟ فقوله في البيت " وهل أرضى " تقرير لفعل ينفيه عن نفسه، وهو الرضا، كما يقول القائل: وهل يمكنني المقام على هذه الحال؟ أي: لا يمكنني، وهل يصبر الحر على الذل؟ وهل يروى زيد؟ أو هل يشبع عمرو؟ وهذه أفعال معناها النفي؛ فقوله " وهل أرضى " إنما هو نفى للرضا، فصار المعنى ولست أرضي؛ إذ كان الذي يسخطني ما فيه رضا من له الأمر: أي رضا الله تعالى، وهذا خطأ منه فاحش. فإن قال قائل: فلم لا يكون قوله " وهل أرضى " تقريراً على فعل هو في الحال ليؤكده من نفسه نحو قوله: هل أودك؟ هل أوثرك؟ ونحو قول الشاعر: هل أكرم مثوى الضيف إن جاء طارقاً ... وأبذل معروفي له دون منكري؟ قيل له: ليس قول القائل لمن يخاطبه " هل أودك " " أهل أوثرك " وقوله " سل عني هل أصلح للخير " أو " هل أكتم السر " أو " هل أقنع بالميسور " مثل قول أبي تمام " هل رضيت، وهل أرضى " فإن صيغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 هذا الكلام دالة على أنه قد نفى الرضا عن نفسه؛ بإدخاله الواو على " هل " وإنما يشبه هذا قول القائل " وهل أرضى إذا كانت أفعالك كذا " " وهل أصلح للخير عندك إذا كنت تعتقد غي رذلك " " وهل ينفع في زيد العتاب " كقول الشاعر: وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ وقول ذو الرمة: وهل يرجع التسليم أو بكشف العمى ... ثلاث الأثافى والرسوم البلاقع لأن الواو ههنا كأنها عطفت جواباً على قول قائل: إن فلانا سيصلح ويرجع إلى الجميل، فقال آخر: وهل يصلح العطار ماأفسد الدهر؟ وكقول ذى الرمة: أمنزلتي مى سلامٌ عليكما ... هل الأزمن اللائي مين رواجع؟ لما علم أن التسليم غير نافعٍ عاد على نفسه فقال " وهل يرجع التسليم " وكما قال امرؤ القيس: وإن شفائي عبرةٌ مهراقةٌ ثم قال: وهل عند ربعٍ دارسٍ من معول؟ وكذلك قول أب يتمام " رضيت " ثم قال " وهل أرضى إذا كان مسخطي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 " إنما معناه ولست أرضى، فكان وجه الكلام أن يقول: رضيت وكيف لا أرضى إذا كان مسخطي ما فيه رضا الله تعالى، وكذا أراد فأخطأ في اللفظ، وأحال المعنى عن جهته إلى ضده. فإن قيل: إن " هل " هنا بمعنى قد، وإنما أراد الطائي رضيت وقد أرضى، كما قال الله تعالى: " هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر " أي: قد أتى. قيل: هذا إنما قاله قومٌ من أهل التفسير، وتبعهم قوم من النحويين. وأهل اللغة جميعاً على خلاف ذلك؛ إذ لم يأت في كلام العرب وأشعارها " هل قام زيد " بمعنى قد قام زيد، وإذا كان ذلك معدوماً في كلام العرب ولغاتها فكيف يجوز أن يؤخذ به أو يعول عليه؟ وقد قال أبو إسحاق الزجاج وجماعةٌ من أهل العربية في قوله عز وجل " هل أتى على الإنسان " معناه ألم يأت، على سبيل التقرير. وهب الأمر في هذا كما ذكروا، والخلاف ساقط فيه، فإن بيت أبي تمام لا يحتمل من التأويل ما احتملته الآية؛ لأن " هل " إنما شبهها من شبهها بقد إذا وليت لفظ الماضي خاصة، وأبو تمام إنما أوقعها على الفعل [المستقبل وإذا وقعت على] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 المستقبل؛ فسقط عنها أن تضارع قد؛ لأن قد حينئذ قد تكون بمعنى ربما، و " هل " ليس فيها ذلك. وبعد؛ فإن كان الرجل إنما أراد بهل معنى قد فلم لم يقل رضيت وقد أرضى؛ فيأتي بلفظة " قد " إذا كان يريد الخبر، ولا يأتي بهل فيلتبس الخبر الذي إيّاه قصد بالاستفهام؟ فإن البيت كان يستقيم بقد ويغنينا عن الاحتجاج الطويل. وقد استقصيت القول في هذا البيت وما ذكره النحو يون وسيبويه وغيره في معنى قد وهل، ولخصته في جزء مفرد، وإنما فعلت ذلك لكثرة من عارضني فيه، وادّعى الدعاوي الباطلة في الاحتجاج لصحته. 17 - ومن خطائه قوله في البكاء على الديار: دار أجل الهوى عن أن ألمّ بها ... في الرّكب إلاّوعيني من منائحها وهذا لفظ محال عن وجهه؛ لأن " إلا " ههنا تحقيق وإيجاب فكيف يجوز أن تكون عينه من منائحها إذا لم يلم بها؟ وإنما وجه الكلام أن يقول: " دار أجل الهوى عن أن ألم بها وليس عينى من منائحها " وقد كنت أظن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أن أبا تمام على هذا نظم الشعر، وأن غلطاً وقع عليه في نقل البيت، حتى رجعت إلى النسخ العتيقة التي لم تقع في يد الصولى وأضرابه، فوجدت البيت في غير نسخة مثبتاً على هذا الخطأ. 18 - ومن خطائه أيضاً في وصف الربع وساكنه قوله: قد كنت معهوداً بأحسن ساكنٍ ... ثاوٍ وأحسن دمنةٍ ورسوم والربع لا يكون رسماً إلا إذا فارقه ساكنوه؛ لأن الرسم هو الأثر الباقي بعد سكانه، والواب قول البحتري: يا مغاني الأحباب صرت رسوماً ... وغدا الدهر فيك عندي ملوماً وقال ارمؤ القيس: وهل عند رسمٍ دارس من معول؟ فقال ذلك لأن الرسم يكون دارساً وغير دارس، وقال: قفا نبك من ذكرى حبيبٍ وعرفان ... ورسمٍ عفت آياته منذ أزمان 19 - ومن خطائه أيضاً قوله: طلل الجميع لقد عفوت حميدا ... وكفى على رزئي بذاك شهيدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أراد وكفى بأنه مضى حميداً شاهداً على أنى رزئت، وكان وجه الكلام أن يقول: وكفى برزئي شاهداً على أن مضى حميدا؛ لأن حمد أمر الطلل قد مضى، ولس بمشاهد ولا معلوم، فلان يكون الحاضر شاهداً على الغائب أولى من أن يكون الغائب شاهداً على الحاضر. فإن قيل: إنما أراد أن يستشهد على عظيم رزئه عند من لم يعلمه. قيل: فمن لا يعلم قدر مرزأته التي بعضها ظاهرٌ عليه كيف يعلم ما مضى من حميد أمر الطلل؛ حتى يكون شاهداً على هذا؟ فإن قيل: هذا إنما جاء به على القلب. قيل له: المتأخر لا يرخص له في القلب؛ لأن القلب إنما جاء في كلام العرب على السهو، والمتأخر إنما يحتذى على أمثلتهم، ويقتدى بهم، وليس ينبغي له أن يتبعهم فيما سهوا فيه. فإن قيل: فقد جاء القلب في القرآن، ولا يجوز أن يكون ذلك على سبيل السهو والضرورة؛ لأن كلام الله عز وجل يتعالى عن ذلك، وهو قوله: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة " وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح، أي تنهض بثقلها، وقال عز وجل: " ثم دنى فتدلى " وإنما هو تدلى فدنا، وقال: " وإنه لحب الخير لشديدٌ " أي: وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 حبه للخير لشديد، ولهذا أشباهٌ كثيرة في القرآن. قيل: هذا ليس بقلب، وإنما هو صحيح مستقيم، إنما أراد الله تعالى اسمه: ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة، أي: نميلها من ثقلها، ذكر ذلك الفراء وغيره، وقالوا: إنما المعنى لتنيء العصبة، وقوله " وإنه لحب الخير لشديد " قيل: المعنى إنه لحب المال لشديد، والشدة: البخل، يقال " رجل شديدٌ وتشدد " أي: بخيل، يريد إنه لحب المال لبخيل متشدد، يريد إنه لحب المال: أي لأجل خبه المال يبخل، وقالوا في قوله عز وجل: " ثم دنى فتدلى ": إنما كان تدليه عند دنوه واقترابه، وكما قال أبو النجم: قبل دنوا الأفق من جوزائه والجوزاء إذا دنت من الأفق فقد دنا الأفق منها، وليس هذا من القلب المستكره، ومثله في الشعر كثير، قال الشاعر: ومهمهٍ مغبرةٍ أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه قوله " كأن لون أرضه سماؤه " أي: كأن لون سمائه من غبرتها لون أرضه، وليس الأمر في ذلك بواجب؛ لأن أرضه وسماءه مضافان جميعاً إلى الهاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وهي كناية عن المهمة، فأيهما يشبه بصاحبه كانا فيه سواء، وإنما تغبر آفاق السماء من الجدب واحتباس القطر، وقال الحطيئة: فلما خشيت الهون والعير ممسكٌ ... على رغمه ما أمسك الحبل حافره قال: وكان الوجه أن يقول: ما أمسك الحافر حبله، وكلاهما متقاربان؛ لأن الحبل إذا أمسك الحافر فإن الحافر أيضاً قد شغل الحبل. فهذا كله سائغ حسن، ولكن القلب القبيح لا يجوز في الشعر، ولا في القرآن، وهو ما جاء في كلامهم على سبيل الغلط، نحو قول خداش بن زهير: وتركب خيلاً لا هوادة بينها ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر وإنما الضياطرة هي التي تشقى بالرماح، وكقول الآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناء فريضة الرجم وإنما الرجم فريضة الزناء، وكقول الفرزدق يصف ذئباً: وأطلس عسال وما كان صاحباً ... رفعت لناري موهناً فأتاني وإنما النار رفعها للذئب، وأنشده المبرد، وقال: القلب جائز للأختصار، إذا لم يدخل الكلام لبسٌ، كأنه يجيز ذلك للمتقدمين دون المتأخرين، وما علمت أحداً قال " للأختصار " غيره، فلو قال لإصلاح الوزن أو للضرورة كما قال غيره كان ذلك أشبه، ويجوز أن يكون الفرزدق ف يهذا البيت سها أو اضطر لإصلاح الوزن، وأبو تمام وغيره من المتأخرين لا يسوغون مثل هذا وإنما أراد أبو تمام وكفى بما يظهر من تفجعي بهذا الرزء الذي رزئته شاهداً على أن الطلل مضى حميدا، قلت: وليس له أن يقلب في مثل هذا؛ لأنه القلب المستكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فإن قيل: إنه لم يرد القلب، وإنما أراد وكفى على رزئي بمحمود أمر الطلل شهيدا. قيل: فبأي شيء أستشهد؟ وأين شهيده؟ 20 - ومن خطائه قوله في باب الفراق: دعا شوقه يا ناصر الشوق دعوةً ... فلباه طل الدمع يجري ووابله أراد أن الشوق دعا ناصراً ينصره فلباه الدمع، بمعنى أنه يخفف لاعج الشوق، ويطفئ حرارته. وهذا إنما هو نصرىٌ للمشتاق على الشوق، والدمع إنما هو حربٌ للشوق؛ لأنه يثلمه ويتخونه ويكسر منه حده، كما قال البحتري: وبكاء الديار مما يرد الش ... وق ذكراً والحب نضواً ضئيلاً قوله " يرد الشوق ذكراً " أي: يخففه وثلمه حتى يصير ذكراً لا يقلق ولا يزعج كإقلاق الشوق، وقوله " والحب نضوا " أي يصغره ويمحقه، كما قال جرير: فلما التقى الحبان ألقيت العصى ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله فلو كان الدمع ناصراً للشوق لكان يقويه ويزيد فيه، ألا ترى أنك تقول: قد ذبحني الشوق إليك، فالشوق عدو المشتاق وحربه، والدمع سلمٌ لتخفيفه عنه وهو حرب للشوق، وليس بهذا الخطأ خفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وقد تبعه البحتري ف يهذا الخطأ فقال بنعى الديار التي وقف عليها: نصرت لها الشوق اللجوج بأدمع ... تلاحقن في أعقاب وصلٍ تصر ما 21 - ومن خطائه ف يمعنى الشوق قوله: يكفيك شوقٌ بطيل ظماءه ... فإذا سقاه سم الأسود فقوله شوق يطيل ظماءه غلط؛ لأن الشوق هو الظمأ نفسه، ألا ترى أنك تقول: أنا عطشان إلى رؤيتك، وظمآن، ومشتاق، بمعنى واحد، فكيف يكون الشوق هو المطيل للظمأ؟ وكيف يكون في الساقي، والمحبوب هو الذي يظمئ ويسقى، أو البعد أو الهجرة! لا الشوق، فكيف يكون الشوق يطيل شوقه؟ 22 - ومن خطائه قوله: أمر التجلد بالتلدد حرقةٌ ... أمرت جمود دموعه بسجوم جعل الحرقة آمرة التجلد بالتلدد، والحرقة التي يكون معها التلدد تسقط التجلد ألبته وتذهب به، فأما أن يجعله متلدداً فإن هذا من أحمق المعاني أولاها بالاستحالة، وأيضاً فأي لفظ أسخف من أن يجعل الحرقة آمرة وإن كان ليس بخطأ، وإنما العادة في مثل هذا أن تكون باعثة أو جالبة أو نحو هذا، وأما الأمر فليس هذا موضعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ولو كان قال: أفنى التجلد بالتلدد حرقة ... أفنت جمود دموعه بسجوم كان أولى بالصواب 23 - ومن خطائه قوله: من حرقة أطلقتها فرقةٌ أسرت ... قلباً، ومن عذل في نحرة غزل قوله أطلقتها فرقة أي ثورتخا وأظهرتها، وإنما قال أطلقطها من أجل قوله أست قلباً ليطابق بين الإطلاق والأسر، وقوله أسرت قلباً يعنى الفرقة، وهو معنى ردئ؛ لأن القلب إنما يأسره ويملكه شدة الحب، لا الفراق، فإن لم يكن مأسوراً قبل الفراق فما كان هناك حب، فلم حضر التوديع؟ وما كان وجه البكاء والاستهلاك والوجل الذي ذكره قبل البيت، والقصة الفظيعة التي وصف الحان فيها عند مفارقتهم؟ وماعلم أن للفراق لوعة صعبة ونار محرقة عند وروده وفجأته؛ فلا يسمى ذلك أسراً ذلك أسراً ولا علاقة! وإنما محنة تطرأ على أسير الحب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وربما قتلته كما يقتل الأسير، والفراق إنما له ثم تبرد وناره، وتخمد وقتاً فوقتاً، حتى يدرس الحب. فالفراق يفك أسر الحب، وينسى الخليل خليلة إذا امتد به زمان؛ ألا ترى إلى قول ذهير بن جناب الكلبى: إذا ما شئت أن تشلى حبيباً ... فأكثر دونه عدد اليالى فما أنسى خليلك مثل نأى ... وما أبلى جديدك كابتذال وقول آخر: ينسى الخليلان طول الناى بينهما ... وتلتقى طرق شتى فيأتلف هذا هو المعنى الصحيح المعروف، وإن كان قد تقدم أبا تمام في هذا المعنى من تبعه، وحذا على حذوه، فالردئ لا يؤتم به. ولعله سمع معنى سائغاً حسناً فأفسده لسوء عبارته، وكثيراً ما يفعله هذا، زكلن ينبغي أن يقول: من حرقة بعتها فرقة أو أظهرتها فرقة جرحت قلباً، حتى يكون أسير الهوى قتيل الفراق. فإن قيل: فلم لا يكون قوله أسرت قلباً للحرقة للفرقة؟ قيل: لا يكون ذلك؛ لأن الأسر إذا قبح أن يكون فعلا للفرقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 قبح أيضاً أن يكون فعلاً للحرقة؛ لأن الفرقة هي التي جلبت الحرقةن فشأنها كشأنها. 24 - ومن خطائه قوله: ما لامرئ خاص بحر الهوى عمر ... إلا وللبين فيه السهل والجلد وهذا عندى خطأ إن كان أراد بالعمر مدة الحياة؛ لأنه اسم واحد للمدة بأسرها فهو لا يتبعض فيقال لكل جزء منه: عمر، كما لا يقال: ما لزيد رأس إلا وفيه شجة أو ضربة، وما له لسان إلا وهو ذرب أو فصيح، وكذلك لا يقال: ما له عمر إلا وهو قصير، وإنما يسوغ هذا فيما فوق الواحد، مثل أن تقول: ما له ضلعٌ إلا مكسورة؛ وما له يد إلا وفيها أثرٌ، ولا رجلٌ إلا وفيها حنف. وليس قولهم " ماله عيش إلا منغص، ولا حياة إلا كدرة " مثل قولك: ما له عمر إلا قصير، ولو قتله؛ لأن عيش الإنسان ليس له مدة حياته بأسرها؛ لأنك قد تقول: كان عيشي بالعراق طيباً، وكانت حياتي بمكة لذيذة، وكان عيشي بالحجاز أطيب من عيشي باليمن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ولا تقول: كان عمري؛ لأن العمر هو المدة بأسرها، والعيش والحياة ليسا كذلك؛ لأنهما يتبعضان. فإن قيل: فأنت تقول " مالزيد رأس حسن، ولا أنف أشم، ولا لسان ذرب ". قيل: إنما يصلح هذا من أجل النفي؛ لأنك إنما تريد ليس له رأس من الرؤوس الحسنة، ولا لسان من الألسن الذربة وإذا دخلت " إلا " ههنا فقد جعلت المنفى موجباً، وحقيقة؛ فإذا قلت " ليس لزيد رأس إلا حسن " فقد أوجبت له عدة رؤوس!! وهذا خطأ؛ وكذاك سبيل العمر. وإن كان أراد بالعمر منزله الذي يتوطنه ويعمره، فذلك هو المعمر، وما علمت أن أحداً سماه عمراً إلا أن يكون دير النصاري فإنهم يسمونه عمراً، وما كان يمنعه أن يقول " وطن " مكان " عمر " لأن لفظهما ومعناما واحد، وقد يكون للأنسان عدة أوطان توطنها. وقد ذكر العمر في موضع آخر من شعره، وهو يريد مدة الحياة؛ فقال: إذا مارقٌ بالغدر جاوز عمره ... فذاك حريٌ أن تئيم حلائله أراد أنه إن جاور عمره - أي قاربه - بالغدر، فقد عرضه للزوال والنفاد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وهذا من عويص ألفاظه، وما أراد بالبيت الأول إلا مدة الحياة؛ لأن ما قبل البيت وما بعده عليه يدل. 25 - وقال في علي بن الجهم: هي فرقةٌ من صاحب لك ماجد ... فغدا إذابة كل دمعٍ جامد فافرغ إلى ذخر الشؤون وعذبه ... فالدمع يذهب بعض جهد الجاهد وإذا فقدت أخاً فلم تفقد له ... دمعاً ولا صبراً فلست بفاقد قوله " يذهب بعض جهد الجاهد " أي: بعض جهد الحزن الجاهد، أي الحزن الذي جهدك فهو الجاهد لك، ولو كان استقام له أن يقول " بعض جهد المجهود " لكان أحسن وأليق، وهذا أغرب وأظرف. وقد جاء أيضاً فاعل بمعنى مفعول؛ قالوا " عيشةٌ راضية " بمعنى مرضية، و " لمح باصرٌ " وإنما هو مبصرٌ فيه، وأشباه هذا كثيرة معروفة، ولكن ليس في كل حال يقال، وإنما ينبغي أن ينتهي في اللغة إلى حيث انتهوا، ولا يتعدى إلى غيره؛ فإن اللغة لا يقاس عليها. وقوله " فلم تفقد له دمعاً ولا صبراً " من أفحش الخطأ؛ لأن الصابر لا يكون باكياً، والباكي لا يكون صابراً، فقد نسق بلفظةٍ على لفظةٍ وهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 نعتان متضادان، ولا يجوز أن يكونا مجتمين، ومعناه أنك إذا فقدت أخاً فأدام البكاء عليك فلست بفاقد. ولم يرد بفاقدٍ شخصه، وإنما أراد لست بفاقد وده ولا أخوته، وهو محصل لك غير مفقود وإن كان غائباً عنك، وإلى هذا ذهب، إلا أنه أفسده بذكر الصبر مع البكاء، وذلك خطأ ظاهر، ولو كان قال " فلم تفقد له دمعاً ولا جزعاً " أو " دمعاً ولا شوقاً ولا قلقاً " لكان المعنى مستقيما، وظننته قد قال غير هذا، وأن غلطاً وقع في كتابة البيت عند النقل، حتى رجعت إلى أصل أبي سعيد السكري وغيره من الأصول القديمة فلم أجد إلا " دمعاً ولا صبراً " وذلك غفلة منه عجيبة. وقد لاح لي معنى أظنه - والله أعلم - إليه قصد، وهو أن يكون أراد إذا فقدت أخا فلم تفقد له دمعا - أي يواصل البكاء عليك - فلست بفاقده، على ما قدمت ذكره: أي فقد حصل لك وصار ذخراً من ذخائرك، وإن غاب عنك وغبت عنه، وإن لم تفقد له صبراً - أي وإن صبر عنك - فلست بفاقد؛ لأنه إن صبر وسلاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فليس ذاك بأخ يعول عليه، فلست أيضاً بفاقده؛ لأنك لا تعتد به موجوداً ولا مفقوداً، ولكن ذهب على أبي تمام أن هذا غير جائز؛ لأنه وصف رجلا واحداً بالوصفين جميعاً، وهما متضادان، ولو كان جعلهما وصفين لرجلين فقال: وإذا فقدت أخا لفقدك باكيا ... أو صابراً جلداً فلست بفاقد أي: لست بفاقد هذا؛ لأنه محصل لك، أو لست بفاقد هذا؛ لأنه ناسٍ مودتك - لكان المعنى سائغاً حسناً واضحاً، أو لو جعله شخصاً واحداً وجعل له أحد الوصفين فقال: وإذا فقدت أخاً فأسبل دمعه ... أو ظل مصطبراً فلست بفاقد لكان أيضاً سائغاً على هذا المذهب، أو لو كان استوى له في ذلك اللفظ بعينه أن يقول " فلم تفقد له دمعاً أو صبراً " حتى لا يجعل له إلا أحدهما لساغ ذلك، لكنه نسق بالصبر على الدمع فجعلهما جميعا له، ففسد المعنى. فهذا وأشباهه الذي قاله الشيوخ فيه، من إن يريد البديع فيخرج إلى المحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 26 - وقال أبو تمام: لما استحر الوداع المحض وانصرمت ... أواخر الصبر إلا كاظماً وجما رأيت أحسن مرشيً، وأقبحه ... مستجمعين لي التوديع والعنما العنم: شجر له أغصان لطيفة غضة كأنها بنان جاريةٍ، الواحدة عنمة، كأنه استحسن أصبعها واستقبح إشارتها إليه بالوداع، وهذا خطأ في المعنى، أتراه ما سمع قول جرير: أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بفرع بشامةٍ؟ سقى البشام! فدعا للبشام بالسقيا لأنها ودعنه به؛ فسر بتوديعها، وأبو تمام استحسن أصبعها واستقبح إشارتها، ولعمري إن منظر الفراق منظر قبيح، ولكن إشارة المحبوبة بالوداع لا يستقبحها إلا أجهل الناس بالحب، وأقلهم معرفة بالغزل، وأغلظهم طبعاً، وأبعدهم فهماً. 27 - ومن خطائه قوله: فلويت بالمعروف أعناق المنى ... وحطمت بالإنجاز ظهر الموعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 حطم ظهر الوعد بالإنجاز: استعارةٌ قبيحة جداً، والمعنى أيضاً في غاية الرداءة؛ لأن إنجاز الموعد هو تصحيحه وتحقيقه، وبذلك جرت العادة أن يقال: قد صح وعد فلان، وتحقق ما قال، وذلك إذا أبحره، فجعل أبو تمام في موضع صحة الوعد حطم ظهره، وهذا إنما يكون إذا أخلف الوعد وكذب، ألا تراهم يقولون: قد مرض فلانٌ وعده، وعلله، ووعد وعداً مريضاً، وإذا أخلف وعده فقد أماته؛ فالإخلاف هو الذي يحطم ظهر الموعد، لا الإنجاز، ولا خفاء بفساد ما ذهب إليه، وكان ينبغي أن يقول: وحطمت بالانجاز ظهر المال، لا الموعد، وحينئذ فالموعد كان يصح ويسلم، ويتلف المال. 28 - وقال: إذا وعد انهلت يداه فأهدتا ... لك النجح محمولاً على كاهل الوعد كاهل الوعد إذا حمل النجح فمن سبيله أن يكون صحيحاً مسلماً، لا أن يكون محطوما كما قال في البيت الأول؛ فهذه استعارة صحيحة على هذا البيت. وإن كان " كاهل الوعد " قبيحاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 29 - ومثل البيت الأول في الفساد أو قريب منه قوله: إذا ما رحى دارت سماحة ... رحى كل إنجازٍ على كل موعد وهذا إتلاف الموعد، وإبطاله؛ لأنه جعله مطحوناً بالرحى، وإنما ذهب إلى أن الإنجاز إذا وقع بطل الوعد، وليس الأمر كذلك؛ لأن الموعد ليس بضد للإنجاز، فإذا صح هذا بطل ذلك، بل الوعد الصادق طرفٌ من الإنجاز، وسببٌ من أسبابه، فإذا وقع الإنجاز فهو تمام الوعد، وتصحيح له، وتحقيق وتصديق، فهو في هذه الاستعارة غالطٌ، والمعنى الصحيح قوله: أبلهم ريقاً وكفا لسائل ... وأنضرهم وعداً إذا صوح الوعد فتصويح الوعد هو أن يخلفه فيبطل، ولا يصح؛ لأنه من " صوح النبت " إذا جف، ومثله في الصحة قوله: تزكو مواعده، إذا وعد امرأ ... أنساك أحلام الكرى الأضغاثا فهذا هو المعنى الصحيح: أن يكون الوعد يزكو، لا أن يبطل ويذهب. ولله در أبي إسحاق إبراهيم بن هرمة إذ يقول: يسبق بالفعل ظن سائله ... ويقتل الريث عنده العجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فهذه الاستعارة الصحيحة: أن يقتل العجل الإبطاء، لا أن يقتل الإنجاز الوعد، فأما قوله: نؤم أبا الحسين، وكان قدماً ... فتى أعمار موعده قصار وقول البحتري: وجعلت فعلك تلو قولك قاصراً ... عمر العدو به وعمر الموعد فإن عمر الموعد مدة وقته؛ فإذا أنجز صار مالا؛ فنفاد وقته ليس بمبطل له، بل ذلك نقله من حال إلى حال أخرى. ألا ترى إلى البحتري كيف كشف عن هذا المعنى، وجاء بالأمر من فصه؟ فقال: يوليك صدر اليوم ما فيه الغنى ... بمواهب قد كن أمس مواعدا فبطلان الموعد هو بطلان الشيء الذي الموعد واقعٌ به، وصحته هو صحة ذلك الشيء. ثم أتبع البحتري هذا البيت بأن قال: شيم السحائب: ما بأن بوارقاً ... في عارضٍ إلا انثنين رواعدا فجعل البوارق مثالا للمواعد، وجعل الرواعد التي هي البوارق على الحقيقة وحالهما واحدة مثالا للغيث الذي هو العطايا؛ فالرواعد ليست بمبطلة للبوارق، بل هي هي؛ لأن تلك نور يحدثه ازدحام السحاب، والرعد صوت ذلك الازدحام؛ فالبرق يرى أولا، والرعد يسمع آخراً، وهو هو، وذلك أن العين أسبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 إلى الإبصار من الأذن للأستماع؛ لأن العين ترى الشيء في موضعه، والأذن لا تسمع الصوت إلا إذا وصل إليها، فشبهها بالموعد التي تجر المواهب، وهذا أحسن ما يكون من التمثيل وأصحه، وإنما أقام الرواعد مقام المواهب، لأنه قد يكون برقٌ ولا مطر فيه، ولا يكاد يكون رعد إلا ومعه مطر، ثم إن التشبيه صح بأن صار الرعد بعد البرق. وما أحسن ما قال خلف بن خليفة الأقطع: مواعدهم فعلٌ إذا ما تكلموا ... فتلك التي إن سميت وجب الفعل يعني قول " نعم " فجعل الوعد هو الفعل نفسه لصحته وصدقه، وقد مثل البحتري أيضاً الموعد وكيف تحول عطاء تمثيلا آخر حسناً، فقال: وشكرت منك مواهباً مشكورةً ... لو سرن في فلكٍ لكن نجوماً ومواعداً لو كن شيئاً ظاهراً ... تفضى إليه العين كن غيوماً وذلك لأن الغيم يصير مطرا، كما أن الموعد يصير عطاء، وأبو تمام - فيما يذهب إليه - غالط؛ لأنه وضع الاستعارة في غير موضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 30 - ومن خطائه قوله: فلو ذهبت سنات الدهر عنه ... وألقى عن مناكبه الدثار لعدل قسمة الأرزاق فينا ... ولكن دهرنا هذا حمار قوله " وألقى عن مناكبه الدثار " لفظ ردئ، وليس من المعنى الذي قصده في شيء، وصدر البيت لائق بالمعنى؛ فلو كان أتبعه بما يكون مثله في معناه، بأن يقول: فلو ذهبت سنات الدهر عنه واستيقظ من رقدته أو انتبه من نومته أو انكشف الغطاء عن وجهه؛ لكان المعنى يمضي مستقيما؛ لأن من كان في سنةٍ أو نوم أو مغطى على وجهه أو عينيه فإنه لا يبصر الرشد، ولا يكاد يهتدى لصواب، وإنما هذه كلها استعارات، والمراد بها هداية القلب وإبصاره وفهمه، وقد جرت العادة باستعارتها في هذا المعنى، فأما دثار المناكب فليس من هذا الباب في شيء؛ إذ قد يبصر الإنسان رشده ويهتدي لصواب أمره وعلى مناكبه دثارٌ وعلى ظهره أيضاً حمل، ولا يكون ذلك مع النوم والرقاد والغطاء على العين؛ لأنه إنما يراد نوم القلب والتغطية عليه؛ لأن الإنسان إنما يقال له: " قد عمى قلبك " و " قد عميت عن الصواب عينك " و " قد غطى على فهمك " ولا يقال: " قد غطيت بالدثار عن الصواب مناكبك، ولا ظهرك "، ولفظة الدثار أيضاً إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 تستعمل لمنع الهواء والبرد، لا لمنع الفهم والرشد. 31 - ومن خطائه قوله: وأرى الأمور المشكلات تمزقت ... ظلماتها عن رأيك المتوقد عن مثل نصل السيف، إلا أنه ... مذ سل أول سلةٍ لم يغمد فبسطت أزهرها بوجهٍ أزهرٍ ... وقبضت أربدها بوجهٍ أربد فقال " الأمور المشكلات " وجعل لها ظلمات، فكيف يقول: فبسطت أزهرها، والزهر هي النيرات، والمشكلات لا يكون شيء منها نيراً؟ وكأنه يريد أن الأمور المشكلة منها جيد قد أشكل الطريق إليه، ومنها ردئ قد جهلت أيضاً حاله؛ فهي كلها مظلمة، فيمزق ظلماتها برأيه، ويكشف عن الجيد منها ويبسطه: أي ستعمله، ويكشف عن رديئها ويقبضه: أي يكفه ويطرحه، ولكن ما كان ينبغي له أن يقول " بوجه أزهر " و " بوجه أربد "؛ لأنه لا صنع ههنا للوجه ولا تأثير؛ لأن الصنع إنما هو للرأي وللعقل؛ فإذا رأى ذو الرأي أمراً استبان منه الأشياء المظلمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وانفتحت المغلقة، أو رأى أن يغلق أمراً مفتوحاً إذا كان الصواب موجباً ذاك عنده؛ فالرأي على الأحوال كلها أزهر مسفر، والوجه على الأحوال كلها أبيض، وليس يريد أبيض في لونه. والعاجز إذا ورد عليه الأمر يبهظه تبينت الكآبة في وجهه؛ ولله در منصور النمري حيث يقول: ترى ساكن الأوصال باسط وجهه ... يريك الهوينا، والأمور تطير فقال " ساكن الأوصال باسط وجهه " فدل على قلة اكتراثه بالأمور التي ترد عليه، وقول أبي تمام " بوجهٍ أربد " لا معنى له؛ لأنه من صفات الغضبان أو المكتئب من أمر ورد عليه، وو عندي في ذلك غالط، وفي ذلك مسيء. 32 - ومن خطائه قوله يذكر سير الإبل: كالأرحبى المذكى سيره المرطى ... والوخد والملع والتقريب والخبب فالأرحبي من الإبل: منسوبٌ إلى أرحب، حي من همدان تنسب إليهم النجائب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 والمذكى: الذي قد انتهى في سنه وقوته، والمرطى: من عدو الخيل فوق التقريب ودون الإهذاب، والوخد: الاهتزاز في السير مثل وخد النعام، والملع: من سير الإبل السريع، والتقريب: من عدو الخيل معروفٌ، والخبب: دونه، وليس التقريب من عدو الإبل، وهو في هذا الوصف مخطئ، وقد يكون التقريب لأجناسٍ من الحيوان، ولا يكون للإبل، وإنا ما رأينا بعيراً قط يقرب تقريب الفرس، والمرطى أيضاً: من عدو الخيل، ولم أره في اوصاف الإبل ولا سيرها. 33 - ومن خطائه قوله: ومشهدٍ بين حكم الذل منقطعٌ ... صاليه، أو بحبال الموت متصل جليت والموت مبدٍ حر صفحته ... وقد تفرعن في أفعاله الأجل وقوله " بين حكم الذل " لو كان حكم الذل أشياء متفرقة لصحت فيها " بين "، غير أن حكم الذل والذل بمنزلة واحدة، وكذلك حكم العز والعز؛ فكما لا يقال بين العز فكذلك لا يقال بين حكم العز حتى يقال هذا؛ لأن " بين " إنما هي وسطٌ بين شيئين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فإن قال: إن حكم الذل مشتمل على مشهد الحرب ومن يصلاها؛ فكأنه ذهب بقوله " بين " إلى معنى وسطٍ: أي ومشهد وسط حكم الذل. قيل: وسط لا يحل محل بين، وبين لا يحل محل وسط؛ لأنك تقول: البئر وسط الدار، ولا تقول: البئر بين الدار، وتقول: المال بيننا نصفين، ولا تقول: المال وسطنا، والمعنى الذي بنى أبو تمام البيت عليه سياقة لفظه أن يقول: ومشهدٍ بين حكم الذل وحكم العز: أي ومشهد بين الذل والعز، محجمٌ من يصلاه - وهو الذليل - أو مقدم - وهو العزيز - جليته وكشفته، يعني الممدوح؛ فخذف أحد القسمين الذي لا يصلح " بين " إلا به مع القسم الآخر، وجعل قوله " منقطع " في موضع محجم، و " متصل " في موضع مقدم، وليس هذا من مواضع متصل ولا منقطع، وقد أغراه الله بوضع الألفاظ في غير مواضعها من أجل الطباق والتجنيس اللذين بهما فسد شعره وشعر كل من اقتدى به، وقوله " وقد تفرعن في أفعاله الأجل " معنى في غاية الركاكة ولاسخافة، وهو من ألفاظ العامة. وما زال الناس يعيبونه به، ويقولون: اشتق للأجل الذي هو مطلٌ على كل النفوس فعلاً من اسم فرعون، وقد أتى الأجل على نفس فرعون وعلى نفس كل فرعونٍ كان في الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 34 - ومن خطائه قوله: سعى فاستنزل الشرف اقتساراً ... ولولا السعي لم تكن المساعي قوله " سعى فاستنزل الشرف اقتساراً " ليس بالمعنى الجيد، بل هو عندي هجاء مصرح؛ لأنه إذا استنزل الشرف فقد صار غير شريف، وذلك أنك إذا ذممت رجلا شريفاً شريف الآباء كان أبلغ ما تذمه به أن تقول: قد حططت شرفك، ووضعت من شرفك، وقد وكده بقوله " اقتساراً ". وقوله " ولولا السعي لم تكن المساعي " فبئس السعي والله سعى؛ لأن الشرف لا يحط إلا بألأم ما يكون من الأفعال، وكأنه أراد سعى فحةى الشرف نفسه، فأفسد المعنى بذكر استنزاله إياه، كأنه لو لم يستنزله ما كان يكون حاوياً له، فهلا قال: ترقى إلى الشرف الأعلى فحواه، أو بلغ النجم، أو علا على الشمس، كما قال الآخر: لو كان يقعد فوق الشمس من كرمٍ ... قومٌ بسؤددهم أو مجدهم قعدوا 35 - ومن خطائه قوله: يقظٌ وهو أكثر الناس إغضا ... ء على نائل له مسروق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 قوله " على نائل له مسروق " خطأ؛ لأن نائله هو ما ينيله، فكيف يكون مسروقاً منه؟ وهل يكون الهجو إلا هكذا: أن يجعل نائله مأخوذاً منه على طريق السرقة؟ وإنما اعتمد المطابقة لما وصفه بالتيقظ جعله ممن يسرق منه؛ إذ كان من شأن المتيقظ أن لا غفل حتى يستتم عليه السرق، وقد كان يصح هذا المعنى لو قال: علىمال له مسروق، حتى يكون يعطى ما له اختياراً لجوده ويغضى إذا سرق منه لكرمه. 36 - ومن خطائه قوله: لو يعلم العافون كم لك في الندى ... من لذةٍ وقريحةٍ لم تحمد ويروى " من لذة أو فرحة " أي من لذة وفرح؛ أي ابتداع واستخراج وهذا عندي غلط؛ لأن هذا الوصف الذي وصفه داعيةٌ أن يتناهى الحامد له في الحمد، ويجتهد في الثناء بأن لا يدع حمده، وإنما ذهب إلى أن الإنسان إنما يحمد على الشيء الذي يتكلفه ويتجشمه ويتحمل المشقة فيه، لا على الشيء الذي له بواعث شهوة من نفسه وشدة صبابةٍ إليه ومحبة لفعله، ومن كان غرامه بالجود هذا الغرام فعلى ذلك يجب أن يحمد ويمدح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أما قول البحتري: ولقد أبدت الحمد، حتى لو بنت ... كفاك مجداً ثانياً لم تحمد فمذهب صحيح، يريد أنك قد أفنيت الأوصاف والمحامد؛ فإن جئت بنوع من المكارم تبنى به مجداً آخر لم يقدر من يحمدك ويثنى عليك على أكثر مما تقدم. 37 - ومن خطائه قوله: تناول الفوت أيدي الموت قادرةً ... إذا تناول سيفاً منهم بطل قوله " تناول الفوت أيدي الموت " عويضٌ من عويصاته، وهذا أيضاً محال وإنما سمع قول سعد بن مالك: هيهات حال الموت دو ... ن الفوت وانتضى السلاح والفوت: هو النجاة، أي حال الموت دون النجاة، وهذا صحيح مستقيم، فقال هو " تناول الفوت أيدي الموت " وهذا محال؛ لأن النجاة لا تتناولها يد الموت، ولا تصل إليها، وإلا لم تكن نجاة، وهذا من عقيده الذي يخرجه إلى الخطأ، وإنما قصد إلى ازدواج الكلام في الفوت والموت، ولم يتأمل المعنى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 والوجه الصحيح قول البحتري: تتدانى الآجال ضرباً وطعناً ... حين يدنو فيشهد الهيجاء 38 - ومن خطائه: واكتست ضمر الجياد المذاكي ... من لباس الهيجا دماً وحميما في مكرٍ تلوكها الحرب فيه ... وهي مقورةٌ تلوك الشكيما فهذا مغى قبيح جداً: أن جعل الحرب تكون الجيل من أجل قوله " تلوك الشكيما " و " تلوك الشكيما " أيضا ههنا خطأ؛ لأ ن الخيل لا تلوك الشكيم في المكر وحومة الحرب، وإنما تفعل ذلك واقفة لا مكر لها. فإن قيل: إنما أراد أن الحرب تلوكها كما تلوك هي الشكيم. قيل: هذا تشبيه، وليس في لفظ البيت عليه دليل، وألفاظ التشبيه معروفة، وإنما طرح أبا تمام في هذا قلة خبره بأمر الخيل، ألا ترى إلى قول النابغة: خيلٌ صيامٌ، وخيلٌ غير صائمةٍ ... تحت العجاج، وخيلٌ تعلك اللجما والصيام ههنا القيام؛ أي خيل واقفة مستغنى عنها لكثرة خيلهم فهي وقافة، وخيل تحت العجاج في الحرب، وخيل تعلك اللجما، قد أسرجت وألجمت، وأعدت للحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 والشاعر الحصين كان أحذق من الطائي وأعلم بأمر الخيل قال: وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك الشكيم إلى انصراف الزائر وإلا فمتى رأى يجري وهو يلوك شكيمه؟ فأما قول أنس بن الريان: أقود الجياد إلى عامرٍ ... عوالك لجمٍ تمج الدماء فإن القود قد يكون في خلاله تلبث وتوقف تلوك فيه الخيل لجمها، والمكر لا يستقيم ذلك فيه؛ فأما قول أبي حزابة التميمي: خاض الردى في العدى قدما بمنصله ... والخيل تعلك ثنى الموت باللجم فإنما جعل ثنى الموت مثلاً، والثنى: حطام النبات اليابس، ولم يرد أن الخيل تعلك اللجم على الحقيقة. 39 - ومن خطائه قوله: والحرب تركب رأسها في مشهدٍ ... عدل السفيه به بألف حليم في ساعةٍ لو أن لقماناً بها ... وهو الحكيم لكان غير حكيم جثمت طيور الموت في أوكارها ... فتركن طير العقل غير جثوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فالبيتان الأولان جيدان، وقوله جثت طيور الموت في أوكارها بيت ردئ في القسمة، ردئ في المعنى؛ لأنه جعل طير الموت في أوكارها جاثمةً: أي ساكنة لا ينفرها شيء، وطير العقل غير جثومٍ، يعني أنها قد نفرت فطارت، يريد طيران عقولهم من شدة الروع، وما كان ينبغي أن يجعل طير الموت جثوما في أوكارها، وإنما كان الوجه أن يجعلها جاثمة على رؤوسهم، أو واقعة عليهم، فأما أن تكون جائمة في أوكارها فإنها في السلم أو في الأمن جاثمة في أوكارها أيضاً، وطير العقل ليست بضد لطير الموت، وإنما هي ضد لطير الجهل، وطير الحياة هي الضد لطير الموت، ولو كان قال: جثمت طيور الموت فوق رؤوسهم ... فتركن أطيار الحياة تحوم لكان أشبه وأليق، أو لو قال: سقطت طيور الروع فوق رؤوسهم ... فتركن أطيار العقول تحوم لكان أيضاً قريباً من الصواب؛ لأنهم يقولون: طار عقله من الروع، فإذا ثاب إليه عقله وسكن قيل: قد أفرخ روعه، وهذا مثل، وذلك أن الطائر إذا أفرخ لزم عشه وفراخه، وقد يجوز أن يكون " أفرخ روعه " أي: ذهب؛ لأن الطائر إذا أفرخ فطارت فراخه انتقل عن ذلك العش، وقولهم " جثم الطائر " إنما هو أن يلصق جثمانه بالأرض، يذهب إلى أن طيور الموت ساكنة، وطيور العقل منزعجة طائرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وقوله " غير جثوم " لا ينوب مناب طائرة ولا منزعجة؛ لأن الطائر قد لا يكون جاثماً وقد يكون قائماً على رجليه ساكناً مطمئناً، وهذه حاله في أكثر أوقاته؛ فقد حمل المعنى على لفظ لا يليق به، ولا يؤدي التأدية الصحيحة عنه. 40 - ومن خطائه قوله في وصف الفرس: ما مقربٌ يختال في أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق قوله " ملآن من صلف " يريد التيه والكبر، وهذا مذهب العامة في هذه اللفظة؛ فأما العرب فإنها لا تستعملها على هذا المعنى، وإنما تقول: قد صلفت المرأة عند زوجها، إذا لم تحظ عنده، وصلف الرجل كذلك؛ إذا كانت زوجته تكرهه، وقال جرير: إني أواصل من أردت وصاله ... بحبال لا صلف ولا لوام والصلف: الذي لا خير عنده، ومثل يضرب " رب صلفٍ تحت الراعدة " يعنون الرعد بغير مطر: فهذا معنى الصلف في كلامهم، وعلى هذا قد ذم أبو تمام الفرس من حيث أراد أن يمدحه. والتلهوق: هو لطف المداراة والحيلة بالقول وغيره حتى يبلغ الحاجة، ومنه قول الأغلب العجلي يصف مداراة رجل له ارمأةٌ نال منها مراده: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فلم يزل بالحلف النجي ... لها وبالتلهوق الخفي أن قد خلونا بفضاءٍ قي ... وغاب كل نفسٍ مخش وقد ذكر أبو عبيدة القاسم بن سلام في الغريب المصنف في أول نوادر الأسماء التلهوق، وقال: وهو مثل التملق، وما أرى أبا تمام في وضع هاتين اللفظتين إلا غالطاً. 41 - وقال أبو تمام: عطفوا الخدور على البدور، ووكلوا ... ظلم الستور بنور حورٍ خرد وثنوا على وشى الخدود صيانةً ... وشى البرود بمسجفٍ وممهد والبيت الأول حسنٌ حلو، وأخذ قوله " وثنوا على وشى الخدود صيانةوشى البرود " من قول الكميت. وأرخين البرود على خدودٍ ... يزين الفداغم بالأسيل وقوله " بمسجفٍ وممهد " فالمسجف يريد ستر باب الحجلة، وكل باب مشقوق فكل شق منها سجقٌ، وكذلك سجف الخباء، والمسجف: المرخى، والتسجيف: إرخاء السجفين، وقوله " بمسجف " أي من مسجف وممهد؛ فجعل الباء في موضع " من " كما قال عنترة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 شربت بماء الدحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم أي: من ماء الدحرضين، والممهد: الوطاء الذي يوطأ تحت المرأة، فكيف يكون ذلك منسوقاً على المسجف الذي ذكر أنهم ثنوه على وشي الخدود؟ والممهد ليس هذه حاله فيعطفه عليه. فإن قيل: كيف لا يكون محمولا على قول الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى ... متقلداً سيفاً ورمحاً والرمح لا يتقلد، وقول الآخر: ورججن الحواجب والعيونا والعيون لا تزجج، وإنما أراد ذلك متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً، وأراد هذا وزججن الحواجب وكحلن العيونا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 قيل: متقلد السيف هو حامله أيضاً؛ فحسن أن يعطف الرمح على السيف؛ لأنهما جميعاً محمولان، وكذلك زججن وكحلن هما جميعاً زينةٌ؛ فحسن أن يعطف أحدهما على الآخر، والممهد لا يشرك الستر في شيء من تغطية الوجه ولا صيانته، ولا بنيت ألفاظ البيت إلا على ستر الخدود بالستور، ولا يتعلق الممهد بالمعنى بإضمار لفظٍ ولا تأولٍ. 42 - ومن خطائه قوله: بقاعيةٌ تجري علينا كؤوسها ... فتبدى الذي مخفي، وتخفى الذي نبدى ذهب في هذا إلى أن الخمر تخفى الذي نبديه ف يحال الصحو من الحلم والوقار والكف عن الهزل والللعب، وتبدى الذي نخفي أي: الذي نعتقده ونكتمه من ضد ذلك كله؛ لأنه في الطبيعة والغريزة. والذي كنا نظهره إنما هو تصنع وتكلف، ويدخل ف يهذا ما يبوح به المحب من الحب الذي كان يكتمه في صحوه ويظهر ضده، أو ما يبوح به من بغض زيد وكان يظهر في صحوه مودته وينافقه. وكذلك ما يظهره السكر من بخل البخيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فيمنع ما كان يتجمل من بذله في الصحو، أو ما يظهره من السماحة التي كان لا يسمح بمثلها في صحوه خوف العاقبة، ونحو هذا. وما سقط من قول الحكماء " إن الشراب يثير كل ما وجد " أي: يظهر كل ما في النفس من خير وشر وحسن وقبيح؛ فكل شيء يظهره الإنسان وليس في اعتقاده ولا نيته فإن الذي يضمره ويكتمه في نفسه فهو ضده، فإذا أظهر السكر اعتقاد المعتقد الذي هو الصحيح فإن ضده مما كان يتجمل بإظهاره يبطل ويتلاشى؛ لأن الشراب يخفيه ويطويه في الضمير حتى يكون مكتوماً كما كانت الحقيقة مكتومة، هذا محال؛ لأن القلب هو محل المعتقدات؛ فلا يجوز أن يجتمع فيها الشيء وضده، والاعتقادات لا تكون باللسان؛ لأن اللسان يكذب، والقلب لا يتضمن إلا الحقيقة. وقول أب يتمام: " فتبدى الذي نخفي " قولٌ صحيحٌ، وقوله " وتخفي الذي نبدي " اللفظ فاسد؛ لأن تخفي معناه تكتم وتستر، والذي قد أبطلته وأزلته لا يجوز أن يعبر عنه بأنك أخفيته ولا كتمته. فإن قيل: ولم لا يكون هذا توسعاً ومجازاً؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قيل: المجاز في مثل هذا لا يكون؛ لأن الشيء الذي تكتمه وتطويه إنما أنت خازنٌ له وحافظٌ؛ فهو ضد للشيء الذي تزيله وتبطله، والأضداد لا يتسعمل أحدها في موضع الآخر على سبيل المجاز. 43 - ومن خطائه قوله في وصف فرس: وبشعلةٍ نبذٍ كأن فليلها ... في صهوتيه بدء شيب المفرق قوله: " فليلها " يريد ما تفرق منها في صهوتيه، والصهوة: موضع اللبد، وهو مقعد الفارس من الفرس، وذلك الموضع أبداً ينحت شعره لغمز السرج إياه فينبت أبيض؛ لأن الجلد ههنا يرق، وأنت تراه في الخيل كلها على اختلاف شياتها، وليس بالبياض المحمود ولا الحسن ولا الجميل؛ فهذا خطأ من هذا الوجه. وهو خطأ من وجه آخر، وهو أن جعله شعلى، والشعلة لا تكون إلا في الناصية أو الذنب، وهو أن يبيض عرضها وناحية منها، فيقال: فرس أشعل وشعلاء، وذلك عيبٌ من عيوب الخيل، فإن كان ظهر الفرس أبيض خلقةً فهو أرحل، ولا يقال أشعل. وقد أخذ البحتري قوله " بدء شيب المفرق " فجاء به حسناً جداً، ثم ما سلم أيضا من العيب، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وبشعلةٍ كالشيب مر بمفرقي ... غزلٍ لها عن شيبه بغرامه فقال " بشعلة " ولم ينص على موضعها، ومعلوم أنه أراد بياضاً في الناصية، وقال " مر بمفرقي غزل " فأوضح أنه ذلك الموضع أراد، وقال " لها عن شبيه بغرامه " فأتى بشيء يفوق كل حسن، إلا أن البياض في الناصية من عيوب الخيل وكذلك البياض في الذنب، ليس بين الناس في ذلك اختلاف، ويقال لبياض الناصية أيضاً السعف. وأيضاً؛ فإن البحتري وصف فرساً أدهم فقال: جذلان تلطمه جوانب غرةٍ ... جاءت مجيء البدر عند تمامه فأي حسن يكون لبياض ناصية على بياض غرة؟ ومن قبيح وصف شيات الخيل قول أبي تمام ف يهذا الفرس أيضاً: مسود شطرٍ مثل ما اسود الدجى ... مبيض شطرٍ كابيضاض المهرق شطر الشيء: جانبه وناحيته، قال الله عز وجل: " فول وجهك شطر المسجد الحرام " أي ناحيته، وقد يراد بالشطر نصف الشيء، يقال: قد شاطرتك مالي، أي: ناصفتك؛ فهذا هو الأكثر الأعم فيما يستعملون، وذلك من أقبح شيات الأبلق على ظاهر هذا المعنى، ولم يرده أبو تمام، وإنما أراد بالشطر ههنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 البعض أو الجزء: أي مسود جزء مبيض جزء، فجاء بالشطر لأنها لفظة أحسن من الجزء ومن البعض في هذا الموضع. والجيد النادر قول البحتري: أو أبلقٍ يلقى العيون إذا بدا ... من كل لون معجبٍ بنموذج وقد جعله أبوتمام في أول الأبيات أشعل بقوله " بشعلة " ثم جعله هنا أبلق؛ فهذا الفرس هو الأشعل الأبلق على مذهبه في هذا التشبيه، ولا ينكر مثل هذا من ابتداعاته. [ ... ومن خطأه قوله: فكم دية تم غدوت تسوقها ... لها أثر في تالدي غير تالد وليست ديات من دماء هرقتها ... حراماً ولكن من دماء القصائد قوله: ((فكم دية تم)) أي تامة، يعني عشرات الألوف التي كان يصله بها. وقوله: ((لها أثر في تالدي)) أي في مالي الذي ورثته عن آبائي ((غير تالد)) أي غير ميراث، يقول: هي زائدة في ميراثي الذي ورثته عن آبائي ومقوية له، وهي غير ميراث منك، بل صلة وتفضل، وإنما لم يذكر أنه] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أراد أنها قوت أصل ماله الذي عليه يعول، وزادت فيه، وإذا قوت أصل المال القديم فهي للطريف أيضاً مقوية، ثم قال: وليست ديات من دماء هرقتها ... حراماً ولكن من دماء القصائد فأتى في هذا بأقبح ما يكون من الخطأ وأشنعه، وهجا ممدوحه، وهذا أبو الحسن بن الهيثم بن شبابة ظن أنه مادحه، فكيف يكون الممدوح قاتلاً لمدائحه التي فيها وصف مفاخره ومناقبه، وهي مشيدة بذكر معاليه وشرف آبائه وفيها إحياء ذكرهم؟ فإذا سفك دماءها فقد محا ذلك كله وهدمه وأبطله وأماته، وجازى القصائد بضد ما تستحقه من تدوينها وروايتها وحفظها وإدامة إنشادها، ثم لم يقنع حتى جعل سفك دمائها حلالاً بقوله: وليست ديات من دماء هرقتها ... حراماً ولكن من دماء القصائد وحسبه بهذا خطأ وجهلاً وتخليطاً، وخروجاً عن العادات في المجازات والاستعارات. وقال في آخر هذه القصيدة: بسباحة تنساق من غير سائق ... وتنقاد في الآفاق من غير قائد جلامد تخطوها الليالي وإن سرت ... لها موضحات في رؤوس الجلامد فكيف تكون مقتولة مسفوكة الدم، وهي تنساق من غير سائق وتنقاد في الآفاق من غير قائد؟ وكيف تكون كالجلامد تخطوها الليالي ولا تؤثر فيها، وهي أميتت وأبطلت؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فإن قيل: هذا كله إنما جاء به على الاستعارة لا على الحقيقة. قيل: الاستعارة لا تستعمل إلا فيما يليق بالمعاني، ولا تكون المعاني به متضادة متنافية، ولهذا حدود إذا خرجت عنها صارت إلى الخطأ والفساد. ومن خطأه قوله: وقد ظللت أعناق أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل نواهل من النهل، وهو الشرب الأول، والعلل: الشرب بعد الشرب. والعقبان وسائر جوارح الطير لا تشرب الدماء، وإنما تأكل اللحوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الجزء الثالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 قال أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي: قد ذكرت في الجزء الثاني الموازنة بين شعر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وشعر أبي عبادة الوليد بن عبيدٍ البحتري، وخطأ أبي تمام في الألفاظ ولامعانين وبيضت آخر الجزء لألحق به ما يمر من ذلك في شعره، وأستدركه من بعد في قصائده. وأنا أذكر في هذا الجزء الرذل من ألفاظه، والساقط من معانيه، والقبيح من استعاراته، والمستكره المتعقد من نسجه ونظمه، على ما رأيت المتأخرين يتذاكرونه، وينعونه عليه ويعيبونه، وعلى أنى وجدت لبعض ذلك نظائر في أشعار المتقدمين؛ فعلمت أنه بذلك اغتر، وعليه في العذر اعتمد؛ طلباً منه للاغراق والإبداع، وميلا إلى وحشي المعاني والألفاظ، وإنما كان يندر من هذه الأنواع المستكرهة على لسان الشاعر المحسن البيت أو البيتان يتجاوز له عن ذلك؛ لأن الأعرابي لا يقول إلا على قريحته، ولا يعتصم إلا بخاطره، ولا يستقي إلا من قلبه، وأما المتأخر الذي يطبع على قوالب، ويحذو على أمثلة، ويتعلم الشعر تعلماً، ويأخذه تلقناً؛ فمن شأنه أن يتجنب المذموم، ولا يتبع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 تقدمه إلا فيما استحسن منهم، واستجيد لهم، واختير من كلامهم، أو في المتوسط السالم إذا لم يقدر على الجيد البارع، ولا يوقع الاحتطاب والاستكثار مما جاء عنهم نادراً ومن معانيهم شاذاً، ويجعله حجة له وعذراً؛ فإن الشاعر قد يعاب أشد العيب إذا قصد بالصنعة سائر شعره، وبالإبداع جميع فنونه؛ فإن مجاهدة الطبع ومغالبة القريحة مخرجةٌ سهل التأليف إلى سوء التكلف وشدة النعمل، كما عيب صالح بن عبد القدوس وغيره ممن سلك هذه الطريقة حتى سقط شعره؛ لأن لكل شيء حداً: إذا تجتوزه سمى مفرطاً، وما وقع الإفراط في شيء إلا شانه، وأعاد إلى الفساد صحته، وإلى القبح حسنه وبهاءه، فكيف إذا تتبع الشاعر مالا طائل فيه: من لفظة شنيعة لمتقدم، أو معنى وحشي فجعله إماماً، واستكثر من أشباهه، ووشح شعره بنظائره؟ إن هذا لعين الخطأ، وغايةٌ في سوء الاختيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 باب ما في شعر أبي تمام من قبيح الاستعارات 1 - فمن ذول ألفاظه وقبيح استعاراته قوله: يا دهر قوم من أخدعيك؛ فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك 2 - وقال: سأشكر فرجة الليت الرخى ... ولين أخادع الدهر الأبى 3 - وقال: فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربةً غادرته عوداً ركوبا 4 - وقال: تروح علينا كل يوم وتغتدي ... خطوبٌ كأن الدهر منهن يصرع 5 - وقال: ألا لا يمد الدهر كفا بسيء ... إلى مجتدى نصرٍ؛ فيقطع للزند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 6 - وقال: والدهر ألأم من شرقت بلؤمه ... إلا إذا أشرقته بكريم 7 - وقال: تحملت ما لو حمل الدهر شطره ... لفكر دهراً أي عبأيه أثقل 8 - وقوله يصف قصيدة: تحل يفاع المجد حتى كأنها ... على كل رأس من يد المجد مغفر لها بين أبواب الملوك مزامرٌ ... من الذكر لم تنفخ ولا هي تزمر 9 - وقوله: به أسلم المعروف بالشام بعدما ... ثوى منذ أودى خالدٌ وهو مرتد أما وأبي أحداثه إن حادثاً ... حدا بي عنك العيس للحادث الوغد 10 - وقوله: جذبت نداه غدوة السبت جذبةً ... فخر صريعاً بين أيدي القصائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 11 - وقوله: لو لم تفت مسن المجد مذ زمنٍ ... بالجود ولابأس كان الجود قد خرفا 12 - وقوله: لدى ملكٍ من أيكة الجود لم يزل ... على كبد المعروف من فعله برد 13 - وقوله: في غلةٍ أوقدت على كبد ال ... نائل ناراً أخنت على كبده 14 - وقوله: حتى إذا اسود الزمان توضحوا ... فيه؛ فغودر وهو منهم أبلق 15 - وقوله: إيثار شزر القوى رأى جسد ال ... معروف أولى بالطب من جسده 16 - وقوله: وما ذكر الدهر العبوس بأنه ... له ابنٌ كيوم السبت إلا تبسما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 17 - وقوله: وكم أحرزت منكم على قبح قدها ... صروف النوى من مرهفٍ حسن القد 18 - وقوله يصف الأرض: إذا الغيث غادى نسجها خلت أنه ... مضت حقبةٌ حرسٌ له وهو حائك 19 - وقوله: ولا جتذبت فرشٌ من الأمن تحتكم ... هي المثل في لين بها والأرائك 20 - وقوله: إذاً للبستم عار دهرٍ كأنما ... لياليه من بين الليالي عوارك 21 - وقوله يرثي غالباً: أنزلته الأيام عن ظهرها من ... بعد إثبات رجله في الركاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 22 - وقوله: كأنني حين جردت الرجاء له ... غضا صببت لها ماءً على الزمن 23 - وقوله يصف فرساً: فكأن فارسه يصرف إذ بدا ... في متنه ابناً للصباح الأبلق وأشباه هذا مما إذا تتبعته في شعره وجدته؛ فجعل كما ترى - مع غثاثة هذه الألفاظ - للدهر أخدعا، ويداً تقطع من الزند، وكأنه يصرع، ويحل، ويشرق بالكرام، ويتبسم، وأن الأيام تنزله، والزمان أبلق، وجعل للمدح يداً، ولقصائده مزامر إلا أنها لا تنفخ ولا تزمر، وجعل المعروف مسلماً تارةً ومرتداً أخرى، والحادث وغداً، وجذب ندى الممدوح بزعمه جذبةً حتى خر صريعا بين يدي قصائده، وجعل المجد مما يحقد عليه الخوف، وأن له جسداً وكبداً، وجعل لصروف النوى قدا، وللأمن فرشاً، وظن أن الغيث كان دهراً حائكا، وجعل للأيام ظهراً يركب، والليالي كأنها عوارك، والزمان كأنه صب عليه ماء، والفرس كأنه ابن الزمان الأبلق؛ وهذه استعارات في غاية القباحة والهجانة والبعد من الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وإنما استعارت العرب المعنى لما ليس له إذا كان يقار به أو يدانيه، أو يشبهه في بعض أحواله، أو كان سبباً من أسبابه؛ فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له وملائمة لمعناه، نحو قول امرئ القيس: فقلت له لما تمطى بجوزه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل وقد عاب امرأ القيس بهذا المعنى من لم يعرف موضوعات المعاني ولا المجازات وهو في غاية الحسن والجودة والصحة، وهو إنما قصد وصف أجزاء الليل الطويل فذكر امتداد وسطه، وتثاقل صدره للذهاب والانبعاث، وترادف أعجازه وأواخره شيئاً فشيئاً، وهذا عندي منتظم لجميع نعوت الليل الطويل على هيئته، وذلك أشد ما يكون على من يثراعيه ويترقب تصرمه؛ فلما جعل له وسطاً يمتد وأعجازاً رادفة للوسط وصدراً متثاقلا في نهوضه حسن أن يتسعير للوسط اسم الصلب، وجعله متمطياً من أجل امتداده؛ لأن تمطى وتمدد بمنزلة واحدة، وصلح أن يتسعير للصدر اسم الكلكل من أجل نهوضه، وهذه أقرب الاستعارات من الحقيقة، وأسد ملاءمةً لمعناها لما استعيرت له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وكذلك قول زهير: ِوعرى أفراس الصبا ورواحله لما كان من شأن ذى الصبا أن يوصف أبداً بأن يقال: ركب هواه، وجرى في ميدانه، وجمح في عنانه، ونحو هذا، حسن أن يستعار للصبا اسم الأفراس، وأن يجعل النزوع أن تعرى أفراسه ورواحله، وكانت هذه الاستعارة أيضاً من أليق شيء لما استعيرت له. ونحو ذلك قول طفيل الغنوى: وجعلت كورى فوق ناجيةٍ ... يقتات شحم سنامها الرحل لما كان شحم السنام من الأشياء التي تقتات، وكان الرحل أبداً يتخوفه ويتنقص منه، ويذيبه - كان جعله إياه قوتاً للرحل من أحسن الاستعارات، وأليقها بالمعنى. وكذلك قول عمرو بن كلثوم: ألا أبلغ النعمان عني رسالةً ... فمجدك حوليٌ ولؤمك قارح لما جعل مجده حديثاً غير قديم حسن أن يقول " حولي "؛ لأن العرب إذا نسبت الشيء إلى الصغر وقصر المدة قالوا: حوليٌ؛ لأن أقل عدد الأحوال - وهي السنون - حول واحد، ولهذا قال حسان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 لو يدب الحولي من ولد ال ... ذر عليها لأندبتها الكلوم لم يرد بالحولى من ولد الذر ما أتى عليه الحول، ولكنه أراد بالحولي أصغر ما يكون من الذر، وإنما أخذ ذلك من قول امرئ القيس: من القاصرات الطرف لو دب محولٌ ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا ومما يدل على صحة المعنى وأن الحولي إنما يراد به الصغر دون معنى الحول قول الراجز: واستبقت تحذف حولي الحصى فأراد بحولي الحصى أصغره، وقول الآخر أنشده ثعلب: تلقط حولي الحصى في منازلٍ ... من الحي أضحت باللحيين بلقعا ولما جعل لؤمه قديماً حسن أن يقول " قارح ". ونحو ذلك قول أبي ذؤيب: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع لما كانت المنية - إذا نزلت بالإنسان خالطته - صح أن يقال: نشبت فيه، وصح أن يستعار لها اسم الأظفار؛ لأن النشوب قد يكون بالظفر. وعلى هذا جاءت الاستعارات في كتاب الله تعالى اسمه، نحو قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 عزة وجل: واشتعل الرأس شيباً لما كان الشيب يأخذ في الرأس ويسعى فيه شيئاً فشيئاً حتى يحيله إلى غير حالة الأولى كالنار التى تشتعل في الجسم من الأجسام فتحيله إلى النقصان والاحتراق، وكذالك قوله تعالى: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار لما كان انسلاخ الشئ من الشيء وهو أن يتبرأ منه ويتزيل منه حالا فحالا كالجد من الحم وما شا كلهم انفصال النهار عن الليل شيئاً فشيئاً حتى يتكامل الظلام انسلاخ، وكذلك قوله عز وجل: فصب عليهم ربك سوط عذاب لما كان الضرب بالسقوط من العذاب استعير للعذاب سوط. فهذا مجرى الاستعارات في كلام العرب. وأما قول أبي تمام ولين أخداع الزمان الأبى فأى حاجة إلى الأخداع حتى يستعيرها للزمن؟ وكان يمكنه أن يقول: ولين معاطف الدهر الأبى، أو لين جوانب الدهر، أو خلائق الدهر، كما تقول: فلان سهل الخلائق، ولين الجوانب، وموطأ الأكتاف، ولأن الدهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 يكون سلاً وحزيناً وليناً وصعبا على قدر تصرف الأحوال فيه؛ لأن هذه الألفاظ كانت أولى بالاستعمال في هذا الوضع، وطانت تنوب عن المعنى الذى قصده، ويتخلص من قبح الأخداع؛ فإن الكلام متسعاً، ألا ترى إلى قوله ما أحسنه وما أو ضحه: ليالى نحن في وسنلت عيش ... كأن الدهر عنا في وثاق وأياماً لنا وله لدانا ... غنينا في حواشيها الرقاق فاستعار للأيام الحواشى، وقوله: أيامنا مصقولةٌ أطرافها ... بك، والليالى كلها أسحار وأبلغ من هذا وأبعد من التكلف وأشبه بكلام العرب قوله: سكن الزمان فلا يد مذمومة ... للحادثات ولا سوام تذعر فقد تراه كيف يخلط الحسن بالقبيح، والجيد بالردى، وإنما قبح الأخداع لما جاء به مستعاراً للدهر، ولو جاء في غير هذا الموضع أو أتى به حقيقة ووضعه في موضعه ما قبح، نحو قول البحترى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وأعتقت من ذلك المطامع أخدعى ونحو قوله: ولا مالت بأخدعك الضياع ومما يزيد على كل جيدٍ قول الفرزدق: وكنا إذا الجبار صعر خده ... ضربناه حتى تستقيم الأخادع فأما قوله: " فضربت الشتاء في أخدعيه " فإن ذكر الأخدعين - على قبحهما - أسوغ؛ لأنه قال " ضربةً غادرته عوداً كوباً " وذلك أن العود المسن من الإبل يضرب على صفحتي عنقه فيذل؛ فقربت الاستعارة ههنا من الصواب قليلا، ومن القبيح في هذا قوله: يا دهر قوم من أخدعيك فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك أي ضرورةٍ دعته إلى الأخدعين؟ وكان يمكنه أن يقول " من اعوجاجك " أو " قوم ما تعوج من صنعك " أي: يا دهر أحسن بنا الصنيع؛ لأن الأخرق هو الذي لا يحسن العمل، وضده الصنع، وكذلك قوله: تحملت ما لو حمل الدهر شطره ... لفكر دهراً أي عبأيه أثقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فجعل للدهر عقلا، وجعله مفكراً في أي العبأين أثقل، وما معنى أبعد من الصواب من هذه الاستعارة، وكان الأشبه والأليق بهذا المعنى لما قال " تحملت ما لو حمل الدهر شطره " أن يقول: لتضعضع، أو لا نهد، أو لأمن الناس صروفه ونوازله، ونحو هذا مما يعتمده أهل المعاني في البلاغة والإفراط. وإنما رأى أبو تمام أشياء يسيرةً من بعيد الاستعارات متفرقةً في أشعار القدماء كما عرفتك لا تنتهي في البعد إلى هذه المنزلة، فاحتذاها، وأحب الإبداع، وأغرق في إيراد أمثالها، واحتطب، واستكثر منها: فمن ذلك قول ذى الرمة: تيممن يا فوخ الدجى فصدعنه ... وجوز الفلا صدع السيوف القواطع فجعل للدجى يافوخا، وقول تأبط شراً: نحز رقابهم حتى نزعنا ... وأنف الموت منخره رثيم فجعل للموت أنفا، وقول ذى الرمة: يعز ضعاف القوم عزة نفسه ... ويقطع أنف الكبرياء عن الكبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فجعل للكبرياء أنفاً، وقال معقل بن خويلد الهذلي، أو غيره: تخاصم قوماً لا تلقى جوابهم ... وقد أخذت من أنف لحيتك اليد فجعل للحية أنفاً: أي قبضت بيدك على طرف لحيتك كما يفعل النادم أو المموم، وما أظن ذا الرمة أراد بالأنف إلا أول الشيء والمتقدم منه، كما قال يصف الحمار: إذا شم أنف الضيف ألحق بطنه ... مراس الأواصي وامتحان الكرائم وقال أبو العباس عبد الله بن المعتز في كتاب الشعراء: وهذا البيت غر الطائي حتى أتى به وإنما أراد ذو الرمة بقوله (أنف الضيف) أول الضيف كقولهم أنف النهار: أي أوله ورعينا أنف النهار أي أوله قال أمروء القيس: قد غدا يحملني في أنفه ... لاحق لاحق الإطلين محبوك ممر وقوله في أنفه أي في أول جريه وأشده ويقال في أنفه في أنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الغيث الذي ذكره، أي في أوله، يقول: لم يطأ هذا الغيث أحدٌ قبلي، ولم يذهب هذا الشاعر حيث ذهب أبو العباس، وكذلك قول أعرابي يصف البرق: إذا شم أنف الليل أومض وسطه ... سناً كابتسام العامرية شاغف إنما أراد إذا اشتم أول الليل، وقال آخر أنشدناه الأخفش عن ثعلب يذم رجلا: ما زال مجنوباً على است الدهر ... ذا جسدٍ ينمى وعقلٍ يحرى فجعل للدهر استاً، وقول شاتم الدهر أحد شعراء عبد القيس: ولما رأيت الدهر وعراً سبيله ... وأبدى لنا ظهراً أجب مسلعا ومعرفةً حصاء غير مفاضةٍ ... عليه ولوناً ذا عثانين أجدعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وجبهة قردٍ كالشراك ضئيلةً ... وصعر خديه وأنفاً مجدعا فجعل للدهر ظهراً أجب، ومعرفةً حصاء، ولوناً ذا عثانين، وشبه جبهته بجبهة قرد، وجعل أنفه أنفاً مجدعا، وهذا الأعرابي إنما تملح بهذه الاستعارات في هجائه للدهر، وجاء بها هازئاً، ومثل هذا في كلامهم قليل جداً، وليس مما يعتمد ويجعل أصلا يحتذى عليه ويستكثر منه. 24 - ومن ردئ استعاراته وقبيحها وفاسدها قوله: لم تسق بعد الهوى ماء أقل قذى ... من ماء قافيةٍ يسقيكه فهم فجعل للقافية ماء على الاستعارة؛ فلو أراد الرونق لصلح، ولكنه قال " يسقيكه " ففسد معنى الرونق؛ لأنك إذا قلت " هذا ثوب له ماء " لم تجعل الماء مشروباً فتقول: ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 شربت ماء أعذب من ماء أعذب من ماء ثوب شربته عند فلان، أورأيته على فلان الملك؛ وكذلك لا تقول: ما شربت ماء أعذب من ماء " قفا نبك " أو أعذب من ماء قصيدة كذا؛ لأن للستعارة حداً تصلح فيه، فإذا جاوزته فسدت وقبحت. فأما قولهم " فلان حلو الكلام " و " عذب المنطق " أو " كأن ألفاظه فتات السكر " فهذا كلام الناس على هذه السياقة، وليس يريدون حلاوة على اللسان، ولا عذوبة في الفم، وإنما يريدون عذباً في النفوس، وحلواً في القلوب، كما قال هو، أعني أبا تمام: يستنبط الروح اللطيف نسيمها ... أرجاً، وتؤكل بالضمير وتشرب وكذلك قولهم " حلو المنظر " إنما يريدون حلوا في العين، ولا تقول: ما ذقت أحلى من كلام فلان، ولا ما شربت أعذب من ألفاظ عمرو؛ لأن هذا القول صيغة الحقيقة، لا الاستعارة، ولا تقل: ما شر بت أعذب من عمرو، ولا ما أكلت أحلى من عبسد الله، فاعلم هذا؛ فإن حدود الاستعارة معلومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فأما قوله: لمكاسر الحسن بن وهب أطيب ... وأمر في حنك الحسود وأعذب فالمكاسر: الأخلاق، وإنما أراد أمر في حنك العدو إذا نطق بها، أو أمر في حنكه أن يذكرها، أو يخبر بها، وأعذب في حنك وليه ووديده إذا نشرها، وكما قال زهير: تلجلج مضغةً فيها أنيضٌ ... أصلت فهي تحت الكشح داء لأنه أراد كلمةً فصلح أن يقول أنيض: أي لم تنضج، وأصلت: تغيرت وأنتنت، وذلك لما جعلها مضغة أي لقمة في فيه؛ فهذا طريق الاستعارة فيما يصلح وبفسد؛ فتفهمه فإنه واضح. وأما قوله: لا تسقني ماء الملام فإنني ... صبٌ قد استعذبت ماء بكائي فقد عيب، وليس بعيب عندي؛ لأنه لما أراد أن يقول " قداستعذلت ماء بكائي " جعل للملام ماء؛ ليقابل ماء بماءٍ وإن لم يكن للملام ماء على الحقيقة، كما قال الله عز وجل: " وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها " ومعلوم أن الثانية ليست بسيئة، وإنما هي جزاء السيئة؛ وكذلك: " إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 تسخروا منا فإنا نسخر منكم " والفعل الثاني ليس بسخريةٍ، ومثل هذا في الشعر والكلام كثير مستعمل. فلما كان مجرى العادة أن يقول القائل: أغلظت لفلان القول، وجرعته منه كأساً مرة، وسقيته منه أمر من العلقم، وكان الملام مما يستعمل فيه التجرع على الاستعارة - جعل له ماء على الاستعارة، ومثل هذا كثير موجود. وقد احتج محتج لأبي تمام في هذا بقول ذى الرمة: أداراً بحزوى هجت للعين عبرةً ... فماء الهوى يرفض أو يترقرق وقول الآخر: وكأسٍ سباها التجر من أرض بابلٍ ... كرقة ماء البين في الأعين النجل وهذا لا يشبه ماء الملام؛ لأن ماء الملام استعارة، وماء الهوى ليس باستعارة؛ لأن الهوى يبكى؛ فتلك الدموع هي ماء الهوى في الحقيقة، وكذلك البين يبكي؛ فتلك الدموع هي ماء البين على الحقيقة. فإن قيل: فإن أبا تمام أبكاه الملام، والملام قد يبكي على الحقيقة؛ فتلك الدموع هي ماء الملام على الحقيقة. قيل: لو أراد أبو تمام ذلك لما قال " قد استعذبت ماء بكائي " لأنه لو بكى من الملام لكان ماء الملام هو ماء بكاء أيضاً، ولم يكن يستعفى منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 25 - ومن ردئ استعارته وقبيحها قوله: مقصرٌ خطوات البث في بدني ... علماً بأني ما قصرت في الطلب فجعل للبث - وهو أشد الحزن - خطواتٍ في بدنه، وأنه قد قصرها؛ لأنه ما قصر في الطلب، وهذا من وساوسه المحكمة، وإنما أراد به قد سهل أمر الحزن عليه أنه ما قصر في الطلب؛ لأنه لو قصر كان يأسف ويشتد حزنه، فجعل للحزن خطى في بدنه قصيرةً لما جعله سهلا خفيفاً، وهذا ضد المعنى الذي أراد؛ لأن الخطى إذا طالت أخذت من الشيء الذي تمر عليه أقل مما تأخذه الخطى القصيرة؛ فعلى هذا يجوز أن يقع قلبه أو كبده بين تلك الخطى الطويلة فلا يمسها من البث - وهو الحزن - قليلٌ ولا كثير. فإن قيل: إنما أراد أن الحزن هو في قلبه خاصة، وأن قوله " في بدني " أي في قلبي؛ لأن قلبه في بدنه. قيل: الأمر واحد في أن الخطى إذا طالت على الشيء - قلبه كان أو ما سواه - أخذت منه أقل مما تأخذ إذا قصرت. فإن قيل: أراد بطول الخطى الكثرة وبقصرها القلة. قيل: هذا غلط من التأويل، وليس العمل على إرادته، وإنما العمل على توجيه معاني ألفاظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وبعد، فإن من أعجب الوسواس خطوات البث في البدن. 26 - ومن ردئ استعاراته وقبيحها قوله: جارى إليه البين وصل خريدةٍ ... ماشت إليه المطل مشى الأكبد الهاء في " إليه " راجعةٌ إلى المحب، يريد أن البين " ووصل الخريدة تجاريا إليه، فكأنه أراد أن يقول: إن البين " حال بينه وبين وصلها، واقتطعها عن أن تصله، وأشباه هذا من اللفظ المستعمل الجاري، فعدل إلى أن جعل البين والوصل تجاريا إليه، وأن الوصل في تقديره جرى إليه يريده فجرى البين ليمنعه، فجعلهما متجاريين، ثم أتى في المصراع الثاني بنحو من هذا التخليط، فقال: ماشت إليه المطل مشى الأكبد، فالهاء هنا راجعة إلى الوصل: أي لما عزمت على أن تصله عزمت عزم متثاقلٍ مماطل فجعل عزمها مشيا، وجعل المطل مماشيا لها، فيا معشر الشعراء والبلغاء ويا أهل اللغة العربية: خبرونا كيف يجاري البين وصلها؟ وكيف تماشي هي مطلها؟ ألا تسمعون؟ ألا تضحكون؟ وأنشد أبو العباس ابن المعتز في كتاب سرقات الشعراء لسلم الخاسر يعيبه بردئ الاستعارة في قوله يري موسى الهادي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 لولا المقابر ما حط الزمان به ... لا، بل تولى بأنفٍ كلمه دامي وقال: هذا ردئ كأنه من شعر أبي تمام الطائي! وليت لم يكن لأبي تمام من ردئ الاستعارة إلا مثل استعارة سلم هذه أو نحوها، ونعوذ بالله من حرمان التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 * ما جاء في شعر أبي تمام من قبيح التجنيس ورأى أبو تمام أيضاً المجانس من الألفاظ مفرقاً في أشعار الأوائل، وهو ما اشتق بعضه من بعض، نحو قول امرئ القيس: لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا وقوله أيضاً: ولكنني أسعى لمجدٍ مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وقول القطامى: ولما ردها في الشول شالت ... بذيالٍ يكون لها لفاعا وقول ذى الرمة: كأن البرى والعاج عيجت متونه ... على عشرٍ يرمى به السيل أبطح وقول رجل من عبسٍ: وذلكم أن ذل الجار حالفكم ... وأن أنفكم لا يعرف الأنفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وقول مسكين الدارمي: وأقطع الخرق بالخرقاء لاهيةً ... إذا الكواكب كانت في الدجى سرجا وقول حيان بن ربيعة الطائي: لقد علم القبائل أن قومي ... لهم حدٌ إذا لبس الحديد وقول النعمان بن بشير لمعاوية: ألم تبتدركم يوم بدرٍ سيوفنا ... وليلك عما ناب قومك نائم وقول جرير: فما زال معقولاً عقالٌ عن الندى ... وما زال محبوساً عن الخير حابس وقول الفرزدق: خفافٌ أخف الله عنه سحابه ... وأوسعه من كل سافٍ وحاصب وكأن هذين الشاعرين في تجنيس ما جنسا من هذه الألفاظ وحاجتهما إليه يشبه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " عصية عصت الله، وغفارٌ غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ونحو هذا مما تعمد الشعراء لتجنيسه قول جندل بن الراعي: فما عمرت عمروٌ وقد جد سعيها ... وما سعدت يوم التقينا بنو سعد ومن ألطف ما جاء من التجنيس وأحسنه في كلام العرب قول القطامى: كنية الحي من ذى القيظ فاحتملوا ... مستحقبين فؤاداً ماله فادي ومثل هذا في أشعار الأوائل موجود، لكنه إنما يأتي منه في القصيدة البيت الواحد والبيتان، على حسب ما يتفق للشاعر، ويحضر في خاطره، وفي الأكثر لا يعتمده، وربما خلا ديوان الشاعر المكثر منه؛ فلا ترى فيه لفظة واحدة. فاعتمده الطائي، وجعله غرضه، وبنى أكثر شعره عليه، فلو كان قلل منه واقتصر على مثل قوله: يا ربع لو ربعوا على ابن هموم وقوله: أرامة كنت مألف كل ريم وقوله: يا بعد غاية دمع العين إن بعدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وأشباه هذا من الألفاظ المتجانسة المستعذبة اللائقة بالمعنى - لكان قد أتى بالغرض، وتخلص من الهجنة والعيب، فأما أن يقول: قرت بقران عين الدين وانشترت ... بالأشترين عيون الشرك فاصطلما فانشتار عيون الشرك في غاية الغثانة والقباحة، وأيضاً فإن انشتار العين ليس بموجب للاصطلام، وقوله: إن من عق والديه لملعو ... نٌ، ومن عق منزلاً بالعقيق وقوله: ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت ... فيه الظنون أمذهبٌ أم مذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وقوله: خشنت عليه أخت بني خشين فهذا كله تجنيسٌ في غاية الشناعة والركاكة والهجانة، ولا يزيد زيادة على قبح قوله: فاسلم سلمت من الآفات ما سلمت ... سلام سلمى، ومهما أورق السلم فإن هذا من كلام المبرسمين، وقد عابه أبو العباس عبد الله بن المعتز ببعض هذه الأبيات في كتاب البديع، جاء بها في قبح التجنيس. وقد جاء من التجنيس في أشعار العرب ما يستكره، نحو قول امرئ القيس: وسنا كسنيق سناءً وسنما ولم يعرف الأصمعي هذا، ولا أبو عمرو وقال أبوعمرو: وهو بيت مسجدى: أي من عمل أهل المسجد، وقال الأصمعي: السن: الثور، ولم يعرف سنيقا، ولا سنما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ويقال: سنيق جبل، ويقال: أكمةٌ، وسم ههنا: البقرة الوحشية، سناء: أي ارتفاعا، ويروى " سناما " أي ارتفاعا أيضاً، من " تسنمت الجبل " علوته. وقول الأعشى: شاوٍ شلولٌ مشلٌ شلشلٌ شول وهذا عند أهل العلم من جنون الشعراء، وقرأ هذه القصيدة على أبي الحسن علي بن سليمان النحوي قارئٌ، فلما بلغ إلى هذا البيت قال أبو الحسن: صرع والله الرجل. وما زلت أراهم يستكرهون قول ذى الرمة: عصاقسّ قوسٍ لينها واعتدالها ويروى " عصا عسطوسٍ " وقد قيل: إنه الخيزران. وهذا إنما جاء من هؤلاء مقللاً نادراً؛ لأنك لو اجتهدت أن ترى لواحدٍ منهم حرفاً واحداً ما وجدته، والطائي استفرغ وسعه في هذا الباب، وجد في طلبه، واستكثر منه، وجعله غرضه؛ فكانت إساءته فيه أكثر من إحسانه، وصوابه أقل من خطائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 * ما يستكره للطائي من المطابق ورأى الطائي الطباق في أشعار العرب، وهو أكثر وأوجد في كلامها من التجنيس، وهو: مقابلة الحرف بضده أو ما يقارب الضد، وإنما قيل " مطابق " لمساواة أحد القسمين صاحبه، وإن تضادا أو اختلفا في المعنى، ألا ترى إلى قولهم في أحد المعنيين - إذا لم يشاكل صاحبه - ليس هذا طبق هذا، وقولهم في المثل " وافق شنٌ طبقه " والطبق للشيء إنما قيل له طبقٌ لمساواته إياه في المقدار، إذا جعل عليه أو غطى به، وإن اختلف الجنسان. قال الله عز وجل " لتركبن طبقاً عن طبق " أي: حالا بعد حال، ولم يرد تساويهما في تمثيل المعنى، وإنما أراد جل وعز - وهو أعلم - تساويهما فيكم، وتغييرهما إياكم؛ بمرورهما عليكم، ومنه قول العباس بن عبد المطلب: إذا انقضى عالمٌ بدا طبق أي: جاءت حال أخرى تتلو الحال الأولى؛ ومنه طباق الخيل، يقال: طابق الفرس إذ1اوقعت قوائم رجليه في موضع قوائم يديه في المشي أو العدو؛ وكذلك مشي الكلاب، قال الجعدي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 طباق الكلاب يطأن الهراسا فهذا حقيقة الطباق، إنما هو مقابلة الشيء لمثله الذي هو على قدره، فسموا المتضادين - إذا تقابلا - مطابقين؛ ومنه قول زهير: ليثٌ بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا فطابق بين قوله " كذب " وبين قوله " صدقا "؛ وقول طفيلٍ الغنوى يصف فرساً: يصان وهو ليوم الروع مبذول فطابق بين قوله " يصان " وبين قوله " مبذول "، وقول طرفة بن العبد: بطئ عن الجلى سريعٍ إلى الخنا فطابق بين " بطئ " و " سريع ": فلو اقتصر الطائي على ما اتفق له في هذا الفن من حلو الألفاظ وصحيح المعنى نحو قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 نثرت فريد مدامعٍ لم تنظم ونحو قوله: جفوف البلى أسرعت في الغصن الرطب ونحو قوله: قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلى الله بعض القوم بالنعم وأشباه هذا من جيد أبياته، وتجنب مثل قوله: قد لان أكثر ما تريد، وبعضه ... خشنٌ، وإني بالنجاح لواثق وقوله: لعمري لقد حررت يوم لقيته ... لو أن القضاء وحده لم يبرد وقوله: وإن خفرت أموال قومٍ أكفهم ... من النيل والجودى فكفاه مقطع ونحو هذا مما يكثر، إن ذكرته ذهب عظيم شعره وسقط، وأكثر ما عيب عليه منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وهذا باب - أعني المطابق - لقبه أبو الفرج قدامة بن جعفر في كتابه المؤلف في نقد الشعر " المتكافئ "، وسمى ضرباً من المجانس المطابق، وهو: أن تأتي الكلمة مثل الكلمة سواء في تأليفها واتفاق حروفها، ويكون معناها مخالفاً، نحو قول الأفوه الأودي: وأقطع الهوجل مستأنسا ... بهوجلٍ عيرانةٍ عنتريس والهوجل الأول: الأرض البعيدة، والهوجل الثاني: الناقة العظيمة الخلق الموثقة، وقول أبي دواد الإيادي: عهدت لها منزلا دارساً ... وآلاًِ على الماء يحملن آلا فالآل الأول: أعمدة الخيام، والآل الثاني: ما يرفع الشخوص. وقول زياد الأعجم: ونبئتهم يستنصرون بكاهلٍ ... وللؤم فيه كاهلٌ وسنام وما علمت أن أحد فعل هذا غير أبي الفرج، فإنه وإن كان هذا اللقب يصح لموافقته معنى الملقبات، وكانت الألفاظ غير محظورة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فإنى لم أكن أحب له أن يخالف من تقدمه، مثل أبي العباس عبد الله بن المعتز وغيره ممن تكلم في هذه الأنوع والألف فيها؛ أذا قد سبقوه إلى اللقب، وكفوه المؤونة. وقد رأيت قوماً من البغداديين يسمون هذا النوع المجانس الممائل، ويلحقون به الكلمة إذا تكررت وترددت، نحو قول جرير: تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا [وبابه قليل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 * وهذا باب في سوء نظمه وتعقيد ألفاظ نسجه، ووحشي ألفاظه وما أكثر ما تراه من ذلك، وتجده في شعره، وأظنه سمع ما روى عن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه في زهير بن أبي سلمى لما قال فيه: كان لا يعاظل بين الكلا، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح رجلا إلا بما في الرجال، فلم يرتضى هذا لشعره، وأحب أن يثتكثر بما ذمه وعابه. وقد فسر أهل العلم هذا من قول عمر، وذكروا معنى المعاظلة، وهي: مداخلة الكلام بعضه في بعض، وركوب بعضه لبعض، من قولك: تعاظل الجراد، وتعاظلت الكلاب، ونحوهما مما يتعلق بعضه ببعض عند السفاد، وأكثر ما يستعمل في هذين النوعين، وكذلك فسروا حوشي الكلام، وهو الذي لا يتكرر في كلام العرب كثيراً؛ فإذا ورد ورد مستهجناً. وقالوا في معنى قوله " وكان لا يمدح الرجل إلا بما يكون في الرجال " أراد أنه لا يمدح السوقة بما يمدح به الملوك، ولا يمدح التجار وأصحاب الصناعات بما يمدح به الصعاليك والأبطال وحملة السلاح؛ فإن الشاعر إذا فعل ذلك فقد وصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 كل فريق بما ليس فيه، فذكروا هذه الجمل، ثم مثلوا لها أمثلة تزيد ما قاله عمر رضي الله عنه وضوحاً وبياناً، إلا أبو افرج قدامه بن جعفر فإنه ذكر ذلك في كتابه المؤلف في نقد الشعر ومثل له أمثلة المعاظلة غلطا قبيحاً، وقد ذكرت ذلك في كتابٍ بينت فيه جميع ما وقفت عليه من سهوة وغلطه. وأنا أذكر ههنا ما إليه قصدت من سائر ما في شعر أبي تمام م هذه الأنواع فإنها كثيرة، وأورد من كل نوع قليلا، فيستدل به على الكثير؛ فأقول: إن من المعاظلة التي قد لخصت معناها في الكتاب على قدامة شدة تعليق الشاعر ألفاظ البيت بعضها ببعض، وأن يداخل لفظة من أجل لفظة تشبهها أو تجانسها، وإن اختل المعنى بعض الاختلال. 1 - وذلك كقول أب يتمام: خان الصفاء أخٌ خان الزمان أخاً ... عنه فلم يتخون جسمه الكمد فانظر إلى أكثر ألفاظ هذا البيت، وهي سبع كلمات آخرها قوله " عنه " ما أشد تشبث بعضها ببعض، وما أقبح ما اعتمده من إدخال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ألفاظ في البيت من أجل ما يشبهها، وهو " خان " و " خان " و " يتخون " وقوله " أخ " و " اخا " فإذا تأملت المعنى - مع ما أفسده من اللفظ - لم تجد له حلاوة، ولا فيه كبير فائدة؛ لأنه يريد خان الصفاء أخٌ خان الزمان أخاً من أجله إذا لم يتخون جسمه الكمد. 2 - وكذلك قوله: يا يوم شرد يوم لهوى لهوه ... بصبابتي، وأذل عز تجلدي فهذه الألفاظ إلى قوله " بصبابتي " كأنها سلسلة، من شدة تعلق بعضها ببعض، وقد كان أيضا استغنى عن ذكر اليوم في قوله " يوم لهوى "؛ لأن التشريد إنما هو واقع بلهوه، فلو قال " يا يوم شرد لهوى " لكان أصح في المعنى من قوله: " يا يوم شرد يوم لهوى " وأقرب في اللفظ؛ فجاء باليوم الثاني من أجل اليوم الأول، وباللهو الثاني من أجل اللهو الذي قبله، ولهو اليوم أيضاً بصبابته هو أيضا من وساوسه وخطائه، ولا لفظ أولى بالمعاظلة من هذه الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 3 - ونحو قوله أيضا: يومٌ أفاض جوى أغاض تعزيا ... خاض الهوى بحرى حجاه المزبد فجعل اليوم أفاض جوى، والجوى أغاض تعزيا، والتعزى موصولا به " خاض الهوى " إلى آخر البيت؛ وهذا غاية ما يكون من التعقيد والاستكراه، مع أن " أفاض " و " أغاض " و " خاض " ألفاظ أوقعا في غير موضعها، وأفعال غير لائقة بفاعلها، وإن كانت مستعارة؛ لأن المستعمل في هذا أن يقال: قد علم ما بفلان من جوى، وظهر ما يكتمه من هوى، وبان عنه العزاء، وذهب عنه العظاء والتعزي، فأما أن يقال: فاض الجوى، أو أفيض، أو غاض، أو غيض: فإنه - وإن احتمل ذلك على سبيل الاستعارة - قبيحٌ جداً، وكذلك خوض الهوى بحر التعزي معنىً في غاية البعد والهجانة، ثم اضطر إلى أن قال " بحري حجاه المزيد " فوحد المزبد، وخفضه، وكان وجهه أن يقول " المزبدين " صفة للبحرين؛ فجعله صفة للحجى، ويقال: إنه أراد ببحري حجاه المزيد قلبه ودماغه؛ لأنهما موطنان للعقل، وذلك محتمل؛ إلا أنه جعل المزبد وصفا للحجى، ولا يوصف العقل بالإزباد، وإنما يوصف به البحر، وهذا وإن كان يتجاوز في مثله فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 إلى الوجه الأردأ عدل به، وجنب الطريق عن الوجه الوضح. فإذا تأملت شعره وجدت أكثره مبنياً على مثل هذا وأشباهه، وقد ذكرت من هذه الأمثلة من شعره ما دل على سواها. فإن قال قائل: إن هذا الذي أنكرته وذممته في البيات المتقدمة وفي هذا البيت - من شدة تشبث الكلام بعضه ببعض، وتعلق كل لفظةٍ بما يليها، وإدخال كلمة من أجل أخرى تبهها وتجانسها - هو المحمود من الكلام، وليس من المعاظلة في شيء، ألا ترى أن البلغاء والفصحاء لما وصفوا ما يستجاد ويستحب من النثر والنظم قالوا: هذا كلام يدل بعضه على بعض، وآخذ بعضه برقاب بعض. قيل: هذا صحيح من قولهم، ولم يريدوا هذا الجنس من النثر والنظم، ولا قصدوا هذا النوع من التأليف، وإنما أرادوا المعاني إذا وقعت ألفاظها في مواقعها، وجاءت الكلمة مع أختها المشاكلة لها التي تقتضي أن تجاورها بمعناها: إما على الاتفاق، أو التضاد، حسما توجبه قسمة الكلام، وأكثر الشعر الجيد هذه سبيله، ونحو ذلك قول زهير بن أبي سلمى: سئمت تكاليف الحياة، ومن يعشثمانين حولاً لا أبا لك يسأم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 لما قال " ومن يعش ثمانين حولا " وقدم في أول البيت " سئمت " اقتضى أن يكون في آخره " يسأم " وكذلك قوله أيضاً: الستر دون الفاحشات، وما ... يلقاك دون الخير من ستر فالستر الأول اقتضى الستر الثاني، وكذلك قوله: ومن لا يقدم رجله مطمئنة ... فيثبتها في مستوى الأرض تزلق لما قال " ومن لا يقدم رجله مطمئنة " اقتضى أن يأتي في آخر البيت " تزلق " وكذلك قول امرئ القيس: ألا إن بعد العدم للمرء قنوةً ... وبعد المشيب طول عمر وملبسا اقتضى " العدم " في البيت أن يأتي بعده " قنوة " وكذلك اقتضى قوله: " وبعد المشيب " قوله " طول عمر وملبسا " وكذلك قوله: فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تقصدوا لدم نقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 كل لفظة تقتضي ما بعدها. فهذا هو الكلام الذي يدل بعضه على بعض، وياخذ بعضه برقاب بعض؛ إذا أنشدت صدر البيت علمت ما ياتي في عجزه؛ فالشعر الجيد - أو أكثره - على هذا مبني، وليست بنا حاجة إلى الزيادة في التمثيل على هذه الأبيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 [* حوشى الكلام وما يستكره من الألفاظ]: وأما قول عمر رضي الله عنه في زهير: " إنه كان لا يتتبع حوشي الكلام " فإن أبا تمام كان لعمري يتتبعه، ويتطلبه، ويتعمد إدخاله في شعره؛ فمن ذلك قوله: أهلس أليس لجاءٌ إلى هممٍ ... تغرق الأسد في آذيها الليسا ويروى " أهيس أليس " الجاد، وهذه الرواية أجود، وهي مثل: إحدى لياليك فهيسى هيسى والهلاس: السلال من شدة الهزال؛ فكان قوله " أهلس " يريد خفيف اللحم، والأليس: الشجاع البطل الغاية في الشجاعة، وو الذي لا يكاد يبرح موضعه في الحرب حتى يظفر أو يهلك؛ فهاتان لفظتان مستكرهتان إذا اجتمعتا، لم يقنع بأهلس أليس حتى قال في آخر البيت " الليسا " يريد جمع أليس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وقوله: وإن بجيريةٌ نابت جأرت لها ... إلى ذرى جلدي فاستؤهل الجلد فقال " بجيرية " " جأرت لها " وهذه الألفاظ وإن كانت معروفة مستعملة فإنها إذا اجتمعت استقبحت وثقلت، وكذلك قوله: هن البجارى يا بجير والبجارى: جمع بجرية، وهي الداهية، وقوله: بنداك يوسى كل جرحٍ يعتلى ... رأب الأساة بدردبيسٍ قنطر الدردبيس والقنطر: من أسماء الدواهي، وقوله: قدك اتئب أربيت في الغلواء وزاد هذه الألفاظ هجنة أنها ابتداء في ابتداء القصيدة، وقوله: لقد طلعت في وجه مصر بوجهه ... بلا طائرٍ سعدٍ ولا طائر كهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وإنما سمع قول بعض الهذليين: فلو كان سلمى جاره أو أجاره ... رياح بن سعدٍ رده طائرٌ كهل ووجدت في تفسير أشعار هذيل أن الأصمعي لم يعرف قوله " طائر كهل " وقال بعضهم: كهل ضخم، وما أظن أحداً قال " طائر كهل " غير هذا الهذلي، فاستغرب أبو تمم معنى الكلمة فأتى بها، وأحب أن لا تفوته؛ فمثل هذه الألفاظ لا يستعملها شاعر متقدمٌ إلا أن يأتي في جملة شعره منها اللفظة واللفظتان، وهي في شعر أبي تمام كثيرةٌ فاشية، وقد أنكر الرواة على زهير - مع ما قاله عمر رضي الله عنه " إنه كان لا يتتبع حوشي الكلام " - قوله: نقيٌ تقيٌ لم يكثر غنيمةً ... بنهكةٍ ذى قربى ولا بحقلد واستشنعوا " بحقلد " وهي اليء الخلق، ولا يعرف في شعره لفظة هي أنكر منها، وليس مجيئه بهذه اللفظة الواحدة قادحا فيما وصفه به عمر رضي الله عنه، وأكثر ما ترى هذه الألفاظ الوحشية في أراجيز الأعراب، نحو قول بعضهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أنشده أبو حاتم: فشجا جحافله جرافٌ هبلع وقول آخر: غرباً حروراً وجلالاً خرخره وأنشد الأصمعي: وآخذٌ طعم السقاء سامط ... وخائرٌ عجالطٌ عكالط إذا ذهب عن اللبن حلاوة الحليب ولم يتغير فهو سامط، وإذا خثر اللبن جداً حتى ثخن فهو عكالط، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وقول الآخر أنشده الأصمعي: وربربٍ خماص ... يأكلن من قراص وحمصيصٍ ... وقاص واس: نبتٌ متصل بعضه ببعض. وإذا كان هذا يستهجن من الأعرابي القح الذي لا يتعممل له ولا يطلبه، وإنما يأتي به على عادته وطبعه؛ فهو من المحدث - الذي ليس هو من لغته ولا من ألفاظه ولا من كلامه الذي تجري عادته به - أحرى أن يستهجن، ولهذا أنكر الناس على رؤبة استعماله الغريب الوحشي، وذلك لتأخره وقرب عهده، حتى زهد كثير من الرواة في رواية شعره إلا أصحاب اللغة والغريب. وقد ذكر أبو العباس عبد الله بن المعتز في كتابه المؤلف في سرقات الشعراء ومعانيهم، عن العنزى، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الصمد السلمي الزارع، قال: حدثني ابن عائشة، قال: قال أبو العتاهية لابن مناذر: إن كنت أردت بشعرك شعر العجاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ورؤبة فما صنعت شيئاً؛ وإن كنت أردت شعر أهل زمانك فما أخذت مأخذنا، أرأيت قولك: ومن عاداك يلقى المرمريسا أي شيء في المرمريس أعجبك؟ ووجدت أبا عبيدة ذكر في كتاب الخيل في باب ما يستدل به على جودة الفرس وهو يحضر " وبيضة مرمريس، وهمةٌ مرمريس، وهي الضخمة " وأراد ابن مناذرٍ الداهية. وقد جاء أبوتمام بالدردبيس، وهي أخت المرمريس، فقال: بنداك يوسى كل جرحٍ يعتلى ... رأب الأساة بدردبيس قنطر وهي الداهية أيضاً، وكذا القنطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 * باب ما كثر في شعره من الزحاف واضطراب الوزن وذلك هو ما قاله دعبل بن علي الخزاعي وغيره من المطبوعين: إن شعر أب يتمام بالخطب وبالكلام المنثور أشبه منه بالكلام المنظوم. فمن ذلك قوله: وأنت بمصرٍ غايتي وقرابتي ... بها، وبنو أبيك فيها بنو أبي وهذا من أبيات النوع الثاني من الطويل، ووزنه: " فعولن مفاعيلن " وعروضه وضربه مفاعلن؛ فحذف نون فعولن من الأجزاء الثلاثة الأول، وحذف الياء من مفاعيلن التي هي المصراع الثاني، وذلك كله يسمى مقبوضاً؛ لأنه حذف خامسة. وكذلك قوله من هذا النوع: كساك من الأنوار أبيض ناصع ... وأصفر فاقعٌ وأحمر ساطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 فحذف النون من آخر " فعولن " كلها، وهي أربعة، وحذف الياء من " مفاعيلن " التي في المصراع الثاني أيضاً، كما فعل في البيت قبله. ومن ذلك قوله من هذا النوع أيضاً: يقول فيسمع، ويمشي فيسرع ... ويضرب في ذات الآله فيوجع فحذف النون من " فعولن " الأول، والياء من " مفاعيلن " التي تليها، ومن " فعولن " التي هي أول المصراع الثاني، وذلك كله يسمى مقبوضاً، وهو من الزحاف الحسن الجائز، إلا أنه إذا جاء علىلتوالي والكثرة في البيت الواحد قبح جداً. وقال: لم تنتقض عروةٌ منه ولا قوةٌ ... لكن أمر بني الآمال ينتقض وهذا من النوع الأول من البسيط، ووزنه مستفعلن فاعلن، وعروضه وضربه فعلن، فزاد في عروضه حرفا فصار فاعلن؛ لأنه قال " قوة " فشدد، وذلك إنما يحسب له في أصل الدائرة لا في هذا الموضع، فإن خففها حتى تصير على وزن فعلن فيتزن البيت كان مخطئاً من طريق اللغة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ثم نقص من فاعلن الأول من المصراع الثاني الألف فصار فعلن، وهذا يسمى مخبوناً لأنه حذف ثانيه. وقال: إلى المفدى أبي يزيد الذي ... يضل غمر الملوك في ثمده وهذا من النوع الأول من المنسرح، ووزنه مستفعلن مفعولان مستفعلن مستفعلن مفعولات مستفعلن، فحذف السين من مستفعلن الأولى ومن مستفعلن التي هي أول المصراع الثاني فبقى متفعلن، وهذا ينقل إلى مفاعلن، ويسمى مخبوناً؛ لأنه حذف ثانية، وحذف الفاء من مستفعلن الأخيرة فبقى مستعلن فينقل إلى مفتعلن، ويقال ل: مطوى؛ لأنه ذهب رابعه، وحذف الواو من مفعولات الأولى ولاثانية، فصار فاعلات، ويقال له أيضاً: مطويٌ؛ فأفسد بكثرة الزحاف، وتقطيعه: إللمفد دا أبى ى زيد الذي يضللغم رلملوك فيثمده مفاعلن فاعلات مستفعلن مفاعلن فاعلات مفتعلن ثم قال في هذه القصيدة: جلة أنماره وهمدانه ... والشم من أزده ومن أدده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فحذف الفاء من مستفعلن الأولى، فعادت إلى مفتعلن، وحذف الواو من مفعولات الأولى ومفعولات الثانية فصارت فاعلات، وحذف الفاء من مستفعلن الأخيرة فصارت مفتعلن، وتقطيعه: جللتأن مارهيو همدانهى وششمممن أزدهىر منأدده مفتعلن فاعلات مستفعلن مستفعلن فاعلات مفتعلن وهذه الزحافات جائزة في الشعر غير منكرة إذا قلت، فأما إذا جاءت في بيت واحد في أكثر أجزائه فإن هذا ف ينهاية القبح، ويكون بالكلام المنثور أشبه منه بالشعر الموزون. ومن هذا النوع من المنسرح قوله: ولم يغير وجهى عن الصبغة ال ... أولى بمسفوع اللون ملتمعه وتقطيعه: ولم يغى ير وجهيع نصصبغتل أولى بمس فوعللون ملتمعه مفاعلن مفعولات مستفعلن مستفعلن مفعولات مفتعلن فحذف السين من مستفعلن الأولى فصارت مفاعلن وحذف الفاء من مستفعلن الأخيرة فصارت مفتعلن. ومثل هذه الأبيات في شعره كثير إذا أنت تتبعته، ولا تكاد ترى في أشعار الفصحاء والمطبوعين على الشعر من هذا الجنس شيئاً تم السفر الثاني من الموازنة على ما جزأه مؤلفه رحمه الله تعالى والحمد لله رب العالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 صفحة فارغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا وآله وصحبه أجمعين قال أبو القاسم الحسن بن بشرٍ الامدي: لما كنت قد خرجت مساوى أبي تمام وابتدأت بسرقاته وجب أن أبتدئ من مساوى البحتري بسرقاته؛ فإنه أخذ من معاني من تقدم من الشعراء وممن تأخر أخذاً كثيراً. وحكى أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح في كتابه أن ابن أبي طاهر أعلمه أنه أخرج للبحتري ستمائة بيتٍ مسروق، ومنها ما أخذه من أبي تمام خاصة مائة بيت. وكان ينبغي أن لا أذكر السرقات فيما أخرجه من مساوى هذين الشاعرين؛ لأنني قدمت القول في أن من أدركته من أهل العلم بالشعر لم يكونوا يرون سرقات المعاني من كبير مساوى الشعراء، وخاصة المتأخرين؛ إذ كان هذا باباً ما تعرى منه متقدم ولا متأخر، ولكن أصحاب أبي تمام ادرعوا أنه أول سابق، وأنه أصل في الابتداع والاختراع؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فوجب إخراج ما استعاره من معاني الناس؛ ووجب من أجل ذلك إخراج ما أخذه البحتري أيضاً من معاني الشعراء، ولم أستقص باب البحتري، ولا قصدت الاهتمام إلى تتبعه؛ لأن أصحاب البحتري ما ادعوا ما ادعاه أصحاب أبي تمام لأبي تمام، بل استقصيت ما أخذه من أبي تمام خاصة؛ إذ كان من أقبح المساوى أن يتعمد الشاعر ديوان رجل واحد من الشعراء فيأخذ من معانيه ما أخذه البحتري من معاني أبي تمام، ولو كان عشرة أبيات، فكيف والذي أخذه منه يزيد على مائة بيت؟ فأما مساوى البحتري - من غير السرقات - فقد دققت واجتهدت أن أظفر له بشيء يكون بإزاء ما أخرجته من مساوئ أبي تمام في سائر الأنواع التي ذكرتها، فلم أجد في شعره - لشدة تحرزه، وجودة طبعه، وتهذيه لألفاظه - من ذلك إلا أبياتاً يسيرة أنا أذكرها عند الفراغ من سرقاته، فإن مر بي شيء منها ألحقته به، إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 * سرقات البحتري 1 - قال: يخفى الزجاجة لونها فكأنها ... في الكأس قائمةٌ بغير إناء أخذه من قول علي بن جبلة حيث يقول: كأن يد النديم تدير منها ... شعاعاً لا يحيط عليه كاس 2 - وقال البحتري: كالرمح فيه بضع عشرة فقرةً ... منقادة تحت السنان الأصيد أخذه من قول بشار: خلقوا قادةً فكانوا سواءً ... ككعوب القناة تحت السنان وأخذه أبو تمام فقال: جمعت عرى أعماله بعد فرقةٍ ... إليك كما ضم الأنابيب عامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 3 - وقال البحتري: أعطيتني حتى حسبت جزيل ما ... أعطيتنيه وديعةً لم توهب أخذه من قول الفرزدق: أعطاني المال حتى قلت يودعني ... أو قلت أعطيت مالاً قد رآه لنا وبيت البحتري أجود. 4 - وقال البحتري: أرد دونك يقظاناً ويأذن لي ... عليك سكر الكرى إن جئت وسنانا أخذه من قول قيس بن الخطيم: ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه ... في النوم غير مصردٍ محسوب 5 - وقال البحتري: ملوكٌ يعدون الرماح مخاصراً ... إذا زعزعوها والدروع غلائلا وهذا مثل قول محمد بن عبد الملك الفقعسي، ولعله منه أخذه: ولا لاقياً كعب بن عمرو يقودهم ... أبو دهشم نسج الحديد ثيابها 6 - وقال البحتري: كوعول الهضاب رحن وما يم ... لكن إلا صم الرماح قرونا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وهذا من نوادر المعاني، وما عرف مثله إلا قول نصر بن حجاج بن علاط السلمى، ولعله منه أخذه: ترى غاية الخطى فوق متونهم ... كما أشرفت فوق الصوار قرونها 7 - وقال البحتري: ينال الفتى ما لم يؤمل، وربما ... أتاحت له الأقدار ما لم يحاذر أخذه من قول الآخر، وأنشده ثعلبٌ: وحذرت من أمر فمر بجانبي ... لم يلقني، ولقيت ما لم أحذر 8 - وقال البحتري: وإذا الأنفس اختلفن فما يغ ... نى اتفاق السماء والألقاب أخذه من قول الفرزدق: وقد تلتقي السماء في الناس والكنى ... كثيراً، ولكن فرقوا في الخلائق 9 - وقال البحتري: لم تخط باب الدهليز منصرفاً ... إلا وخلخالها مع الشنف أخذه من قول أب ينواس: قد جمعوا آذانه وعقبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 10 - وقال البحتري: ولست أعجب من عصيان قلبك لي ... عمداً، إذا كان قلبي فيك يعصيني أخذه من قول حسين بن الصحاك الخليع: وتطمع أن يطيعك قلب سعدى ... وتزعم أن قلبك قد عصاكا! وبيت البحتري أجود. 11 - وقال محمد بن وهيب: هل الدهر إلاغمرةٌ ثم تنجلي ... وشيكاً، وإلا ضيقةٌ فتفرج أخذه البحتري فقال: هل الدهر إلا غمرةٌ وانجلاؤها ... وشيكاً، وإلا ضيقةٌ وانفراجها 12 - وقال في وصف الذئب: فأتبعتها أخرى وأضللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد وقال في هذا المعنى: قومٌ ترى أرماحهم يوم الوغى ... مشغوفةً بمواطن الكتمان أخذه من قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي: والضاربين بكل أبيض مرهفٍ ... والطاعنين مجامع الأضغان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 إلا أن قول عمرو " والطاعنين مجامع الأضغان " في غاية الجودة والإصابة؛ لأنهم إنما يطاعنون الأعداء من أجل أضغانهم، فإذا وقع الطعن موضع الضغن فذلك غاية كل مطلوب. 13 - وقال البحتري: إلى فتىً يتبع النعمى نظائرها ... كالبحر يتبع أمواجاً بأمواج أخذه من قول أبي دهبل الجمحي: وليلةٍ ذات أجراس وأروقةٍ ... كالبحر يتبع أمواجاً بأمواج وهذا إنما أراد قول امرئ القيس: وليلٍ كمج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلى 14 - وقال البحتري: محركاً رأسه توهمه ... من عطسةٍ قائماً على شرف يشبه قول الآخر: كأن أبا السمى إذا تغنى ... يحاكي عاطساً في عين شمس 15 - وقال البحتري: سقمٌ دون أعين ذات سقمٍ ... وعذابٌ دون الثنايا العذاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 أخذه من قول بشار: ذات الثنايا العذاب ... من دونهن عذاب 16 - وقال البحتري: وكان في جسمي الذي ... في ناظريك من السقم أخذه من قول منصور بن الفرج: حل في جسمك ما كا ... ن بعينيك مقيما 17 - وقال البحتري: تجد بدر الدجى يدنو بشمسٍ ... إلى من الرحيق الخسرواني أخذه من قول الخليع: قمرٌ يحمل شمساً ... من رحيق الخسرواني 18 - وقال البحتري: كأن سهيلاً شخص ظمآن جانح ... مع الأفق في نهى من الأرض يكرع أخذه من قول محمد بن يزيد الحصني السلمي يصف النجوم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 حتى إذا ما الحوت في ... حوضٍ من الدلو كرع 19 - وقال البحتري: قومٌ إذا شهدوا الكريهة صيروا ... كمم الرماح جماجم الأقران أخذه من مسلم بن الوليد حيث يقول: يكسو السيوف رؤوس الناكثين به ... ويجعل الهام تيجان القنا الذبل وأخذه مسلم من قول جرير: كان رؤوس القوم فوق رماحنا ... غداة الوغى تيجان كسرى وقيصرا 20 - وقال البحتري: ولم لا أغالي بالضياع وقد دنا ... على مداها واستقام اعوجاجها إذا كان لي ترييعها واغتلالها ... وكان عليكم عشرها وخراجها أظنه - والله أعلم - حذا على قول شبيب بن البرصاء: ترى إبل الجار الغريب كأنما ... بمكة بين الأخشبين مرادها يكون عليه نقصها وضمانها ... وللجار، إن كانت تزيد، ازديادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 21 - وقال أبو صخر الهذلي: أغر أسيديٌ تراه كأنه ... إذا جد يعطى ماله وهو لاعب أخذه البحتري فقال: وادعٌ يلعب بالدهر إذا ... جد في أكرومةٍ قلت هزل 22 - وقال عبد الصمد بن المهذل: ظبيٌ كأن بخصره ... من رقة ظمأ وجوعا إني علقت لشقوتي ... يا قوم ممنوعاً منيعا أخذه البحتري فقال: من غادةٍ منعت وتمنع نيلها ... ولو أنها بذلت لنا لم تبذل فزاد على عبد الصمد بقوله لو بذلت لنا لم تبذل. 23 - وقال البحتري: سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يسلبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وهذا مثل قول الحنتف بن السجف الضبي ويجوز أن يكون أخذه منه: وفرقت بين أبني هميم بطعنةٍ ... لها عاندٌ يكسو السليب إزارا قوله " لها عاند " يريد الدم. 24 - وقال عبد الملك بن عبد الرحمن الحارثي: وإنى ليدعونى لأن أستزيدها ... فؤادى وأخشى سخطها وأهابها ونحوه قول البحترى ويجوز أن يكون أخذه منه: وعتب من حبيك حتى إننى ... أخشى ملامك أن أبثك ما بى 25 - وقال أبو نواس: بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 أخذه البحترى فقال: فكم لك فى الأموال من يوم وقعة ... طويل من الأهوال فيه عويلها 26 - وقال جابر بن السليك الهمدانى: أرمى بها الليل قدامى فيغشم بى ... إذ الكواكب مثل الأعين الحول أخذه البحترى فقال: وخدان القلاص حولا " إذا قا ... بلن حولا " من أنجم الأسحار 27 - وقال عروة بن الورد: مطلا " على أعدائه يزجرونه ... بساحاتهم زجر المنيح المشهر فإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المتنظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ألم به البحترى فقال: فترى الأعادى ما لهم شغل ... إلا توهم موقع يقعه 28 - وقال البحترى: على نحت القوافى من مقاطعها ... وما على إذا لم تفهم البقر ذكر على بن يحيى المنجم أن البيت للمجثم الراسبى وكان شاعرا " اتصل بمحمد بن منصور بن زياد فككسب معه ألف درهم فلما مات اتصل بمحمد بن يحيى بن خالد البرمكى فأساء صحبته فهجاه فقال: شتان بين محمد ومحمد ... حى أمات وميت أحيانى فصحبت حيا فى عطايا ميت ... وبقيت مشتملا " على الخسران فهذا ما مر بى من سرقة البحترى من أشعار الناس على غير تتبع فخرجتها ولعلى لواستقصيتها لكانت نحو ماخرجته من سرقات أبى تمام وتزيد عليها وعلى أننى قد بيضت فى آخر الكتاب فمهما مر بى شىْ ألحقته به إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وهذا ما أخذه البحتري من معاني أبي تمام خاصة مما نقلته من صحيح ما خرجه أبو الضياء بشر بن تميم الكاتب ؛ لأنه استقصى ذلك استقصاء بالغ فيه حتى تجاوز إلى ما ليس بمسروق، فكفانا مؤونة الطلب. 1 - قال أبو تمام: فسواءٌ إجابتي غير داعٍ ... ودعائي بالقفر غير مجيب فقال البحتري: وسألت مالا يستجيب، وكنت في اس ... تخباره كمجيب من لا يسأل 2 - وقال أبو تمام: فكادج بأن يرى للشرق شرقاً ... وكاد بأن يرى للغرب غربا فقال البحتري: فأكون طوراً مشرقاً للمشرق ال ... أقصى، وطوراً مغرباً للمغرب 3 - وقال أبو تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فقال البحتري: ولن تستبين الدهر موضع نعمةٍ ... إذا أنت لم تدلل عليها بحاسد 4 - وقال أبو تمام: فإن تكن وعكةٌ قاسيت سورتها ... فالورد حلفٌ لليث الغابة الأضم إن الرياح إذا ما أعصفت ... عيدان نجدٍ ولم يعبأن بالرتم فقال البحتري: فلست ترى شوك القتادة خائفاً ... سموم الرياح الآخذات من الرند ولا الكلب محموماً وإن طال عمره ... ألا إنما الحمى على الأسد الورد 5 - وقال أبو تمام: رأيت رجائي فيك وحدك همةً ... ولكنه في سائر الناس مطمع فقال البحتري: ثنى أملى فاحتازه عن معاشرٍ ... يبيتون والآمال فيهم مطامع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 6 - وقال أبو تمام: بمحمدٍ ومسودٍ ومحسدٍ ... ومكفرٍ وممدحٍ ومعذل فقال البحتري: ذاك المحمد والمسو - د والمكرم والمحسد 7 - وقال أبو تمام: وقد قرب المرمى البعيد رجاؤه ... وسلت الأرض العزاز ركائبه فقال البحتري: أدار رجاه فاغتدى جندل الفلا ... تراباً، وقد كان التراب جنادلا 8 - وقال أبو تمام: رافعٌ كفه لسبرى فما أح ... سبه جاءني لغير اللطام فقال البحتري: ووعدٌ ليس يعرف من عبوس ان - قباضهم أوعدٌ أم وعيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 9 - وقال أبو تمام: ونغمة معتفٍ جدواه أحلى ... على أذنيه من نغم السماع فقال البحتري: نشوان من طرب السوال كأنما ... غناه مالك طيءٍ أو معبد 10 - وقال أبو تمام: ومجربون سقاهم من بأسه ... فإذا لقوا فكأنهم أغمار فقال البحتري: ملكٌ له في كل يوم كريهةٍ ... إقدام غرٍ واعتزام مجرب 11 - وقال أبو تمام: لا المنطق اللغو يزكو في مقامه ... يوماً، ولا حجة الملهوف تستلب فقال البحتري: إن أغفلوا حجةً لم يلف مسترقاً ... لها، وإن يهموا في القول لم يهم 12 - وقال أبو تمام: مجدٌ رعى تلعات الدهر وو فتى ... حتى غدا الدهر يمشي مشية الهرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فقال البحتري: صحبوا الزمان الفرط، إلا أنه ... هرم الزمان وعزهم لم يهرم 13 - وقال أبو تمام: كريمٌ متى أمدحه والورى ... معي، وإذا ما لمته لمته وحدي فقال البحتري: أأشكو نداه بعد أن وسع الورى ... ومن ذا يذم الغيث إلا مذمم 14 - وقال أبو تمام: البيد والعيس والليل التمام معاً ... ثلاثةٌ أبداً يقرن في قرن فقال البحتري: أطلبا ثاثاً سواي فإني ... رابع العيس والدجى والبيد 15 - وقال أبو تمام: وما نفع من قد باي بالأمس صادياً ... إذا ما السماء اليوم طال انهمارها فقال البحتري: واعلم بأن الغيث ليس بنافعٍ ... للناس ما لم يأت في إبانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 16 - وقال أبوتمام: تكاد مغانيه تهشّ عراصها ... فتركب من شوقٍ إلى كلّ راكب فقال البحتري: ولو أنّ مشتاقا تكلّف غير ما ... فيوسعه لمشى إليك المنبر 17 - وقال أبو تمام: وكيف احتمالىللّسحاب صنيعةً ... بإسقائها قبراًوفي لحده البحر فقال البحتري: ملآن من كرمٍ؛ فليس يضّره ... مرّ السّحاب عليه وهو جهام 18 - وقال أبو تمام: فليشكروا جنح الظّلام ودروزاً ... فهم لدروز والظّلام موالى فقال البحتري: نجا وهو مولى الرّيح يشكر فضلها ... عليه، ومن يول الصّنيعة يشكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 19 - وقال أبو تمام: أنت المقيم فما تعدو رواحله ... وعزمه أبداً منه على سفر فقال البحتري: مسافرٌ ومطاياه محللةٌ ... غروضها، ومقيمٌ وهو مر تحل 20 - وقال أبو تمام: وسرّف العليا، وهل بك مذهبٌ ... عنهاوأنت علىلمكارم قيّم؟ فقال البحتري: متقلقل العزمات في طلب العلا ... حتّىيكون على المكارم قيمّا 21 - وقال أبو تمام: فلم يجتمع شرقٌ وغربٌ لقاصدٍ ... ولا المجد في كف امرئ والرام فقال البحتري: ليفر وفرك الموفى وإن أع ... وز أن يجمع الندى ووفوره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 22 - وقال أبو تمام: فوفرت يافوخ الجبان على الردى ... وزدت غداة الروع في نجدة النجد فقال البحتري: ويغدو ونجدته في الوغى ... تدرب نجدات فرسانه 23 - وقال أبو تمام: ما زال وسواسي لعقلي خادعاً ... حتى رجا مطراً وليس سحاب فقال البحتري: وعجيبٌ أن الغيوم يرجي ... هن من لا يرى مكان الغيوم 24 - وقال أبو تمام: بكل صعب الذرى من مصبٍ يقظٍ ... أقام متئداً أن سار معتزما فقال البحتري: لايبرح الحزم يستوفى صريمته ... أقام متئداً أم سار معتزما 25 - وقال أبو تمام: لرددت تحفته عليه وإن علت ... عن ذاك واستهديت بعض خصاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وقال أبو تمام أيضاً: وانفح لنا من طيب خيمك نفحةً ... إن كانت الأخلاق مما توهب فقال البحتري: لا تسل ربك الكثير وسله ... خصلةً تستفيدها من خصاله 26 - وقال أبو تمام: غريبةٌ تؤنس الآداب وحشتها ... فما تحل على قومٍ وترتحل فقال البحتري: ضوارب في ألافاق ليس بنازحٍ ... بها من محلٍ أوطنته ارتحالها 27 - وقال أبو تمام: كأنما خارمه أولقٌ ... أو غازلت هامته الخندريس فقال البحتري: وتخال ريعان الشباب يروعه ... من جنةٍ أو نشوةٍ أو أفكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 28 - وقال أبو تمام: حمدٌ حبيت به وأجرٌ حلقت ... من دونه عنقاء ليلٍ مغرب فقال البحتري: فأنت تصيب الحمد حيث تلألأت ... كواكبه إن أنت لم تصب الأجرا 29 - وقال أبو تمام: تدعي عطاياه وفراً وهي إن شهرت ... كانت فخاراً لمن يعفوه مؤتنفا فقال البحتري: وإذا اجتداه المجتدون فإنه ... يهب العلى في سيبه الموهوب 30 - وقال أبو تمام: وتلبس أخلاقاً كراماً كأنها ... على العرض من فرط الحصانة أدرع فقال البحتري: قومٌ إذا لبسوا الدروع لموقفٍ ... لبسوا من الأحساب فيه دروعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 31 - وقال أبو تمام: لما أظلتني غمامك أصبحت ... تلك الشهود على وهي شهودي فقال البحتري: ومعترضون إن حاولت أمراً ... بهم شهدوا على وهم شهودي 32 - وقال أبو تمام: أنضرت أيكتي عطاياط جتى ... صار ساقاً عودي وكان قضيبا فقال البحتري: حتى يعود الذئب ليثاً ضيغماً ... والغصن ساقاً والقرارة نيقا 33 - وقال أبو تمام: فما تصطاد غير الصيد فقال البحتري: وتصطاد الفوارس صيدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 34 - وقال أبو تمام: الآن حين غرست في كرم الندى ... تلك المنى وبنيت فوق أساس فقال البحتري: غفل الرجال بنوا على جدد الثرى ... لما بنوا، وبنيت فوق أساس 35 - وقال أبو تمام: فعلام الصدود من غير جرمٍ ... والصدود الفراق قبل الفراق فقال البحتري: على أن هجران الحبيب هو النوى ... لدى، وعرفان المشيب هو العذل 36 - وقال أبو تمام: وفتىً إذا جنف الزمان فما يرى ... إلا إلى عزماته يتظلم فقال البحتري: ولو أنصفتني سر مراءٌ لم أكن ... إلى العيس من قطانها أتظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 من دوحة الكلم الذي لم ينفكك ... وقفاً عليك رصينه محبوساً فقال البحتري: ولك السلامة والسلام؛ فإنني ... غادٍ، وهن على علاك حبائس 38 - وقال أبو تمام: وكذاك لم تفرط كآبة عاطلٍ ... حتى يجاورها الزمان بحال فقال البحتري: وقد زادها إفراط حسنٍ جوارها ... خلائق أصفارٍ من المجد خيب 39 - وقال أبو تمام: وما العرف بالتسويف إلا كخلةٍ ... تسليت عنها حين شط مزارها فقال البحتري: وكنت وقد أملت مراً لحاجتي ... كطالب جدوى خلةٍ لا تواصل 40 - وقال أبو تمام: آساد موتٍ مخدراتٌ ما لها ... إلا الصوارم والقنا آجام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فقال البحتري: حشدت حولها سباع الموالي ... والعواي غابٌ لتلك السباع 41 - وقال أبو تمام: ولاذت بحقويه الخلافة، والتقت ... على خدرها أرماحه ومناصله فقال البحتري: لاذت بحقويه الخلافة؛ إنها ... قسمٌ لأفضل هاشمٍ فالأفضل 42 - وقال أبو تمام: قد جاءنا الرشأ الذي أهديته ... خرقاً، ولو شئنا لقلنا المركب فقال البحتري: حملت عليه في سبيل فتوةٍ ... هي الثغر خلف المجدبل تفضل الثغرا 43 - وقال أبو تمام: وقد تألف العين الدجى وهو قيدها ... ويرجى شفاء السم والسم قاتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فقال البحتري: ويحسن دلها والموت فيه ... وقد يستحسن السيف الصقيل 44 - وقال أبو تمام: أورقت لي وعداً وثقت بنجحه ... بالأمس، إلا أنه لم يثمر فقال البحتري: والوعد كالورق الجنى تأودت ... منه الغصون ونجحه أن يثمرا 45 - وقال أبو تمام: إنّ الهلال إذارأيت نموّه ... أيقنت أن سيكون بدراً كاملاً فقال البحتري: مثل الهلال بدا؛ فلم يبرح به ... صوغ الليالي فيه حتّىقمرا 46 - وقال أبو تمام: نرمى بأشباحنا إلى ملكٍ ... نأخذ من ماله ومن أدبه فقال البحتري: نغدو فإمّا استمحنا من مواهبه ... فضلاً، وإما استفدنا منه آداب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 47 - وقال أبو تمام: وما خير برقٍ لاح في غير وقته ... ووادٍ غدات ملآن قبل أوانه فقال البحتري: واعلم بأن الغيث ليس بنافعٍ ... للناس ما لم يأت في إبانه 48 - وقال أبو تمام: لا يكرم النائل المعطى وإن أخذت ... به الرغائب حتى يكرم الطلب فقال البحتري: علمتني الطلب الشريف، وإنما ... كنت الوضيع من اتضاع مطالبي 49 - وقال أبو تمام: أرسى بناديك الندى، وتنفست ... نفسا بعقوتك الرياح ضعيفا فقال البحتري: راحت لأربعك الرياح ضعيفةً ... وأصاب مغناك الغمام الصيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 50 - وقال أبو تمام: الود للقربى ولكن رفده ... للأبعد الأوطان دون الأقرب فقال البحتري: بل كان أقربهم من سيبه سيباً ... من كان أبعدهم من جذمه رحما 51 - وقال أبو تمام: شرخٌ من الشرف المنيف يهزه ... هز الصفيحة شرخ غمرٍ مبقل فقال البحتري: أدركت ما فات الكهول من الحجى ... في عنفوان شبابك المستقبل 52 - وقال أبو تمام: بعثن الهوى في قلب من ليس هائماً ... فقل في فؤادٍ رعنه وهو هائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فقال البحتري: فبعثن وجداً للخلى، وزدن في ... برحاء وجد الهائم المستهتر 53 - وقال أبو تمام: غرةٌ بهمةٌ، ألا إنما كن ... ت أغرا أيام كنت بهيما فقال البحتري: عجبت لتفويف القذال، وإنما ... تفويفه لء كان غير مفوف 54 - وقال أبو تمام: وما زالت تجد أسى وشوقا " ... له وعليه أخلاق الرسوم فقال البحترى: فهيج وجدى ربعها وهوساكن ... وجدد شوقى رسمها وهومخلق 55 - وقال أبو تمام: تراه يذب عن حرم المعالى ... فتحسبه يدافع عن حريم فقال البحترى: حامى عن المكرمات مجتهدا " ... ذب المحامى عن ماله ودمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 56 - وقال أبو تمام: تنصل ربها من غير جرم ... إليك سوى النصيحة والوداد فقال البحترى: أقر بما لم أجنه متنصلا " ... إليك على أنى إخا لك ألوما 57 - وقال أبو تمام: وتند عندهم العلى إلا على ... جعلت لها مرر القصيد قيودا فقال البحترى: والمجد قد يأبق عن أهله ... لولا عرى الشعر الذى قيده 58 - وقال أبو تمام: شك حشاها بخطبة عنن ... كأنها منه طعنة خلس فقال البحترى: فرجت جونتها بخطبة فيصل ... مثل لها فى الروع طعنة فيصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 59 - وقال أبو تمام: جم التواضع والدنيا بسودده ... تكاد تهتز من أقطارها صلفا فقال البحترى: أبدى التواضع لما نالها رعة ... عنها، ونالته فاختالت به تيها 60 - وقال أبو تمام: إذا أطلقواعنه جوامح غله ... تيقن أن المن أيضا " جوامح فقال البحترى: وفى عفوه لو يعلمون عقوبة تقعقع فى الأعراض إن لم يعاقب 61 - وقال أبو تمام: قصر ببذلك عمر وعدك تجولى ... شكرا " يعمر عمر سبعة أنسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فقال البحترى: وجعلت فعلك تلو وعدك قاصرا " ... عمر العدو به وعمر الموعد 62 - وقال أبو تمام: دعا شوقه يا ناصر الشوق دعوة ... فلباه طل الدمع يجرى ووابله فقال البحترى: نصرت له الشوق اللجوج بعبرة ... تواصل فى أعقاب وصل تصرما 63 - وقال أبوتمام: من ليلة فى وبلها ليلاء ... فلو عصرت الصخر صار ماء فقال اليحترى: أشرقن حتى كاد يقتبس الدجى ... ورطبن حتى كاد يجرى الجندل 64 - وقال أبو تمام: بر بدأت به ودار بابها ... للخلق مفتوح ووجه مقفل فقال البحترى: إلام بابك معقود على خلق ... وراءه مثل مد النيل محلول هذا ما أخذه البحترى من أبى تمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ولعل قائلاً يقول: إني قد تجاوزت فى هذا الباب، وقصرت، ولم تستقص جميع ما خرجه أبو الضياء بشر بن تميم من المسروق، وليس الأمر كذلك، بل قد استوفيت جميعه، فأوضحت، وسامحت بأن ذكرت مالعله لا يكون مسروقا "، وإن اتفق المعنيان أو تقاربا، غير أنى اطرحت سائر ماذكره أبو الضياء بعد ذلك لأنه لم يقنع بالمسروق الذى يشهد التأمل الصحيح بصحته، حتى تعدى ذلك إلى التكثير، وإلى أن أدخل فى الباب ما ليس منه، بعد أن قدم مقدمة افتتح بها كلامه. وقال: ينبغي لمن نظر في هذا الكتاب أن لا يعجل بأن يقول: ما هذا مأخوذ من هذا، حتى يتأمل المعنى دون اللفظ، ويعمل الفكر فيما خفى، فإنما السرق في الشعر ما نقل معناه دون لفظه، وأبعد آخذه في أخذه. قال: ومن الناس من يبعد هنه إلا عن مثل بيت ارمئ القيس وطرفة حين لم يختلفا إلا في القافية، فقال أحدهما " وتحمل " وقال الآخر " وتجلد ". قال: وفي الناس طبقة أخرى يحتاجون إلى دليلٍ من اللفظ مع المعنى، وطبقة يكون الغامض عندهم بمنزلة الظاهر، وهم قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فجعل هذه المقدمة توطئةً لما اعتمده من الإطالة والحشد، وأن يقبل منه كل ما يورده، ولم يستعمل مما وصى به - من التأمل وإعمال الفكر - شيئاً، ولو فعل ذلك لرجوت أن يوفق لطريق الصواب؛ فيعلم أن السرق إنما هو في البديع المخترع الذي يختص به الساعر، لا في المعاني المشتركة بين الناس التي هي جارية في عاداتهم، ومستعملة في أمثالهم ومحاوراتهم، مما ترتفع الظنة فيه عن الذي يورده أن يقال: أخذه من غيره. غير أن أبا الضياء استكثر من هذا الباب، وخلط به ما ليس من السرق في شيء، ولا بين المعنيين تناسبٌ ولا تقارب، وأتى بضربٍ آخر ادعى فيه أيضاً السرق والمعاني مختلفة؛ وليس فيه إلا اتفاق ألفاظ ليس مثلها مما يحتاج واحد أن يأخذه من آخر؛ إن كانت الألفاظ مباحةً غير محظورة، فبلغ غرضه في توفير الورق وتعظيم حجم الكتاب. وأنا أذكر في كل بابٍ من هذه الأبواب أمثلة تدل على صحة ما ذكرناه، ونجعلها قياساً على ما لم نذكره؛ فإن في البعض غنى عن الإطالة بذكر الكل. 1 - فمما أورده أبو الضباء من المعاني المستعملة الجارية مجاري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 الأمثال وذكر أن البحتري أخذه من أبي تمام قول أبي تمام: جرى الجود مجرى النوم منه؛ فلم يكن ... بغير سماحٍ أو طعانٍ بحالم وقال البحتري: ويبيت يحلم بالمكارم والعى ... حتى يكون المجد جل منامه وهذا الكلام موجود في عادات الناس، ومعروف في معاني كلامهم، وجارٍكالمثل علىلسنتهم، بأن يقولوا لمن أحبّ شيئاًأو استكثر منه: فلان لايحلم إلا بالطعام، وفلان لايحلم إلا بفلانه من شدة وجده بها، وهذا الزنحبى ما حلمه إلا بالتمر؛ ولا يقال لمن كانت هذه سبيله: سرق، وإنما يقال له: اتفاق؛ فإن كان واحد سمع هذا المعنى أو مثله من آخر فاحتذاه فإنما ذكر معنى قد عرفه واستعمله، لا أنه أخذه سرقة. 2 - وأنشد لأبي تمام: إذا القصائد كانت من مدائحهم ... يوماً فأنت لعمري من مدائحها فذكر أن البحتري أخذه فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ومن يكن فاخراً بالشعر يذكر في ... أضعافه فبك الأشعار تفتخر وهذا غلط على البحتري؛ لأن الناس لا يزالون يقولون: فلان يزين الثياب ولا تزينه، ويجمل الولاية ولا تجمله، وفلانة تزيد في حسن الحلى ولا يزيد في حسنها، وفلان تفتخر به الأنساب ولا يفخر بها، وهذا ليس من المعاني التي يجوز أن يدعى أحد من الناس أنه ابتدعها واخترعها أو سبق إليها، ولا يجوز أن يكون مثل هذا - إذا اتفق فيه خطيبان، أو شاعران - أن يقال: إن أحدهما أخذه من الآخر. 3 - وأنشد لأبي تمام: ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام وذكر أن البحتري أخذه فقال: وأيامنا فيك اللواتي تصرمت ... مع الوصل أضغاثٌ وأحلام نائم وكأنه ما سمع الناس يقولون: ماكان الشباب إلا حلماً، وما كانت أيامه إلا نومة نائم، وما أشبه ذلك من اللفظ، فكيف يجوز أن يكون ذلك مسروقاً؟ 4 - وذكر أن من ذلك قول أب يتمام: قد يقدم العير من دعرٍ على الأسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وقول البحتري: فجاء مجيء العير قادته حيرةٌ ... إلى أهرت الشدقين تدمى أظافره أو لم يسمع ما هو كالمجمع عليه من أن العير إذا رأى السبع أقبل إليه من شدة خوفه منه، حتى صار مثلا يتمثل به، كما يتمثل بالفراشة إذا تهافتت في الناء، وفي ذلك أمثال وأشعار كثيرة، فما أظن علمها سقط عن البحتري. 5 - ومن ذلك قول أبي تمام: هيهات لم يعلم بأنك لو ثوى ... بالصين لم تبعد عليك الصين وقول البحتري: يضحى مطلا على الأعداء لو وقعوا ... في الصين في بدها ما استبعد الصينا وهذا جار على أفواه العامة والخاصة والنساء والصبيان أن يضربوا المثل ف يالبعد بالصين، وأن يوقعوا التهديد به؛ فيقولوا: لو أنك بالصين لما بعدت على، فكيف لا يهتدي البحتري إلى مثل هذا؟ 6 - ومن ذلك قول أب يتمام: كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وقول البحتري: فإذا لقيتهم فموكب أنجمٍ ... زهرٍ وعبد الله بدر الموكب وهذا معنى متقدم مبتذل: جاء به النابغة وغيره، وكثر على الألسن حتى صار أشهر من كل مشتهر، وبيت أب يتمام خاصة فإنما سرقة على سياقه من مريم بنت طارق ترثي أخاها: كنا كأنجم ليلٍ بينها قمرٌ ... يجلو الدجى فهوى من بيننا القمر أو من قول جرير يرثي الوليد بن عبد الملك: أمسى بنوه وقد جلت مصيبتهم ... مثل النجوم هوى من بينها القمر 7 - ومن ذلك قول أبي تمام: همةٌ تنطح النجوم وجدٌ ... آلفٌ للحضيض فهو حضيض وقل البحتري: متحيرٌ يغدو بعزمٍ قائمٍ ... في كل نائبةٍ وجدٍ قاعد وهذان المعنيان جنسهما واحد، ولفظهما مختلف، وهما شائعان في الكلام، وجاريان في الأمثال، يقال: فلان علي الهمة، وهمته في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 الثريا وحاله في الحضيض، وفلان يسامي بهمته النجم ولكن قعد به حظه، ونحو هذا من اللفظ؛ فليس يجوز أن يعتور هذا المعنى شاعران فيقال: أحدهما أخذه من الآخر. 8 - ومن ذلك قول أب يتمام: وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوفٍ على ترح الوداع وقول البحتري: ما لشيء بشاشةٌ بعد شيءٍ ... كتلاق مواشكٍ بعد بين وهذا معنى مستفيض معروف، ومنه قول الحجاج بن يوسف: لولا فرحة الأوبات لما عذبتهم إلا بالأسفار، وغرض كل واحد من هذين الشاعرين في هذين البيتين مخالف لغرض صاحبه؛ لأن أبا تمام ذكر أنه لا يفرح بالقدوم إلا من شجاه وأحزنه التوديع، وأراد البحتري أنه ليس شيء من المسرة والجذل إذا جاء في أثر شيء ما كالتلاقي بعد التفرق؛ فليس - وإن كان جنس المعنيين واحداً - يصح أن يقال: إن أحدهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 أخذ من الآخر؛ لأن هذا قد صار جارياً في العادات وكثيراً على الألسن؛ فالتهمة ترتفع عن أن يأخذ أحد عن آخر. 9 - ومن ذلك قول أبي تمام: لهم نشبٌ، وليس لهم سماحٌ ... وأجسامٌ، وليس لهم قلوب وقول البحتري: خلقٌ ممثلةٌ بغير خلائقٍ ... ترجى، وأجسامٌ بلا أرواح وهذا الكلام أيضاً هو أعرف في كلامهم وأشهر من أن يحتاج شاعرٌ أن يأخذه من الآخر، وهم دائماً يقولون: ما فلان إلا شبحٌ من الأشباح، وما هو إلا صورة في حائط، أو جسدٌ فارغ؛ ونحو هذا من القول الشائع المشتهر. 10 - ومن ذلك قول أبي تمام: لا تدعون نوح بن عمرو دعوةً ... للخطب إلا أن يكون جليلا وقول البحتري: يا أبا جعفرٍ! وما أنت بالمد - عو إلا لكل أمرٍ كبار ونسى قول الناس: اختر لعظيم الحوائج العظيم من الناس، ولكبير الأمور كبيرهم، وقال رجل لابن عباس: إن لي إليك حاجةً صغيرة، فقال: اطلب لها رجلا صغيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 11 - ومن ذلك قول أبي تمام: بيضٌ فهن إذا رمقن سوافراً ... صورٌ، وهن إذا رمقن صوار وقول البحتري: أنى لحظت فأنت جوذر رملةٍ ... وإذا صددت فأنت ظبي كناس وهذا تسبيه أعين النساء بأعين البقر، وتمثيلهن بالصوار، وبالظباء؛ وجل كلام العرب عليه يجري، فلا تكون الشعراء فيه إلا متفقين. 12 - ومن ذلك قول أبي تمام: ولقد جهدتم أن تزيلوا عزه ... فإذا أبانٌ قد رسا ويلملم وقول البحتري: ولن ينقل الحساد مجدك بعدما ... تمكن رضوى واطمأن متالع وهذا المعنى أيضاً شائع من معانيهم، وكثير من أشعارهم، ومنه قول الفرزدق: فادفع بكفك إن أردت بناءنا ... ثهلان ذا الهضبات، هل يتحلحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وقوله يخاطب جريرا أيضاً: فرم حضناً فانظر متى أنت ناقله أفترى البحتري ما سمع هذا من قول الفرزدق ولا من قول غيره فنقله كما سمعه أبو تمام فنقله؟ 13 - ومن ذلك قول أبي تمام: وفي شرف الحديث دليل صدقٍ ... لمختبرٍ على شرف لاقديم وقول البحتري: على أنا نوكل بالأداني ... وتخبرنا الفروع عن الأصول وهذا معنىٍ شائعٌ في الكلام أيضاً، مشهور كثير على الأفواه أن يقولوا: إن العروق عليها ينبت الشجر، ومن أشبه أباه فما ظلم، والعصى من العصية، والغصن من الشجرة، ودلت على الأم السخلة، ومثل هذا لا يكون مأخوذاً مستعاراً 14 - ومن ذلك قول أبي تمام: ولذاك قيل: من الظنون جليةٌ ... صدقٌ، وفي بعض القلوب عيون وقول البحتري: وإذا صحت الروية يوماً ... فسواء ظن امرئ وعيانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وهذا أيضاً من الأمثال المشهورة المتداولة السائرة، وهو قولهم: ظن العاقل كيقين غيره، ومن ذلك قول أوس بن حجر: الألمفي الذي يظن بك الظ ... ن كأن قد رأى وقد سمعا 15 - وقال أبوتمام: لا نجم من معشرٍ إلا وهمته ... عليك دائرةٌ يأيها القطب بقي بيت البحتري لم يذكره، وهو هذا: ودارت بنو ساسان طرا عليهم ... مدار النجوم السائرات على القطب وكأنه ما سمع قول الناس: فلان قطب هذا الأمر، وعلى فلان مدار القصة، ونحو هذا من القول الذي يستغنى الإنسان بما جرى منه في عاداته أن يستعبره من غيره. 16 - ومن ذلك قول أبي تمام: وأقل الأشياء محصول نفعٍ ... صحة القول والفعال مريض وقول البحتري: وما لمثلي في القول منك رضاً ... والقول في المجد غير محسوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وأبو تمام زعم أن رونق القول بالمواعيد لا يتحصل منه نفع إذا لم يكن فعال، وجعل الصحة ف يالقول والمرض في الأفعال مثلن في الاستعارة، والبحتري إنما ذكر أنه لا يرضى بالقول؛ لأن القول لا يحتسب به للماجد بغير فعل؛ فالغرضان مختلفان، والمعنى معنى واحد شائع جار في عادات الناس أن يقولوا: إنما زيد كلام، وإنما عمرو قول بلا فعل، ومثل هذا - مع كثرته على الألسن - لا يقال: إنه مسروق. 17 - ومن ذلك قول أبي تمام: ستر الصنيعة واستمر ملعناً ... يدعو عليه النائل المظلوم وقول البحتري: أكافرٌ منك فضل نعمى ... وستر نعمى الكريم كفر فذكر أبو تمام رجلا ذمه بستر الصنيعة، وجعله ملعناً يدعو عليه النائل المظلوم، على الاستعارة، والبحتري ذكر أن ستر النعمى كفر، وكلا اللفظين مستعملان شائعان على الألسن؛ فلا يقال لمن تكلم بأحد اللفظين: إنه استعاره من الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 18 - ومن ذلك قول أبي تمام: شهدت جسيمات العلى وهو غائبٌ ... ولو كان أيضاً شاهداً كان غائبا وقول البحتري: بشيراً لكم فيها، نذيراً لغيركم ... له شاهدٌ عن موضع الفهم غائب وهذا المعنى أيضاً جارٍ على الأفواه، ومستعمل في الكلام، تعرفه العامة كما تعرفه الخاصة، وذلك قولهم: فلان شاهد كغائب، وحاضر كمن لم يحضر، وفلان سواء والعدم. 19 - ومن ذلك قول أبي تمام: دعيني على أخلاقي الصم للتي ... هي الوفر أو سربٍ ترن نوادبه وقول البحتري: وخد القلاص يردني لك بالغنى ... في بعض ذا التطواف أو يرديني وهذان المعنيان أصلهما واحد، وهو قول امرئ القيس: نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وشهرته وكثرة استعمال الناس إياه يغنى البحتري عن أن يقال: إنه استعاره، أو أخذه. 20 - ومن ذلك قول أبي تمام: كحلت بقبح صورته فأمسى ... لا إنسان عيني في السياق وقول البحتري: شكوت قذى بعينك بات يدمى ... كأنك قد نظرت إلى طماس وهذا أيضاً من المعاني التي تمنع شهرتها وابتذال العامة والخاصة لها من أن يقال: إنها مسروقة، وإن واحداً ائتم فيها بآخر. 21 - ومما جاء به أبو الضياء على أنه مسروق، والمعنيان مختلفان ليس بينهما اتفاق ولا تناسب، قول أب يتمام: فاقسم اللحظ بيننا؛ إن في اللحظ ... لعنوان ما يجن الضمير وقال البحتري: سلامٌ وإن كان السلام تحية ... فوجهك دون الرد يكفي المسلما وأبو تمام سأل من يخاطبه أن يقبل عليه، ويجعل له قشطاً من النظر؛ فإن إدامة النظر تدل على المودة، كما أن الإعراض يدل على البغض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 والبحتري إنما سلم على الهيثم الغنوى، وذكر أن السلام تحية، وأن وجهه لجماله وطلاقته يكفي المسلم قبل رده، والمعنيان مختلفان، وليس لواحد منهما من الرقة والغرابة ما ينسب أحدهما إلى انه محذوٌ على ألآخر أو مسروق منه. 22 - ومن ذلك قول أبي تمام: ورحب صدرٍ لو أن الأرض واسعةٌ ... كوسعه لم يضق عن أهله بلد وقول البحتري: مفازة صدرٍ لو تطرق لم يكن ... ليسلكها فرداً سليك المقانب وأبو تمام ذكر أن رحب صدر الممدوح وسعته تزيد على سعة الأرض، فأسرف، وأخطأ ف يالمعنى بما قد ذكرته في باب خطائه في المعاني، والبحتري ذكر سعة صدر الممدوح، وجعل له مفازة على اللاستعارة، وذكر أنه لو تطرق لم يكن ليسلكها سليكٌ الذي لم يكن ليكبر عليه سلوك الأرض وإن عرضت وطالت، وإنما أراد جميعاً سعة صدر الممدوح، كما جرت العادة بهذا الضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 من المدح، فأفرطا، ولكن سلك كل واحد منهما معنىً غير معنى صاحبه كما ترى. 23 - ومن ذلك قول أبي تمام: إنما البشر روضةٌ؛ فإذا ما ... كان برٌ فروضةٌ وغدير وقول البحتري: فإن العطاء الجزل ما لم تحلهببشرك مثل الروض غير منور فأراد أبو تمام البشر مع البر كالروضة والغدير، وأراد البحتري أالعطاء ما لم يكن معه بشر كان كالروض غير منور؛ فليس بين المعنيين اتفاق إلا في ذكر البشر والروض، والألفاظ غير محظورة على واحد. 24 - ومن ذلك قول أبي تمام: وغني ما حورفت في طلب الغنى ... ولكنما حورفتم في المكارم فقال البحتري: إذا ابتدا بخلاء الناس عارفةً ... يتبعها المن فالمرزوق من حرما فأراد أبو تمام أنه ليس بمحدود ولا محارفٍ في ملتمساته ومطالبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ولكن الذين أملهم وطلب ما عندهم حورفوا ف يمكارمهم؛ فأحسن في المعنى واللفظ كل الإحسان؛ وأراد البحتري أن البخيل إذا امتن بمعروفه فالمرزوق من حرم ذلك المرعوف؛ فهذا المعنى غير معنى أب يتمام، وليس بينهما اتفاق ولا تقارب. 25 - ومن ذلك قول أبي تمام: إذا شب ناراً أقعدت كل قائم ... وقام لها من خوفه كل قاعد وقول البحتري: ومبجلٌ وسط الرجال، خفوفهم ... لقيامه، وقيامهم لقعوده وليس أحد المعنيين من الآخر في شيء؛ لأن أبا تمام أراد أن الممدوح إذا شب نار الحرب أقعدت كل قائم لقتاله ومنابذته: أي تزعج كل واحد خوفاً وفرقاً؛ وذلك مأخوذ من قول الفرزدق: أتاني ورحلي بالمدينة وقعةٌ ... آل تميمٍ أقعدت كل قائم وقوله " وقام لها من خوفه كل قاعد " أي: زال عن الطمأنينة والهدو والقرار فقام، وإنما يريد انزعاج الخائف؛ فجعل ذلك قياماً له، والبحتري إنما ذكر أن الرجال يخفون لقيام ممدوحه، أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 يسرعون بين يديه إذا قام، فإذا قعد قاموا إجلالا وهيبة، وأن من شأنه أن لا يجلس أحد بجلوسه وأن يكون الناس كلهم قياماً إذا جلس، والمعنيان مختلفان، وليس بينهما اتفاق إلا في ذكر القيام والقعود، والألفاظ مباحة. 26 - ومن ذلك قول أبي تمام: ورب يومٍ كأيامٍ، تركت به ... متن القناة ومتن القرن منقصفا وقول البحتري: من معركٍ ضنكٍ تخال به القنا ... بين الضلوع إذا انشنين ضلوعا وليس بين المعنيين اتفاق إلا في أن الشاعرين وصفا حال الطعن بالقنا كيف يقع؛ فذكر ذلك أن ممدوحه يقصف متن القرن ومتن القناة، وشبه هذا انطواء الرماح واعوجاجها - إذا وقعت بضلوع القوم - باعوجاج ضلوعهم، وهذا من التشبيهات الظريفة العجيبة، وهو المعنى الذي استغربه واستحسنه أبو تمام لما أنشد البحتري محمد بن يوسف القصيدة، وذلك أول اجتماعهما وتعارفهما على ما يرويه الشاميون. 27 - ومن ذلك قول أبي تمام: بين البين فقعدها، قلما يع ... رف فقدٌ للشمس حتى تغيبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وقول البحتري: فاضل بين الإخوان عسرى في ... ظلماء ليلٍ تفاضلت شهبه وليس بين المعنيين تناسبٌ؛ لأن أبا تمام ذكر أن موضع فقدها بان، وأنه قلما يعرف فقد الشمس إلا بعد غروبها، وهذا جارٍ ف يعادات الناس واستعمالهم أن يقولوا: لا يعرف فضل الإنسان حتى يفقد، ولا يعرف فضل العافية إلا عند البلية، ولا قدر الدرهم إلا عند الحاجة إليه؛ والبحتري أراد أن عسره بين له عن مراتب إخوانه، وفضل بعضهم على بعض في معونته وبره، كما يتفاضل الشهب في ظلمة الليل، وأراد بالشهب الكواكب، وهذا المعنى لطيف جداً، وليس من معاني أب يتمام في شيء. هذا، ومما دعى أبو الضياء على البحتري فيه السرق، والاتفاق في أكثر ذلك إنما هو في الألفاظ التي ليست محظورة على أحد، وقد مضى فيما قبل من هذا الباب أبيات. 28 - فمن ذلك قول أبي تمام: إن الصفائح منك قد نضدت على ملقى عظامٍ لو علمت عظام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وقول البحتري: مساعٍ عظامٌ ليس يبلى جديدها ... وإن بليت منهم رمائم أعظم فأراد أبو تمام أن عظام الرجل الذي رثاه عظام القدر، وأراد البحتري أن مساعي القوم عظام لا يبلى جديدا وإن بليت عظامهم، وليس ههنا اتفاق إلا في لفظ العظام لا غير. 29 - ومن ذلك قول أبي تمام: لا يدهمنك من دهمائهم عددٌ ... فإن أكثرهم أو جلهم بقر وقول البحتري: على نحت القوافي من مقاطعها ... وما على لهم أن تفهم البقر فأراد أبو تمام أنه لا يجب أن ينظر إلى كثرة عددهم؛ فإن أكثرهم بقر، وذكر البحتري أن عليه أن يجيد القول، وليس عليه أن تفهمه البقر، وما ههنا اتفاق إلا في لفظة البقر. 30 - ومن ذلك قول أبي تمام: لهان علينا أن نقول وتفعلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وقول البحتري: إن الخليفة ليس يرقب في لاذي ... حاولت إلا أن نقول ويفعلا والاتفاق ههنا إنما هو في القول والفعل. 31 - ومن ذلك قول أبي تمام: وما يوم زرت اللحد يومك وحده ... علينا، ولكن يوم زيدٍ وحاتم وقول البحتري: بأبيض وضاحٍ كأن قميصه ... يزر على الشيخين زيدٍ وحاتم أفترى البحتري ما سمع بذكر زيد الخيل ولا حاتم الطائي اللذين يفخر بهما اليمن كلها فيشبه ممدوحه بهما إلا من بيت أبي تمام؟ 32 - ومن ذلك قول أبي تمام: لعمرك ما كانوا ثلاثة إخوةٍ ... ولكنهم كانوا ثلاث قبائل وقول البحتري: كانوا ثلاثة أبحرٍ أفضى بهم ... ولع المنون إلى ثلاثة أقبر فجعلهم أبو تمام ثلاث قبائل، وجعلهم البحتري ثلاثة أبحر؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فليس ههنا اتفاق إلا في ذكر ثلاثة. 33 - ومن ذلك قول أبي تمام: كساك من الأنوار أبيض ناصعٌ ... وأحمر ساطعٌ وأصفر فاقع وقول البحتري: من واضحٍ يققٍٍ وأصفر فاقعٍ ... ومضرج جسدٍ وأحمر قاني أفترى البحتري لم يكن ليهتدي إلى أصفر فاقع وأحمر قانٍ لولا بيت أبي تمام؟ 34 - ومن ذلك قول أب يتمام: لولا مناشدة القربى لغادركم ... فريسة المرهفين لاسيف والقلم وقول البحتري: زنت الخلافة إشرافاً وقد حبطت ... وذدت عن حقها بالسيف والقلم وكذلك أيضاً لم يكن البحتري يهتدي إلى الجمع بين السيف والقلم لو لم يجمعهما له أبو تمام! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 8 - ومن ذلك قول أبي تمام: أبي لي نجر الغوث أن أراأم التي ... أسب بها، والنجر يشبهه النجر وقول البحتري: سيدٌ نجر المعالي نجره ... يملك الجود عليه ما ملك وقد كان يبغي لأبي الضياء أن لا يخرج مثل هذا في السرق، ولا يفضح نفسه!! 9 - ومن ذلك قول أبي تمام: متواطئو عقبيك في طلب العلى ... والمجد، ثمة تستوى الأقدام وقول البحتري: حزت العلى سبقاً، وصلى ثانياً ... ثم استوت من بعده الأقدام 10 - ومثله قول أبي تمام: في غداةٍ نهضوبةٍ كان فيها ... ناضر الروض للسحاب نديما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وقول البحتري: قد تعالت بك المروءة حتى ... قد حسبناك للسماك نديما وما يجعل مثل هذا مسروقا إلا من لا معرفة له بحلي المعاني فضلاً عن خفيها. 38 - ومن ذلك قول أبي تمام يصف الفرس: من نجل كل تليدةٍ أعراقه ... طرفٍ معم في السوابق مخول وقول البحتري: وافى الضلوع يشد عقد حزامه ... يوم اللقاء على معم مخول وما في " معم مخول " من الغرابة حتى يتلقنه البحتري من أبي تمام، على كثرته على الألسن، وقول الناس في مدح الفرس: كريم الآباء والمهات، وشريف الأنساب ونحو هذا؟ 39 - ومن ذلك قول أب يتمام: فأذرت جماناً من دموع نظامها ... على الخد إلا أن صائغها الشفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وقول البحتري: جرى في نحرها من مقلتيها ... جمانٌ يستهل على جمان فالاتفاق ههنا إنما هو في لفظ " جمان " وقول ذلك " نظامها على الخد " وقول هذا " جرى في نحرها " فلا يقتضى أن يكون أحدهما مأخوذاً من الآخر؛ لأن الدمع على الخد جريه، وإلى النحر يصل، وهذه حال لا يجهلها أحد ممن وصف الدمع. 13 - ومن ذلك قول أبي تمام: وهل للقريض الغض أو من يحوكهعلى أحدٍ إلا عليك معول وقول البحتري: وعليك سقياهم لنا إذ لم يكن ... في نوبةٍ إلا عليك معول فحظر على البحتري لفظة " معول " وحرمها عليه من أجل أن أبا تمام لفظ بها!. 14 - ومن ذلك قول أبي تمام: وإذا امرؤٌ أهدى إليك صنيعةً ... من جاهه فكأنها من ماله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وقول البحتري: حاز حمدي، وللرياح اللواتي ... تجلب الغيث مثل حمد الغيوم فمعنى أبي تمام مشترك بين الناس، وليس مخترعاً؛ لأنك أبداً تسمع قول القائل - إذا بلغ حاجته بشفاعة - أن يقول للشفيع: ما أعتد هذه إلا من الله ومنك؛ فليس لأبي تمام فيه شيء أكثر من أن عبر فيه بعبارة حسنة مكشوفة؛ فالبحتري لم يأخذ المعنى منه لأنه من العادات موجود، ولكنه أحسن في التمثيل، وأغرب وأحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 * وهذا الآن ما أخطأ فيه البحتري من المعان ي 1 - قال البحتري: ذنبٌ كما سحب الرداء يذب عن ... عرفٍ، وعرفٌ كالقناع المسبل هذا خطأ من الوصف؛ لأن ذنب الفرس - إذا مس الأرض كان عيبا، فكيف إذا سحبه، وإنما الممدوح من الأذناب ما قرب من الأرض ولم يسمها، كما قال امرؤ القيس: بضافٍ فويق الرض ليس بأعزل فقال " فويق الأرض " أي: فوق الأرض بقليل. وقد عيب على امرئ القيس قوله: لها ذنبٌ مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وما أرى العيب لحق امرأ القيس في هذا؛ لأن العروس إذا كانت تسحب ذيلها، وكان ذنب الفرس إذا مس الأرض فهو عيبٌ؛ فليس ينكر أن يشبه الذنب به إن لم يبلغ أن يمس الأرض؛ لأن الشيء إنما يشبه بالشيء إذا قرب منه، أو دنا من معناه، فإذا أشبهه في أكثر أحواله فقد صح التشبيه، ولاق به، ولأن امرأ القيس لم يقصد طول الذنب أن يشبهه بطول ذيل العروس فقط، وإنما أراد السبوغ والكثرة والكقافة، أر تراه قال " تسد به فرجها من دبر " وقد يكون الذنب طويلا يكاد يمس الأرض ولا يكون كثيفا، بل يكون رقيقاً نزر الشعر خفيفاً؛ فلا يسد فرج الفرس، فلما قال " تسد به فرجها " علمنا أنه إنما أراد الكثافة والسبوغ مع الطول، فإنما أشبه الذنب الطويل ذيل العروس من هذه الجهة، وكان في الطول قريباً منه؛ فالتشبيه صحيح، وليس ذلك بموجب للعيب، ولا أن يكون ذنب الفرس من أجل تشبيهه بلاذيل مما يحكم على الشاعر أيضاً أنه قصد إلى أن الفرس يسحبه على الأرض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وإنما العيب في قول البحتري " ذنبٌ كما سحب الرداء " فأفصح بأن الفرس يسحب ذنبه. ومثل قول امرئ القيس قول خداش بن زهير: لها ذنبٌ مثل ذيل الهدى ... إلى جؤجؤٍ أيد الزافر الهدى: العروس التي تهدى إلى زوجها، وأيد: شديد، والزافر: الصدر؛ لأنها تزفر منه، فإنما أراد بذيل العروس طوله وسبوغه؛ فشبه الذنب الطويل السابغ به، وإن لم يبلغ في الطول إلى أن يمس الأرض. ومما يصحح ذلك قولهم: فرسٌ ذيال؛ إذا كان طويلا طويل الذنب، فإذا كان قصيراً طويل الذنب قالوا: ذائل، وإنما قالوا ذلك تسبيهاً للذنب بالذيل لا غير، قال النابغة الذبياني: بكل مدجج كالليث يسمو ... إلى أوصال ذيالٍ رفن رفن ورفل واحدٌ، وهو الطويل الذنب وقد استقصيت الاحتجاج لبيت امرئ القيس فيما بينته من سهو أبي العباس عبد الله بن المعتز فيما ادعاه على امرئ القيس من الغلط في كتابه الذي جمع فيه سرقات الشعراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 2 - وقال البحتري: هجرتنا يقظى وكادت على عا - دتها في الصدود تهجر وسنى وهذا عندي غلطٌ؛ لأن خيالها يتمثل له في كل أحوالها، يقظى كانت أو وسنى، والجيد قوله: أرد دونك يقظاناً، وياذن لي ... عليك سكر الكرى إن جئت وسنانا فصحح المعنى، وأتى به على حقيقته وكذلك قوله: إذا ما تباذلنا النفائس خلتنا ... من الجد أيقاظاً ونحن نيام وقوله: نعذب أيقاظاً وننعم هجدا جيدٌ أيضاً؛ لأنه حملها على أن حالها مع خياله إذا نامت كحاله مع خيالها إذا نام، وأن واحد منهما ينعم مفردا مع خيال صاحبه؛ لا أنهما ينعمان معا في حال واحدة إذا نام أحدهما فرأى خيال الآخر. وإنما أخذ معنى بيته الأول - وعليه بنى أكثر أوصافه للخيال - من قول قيس بن الخطيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 أنى سربت وكنت غير سروب ... وتقرب الأحلام غير قريب ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه ... في النوم غير مصردٍ محسوب وما أظن أحداً سبق قيساً إلى هذا المعنى في وصف الخيال، وهو حسن جداً، ولكن فيه أيضاً مقال لمعترض، وذلك هو الذي أوقع البحتري في الغلط؛ لأن قيساً قال " ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه في النوم " فأراد أيضا أنها تؤتيه نائمة، وخيال المحبوب يتمثل في حال نوم المحب ويقظته كما ذكرت، وكان الأجود لو قال: ما تمنعي في اليقظة فقد تؤتينه في النوم: أي ما تمنعينه في يقظتي فقد تؤتينه في حال نومي، حتى يكون النوم واليقظة معا منسوبين إليه، إلا أنه يتسع من التأويل لقيس مالا يتسع للبحتري، لأن قيسا قال " فقد تؤتينه في النوم " ولم يقل: فقد تؤتينه نائمة فقد يجوز أن يحمل على أنه أراد ما تمنعي يقظي وأنا يقظان فقد تؤتينه في النوم: أي في نومي، ولا يسوغ مثل هذا في بيت البحتري؛ لأن البحتري قال وسنى ولم يقل في الوسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 3 - وقال البحتري ف يمدح المعتز بالله: لا العذل يردعه ولا ال ... تعنبف عن كرمٍ يصده وهذا عندي من أهجن ما مدح به خليفة وأقبحه، ومن ذا يعنف الخليفة على الكرم أو يصده؟ إن هذا بالهجو أولى منه بالمدح. 4 - وقال البحتري: تشق عليه الريح كل عشيةٍ ... جيوب الغمام بين بكرٍ وأيم وهذا أيضا غلط؛ لأنه ظن أن الأيم هي الثيب، وقد غلط في مثله أبو تمام، وذكرته في أغاليطه، وسها فيه أيضاً بعض كبار الفهاء؛ فظن البحتري أن الأيم هي الثيب، فجعلها في البيت ضد البكر، والأيم: هي التي لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيبا، قال الله تعالى: " وأنكحوا الأيامى منكم " أراد جل ثناؤه اللواتي لا أزواج لهن؛ فالبكر والثيب جميعا داخلتان تحت الأيم؛ فتكون بكراً وتكون ثيبا، وإنما أراد الثيب. فإن قيل: إن الأيم قد تكون ثيبا، وإنما أراد الثيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 قيل: أجل إنها تكون ثيبا وتكون بكراً ومعنسا وكعابا، إلا أن لفظة " أيم " لا تدل على شيء من هذه الأوصاف، وليست عبارة إلا عن التي لا زوج لها لا غير؛ وقد شرحت هذا المعنى شرحا شافيا في غلط أبي تمام. 5 - وقال البحتري: شرطي الإنصاف إن قيل اشترط ... وصديقي من إذا قال قسط وكان يجب أن يقول " أقسط " أي: عدل، وقسط - بغير ألف - معناه جار، قال الله تبارك وتعالى: " وأما الفاسطون فكانوا لجهنم حطباً " وقال: " إن الله يحب المقسطين ". 6 - وقال البحتري: صبغة الأفق بين آخر ليلٍ ... منقضٍ شانه وأول فجر يصف فرسا أشقر أو خلوقيا. والحمرة لا تكون بين آخر الليل وأول الفجر وهو عندي في هذا غالط؛ لأن أول الفجر الرزقة، ثم البياض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ثم الحمرة عند بدو قرن الشمس. كما أن آخر النهار عند غيبوبة الشمس الحمرة، ثم البياض، ثم الزرقة وهي آخر الشفق؛ وقال البحتري: وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث رشٌ ثم ينسكب وقال آخر: وأن يسجع القمرى فيها إذا غدا ... بركبانه قرنٌ من الشمس أزرق وكأن البحتري أراد أن يقول بين آخر ليل منقض شأنه وأول نهار؛ فيكون قد قابل بين الليل والنهار، والحمرة قد تكون بين آخر الليل وأول النهار، كما تكون بين آخر النهار وأول الليل، فقال " وأول الفجر "، والجيد في مثل هذا المعنى قول أب يتمام يصف فرساً أشقر: كأن قد كسفت في أديمه الشمس 7 - وقال البحتري: قف العيس قد أدنى خطاها كلالها ... وسل دار سعدى إن شفاك سؤالها هذا لفظ حسن، ومعنى ليس بالجيد؛ لأنه قال " قد أدنى خطاها كلالها " أي: قارب من خطوها الكلال، وهذا كأنه لم يقف لسؤال الدار التي تعرض لأن يشفيه سؤالها، وإنما وقف لإعياء المطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 والجيد قول عنترة؛ لأنه لما ذكر الوقوف على الدار احتاط بأن شبه ناقته بالقصر، فقال: فوقفت فيها ناقتي، وكأنها ... فدنٌ؛ لأقضي حاجة المتلوم قال ذلك ليعلم أنه لم يقف بها ليريحها. وقد كشف ذو الرمة عن هذا المعنى وأحسن فيه وأجاد، فقال: أنخت بها الوجناء لا من سآمةٍ ... لثنتين بين اثنين جاء وذاهب يقول: أنخت لأصلي، لا من سآمة بها، وقوله " لثنتين " يريد اللتين يقصرهما المسافر " بين اثنين جاء " يريد اللتين يقصرهما المسافر " بين اثنين جاء " يريد الليل " وذاهب " يريد النهار فإن قيل: فإنما قال " قد أدنى خطاها " ليعلم أنه قصد الدار من شقةٍ بعيدة. قيل: العرب لا تقصد الديار للوقوف عليها، وإنما تجتاز بها، فيقول الرجل لصاحبه أو صاحبيه: قف، وقفا، ولو كان هناك قصدٌ إليها لكانوا إذا وصلوا لا يقولون: قف، ولا قفا وإنما ذلك تعريج على الديار في مسيرها، وسأزيد في شرح هذا المعنى فيما بعد عند ذكر الوقوف على الديار. 8 - وقال البحتري: غريب السجايا ما تزال عقولنا ... مدلهةً في خلةٍ من خلاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 إذا معشرٌ صانوا السماح تعسفت ... به همةٌ مجنونةٌ في ابتذاله قوله " إذا معشر صانوا السماح " معنى ردئ؛ لأن البخيل ليس من أهل السماح فيكون له سماح يصونه، وسواء عليه قال: صانوا السماح، أو صانوا السخاء؛ أو صانوا الجود، أو صانوا الكرم؛ فإن هذا كله لا يملك البخلاء منه شيئاً، وهو منهم بعيد، فكيف يصونونه؟ فإن قيل: إنما أقام السماح مقام الشيء الذي يسمح به، وفي مجازات العرب ما هو أبعد من هذا. قيل: البحتري لا يسوغ مثل هذا، ولا يجوز له؛ لأنه متأخر، ولا سيما أن ليست ههنا ضرورة؛ لأنه قد كان يمكنه أن يقول " صانوا الثراء " مكان " صانو السماح ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وهذا ما عيب به البحتري وليس بعيب ٍ وإنما ذكرته لئلا يظن ظان أنه صحيح، وأني تخطيته، فمن ذلك ما نعاه عليه أصحاب أبي تمام، وهما بيتان، وقد ذكرت احتجاج أصحاب البحتري فيهما في الجزء الأول من هذا الكتاب، وأنا أعيد ذكرهما ههنا لزيادةٍ عندي في الاحتجاج يحتاج إليها. 1 - أنكروا عليه قوله: يخفى الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمةٌ بغير إناء وقالوا: لو ملئ الإناء دبسا لكانت هذه حاله، والمعنى عندي صحيح: لا عيب فيه، ولا قدح، وذلك أن الرجل قد دل بهذا الوصف على أن شعاع الشراب في غاية الغلبة، وأن الكأس غاية في الرقة؛ فاعتمد أن وصف الإناء وما فيه وصف الهيئة على ماهي عليه، وإنما أخذ المعنى من قول علي بن جبلة: كان يد النديم تدير منها ... شعاعاً لا تحيط عليه كاس ألا ترى أن هذا أيضاً قد دل على أن الكاس في غاية الرقة، ومثله قول الآخر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 إنما نعجتنا موسومةٌ ... ضمنت حمراء ترمى بالزبد وإذا ما نزلت في كأسها ... فهي والكأس معاً شيءٌ أحد وقد أنشد أبو العباس ثعلب بيت البحتري هذا في أماليه، وقال: إنه أخذ المعنى من قول الأعشى: تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطق قال أبو العباس: وهذا البيت أجود ما قيل في وصف الخمرة؛ لأنه جمع بين اللون والطعم، ونحوه قول الآخر، وهو الأخطل: ولقد تباكرنى على لذاتها ... صهباء عارية القذى خرطوم يريد أنها صافية؛ فالقذى فيها لا يستتر، ولم يعب ثعلبٌ البحتري، ولا طعن في بيته، بل يدلك إنشاده وذكره في موضع السرق على استجادته له، واستحسانه إياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 2 - وأنكروا قوله: ضحكاتٌ في ٌثرهن العطايا ... وبروق السحاب قبل رعوده وقالوا: أقام الرعود مقام العطايا، وإنما كان ينبغي له أن يقيم الغيوث مقام العطايا، وهذا جهل ممن قاله بمعاني كلام العرب، ومعنى التمثيل في البيت صحيح، لأن الرعد مقدمة الغيث، وقل رعدٌ لا يتلوه المطر، وإذا كان هذا هكذا فقد صار المعنى كأنه أولٌ، وإنما أخذ البحتري المعنى من قول بشار: وعد الجواد يحث نائله ... كالبرق ثم الرعد في أثره فأقام الرعد مقام الغيث، ونحوه قول بشار: حلبت بشعري راحتيه فدرتا ... سماحاً، كما در السحاب الرعد وأظنهما جميعاً أخذا المعنى من قول الأعشى: والشعر يستنزل الكريم كما اس ... تنزل رعد السحابة السبلا وأنشد ابن الأعرابي في نوادره: فإن لم أصدق ظنهم بتيقني ... فلا سقت الأوصال مني الرواعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فجعل التي تسقى هي الرواعد، وقال الكميت: وأنت في الشتوة الجماد إذا ... أخلف من أنجمٍ رواعدها ومثل هذا كثيرٌ في كلامهم لا ينكره منكر، وقال أبو تمام: وكذا السحائب، قلما تدعو إلى معروفها الرواد ما لم تبرق فجعل البرق عند الرواد دليل الغيث، وقد يكون برق لا مطر معه كثيراً، وبرق الخلب هذه حاله؛ فالبحتري في أن أقام الرعد مقام الغيث أعذر من أبي تمام لأنه قد يرتفع سحاب ويبرق ولا يمطر، فإذا أرعد لا يكاد يخلف. 3 - ومن ذلك قول البحتري: يا هلالاً أوفى بأعلى قضيبٍ ... وقضيباً على كثيبٍ مهيل وقالوا: هذا خطأ؛ لأن الكثيب - إذا كان مهيلاً - فإنه يذهب ولا يستمسك، وذلك مذموم من الوصف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 قالوا: والجيد قوله: كالبدر غير مخيل والغصن غي ... ر مميلي والدعص غير مهيل وقالوا: قد تراه هنا كيف شرط في الدعص - لما شبه العجز به - أن جعله غير مهيل؛ لأن العرب إذا شبهت أعجاز النساء بكثبان الرمل شرطت فيها أن تكون ندية، وأن تكون ممطورة، كما قال الراجز: جبن بأعجازٍ لهن ناوية ... كأنها الكثبان غب ساريه ناوية: سمانٌ، من الني وهو الشحم، وكقول الآخر: مثل الكثيب إذا ما بله المطر وكما قال مرداس بن أبي عامر السلمي: إذا هي قامت في النساء حسبت ما ... فويق نطاق العقد صعدة سأسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وأسفل منه ظهر دعص أصابه ... نجاء السماء في الكثيب المخيم وقال الأخضر بن جابر الفزاري: تلوث أثناء الفاع الأتحمى ... بمثل دعص الرملة المديم أراد الذي قد بلته الديمة، وهي السحابة؛ وقال جندل بن المثنى الطهوي: لا بل كدعصاء نداها مثرى ... عفراء حفت برمالٍ عفر وقال امرؤ القيس: كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه ... بما احتبسا من لين مس وتسهال والحقف: المستدير من الرمل؛ لأن الريح تنخله وتجمعه، وقال " يمشي الوليدان فوقه " لأن الندى أصابه فهو صلب وفيه مع ذلك لين ونعومة، وقد شبه امرؤ القيس أيضاً كفل الفرس بالدعص الندي فقال: له كفلٌ كالدعص لبده الندى ... إلى كاهل مثل الرتاج المضبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وقال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: وإن مال الضجيع بها فدعصٌ ... من الكثبان ملتبدٌ مطير قالوا: هذا الوصف المجود، والمعنى الصحيح من معاني العرب، ولولا أن تشبيه الردف بالكثيب المنهال خطأ لما قال البحتري في بيته الآخر: " والدعص غير مهيل ". وهذا المذهب الذي ذهبوا إليه لعمري صحيحٌ من مذاهبهم، إلا أن الشعراء إذا شبهت أعجاز النساء بكثبان الرمل ووصفتها بالانهيال فإنما تقصد إلى تحرك أعجازهن عند المشي، كماقال رؤبة بن العجاج: إذا وصلن العوم بالهركل ... رجرجن من أعجازهن الخزل أولااك رملٍ والج في رمل فقال " أوراك رمل والج في رمل " وولوجه تحركه ودخول بعضه في بعض، وكما قال الأعشى: روادفه تثنى الرداء تساندت ... إلى مثل دعص الرملة المتهيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 نيافٌ كغصن البان ترتج إن مشت ... دبيب قطا البطحاء في كل منهل فدل بقوله " ترتج إن مشت " على أن قوله " إلى مثل دعص الرملة المتهيل " إنما أراد تحرك عجزها في حال مشيها، وكذلك قول رؤبة: ميالةٌ مثل الكثيب المنهال ... عزز منه وهو معطى الأسهال ضرب السواري متنه بالتهتال التهتال والتهتان واحد، فقال " مثل الكثيب المنهال " لما قال " ميالة " أي: أنها تتثنى في مشيتها وتتحرك روادفها، ثم شرط أنه " عزز منه ضرب السواري " أي شده ليمنع من سيلانه وذهابه، وإنما أراد حالا بين الحالين، ألا تراه قال: " هو معطى الإسهال ضرب السواري " أي شده ضرب السواري وهو مع ذلك يتيهل؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وقال ابن أبي سفيان الغامدي: ذات شوى عبلٍ وخضرٍ أبتل ... وكفلٍ مثل الكثيب الأهيل فأراد بالأهيل الذي يترجرج عند المشي، وقال المقنع الكندي: إذا قامت تنوء بمرجحنً ... كدعص الرمل ينهال انهيالا فحسن ذكر الانهيال من أجل ذكره للقيام، ولو لم يذكره لكان غرضه فيه معروفاً. وقال عبد الرحمن بن الحكم: كأن ما بين قصراها وخنصرها ... منها نقاً دمثٌ من عالج هار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 فقصراها: آخر الأضلاع، وهي القصرى والقصيري؛ فدل بقوله " هار " على أنه أراد تحرك روادفها، فكذلك قول البحتري: وقضيب على كثيب مهيل إنما أراد تحرك أردافه، وقد دل على المشي بقوله: يا هلالاً أوفى بأعلى قضيبٍ فالمعنيان لا يتناقضان؛ لأن الشاعر إن ذكر الانهيال فإنه أراد الحركة عند المشي، وإن لم يذكر ذلك وشرط في الكثيب الندى وإصابة الغيث فإنما قصد أن ينص على اجتماعه واستمساكه كما قال رؤبة: ميالةٌ مثل الكثيب المنهال ثم قال: عزز منه وهو معطى الأسهال ... ضرب السواري متنه بالتهتال فانتظم الوجهين جميعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 والذي شرح هذين المعنيين أتم الشرح، وأبر في الوصف على كل محسن، تميم بن أبي بن مقبل في قوله يصف مشي النساء: يمشين هيل النقا مالت جوانبه ... ينهال حيناً وينهاه الثرى حينا إنما أراد بقوله " ينهال حينا " تحرك أعجازهن إذا مشين كما يتحرك جانب الرملة للأنهيال فينهاه الثرى وهو ما تحته من التراب أو الرمل النندى، وهذا لا شيء أوضح منه. 4 - ومن ذلك قوله: متى أردنا وجدنا من يقصر عن ... مسعاته أو فقدنا من يدانيه وقالوا: ليس هذا بالجيد؛ لأنه وصفٌ يشرك ممدوحه فيه البقال والحمال والمراق وباعة الدواء ولقاط النوى؛ لأن هؤلاء أيضاً متى شئنا وجدنا من يقصر عن مسعاتهم، وهو الحجام والكناس والنباش. والبيت عندي صحيح، وغرض البحتري فيه معروف، ومثله أو نحوه قول الأعشى: وأخو النساء متى يشأ يصرمنه ... ويعدن أعداء بعيد وداد وهو لا يشاء ذلك، إنما أراد أن ذلك سهلٌ موجود في النساء، وكذلك قول البحتري " متى أردنا وجدنا " أي: أن ذلك موجود سهل حاصل، وإن لم يكن هناك إرادة ولا طلب؛ لأن تلك حالٌ قد علمت منه، وقد صحح المعنى ووكد المدح بقوله " أوفقدنا من يدانيه " والبقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 والمراق وأمثالهما غير مفقود من يدانيهم؛ فجعل البحتري أحد القسمين في البيت معلقاً بالآخر: أي ذلك كله سهل موجود، ولو اقتصر على النصف الأول كان لعمري فيه متعلق. 5 - ومن ذلك قوله: تهاجرٌ أممٌ لا وصل يخلطه ... إلا تزاور طيفينا إذا هجدا قالوا: والطيفان لا يهجدان، وإنما أراد إذا هجدنا، فقال " إذا هجدا ". وقد سمعت من يحتج فيه بما لا يبعد عندي من الصواب، وهو أن قال: إنه أراد إلا تزوار نفسينا إذا هجدا؛ فأقام الطيف مقام النفس وقال " هجدا " ولم يقل " هجدتا " للفظ الطيف وهو مذكر، وقال: إن النفس تنام على الحقيقة كما قال تعالى: " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ". فقيل له: النفس لعمري يطلق عليها النوم، فإذا نامت رأت خيالات الأشياء التي ترى حقائقها في اليقظة؛ فالنفس غير الخيال، وقد تتمثل للنفس في حال يقظتها وإن لم ترها العين؛ فليس النفس من الخيال في شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 قال: فإذا كانت النفس والخيال يلتقيان في النوم، فلم لا أسميهما خيالين - وإن كان أحدهما خيالا والآخر نفساً - على المجاز الذي تفعله العرب؟ وهذا عندي احتجاج صحيح، ويصح عليه معنى البيت. 6 - ومما نسبوا فيه البحتري إلى سوء التقسيم قوله: فكأن مجلسه المحجب محفلٌ ... وكأن خلوته الخفية مشهد وقالوا: إنه ليس في المصراع الثاني من الفائدة إلا ما في الأول؛ لأن مجلسه المحجب هي خلوته الخفية، وقوله " محفل " كقوله " مشهد ". والمعنى عندي صحيح؛ لأن المجلس المحجب قد يكون فيه الجماعة الذين يخصهم، وفي الأكثر الأعم لا يسمى مجلساً إلا وفيه قوم، ألا ترى إلى قول مهلهل: واستب بعدك يا كليب المجلس أي: أهل المجلس، على الاستعارى، فجعل البحتري مجلسه الذي احتجب فيه مع ما يخصه كالمحفل، والمحفل: هو المجمع الكثير، والخلوة الخفية قد يكون فيها منفرداً، وقد يكون معه محبوب، فبنها وبين المجلس والمحفل فرق؛ فكأنه إذا خلا خلوة خفية وفيها معه من يشاهده - ومن يشاهده يجوز أن يكون واحداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أو اثنين - والمحفل لا يكون إلا عدداً كثيراً، فهذا أيضاً فرق صحيح بين المحفل والمشهد، وإنما أراد البحتري أنه لا يفعل في مجلسه المحجب إلا ما يفعله في المحفل، ولا يفعل في خلوته الخفية إلا ما يفعله مع من يشاهده، ينسبه إلى شدة التصون وكرم السريرة. 7 - ومثله قوله: أمين الله، دمت لنا سليما ... ومليت السلامة والدواما قالوا: وقوله " دمت لنا سليما " هو قوله " مليت السلامة والدواما " فإن هذا قبيح جداً. وليس الأمر عندي كذلك، بل القسمة صحيحة؛ لأنه لما تقدم ذكر السلامة والدوام في أول البيت قال في عجزه " ومليت السلامة " أي: أديمت لك تلك السلامة وذلك الدوام. وأجود من هذا أن يكون لما قال دمت لنا سليما - وذلك بذكر السلامة وفيها الألف واللام؛ لأنها اسم الجنس، وكذلك الدوام - فكأنه قال: مليت السلامة كلها والدوام كله وليس بمنكر أن يقول القائل في الدعاء " دام لك الدوام " كما يقول: طال طولك، وقر قرارك، وضل ضلالك، وزال زوالك، وذلك كلام مستعمل حسن، ومعنى " مليت " أطيلت لك وأديمت، مثل تمليت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وهو مأخوذ من الملاوة والملوة، وهما الدهر، والملوان: الليل والنهار. ومنه قولهم: وقفت مليا. 8 - وقال البحتري: اليوم أطلع للخلافة سعدها ... وأضاء فينا بدرها المتهلل لبست جلالة جعفرٍ؛ فكأنها ... سحرٌ تجلله النهار المقبل وقالوا: هذا معنى فاسد؛ لأن السحر طرة النهار وأوله وبدء ضيائه، والشيء في مثل هذا لا يتجلل أوله؛ لأن التجلل هو أن يشتمل عليه ويغطيه، والسحر أمام النهار أبداً؛ فلا يجوز أن يتغشاه؛ لأنه المتصل بالظلمة والمختلط بها والطارد لها، فهو يدور حول كرة الأرض دائماً على صورة واحدة لا يتغير. وهذا عندي معارضة صحيحة، إلا ان هذا معنى يتجاوز في مثله؛ لأن البحتري إنما أراد تجلله النهار في رأي أعيننا وما نشاهده؛ لأن زرقة السحر لما استطار الضوء صار كأنه شيء غطى عليها، وإن كانت حقيقتها أنها اتقلبت إلى قطر آخر من الأرض. 9 - وقال البحتري: لم أر كالهجر لم يرحم معذبه ... والوصل لم يعتمد معطاه بالحسد وهذا كان بعضهم يراه سهواً، ويقول: إن المعذب بالهجر مرحوم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 فأما من يواصله حبيبه فمغبوط أبداً ومحسود، وقد قيل في ذلك من الأشعار ما هو أشهر وأكثر؛ فمنها قول يزيد بن الطثرية: أعوذ بخديك الكريمين أن يرى ... لنا حاسدٌ في غبر الوصل مطمعا وقول أب يصخر الهذلي: فقد تركتني أحسد الطير أن أرى ... أليفين منها لم يروعهما النفر وقول جرير: ويحسد أن يزوركم، ويرضى ... بدون البذل لو علم الحسود وقول جميل بن معمر: لولا الوشاة لزرتكم ببلادكم ... لكن أخاف مقالة الحساد وقول عتبة بن بجير الحارثي: أيام تهجرني ليلى وأحسدها ... وأطيب العيش عندي مضغة الحسد أي: هي تهجرني، وأنا أحسدها: أي أحسد عليها. وليس الأمر عندي في هذا البيت على ما تأوله هذا المتأول وظنه، وذلك أن البحتري لم يرد بقوله " لم أر كالهجر لم يرحم معذبه " جنس الهجر، ولا جنس الوصل، فيخرج الكلام مخرج العموم لكل هجر وكل وصل، كما يقال: أهلك الناس الدينار والدرهم، وإنما أراد " لم أر كالهجر لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 يرحم معذبه " أي: كالهجر الذي هذه حاله على طريق التعجب " والوصل لم يعتمد معطاه بالحسد " أي الوصل الذي هذه حاله، وهذا كما تقول: " لم أر كالرجل يسئ فلا يذم، ويحسن فلا يشكر " أي كالرجل الذي هذه حاله، ولم يرد كل الرجال، وكيف يظن مثل هذا بالبحتري وهو يقول: ونحسد أن يسرى إلينا من الهوى ... عقابيل يعتاد الهوى باعتيادها فكم نافسوا في حرقةٍ إثر فرقةٍ ... تعجب من أنفاسنا وامتداها فقد ترى كيف يزعم أنه يحسد على الجوى وعلى الحرق، فكيف على الوصل؟ 10 - وقا لالبحتري: أي ليلٍ يبهى بغير نجومٍ ... وسحابٍ يندى بغير بروق؟ عابه بعضهم بهذا، وقالوا: قد يكون برقٌ ولا غيث معه، وهو برق الخلب، والرجل لم يقل لا برق إلا ومعه مطر، وإنما قال لا مطر إلا ومعه برق. 11 - وسمعت من يعيب قوله: كالروض مؤتلقاً بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه ويقول: النور هو الأبيض، والزهر هو الأصفر لا محالة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 فإذا قلت " في هذا الروض أنوار مختلفةٌ " جاز ذلك، لأنك تضم إلى البياض غيره فيجري الأسم علىلجميع، على سبيل المجاز، كما تقول " العمران " لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، و " القمران " للشمس والقمر، وما أشبه ذلك، وكذلك إذ قلت " فيها أزهار كثيرة " جاز ذلك وإن كان فيها أبيض وأحمر وما سواهما من الصفرة توسعاً ومجازاً؛ فإذا فصلت معتمدا لأن تخص كل جنس باسم، كما فعل البحتري، ولم يجز أن يعدل بكل جنس عن اسمه المخصوص؛ فتقول حينئذ: يعجبني من هذا الموضع صفرة زهره، وبياض نوره، وحمرة شقائقه، ولا يجوز أن تقول: يعجبني حمرة نوره، ولا بياض زهره، كما قال البحتري؛ لأن ذلك خطأ ف ياللغة على ما استعملته العرب. ولعمري إن هذا هو الأشهر في كلامهم، والأغلب في المأثور عنهم، إلا أنهم قد جعلوا الزهر نوراً، والنور زهراً، وجاء ذلك ف يالشعر، قال عدي بن زيد: حتى تعاون مستك له زهرٌ ... من التناوير شكل العهن في اللؤم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 اللؤم: جمع لأمة ولؤمة، وهي متاع الرحل من الأشلة والولايا تكون موشاة بالعهن - وهو الصوف المصبوغ بالحمرة - وغير ذلك من الألوان؛ فقال " زهر " ثم قال " من التناوير " وقال " شكل العهن ". وقال زهير ابن مسعود الضبي: متنورٌ غدق الندى قريانه ... مثل العهون من الخواطر مقمر وقال أبو النجم: فالروض قد نور في حوائه ... مختلف الألوان في أسمائه نوراً تحار الشمس في حمرائه ... مكللا بالنور من صفرائه فقال " بالنور من صفرائه ". وقال حميد بن ثورٍ: كأن على أشداقه نور حنوةٍ ... إذا هو مد الجيد منه ليطعما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 يصف فرخ الحمامة وصفرة أشداقه، ويشبهها بصفرة الحنوة لا محالة؛ فقال نور حنوة؛ ولم يقل زهر حنوة، وقال الأعشى: وشمول تحسب العين إذاصفقت وردتها نور الذبح والذبح: نبت، ونوره أحمر شديد الحمرة، ويقال له " الذبح " وهذا كله دليل على أن هذه الأسماء تستعمل في هذه الألوان كما ترى على اختلافها. 12 - وسمعت من يعيب قوله: فمجدلٌ ومرملٌ وموسدٌ ... ومضرجٌ ومضمخٌ ومخضب ويوقولن: إن قوله " مضرج ومضمخ ومخضب " بمعنى واحد، وذكر أنه إن أراد رجلا واحداً أنه مضرج ومضمخ ومخضب جاز؛ لأن كل لفظةٍ تكون مؤكدةً للأخرى، قال: ولكنه أراد فمنهم مضرج ومنهم مضمخ ومنهم مخضب، كما قسم في صدر البيت. ولعمري إن البحتري كذلك أراد، وليس بمنكر؛ لأن المضرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 من التضريج وهي الحمرة المشرقة التي ليست بقانية، والمضمخ يريد به غلظ الدم وأنه في متانة الطيب الذي يتضمخ به، والمخضب أراد أن الدم قد خضبه كما يخضب بالحناء؛ ففي كل لفظة ما ليس في الأخرى، وإن كانت الحمرة قد شملت الجميع؛ لأن المضرج يجوز أن يكون أراد به طراوة الدم: أي منهم حديث عهدٍ بالقتل، والمضمخ من قد خثر عليه الدم كأن قتله قد تقدم قبل الآخر، والمخضب يجوز أن يكون مضى لقتله يومٌ وأكثر فقد اسود عليه الدم، وهذه معانٍ كلها محتملة، وقد يجوز أن يريد بقوله " مضرج " سائر جسده، وبالمضمخ أن السيف أخذ عوارضه وتحت لحيته، وذلك موضع من مواضع التضمخ بالطيب. وأراد بالمخضب أن السيف أخذ في رأسه وفي يديه ورجليه. وذلك مواضع الخضاب. وقد يكون المضرج المقطع؛ يقال: " ضرجته " إذا قطعته. وهذه معانٍ لطيفة، وقد يجوز أن يعتد بها، والوجه القوي هو الأول. 13 - وسمعت قوماً ينكرون قوله في وصف الخمر: وفواقع مثل الدموع ترددت ... في صحن خد الكاعب الحسناء ويقولون: إن الدمع لا تتردد في الخد كما يتردد الحباب في الكأس، وإنما الدمع يجري وتتابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 والمعنى صحيح، ولا عيب فيه؛ لأن التردد قد يكون الجولان، وقد يكون التتابع والتواتر، يقال: قد تتابعت كتبي إليك، وترددت؛ بمعنى، وتواترت رسلي وتتابعت، والكتاب الأول هو غير الثاني. وكذلك قد يكون الرسول الأول غير الرسول الثاني، وإنما حسن أن يقال تتابعت وترددت لأن كل واحد من الكتب يقال له " كتاب " ويقال لكل واحدٍ من الرسل رسول؛ فلما ضمهم اسم واحد حسن استعمال التتابع والتردد. وإن كانت أشخاصاً متباينة، وكل واحد غير الآخر؛ فكذلك الدمع، حسن أن يقال: قد تتابعت دموعه على خده، وترددت، وإن كانت دمعة غير الأخرى. والحباب وإن جال في القدح دائراً فيه فإنه ربما جرى فيه على جهةٍ واحدةٍ؛ كما يجري الدمع على جهة واحدة، وهذا من أحسن التسبيه وأليقه؛ لأن الخمر قد يكون منها ما هو أحمر إلى التوريد الخفيف كحمرة الخد، وخاصة إذا أرقت بالماء؛ كما قال الشاعر: كميت إذا فضت، وف يالكأس وردةٌ ... لها في عظام الشاربين دبيب فإذا شبهت الخمرة بالخد وذكر الحباب فمن أليق ما شبه به وأحسنه وأصحه الدمع؛ لأن الدمع قد يقف في الخد كوقوف الحباب في صحن الكأس، وباب اختلاف حركة الحباب وحركة الدمع فليس كل شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 يشبه بشيء يقع التشبيه فيه من جميع الجهات حتى لا يغادر منها شيئاً، وقد يكون إنما شبه به ببعض ما فيه لا بكله. 14 - ورأيت من عاب قوله: وصبغت أخلاقي برونق خلقه ... حتى عدلت أجاجهن بعذبه وقالوا: إنما كان ينبغي لما ذكر الأجاج والعذب أن يقول " فمزجت " لا أن يقول " وصبغت " أو لما قال " وصبغت " أن يقول " حتى عدلت ألوانهن بحسن لونه ". وليست هذه المعارضة بشيء، والمعنى صحيحٌ، ولذلك أنه ليس هناك صبغ على الحقيقة فيقابل بذكر لون حتى يتكافأ المعنيان، ولا مشروب عذبٌ ولا أجاج على الحقيقة فيستعمل بذكر المزاج، وهذه استعارات ينوب بعضها عن بعض، ويقوم بعضها مقام بعض؛ لأنها ليست بحقائق فيما استعبرت له، ألا ترى أنك تقول: فلان قد شارك فلاناً، وخالطه، ومازجه، وانسبغ به، بمعنى واحد، وإن كان بعضها أوكد من بعض، ولا يكون هناك مداخلة ولا ممازجة لجسم في جسم، ولا مخالطة على الحقيقة. 15 - ومما عيب عليه من التعسف والتعقيد في اللفظ قوله: فتى لم يمل بالنفس منه عن العلى ... إلى غيرها شيءٌ سواه مميلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وكان بعض الناس يرى أنه لاحنٌ، ويقول: إنه إنما أراد فتى لم يمل بنفسه عن العلى شيء مميل نفس سواه، أي: ما يميل النفس عن المعالي من اللهو واللعب والدعة وحب الراحة والضن بالمال، ونحو هذا من الأشياء الشاغلة عن السؤدد، فقدم " سواه " وكنى عن النفس بقوله " مميلها " بعد أن حذفها، قال: وذلك غير جائز؛ لأنك إذا قلت " لن يضرب هامة عمرو وأحدٌ ضارب هامة غيره فقدمت " هامة غيره " فقلت: لن يضرب هامة عمرو واحدٌ هامة غيره ضاربها، وجعلت الهاء في " ضاربها " كنايةً عن الهامة لتقدمها جاز؛ إلا أن البصريين من النحويين يقولون: " هامة غيره ضاربها هو " كما أنه لو قال: " شيءٌ نفس سواه مميلها هو " جاز، فإن فككت الإضافة وأسقطت هامة وقدمت " غير " فقلت: " لن بضرب هامة عمرو واحدٌ غير ضاربها " لم يجز؛ لإسقاطك الهامة التي كنايتها الهاء في قولك " ضاربها " ولا تجوز الكناية عن غير مذكور في مثل هذا، فكذلك لا يجوز في البيت " شيء سواه مميلها " وهو يريد شيء نفس سواه مميلها؛ لأن الهاء في قوله " مميلها " كناية عن النفس؛ فلا يجوز إسقاط النفس. وهذا لعمري إن كان البحتري أراده فهو غالط، غير أنه - والله أعلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 إنما أراد فتى لا يميل بالنفس منه عن العلي إلى غيرها شيء بخفض " شيء " على أن الممدوح هو الذي لم يمل بنفسه عن العلي إلى شيء غيرها، ثم قال " سواه مميلها " على الابتداء والخبر: أي لكن سواه من الناس مميلها، فأضمر " لكن " وهذا سائغ؛ وأنشد سيبويه: على الحكم المأتى يوماً إذا قضى ... قضيته أن لا يجور، ويقصد قال: أراد ولكنه يقصد، فأضمر " لكن " فلذلك رفع " يقصد "، وعلى أنه مستعمل كثير فاشٍ في الكلام أن تقول: زيد لا يقعد عن المكارم وعمرو يقعد عنها، وأنا لا أجفوك إنما بكر الجافي لك؛ فيكون الكلام مستغنياً بنفسه؛ فلا يحتاج إلى إضمار. فإن سلم البيت من عيب اللحن لم يسلم من عيب التعسف، ولست أعرف بيتاً تعسف في نظمه غير هذا. 16 - ومن ردئ التجنيس وقبيحه قوله: أمنا أن تصرع عن سماحٍ ... وللآمال في يدك اصطراع يقول: أمنا أن يغلبك غالبٌ يصرعك عن السماح ويمنعك منه، وللآمال في يدك اصطراع: أي تنافسٌ وتغالبٌ وازدحام، وقوله " في يدك " لأن العطاء إليها ينسب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وقد جاء بهذه اللفظة في موضع آخر فقال يصف أخلاق الممدوح: يتصرعن ففرجاء دنو ال ... مزن، والودق خارجٌ من خلاله وهي ههنا أقل قبحاً منها في البيت الأول، ولو قال " يتدانين للرجاء دنو المزن " كان أحسن في اللفظ، وأوفق من أجل التجنيس، ولكن " يتصرعن " أوكد ف يالمعنى؛ لأنه بمعنى يتساقطن ويتطرحن، يريد الإسراع إلى الرجاء من غير ترفق ولا توقٍ للأنحطاط والوقوع؛ ليدل على الحرص والشهوة. وقد جاء بهذه اللفظة في موضع آخر، وأوقعها موقع الذم، فقال: من يتصرع في إثر مكرمةٍ ... فدأبه ف ياتباعها دأبه يريد من يتساقط في أثر مكرمة إذا سعى لطلبها ولم يكن له نهوضٌ فيها فدأب الممدوح دأبه المعروف المشهور منه، أي: جده ولحاقه، وحرك الدأب الثاني وسكن الأول، ومعناهما واحد، ويجوز أن يكون أراد فدأبه في اتباعها - أي عادته في اتباعها - دأبه، أي: سعيه وحركته، وهو أجود. 17 - ومن ردى التجنيس أيضاً قوله: حييت بل سقيت من معهودةٍ ... عهدي غدت مهجورةً ما تعهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ويروى " سقيت من عمعمورة " يخاطب الدمن، أي: عهدي بها معمورة معهودة، ومن روى " معهودة عهدي " أي: عهدي بها معهودة فغدت معهودة ما تعهد، وقد يكون العهد من التعهد، ويكون قوله " ما تعهد " أي: قد نسيت، وهذا يشبه تجنيسات أبي تمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 * باب في اضطراب الوزن وما رأيت شيئاً مما عيب به أبو تمام إلا وجدت في شعر البحتري مثله، إلا أنه في شعر أبي تمام كثير وفي شعر البحتري قليل: من ذلك اضطراب الأوزان في شعر أبي تمام. 1 - وقد جاء في شعر البحتري بيتٌ هو عندي أقبح من كل ما عيب به أبو تمام ف يهذا الباب، وهو قوله: ولماذا تتبع النفس شيئاً ... جعل الله الفردوس منه بواء وكذلك وجدته في أكثر النسخ وهذا خارج عن الوزن، والبيت من العروض هو البيت الأول من الخفيف وهو سداسيٌ وزنه: فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ... فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن وتقطيعه: ولماذا تتببعن تفشيئاً ... جعلللاهل فردوسمن هبواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فعلاتن مفاعلن فاعلاتن ... فعلاتن مستفعلن فعلاتن فحذف ألف " فاعلاتن " الأولى والثانية والأخيرة فصارت فعلاتن، وسين " مستفعلن " الأولى فصارت مفاعلن، وذلك كله زحاف جائز، وزاد في البيت سبباً، وهو حرفان: الهاء من اسم الله عز وجل، واللام من لفظ الفردوس، وهو إكفاء، ولا أعرف مثل هذا البيت، وقد رأيت في بعض النسخ " جعل الله الخلد منه بواء " فإن يكن هكذا قال فقد تخلص من العيب ويكون تقطيع البيت: جعلللا هلخلد من هبواء 2 - وقال البحتري: حلأتنا عن حاجةٍ ممنوعٍ ... مبتغاها وحاجيتن ممطولة وهذا من العروض هو البيت الأول من الخفيف، وتقطيعه: حلالأتنا عنحاجتن ممنوعن ... مبتغاها وحاجتن ممطوله فاعلاتن مستفعلن مفعولن ... فاعلاتن مفاعلن مفعولن وكان يجب أن تكون عروض البيت - وهي مفعولن الأولى - فاعلاتن، ولا يجوز فيها مفعولن، بلى لو كان البيت مصرعاً لجاز في عروضه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 مفعولن كما جاز في ضربه - وهي القافية - وذلك قوله " ممطوله " فأما جعله مفاعلن في موضع مستفعلن الثانية في البيت فذلك جائز من الزحاف، وقد غير قومٌ هذه اللفظة في البيت - وهي ممنوع - فقالوا " بمنوعٍ مبتغاها " أي: حلأتنا عن حاجة بمانعٍ منع مبتغاها من عائقٍ أووالٍ عليها، ويكون " بمتغاها " في موضع نصب بمنوع، وهو محتمل. قال أبو القاسم الحسن بن بشرٍ بن يحيى الآمدي: وأنا أذكر بإذن الله الآن في هذا الجزء المعاني التي يتفق فيها الطائيان؛ فأوزان بين معنى ومعنى، وأقول: أيهما أشعر في ذلك المعنى بعينه، فلا تطالبني أن أتعدى هذا إلى أن أفصح لك بأيهما أشعر عندي على الإطلاق، فإني غير فاعل ذلك؛ لأنك إن قلدتني لم تحصل لك الفائدة بالتقليد، وإن طالبت بالعلل والأسباب التي أوجبت التفضيل، فقد أخبرتك فيما تقدم بما أحاط به علمي من نعت مذهبيهما، وذكر مساويهما في سرقة معاني الناس وانتحالها، وغلطهما ف يالمعاني والألفاظ، وإساءة من أساء منهما في الطباق والتجنيس والاستعارة، ورداءة النظم واضطراب الوزن، وغي رذلك مما اوضحته في مواضعه وبينته، وما سيعود ذكره في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 الموازنة من هذه الأنواع على ما يقوده القول وتقتضيه الحجة، وما سنراه من محاسنهما وبدائعهما وعجيب اختراعهما؛ فإني أوقع الكلام على جميع ذلك وعلى سائر أغراضهما ومعانيهما في الشعار التي أرتبها في الأبواب، وأنص على الجيد وأفضله على الردئ، وأبين الرئ وأرذله، وأذكر من علل الجميع ما ينتهي إليه التلخيص، وتحيط بع العبارة، ويبقى ما لا يمكن إخراجه إلى البيان، ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علة ما يعرف إلا بالدربة ودائم التجربة وطول الملابسة، وبهذا يفضل أهل الحذاقة بكل علم وصناعة من سواهم ممن نقصت قريحته، وقلت دربته، بعد أن يكون هناك طبع فيه تقبلٌ لتلك الطباع وامتزاج بها، وإلا فلا يتم ذلك، ثم أكلك بعد ذلك إلى اختيارك، وما تقضى عليه فطنتك وتمييزك، فينبغي أن تنعم النظر فيما يرد عليك، ولن ينتفع بالنظر إلا من يحسن أن يتأمل، ومن إذا تأمل علم، ومن إذا علم أنصف. ثم إن العلم بالشعر قد خص بأن يدعيه كل أحد، وأن يتعاطاه من ليس من أهله؛ فلم لا يدعي أحد هؤلاء المعرفة بالعين والورق والخيل والسلامح والرقيق والبز والطيب وأنواعه؟ ولعله قد لابس من أمر الخيل وركوبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 والسلاح والعلم بذلك أو الرقيق واقتنائه أو الثياب ولبسها أو الطيب واستعماله أكثر مما دعاناه من أمر الشعر وروايته؛ فلا يتهم نفسه في المعرفة بالشعر تهمته إياها بالمعرفة ببعض هذه الأشياء مما عاناه وتناوله، وما باله وقد ركب الخيل كثيراً لما راقه من الفرس ملاحة سبيبه، واستدارة كفله، وبريق شعره، وحسن إشراقه وجودة خصره - توقف عن ابتياعه حتى يشاور من يخبره عن عتقه، وموضع نتاجه، وصحة قوائمه، وسلامة أعضائه، وبراءته من العيوب الظاهرة والباطنة، وكذلك السيف لما بهره جلاؤه، وصقاله وصفاء حديدته - لم يمض فيه اختياره على غيره من السيوف، حتى شاور من يعرف حسنه وطبعه وجوهره وفرينده ومضاءه، وكذلك لم أهجبه من ثوب الوشى حسن طرزه، وكثرة صوره، وبديع نقوشه، واختلاط ألوانه - لم يبادر إلى إعطاء ثمنه حتى رجع إلى أهل العلم بجوهره وكثرة مائه وجودة رقعته وصحة نساجته وخلاص إبريسمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 فكيف لم يفعل مثل ذلك بالشعر لما راقه حسن وزنه وقوافيه، ودقيق معانيه، وما يشتمل عليه من مواعظ وآداب وحكم وأمثال؛ بم يتوقف عن الحكم له على ما سواه حتى يرجع إلى من هو أعلم منه بألفاظه، واستواء نظمه، وصحة سبكه، ووضع الكلام منه في مواضعه، وكثرة مائه ورونقه؛ إذ كان الشعر لا يحكم له بالجودة إلا بأن تجتمع هذه الخلال فيه. ألا ترى أنه قد يكون فرسان سليمين من كل عيب، موجودٌ فيهما سائر علامات العتق والجودة والنجابة، ويكون أحدهما أفضل من الآخر بفرق لا يعلمه إلا أهل الخبرة والدربة الطويلة، وكذلك الجاريتان البارعتان في الجمال، المتقاربتان في الوصف، السليمتان من كل عيب، قد يفرق بينهما العالم بأمر الرقيق، حتى يجعل بينهما في الثمن فضلا كبيرا، فإذا قيل له وللنخاس: من أين فضلت أنت هذه الجارية على أختها؟ ومن أين فضلت أنت هذا الفرس على صاحبه؟ لم يقدر على عبارة توضح الفرق بينهما، وإنما يعرفه كل واحد منهما بطبعه، وكثرة دربته، وطول ملابسته. فكذلك الشعر: قد يتقارب البيتان الجيدان النادران، فيعلم أهل العلم بصناعة الشعر أيهما أجود إن كان معناهما واحداً، أو أيهما أجود في معناه إن كان معناهما مختلفاً. وقد ذكر هذا المعنى بعينه محمد بن سلام الجمحي وأبو علي دعبل بن علي الخزاعي في كتابيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وحكى إسحاق الموصلي قال: قال لي المعتصم: أخبرني عن معرفة النغم وبينها لي، فقلت: إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة، ولا تؤديها الصفة. قال: وسألني محمد الأمين عن شعرين متقاربين، وقال: اختر أحدهما، فاخترت، فقال: من أين فضلت هذا على هذا وهما متقاربان؟ فقلت: لو تفاوتا لأمكنني التبيين، ولكنهما تقاربا وفضل هذا بشيء تشهد به الطبيعة ولا يعبر عنه اللسان. وقد قيل لخلفٍ الأحمر: إنك لا تزال ترد الشيء من الشعر، وتقول: هو ردئ، والناس يستحسنونه! فقال: إذا قال لك الصيرفي إن هذا الدرهم ظائفٌ فاجهد جهدك أن تنفقه فإنه لا ينفعك قول غيره: إنه جيد. فمن سبيل من عرف بكثرة النظر في الشعر والارتياض فيه وطول الملابسة له أن يقضي له بالعلم بالشعر والمعرفة بأغراضه، وأن يسلم له الحكم فيه، ويقبل منه ما يقوله، ويعمل على ما يمثله. ولا ينازع في شيء من ذلك؛ إذ كان من الواجب أن يسلم لأهل كل صناعة صناعتهم، ولا يخاصمهم فيها، ولا ينازعهم إلا من كان مثلهم نظراً في الخبرة وطول الدربة والملابسة؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 فإنه ليس في وسع كل أحدٍ أن يجعلك - أيها السائل المتعنت والمسترشد المتعلم - في العلم بصناعته كنفسه، ولا يجد إلى قذف ذلك في نفسك ولا في نفس ولده ومن هو أخص الناس به سبيلا، ولا أن يأتيك بعلة قاطعة، ولا حجة باهرة، وإن كان ما اعترضت فيه اعتراضاً صحيحاً وما سألت عنه سؤالا مستقيما؛ لأن مالا يدرك إلا على طول الزمان ومرور الأيام لا يجوز أن تحيط به في ساعةٍ من نهار. نم إن العلم بالذي لا يعلم به في أكثر أحواله إلا بالرؤية والمشاهدة لا يعرف حق المعرفة بالقول والصفة، وقد قيق: ليس الخبر كالمعاينة، وعلى ذلك بينة واضحة، ومعلومة ظاهرة، وهي أنه لا يمكن أن يشاهد بك جميع المعلومات التي احتواها وعلم علمه منها بملابستها في السنين الطويلة؛ فمن المحال أن يقدر أن يصف لك عشرة آلاف فرسٍ أو عشرة آلاف جارية أو عشرة آلاف سيف مختلفات الأجناس والجواهر والأوصاف فيجعلك مشاهداً لذلك كله في لحظة واحدة ووقت واحد، ومخبراً لك بكل علة وكل حجة وكل نعتٍ وصفة في كل نوع من ذلك وكل جنس في تلك الساعة، وهو إنما علم ذلك على مرور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 الأيام وطول الزمان. وهذا مجال لا يمكن ولا يسوغ ولا يقدر عليه إلا خالق الخلق وبارئ النسم. وبعد؛ فلم لا تصدق نفسك أيها المدعي، وتعرفنا من أين طرأ عليك العلم بالشعر، أمن أجل أن عندك خزانة كتب تستمل على عدة من دواوين الشعراء وأنك ربما قلبت ذلك أو تصفحته أو حفظت القصيدة أو الخمسين منه؟ فإن كان ذلك هو الذي قوى ظنك، ومكن ثقتك بمعرفتك، فلم لا تدعي المعرفة بثياب بدنك ورحل بيتك ونفقاتك؟ فإنك دأباً تستعمل ذلك وتستمتع به، ولا تخلو من ملابسته كما تخلو في كثير من الأوقات من ملابسة الشعر ودراسته وإنشاده حتى إذا رمت تصريف دينار بدراهم أو تصريف دراهم بدينار أو ابتياع ثوبٍ أو شيء من الآلة لم تثق بفهمك ولا علمك حتى ترجع إلى من يعرف ذلك دونك فتستعين به على حاجتك؟ ولم لما خفت الغبينة في مالك فأذعنت وسلمت وأقررت بقلة المعرفة، ولم تخش الغبينة والوكس في عقلك فتسلم العلم بالشعر إلى أهله؟ فإن الضرر في غبن العقل أعظم من الضرر في غبن المال. فإن قلت: وما العلم بالخيل والبز والرقيق والذهب والفضة التي لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 يطبع الإنسان على المعرفة بها والعلم بجيدها ورديئها كما طبع على الكلام؛ فكان كل أحد يكون متكلما، وليس كل أحد صيرفيا ولا بزازاً ولا نخاساً؟. قيل: ولا كل أحد يكون شاعراً، ولا خطيباً، ولا منطيقا بليغا، ولا بارعا، ولو كان ذلك كذلك لما رأيت أحداً يتكلم فيستحسن كلامه، وآخر يتكلم فيضحك منه؛ فالإنسان المتكلم يعلم معاني ألفاظ لغته، ولا يعلم جيدها من رديئها، ومتخيرها من مرذولها، كما أنه يعلم أيضاً أنواع الثياب والجواهر والخيل والرقيق، ويميز بين أجناسها، ولا يعلم جيد كل جنس من رديئه، وأرفعه من أدونه، فكما أن المعرفة بكل جنس من هذه صناعة، فكذلك المعرفة بكل جنس من أجناس الكلام والشعر والخطابة صناعة، فإذا رجعت ف يالمرعفة بتلك إلى أهلها فارجع أيضاً في المعرفة بهذه إلى أهلها. وبعد؛ فإني أدلك على ما ينتهي بك إلى البصيرة والعلم بأمر نفسك في معرفتك بأمر هذه الصناعة أو الجهل بها، وهو أن تنظر ما أجمع عليه الأئمة في علم الشعر من تفضيل بعض الشعراء على بعض، فإن عرفت علة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ذلك فقد علمت، وإن لم تعرفها فقد جهلت، وذلك بأن تتأمل شعري أوس بن حجر والنابغة الجعدي؛ فتنظر من أين فضلوا أوساً، وتنظر في شعري بشر بن أبي خازم وتميم ابن أبي بن مقبل، فتنظر من أين فضلوا بشرا. وأخبرني بعض الشيوخ عن أبي العباس ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل أن سائلا سأله عن الراعي وذى الرمة أيهما أشعر، فصاح عليه صيحة منكرة: أي لا يقاس ذو الرمة بالراعي، وكذلك غير المفضل لا يقيسه به ولا يقارب بينهما، فتأمل أيضاً شعري هذين فانظر من أين وقع التفضيل؛ فهذا الباب أقرب الأشياء لك إلى أن تعلم حالك في العلم بالشعر ونقده. فإن علمت من ذلك ما علموه، ولاح لك الطريق التي بها قدموا من قدموه وأخروا من أخروه؛ فثق حينئذ بنفسك، واحكم يستمع حكمك وإن لم ينته بك التأمل إلى علم ذلك فاعلم أنك بمعزل عن الصناعة، ثم إن كنت شاعرا فلا تظهر شعرك، واكتمه كما تكتم سرك، فإن قلت إنك قد انتهى بك التأمل إلى علم ما علموه لم يقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ذلك منك حتى تذكر العلل والسباب، فإن لم تقدر على تلخيص العبارة عن ذلك حتى تعلم شواهد ذلك من فهمك ودلائله من اختياراتك وتمييزك بين الجيد والردئ. ثم إني أقول بعد ذلك: لعلك - أكرمك الله - اغتررت بأن شارفت شيئاً من تقسيمات المنطق، وجملا من الكلام والجدال، أو علمت أبواباً من الحلال والحرام، أو حفظت صدراً من اللغة، أو اطلعت على بعض مقاييس العربية، وأنك لما أخذت بطرف نوع من هذه الأنواع معاناة ومزاولة ومتصل عناية فتوحدت فيه وميزت - ظننت أن كل ما لم تلابسه من العلوم ولم تزاوله يجري ذلك المجرى، وأنك متى تعرضت له وأمررت قريحتك عليه نفذت فيه، وكشفت لك عن معانيه، وهيهات! لقد ظننت باطلا، ورمت عسيراً؛ لأن العلم - أي نوع كان - لا يدركه طالبه إلا بالانقطاع إليه، والإكباب عليه، والجد فيه، والحرص على معرفة أسراره وغوامضه، ثم قد يتأتى جنسٌ من العلوم لطالبه وبتسهيل عليه، ويمتنع عليه جنس آخر ويتعذر؛ لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبوله، وما في طاقته تعلمه؛ فينبغي - أصلحك الله - أن تقف حيث وقف بك، وتقنع بما قسم لك، ولا تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا من صناعتك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 * باب في فضل أبي تمام وجدت أهل النصفة من أصحاب البحتري ومن يقدم مطبوع الشعر دون متكلفه لا يدفعون أبا تمام عن لطيف المعاني ودقيقها، والإبداع والإغراب فيها، والاستنباط لها، ويقولون: إنه وإن اختل في بعض ما يورده منها فإن الذي يوجد فيها من النادر المستحسن أكثر مما يوجد من السخيف المسترذل، وإن اهمامه بمعانيه أكثر من اهتمامه بتقويم ألفاظه، على كثرة غرامه بالطباق والتجنيس والمماثلة، وإنه إذا لاح له أخرجه بأي لفظ استوى من ضعيف أو قوي. وهذا من أعدل كلامٍ سمعته فيه، وإذا كان هذا هكذا فقد سلموا له لاشيء الذي هو ضالة الشعراء وطلبتهم، وهو لطيف المعاني، وبهذه الخلة دون ما سواها فضل امرؤ القيس؛ لأن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف ولطيف التشبيه وبديع الحكمة فوق ما في أشعار سائر الشعراء من الجاهلية والاسلام، حتى إنه لا تكاد تخلو له قصيدة واحدة من أن تشتمل من ذلك على نوع أو أنواع، ولولا لطيف المعاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 واجتهاد امرئ القيس فيها وإقباله عليها لما تقدم على غيره، ولكان كسائر شعراء أهل زمانه؛ إذ ليست له فصاحة توصف بالزيادة على فصاحتهم ولا لألفاظه من الجزالة والقوة ما ليس لألفاظهم، ألا ترى أن العلماء بالشعر إنما احتجوا في تقديمه بأن قالوا: هو أول من شبه الخيل بالعصى، وذكر الوحش والطير، وأول من قال " قيد الأوابد " وأول من قال كذا، فهل هذا التقديم له إلا لأجل معانيه؟ وقالوا: وإذا كان قد اضطرب لفظ أبي تمام واختل في بعض المواضع، فهل خلا من ذلك شاعر قديم أو محدث؟ هذا الأعشى يختل لفظه كثيراً، ويسفسف دائماً، ويرق ويضعف، ولم يجهلوا حقه وفضله حتى جعلوه نظير النابغة، وألفاظ النابغة في الغاية من البراعة والحسن، وعديلاً لزهير الذي صرف اهتمامه كله إلى تهذيب ألفاظه وتقويمها، وألحقوه بامرئ القيس الذي جمع الفضيلتين؛ فجعلوهم طبقةً، وصار فضل كل واحد من غير الوجه الذي فضل به صاحبه، ولو أن أبا تمام حي يخلو من كل لفظ جيد البتة أو لو أنه قال بالفارسية أو الهندية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال الناء فيما جاورت ... ما كان يعرف فضل عرف العود أو قال: هي البدر يغنيها تودد وجهها ... إلى كل من لاقت، وإن لم تودد أو ما أشبه هذا من بدائعه حتى يفسره بكلام عربي منثور، أما كان هذا يكون شاعراً محسناً باعثاً شعراء زمانه من أهل اللغة العربية على طلب شعره وتفسيره واستعارة معانيه؟ فكيف وبدائعه مشهورة، ومحاسنه متداولة، ولم يأت إلا بأبلغ لفظٍ وأحسن سبكٍ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 * باب في فضل البحتري ووجدت أكثر أصحاب أب يتمام لا يدفعون البحتري عن حلو اللفظ، وجودة الرصف، وحسن الديباجة، وكثرة الماء؛ وأنه أقرب مأخذاً، وأسلم طريقاً من أبي تمام، ويحكمون - مع هذا - بأن أبا تمام أشعر منه، وقد شاهدت وخاطبت منهم على ذلك عدداً كثيراً، وهذا مذهب جل من يراعى مما يراعيه من أمر الشعر دقيق المعاني، ودقيق المعاني موجود في كل أمة، وفي كل لغة، وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتى، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله، وأن تمون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه؛ فإن الكلام لا يكتسى البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف، وتلك طريقة البحتري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 قالوا: وهذا أصل يحتاج إليه الشاعر والخطيب صاحب النثر؛ لأن الشعر أجوده أبلغه، والبلاغة إنما هي إصابة المعنى وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة مستعملة سليمة من التكلف، لا تبلغ الهذر الزائد على قدر الحاجة، ولا تنقص نقصاناً يقف دون الغاية، وذلك كما قال البحتري: والشعر لمحٌ تكفى إشاره ... وليس بالهذر طولت خطبه وكما قال أيضاً: ومعانٍ لو فصلتها القوافي ... هجنت شعر جرولٍ ولبيد حزن مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ الغريب فأدرك ... ن به غاية المرام البعيد فإن اتفق - مع هذا - معنى لطيف، أو حكمة غريبة، أو أدب حسن؛ فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه، واستغنى عما سواه. قالوا: وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة، وكانت عبارته مقصرة عنها، ولسانه غير مدركٍ لها حتى يعتمد دقيق المعاني من فلسفة يونان أو حكمة الهند أو أدب الفرس، ويكون أكثر ما يورده منها بألفاظ متعسفة ونسج مضطرب، وإن اتفق في تضاعيف ذلك شيء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 صحيح الوصف وسليم النظم قلنا له: قد جئت بحكمة وفلسفة ومعانٍ لطيفة حسنة، فإن شئت دعوناك حكيما، أو سميناك فيلسوفا، ولكن لا نسميك شاعراً، ولا ندعوك بليغاً؛ لأن طريقتك ليست على طريقة العرب، ولا على مذاهبم، فإن سميناك بذلك لم نلحقك بدرجة البلغاء، ولا المحسنين الفصحاء، وينبغي أن تعلم أن سوء التأليف وردئ اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميه حتى يحتاج مستمعه إلى طول تأمل، وهذا مذهب أبي تمام في عظم شعره، وحسن التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاءً وحسناً ورونقاً حتى كأنه قد أحدث فيه غرابه لم تكن، وزيادةً لم تعهد، وذلك مذهب البحتري، ولذلك قال الناس: لشعره ديباجة، ولم يقولوا ذلك في شعر أبي تمام، وإذا جاء لطيف المعاني في غير بلاغة ولا سبك جيدٍ ولا لفظ حسن كان ذلك مثل الطراز الجيد على الثوب الخلق، أو نفث العبير على خد الجارية القبيحة الوجه. وأنا أجمع لك معاني هذا الباب في كلمات سمعتها من شيوخ أهل العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 بالشعر: زعموا أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء، وهي: جودة الآلة، وإصابة الغرض المقصود، وصحة التأليف، والانتهاء إلى نهاية الصنعة من غير نقص منها ولا زيادة عليها. وهذه الخلال الأربع ليست في الصناعات وحدها، بل هي موجودة ف يجميع الحيوان والنبات. ذكرت الأوائل أن كل محدث مصنوعٍ محتاجٌ إلى أرعبة أشياء: علة هيولانية وهي الأصل، وعلة صورية، وعلة فاعلة، وعلة تمامية. فأما الهيولى فإنهم يعنون الطينة التي يبتدعها الباري تبارك وتعالى ويخترعها ليصور ما شاء تصويره من رجل أو فرس أو جملٍ أو غيرها من الحيوان، أو برة أو كرمة أو نخلة أو سدرة أو غيرها من سائر أنواع النبات. والعلة الفاعلة هي تأليف الباري جل جلاله لتلك الصورة. والعلة التمامية هو أن يتمها تعالى ذكره ويفرغ من تصويرها من غير انتقاص منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وكذلك الصانع المخلوق في مصنوعاته التي علمه الله عز وجل إياها: لا تستقيم له وتجود إلا يهذه الأربعة، وهي: آلة يستجيدها ويتخيرها مثل خشب النجار وفضة الصائغ وآجر البناء وألفاظ الشاعر والخطيب، وهذه هي العلة الهيولانية التي قدموا ذكرها وجعلوها الأصل، ثم إصابة الغرض فيما يقصد الصانع صنعته، وهي العلة الصورية التي ذكرتها، ثم صحة التأليف حتى لا يقع فيه خلل ولا اضطراب، وهي العلة الفاعلة، ثم أن ينتهي الصانع إلى تمام صنعته من غير نقص منها ولا زيادة عليها، وهي العلة التمامية. فهذا قولٌ جامع لكل الصناعات والمخلوقات، فإن اتفق الآن لكل صانع بعد هذه الدعائم الأربع أن يحدث في صنعته معنى لطيفا مستغربا كما قلنا في الشعر من حيث لا يخرج عن الغرض فذلك زائد في حسن صنعته وجودتها، وإلا فالصنعة قائمة بنفسها مستغنية عما سواها. وقد ذكر بزرجمهر فضائل الكلام ورذائله، وبعض ذلك دليل في الشعر، فقال: إن فضائل الكلام خمسٌ لو نقص منها فضيلة واحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 سقط فضل سائرها، وهي: أن يكون الكلام صدقا، وأن يوقع موقع الانتفاع به، وأن يتكلم به في حينه، وأن يحسن تأليفه، وأن يستعمل منه مقدار الحاجة. قال: ورذائله بالضد من ذلك؛ فإنه إن كان صدقا ولم يوقع موقع الانتفاع به بطل فضل الصدق منهن وإن كان صدقا وأوقع موقع الانتفاع به ولم يتكلم به في حينه لم يغنه الصدق ولم ينتفع به، وإن كان صدقا وأوقع موقع الانتفاع به وتكلم به في حينه ولم يحسن تأليفه لم يستقر في قلب مستمعه، وبطل فضل الخلال الثلاث منه، وإن كان صدقاً وأوقع موقع الانتفاع به وتكلم به في حينه وأحسن تأليفه، ثم استعمل منه فوق الحاجة خرج إلى الهذر، أو نقص عن التمام صار مبتورا وسقط منه فضل الخلال كلها. وهذا إنما أراد به بزرجمهر الكلام المنثور الذي يخاطب به الملوك، ويقدمه المتكلم أمام حاجته، والشاعر لا يطالب بأن يكون قوله صدقاً، ولا أن يوقعه موقع الانتفاع به؛ لأنه قد يقصد إلى أنه يوقعه موقع الضرر، ولا أن يجعل له وقتاً دون وقت، وبقيت الخلتان الأخريان، وهما واجبتان في شعر كل شاعر، وذلك أن يحسن تأليفه، ولا يزيد فيه شيئاً على قدر حاجته؛ فصحة التأليف في لاشعر وفي كل صناعة هي أقوى دعائمه بعد صحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 المعنى، فكل من كان أصح تأليفاً كان أقوم بتلك الصناعة ممن اضطرب تأليفه. وقد انتهيت الآن إلى الموازنة بينهما، ولله الحمد والمنة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما. خاتمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا حمد وآله وصحبه أجمعين وقد انتهيت الآن إلى الموازنة، وكان الأحسن أن أوازن بين البتين أو القطعتين، إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، ولكن هذا لا يكاد يتفق مع اتفاق المعاني التي إليها المقصد، وهي المرمى والغرض. وبالله أستعين على مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى، وترك التحامل؛ فإنه جل اسمه حسبي ونعم الوكيل. وأنا ابتدئ بإذن الله من ذلك بما افتتحا به القول: من ذكر الوقوف على الديار والآثار، ووصف الدمن والأطلال، والسلام عليها، وتعفية الدهور والأزمان والرياح والأمطار إياها، والدعاء بالسقيا لها، والبكاء فيها، وذكر استعجامها عن جواب سائلها، وما يخلف قطينها الذي كانوا حلولاً بها من الوحش، وف يتعنيف الأصحاب ولومهم على الوقوف بها، ونحو هذا مما يتصل به من أوصافها ونعوتها. وأقدم من ذلك ذكر ابتداءات قصائدهما في هذه المعانين إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 * الابتداءات بذكر الوقوف على الديار قال أبو تمام: ما في وقوفك ساعة من باس ... نقضي حقوق الأربع الأدراس وهذا ابتداء جيد صالح، وقوله " الأدراس " جمع دارس، وقلما يجمع فاعل على أفعال، ومنه: شاهد وأشهاد، وماجد وأمجاد، وصاحب وأصحاب. وقال أيضاً: قفوا جددوا من عهدكم بالمعاهد ... وإن هي لم تسمع لنشدان نائد أراد لنشدان الناشد الذي يقول: أين أهلك يا دار؟ كما ينشد الناشد الضالة إذا طلبها. وقال أيضاً: قف بالطلول الدارسات علاثا ... أضحت حبال قطينهن رثاثا علاثة: اسم صاحبه، أراد قف يا علاثة، وهذان ابتداءان صالحان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وقال أيضاً: قف نؤبن كناس هذا الغزال ... إن فيه لمسرحاً للمقال التأبين: مدح الهالك، والكناس هنا: الربع، وإنما يريد الخيمة أو البيت من بيوتهم، سماه كناساً لأنه جعل المرأة غزالا: أي قف بنا نندبه فإن المقال يتسع فيه، وهذا أيضاً بيتٌ جيد ومعنى حسن مستقيم. وقال: ليس الوقوف يكف شوقك فانزل ... وابلل غليلك بالمدامع يبلل وهذا معنى ظريف، وقد جاء مثله في الشعر، قال الأصم الباهلي - وسامه عبد الله بن الحجاج - ولا أعرف غيره، وأظن أبا تمام عثر به واحتذى عليه؛ لأنه كان مولعاً بغرائب الألفاظ والمعاني: أتنزل اليوم بالأطلال أم تقف؟ ... لا، بل قف العيس حتى يمضى السلف السلف: المتقدمون، وإنما قال ذلك لأن الوقوف على الديار إنما هو وقوف المطي، ولا يكادون يذكرون نزولاً. وأنشد منشدٌ قول كثيرٍ وكثيرٌ يسمع: وقضين ما قضين ثم تركنني ... بفيفا خريمٍ قاعداً أتلدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فقال كثير: أنا ما قلت كذا، أتراني قاعداً أصنع ماذا؟ قيل: فجالساً؟ قال: ولا هذا! أجالساً كنت أبول، قيل: فما قلت؟ قال: واقفاً؛ يريد واقفاً على مطيته فهذا هو المعروف من عاداتهم. وقد قال كثير: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت والقولص لا يعقلها راكبها إلا إذا نزل عنها، والعقل فوق الركبة. وقال البحتري: ما على الركب من وقوف الركاب ... في مغاني الصبا ورسم التصابي؟ التصابي: التفاعل من صبا يصبو إذا اشتاق، وإذا فعل فعل الصبى. وقال أيضاً: ذاك وادي الأراك فاحبس قليلاً ... مقصراً من ملامتي أو مطيلا وهذا ابتداءان في غاية الجودة. وقال أيضاً: قف العيس قد أدنى خطاها كلاهما ... وسل دار سعدى إن شفاك سؤالها وهذا لفظ حسن، ومعنى ليس بالجيد؛ لأنه قال " أدنى خطاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 كلالها " أي: قارب من خطوها الكلال، وهذا كأنه لم يقف لسؤال الديار التي تعرض لأن يشفيه، وإنما وقف لإعياء المطى. والجيد قول عنترة: فوقفت فيها ناقتي وكأنها ... فدنٌ لاقضى حاجة المتلوم فإنه لما أراد ذكر الوقوف احتاط بأن شبه ناقته بالفدن، وهو القصر؛ ليعلم أنه لم يقفها ليريحها. وقد كشف ذو الرمة هذا المعنى وأحسن فيه وأجاد، فقال: أنخت بها الوجناء لا من سآمةٍ ... لثنتين بين اثنين جاء وذاهب يقول: أنختها لأن أصلى، لا من سآمة، هكذا فسروه، وقوله " لثنتين " يعني ركعتي العصر اللتين يقصرهما المسافر بين اثنين جاء يريد الليل وذاهب يريد النهار. فإن قيل: إنما قال " أدنى خطاها كلالها " ليعلم أنه قصد الدار من شقة بعيدة فيكون أبلغ في المعنى. قيل: العرب لا تقصد الديار للوقوف عليها، وإنما تجتاز بها، فإن كانت واقعة على سنن الطريق قال الذي له أربٌ في الوقوف لصاحبه أو أصحابه: قف، وقفا، وقفوا، وإن لم تكن على سنن الطريق قال: عوجا، وعرجا، وعوجوا، وعرجوا، كما قال امرؤ القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 عوجا على الطلل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن حذام في الوقوف حيث انتهت راحة، والترعيج فيه زيادة تعبها وكلالها، وإن قلت المسافة، كما قال أبو تمام: وما بك إركابي من الرشد مركباً ... ألا إنما حاولت رشد الركائب لأن هذا القول منه دل على الترعيج والتردد في الرسوم، أو أن أصحابه أرادوا أن يستمر في السير ولا يتعوق في الوقوف فيعود عليها ذلك بضرر في العاقبة وإن أكسبها راحة ما في الوقوف، فقال له أبو تمام " إنما حاولت رشد الركائب " لا رشدي، فأما الأصمعي فإنه يرى التعريج أيضاً وقوفا لا عدولا، قال أبو حاتم: قلت له: ما معنى عرج؟ قال: قف، فقلت: يقال: عرج إذا عدل؟ فقال: لا، وأنشد بيت ذى الرمة: يا حدايي بنت فضاض أما لكماحتى نكلمها همٌ بتعريج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 أي همٌ بوقوف، وهذا لا يمنع أن يكون همٌ بعدول، ونفس الاشتقاق يدل على العدولن والله أعلم. وقال كثير يصف السيل: فطوراً يسيل على قصده ... وطوراً يعرج ألا يسيلا فلو كان هناك قصد إلى الدار من جماعتهم أو منه وحده لما لاموه، ولا عنفوه على احتباسه وإطالته، ولا استعجلوه وهو دائبا يسألهم التلؤم عليه والتوقف معه. وهذه طريقة القوم في الوقوف على الديار، ولهم فيها من الأشعار ما هو أشهر وأكثر من أن أحتاج إلى ذكره، وتلك سبيل سائر المحدثين، وطريقة الطائيين ما عدلا عنها، ولا خرجا إلى غيرها، ألا ترى إلى قول أبي تمام: ما في وقوفك ساعةً من باس ... نقصي ذمام الأربع الأدراس كيف سأل صاحبه أن يقف عليه ساعةً؟ ثم قال بعد بيت آخر: لا يسعد المشتاق وسنان الهوى ... يبس المدامع بارد الأنفاس وقوله: لا تمنعني وقفة أشفى بها ... داء الفراق فإنها ماعون وقال البحتري: يا وهب هب لأخيك وقفة مسعدٍ ... يعطى الأسى من دمع المبذول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وقال أيضاً: قف بها وقفةً ترد عليها ... أدمعاً ردها الكرى أنضاء وقال أيضاً: ماذا عليك من انتظار متيمٍ ... بل ما تضرك وقفةٌ في منزل وقال أيضاً: خلياه ووقفةً في الرسوم ... يخل من بعض بثه المكتوم ثم إنا ما علمنا أحداً قصد داراً عفت من شقةٍ بعيدة، واحداً كان أو في جماعة، للتسليم عليها، والمسألة لها، ثم انصرفوا راجعين من حيث جاءوا، وإن هذا ما سمح به، ولا هو من أغراضهم؛ إذ ليس فيه جدوى، ولا يؤدي إلى فائدة، لأن المحبوب إن كان حياً موجوداً فقصد رباعه ومواطنه التي هو قاطنها والإلمام به فيها أولى وأحرى، وإن كان ميتا فالإلمام بناحية الأرض التي فيها حفرته أولى وأحرى، وعلى أنهم لا يكادون يزورون القبور، وإنما وقفوا علىلديار، وعرجوا عليها عند الاجتياز بها والاقتراب منها؛ لأنهم تذكروا عند مشارفتها أوطارهم فيها، فنازعتهم نفوسهم إلى الوقوف عليها، والتلوم بها، ورأوا أن ذلك من كرم العهد وحسن الوفاء، ألا ترى إلى قول أبي تمام: أمواطن الفتيان نطوى لم نزر ... شوقاً ولم نندب لهن صعيدا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ويروى " لم نزر شعفاً " أي: كيف نطوى الرسوم والدمن التي هي مواقف أهل الفتوة، يريد الكرام، ولم نزر حزناً لها ولا سهلا، لأنه أراد بالعشف ما ارتفع من الأرض وعلا، وأراد بالصعيد ما اطمأن من الأرض وسفل، والصعيد إنما هو وجه الأرض الذي فيه التراب، وأكثر ما يكون فيما اطمأن من الأرض، لا فيما علا، فكانوا يرون الوقوف على الديار من الفتوة والمروءة، وأن طيها عند الاجتياز بها من النذالة وقبيح الرعاية وسوء العهد. وما أحسن ما قال أبو نواس: وإذا مررت على الديار مسلماً ... فلغير دار أميمة الهجران على طريقة القوم المعتادة. وقال البحتري يخاطب نفسه أو صاحباً معه: قف العيس قد أدنى خطاها كلالها ... وسل دار سعدى إن شفاك سؤالها فمن زعم أن البحتري بهذا القول كان قاصداً للدار وغير مجتازٍ احتاج إلى دليل من لفظ البيت يدل عليه، ولا سبيل له إلى ذلك. فإن قيل: ولم لا يكون للمطية حق على من بلغته منازل الأحباب يوجب أن يكرمها ويريحها كما قال أبو نواس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وإذا المطي بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام قربننا من خير من وطئ الحصى ... فلها علينا حرمة وذمام قيل: هذا أصلٌ آخر طريقه غير طريق القوف على الديار، ولا يقاس أصلٌ على أصل، وإنما يقاس على الأصل فروعه التي تتفرع منه، وهذا الشرط في كل علم. وقال أبو نواس ف يموضع آخر يخاطب ناقته أيضاً: فلم أجعلك للغربان نحلاً ... ولم أقل اشرقي بدم الوتين يريد قول الشماخ، والشماخ إنما قال: إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين لأنه رأى ناقته قد شفها السير وهزلها وأنضاها حتى دبرت، وذلك قوله: إليك بعثت راحلتي تشكى ... كلوماً بعد محفدها السمين فيقول: إذا بلغتني عرابة فلا أبالي أن تهلكي، وهذا ليس بدعاء عليها، وإنما أراد أنك إذا بلعتنيه فقد بلغت الغنى وأدركت العوض فهذا معنى وقول أبي نواس له معنى آخر، وليس بضد لقول الشماخ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 وإنما يضاده قول المرأة التي قالت: يا رسول الله، إني نذرت إن بلغتني ناقتي هذه إليك أن أنحرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لبئس ما جزيتها " لأن هذه قصدت أن جعلت جزاء التبليغ النحر؛ فهذان المعنيان يتضادان، وقول الشماخ خارج عنهما، فإنه أصل ثالث، والوجه الذي جاء به البحتري في الوقوف على الديار وتحرز منه عنترة وذو الرمة وجه غير هذه الوجوه، وطريقة غير هذه الطرق، ولم أقل إنه خطأ، وإنما قلت: إن المعنى غير جيد، فغن التمست العذر للبحتري قلنا: إنه وصف حقيقة أمر العيس عند الوصول إلى الدار، وهذا مذهبٌ من مذاهب العرب عامٌ في أن يصفوا الشيء على ما هو، وعلى ما شوهد، من غير اعتماد لإغراب ولا إبداع، وربما ورد هذا الوجه على ألسنتهم أحسن من كل معنى بديع مستغرب، وربما وقع فيه مثل هذا الخلل لقلة التحرز، وسترى للبحتري وغيره في هذا الكتاب من هذا النوع ف يمواضعه ما هو أجود من كل جيد، إن شاء الله. وقال البحتري: عرج بذى سلمٍ فثم المنزل ... فيقول صبٌ ما أراد ويفعل وهذا ابتداء جيد، وقد رواه قوم " ليقول صبٌ ما أراد ويفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 " والنصب أجود في الروايتين، والرفع له وجه، والمتأخرون لا يكادون يسلمون من اللحن، وهو في أشعارهم كثير جداً. وقال: كم من وقوفٍ على الأطلال والدمن ... لم يشف من برحاء الشوق ذا شجن وهذا أيضاً ابتداء جيد. وقال أيضاً: استوقف الركب في أطلالهم وقفا ... وإن أجد بلى مأثورها وعفا يقال: أجد في أمره من الانكماش، وجد، وهذا ابتداء صالح. وقال: قفا في مغاني الدار نسأل طلولها ... عن النفر اللائين كانوا حلولها وهذا الابتداء ليس بالجيد؛ من أجل قوله " اللائين "؛ لأنها لفظة ليست بالحلوة ولا مشتهاة، وليست مشهورة. فهذا ما ابتدآ به من ذكر الوقوفن وأجعلهما فيه متكافئين؛ من أجل براعة بيتي البحتري الأولين، وأنهما أجود من سائر أبيات أبي تمام، ولأن للبحتري في الباب التقصير الذي ذكرته له، وليس لأبي تمام مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 * التسليم على الديار قال أبو تمام: دمنٌ ألم بها فقال: سلام ... كم حل عقدة صبره الإلمام هذا المصراع الأول في غاية الجودة والبراعة والحسن والصحة والحلاوة، وعجز البيت أيضاً جيد بالغ. وقال: سلم على الربع من سلمى بذى سلم ... عليه وسمٌ من الأيام والقدم وهذا ابتداء ليس بالجيد؛ لأنه جاء بالتجنيس في ثلاثة ألفاظ، وإنما يحسن إذا كان بلفظتين، وقد جاء مثله في أشعار الناس، والردئ لا يؤتم به. وقال الأبيرد بن المعذل الرياحي: جزعت ولم تجزع من البين مجزعا ... وكنت بذكر الجعفرية مولعا وقد جعل بعض الرواة هذا البيت أول قصيدة لامرئ القيس على هذا الوزن، وذلك باطل، وما ينبغي للمتأخر أن يحتذى الأخذ إلا للجيد المختار؛ لسعة مجاله، وكثرة أمثلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وقال البحتري: هذي المعاهد من سعاد فسلم ... واسأل وإن وجمت ولم تتكلم وقال أيضاً: أمحلتى سلمى بكاظوة اسلما ... وتعلما أن الهوى ما هجتما وهذا ابتداءان جيدان. وقال أيضاً: حييتما من مربع ومصيف ... كانا محلى زينبٍ وصدوف وهذا ابتداء صالح. وقال أيضاً: ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها ... نعم، ونسالها عن بعض أهليها وهذا البيت ردئ؛ لقوله " نعم " وليس بالمعنى إليها حاجة، جاء بها حشواً. ومن الحشو ما لا يقبح، و " نعم " ههنا قبيحة، وقد أولع بها كثير بن عبد الرحمن في ابتداءاته فقال: أمن أم عمرو بالحريق ديار ... نعم دارساتٌ قد عفون قفار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وقال: أمن آل سلمى الركب أم أنت سائل ... نعم، والمغاني قد درسن مواثل وقال: أهاجتك ليلى إذ أجد رحيلها ... نعم، وثنت لما احزألت حمولها احزألت: انتصبت وارتفعت. وقال: أبائنةٌ سعدى؟ نعم ستبين ... كما انبت من حبل القرين قرين وهي في كل هذه البيات رديئة، وموضعها من هذا البيت الأخير أصلح؛ لأن إسقاطها من الجميع يحسن، ولا يحتاج الاستفهام فيها إلى جواب، إلا هذا البيت فإن الاستفهام فيه يقتضي أن يكون " نعم " جوابا له، ومع هذا فليس لها حلاوة ولا حسن، ولكثير استفهامات لا جواب لها على عادات الشعراء المحسنين. ومنها قوله: من آل قيلة بالدخول رسوم ... وبحومل طللٌ يلوح قديم وكل أبيات كثير أجود من بيت البحتري؛ لأن " نعم " فيها جواب، وهي في بيت البحتري حشو، وقال البحتري في بيته " نحييها " والأجود " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 نحيها " جزم لأنه جواب الأمرن وقد يكون " نحييها " رفعاً على الحال، والجواب ههنا أجود من الحال. فهذا ما وجدته من تسليمهما على الديار، وأبو تمام عندي ف يقوله " دمن ألم بها فقال سلام " أشعر من البحتري في سائر أبياته. وما سمعت من التسليم على الديار أحسن من قول أبي نواس: وإذا مررت على الديار مسلماً ... فلغير دار أميمة الهجران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 * ما ابتدآ به من ذكر تعفية الدهور والأزمان للديار قال أبو تمام: لقد أخذت من دار ماوية الحقب ... أنحل المغاني للبلى هي أم نهب؟ أراد أنحلٌ المغاني للبلى، فحذف التنوين، والحقب: الدهر، وجمعه أحقاب، والحقب: السنون، واحدتها حقبة، وقال " لقد أخذت " فأنث والحقب مذكر، وأظنه أراد أيام الدهر ولياليه، ويقال: الحقب ثمانون سنة؛ فعلى هذا قال " أخذت ". وقال أيضاً: قد نابت الجزع من ماوية النوب ... واستحقبت جدةً من ربعها الحقب " واستحقبت " أي جعلت الحقب - وهي السنون - جدة الربع في حقيبتها، والحقيبة: ما يحتقبه الراكب، وهو وعاء يجعله خلفه إذا ركب ويحرز فيه متاعه وزاده، وهذه استعارة حسنة، وإنما يريد أن الحقب سلبت الربع جدته وذهبت بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وقال البحتري: أرسوم دارٍ أم سطور كتاب ... درست بشاشتها على الأحقاب أي: على مر السنين، وهذا البيت أبرع من بيتي أبي تمام لفظا، وأجود سبكا وأكثر ماء ورونقاً، وهو من الابتداءات النادرة العجيبة، والمشبهة لكلام الأوائل؛ فهو فيه أشعر من أبي تمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 * وفي إقواء الديار وتعفيها قال أبو تمام: طلل الجميع لقد عفوت جميداً ... وكفى على رزئي بذاك شهيدا أراد " وكفى بأنه مضى جميداً شاهداً على أنى رزئت " وكان وجه الكلام أن يقول: وكفى برزئي شاهداً على أنه مضى حميداً، وقد استقصيت الكلام في هذا فيما تقدم في غلط أبي تمام وقال أيضاً: أجل أيها الربع الذي بان آهله ... لقد أدركت فيك النوى ما تحاوله وهذا أيضاً ابتداء جيد. وقال أيضاً: شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحت كما محت وشائع من برد وهذا بيت ردئ معيب؛ لأن الوشيعة والوشائع هو الغزل الملفوف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 اللحمة التي يدخلها الناسج بين السدى، والبرد الذي قد تمت نساجته ليس فيه شيء يسمى وشيعة ولا وشائع، وقد ذكرت هذا في أغاليطه. وقال البحتري: تلك الديار ودارسات طلولها ... طوع الخطوب دقيقها وجليلها وقال أيضاً: يا مغاني الأحباب صرت رسوما ... وغذا الدهر فيك عندي ملوما وقال أيضاً: لم يبق في تلك الرسوم بمنعج ... إما سألت معرجٌ لمعرج وقال أيضا ": هلا سألت بجو ثمهد ... طللا " لمية قد تأبد هذه كلها ابتداءات جياد بارعة اللفظ صحيحة المعنى وأبيات أبى تمام أيضا " رائعة ولكن فيها ما ذكرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 * تعفية الرياح للديار : قال أبو تمام: عفت أربع الحلات للأربع الملد ... لكل هضم الكشح مغربة القد الحلات: جمع حلة هو الموضع الذى يحلونه يقال: حلة ومحلة والأربع الملد: يريد أربع نساء ملد من قولهم: غصن أملود وهو الناعم و " أملود " لا يجمع على " ملد " وأنما هو جمع أملد، و " هضيم الكشح " يريد ضامرة البطن وقوله " مغربة القد " يريد أغرب قدها: أى لها قد غريب فى الحسن وإنما أراد عفت أربع حلال: أى مواطنلأربع نسوة وهذا تكف شديد وقد جاءت بلفظ غير حسن ولاجميل، وكذلك " مغربة القد " من قول الشعراء المتأخرين: غريب الحسن وغريب القدوالكلمة إذا لم يؤت بها على لفظها المعتاد هجنت وقبحتوقوم يروونه " أربع الحلات " جمع ربع وذلك غلط، وأنما أراد الرجل العدد: أى عفت أربع لأربع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 ولا أعلم لأبى تمام ابتداء ذكر فيه الرياح غير هذا البيت، وهوردىْ اللفظ قبيح النسج. وقال البحترى: بين الشقيقة فاللوى والأجرع ... دمن جبسن على االرؤياح الأربع وهذا من ابتداء أته العجيبة النادرة وإحسانه فيه الإحسان المشهور وقوله " بين الشقيقة فاللوى " كقول امرىء القيس " بين الدخول فحومل " والأصمعى يرويه بالواو، وأهل العربية يقولون: الدخول مواضع متفرقة وأكثر الشعراء يستعملون الفاء هذا الموضع. وقال البحترى: أصبا الأصائل إن برقة ثهمد ... تشكوا اختلافك بالهبوب السرمد مازلت أسمع الشيوخ من أهل العلم بالشعر يقول: إنهم ما سمعوا لمتقدم ولا متأخر فى هذا المعنى أحسن من هذا المعنى أحسن من هذا البيت ولا أبرع لفظا " ولا أكثر ماء ولا رونقا " ولا ألطف معنى. وقال البحترى: لاأرى بالبراق رسما " يجيب ... أسكتت آيه الصبا والجنون وهذا ابتداء صالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 * وفي البكاء على الديار : قال أبو تمام: على مثلها من أربع وملاعب ... أذيلت مصونات الدموع السواكب قد أنكر " مصونات الدموع السواكب " بعضهم وقال: كيف من السواكب ماهو مصون وإنما أراد أبو تمام أذيلت مصونات الدموع التى هى الآن سواكب، ولفظة يحتمل ما أراده، والبت لفظاً ومعنى ونظماً. وقال أيضاً: أما الرسوم فقد أذكرن ما سلفا ... فلا تكفن من شانيك أو يكفا هذا ابتداء حسن. وقال أيضاً: أزعمت أن الربع ليس يتيم ... والدمع في دمنٍ عفت لا يسجم وقال أيضاً: قرى دارهم منى الدموع السوافك ... وإن عاد صبحى بعدهم وهو حالك وهذان ابتداءان جيدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 وقال أيضاً: تجرع أسى قد أقفر الجرع الفرد ودع حسى عينٍ يحتلب ماءه الوجد الجرع والأجرع والجرعاء: أرض ذات رملٍ وحجارة مختلطة خشنة، وقد قيل: رملة سهلة، والحسى: ماء المطر يغيض في الرمل قليلا ثم يصير إلى الصلابة فيقف فيحفر عنه ويشرب، وجمعه أحساء. وقال البحتري: متى لاح برقٌ أو بدا طللٌ قفر ... جرى مستهلٌ لا بكئٌ ولا نزر وهذا بيت حسبك به جودةً وحسنا وبراعة وفصاحة. ونحوه قوله: لها منزلٌ بين الدخول فتوضح ... متى تره عين المتيم تسفح هذا مثل قول امرئ القيس " بين الدخول فحومل " وهذا أيضاً بيت جيد، وليس كالأول. وقال أيضاً: أفي كل دارٍ منك عينٌ ترقرق ... وقلبٌ على طول التذكر يخفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وهذا أيضاً غاية في جودته وبراعته وكثرة مائه. وقال أيضاً: ألما يكف في طللى زرود ... بكاؤك دارس الدمن الهمود وقال أيضاً: أعن سفه يوم الأبيرق أم حلم ... وقوفٌ بربعٍ أو بكاءٌ على رسم هذه الأبيات الثلاثة كأنه منكر على نفسه البكاء، وقد أحسن فيما اعتمد من ذلك وأجاد، وهو ضد ما ذهب إليه أبو تمام في أبياته. وقال البحتري، وهو حسن جداً: وقوفك في أطلالهم وسؤالها ... يريك غروب الدمع كيف انهمالها وقال: عند العقيق فماثلات دياره ... شجنٌ يزيد الصب في استعباره وقال: يأبى الخلي بكاء المنزل الخالي ... والنوح في دمنٍ أقوت وأطلال وقال: أبكاءً في الدار بعد الدار ... وسلوا عن زينبٍ بنوار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وهذا من البحتري تصرفٌ في البكاء على الديار حسن، ومعانٍ فيه مختلفة عجيبة، كلها جيد نادر، وأبو تمام لزم طريقة واحدة لم يتجاوزها، والبحتري في هذا الباب أشعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 * سؤال الديار واستعجامها عن الجواب قال أبو تمام: الدار ناطقةٌ وليست تنطق ... لدثورها؛ إن الجديد سيخلق وقال في مثل معناه: وأبي المنازل إنها لشجون ... وعلى العجومة إنها لتبين وهذا معنى شائع على ألسن العرب أن تقول لمن يعقل: وأبيك لقد أجملت، وكثرت على الألسن حتى تعدوا بها إلى مالا يعقل، قسماً وغير قسم، وكذلك قالوا: لأمك الهبل، ولأمك الويل، ثم قالوا مثل ذلك لما لا أم له، وقال محرز بن المكعبر يرثي بسطام بن قيس: لأم الأرض ويلٌ ما أجنت ... بحيث أضر بالحسن السبيل فجعل للأرض أما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وقد قال البحتري: لعمر أبي الأيام ما جار حكمها ... علي، ولا أعطيتها ثنى مقودي فجعل للأيام أباً، وقوله " شجون " جمع شجن، وما أفل ما يجمع فعلٌ على فعول، قالوا: أٍد وأسود، وليس هو بابه، والشجن: الحاجة، والشجن: الهم والحزن. وقال أبو تمام: من سجايا الطلول أن لا تجيبا ... فصوابٌ من مقلتي أن تصوبا هذا البيت صدره جيد، وقوله " فصواب " ليست بالجيدة في هذا الموضع، وإنما أراد التجنيس. وقال البحتري: لا دمنةٌ بلوى خبتٍ ولا طلل ... ترد قولاً على ذى لوعةٍ بسل وهذا بدأ جيد لفظه ومعناه. وقال البحتريّ: صب يخاطب مفحمات طول ... من سائل باك ومن مسئول أراد أنه باكٍ والطلول باكية، وهذا ابتداء صالح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وقال البحتري: عزمت على المنازل أن تبيما ... وإن دمن بلين كما بلينا أي: عزمت عليها أن توضح لنا، ويكون ((تبين)) بمعنى تفصح هي في نفسها، يقال: بأن الشيء وأبان، قوله ((وإن دمن بلين كما بليان)) أي: عزمت عليها أن تبين لنا القول وإن كانت قد بليت كما بلينا نحن، وهذا بيت ردئ العجز. وقال البحتي: أقم عليها أن ترجع القول أو على ... أخلف فيها بعض ما بي من الخبل وهذا أيضاً بيت ردئ الصدر لفظه ومعناه؛ لأنه أراد أن يقول: قف لعلها أن ترجع القول أو على، فقال ((أقم)) مكان قف، وليس هذه اللفظة نائبة عن تلك؛ لأن الإقامة ليست من الوقوف في شيء، والدليل إلى أنه أراد أن يقول قف قوله بعد هذا: فإن لم تقف من أجل نفسك ساعة ... فقفها على تلك المعالم من أجلي وقال ((علها أو على)) وهما وإن كانتا لفظتين عربيتين فلعل أحسن من عل وأبرع، وزاد في تهجينها أنه كررها في مصارع، وقوله ((أخلف بعض مابى من الخبل)) عجز حسن، أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 أطرحه عني، أي: لعلي أبكي فأخفف بعض ما بي من البكاء، وإلى هذا المعنى ذهب، وإن لم يكن البكاء في البيت فقد ذكره من بعد. وقال: بالله يا ربع لما زدت تبيانا ... فقلت لي الحي لما بان لم بانا وقا لأيضاً: هب الدار ردت رجع ما أنت سائله ... وأبدى الجواب الربع عما تسائله وهذا بيت غير جيد؛ لأن عجز البيت مثل صدره سواء ف يالمعنى، وكأنه بنى الأمر على أن الدار غير الربع، وأن السؤال إن وقع وقع في محلين اثنين، والبيت أيضا لا يقوم بنفسه؛ لأنه جعله معلقا بالبيت الثاني وهو قوله: أفي ذاك برءٌ من جوى الهب الحشا ... توقده واستغزر الدمع جائله وقال أيضاً: هل الربع قد أمست خلاءً منازله ... مجيبٌ صداه أو يخبر سائله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وهذا ابتداء صالح. وقال أيضاً: عست دمنٌ بالأبرقين خوالي ... ترد سلامي أو تجيب سؤالي وهذا ابتداء حسن. فهذا ما وجدته لهما من الابتداءات في الباب، وليس لهما فيه بيت بارع، والجيد للبحتري قوله: لا دمنةٌ بلوى خبتٍ ولا طلل وقوله: عست دمنٌ بالأبرقين خوالي والجيد لأبي تمام بيتاه الأولان، ومعناهما غي رمعنى هذين البتين، وبيتا البحتري أجود لفظاً، وأصح سبكاً، وهما في هذا الباب متكافئان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 * فيما يخلف الظاعنين في الديار من الوحش وما يقارب معناه قال أبو تمام: أطلالهم سلبت دماها الهيفا ... واستبدلت وحشاً بهن عكوفا وهذا بيت جيد لفظه ومعناه. وقال أيضاً: أأطلال هندٍ ساء ما اعتضت من هند ... أقايضت حور العين بالعين والربد العين: بقر الوحش والظباء، والربد: النعام، وقايضت: أبدلت، وهذا البيت ليس بالجيد ولا بالردئ. وقال أيضاً: أرامة كنت مألف كل ريم ... لو استمتعت بالأنس القديم وهذا بيت جيد. وقال البحتري: ربعٌ خلا من بدره مغناه ... ورعت به عين المها الأشباه وهذا بيت حسن حلو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وقال البحتري أيضاً: عهدي بربعك مأنوساً ملاعبه ... أشباه آرامه حسناً كواعبه وهذا بيت في غاية الجودة والبراعة لفظه ومعناه. وقال أيضاً: عهدي بربعك مئلاً آرامه ... يجلى بضوء خدودهن ظلام وهذا بيت جيد اللفظ والمعنى، ولفظ الأول أحلى وأبرع، وقوله " يجلى بضوء خدودهن ظلامه " حسن جداً. وقال أيضاً: أرى بين ملتف الأراك منازلا ... مواثل لو كانت مهاها مواثلا وهذا أيضاً بيت من أبرع ابتداءاته. فهذا ما وجدته لهما في هذا النحو، والبحتري في أبياته أشعر من أبي تمام في أبياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 * وفيما تهيجه الديار وتبعثه من جوى الواقفين بها قال أبو تمام: أقشيب ربعهم أراك دريساً ... تقرى ضيوفك لوعةً ورسيسا وهذا بيت من جيد الابتداءات وبارعها. وقا لالبحتري: مغاني سليمى بالعقيق ودورها ... أجد الشجى أخلاقها ودذورها وهذا بيت في جودة بيت أبي تمام وبراعته. وقال: لعمر المغاني يوم صحراء أربد ... لقد هيجت وجداً على ذى توجد وقال أيضاً: ما جو خبتٍ وإن نأت ظعنه ... تاركنا أو تشوقنا دمنه وقال أيضاً: كلما شاءت الرسوم المحيله ... هيجت من مشوق صدرٍ غليله وهذه كلها ابتداءات جياد، وهي مع بيت أبي تمام متكافئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 * الدعاء للدار بالسقيا قال أبو تمام: أسقى طلولهم أجش هزيم ... وغدت عليهم نضرةٌ ونعيم وقال أيضاً: سقى عهد الحمى صوب العهاد ... وروى حاضرٌ منهم وبادي وهذا ابتداءان جيدان. وقال أيضاً: يا برق طالع منزلاً بالأبرق ... واحد السحاب له حداء الأينق قوله " طالع " لفظة رديئة ف يهذا الموضع قبيحة، وقوله " واحد السحاب له حداء الأينق " لفظه ومعناه جيدان فصيحان، وإنما خص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 البرق لأنه دليل الغيث وقال أيضاً: أيها البرق بت بأعلى البراق ... وأغد فيها بوابلٍ غيداق البرقا: جمع برقة، مثل برمة وبرام، وهي الأرض ذات الطين والحصى تكون ذات ألوان مختلفة، وهذا بيت جيد، ووصله ببيت هو غاية في الحسن والحلاوة نأتي به إن شاء الله تعالى في بابه. وقال: يا دار دار عليك أرهام الندى ... واهتز روضك في الثرى فترأدا يقال: أرهمت السماء، إذا أتت بالرهمة، وهو المطر اللين، يقال: رهمة وأرهام، كأكمة وآكام، فإن قلت " أرهام الندى " كان ذلك سائغاً، فترأد: تثنى لكثرة مائه وغضاضته، ومنه " امرأة رود الشباب " أي: غضته، وهذا بيت ليس بجيد اللفظ ولا النسج. وقال البحتري: نشدتك الله من برق على أضم ... لما سقيت جنوب الحزن فالعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وهذا بيت بارع اللفظ، جيد المعنى، وزاد في جودته قوله " نشدتك الله ". وقال أيضاً: سقيت الغوادي من طلولٍ وأربع ... وحييت من دار لأسماء بلع وهذا أيضاً بيت جيد اللفظ والمعنى، ويدخل في باب التسليم على اديار لقوله " وحييت من دار ". وقال أيضاً: أناشد الغيث هل تهمى غواديه ... على العقيق وإن أقوت مغانيه وهذا بيت جيد وقال أيضاً: أقام كل ملث الودق رجاس ... على ديارٍ بعلو الشام أدراس ملث: دائم كثير، ورجاس: مصوت، يريد الرعد، وهذا بيت كثير الماء والرونق. وقال أيضاً: لا يرم ربعك السحاب يجوده ... تبتدى سوقه الصبا أو تقوده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وقال أيضاً: سقى دار ليلى حيث حلت رسومها ... عهادٌ من الوسمى وطفٌ غيومها وهذان ابتداءان جيدان، وليسا مثل ما تقدم. وقال أيضاً: سقى ربعها سح السحاب وهاطله ... وإن لم يخبر آنفاً من يسائله وهذا البيت ردئ العجز من أجل قوله " آنفاً " لأنه حشوٌ لا حاجة للمعنى به؛ فهذا ابتداء من الدعاء للديار بالسقيا، وهما عندي متكافئان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 * في لوم الأصحاب في الوقوف على الديار قال أبو تمام: أراك أكبرت إدماني على الدمن ... وحملي الشوق من بادٍ ومكتمن وهذا ابتداء صالح وقال أيضاً: ما عهدنا كذا نحيب المشوق ... كيف والدمع آية المعشوق هذا بيت ردئ جداً، وقد ذكرت ما فيه في باب ما ذكرناه له في وسط الكلام في تعنيف الأصحاب على الوقوف على الديار، وهذا البيت ابتداء، وإنما ذكرته هناك لأن معناه يتضح بالأبيات التي بعده؛ فجعلته في ذلك الباب. وليس لأبي تمام ابتداء صالح في لوم الأصحاب غير هذين البيتين. فأما البحتري فإنه تصرف ف يابتداءاتٍ جيادٍ حسانٍ بارعةٍ حلوةٍ؛ فمن ذلك قوله: فيم ابتداركما الملام ولوعا ... ابكيت إلا دمنةً وربوعا وهذا بيت حسن، وفيه سؤال، وهو أن يقال: إنما لاموه على بكائه على الدمنة والربوع، فما وجه اعتذاره بأنه لم يبك إلا دمنة وربوعا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 والجواب أنه أراد أبكيت إلا ما مثله يبكي؟ وقد تقدمني الناس فيه ولم ينكر ذلك على أحد. وقوله: خذا من بكائي في المنازل أودعا ... وروحا على لومي بهن أو اربعا وهذا بيت جيد. وقوله أيضاً: ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا ... مقصراً من ملامتي أو مطيلا وهذا بيت جيد حسن، بارع اللفظ والمعنى، وقد ذكرته أيضاً في باب الوقوف على الديار. وقوله: أحرى الخطوب بأن يكون عظيما ... قول الجهول: ألا تكون حليما وقوله: ما أنت للكلف المشوق بصاحب ... فاذهب على مهلٍ فليس بذاهب وقوله: في غير شأنك بكرتي وأصيلي ... وسوى سبيلك في السلو سبيلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وقوله: بعض هذا العتاب والتفنيد ... ليس ذم الوفاء بالمحمود ولهما في تأنيب العذال في غير الوقوف علىلديار ابتداءاتٌ ليس بضائرٍ ذكرها ههنا. فمن ذلك قول أب يتمام: تقى جمحاتي لست طوع مؤنبي ... وليس حبيبي إن عذلت بمصحبي وقوله أيضاً: دأب عيني البكاء، والحزن دابيفاتركيني وقيت ما بي لما بي وقوله أيضاً: كفى وغاك؛ فإنني لك قالى ... ليست هوادي عزمتي بتوالي وقوله أيضاً: لامته لام عشيرها وحميمها ... منها خلائق قد أبر ذميمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وقوله أيضاً: متى كان سمعي خلسةً للوائم ... وكيف صغت للعاذلين عزائمي وقوله أيضاً: قدك اتئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائي وهذه كلها ابتداءاتٌ صالحة، إلا هذا البيت الأخير؛ فإن الناس عابوه، وذكر أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح في كتابه أن مما عيب من ابتداءات الطائي قوله: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر وقوله: خشنت عليه أخت بني خشين فأما قوله " خشنت عليه " فهو لعمري من تجنيساته القبيحة، وعهدت مجان البغداديين يقولون: قليل نورة يذهب بالخشونة، وأما قوله " كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر " فليس بمعيب عندي، وقد ذكرته في ابتداءات المراثي، وأخبرت بمعناه، وأما قوله " قدك اتئب أربيت في الغلواء " فإنها ألفاظ صحيحة فصيحة من ألفاظ العرب، مستعملة في نظمهم ونثرهم، وليست من متعسف ألفاظهم، ولا وحشي كلامهم، ولكن العلماء بالشعر أنكروا عليه أن جمعها في مصراع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 واحد، وجعلها ابتداء قصيدة، ولم يرفق بينها بفواصل فقال: " قدك اتئب أربيت في الغلواء "؛ فصار قوله " قدك اتئب " كانهما كلمة واحدة على وزن مستفعلن، وضم إليه " أربيت في الغلواء " فاستهجنت، ولو جاء هذا في شعر أعرابي لما أنكروه؛ لأن الأعرابي إنما ينظم كلامه المنثورالذي يستعمله في مخاطباته ومحاوراته، ولو خاطب أبو تمام بهذا المعنى في كلامه المنثور لما قال لمن يخطبه إلاحسبك استح زدت وغلوت، وهذا كلام حسن بارع. قال: فمن شأن الشاعر الحضري أن يأتي في شعره بالألفاظ العربية المستعملة في كلام الحاضرة؛ فإن اختارأن يأتي بما لايستعمله أهل الحضر فمن سبيله أن يجعله من المستعمل في كلام أهل البدو دون الوحشىّ الذي يقلّ استعمالهم إياه، وأن يجعله متفرقاً في تضاعيف ألفاظه، ويضعه في مواضيعه، فيكون قد اتسع مجاله بالاستعانة به، ودلّ على فصاحته وعلمه، وتخلصّ من الهجنة، كما أنالشاعر الأعرابي إذا أتى في شعره بالوحشىّ الذي يقل استعماله إياه في منثور كلامه وما يجري دائماً في عادته هجنّه وقبّحه، إلا أن يضطر إلى اللفظة واللفظتين، ويقلل، ولايستكثر؛ فإن الكلام أجناس إذا أتى منه شئ مع غير جنسه باينه ونافره وأظهر قبحه. وقد تصرف البحتري في هذا الباب أحسن تصرف وأبلغه وأعجبه؛ فمن ذلك قوله: أتاركى أنت أم معرًى بتعذيي ... ولائمى في هوًى إن كان يرزىبي وقوله أيضاً: يفنّدون وهم أدنى إلى الفند ... ويرشدون وما العذّال في رشد متى كان سمعى خلسةً ... وكيف صنعت للعاذلين عزائمى وقوله أيضاً: قدك اتئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائى وهذه كلها ابتداءات صالحة إلا هذا البيت الأخير؛ فإن الناس عابوه، وذكرأبوعبد الله محمد بن داود بن الجراح فى كتاب أن مما عيب من ابتداءات الطائى قوله: كذافليجل الخطب وليفدح الأمر وقوله: خشنت عليه أخت بنى خشين فأما قوله " خشنت عليه " فهو لعمرىمن تجنيساته القبيحة وعهدت مجان البغداديين يقول: قليل نورة يذهب بالخشونة، وأما قوله " كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر " فليس بمعيب عندى، وقدذكرته فىبتداءات المراثى، وأخبرت بمعناه، وأما قوله " قدك اتئب أربيت فى الغلواء " فإنها ألفاظ صحيحة فصيحة من ألفاظ العرب، مستعملة فى نظمهم ونثرهم، وليست من متعسف ألفاظهم، ولا وحشى كلامهم، ولكن العلماء بالشعر أنكروا عليه أن جمعها فى مصراع واحد، وجعلها ابتداء قصيدة، ولم يفرق بينها بفواصل فقال: " قدك اتئب أربيت فى الغلواء " فصار قوله " قدك اتئب " كانهما كلمة واحدة على وزن مستفعلن، وضم إليه " أربيت فى الغلواء " فاستهجنت، ولوجاء هذا فى شعر أعرابى لما أنكروه لأن الأعرابى إنما ينظم كلامه المنثور الذى يستعمله فىمخاطباته ومحاوراته، ولوخاطب أبوتمام بهذا المعنى فى كلامه المنثور لما قال لمن يخاطبه إلا حسبك استح زدت وغلوت، وهذاكلام حسن بارع. قال: فمن شأن الشاعر الحضرى أن يأتى فى شعره بالألفاظ (العربية) المستعملة فىكلام الحاضرة، فإن اختار أن يأتى بما لا يستعمله أهل الحضر فمن سبيله أن يجعله من المستعمل في كلام أهل البدو دون الوحشى الذى يقل استعمالهم إياه، وأن يجعله متفرقا فى تضاعيف ألفاظه، ويضعه في مواضعه، فيكون قداتسع مجاله بالاستعانة به، ودل على فصاحته وعلمه، وتخلص من الهجنة، كما أن الشاعر الأعرابي إذا أتى فى شعره بالوحشى الذى يقل استعماله إياه فى منثور كلامه وما يجرى دائما فى عادته هجنه وقبحه، إلا أن يضطر إلى اللفظة واللفظتين، ويقلل، ولا يستكثر، فإن الكلام أجناس إذا أتى منه شىء مع غير جنسه باينه ونافره وأظهر قبحه. وقد تصرف البحتري في هذا الباب أحسن تصرف وأبلغه وأعجبه؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فمن ذلك قوله: أتاركى أنت أم معرًى بتعذيي ... ولائمى في هوًى إن كان يرزىبي وقوله أيضاً: يفنّدون وهم أدنى إلى الفند ... ويرشدون وما العذّال في رشد وقوله أيضاً: إنما الغي أن يكون رشيداً ... فانقصا من ملامه أو فزيدا وقوله أيضاً: ألم يك في وجدي وبرح تلددي ... نهاية نهىٍ للعذول المفند وقوله أيضاً: مرنت مسامعه على النفنيد ... فعصى الملام لاعينٍ وخدود وقوله أيضاً: شغلان من عذلٍ ومن تفنيد ... ورسيس حب طارفٍ وتليد وقوله أيضاً: أقصرا ليس شأني الإكثار ... وأقلا لن يغني الإكثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وقوله أيضاً: قلت للائم في الحب أفق ... لا تهون طعم شيء لم تذق وقوله أيضاً: أما كان في تلك الدموع السوائل ... بيانٌ لناء أو جوابٌ لسائل وقوله أيضاً: أكثرت في لوم المحب فأقلل ... وأمرت بالصبر الجميل فأجمل وقوله أيضاً: رويدك إن شأنك غير شاني ... وقصرك لست طاعة من نهاني وقوله أيضاً: يكاد عاذلنا ف يالحب يغرينا ... فما لجاجك في لوم المحبينا وقوله أيضاً: عذيري فيك من لاحٍ إذا ما ... شكوت الحب قطعني ملاما وقوله أيضاً: طفقت تلوم ولات حين ملامه ... لا عند كرته ولا إحجامه ولا خفاء بفضل البحتري أيضا على أبي تمام في هذا الباب، وقد مضت الموازنة بين الابتداءات بذكر الديار والآثار، وأنا الآن أذكر ما جاء عنهما من ذلك في وسط الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 * ما قالاه في أوصاف الديار والبكاء عليها قال أبو تمام: طلل الجميع لقد عفوت حميدا ... وكفى على رزئي بذاك شهيدا دمنٌ كأن البين أصبح طالباً ... دينا لدى آرامها وحقودا قربت نازحة القلوب من الجوى ... وتركت شأو الدمع فيك بعيدا خضلاً إذا العبرات لم تبرح لها ... وطناً سرى قلق المحل طريدا وقوله " وكفى على رزئي بذاك شهيدا " ليس بالجيد، وقد ذكرت معناه فيما تقدم من ذكر معانيه في باب الابتداءات عند ذكر البيت، وقوله قربت نازحة القلوب من الجوى " يريد القلوب التي بعد عهدها بمرض الحب فأدنيتها من ذلك عند الوقوف عليك، يخاطب الطلل والدمن، وقوله " وتركت شأو الدمع فيك بعيداً " أي: دائماً طويلا، وقوله " خضلا إذا العبرات لم تبرح لها وطناً سرى قلق المحل طريداً " أي: من كان إنما يبكي في وطنه على الحوادث التي تحدث عليه فيه سرى هذا الدمع قلق المحل طريدا، أي اعتسف المسير لطوله حتى يحل بهذه الدمن، وهذا نحو من قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 فما وجدت على الأحشاء أبرد من ... دمعٍ على وطن لي في سوى وطني فقوله " على وطن " يعني الرسوم والطلول التي يقف عليها، وهذا من جيد ألفاظه وصحيح معانيه، وغرضه فيما وصف من الدمع غرضٌ حسن، وأحسن منه وألطف وأغرب قوله: أما الرسوم فقد أذكرن ما سلفا ... فلا تكفن عن شانيك أو يكفا لا عذر للصب أن يقنى السلو ولا ... للدمع بعد مضى الحي أن يقفا حتى يظل بماء سافحٍ ودمٍ ... في الربع يحسب من عينيه قدر عفا وهذا المعنى ليس له، وإنما أخذه من قول أبي وجزة السعدي: عيونٌ ترامى بالرعاف كأنها ... من الشوق صردانٌ تدب وتلمع قيل في تفسيره: شبه الدمع وقد عصفره الدم بالرعاف، وشبه العيون - وهي تفيض بالدمع تارة وتحبسه أخرى - بالصردان تنتفض تارة وتظهر قريبا من الأرض تارة، وبيت أب يتمام أجود لفظاً ونظماً، ولا أظن البحتري ذهب إلى مثل هذا المعنى، ولا للمعنى الذي قبله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 في وصف الدمع، ولكنه يعتذر مرةً بقلة دمعه، ومرة يذكر كثرته ويفتخر بغزره، وفي كل ذلك يحسن ويجيد؛ فمن اعتذاره قوله في قصيدته التي أولها: فيم ابتدار كما الملام ولوعا ... أبكيت إلا دمنةً وربوعا يا دار غيرها الزمان وفرقت ... أيدي الحوادث شملها المجموعا لو كان لي دمعٌ يحسن لوعتي ... خليته في عرصتيك خليعا لاتخطبي دمعي إلى؛ فلم يدع ... في مقلتي جوى الفراق دموعا قوله في ابتداء القصيدة " أبكيت إلا دمنةً وربوعا " قد أخبر أنه بكى ثم قال " لو كان لي دمع يحسن لوعتي " أي: لو كان ل يدمع غزير يليق بلوعتي وينبئ عنها، وكذلك قوله " فلم يدع في مقلتي جوى الفراق دموعا " أي: دموعا كافية أرضاها، أو دموعا تشفيني؛ لأنه استقل دمعه واستنزره، أو أن يكون انقطع دمعه وفنى، ولله در كثير إذ يقول: وقضين ما قضين ثم تركنني ... بفيفا خريم واقفاً أتلدد ولم أر مثل العين ضنت بمائها ... على، ولا مثلي على الدمع يحسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وقال أبو تمام: أقشيب ربعهم أراك دريساً ... تقرى ضيوفك لوعةً ورسيسا ولئن حبست علىلبلى لقد اغتدى ... دمعى عليك إلى الممات حبيسا وأرى رسومك موحشاتٍ بعدما ... قد كنت مألوف المحل أنيسا وبلاقعاً حتى كأن قطينها ... حلفوا يميناً أخلفتك غموسا وهذا كلام رصينٌ، وقوله " حلفوا يمينا أخلفتك " أي: كأنهم حلفوا يمينا ألا يعودوا إليك، فأخلفتك هذه اليمين. ومن حلو معانيه وجيد ألفاظه في البكاء على الديار قوله: دمنٌ لوت عزم الفؤاد ومزقت ... فيها دموع العين كل ممزق وقال أيضاً: سقى عهد الحمى سبل العهاد ... وروض حاضرٌ منه وبادي نزحت به ركى العين إني ... رأيت الدمع من خير العتاد وهذا البيت في غاية الجودة لفظه ومعناه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 يريد فيا حسن الرسوم ولم يمش إليها الدهر: أي لم يصبها الدهر ببعد أهلها عنها، فأخرجه هذا المخرج القبيح المستهجن. ومن إحسان أبي عبادة المشهور في هذا قوله: أمحلتى سلمى بكاظمة اسلما ... وتعلماً أن الهوى ما هجتما هل ترويان من الأحبة هائماً ... أو تسعدان على الصبابة مغرما أبكيكما دمعاً ولو أنى على ... قدر الجوى أبكى بكيتكما دما ومن جيد شعر أبي تمام أيضا في هذا الباب قوله: أرامة كنت مألف كل ريم ... لو استمتعت بالأنس القديم أدار البؤس حسنك التصابي ... إلى فصرت جنات النعيم لئن أصبحت ميدان السوافي ... لقد أًصبحت ميدان الهموم ومما ضرم البرحاء أنى ... شكوت وما شكوت إلى رحيم أظن الدمع في خدي سيبقى ... رسوماً من بكائي في الرسوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وهذا من أسهل كلامه وأسلس نظمه، ومن أبعد قولٍ من التكلف والتعسف، وأشبهه بكلام المطبوعين وأهل البلاغة، وقوله " فصرت جنات النعيم " معنىً حسنٌ، ولكن فيه إسراف أن يجعل داراً خلت من أهلها وسماها دار بؤس وهو باكٍ فيها جنات النعيم. وقد أتى البحتري بهذا المعنى متبعاً فيه أبا تمام، ولكنه جاء به على سبيل اقتصادٍ واعتدالٍ، واجتنب إفراطه، فقال: يا مغاني الأحباب صرت رسوماً ... وغدا الدهر فيك عندي ملوما ألف البؤس عرصتيك وقد كن ... ت بعيني جنةً ونعيماً فقال " ألف البؤس عرصتيك " ثم قال " وقد كنت بعيني جنة ونعيما " فجعلها جنة ونعيما فيما مضى، ومع هذا فإني أقول: إن بيت أبي تمام أحسن، وهو في سائر أبياته أشعر. وقال البحتري: لعمرك إن الدراسات لقد غدت ... بريا سعاد وهي طيبة العرف بكينا فمن دمع يمازجه دم ... هناك، ومن دمع نجود به صرف وهذا حسن جداً، وإنما أخذ قوله ((بريا سعدا وهي طيبا العرف) من قول الآخر، أنشده الأخفش عن المبرد: وأستودعت نشرها الديار؛ فما ... تزداد إلا طيبا على القدم وهذا أجود من بيت البحتري، لما فيه من الزيادة الحسنة، وهي قوله ((فما تزداد إلا طيبا على القدم)). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 وهذا أجود من بيت البحتري، لما فيه من الزيادة الحسنة، وهو قوله: "فما تزداد إلا طيباً على القدم" وقال البحتري: ترى الليل يقضى عبقةً من هزيعه ... أو الصبح يجلو غرة من صديعه أو المنزل العافي يرد أنيسه ... بكاء على أطلاله وربوعه إذا ارتفق المشتاق كان سهاده ... أحق بجفني عينه من هجوعه وهذا لفظ فحلٌ، ومعان في غاية الصحة والاستقامة. وللبحتري في وصف الديار والبكاء عليها مذهب آخر، وهو حسنٌ جداً، ومن ذلك قوله: أبكاءً في الديار بعد الدار؟ ... وسلواً بزينب عن نوار؟ لا هناك الشغل الجيد بحزوى ... عن رسوم برامتين قفار ما ظننت الأهواء قبلت تحمى ... من صدور العشاق محو الديار نظرةٌ ردت الهواء الشرق غرباً ... وأمالت نهج الدموع الجواري وهذا غرض حلو، ومعنى لطيف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ومثله قوله، ولكن ليس فيه ذكر البكاء: أبيت بأعلى الحزن والرمل دونه ... مغانٍ لها ومجفوةٌ وطلولُ وقد كنت أرجو الريح غرباً مهبها ... فقد صرت أهوى الريح وهي قبول وذلك لأن القبول هي الصبا، ومهبها من مطلع الشمس، ونحوه قوله: كلفتني أريحيات الصبا ... طلقاً في الحب ممتد الرسن نقلتني في هوى بعد هوى ... وابتغت لي سكناً بعد سكن وقوله: ما ظننت الأهواء بعدك تمحى ... من صدور العشاق محو الديار معنىً حسنٌ، وإنما أخذه من قول أبي تمام: زعمت هواك عفا الغداة كما عفت ... منها طلولٌ باللوى ورسوم وبيت البحتري أحلى وأبرع وقال البحتري في وجه آخر، وهو أيضاً حسن لطيف: في كل يومٍ دمنةٌ من حبهم ... تقوى، وربعٌ بعدهم يتأبد أوما كفانا أن بكينا غربا ... حتى شجتنا بالمنازل ثهمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ومثله قوله: هو الدمع موقوفاً على كل دمنةٍ ... تعرج فيها أو خليطٍ تزايله تراد فهم خفض الزمان ولينه ... وجادهم طل الربيع ووابله وإنما حذا البحتري هذا المعنى على حذو قول كثير: وكنت امرأ بالغور مني صريمة ... وأخرى بنجدٍ، ما تعبد وما تبدى فطوراً أكر الطرف نحو نهامةٍ ... وطوراً أكر الطرف كراً إلى نجد وأبكي إذا فارقت هنداً صبابةً ... وأبكي إذا فارقت دعداً على دعد وهذا ما لا مزيد فيه على حسنه وطلاوته، ومثله قول جرير: أخالد قد علقتك بعد هندٍ ... فشيبني الخوالد والهنود هوى بتهامة هوى بنجدٍ ... فقتلني التهائم والنجود وقال جرير في نحو هذا: إلى الله أشكو أن بالغور حاجةً ... وأخرى إذا أبصرت نجداً بداليا ومثله قوله أيضاً: أحب ثرى نجدٍ، وبالغور حاجةٌ ... فغار الهوى يا عبد قيسٍ وأنجدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 * هذا باب في وصف أطلال الديار وآثارها قال أبو تمام: قفوا نعطي المنازل من عيونٍ ... لها في الشوق أحساءٌ غزار عفت آياتهن، وأي ربعٍ ... يكون له على الزمن الخيار؟ أثافٍ كالخدود لطمن حزناً ... ونويٌ مثل ما انفصم السوار قوله " أحساء " جمع حسي، وهو الماء يغيض في الرمل، فإذا وصل إلى الصلابة وقف؛ فيحفر عنه ويشرب، وقد قال في موضع آخر: ودع حسي عينٍ يحتلب ماءه الوجد وقوله " أثافٍ كالخدود لطمن حزناً " من قول المرار الفقعسي: أثر الوقود على جوانبها ... بخدودهن كأنه لطم وقال البحتري: عوضٌ منهم خسيسٌ وقد حلوا اللوى منزلٌ بوجرة عافي لم تدع منه مبليات الليالي ... غير نؤيٍ تسفى عليه السوافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وأثافٍ أتت لها حججٌ دو ... ن لظى الناء مثلٌ كالأثافي وقوله " مثل " أي قائمة ثابتة " كالأثافي " يريد الكواكب التي عند الفرقدين وهي ثلاثة، قيل لها أثاف لشبهها بالأثافي، فشبه البحتري الأثافي بها لثبوتها وأنها مثلٌ على مر الدهر؛ قال أبو حنيفة الدينوري في كتابه في الأنواء: إن في تثليثها طولاً، ولو شبهها البحتري بالنسر الواقع - لأنه أشهر وأظهر وأقرب شبهاً - لكان ذلك أحسن وأليق وأكشف للمعنى من أن يشبهها بشيء إنما استعير له اسمها، وليس يعرفه كل أحد، ولكنه جاء به من أجل القافية، وقال البحتري: لها منزلٌ بين الدخول فتوضح ... متى تره عين المتيم تسفح عفا غير نؤي دارسٍ في فنائه ... ثلاث أثافٍ كالحمائم جنح وهذا جيد حسن وعلى منهج الشعراء، وأظنه أخذه من قول عدي بن زيد: وثلاث كالحمامات بها ... بين مجثاهن توشيع الحمم قال ابن الأعرابي: لا يكون " مجثاهن " إنما هو " مجراهن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 أو من قول أبي نواس: كما اقترنت عند المبيت حمائم ... بعيدات ممسى ما لهن وكون وهذا أجود من بيت عدي ومن بيت البحتري. وقد شبه الأثافي بالحمائم غير واحدٍ من الشعراء، والبديع النادر في وصف الأثافي قول كثير: أمن آل قيلة بالدخول رسوم ... وبحوملٍ طللٌ يلوح قديم؟ لعب الزمان برسمه فأجده ... حونٌ عواكف في الرماد جثوم سفع الخدود كأنهن وقد مضتحججٌ عوائد بينهن سقيم قوله " فأجده جونٌ عواكف " يعني الأثافي؛ لأن الريح لما كشفت عنها فظهرت سوداء، شبهها بالعوائد، والجون: الأسود، والجون: الأبيض، وهو من الأسماء المتضادة، قال الأصمعي: يقال: غابت الجونة، وطلعت الغزالة، يعني مغيب الشمس وطلوعها، وهما أسمان من أسماء الشمس، وإنما سميت الشمس جونة عند الغروب لما يعرض فيها من تغير اللون إلى السواد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وقال حميد بن ثورٍ: على أن سجقاً من رمادٍ كأنه ... حصى إثمدٍ بين الصلاء سحيق وقال أبو سعيد المخزومي: يبكي ثلاثاً كالحمام ركدا ... تسفى بها الريح رماداً أرمدا كأنما يطحن فيها إثمدا وقال بشار بن برد: ومسجد شيخٍ كنت في زمن الصبا ... أحييه أحياناً وفيه نكوب غدا بثلاثٍ ما ينام رقيبها ... وأبقى ثلاثاً ما لهن رقيب " غدا " يريد الشيخ " غدا بثلاث " أي بثلاث نسوة " ما ينام رقيبها " يعني الشيخ أنه ما ينام عن رقبتها " وأبقى ثلاثا " يعني الأثافي. وأخذ أبو تمام قوله " ونؤى مثل ما انفصم السوار " من قول آخر: نؤى كما نقص الهلال محاقه ... أو مثل ما فصم السوار المعصم وهذا العجز ما لحسنه نهاية. وقال كثير: عرفت لسعدى بعد عشرين حجة ... بما درس نؤيٌ في المحلة منحن قديمٌ كوقف العاج، ثبتٌ حواؤه ... مغادر أوتادٍ برضمٍ موضن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 قوله " منحن " مستدير. والوقف: السوار من الذبل ومن العاج. والرضم: صخور عظام. والرضم - أيضاً - هضاب صغار. والموضن: هو الذي بعضه فوق بعض. يقول: ضربت الأوتاد بحجارة الرضمة. وما أحسن قول بشار: ونؤي كخلخال الفتاة وصائم ... أشج على ريب الزمان رقوب الصائم الأشج يعنى الوتد، والصائم القائم .... قال النابغة: خيلٌ صيامٌ، وخيلٌ غير صائمةٍ ... تحت العجاج، وخيلٌ تعلك اللجما فجعله رقوبا لانفراده، على الاستعارة. والمرأة الرقوب ولاشيخ الرقوب: الذي لا يعيش له ولد، والذي لا ولد له فهو ينتظره. والمستعمل في الرقبة أن يقال: رقيبٌ، وراقبٌ. وأظنه ذهب إلى توكيد الفعل، مثل قولهم " ضارب " فإذا وكدوا قالوا " ضروبٌ ". وكذلك " شاربٌ وشروبٌ، وآكلٌ وأكولٌ " أي كثير الأكل والشرب. وقال أبو تمام: والنؤى أهمد شطره فكأنه ... تحت الحوادث حاجبٌ مقرون وهذا أيضاً في وصف النؤى حسنٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 ولست أعرف للبحتري في مثل هذا شيئا إلا ما لا يشتبه فيه، وهو قوله: آثار نؤيٍ بالفناء مثلمٍ ... ورمام أشعث بالعراء مشجج وهذا على مذاهب الناء. وقال النابغة: رمادٌ ككحل العين ما إن تبينه ... ونؤيٌ كجذم الحوض أثلم خاشع ووصل البحتري بيته بأن قال: دمنٌ كمثل طرائق الوشى انجلت ... لمعاتهن من الرداء المنهج يضعفن عن إذ كارنا عهد الصبا ... أو أو يهجن صبابةً لم تهتج ولرب عيشٍ قد تبسم ضاحكا ... عن طرق زمنٍ بهن مدبج وهذا كله على مذاهب الناس، ونحو قوله " كمثل طرائق الوشى " قول النابغة: على الغصن الحالي كأن رسومها ... الركنين وشيٌ مرجع " مرجع " بعضه على بعض في النساجة، وقال كثير: مغاني ديارٍ لا تزال كأنها ... بأفنية الشطآن ريطٌ مضلع وقال كثير أيضا: غشى الركب ربعها فعجبنا ... من بلاه، وما المدى بقديم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 كحواشي الرداء قد مح منه ... بعد حسنٍ عصائب التسهيم وهذا حسن جداً. وقول البحتري " يضعفن عن إذكارنا عهد الصبى " يعني لطول عهدهن ودروسهن. وقد تصرف شعراء الجاهلية والإسلام في وصف آثار الديار أحسن تصرفٍ، وأتوا فيه بكل تشبيه مستحسن ومعنى مستغرب؛ فمنه قول طرفة: تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد الوشم: أثر الحناء. وخص ظاهر اليد لأن دروسه أسرع. وقال لبيد: وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبرٌ تجد متونها أقلامها وهذا ما زلت أسمع العلماء تعجب من حسنه ولطافة معناه، وكان الفرزدق إذا أنشده يسجد ويقول: إنا نعرف مكان السجود في الشعر كما تعرفونه في القرآن. وقال آخر، وأنشده إسحاق بن إبراهيم: تمتع بكر الطرف في رسم منزلٍ ... تحمل عنه قاطنوه فأقفرا ترى فيه آثاراً، وإن كان داثراً ... تذكرك الشوق القديم فتذكرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 قوله " فتذكرا " ليس بالجيد، ووجهه الرفع، ولكنه جاء به على إدارة التوكيد، وقد جاء مثله في أشعارهم، قال جذيمة الأبرش: ربما أوفيت في علمٍ ... ترفعن ثوبي شمالات وقال الجعدي: وأقبل على مجدي ومجدك نبتحث ... مساعينا حتى نرى كيف نفعلا ومثله قليلٌ. وأحسن من هذا ومن كل حسنٍ قول محمد بن عبيد الأزدي: فلم تدع الأرواح والماء والبلى ... من الدار إلا ما يشوق ويشغف وأنشد إسحاق، ووجدته في التعليقات ليعلى الطائي: لبسن البلى حتى كأن رسومها ... طعمن الهوى أو ذقن هجر الحبائب وقال ابن وهيب في مثله يذكر منزلين: لبسا البلى فكأنما وجدا ... بعد الأحبة مثل ما أجد وقال البحتري في مثل هذا: صبٌ يخاطب مفحمات طلول ... من سائل باكٍ ومن مسئول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 حملت معالمهن أعباء البلى ... حتى كأن نحولهن نحولي وأنشدني غير واحد من الشيوخ: ما غير الدار بعد بينهم ... ريحٌ عفت آيها ولا مطر كأنما جزعةٌ يمانيةٌ ... قد نشرت في عراصها الحبر وقال آخر، وأنشده حماد: قد وقفنا ... بطلول وأرسم لائحاتٌ كأنها ... برد وشى منمنم وسألنا فألحمت ... عن جواب المكلم وهذا كله أحلى وألطف معاني، وألوط بالنفس من كل ما قال الطائيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 محو الرياح للديار قال أبو تمام: قف بالطلول الدارسات علاثا ... أضحت حبال قطينهن رثاثا قسم الزمان ربوعها بين الصبا ... وقبولها ودبورها أثلاثا وهذا غلط منه؛ لأن الصبا هي القبول، ولو قال: بين الصبا وشمالها وجنوبها أثلاثا؛ كان قولاً مستقيماً؛ لأن هذه الرياح الثلاث أكثر هبوباً من الدبور، ولو اقتصر على ريحين كان ذلك أيضاً صواباً، كما قال امرؤ القيس: * لما نسجتها من جنوب وشمال (2) * وكما قال الأعشى: دمنة قفرة تعاورها الصيـ ... ـــــف بريحين من صبا، وشمال (3) ولكنه جعلها ثلاثاً من أجل القافية لا غير. وقد حكى عن النضر بن شميل أنه قال: ريح بين الصبا والجنوب. وهذا إن كان النضر قاله فليس بمعروف ولا معول عليه؛ لأن الناس جميعاً على خلافه في أن القبول هي: الصبا. وقال ابن الأعرابي: القبول: كل ريح لينة طيبة المس، تقبلها النفس. وهذا لا حجة فيه لبيت أبي تمام، وقد استقصيت القول في هذا فيما مضى عند ذكر أغاليطه من هذا الكتاب (4). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 وقال البحتري، فذكر (1) الرياح الأربع: متروكة للريح بين شمالها ... وجنوبها ودبورها وقبولها (2) وأحسن من هذا ومن كل ما قيل في هذا المعنى قوله أيضاً: بين الشقيقة فاللوى فالأجرع ... دمن حبسن على الرياح الأربعا وقد تقدم ذكره (3). قال أبو تمام: أو ما رأيت منازل ابنة وائل ... رسمت له كيف الزفير رسومها (4) آثارها وطلولها ونجادها ... ووهادها وحديثها وقديمها تغدو الرياح وعوافياً ... فتضيم مغناها وليس تضيمها (5) قوله: «رسمت له كيف الزفير» لفظة غير لائقة بالمعنى؛ وإنما جاء بها ليجانس بينها وبين قوله: «رسومها». وقوله في البيت الثاني: «وحديثها وقديمها» حشو لم يفد به فائدة. وقوله: «فتضيم مغناها»؛ يعني الرياح إنها تضيم المغنى وليس يضيمها، وهذا أيضاً معنى ليست له حلاوة، ولا يقود إلى فائدة؛ لأن المعلوم أن الأرض لا تضيم الريح. وقال أيضاً في وصف ربع: ملكته الصبا الولوع فألـ ... ـــــفته قعود البلى وسؤر الخطوب (6) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 قوله: «الصبا الولوع»، وإنما أراد المولعة بالهبوب، لأنها أكثر الرياح هبوباً، ولا أعلمه يقال: ولع بالشيء يولع فهو ولوع، ولكن قد سمعت: وَلِعَ يَلِعُ، مثل وزع يزع، وولع يلع، مثل وسع يسع، حكاهما أبو زيد (1). والولوع: هو المصدر، وما أراه يقال: هو ولوع بكذا، والقياس هو ولع بكذا، مثل وزعم به (2)، ووالع مثل واسع، واللغة المعروفة: أولعت بالشيء فأنا مولع به، والمصدر الولوع. وقوله: «ألفته»، ليس هذا موضع ألفته؛ لأن معنى ألفته: صادفته، وإذا كانت الريح هي التي فعلت بالربع، فوجه الكلام: «جعلته»، لو استوى به، لا «ألفته»، وإذا لم يستقم له «جعلته»، ولا ما هو في معناها - نقض البيت بأسره، وبناه بألفاظ أخر. وكأنه أراد أن يقول: قعود البلى وهدفاً للخطوب، أو غرضاً للخطوب، أي تقع به أبداً وتصيبه؛ فلم ينتظم له الوزن، وكأنه أراد أن يقول: وهدفاً للخطوب أو غرضاً للخطوب، أي تقع به أبداً [وتصيبه] (3) فقال: سور؛ لأن السور جعل يقع (4) به كل قارعة دون ما وراءه، فهو هدف وغرض لكل رام، فهذا الذي أراده، والله أعلم. وليس قول من يقول: سور الخطوب، أي أن هذا الربع محيط بالخطوب فهو كالحارس لها، فهي لا تبرحه ولا تريمه بشيء؛ لأن الأشبه والأولى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 هذا أن تجعل الخطوب هي التي أحاطت به من كل وجه حتى عفته وأبلته وأخلته من أهله، لا [أ] نه أحاط بها. وقد قيل: سؤر الخطوب [بالهمز: بقية ما أبقته الخطوب] (1) كسؤر السبع إذا ولغ في الشيء، ثم أسأر منه، وليس هذا ببعيد من المعنى، بل هو وجه جيد (2). وقال البحتري: مغاني سليمى بالعقيق ودورها ... أجد الشجا أخلاقها ودثورها (3) وما خلتها مأخوذة بصبابتي ... صحائف تمحى بالرياح سطورها وهذا من أحسن معنى وأبرعه. وقوله: «وما خلتها مأخوذة بصبابتي»، مما يسأل عنه فيقال: كيف تؤخذ الصحائف وهي عرصات الدار بصبابته؟، فمعنى مأخوذ بصبابتي: أي ملزمة صبابتي، كما يقال: قد أخذ فلان بأن يفعل كذا وكذا: أي ألزمه، كما يقال للرجل: افعل كذا وكذا، فيقول: من أخذني بهذا، أي من ألزمنيه؟ ومن ناطه بي (4) وعلقه عليَّ. وكما يقال كذا وكذا وما أخذ ما أخذه، أي وما اتصل به، وتعلق عليه، ولزم طريقته. ولا أعرف لأبي تمام معنى جيداً في ذكر الرياح إلا قوله: يا منزلاً أعطى الحوادث حكمها ... لا مطل في عدة ولا تسويفا (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 أرسى بناديك الندى وتنفست ... نفساً بعقوتك الرياح ضعيفا وإنما قال ضعيفاً: لأن الرياح إذا اشتد هبوبها عفت آثار الديار وطمست معالمها، ولذلك قال البحتري: وإذا هبت الرياح نسيماً ... فعلى ربع دارها والجناب (1) وما زلت أسمع أهل العلم بالشعر يستحسنون بيت أبي تمام هذا، وهو لعمري حسن، ولكنه أخذ المعنى من قول آخر وأنشده إسحاق بن إبراهيم الموصلي ولم يأت به في ذكر الدار: يا حبذا ريح الجنوب إذا سرت ... بالليل وهي ضعيفة الأنفاس قد ضمنت برد الندى وتحملت ... عبقاً من الجثجات والبسباس (2) وأجود من هذا وذاك في وصف طيب الريح، قول أبي الصفي الأسدي: إذا أصعد الركبان واستقبلتهم ... جنوب كمس الرازقي هبوبها الرازقي: الرقيق من الكتان الأبيض (4)، والريح وإن كانت قد تسفي الترب على رسم الدار فتعغطيه وتعفوه، فإنها أيضاً قد تنسفه (5) عنه فتكشفه وتجده، ألا ترى إلى قول جرير: تحيي الروامس ربعها فتجده ... بعد البلى وتميته الأمطار (6) فهي تفعل فعلين مختلفين، وربما نسفت تراب أرضٍ فطرحته على أرض أخرى، وبينهما سير أيام، فتكشف عن معالم تلك الأرض، وتغطي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 معالم هذه، وربما غشيت وجه الأرض كله بتراب الأرض الأخرى، وفي ذلك يقول ذو الرمة: ضهول كساها ترب أرض غريبة ... سوى أرضها منها الهباء المغربل (1) ضهول: وصف للريح، وذكرها في بيت قبل هذا، والهاء في كساها راجعة إلى رسوم الدار التي وصفها، وضهول ماؤها: يجيء قليلاً قليلاً. وضهول كل شيء: رجوعه، وبئر ضهول: يجيء ماؤها قليلاً قليلاً، ويروى: «جفول» أي سريعة ذاهبة، فهذا في ريح واحدة. فأما الريحان المختلفان، فإن أحداهما تنسف عن الأرض التراب، والأخرى ترده إليها على ما قال امرؤ القيس: . . . . . . . . . لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمال (2) فلعل الطائيين فيما شرطاه إنما أشفقا من أحد فعلي الريح، وهو طموسها للرسم. وقال البحتري: أسند صدور اليعملات بوقفة ... في الماثلات كأنهن المسند (3) دمن تقاضاهن إعلان البلى ... هوج الرياح الباديات العود (4) حتى فنين وما البقاء لواقف ... والدهر في أطرافه يتردد وهذا معنى عجيب، وغرض حسن، والمسند الدهر، أراد أن طلول الدار والماثلات ثابتة فيه كثبات الدهر ودوامه، وإنما قال: أسند، من أجل قوله: المسند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وأجود منه وأحلى قوله: عست دمن بالأبرقين خوال ... ترد سلامي أو تجيب سؤالي (1) إذا ما تأيا الركب فيها تبينوا ... ضمانة متبول وصحة بال (2) خليلي ما للرامسات وما لها ... وما لشجوني المبرحات ومالي (3) ومما لا مزيد عليه، ولا غاية لحسنه وبراعته، ولطف معناه، قوله: أصبا الأصائل إن برقة منشد ... تشكو اختلافك بالهبوب السرمد (4) لا تتعبي عرصاتها إن الهوى ... ملقى على تلك الرسوم الهمد دمن مواثل كالنجوم فإن عفت ... فبأي نجم في الصبابة تهتدي (5) وقد قرأت شعراً كثيراً، في وصف الرياح للدار، لشعراء الجاهلية والإسلام، فما سمعت بأحسن من هذا، ولا أعرف ولا أبدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 ما قالاه في سؤال الدار واستعجامها عن الجواب والبكاء عليها أيضا ً قال أبو تمام: من سجايا الطلول ألا تجيبا ... فصواب من مقلة أن تصوبا (1) فاسألنها واجعل بكاك جواباً ... تجد الشوق سائلاً ومجيبا (2) وقد ذكرت هذا الابتداء في الابتداءات (3). وقوله: «فاسألنها واجعل بكاك جواباً»، لأنه قال (4): من سجاياها ألا تجيب، فليكن بكاؤك الجواب؛ لأنها لو أجابت: أجابت بما يبكيك، أو لأنها لما لم تجب علمت أن من كان يجيب قد رحل عنها، فاوجب ذلك بكاءك. وقوله: «تجد الشوق سائلاً ومجيباً»، أي أنك إنما وقفت على الدار وسألتها لشدة شوقك إلى من كان بها، ثم بكيت شوقاً إليهم، فكان الشوق سبباً للسؤال، وسبباً للبكاء. وهذه فلسفة حسنة، ومذهب من مذاهب أبي تمام، وليس على مذاهب الشعراء ولا طريقتهم، ومثله قوله: تجرع أسى قد أقفر الجرع الفرد ... ودع حسى عين يجتلب ماءه الوجد (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 إذا انصرف المحزون قد فل صبره ... سؤال المغاني فالبكاء له رد (1) فالجرع: الموضع من الأرض له ارتفاع، ويقال هو حزن، ويقال هو سهل يشبه الرمل، والجمع: اجراع. وقوله: «فالبكاء له رد»، أي للسؤال، على معنى قوله: * تجد الشوق سائلاً ومجيبا * ولم يسلك البحتري هذه الطريق، بل جرى في هذا الباب على مذاهب الناس فقال: وقفنا على ذات النخيلة فانبرت ... سواكب قد كانت بها العين تبخل (2) على دارس الآيات عاف تعاقبت ... عليه صباً ما تستفيق وشمأل فلم يدر رسم الدار كيف يجيبنا ... ولا نحن من فرط البكا كيف نسأل (3) وقول أبي تمام وإن كان فيه دقة وصنعة، فهذا عندي أولى بالجودة، وأحلى في النفس، وألوط بالقلب، وأشبه بمذاهب الشعراء. ومثله في الحسن والجودة والحلاوة قوله: خلفت بعدهم ألاحظ نية ... قذفاً وأنشد دارساً مترسما (4) طللاً أكفكف فيه دمعاً معرباً ... بجوى واقرأ فيه خطاً أعجما (5) تأبى رباه أن تجيب ولم يكن ... مستخبر ليجيب حتى يفهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وقال أبو تمام: قد مررنا بالدار وهي خلاء ... فبكينا طلولها والرسوما (1) وسألنا ربوعها فانصرفنا ... بشفاء وما سألنا حكيما وهذه معنى حسن حلو، ومذهب صحيح قد تقدم الناس فيه. وقال البحتري في مثله أو قريب منه: يا دار لا زالت رباك مجودة ... من كل غادية تعل وتنهل (2) فهمتنا دول الزمان وصرفه ... وأريتنا كيف الخطوب النزل (3) أراد تعل الربى وتنهل من كل غادية. وقوله: «فهمتنا دول الزمان وصرفه» مع تمام البيت، وقريب من قول أبي تمام: «فانصرفنا بشفاء»، وإن كان أبو تمام إنما انصرف بشفاء من العلم بأهل الدار أنها منهم مقفرة. والبحتري قد دل على هذا إلا أنه جاء في بيت بأسره، ومعنى أبي تمام جاء به في حكمة واحدة، وأتى بزيادة في غاية الحلاوة والصحة، وهو قوله: «وما سألنا حكيما». ... فأبو تمام في هذا عندي أشعر من البحتري. ... ومما يشبه قول أبي تمام: «فانصرفنا بشفاء»، أو يقاربه قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وأبى المنازل إنها لشجون ... وهلى العجومة إنها لتبين (1) وهذا بيت حسن، وقد ذكرته في الابتداءات (2). وقد قال مسلم بن الوليد: وقفت على أطلال لهم فكأنها ... تفهم إلا أنها لم تحاور وقال أبو تمام: هل أثر من ديارهم دعس ... حيث تلاقى الأجراع والوعس (3) مخبر السائل الرذية في الـ ... أطلال أين الجآذر اللعس؟ (4) لا تسألنها فليس يسمع جرس الـ ... قول غلا شخص له جرس (5) وهذه أبيات متعسفة، ولفظ غير جيد، ومعنى غير حسن. وقوله: الأجراع والوعس، فالأجراع: جمع جرع، مثل جبل وأجبال، وهو المكان من الأرض الذي فيه حزونة، ويقال بل هي سهلة غير أنها مرتفعة قليلاً، تشبه الرمل في سهولتها، ويقال أيضاً: أجرع وأجارع وجرعاء وجرعاوات وجرع وأجراع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 والوعس: جمع وعساء، مثل حمراء وحمر، وهي: الرملة التي تغوص فيها الرجل، وإذا ذكروا قالوا: أوعس. وقد تصرف البحتري في هذا الباب تصرفاً كثيراً حسناً فقال في قصيدته التي أولها: «هجرت وطيف خيالها لم يهجر»: مستهتر بالظاعنين وفيهم ... صد يضرم لوعة المستهتر (1) يسل المنازل عنهم وعلى اللوى ... دمن دوارس إن تسل لا تخبر (2) ومن السفاهة أن تظل مكفكفاً ... دمعاً على طلل تأبد مقفر وهذا كلام فحل، ومعان جيدة صحيحة مستقيمة. ومثل هذا في الجودة والبراعة قوله: هويناك من لوم على حب تكتما ... وقصرك نستخبر ربوعاً وأرسما (3) تحمل منها منجد من خليطهم ... أطاع الهوى حتى تحول منهما (4) وما في سؤال الدار إدراك حاجة ... إذا استعجمت آياتها أن تكلما قوله: هويناك، تصغير هوينك، والهون: المهل، يقال: سر على مهل، وتكلم على مهل، ويقال للمتكلم: هوناً: أي مهلاً، وهونك: أي مهلك، أي الزم مهلك ولا تعجل. وأراد البحتري ارفق واكفف من لومك، ألا تراه وكد ذلك بقوله: «وصرك نستخبر»، أي أقصر. ووجدت بعضهم يستهجن هذه اللفظة، كأنه كره أن يكون مبتدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 بها، وليست عندي بمكروهة ولا مستهجنة، وهو ابتداء إن لم يكن من جيد ابتداءاته ونادرها، فليس هذا من رديئها. ووصل هذا بأن قال: نصرت لها الشوق اللجوج بأدمع ... تلاحقن في أعقاب وصل تصرما وتيمني أن الجوى غير مقصر ... وأن الحمى وصف لمن حل بالحمى فقوله: «نصرت لها الشوق اللجوج بأدمع»، يعني الدار، بعد قوله: «وما في سؤال الدار إدراك حاجة» لأنه لما لم يجد في سؤالها إدراك حاجة. وهذا قريب من قول أبي تمام: فاسألنها واجعل بكاك جواباً ... تجد الشوق سائلاً ومجيبا (1) وقوله: «وأن الحمى وصف لمن حل بالحمى»، غير جيد، وهو من توليدات المتأخرين، وأصل من أصول أبي تمام التي يعمل عليها. وقوله: «نصرت لها الشوق اللجوج بأدمع»، خطأ اتبع فيه أبا تمام في قوله: دعا شوقه يا ناصر الشوق دعوة ... فلباه طل الدمع يجري ووابله (2) وقد شرحت المعنى فيما تقدم (3). ... وقال البحتري: وبذي الأراكة من مصيف لابس ... نسج الرياح ومربع مهضوب (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 دمن لزينب قبل تشريد النوى ... من ذي الأراك بزينب ولعوب تأبي المنازل أن تجيب ومن جوى ... يوم الديار دعوت غير مجيب وهذا من جيد شعره، وبارع ألفاظه، ومتقن معانيه. وقال أيضاً: إذا شئت أجرت أدمعي من شؤؤنها ... ربوع لها بالأبرقين وأرسم (1) وقفت بها والركب شتى سبيلهم ... يفيضون منهم عاذرون ولوم هي الدار إلا أنها لا تكلم ... عفا معلم منها وأقفر معلم تقيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسري إليَّ الشوق من حيث أعلم (2) وهذه أبيات جياد. وقوله: «عفا معلم منها»، أي انمحى وذهب، «وأقفر معلم»، أي خلا من أهله، وفي هذا سؤال، وهو أن يقال: المعلم الذي عفا هو أيضاً مقفر؛ لأن المقفر: الخالي، فما وجه هذا التقسيم؟ والجواب: ان العافي: هو الذي قد ذهب وفني وعدم، فلا ينسب إلا أنه مقفر؛ لأن المقفر: الخالي، والخالي لا يكون معدوماً. فأراد الحبتري: أن معلماً منها عفا، أي عدم، ومعلماً بقي مقفراً، أي خالياً من أهله، كما يقول القائل في الرجلين: مات أحدهما وأعدم الآخر، فالميت لا يقال له معدم. وقال البحتري: أرسوم دار أم سطور كتاب ... درست بشاشتها على الأحقاب (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 يجتاز زائرها بغير لبانة ... ويرد سائلها بغير جواب قوله: «أرسوم دار» من ابتداءاته العجيبة لفظاً ومعنى، وقد ذكرته في بابه من الابتداءات (1). وقوله: «يجتاز زائرها بغير لبانة» أي إذا عرج عليها زائرها في اجتيازه بها فإنه يجتاز، أي يجوزها ويمضي بغير حاجة قضيت له، وأراد: ينصرف عنها بغير لبانة، فجعل في موضع «ينصرف»، «يجتاز». وقال البحتري أيضاً: هب الدار ردت رجع ما أنت قائله ... وأبدى الجواب الربع عما تسائله (2) أفي ذاك برء من جوى ألهب الحشا ... توقده واستغزر الدمع جائله (3) وهذا معنى حلو، ومذهب حسن إلا أنه معنى صدر البيت في عجزه، وهذا قبيح من مثله، وجعل البيت الثاني معلقاً بالأول، والعذر له أن يقال: إنه جعل الدار غير الربع. وقال أبو تمام في قصيدته التي أولها: * أي مرعى عين ووادي نسيب * فعليه السلام لا أشرك الأطـ ... لال في لوعتي، ولا في نجيبي (4) فسواء إجابتي غير داع ... أم دعائي بالقفر غير مجيب (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 أخذه البحتري فقال: أصبابة برسوم رامة بعدما ... عرفت معالمها الصبا والشمأل (1) وسألت من لا يستجيب فكنت في اسـ ... تخباره كمجيب من لا يسأل (2) وبيت أبي تمام أجود. قال أبو تمام: لهم منزل قد كان بالبيض كالدمى ... فصيح المغاني ثم أصبح أعجما (3) ورد عيون الناظرين مهانة ... وقد كان مما يرجع الطرف مكرما (4) وهذا في غاية الحسن والحلاوة. وقال البحتري: منازل ما تجيب الصب من خرس ... ولا تريغ غلى شكواه من صمم (5) أقام ينشد شملاً غير متفق ... من آل ليلى وشعباً غير ملتئم قوله: «ما تجيب الصب من فرس»، أي ما تجيب الصب لخرسها، ولا تريغ إلى شكواه من صمم، أي لصممها. وهذه أيضاً أبيات حلوة، حسنة الغرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 فهذا ما وجدته لهما في هذا الباب، وهما عندي فيه متكافئان، وأجود من كل ما قالاه من ذلك قول جميل: أصبح الربع من بثينة فيا ... زاده طول ما تأبد عيا وإن ما يبين رجع سؤال ... ولقد يسمع السؤال الخفيا وقال المخبل: وكأنما أثر النعاج بجوها ... بمدافع الركنين ودع جوار وسألتها عن أهلها فوجدتها ... عمياء جافية عن الإخبار وهذا كلام حلو جداً. وقال عوف بن عطية بن الخرع: وقفت بها ما تبين الكلا ... م لسائلها القول إلا سرار (1) أي إنا قد فهمنا عنها وإن لم تجب؛ فجعل ذلك سراراً. وقال ذو الرمة: وقفنا فسلمنا فردت تحيتنا ... علينا ولم ترجع جواب المخاطب (2) الأصمعي يقول: من سرورنا بها رأينا أنها قد ردت علينا التحية وأجابتنا. وقال غيره: ردت تحية، أي لم تقبلها منا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 باب آخر من وصف الديار وساكنيها وليس تكاد في القطعة التي تشتمل على عدة أبيات، أن تكون سائر أبياتها موافقة في معانيها لسائر أبيات القطعة الأخرى، وإنما يوازن بين بيت وبيت إذا اتفقا، أو بين غرض وغرض إذا تقاربا، وأغراض هذا الباب وهي من جنس واحد وإن اختلفت المعاني. ... قال أبو تمام: قد عهدنا الرسوم وهي عكاظ ... للصبا تزدهيك حسناً وطيبا (1) أكثر الأرض زائراً ومزورا ... وصعوداً من الهوى وصبوبا (2) وكعاباً كأنما ألبستها ... غفلات الشباب برداً قشيبا بين البين فقدها، قلما تعـ ... رف فقداً للشمس حتى تغيبا قوله: «قد عهدنا الرسوم وهي عكاظ» معنى ليس بالجيد؛ لأنه إنما أراد: قد عهدنا الرسوم وهي معدن للصبا أو مألف أو موطن، فقال: عكاظ، أي سوق للصبا يجلب إليها، ولو قال: «سوق» لكان أجود من قوله: «عكاظ»، وإنما ذهب إلى أن عكاظ من أعظم الأسواق التي تجتمع إليها العرب، وقد كان يكفيه أن يقول: سوق، فيأتي باللفظة المستعملة المعتادة، وإن السوق قد تكون عظيمة آهلة، وعكاظ أيضاً سوق، فما وجه التخصيص في موضع العموم، والعموم أجود وأليق؟ وقد يجوز أن يكون احتذاه على مثال، والرديء لا يعتبر به، وعلى أن الوزن لم يمكنه من سوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 وقال البحتري: رحل الظاعنون عنك وأبقوا ... في حواشي الأحشاء حزناً مقيما (1) أين تلك الظباء أشبهن في الحسـ ... ن بدوراً وفي البعاد نجوما قد وجدن السلو برداً سلامًا ... إذا وجدنا الهوى عذاباً أليما (2) وهذا كلام حلو، وغرض حسن. وقوله: «أشبهن في الحسن بدوراً وفي البعاد نجوما» أجود وألطف من قول أبي تمام: «قلما تعرف فقداً للشمس حتى تغيبا» لأنه جمع البدر والنجوم في بيت، وجعل التشبيه بمعنيين مختلفين، وأيضاً فإن أبا تمام لم يصف المرأة في بيته بالحسن، والبيت من أوصاف النساء، ولا يقول مثله عاشق، وإنما يوصف بمثله صديق أو حميمـ فيقال: قد بان علي فقده لما غاب؛ أو يكون وصفاً لملك أو سيد فيقال: غاب فغاب عنا فضله ونائله، وبعد فبعد عنا خيره ومعروفه، كما يبعد ضوء الشمس والانتفاع بها إذا غابت. ألا تراه لو كان مدحاً لرجل حتى يقول: بين البين فقده قلما تعـ ... ـرف فقداً للشمس حتى تغيبا ولو كان من أقبح الناس صورة، بعد أن يكون كريماً جواداً، أو شجاعاً محامياً أن ذلك كان يكون حسناً جميلاً، ومدحاً صحيحاً مستقيماً؟! وقد قال يرثي أسحاق بن أبي ربعي: راحت وفود الأرض عن قبره ... فارغة الأيدي وملأى القلوب (3) قد علمت ما رزئت إنما ... يعرف فقد الشمس بعد الغروب (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 فههنا موضع هذا المعنى لا هناك. ويقال في قول البحتري: «أشبهن في الحسن بدوراً وفي البعاد نجوما»: إن البدر (1) أيضاً لا يوصل إليه، فهو بعيد المنال كبعد النجم، فلم خصَّ النجوم بالبعاد؟. فالجواب: أن العادة لم تجر بأن يقال: أبعد من البدر، وإنما يقال: أبعد من النجم، فجعلهن في الحسن كالبدور، وفي بعد منالهن كالنجوم. وهذا معنى لا مزيد على حسنه وصحته. وإن حملت المعنى على أن البدر ليس ببعيد منا كبعد سائر النجوم، لأن بينه وبينها في البعد مسافة بعيدة، كان ذلك مذهباً صحيحاً وقد استهجن ابن المعتز قوله: «في حواشي الأحشاء» وهو تجنيس إن لم يكن حلواً لائقاً فليس بالهجين ولا الرديء القبيح. ... وقال أبو تمام: لا أنت أنت ولا الديار ديار ... [خف الهوى وتولت الأوطار] (2) كانت مجاورة الطلول وأهلها ... زمناً عذاب الورد فهي بحار (3) أيام تدمى عينه تلك الدمى ... فيها وتقمر لبه الأقمار (4) إذ لا صدوف ولا كنود أسماهما ... كالمعنيين ولا نوار نوار (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 بيض فهن إذا رمقن سوافراً ... صور وهن إذا رمقن صوار (1) في حيث يمتهن الحديث لذي الصبا ... وتحصن الأسرار والأسرار (2) قوله: «لا أنت أنت» لفظ من ألفاظ أهل الحضر، مستهجن وليس بجيد، لكن قوله: «ولا الديار ديار» كلام معروف من كلام العرب، مستعمل حسن أي ليست الديار دياراً كما عهدت، مثل ما يقال في الإيجاب: * إذ الناس ناس والزمان زمان (3) * أي كما عهدت قال جرير: وكنا عهدنا الدار والدار مرة ... هي الدار إذ حلت بها أم يعمرا (4) وكما قال ابن حطان في النفي: أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس (5) فبنى أبو تمام على هذا قوله: «لا أنت أنت» أي لست أنت الذي كنت تعهد محباً وامقاً، ذا مقة، أي قد تغيرت وتغيرت الديار. وقوله: «فهي بحار»؛ والبحر: الماء والملح، ويقال: قد أبحر الماء، إذا صار ملحاً. وقوله: «وتحصن الأسرار والأسرار» الأول جمع سر (7)، يعني النكاح، والثاني يريد الحديث، أي هو محفوظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وقوله: «إذ لا صدوف ولا كنود أسماهما كالمعنيين» أي لا تصدف هذه، ولا تكند تلك، أي لا تقطع. «ولا نوار نوار» أي ولا نوار نافر، أي هي آنسة غير نفور من الحديث والأنس، وإنما قال في موضع آخر: * نوافر من سوء كما نفر السرب (1) * لأنه أراد نفورهن من السوء، وهو الريبة. ... وقال البحتري: هذا العقيق وفيه مرأى مونق ... للعين لو كان العقيق عقيقا (2) أشقيقة العلمين هل من نظرة ... فتبل قلباً للغليل شقيقا (3) وسمتك أودية السماء بديمة ... تحيي رجاء أو ترد عشيقا (4) ولئن تناول من بشاشتك الردى ... طرفاً وأوحش أنسك الموموقا (5) فلرب يوم قد غنينا نجتلي ... مغناك بالرشإ الأنيق أنيقا على البخيلة أن تجود بها النوى ... والدار تجمع شائقاً ومشوقا (6) قوله: «لو كان العقيق عقيقا» كما عهدت، وهذا مثل قول أبي تمام: «ولا الديار ديار». وبيت البحتري أجود، لأن صدره أحسن معنى من قول أبي تمام: «لا أنت أنت». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وأودية السماء: يريد المدود التي تجرى، والسماء: السحاب، والديمة: المطر يدوم أياماً لا يقلع. وقوله: «تحي رجاء» أي تخصب الموضع، فيعود إليه الظاعنون عنه. وإنما ذهب إلى قول جرير: ألا أيها الوادي الذي ضم سيله ... إلينا نوى ظمياء حييت واديا (1) وهذا من حر الشعر، ورصين المعاني. ... وقال أبو تمام: وعهدي بها إذ ناقض العهد بدرها ... مراح الهوى فيها ومسرحه الخصب (2) مؤزرة من صنعة الوبل والندى ... بوشي ولا وشي وعصب ولا عصب (3) تحير في آرامها الحسن فاغتدت ... قرارة من يصبى ونجعة من يصبو (4) سواكن في بر كما سكن الدمى ... نوافر من سوء كما نفر السرب كواعب أتراب لغيداء أصبحت ... وليس لها في الحسن شكل ولا ترب لها منظر قيد النواظر لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 يظل سراة القوم مثنى وموحداً ... نشاوى بعينيها كأنهم شرب (1) قوله: «مراح الهوى فيها ومسرحه الخصب» أي الهوى مخصب فيها لكثرة الحسن بها في مراحه ومسرحه. وقد يكون أراد خصب النبات لأنه قال بعده: «مؤزرة من صنعة الوبل والندى». والمعنى الأول أجود وألطف، ولا يكون هذا البيت متعلقاً بما قبله. وقوله: تحير في آرامها الحسن فاغتدت ... قرارة من يصبى ونجعة من يصبو فإنه من حلو الكلام. وقوله: «سواكن في بر كما سكن الدمى» فالدمى: الصور، جمع دمية، أي هن سواكن في بر، أي في صلاح، كما سكن الصور، لأن الصور سواكن بلا حركة، كأنه ينسبهن إلى الوقار وقلة الأسر، وهذه صفة العفائف من النساء. وقوله: «نوافر من سوء كما نفر السرب» فالسرب: الجماعة من الظباء والقطا، ومن بقر الوحش أيضاً إلا أن المستعمل في بقر الوحش، والمستعمل في الربرب (2). وقوله: «أتراب الغيداء» أي أتراب لها سنيها، وليس لها في الحسن ترب. وقوله: «يروح ويغدو في خفارته الحب» أي لا يلحق الحب معه آفة من ثلم ولا نقص ولا تغير ولا ضعف، وهذه كلها معان حسنة متقنة، وألفاظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 بارعة فصيحة، إلا البيتين الأولين، فإن فيهما اضطراباً، والبدر أيضاً ليس هذا موضعه، وإنما يحسن ذكر البدر في مثل هذا إذا كان في الكلام ذكر لسماء أو نجوم أو ليل. لو قال: «إذ ناقض العهد ريمها» كان أشبه وأليق. وقد قال البحتري في مثل هذا، ولكنه فيه أعذر من أبي تمام، وذلك قوله: ربع خلا من بدره مغناه ... ربحت به عين المهى الأشباه أراد أن ربع المرأة خلا منها، وخلفتها العين التي هي أشباه يشبه بعضها بعضاً، وباعد المرأة من شبهها فجعلها بدراً، أي أخلى الربع من هو كالبدر، وخلفته العين، كأنه يخسس أمرها، كما يقال: انظروا من بقي ومن مضى، فاحتاج البحتري إلى ذكر البدر [أكثر] (1) من حاجة أبي تمام إليه في قوله: «وعهدي بها إذ ناقض العهد بدرها». وأحسن من هذا وأجود لفظاً ومعنى قول البحتري [أيضاً] (1): وعهدي بها من قبل أن يحكم النوى ... على عينها ألا تذم عهودها (2) بعيدة ما بين المحبين والجوى ... ومجموعة غيد الليالي وغيدها (3) قوله: ومجموعة غيد الليالي وغيدها، لفظ ومعنى ما لحسنها نهاية. وإنما أخذ المعنى من قول أبي تمام: كواعب زارت في ليال قصيرة ... يخيلن لي من حسنهن كواعبا (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وبيت البحتري أجود لفظاً، وأحلى سبكاً. وقال أبو تمام: أزعمت أن الربع ليس يتيم ... والدمع في دمن لا يسجم (1) يا موسم اللذات غالتك النوى ... بعدي فربعك للصبابة مواسم ولقد أراك من الكواعب كاسباً ... فاليوم أنت من الكواعب محرم لحظت بشاشتك الحوادث لحظة ... ما زلت أعلم أنها لا تسلم وهذا كله جيد، ويأتي بعد هذه الأبيات ما هو جيد نادر، ورديء ساقط. وقد ذكرت ذلك في باب الغزاء في أوصاف النساء. وقوله: «أزعمت أن الدمع ليس يتيم» معنى حسن، وقد أورده البحتري أحسن من هذا الإيراد (2) وألطف، فقال وهو من إحسانه المشهور: لقينا باللوى فكأنما ... لقينا الغواني الآنسات عواطلا (3) وقتل المحبين العيون ولم أكن ... أظن الرسوم الدارسات قواتلا هواجر شوق لو تشاء يد النوى ... لجادت بمن تهوى فعادت أصائلا (4) ومذهب حب لم أجد عنه مذهباً ... وشاغل بث لم أجد عنه شاغلا وهذا الذي طلبته الشعراء، فأعجزها إدراكه. ... وقال وقال أبو تمام: طلل وقفت عليه أسأله إلى ... أن كاد يصبح ربعه لي مسجدا (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وظللت أنشده وأنشد أهله ... والحزن خدني ناشداً أو منشدا (1) سقياً لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبي للصبابة معهدا قوله: «إلى أن كاد يصبح ربعه لي مسجداً» كأنه أراد أن يؤكد طول وقوفه في الربع، كما يقف المصلى في المسجد، وربما أطال الوقوف. وقوله: «وظللت أنشده» أي أعرفه أصحابي، وأقول: هذا هو الربع أو الطلل، يقال: أنشدت الضالة بالألف: إذ عرفتها، ونشدتها: إذا طلبتها، فقوله: «أنشد أهله» أي أطلبهم كما يطلب الناشد ضالته. والحزن خدني، أي صاحبي في الحالين. وهذه أبيات لا حلاوة لها، ولا طلاوة عليها، ولكن الحلو العذب على هذا الوزن قول البحتري: عهدب بربعك للغواني معهدا ... نضبت بشاشة أنسه فتأبدا (2) بخلت جفون لم تعرك دموعها ... وقسا فؤاد لم يبت بك مقصدا ما هاج لي نوح الحمام وما دعا ... من صبوتي وصبابتي إذ غردا ... وقال أبو تمام: ولقد سلوت لو أن داراً لم تلح ... وحلمت لو أن الهوى لم يجهل (3) ولطالما أمسى فؤادك منزلا ... ومحله لظباء ذاك المنزل (4) إذ فيه مثل المطفل الظمأى الحشا ... رعت الخريف وما القتول بمطفل (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وقال أبو تمام يصف المنزل أيضاً: ولئن نوى بك ملقياً أجرامه ... ضيف الخطوب لقد أصاب مضيفا (1) وهي الفجائع لم تزل نكباتها ... يألفن ربع المنزل المألوفا خلفت بعقوتك السنون وطالما ... كانت بنات الدهر عنك خلوفا أيام لا تسطو بأهلك نكبة ... إلا تراجع صرفها مصروفا (2) وإذا رمتك الحادثات بلحظها ... ردت ظباؤك طرفها مطروفا وقال أبو تمام أيضاً: سلم على الربع من سلمى بذي سلم ... عليه وسم من الأيام والقدم (3) ما دام عيش لبسناه لساكنه ... لدنا ولو أن عيشاً دام لم يدم (4) يا منزلاً أعنقت فيه الجنوب على ... رسم محيل وشعب غير ملتئم هرمت بعدي والربع الذي أفلت ... منه بدورك معذور على الهرم عهدي بمغناك حسان المعالم من ... حسانة الورد والبردي والعنم (5) بيضاء كان لها من غيرنا حرم ... فلم نكن نستحل الصيد في الحرم كانت لنا صنماً نحنوا عليه ولم ... نسجد كما سجد الأفشين للصنم قوله: «لو أن عيشاً دام لم يدم» أي لو دام مدة من المدد أو دهراً من الدهور لم يدم، أي لا نقطع ونفد، ولم يكن بد من أن يتصرم، وقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 «هرمت بعدي» كلام رذل سخيف، قد عابه الناس فيما عابوه من ألفاظه. وقوله: «حسانة الورد»، يريد الخد. والبردي: يريد الساق، وإنما يعني أصول البردي، وهو أبيض غض أملس، يشبه به الساق، والعنم: نبت له أغصان دقاق، تشبه بها الأصابع. وقوله: «بيضاء كان لها من غيرنا حرم» فالحرم: هو المكان الذي قد حرم أن يصاد فيه صيد، فهو حرز له وملجأ، يريد به زوج المرأة، أي كان لها حرم من غيرنا، ولم نكن نحن حرمها. ويروى: «كان لنا من غيرها حرم» يريد: كانت لنا زوجة هي حرمنا، فلم نكن نستحل معها غيرها أو لم نكن نستجيز خيانتها، كما قالت ليلى الأخيلية: لنا صاحب ما نبتغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل (1) وقوله: «كانت لنا صنماً» أراد أن يقول: نعكف عليه، فلم يستقم له، فقال: نحنوا عليه، وهي لفظة غير مستعملة في هذا الموضع، وإن كان لها اقتراب من «نعكف» ومشاركة. وقوله: «ولم نسجد» معنى رديء لا يليق بالمكان، وإنما كان يجب أن يقول: ولو جاز السجود لسجدنا، حتى يكون قد وفى الحب حقه، واستعمل المعنى المعتاد في مثل هذا، وإلا فأي فائدة في أن يقول القائل في شعره: قد أحببت ولكن لم أجعل محبوبي رباً أعبده، وهويت ولكن لم أجن جنون قيس بن معاذ العامري؟ لأن من شأن العاشق أن يشكو ما يمر به ويقاسيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ويكذب في أكثر أحواله تقرباً إلى محبوبه، فأما أن يركب مثل هذا المعنى فلا، وقد يجوز أن يقول قائل: إذا أراد عذل محب آخر ليقصر. وإنما قصد أبو تمام ذكر الأفشين، فخرج في المعنى عن العادة وجاء بما لا فائدة فيه. ... وقال أبو تمام: عفت أربع الحلات للأربع الملد ... لكل هضيم الكشح مغربة القد (1) لسلمى سلامان وعمرة عامر ... وهند بني هند وسعدى بني سعد (2) ديار أراقت كل عين شحيحة ... وأوطأت الأحزان كل حشأ صلد (3) فلا تسألاني عن هوى قد طعمتما ... جواه فليس الوجد إلا من الوجد (4) قوله: «أربع الحلات» يريد جمع حلة، وهي المنزل الذي يحلونه (5). وقوله: «للأربع الملد» أي للأربع من النساء الملد، وهن الغضات النواعم، ومنه قولهم: غصن أملود: إذ كان كذلك، وهذا لفظ لا حلاوة له، وقد مضى التفسير عند ذكر هذا البيت في الابتداءات (6). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 وقوله: فليس الوجد إلا من الوجد أي من الوجد الذي تعرفانه. ... ومن جيد هذا الباب ونادره، قول البحتري: نعم قد تشاكينا على الشعب ساعة ... ومن دونه شعب لليلى مفرق (1) على دمنة فيها لأدمانة النقا ... محاسن أيام تحب وتعشق (2) وقفت وأوقفت الجوى موقف الهوى ... ليالي عود الدهر فينان مورق (3) فحرك بثي ربعها وهو ساكن ... وجدد وجدي رسمها وهو مخلق (4) قوله: «فحرك بثي ربعها وهو ساكن وجدد. . . .» معنى مقول، أخذه من قول الموبذ في كسرى عند وفاته: حركنا بسكونه، ويقال: قيلت للإسكندر، وأخذه أبو العتاهية، فقال: قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا (5) ... وقال أبو تمام: لو أن دهراً رد رجع جواب ... أو كف من شأويه طول عتاب (6) لعذلته في دمنتين بأمره ... ممحوتين لزينب ورباب (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 ثنتين كالقمرين حف سناهما ... بكواعب مثل الدمى أتراب (1) من كل ريم لم ترم سوءاً ولم ... تخلط صبا أيامها بنصاب قوله: «لعذلته في دمنتين» معنى سخيف، وإبداع غير حسن ولا جميل. وقد اعتذر أبو نواس إلى الربع (2): بأنه لم يقدر على دفع ضرر البلى والدروس عنه، وأنه لا يدري ما يقول في ذلك لسعاد؛ فجاءنا بآبدة أخرى ظريفة عجيبة، وقد رأيت غير واحد من الشيوخ يستحسنه لغرابة معناه. وذلك قوله: أربع البلى إن الخشوع لبادي ... عليك وإني لم أخنك ودادي (3) فمعذرة مني إليك بأن ترى ... رهينة أرماس وصون عواد (4) ولم أدرأ الضراء عنك بحيلة ... فما أنا منها قائل لسعاد وهذا ليس على طريقة العرب ولا مذاهبهم، وإذا اعتمد الشاعر الإبداع فمن سبيله ألا يخرج عن سنن القوم، فإنه لم يخطر [فيه] (5) عليه مستغرب المعاني ومستظرفها. وما أحسن المعنى الصحيح إذا أتى به الطبع النقي، وكان قائله مخبراً بالأمر على ما هو، وذلك نحو قول البحتري: وما أعرف الأطلال من بطن توضح ... لطول تعفيها ولكن إخالها (6) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 إذا قلت: أنسى دار ليلى على البلى ... تصور في أقصى ضميري مثالها (1) وكنت أرجي وصلها عند هجرها ... فقد بان مني هجرها ووصالها فلا عهد إلا أن يعاود ذكرها ... ولا وصل إلا أن يطيف خيالها (2) وهذا هو الشعر الذي لم تشن وجهه الاستعارة البعيدة، ولا المعنى المتمحل. وقال الحارث بن خالد المخزومي في ضد قول البحتري: «وما أعرف الأطلال» وأحسن كل الإحسان، وأبدع وأغرب، وذلك قوله: عفت الديار فما بها أهل ... أجراعها ودماثها السهل (3) أني وما نحروا غداة منى ... عند الجمار تؤودها العقل لو بدلت أعلى منازلها ... سفلاً وأصبح سفلها يعلو لعرفت مغناها احتملت ... مني الضلوع لأهلها قبل ويكاد يعرفها الخبير بها ... فيرده الإقواء والمحل (4) ... وأقول الآن في الموازنة: إن أهل الصنعة يفضلون كل ما قاله أبو تمام على أكثر ما قاله البحتري في هذا الباب، ويقولون: إن أبا تمام استقصى الوصف في نعوت النساء، وأحسن وأجاد. وقد كان ذاك لعمري (5) مع ما فيه من الإساءات والألفاظ الرديئة التي ذكرتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 والمطبوعون وأهل البلاغة لا يكون الفضل عندهم من جهة استقصاء المعاني والإغراق في الوصف؛ وإنما يكون الفضل عندهم في الإلمام بالمعاني، وأخذ العفو منها، كما كانت الأوائل تفعل، مع جودة السبك، وقرب المأتى. والقول في هذا قولهم، وإليه أذهب, إلا أني أجعلهما في هذا الباب متكافئين، لكثرة إحسان أبي تمام فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 الدعاء للديار بالسقيا والخصب والنبات قال أبو تمام: سقى ربعهم لا بل سقى منتواهم ... من الأرض أخلاق السحاب الحواشك (1) وألبسهم عصب الربيع ووشيه ... ويمنته نبت الثرى المتلاجك (2) إذا غازل الروض الغزالة نشرت ... زرابي في أكناحهم ودرانك (3) إذا الغيث غادى نسجه خلت أنه ... مضت حقبة له وهو حائك (4) قوله: «حواشك» جمع حاشكة، وهي الناقة التي قد اجتمع لبنها في خلفها شبه السحاب بها، والحشك: اسم الدرة (5) المجتمعة. والمتلاحك: الذي قد تكاثف وتداخل بعضه في بعض، من الملاحكة في البناء ونحوه. وقوله: «حقبة حرس» في غاية الرداءة؛ لأن الحقبة، السنة: وجمعها حقب. والحرس: الدهر، وذكر السنة مع الدهر جهل بموضوعات الكلام، وخروج عن العادات، ومتى سمع أحداً يقول: ما رأيته مذ سنة دهراً، وقد مضى له سنة دهر ما يكلمنا؟ فأما جعله الغيث كأنه كان حائكاً، فمن مضاحيك معانيه وألفاظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 وقال البحتري: أسقى ديارك والسقيا يقل لها ... إغزار كل ملث الودق ثجاج (1) يلقى على الأرض من حلي ومن حلل ... ما يمنع العين حسن وإبهاج فصاغ ما صاغ من تبر ومن ورق ... وحاك ما حاك من وشي وديباج فصوغ الغيث [النبت] (2) وحوكه للنبات ليس باستعارة، بل هو حقيقة، ولكن يقال: هو صائغ، ولا كأنه صائغ، وكذلك لا يقال: حائك، وعلى أن لفظة حائك خاصة في غاية الركاكة إذا خرجت على ما جاء به أبو تمام. وقال البحتري: فسقاهم وإن أطالت نواهم ... خلفة الدهر ليله ونهاره (3) كل جون إذا ارتقى البرق فيه ... أوقدت للعيون بالماء ناره إن أقام ارتوى الظماء وإن سا ... رت أقامت أنيقة آثاره باتفاق من خضرة الروض نضر ... واختلاف يجده نواره كسفور الفتاة عن حسن خد ... يتكافا ابيضاضه واحمراره (4) وهذا كله جيد، حسن لفظه ومعناه. وقوله: «يتكافى ابيضاضه واحمراره» ما لحسنه نهاية. وقال أيضاً يصف آثار الغيث، وليس بدعاء للدار بالسقيا (5): الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 دمن تناهب رسمها حتى عفا ... منها تعاقب رائح بقطاره (1) باتت وبات البرق يمري عوذه ... فيها وينتج مثقلات عشاره فالأرض من نسج النبات مجدة ... أثوابها والروض من نواره (2) وهذا أيضاً حلو، حسن لفظه ومعناه. وقوله: «وبات البرق يمري»: أي يستخرج ماءها، والعوذ: الحديثات النتاج، شبه السحائب بها. والعشار: التي قد أتى لحملها عشرة أشهر، وإذا وضعت فهي أيضاً عشار، لا يزول عنها الاسم. ... وقال أبو تمام يصف آثار الغيث: دوارس لم يجف الربيع ربوعها ... ولامر في أغفالها وهو غافل (3) فقد سحبت فيها السحاب ذيولها ... وقد أخملت بالنور منها الخمائل (4) ... وقال البحتري: يا دمنة جاذبتها الريح بهجتها ... تبيت تنشرها عنها وتطويها (5) لا زلت في حلل للغيث ضافية ... ينيرها البرق أحياناً ويسديها (6) تروح بالوابل الداني روائحها ... على ربوعك أو تغدو غواديها روائحها: يعني السحاب، وهذا أيضاً جيد بالغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وقال أبو تمام: لا مر يوم واحد إلا وفي ... أحشائه لمحلتيك غمام (1) حتى تعمم صلع هامات الربا ... من نوره وتأزر الأهضام (2) فالأهضام: ما انخفض من الأرض، جمع هضم. وقوله: «حتى تعمم صلع هامات الربا» أخذه من قول الراجز وأنشده يعقوب بن السكيت وغيره: قد أصبحت العقدة صلعاء اللمم ... وأصبح الأسود مخصوباً بدم (3) فالعقدة: موضع ذو شجر لا ينتفي فيذهب. واللمم، وهي الجمام (4) جمع لمة، فجعله مثلاً لرؤوس النبت إذا أكلته الإبل فصارت لممه صلعا. والأسود: الحية تطؤه الإبل فتقتله. ... وقال البحتري: إذا الغمام حداه البارق الساري ... وانهل في ديمة وطفاء مدرار (5) وخيل إشراقه طوراً وظلمته ... ما حاك من نمطي روض ونوار (6) فجاد أرضك في غرب السماوة من ... أرض ودارك بالعلياء من دار (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وهذا معنى في غاية اللطافة والحسن، وكثرة الماء. وقال البحتري: قسم الصبابة فرقتين فشوقه ... للظاعنين ودمعه للنزل (1) متقسم الأحشاء يندب أربعاً ... متقسمات للصبا والشمأل (2) حطت على تلك الأجارع والربى ... منهن أعباء السحاب المثقل (3) وغدا الربيع ينمنم روضه ... ضربين بين معمد ومهلل (4) معمد: مثل العمد، ومهلل: مثل الأهلة. ... وقال أبو تمام: أسقى ديارهم أجش هزيم ... وغدت عليهم نضرة ونعيم (5) جادت معاهدهم عهاد سحابة ... ما عهدها عند الديار ذميم ولأبي تمام في الدعاء للديار بالسقيا، أبيات كثيرة في قصيدته التي أولها: * إن بكاء في الديار من أربه (6) * تفاصح فيها وتبادي، وهي كزه قليلة الحلاوة، لم أكتب منها شيئاً. ... وقال البحتري: إذا تحمل من تهامة بارق ... لجب يسير مع الجنوب زحوفه (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 صخب الرواح إذا تصوب مزنه ... ذعر الأجادل في السماء حفيفه فسقى اللوى، لا بل سقى عهد اللوى ... أيام نرتبع اللوى ونصيفه (1) الأجادل: الصقور. وهذا جيد، بالغ لفظه وسبكه معناه. وقال البحتري أيضاً: إلمامة بالدار [إن] متيماً ... يكفيه أكثر شوقه إلمامه (2) أمسى يضرم في جوانحه الجوى ... برق يشب مع العشي ضرامه سقى اللقى حوذانه وعراره ... وسياله وأراكه وبشامه (3) فلرب عيش باللوى لم تستزد ... حسناً لياليه ولا أيامه وهذا لا مزيد على براعة لفظه، وجودة سبكه، وكثرة مائه. وقال أيضاً: أدارهم الأولى بدارة جلجل ... سقاك الحيا روحاته وبواكره وجاءك يحكي يوسف بن محمد ... فروتك رياه وجادك ماطره (4) وهذا أحسن ما يكون من المدح، ويسمى (5) الاستطراد، وقد ذكر أبا سعيد محمد بن يوسف في غير موضع، على هذا المعنى ونحوه يتسبب [إلى مدحه] (6) في مدائح غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 وقال أيضاً: أود لها سقيا السحاب ومحوها ... بسقيا السحاب حين يصدق خالها (1) محلتنا والعيش غض نباته ... وأفنية الأيام خضر ظلالها وهذا معنى حسن صحيح. يا عارضاً متلفعاً ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده (2) لو شئت عدت بلاد نجد عودة ... فنزلت بين عقيقه وزروده لتجود في ربع بمنعرج اللوى ... قفر تبدل وحشه من غده وقال أيضاً: سألت الغوادي ملحفاً في سؤالها ... وناشدتها في سقي برقة ثهمد منازل ما أبقى من عراصها ... سوى أرسم معفوة الآي همد (3) معاهد من خود تناصر حسنها ... تناصر ضوء الكوكب المتوقد (4) تثنى على لحظ العيون إذا مشت ... تثنى غصن البانة المتأود (5) وهذا كله جيد لفظاً ومعنى. وقال أيضاً: أناشد الغيث كي تهمي غواديه ... على العقيق وإن أثوت مغانيه (6) على محل أرى الأيام تضحك عن ... أيامه والليالي عن لياليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 عهد من اللهو لم تذمم عوائده ... يوماً فينسى ولم تقدم بواديه (1) وقال أيضاً: خلفتكم الأنواء في أوطانكم ... فسقت صوادي أربع وطلول (2) وإذا السحاب ترجحت هضباته ... فعلى محل بالعقيق محيل حتى تبل منازلاً لو أنها ... كثب لرحت على جوى مبلول (3) ... وقال أبو تمام: أيها البرق بت بأعلى البراق ... واغد فيها بوابل غيداق (4) دمن طالما التقت أدمع الغـ ... ــيث عليها وأدمع العشاق (5) وقال أبو تمام أيضاً وهذا من أحسن معاني هذا الباب، وهو [من] أحسانه المشهور: يا منزلاً أعطى الحوادث حكمها ... لا مطل في عدة ولا تسويفا (6) أرسى بناديك الندى وتنفست ... نفساً بعقوتك الرياح ضعيفا (7) شغف الغمام بساحتيك فربما ... روت رباك الهائم المشغوفا وقوله: «وتنفست نفساً بعقوتك الرياح ضعيفا» مما استحسنه الناس، وقد ذكرته في باب محو الرياح للديار، ومن أين أخذ المعنى (8). وقوله: «شغف الغمام بساحتيك» يدعو له بالسقيا على سبيل الجزاء، بما روته رباه من أحبابه فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 ما يخلف الظاعنين في الديار من الوحش وغيرها قال أبو تمام يخاطب الربع: قد كنت معهوداً بأحسن ساكن ... ثاو فأحسن دمنة ورسوم (1) أيام للأيام فيك غضارة ... والدهر في وفيك غير مليم وظباء أنسك لم تبدل منهم ... بظباء وحشك ظاعناً بمقيم من كل ريم لو تبذل قطعت ... ألحاظ مقلته فؤاد الريم قوله: «ثاو بأحسن دمنة ورسوم» غلط؛ لأن رسوم الدار لا تسمى رسوماً إذا كان أهلها ثاوين فيها، بل إنما تسمى رسوماً: إذا فارقها ساكونها وارتحلوا عنها؛ لأن الرسم هو الأثر الباقي بعدهم. والصحيح المستقيم قول البحتري: يا مغاني الأحباب صرت رسوماً ... وغدا الدهر فيك عندي ملوما (2) وليس أبو تمام ممن يذهب هذا عليه، ولكنه يسامح نفسه في ألفاظه، فيقع الغلط عليه عند كلال خاطره، ألا تراه قال: قالوا: أتبكي على رسم فقلت لهم: من فاته العين هدى شوقه الأثر (3) فجاء بالرسم في موضعه، وقد ذكرت هذا فيما تقدم (4). وقوله: «من كل ريم لو تبذل» لفظ غير لائق بالمعنى، ولا ملتئم معه؛ لأنه يريد بالريم: المرأة؛ وتبذلها لا يقطع فؤاد الريم، فإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 أراد بالتبذل ظهروها للريم، فإن ظهروها للريم ليس بتبذل، ولا هي محجوبة ولا مصونة عن الريم، وإنما كان المعنى يصح وينتظم لو قال: «من كل ريم لو عرف الريم كنه جماله، ثم رآه أو واجهه»، فأما التبذل فقد يقع منها وربما لا يراها (1). ويروى: «من كل ريم لو تبدى» أي لو ظهر، وليس بشيء؛ لأنها ليس بشيء، لأنها ليست محجوبة عن الريم. وقال: أأطلال هند ساء ما اعتضت من هند ... أقايضت حور العين بالعون والربد (2) إذا شئت بالألوان كن عصابة ... من الهند والآذان كن من الصغد (3) أعجنا عليك العيس بعد معاجها ... على البيض أتراباً على النوى والود (4) فلا دمع أو يعفو على إثره دم ... ولا وجد ما لم تعي عن صفة الوجد (5) قوله: «حور العين» يريد النساء. وقوله: «بالعين» يريد بقر الوحش، وقيل لها عين: لعظم أعينها. والربد: النعام، جعلها ربداً في ألوانها. وقوله: «كن عصابة من الهند» لأن الهند سمر إلى الصفرة الكدرة وتلك هي الربدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 والصغد: إذ أنهم صغار جداً، وربما وجد فيهم من لا يكون له أذن ظاهرة، لصغرها ولصقوها برأسه، قال ذلك: لأن النعام لا آذان لها، فقال: إذا شئن، من أجل ألوانهن، كن من الهند، أو من أجل أنهن لا آذان لهن، من الصغد. وقوله: «أو يعفو على إثره دم» أي يكثر، يقال: عفا شعره: إذا كثر، وهو من الأضداد (1)، وهذه طريقة لا حلاوة لها. والبيت الأول والأخير جيدان. وقوله: «أعجنا عليك العيس» بيت مضطرب النظم (2)، رديء اللفظ؛ لأنه يخاطب الأطلال، فكأنه أراد أن يقول: أعجنا العيس منك على النوى والود، بعد معاجها على البيض أتراباً، فجعل «عليك» في موضع «منك». ... وقال أيضاً: تبدل غاشية بريم مسلم ... تردى رداء الحسن طيفاً مسلما (3) ومن وشى خد لم ينمنم فرنده ... معالم يذكرن الكتاب المنمنما (4) وبالحلي إن قامت ترنم فوقها ... حماماً إذ لاقى حماماً ترنما وبالخدالة الساق المخدمة الشوى ... قلائص يتلون العبنى المخدما (5) قوله: «تبدل غاشية بريم مسلم» يعني المرأة. «طيفاً مسلماً» يعني خيالها يعنى خيالها، ولم يرد أن من يغشى هذا المنزل ينام فيه حتى يرى الطيف في منامه، وإنما أراد: أن يتصور له خيال من كان يهواه فيه فسماه طيفاً، وهذا غير منكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وقوله: «ومن وشي خد لم ينمنم فرنده» ففرنده: ماؤه ورونقه. لم ينمنم: لم ينقش كما تنقش الخدود إذا زينت، لاستغنائه عن ذلك بحسنه، وجعله وشياً، والوشي: ما كان ألواناً مختلفة كألوان الزهر في الرياض، فجعل بياض الخد وتلونه بالأحمر وشياً، أي يدل غاشي الربع من ذلك معالم يذكرن الكتاب المنمنم، أو المكتوب، وبالحلي إن قامت ترنم فوقها حماماً يترنم. وقوله: «وبالخدلة الساق» أي الممتلئة، يعني المرأة. والمخدمة الشوى: التي في رجلها خدمة، وهي الخلخال. والشوى: الأطراف. والقلائص من الإبل: جمع قلوص، وهي الفتية السن. من يقف على الربع يتلون العبني، وهو الفحل الغليظ. والمخدم: الذي في رجله خدمة، وهي سير غليظ محكم، يشد مثل الحلقة في رسغ البعير، ثم يشد إليه نعله، وسموا الخلخال خدمة. ثم قال بعد هذا: سوار إذا قابلن ممتنع الفلا ... جعلن الشعارين: الجديل وشدقما (1) وهما فحلان، يقول: إذا قابلت هذه الإبل سير الفلاة رجعت إلى أنها من نتاج هذين الفحلين الكريمين، فتقوى على قطع الفلا، فجعل ذلك شعاراً لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 وقال: سوار -رفع- وهو وصف القلائص (1) والعبني، وهي منصوبة. وهذا تحمل إذا اعتمد بالكلام الاستئناف. والمعنى أيضاً ليس بالجيد؛ لأنه جعل الإبل التي ذكر أنها مجتازة بهذا المنزل وغير مقيمة لقوله: سوار - أسوة معالمه التي قد درست، وحمائمه التي تألفه وتقطنه، ولو كان هذا المنزل عامراً بأهله، لما خلوا من إبل مقطورة تجتاز بهم، لقوم مسالمين من العشائر أو مخالفين أو متاجرين، أو أبل لهم أنفسهم يقطرونها لبعض مسيرهم ومآربهم. ولعل منزلهم كان يألف من هذا الجنس من الإبل وهو عامر، أكثر مما يجتاز وهو خراب. ... وقال البحتري: ويزيده شجواً تقارض وحشها ... وصلين وصل أحبة وحبائب (2) ترعى السهولة والحزون يقينها ... بينا لهن صدى الغراب الناعب ما كان أحسن هذه من وقفة ... لو كان ذاك السرب سرب كواعب وقوله: «وصلين» يريد وصل الذكور للإناث، ووصل الإناث للذكور. والأحبة: الذكور. والحبائب: الإناث؛ جمع حبيبة. وقوله: «ترعى السهولة والحزون يقينها» يريد بالحزون: المواضع التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 يعتصم بها، ويستتر فيها من جوارح الطير والسباع. وقوله: «صدى الغراب» يعني صوته، والصدى: هو ما يسمع بعد الصوت من جبال أو نحوه، وهو حكاية الصوت سواء، فجعل صوت الغراب صدى ولعل له أصلاً. وقال البحتري: أأنت ديار الحي أيتها الربى الـ ... ـأنيقة أم دار المهى والنعائم (1) وسرب ظباء الوحش هذا الذي أرى ... أمامك؟ أم سرب الظباء النواعم وأدمعي اللاتي عفاك انسجامها ... وأبلاك؟ أم صوب الغيوث السواجم (2) وأيامنا فيك اللواتي تصرمت ... مع الوصل؟ أم أضغاث أحلام حالم (3) وهذا كأنه في مذهب أبي تمام في استقصاء المعاني؛ وليس هو بوصف جيد. وقوله أيضاً: إن الدموع السجام هي التي عفت الديار وأبلتها أم الغيوث؛ إسراف ومبالغة غير حسنة ولا جميلة. ... وأجود من هذا ومن جميع ما قاله الطائيان في هذا الباب، وأبرع لفظاً وألطف معنى ما أنشده إبراهيم الموصلي: وما يستفيق القلب إلا انبرى له ... توهم ضيف من سعاد ومربع (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 أخادع عن عرفانها العين إنه ... متى تعرف الأطلال عيني تدمع (1) عهدت بها وحشاً عليها براقع ... وهذي وحوش أصبحت لم تبرقع تشابه في أجيادها وعيونها ... ولم يتفق أشباه سوق وأذرع وأخذ بشار -فيما أظن- قول هذا الشاعر: * متى تعرف الأطلال عيني تدمع * فقال: متى تعرف الدار التي بان أهلها ... بسعدى فإن الدمع منك قريب (2) فأساء إساءة بينة، لأنه جعل الدمع قريباً ولم يجعله جارياً، وقد كان يمكنه أن يقول: فدمع المقلتين سكوب، أو جرى المقلتين غروب، أو نحو هذا ولكنه وصله ببيت في غاية الحسن، فقال: تذكر من أحببت إذ أنت يافع ... غلام، فمغناه إليك حبيب (3) ومن هنا أخذ ابن الرومي قوله: وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 ما قالاه في الوقوف على الديار وفي تعنيف الأصحاب إياهما على ذلك قال أبو تمام: فاعقل بنضو الدار نضوك يقتسم ... فرط الصبابة مسعد وحزين (1) لا تمنعني وقفة أشفي بها ... داء الفراق فإنها ماعون واسق الأثافي من دموعك ريها ... إن الضنين بدمعه لضنين استعار للدار اسم «النضو» لدروسها، من أجل قوله: «نضوك»، يريد بعيره، وذلك رسمه ومذهبه في الاستعارة. وقوله: «يقتسم فرط الصبابة مسعد وحزين» فإن المسعد ليس عنده من الصبابة ما عند الحزين؛ لأن الصبابة رقة الشوق، فما في المسعد من الاشتياق؟ وكيف فرط الاشتياق؟ والقريب من الصواب قول البحتري: هل مغرم يعطى الهوى حق الجوى ... منكم فينفد دمعه، أو مسعد (2) أي هل مغرم منكم يبكي لغرامه كما أبكي أو مسعد؟ لأن المسعد قد يبكي لبكاء صاحبه وإن لم تك هناك صبابة، أو أن يكون أراد بالمسعد من يقف معه يتألم له ولا يعنفه. وقول أبي تمام يتجاوز في مثله: لأن الهائم الصب إذا وجد من يرق له ويرحمه ويظهر الاغتمام بأمره، يخيل إليه أن من شأنه أن يحزن كحزنه، ويبكي كبكائه وقد قال البحتري في مثل هذا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 هلا بكيت وقد رأيت بكاءه ... ودنفت حين سمعت شكوى المدنف فلأجرين الدمع إذ لم تجره ... ولأعرفن الوجد إذ لم تعرف وأنا المعنف في الصبابة والصبى ... وعليهما إن كنت غير معنف (1) فأراد من صاحبه أن يدنف كدنفه، كما أراد أبو تمام من صاحبه أن يقاسمه فرط الصبابة. وقد قال كثير: خليلي هذا رسم عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت (2) فأراد هذا أيضاً من خليله أن يبكيا على رسم عزة. وقال أبو تمام فجرى على المنهج المستقيم في مخاطبة الأصحاب: ما في وقوفك ساعة من باس ... نقضي ذمام الأربع الأدراس (3) فلعل عينك أن تجود بمائها ... والدمع منه خاذل ومواسي (4) لا يسعد المشتاق وسنان الهوى ... يبس المدامع بارد الأنفاس (5) فقال: «وسنان الهوى» (6) أي نائم الهوى، أي من لا هوى له، فهو بس المدامع بارد (7) الأنفاس، فلا يكون منه إسعاد. ومن كان في قلبه هوى فانفاسه حارة لحرارة قلبه، فأتاك ههنا بعين الصواب، وحقيقة أمر الصاحب، فأحسن وأجاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 ومثله قول البحتري: يأبى الخلي بكاء المنزل الخالي ... والنوح في دمن أقوت وأطلال (1) وذو الصبابة ما ينفك ينصبه ... وجد تأبد آي الدمنة الخالي (2) قوله: «تأبد» أي صار فيها أوابد الوحش، ويقال: تأبد المنزل: إذا طال عليه الأبد. ونحو هذا قول أبي تمام أيضاً: أقول لقرحان من البين لم يضف ... رسيس الهوى بين الحشا والترائب (3) أعني أفرق شمل دمعي فإنني ... أرى الشمل منهم ليس بالمتقارب وما صار يوم الدار عذلك كله ... عدوي حتى صار جهلك صاحبي (4) وما بك إركابي من الرشد مركباً ... ألا إنما حاولت رشد الركائب فكلني إلى شوقي وسر يسر الهوى ... إلى حرقاتي بالدموع السوارب قوله: «أقول لقرحان من البين» أي التمست المعونة والمساعدة في الوقوف على الدار معي ممن لم يذق مفارقة الأحباب ولم يعرف الهوى؛ كأنه ينكر ذاك على نفسه. والقرحان: هو الذي لم يخرج به الجدري، وليس به آثاره ولا آثار غيره من القروح، وقيل له قرحان، على العكس، كما قيل للأسود: أبو البيضاء، والمهلكة: مفازة، ونحو هذا، فجعل أبو تمام من لم يعشق ولم يفارق الأحباب قرحاناً، على التشبيه، كما قال جرير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 * لو كنت من زفرات الحب قرحانا (1) * ثم قال: وما صار يوم الدار عذلك كله ... عدوي حتى صار جهلك صاحبي فأراد أنه قد عذله على الوقوف والبكاء وأنه كره عذله وشق عليه، فصار عذله عدواً له، وإنما أراد عداوته في نفسه، ثم قال: «حتى صار جهلك صاحبي»، أي إنما استفرغت عذلك وأنهيت فيه حتى انطلقت معك فصار جهلك صاحبي، وإنما أراد حتى اصطحبتك على جهلك بحالي وأنك غير مجانسي ولا على سجيتي وطباعي في الهوى وتجربته. ثم قال: «وما بك إركابي من الرشد مركباً» أي لم تقصد بعذلك إياي قصد من يريد رشدي وصرفي عن الهوى وتسليتي؛ وإنما حاولت رشد الركائب، يعني الإبل، وهي جمع ركوبة، لئلا يطول وقوفها في الدار وترددها واحتباسها، فيتضاعف كلالها ويشق ذلك عليها. ثم قال: «فكلني إلى شوقي وسر يسر الهوى إلى حرقاتي». فإما أن يكون قال له هذا قبل أن ينطلق معه أي سر أنت ودعني؛ أو يكون قال هذا وهو سائر معه لما علم أنه لا يقف عليه، وأنه ماض وتاركه، ما يقول المكره: والله ما أريد التوجه، وهو متوجه. وهذا من معاني أبي تمام التي يسأل الناس عنها، وليس له إن شاء الله وجه غير ما ذكرته. وهذه العويصات في الشعر هي شر مذاهبه، وأرداها وأقلها حلاوة. ومن رديء ما جاء في هذا الباب، قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 ما عهدنا كذا نحيب المشوق ... كيف والدمع آية المعشوق (1) كأنه يقول لنفسه: ما عهدنا كذا نحيب المشوق؛ أو أن يكون حكى قول أصحابه، وأراد أن يقول: بكيت فانتحبت، فقالوا: ما عهدنا كذا نحيب المشوق، وأراد أن يقول: فقلت لهم: كيف والدمع، فاقتصر على حكاية كلامهم وجوابه، وأسقط قالوا؛ فقلت: وكان الأجود أن يقول: آية العاشق، لأن من علامات المحب البكاء، وقال: آية المعشوق، أي أن دمعي علامة لمن أحبه في أنى عاشقه، وهذا لا يكون جواباً صحيحاً عما أنكروه عليه من شدة نحيبه، لأنه لم يبك ليعلمها أنه عاشق، وإنما بكى من شدة وجده، وإنما كان يصح أن يكون جواباً عنه أن لو كان صدر البيت: * حسبتني في الحب غير صدوق * فيقول: * كيف والدمع آية المعشوق * أي كيف لا أكون صدوقاً في حبي ودمعي آية لك يشهد بأني محب. فهذا كان وجه هذا. وعلى أن آية العاشق ههنا أيضاً أجود. والدليل على أن قوله: * ما عهدنا كذا نحيب المشوق (2) * إنما هو حكاية كلام من عنفه على النحيب أنه وصله بأن قال: فأقلا التعنيف إن غراماً ... أن يكون الرفيق غير رفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 واستميحا الجفون درة دمع ... في دموع الفراق غير لصيق إن من عق والديه لملعو ... ومن عق منزلاً بالعقيق وقفا العيس ملقيات المثاني ... في محل الأنيق مغنى الأنيق (1) قوله: «أن يكون الرفيق غير رفيق» أي أن يكون جافياً عسوفاً غير رفيق بمن يصاحبه. وقوله: «في دموع الفراق غير لصيق» أي ابكيا بدمع لا يشبه دمع من فارق أحبابه، أي ابكيا وإن لم يكن وراء البكاء حرقة، ولا لاعج هوى، أي على وجه الإسعاد، فأورده بهذا اللفظ الرديء. وقوله: «إن من عق والديه لملعون» البيت، من أحمق المعاني! وأسخفها وأقبحها، وقد زاد في الحمق بهذا المعنى على معنى البيت الذي قبله، وطم عليه وعلى كل جهالاته في معانيه؛ لأنه لم يقنع بأن يبعث صاحبيه على الوقوف معه والوقوف على المنزل، والبكاء حتى جعل كل من يقف ويعرج كائناً من كان من الناس: من خاص وعام، وباد وحاضر، ومجتاز وغير مجتاز، ومفارقة لأحبابه وغير مفارق، ملعوناً إذا لم يقف على المنزل بالعقيق، لأن ظاهر المعنى العموم، وما المستحق والله للعن (2) غيره!، إذ رضي لنفسه بمثل هذا السخف. وقوله: «في محل الأنيق مغنى الأنيق» قول مالبرد (3) معناه ولفظه نهاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وقال أيضاً: نحرت ركاب القوم حتى يغبروا ... رجلي لقد عنفوا علي ولامو (1) وقفوا على اللوم حتى خيلوا ... أن الوقوف على الديار حرام وهذا معنى جيد حسن صحيح. وقال أيضاً: أراك أكبرت إدماني على الدمن ... وحملي الشوق من باد ومكتمن (2) لا تكثرن ملامي إن عكفت على ... ربع الحبيب فلم أعكف على وثن سلوت إن كنت أدري ما تقول إذا ... جعلت أنملة الأحزان في أذني (3) وهذا أيضاً معنى حسن ولفظ جيد. وقوله: «أنملة الأحزان» أي يشغلني حزني عن أن أفهم ما تقول. وقال أيضاً: أجل أيها الربع الذي حف آهله ... لقد أدركت فيك النوى ما تحاوله (4) وقفت وأحشائي منازل للأسى ... به وهو قفر قد تعفت منازله أسائلكم ما باله حكم البلى ... عليه، وإلا فاتركوني أسائله وهذا المعنى فيه اضطراب؛ لأنه قال: أسائلكم (5) ما باله حكم البلى عليه وإلا فاتركوني أسائله، فما هذه المساءلة منه أو للربع في أن حكم البلى عليه وهو قد قدم السبب الذي من أجله بكى، وشرحه في البيت الأول بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 خف آهله، يقول: «لقد أدركت فيك النوى ما تحاوله»، وهذا هو الذي أبلاه؛ لأنه إذا فارق أهله، وتعفت منازله فقد خرب وبلي. وقال أيضاً: حييت من طلل لم يبق لي طللا ... إلا وفيه أسى ترشيحه الذكر (1) قالوا: أتبكي على رسم؟ فقلت لهم: ... من فاته العين هدى شوقه الأثر (2) قوله: «لم يبق لي طللا»، والطلل: ما شخص من آثار الديار، والطلل: شخص الإنسان وقامته، يقال: ما أحسن طلله، وإنما يريد طلل الدار، أي لم يبق لي طللاً في دياري ومواطني التي فارقتها، وأخليتها، وعكفت عليه، إلا وفيه أسى أي حزن من أهلي الذين فارقتهم عليَّ، ترشيحه الذكر: أي تنميته، وتربيته الذكر، أي ذكرهم لي (3) يرشح الحزن على أن يمسكه، ويحفظه، ويقوم عليه حتى يبقى ولا يذهب. ... ولا يجوز أن يريد بالطلل جملة شخصه وقامته، لأن ذلك يكون مثل قولك: ما لزيد إلا وفيه أثر، وما له رأس إلا وفيه شجة، وهذا خطأ؛ إذ ليس له إلا رأس واحد، وجسد واحد، والبيت الثاني جيد بالغ. وقال البحتري: لعمر المغاني يوم صحراء أرثد ... لقد هيجت وجداً على ذي توجد (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 منازل أضحت للرياح منازلاً ... تردد منها بين نؤي ورفدد (1) شجت صاحبي أطلالها فتهللت ... مدامعه فيها وما قلت: أسعد وهذا لعمري صاحب حسن الصحبة، ولعله كان له شجن وهوى، فلما وقف على الديار تذكر أحبابه فبكى. وقال أيضاً: خذا من بكاء في المنازل أودعا ... وروحا على لومي بهن، أو اربعا (2) فما أنا بالمشتاق إن قلت: أسعدا ... لنندب مغنى من سعاد ومربعا ولي لوعة تستغرق الهجر والنوى ... جميعاً ودمع ينفد الحب أجمعا (3) وهذا معنى ذهب إليه في الإسعاد حسن جداً. ونحو هذا قوله: فالدار تعلم أن دمعي لم يغض ... فأرح حامل منة من مسعد (4) ما كان لي جلد فيودي إنما ... أودى غداة الظاعنين تجلدي وقال أيضاً على السبيل التي سلكها أبو تمام: يا أخا الأزد ما حفظت الإخاء ... لمحب، ولا رعيت الوفاء (5) عذلاً يترك الحنين أنيناً ... في هوى يترك الدموع دماء لا تلمني على البكاء فإني ... نضو شجو ما لمت فيه البكاء كيف أغدو من الصبابة خلواً ... بعد ما راحت الديار خلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 قف بها وقفة تردد عليها ... أدمعاً ردها الجوى أنضاء (1) قوله: «نضو شجو ما لمت فيه البكاء» من المقلوب، وكان يجب أن يقول: ما لمته في البكاء؛ فقال: ما لمت البكاء فيه. ومثل هذا الشعر كثير، وإنما كان يصدر عن العرب على سبيل السهو، ولا يسوغه متأخر، ومنه ما هو حسن، وقد جاء مثله في القرآن. فإن قيل: إن لفظ البيت مستقيم، وهو (2) مستغن بمعناه ولفظه عن أن يتأول فيه القلب، وذلك أن البكاء ليس هو شيئاً غير سكب الدموع، وجريها على الخدود، فكما تلوم العين بكاها، وتلوم الدمع على انحداره مجازاً، فكذلك تلوم البكاء مجازاً. قيل: هذا عدول عن القياس وصحيح التمثيل، وإنما كان ينبغي أن يقول: فكما تلوم انحدار الدمع الذي هو البكاء، فكذلك تلوم البكاء، هذا وجه المعارضة، فإن كنت تلوم انحدار الدمع فقد صح اعتراضك، وإن كنت لا تلومه، وهو البكاء، فلم تلوم البكاء. ومع هذا فقد جرت العادة بلوم العين على البكاء، ولوم الدمع على الانحدار، ولومها أيضاً على الامتناع، وقالت الشعراء في ذلك ما هو معروف مشهور، ومنه قول متمم بن نويرة يبكي أخاه مالكاً: عذرتك يا عيني الصحيحة في البكا ... فما أنت يا عواراء والهملان (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 فعذر [عيناً] (1) ولام أخرى: وقال بعض المتأخرين (2): لا جزى الله دمع عيني خيراً ... وجزى الله كل خير لساني كنت مثل الكتاب أخفاه طي ... فاستدلوا عليه بالعنوان فلام هذا دمعه؛ لأنه فضحه، كما لام ذلك عينه، وما علمنا أحداً لام البكاء، ومعنى ذلك مفهوم؛ لأن البكاء قد جعل فعلاً للعين على المجاز، والسيلان فعل الدمع، فيقال: بكت عيني، وسال دمعي، فإذا لمنا العين على بكاءها، ولمنا الدمع على انحداره؛ كان ذلك حسناً جميلاً، لأنا إنما لمنا فاعلاً على فعله، كما نلوم الفاعل الذي فعله حقيقة على فعله، ولكن لا نلوم فعله؛ لأنا إذا لمنا الباكي على أن فعل البكاء، فنلوم البكاء على أن فعل ماذا؟ فإن قيل: على أن كثر واتصل منه. قيل: فهل سمعت أحداً قط قال: يا بكاء لم كثرت، ولم اتصلت؟ كما يقال يا عين لم بكيت؟ فإني ما أظن أن أحداً يقدر أن يقول: إنه سمع بهذا، وذلك أن الإكثار والاتصال إنما هما حركات الفاعل بالفعل، فالباكي هو الذي أكثر البكاء وواصله، لا أن البكاء فعل ذلك بنفسه. فالمجاز لا يتسع لأن نلوم البكاء كما نلوم العين، ولا أن نلوم انحدار الدمع كما نلوم الدمع، ولا تنتهي الاستعارة إلى هذا الموضع. ولو حملنا البكاء الذي هو فعل الفاعل على المجاز فلمناه كما نلوم الباكي، لحسن أيضاً أن نلوم الجزع كما نلوم الجازع، ونلوم الغضب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 كما نلوم الغضبان، ونلوم الضحك الذي هو ضد البكاء كما نلوم البكاء. وما أكثر ما تحمل الأشياء على أضدادها، وما علمت مثل هذا جرى في توسع ولا مجاز: لأن «لمت» ليس هذا موضعها، وإنما هو موضع أحمدت، وذممت [وكرهت] (1) وأنكرت، وأشباهها، وهذه حقائق (2) وليس كل شيء يحمل على المجازات. فإن استجزنا أن نلوم البكاء فينبغي أن نلوم أيضاً الضرب، والقتل، والقيام، والقعود، والركوب، والنزول، والأكل، والشرب، وسائر أفعال الفاعلين، ونعذلها أيضاً، ونوبخها؛ لأن العذل والتوبيخ في معنى اللوم. ونلوم أيضاً النحيب، والشهيق، والزفير، والنشيج كما نلوم البكاء. وإذا لمنا أيضاً اليد على أن لم يشتد قبضها على الشيء مجازاً لمنا القبض أيضاً مجازاً، وكذلك الرجل إن لمناها على أن عجزت عن المشي، لمنا المشي أيضاً، وعنفناه، وركبنا مجازاً على مجاز، وتوسعاً على توسع. وهذا ما لم يسمع بمثله في لغة من اللغات. فعلى كل الأحوال حمل بيت البحتري على القلب الذي قد استعملته العرب في مجازاتها، ونطق به القرآن بوجه منه حسن، وسطره أهل العلم بكلام العرب في كتبهم أولى من حمله على وجه غير مستعمل، ولا معروف، ولا سائغ. وقد قال المبرد: إن العرب كانت تستعمل القلب لاختصار الكلام، وإقامة الأوزان، وإصلاح القوافي (3)، وأنشد للفرذدق يصف ذئباً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 وأطلس عسال وما كان صاحباً ... رفعت لناري موهناً فأتاني (1) وقال (2): أراد رفعت له ناري: فقلب (3)، فهذا الآن يقول: إن الوجه من القلب الذي ذكر بعض أهل اللغة أنه جاء في كلامهم على سبيل السهو والغلط، أنهم كانوا يفعلونه اعتماداً، وإذا اعتمدت العرب الشيء ضرورة لم يكن ذاك لمتأخر. وههنا مع هذا وجهان قويان جيدان يحتملهما بيت البحتري، ويجري على تأليف لفظه، لا على القلب: أحدهما: أن يكون أراد: لا تلمني على البكاء فإني ذو حزن ما لمت فيه على البكاء، فأسقط «على» كعادة العرب الجارية في حذف حروف الصفات للإيجاز والاختصار فوصل الفعل إلى البكاء فنصبه، وهذا معنى قريب جداً. وثل قولهم: جزيتك إحسانك، أي على إحسانك، وعن إحسانك، وقولهم نزلتك، بمعنى نزلت عليك، ونزلت (4) بك، وهذا من أفصح اللغات وأبلغها، وهو مسطور في كتبهم، وكذلك شغبتك بمعنى شغبت عليك (5) حكاها أبو زيد. ومما هو جائز [وجار] (6) في كلامهم، كلام أهل البدو والحضر- قولهم: بكيت فلاناً، بمعنى بكيت عليه. وأنشدنا «أبو الحسن الأخفش» قراءة عليه في الكتاب الكامل عن المبرد لأعرابي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 فمن يك لم يفرض فإني وناقتي ... بححر إلى أهل الحمى غرضان (1) تحن فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني أراد لقضى علي، قال المبرد: فأخرجه لفصاحته، وعلمه بجواهر الكلام أحسن مخرج (2). وقال عنترة: ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل (3) أي أظل عليه. قال: ومثله قول الله تعالى: "واختار موسى قومه سبعين رجلاً" (4) أي من قومه. وقول الشاعر: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب (5) أي أمرتك بالخير: وقول الفرذدق: ومنا الذي اختير الرجال سماحة ... وجوداً إذا هب الرياح الزعازع (6) أي من الرجال، وأشباه لهذا كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 وأنشد أبو مسحل: سقى الله من يسقي حمامة دارها ... على فرضة من ماء شرب يقومها (1) أراد يقوم عليها، وقال: يقال: قام فلان اليوم الماء بين القوم، إذا قسمه بينهم، ومعناه قام على الماء، فلما حذف «على» نصب. فكذلك قول البحتري: ما لمت فيه البكاء، أي على البكاء. والوجه الآخر: أن يكون أراد: لا تلمني على البكاء فإني ذو حزن ما لمت فيه ذوي البكاء، وأهل البكاء، فأسقط المضاف فوصل الفعل إلى البكاء فنصبه، وذلك على عادة العرب المستمرة في حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ومنه قوله تعالى: "فليدع ناديه" (2) أي أهل ناديه، "واسأل القرية" (3) أي أهل القرية، وقول مهلهل: * واستب بعدك يا كليب المجلس (4) * أي أهل المجلس، وقول الله تعالى: "ولكن البر من آمن بالله" (5) أي بر من آمن بالله، وقوله تعالى جده: "إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات" (6) أي ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات. وأوكد من ذلك كله قول الله تعالى: "وأشربوا في قلوبهم العجل" (7). أي حب العجل. وكذلك قول البحتري: لا تلمني على البكاء فإني ما لمت في هذا الحزن ذو بكاء، أو أهل البكاء، وأسقط «أهل» وأقام البكاء مقامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وهذا يستوي فيه القدماء والمتأخرون جميعاً؛ لأنه خارج عن الضرورة. فهذان وجهان في غاية القوة والصحة، والمعنى: لا تلمني على البكاء؛ فإني ما لمت في هذا الشجو باكياً، لأنه يحق في مثله البكاء، لعظم تأثيره في النفس، وتخونه (1) للجلد، وذهابه بالصبر، ونحو هذا. وقوله بعده: كيف أغدو من الصبابة خلواً ... بعد ما راحت الديلر خلاء أي لا تلمني على البكاء؛ فإني [إن] (2) لم أبك وقد خلت الديار من أهلها فلست ذا صبابة، يقول: إنه يكون إن لم يبك والخلي الذي ليس في قلبه هوى، بمنزلة واحدة، وإذا خفف البكاء من صبابته فقد قضى حق المحبة على كل حال. ... وقال البحتري أيضًا: أحرى الخطوب بأن يكون عظيماً ... قول الجهول: ألا تكون حليما (3) قبحت من جزع الشجى محسناً ... ومدحت من صبر الخلى ذميما وقال أيضاً: ماذا عليك من انتظار متيم ... بل ما تضرك وقفة في منزل (4) إن قيل عي عن الجواب فلم يطق ... رجعاً فكيف يكون إن لم يسأل لا تكلفن لي الدموع فإن لي ... دمعاً يتم علي إن لم يفضل (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 قوله: «يتم علي إن لم يفضل» مثل قوله: * ودمع ينفد الحب أجمعا (1) * ومثل قوله أيضاً: سارت مقدمة الدموع وخلفت ... حرقاً توقد في الحشا ما ترحل (2) إن الفراق كما علمت فخلني ... ومدامعاً تسع الفراق وتفضل قال: «سارت مقدمة الدموع وخلفت حرقاً» ثم قال: «فخلني ومدامعاً تسع الفراق وتفضل» ومقدمة الشيء ليس هو الشيء بأسره، إنما مقدمة الجيش: ما يتقدمه من جملته، ويبقى سائره متأخراً، فقال: «رحلت مقدمة الدموع»، يعني يوم المفارقة، ثم قال: «فخلني ومدامعاً» يريد جملة الدمع المتأخر الذي هو مقرون بالحرق المقيمة التي ذكرها. وقال في نحوه أيضاً: خلياه ووقفة في الرسوم ... يخل من بعض بثه المكتوم (3) ودعاه لا تسعداه بدمع ... حسبه فيض دمعه المسجوم سفه منكما وإفراط لوم ... أن تلوما في الحب غير مليم وقال في نحوه أيضاً: إن تلك الطلول من وهبينا ... أحزنت خالياً، وزادت حزينا (4) فاتركاني فما أطيع عذولاً ... واخذلاني فما أريد معينا وقال أيضاً: ومن الجهالة أن تعنف باكياً ... وقف الغليل به على مجهولها (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 إن الدموع هي الصبابة فاطرح ... بعض الصبابة تسترح بهمولها وهذا معنى حسن معروف، والدموع ليست الصبابة، لأن الصبابة؛ رقة الشوق، وإنما يبكي الباكي من شدة صبابته، ولما كانت الصبابة تخف بالبكاء، وتذهب بذهاب الدمع قال: إن الدموع هي الصبابة، أي إنها تذهب بذهابه، وتمضي بمضيه، أي فدعني أبكي؛ فإني أستريح بهمول الدمع. وقال أيضاً: وما انفك رسم الدار حتى تهللت ... دموعي وحتى أكثر اللوم صاحبي (1) وقفنا فلا الأطلال ردت إجابة ... ولا العذل أجدى في المشوق المخاطب تمادت عقابيل الهوى وتطاولت ... لجاجة معتوب عليه وعاتب وهذا معنى حسن، ولفظ له ماء ورونق، وهو أجود وأسلم من قول أبي تمام: وما صار يوم الدار عذلك كله ... عدوي حتى صار جهلك صاحبي (2) ... وقال أيضاً: في غير شأنك بكرتي وأصيلي ... وسوى سبيلك في السلو سبيلي (3) بخلت جفونك أن تكون مساعدي ... وعلمت ما كلفي فصرت عذولي (4) جار الهوى يوم استخف صبابتي ... لخلى ما تحت الضلوع ملول أي جار الهوى علي لخلى ما تحت الضلوع، أي لخلى من الهوى، أي جار علي له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وقال أيضاً: ما أنت للكلف المشوق بصاحب ... فاذهب على مهل فليس بذاهب (1) عرف الديار وقد سئمن من البلى ... ومللن من صوب السحاب الصائب (2) فأراك جهل الشوق بين معالم ... منها وجد الدمع بين ملاعب قوله: «على مهل» لست أراه مفيداً شيئاً، وما أظنها إلا حشواً، وهذا [من مواضع] (3) قولهم: فامض لشأنك، وامض لسبيلك. وقال أيضاً: بعض هذا العتاب والتفنيد ... ليس ذم الوفاء بالمحمود (4) ما بكينا على زرود ولكنـ ... ـنا بكينا أيامنا في زرود ودموع المحب إن عصت الذ ... ال كانت طوع النوى والصدود (5) وهذا من أحسانه المشهور (6). وقال أيضاً: فيم ابتداركم الملام ولوعا ... أبكيت إلا دمنة وربوعا (7) عذلوا فما عدلوا بقلبك عن هوى ... ونهوا فما وجدوا الشجى سميعا (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 وقال أيضاً: يا وهب هب لأخيك وقفة مسعد ... يطعي الأسى من دمعه المبذول (1) أو ما ترى الدمن المحيلة تشتكي ... غدرات عهد للزمان محيل إن كنت تنكرها فقد عرف البلى ... قدماً معارف رسمها المجهول (2) وقال أيضاً: وقفنا فحيينا لأهلك باللوى ... ربوع ديار دارسات المعالم (3) ذكرنا الهوى العذري فيها فأنسيت ... عزاها مشوقات القلوب الهوائم خلعنا بها عذر الدموع فأقبلت ... تلوم وتلحى كل لاح ولائم وهذا كله على اختلاف معانيه، جيد بالغ، وحلو نادر. وقال أيضاً: ذاك وادي الأراك فاحبس قليلاً ... مقصراً من صبابة أو مطيلا (4) قف مشوقاً أو مسعداً، أو حزيناً ... أو معيناً، أو عاذراً، أو علولا قد وسع البحتري على هذا الصاحب كل السعة، أي قف على أية حال كنت عليها من هذه الأحوال، ولو أن تعذل بعد أن تتلوم علي، ولا تنصرف عني فإني أحتمل عذلك، وهذه غاية النصفة، ثم أتبع هذا بأن قال: إن بين الكثيب فالجزع فالآ ... ـرام رسماً لآل هند محيلا (5) أبلت الريح والروائح، والأ ... ـيام منه معالماً، وطلولا (6) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وخلاف الجميل قولك للذا ... كر عهد الأحباب: صبراً جميلا لا تلمه على مواصلة الد ... مع فلؤم لوم الخليل الخليلا عل ماء الدموع يخمد ناراً ... من جوى الحب، أو يبل غليلا وبكاء الديار مما يرد الشو ... ق ذاكراً، والحب نضواً ضئيلا لم يكن يومنا طويلاً بنعما ... ن ولكن كان البكاء طويلا قوله: «أبلت الريح والروائح» فالروائح: السحائب التي تمطر النهار بأسره، وتروح عشيا. وقوله: «مما يرد الشوق ذاكراً» أي يخففه حتى يصير تذكراً لا يليق، ولا يزعج كإقلاق الشوق. «والحب نضواً» أي يرد الحب نضواً، أي يخفف الهوى، ويصغره؛ لأنه يرى الدار، وخلوها من أهلها، وييأس فيبكي ويستريح، فذلك هو تصغير الحب. وقوله: «لم يكن يومنا طويلاً بنعمان» ينبغي أن يكون هذا اليوم كان يوم توديع لم يكن طويلاً؛ لأن يوم مشاهدتهم ورؤيتهم لا يستطيله بل يستقصره، قال: «ولكن كان البكاء طويلا». وهذا خلاف قول أبي تمام: * يوم الفراق لقد خلقت طويلا (1) * وأنا أستقصي الكلام في هذا عند ذكر بيت أبي تمام في «باب الفراق» , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 ومن جيد هذا الباب قول البحتري: عرجوا فالدموع أن أبك في البـ ... ـع دموعي، والاكتئاب اكتئابي (1) وكمثل الأحباب لو يعلم العا ... ذل عندي منازل الأحباب وهذا نحو قول امريء القيس: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * فجعل البكاء للحبيب والمنزل جميعاً ولا تزيد زيادة في لوم الأصحاب على حسن قول كثير: يقول خليلي: سر بنا أي موقف ... وقفت، وجهل بالحليم المعمم تلوم ولم تعلم بأسرار خلة ... فتعذر إلا عن حديث مرجم فإن كنت لم أجهل فقد لمت ظالماً ... وإن كنت قد أزرى بي الجهل فاحلم (2) أراد أي موقف هذا الذي وقفته، يقول لي الأحباب: سر أي موقف، كأنه يحكي إنكار صاحبه عليه الوقوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 ما جاء عنهما في ترك البكاء على الديار والنهي عنه قال أبو تمام: إن كان مسعود سقى أطلالهم ... سبل الشئون فلست من مسعود (1) ظعنوا فكان بكاي حولاً بعدهم ... ثم ارعويت، وذاك حكم لبيد أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها ... بالدمع إن تزداد طول وقود قوله: إن كان مسعود، يعني مسعوداً أخا ذي الرمة، ولا يعرف له بيت واحد بكى فيه على الديار، وهذا من معاني أبي تمام الغامضة التي يسأل عنها. وما زلت أرى الناس قديماً يخبطون فيه، وإنما ذكر مسعوداً: لأنه كان ينهى ذا الرمة عن البكاء على الديار، وذلك قول ذي الرمة: عشية مسعود يقول وقد جرى ... على لحيتي من واكف الدمع قاطر (2) أفي الدار تبكي إذ بكيت صبابة ... وأنت امرؤ قد حلمتك المعاشر فأراد أبو تمام إن كان مسعود الذي أنكر على ذي الرمة البكاء ونهاه عنه، قد رأى أن البكاء أحسن بعد أن كان عنده غير حسن، فلست منه، وذلك كقول القائل: إن كان حاتم قد شح فلست منه، أي إن كان بعد كرمه وجوده قد رأى أن البخل حسن، فلست مقتدياً به. وكأن هذا عند أبي تمام أبلغ من أن يقول: إن كان غيلان سقى أطلالهم -يعني ذا الرمة- فلست منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وهذا أيضاً من استقصاء أبي تمام، ومبالغته في المعاني التي يخرجها إلى التعمية والانغلاق. وقوله: «وذاك حكم لبيد» يريد قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر (1) وقوله: أجدر بجمرة لوعة أطفاؤها ... بالدمع أن تزداد طول وقود غلط بين؛ لأنه أتى فيه بما يخالف مذهب أهل الجاهلية والإسلام، والأمم كلها؛ لأنهم مجمعون على أن البكاء راحة من الكرب، وتبريداً لحرارة الحزن، وتخفيفاً من لاعج المصيبة، و «طول خمود» أولى بالصواب من «طول وقود» لو كان بنى المعنى عليه وقد ذكرت هذا في أغاليطه (2). وقال أبو تمام: فعليه السلام لا أشرك الأطـ ... ـلال في لوعتي، ولا في نحيبي فسواء إجابتي غير داع ... ودعائي بالقفر غير مجيب قوله: «لا أشرك الأطلال في لوعتي» أي أجعل ذلك خالصاً لأحبتي، أي لا أقول كما قال امرؤ القيس: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * فاستوقف ليبكي على الحبيب والمنزل معاً. وقوله: «فسواء إجابتي» معنى لطيف، وقد ذكرته في «باب استعجام الديار عن الجواب»، وبيت البحتري حذا على حذوه (3). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 قال البحتري: يسل المنازل عنهم وعلى اللوى ... دمن دوارس إن تسل لا تخبر (1) ومن السفاهة أن تظل مكفكفاً ... دمعاً على طلل تأبد مقفر وقال البحتري: ما بكينا على زرود ولـ ... ـكنا بكينا أيامنا في زرود (2) وهذا حسن، وأحسن منه وأحلى وأعذب قول كثير: وما رباع الدار يا أم مالك ... ولا بالطلول الدارسات أهيم هي الدار وحشاً غير أن قد يحلها ... ويغنى بها شخص علي كريم ... وقال البحتري: لا تقف بي على الديار فإني ... لست من أربع ورسم محيل (3) في بكاء على الأحبة شغل ... لأخي الحب عن بكاء الطلول وهذا مذهب قد تقدم الناس أيضاً فيه، إلا أن البكاء على الديار هو المذهب الأقدم، والأعم الأشهر، قال امرؤ القيس: * قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * فجعل البكاء للحبيب والمنزل جميعاً، والرواة تزعم أن هذا البيت أحسن ابتداءات العرب وأبرعها وأجمعها لعدة معان في لفظ قليل، واتبعته الشعراء على هذا، وأكثروا فيه القول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 وعلى هذا المعنى حذا البحتري قوله: عرجوا فالدموع إن أبك في الربـ ... ـع دموعي والاكتئاب اكتئابي (1) وكمثل الأحباب لو يعلم العا ... ذل عندي منازل الأحباب وكانوا يرون الوقوف على الديار من الفتوة والمروءة وكرم العهد، ولذلك قال أبو تمام: أمواقف الفتيان تطوى لم تزر ... شرفاً، ولم تندب لهن صعيدا (2) أذكرتنا الملك المضلل في الهوى ... والأعشيين وطرفة ولبيدا (3) حلوا بها عقد النسيب ونمنموا ... من وشيها رجزاً بها وقصيدا (4) قوله: «لم تزر شرفاً» يريد ارتفاعاً، «ولم تندب لهن صعيداً» أراد انخفاضاً وهبوطاً فلم يستقم له ذاك فقال: «صعيدا» لأن الصعيد التراب. وهو يكون في أغواط الأرض، وما اطمأن منها أكثر منه فيما علا وارتفع. تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله: «ذكر الفراق والوداع والترحل عن الديار والبكاء على الظاعنين» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 ذكر الفراق والوداع والترحل عن الديار والبكاء على الظاعنين ... وأفتتح ذلك بما جاء عنهما من الابتداءات في هذه المعاني، وأبوبها أبواباً، لتصح الموازنة بينهما. ما قالاه في البكاء على الظاعني ن ... قال أبو تمام: يا بعد غاية دمع العين إذ بعدوا ... هي الصبابة طول الدهر والكمد (1) هذا أجود ابتداءاته في هذا المعنى، وأبلغها. وأجود منه وأحلى قول البحتري: قلب مشوق عناه البث والكمد ... ومقلة تبذل الدمع الذي تجد (2) قوله: «تبذل الدمع الذي تجد» معنى ما لحسنه نهاية، ولفظ في غاية البراعة والحلاوة. وقال أبو تمام: هي فرقة من صاحب لك ماجد ... فغدا إذابة كل دمع جامد (3) وهذا ابتداء جيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وقال البحتري: رحلوا فأية عبرة لم تسكب ... أسفاً، وأي عزيمة لم تغلب (1) هذا أيضاً ابتداء جيد حسن. وقال أيضاً: أكنت معنفي يوم الرحيل ... وقد لجت دموعي في الهمول (2) وقال أيضاً: إن سير الخليط يوم استقلا ... كان عوناً للدمع حين تولى (3) وقال أيضاً: لم تبلغ الحق، ولم تنصف ... عين رأت بيناً فلم تذرف (4) وهذه كلها ابتداءات جيدة، عذبة، شهية. وقال أيضاً: دع دموعي في ذلك الاشتياق ... تتناجى بذكر يوم الفراق (5) وهذا بيت رديء، قد عابه «ابن المعتز» وقال: ما أقبح قوله: «في ذلك الاشتياق»، وهي -لعمري- قبيحة، ولا أعرف له مثلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 ما لأبي تمام في البكاء على النساء المفارقات ... قال أبو تمام: سرت تستجير الدمع خوف نوى غد ... وعاد قتادًا كل مرقد (1) قوله: «سرت» يريد أنها سهرت فكأنها قطعت الليل بالسهر، مستجيرة بالدمع، تبكي ليلها أجمع، ولم يرد أنها سارت ليلاً، فجعل سهرها سرى، وفسر ذلك بقوله: «وعاد قتاداً عندها كل مرقد». وهذا ابتداء ليس من جيد الابتداءات، ولا من رديئها. وقال أيضاً: بدلت عبرة من الإيماض ... يوم شدوا الرحال بالأغراض (2) «الإيماض» أراد تبسمها وبريق (3) ثغرها، جعله مثل وميض البرق. يريد أنها بدلت من الضحك البكاء لما استعدوا للرحيل. وهذا بتداء جيد. وقد عابه «ابن عمار» وغيره لقوله: «الأغراض»، ولحنوه، وقالوا: الأغراض جمع غرض، وفعل لا يجمع على أفعال. أفما (4) سمعوا بقولهم: فرخ وأفراخ، وفرد وأفراد، وشكل وأشكال، وجفن وأجفان، وعصر وأعصار، وزند وأزناد؟!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وقول الأعشى: * وزندك أثقب أزنادها (1) * وقولهم أيضًا: شرط وأشراط، وقول الله تعالى: «فقد جاء أشراطها» (2) فقد نطقت العرب بهذا الجمع بعينه، قال الراجز في وصف الإبل: حتى إذا ما قلقت أغراضها ... ونصحت بمائها أعراضها وقال غيلان بن حريث الربعي: بكل سام في الزمام نهاض ... خيسة بالذل روض الرواض (3) في قلص تمطو سفيف: نسيج، والأغراض: جمع غرض، وهو للبعير مثل الحزام للفرس. وأنشدنا الأخفش لرجل من طيء: إذا العيس أضحت بالفلاة كأنها ... وقد قلقت أغراضهن جفون ومثله في الشعر -إذا تتبعته- كثير. ... وقال أبو تمام: بسطت إليك بنانة أسروعا ... تصف الفراق، ومقلة ينبوعا (5) وهذا ابتداء ليس بالجيد، ولا بالرديء. والأسروع: دويبة ناعمة تكون في الرمل تشبه بها أصابع النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وقال أيضاً: نثرت فريد مدامع لم تنظم ... والدمع يحمل بعض ثقل المغرم (1) وقال أيضاً: أظن دموعها سنن الفريد ... وهي سلكاه من نحر وجيد (2) وهذان ابتداءان جيدان. ... وقال: ذريني منك سافحة المآقي ... ومن سرعان عبرتك المراق (3) وهذا قول فيه جفاء. ووجدت الناس يستحسنون قوله: خذي عبرات عينك عن زماعي ... وصوني ما أزلت من القناع (4) زماعه: إزماعه الرحيل، يقال: أزمع يزمع. وقوله: «وصوني ما أزلت من القناع» لأنها برزت عند الفراق جزعاً، وكشفت القناع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 ومن ابتداآتهما من باب الفراف في معانٍ شتى ... 1 - قال أبو تمام: سعدت غربة النوى بسعاد ... فهي طوع الإتهام والإنجاد (1) 2 - وقال أيضاً: ألا صنع البين الذي هو صانع ... فإن تك مجزاعاً فما البين جازع (2) وهذا ابتداء صالح. وقال أيضاً: أصغى إلى البين مغتراً فلا جرما ... أن النوى أسأرت في عقله لمما (3) قوله: أصغى إلى البين، أي سمع (4) ما أخبروه به من ذكر الفرقة فغير ذلك من عقله، ويريد باللمم: الجنون. وقد أوضح هذا المعنى في البيت التالي، وهو قوله: أصمني سرهم أيام فرقتهم ... هل كنت تعرف سراً يورث الصمما أي صرت لا أفهم شيئاً بعد ذلك السر الذي دلهني، وأطار (5) عقلي، فكأني أصم عن كل قيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وهذا المعنى ليس من اختراعاته، وقد ذكرته في سرقاته، وما جاء في معناه لغير واحد من الشعراء. وقال: أهلوك أضحوا راحلاً ومقوضا ... ومزمماً يصف النوى ومغرضا (1) المقوض: الذي يقوض البيوت، ويقتلعها للرحيل (2)، ومزمماً يصف النوى: الذي يزمم الإبل والأزمة، [والمغرض] (3) يشدها بالغرض. وهو كالحزام للفرس. وهذا ابتداء صالح. وقال أيضاً: تحمل عنه الصبر يوم تحملوا ... وعادت صباه في الصبا وهي شمأل (4) قال ذلك لأن الصبا: ريح تحبها العرب محبتها للجنوب؛ لأنها ريح لينة عذبة، وقد تجلب المطر في بعض أقطار الأرض كما تجلبه الجنوب، قال امرؤ القيس: راح تمريه الصبا ثم انتحى ... منه شؤبوب جنوب منفجره (5) فأراد أن صباه -أي ريحه في الصبا التي كانت تولف له ما يهواه ويحبه مع من يحبه- عادت شمالاً؛ لأن الشمال في أكثر نواحي الأرض لا تولف السحاب؛ بل تمحقه وتشينه، كما قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 لعمري لئن ريح المودة أصبحت ... شمالاً لقدماً كنت وهي جنوب وقال أبو تمام: تصدت وحبل البين مستحصد شزر ... وقد سهل التوديع ما وعر الهجر (1) تصدت: أي بدت، وظهرت، ومستحصد: شديد الفتل، والشزر (2): الفتل إلى فوق، واليسر: الفتل إلى أسفل. وقوله: «وقد سهل التوديع ما وعر الهجر» يريد أنها كانت هاجرة فبرزت عند التوديع. وقال أيضاً: مالي بعادية الأيام من قبل ... لم يثن كيد النوى كيدي ولا حيلي (3) وهذا من جيد ابتداآت هذا الباب. ... وقال البحتري: راجع القلب بثه وخباله ... لخليط زمت لبين جماله (4) وقال أيضاً: له الويل من ليل بطاء أواخره ... ووشك نوى حي تزم أباعره (5) وقال أيضاً: شط من ساكن الغوير مزاره ... وطوته البلاد فالله جاره (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وقال أيضاً: إذا عرضت أحداج سلمى فنادها ... سقتك روايا المزن صوب عهادها (1) وقال أيضاً: تظن شجوني لم تعتلج ... وقد خلج البين من قد خلج (2) وقال أيضاً: بمثل لقائها شفي الغليل ... غداة تزايلت تلك الحمول (3) وقال: فؤاد بذكر الظاعنين موكل ... ومنزل حي فيه للشوق منزل (4) وقال أيضاً: لما وصلت أسماء من حبلنا شكر ... وإن حم بالبين الذي لم نرد قدر (5) وقال أيضاً: على الحي سرنا عنهم وأقاموا ... سلام، وهل يدني البعيد سلام؟ (6) وقال أيضاً: لأوشك شعب الحي أن يتفرقا ... فيدني الجوى، أو يرجع الحب أو لقا (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 أي يصير الحب جنوناً، وهذا كقول أبي تمام: * أسارت في عقله لمما (1) * وقال: عاد للصب شجوه واكتئابه ... ببعاد الذي يراد اقترابه (2) وقال أيضاً: أصدود غلا بها أم دلال ... يوم زمت برامة الأجمال (3) وهذه كلها ابتداآات جياد، حسان، مختارة المعاني. وقال أبو تمام: يوم الفراق لقد خلقت طويلا ... لم تبق لي جلداً، ولا معقولا (4) فجعل يوم الفراق طويلاً. ... وقال البحتري كأنه يرد هذا المعنى (5) على أبي تمام، وينسب يوم الفراق غلى القصر، وذكر العلة في ذلك فقال: ولقد تأملت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امريء بطويل (6) قصرت مسافته على متزود ... منه لدهر صبابة وعويل وهذه إنما هي حال من كان محبوبه محجوباً منه، ورؤيته متعذرة عليه قبل يوم الفراق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وقد بين هذا المعنى بقوله: إن للبين منة لن تؤدي ... ويداً في تماضر بيضاء (1) حجبوها حتى بدت لفراق ... كان داء لعاشق ودواء أضحك البين يوم ذاك وأبكى ... كل ذي صبوة، وسر وساء فجعلنا الوداع فيه سلامًا ... وجعلنا الفراق فيه لقاء (2) وهذا مذهب صحيح، ومعنى واضح. وقال البحتري أيضاً: ويوم تلاق في فراق شهدته ... بعين إذا نهنهتها دمعت دما (3) فكيف يكون يوم تلاق طويل؟ وقال في نحوه أيضاً: إن الفراق جلا لنا عن غادة ... بيضاء تجلو عن شتيت أشنب (4) ألوت بموعدها القديم وأيأست ... منه بلي بنانه لم تخضب (5) وقال أيضاً فيما يؤكد هذا المعنى، ويزيده صحة: من وراء العيون كثبان رمل ... تنثني أفنانهن فنونا (6) وبود القلوب يوم استقلت ... ظعن الحي أن تكون عيونا (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وقد قال بعض الأعراب، أنشدناه الأخفش عن المبرد: جزى الله يوم البين خيراً؛ فإنه ... أرانا -على علاتها- أم ثابت تباهي بها الأرض السماء إذا مشت ... عليها وتحي غشية المتماوت (1) وقال بعض الظرفاء: من يكن يكره الفراق فإني ... أشتيهه لموضع التسليم (2) إن في اعتناقة لوداع ... وانتظار اعتناقة لقدوم وقال البحتري: ما كفى موقف التفرق حتى ... عاد بالبث موقف الإجتماع (3) أعناق اللقاء أثلم في الأحـ ... ـشاء والقلب، أم عناق الوداع؟ وقال أيضاً: لم يكن يومنا طويلاً بنعما ... ن ولكن كان البكاء طويلاً (4) وإنما ذهب أبو تمام في معنى طول يوم الفراق إلى ما يعهده الناس، ويتعارفونه من أن وقت البؤس، وزمان المحنة أبداً طويل، ولعله ما كان مهجوراً قبل يوم الفراق، ولا كانت حاله التي وصفها البحتري. وعلى أن البحتري قد ذهب إلى مثل ما ذهب إليه أبو تمام فقال: يا ابنة العامري عما قليل ... يأذن الحي فاعلمي بالرحيل قد سمعت الغراب يذكر بيناً ... وانصراماً لحبلك الموصول (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 كيف لي بالسلو لا كيف والبيـ ... ـن نازل بخطب جليل إن يوم النوى ليوم طويل ... ليس يفنى، ويوم حزن طويل وإنما قال البحتري هذا لأن من يهواه كان مواصلاً له، وذلك قوله: «وانصراماً لحبلك الموصول». ولم يقتع بأن قال: «إن يوم النوى ليوم طويل» حتى قال: «ليس يفنى، ويوم حزن طويل». فلعل أبا تمام كانت هذه حاله أيضاً في مواصلة من فارق، واستطال يوم الفراق لذلك. ... ومن رديء ابتداآت أبي تمام في هذا الباب قوله: هن عوادي يوسف وصواحبه ... فعزماً فقدماً أدرك النأي طالبه (1) وإنما جعله رديئاً قوله: «هن» فابتدأ بالكناية عن النساء، ولم يجر لهن ذكر بعد. ثم قال: «عوادي يوسف»، ومعناها صوارف، يقال: عداني عنك (2) كذا: أي صرفني، أراد: هن صوارف يوسف، وصواحبه، وصوارف ههنا لفظة ليست قائمة بنفسها؛ لأنه يحتاج أن يعلم صوارفه عن ماذا، واللفظة (3) القائمة بنفسها أن لو قال: «واتن يوسف»، أو «شواغق يوسف»، أو نحو ذلك، وكأنه أراد صوارف يوسف عن تقاه، أو عن هداه، أو عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 صحيح عزمه حتى هم بالمعصية، وإنما يتم معنى الكلمة بمثل هذه الألفاظ ألو وصلها بها. ثم ألحق بيوسف التنوين، فجاء بثلاثة ألفاظ متوالية كلها رديئة في موضعها. وتمم البيت بعجز لا يليق بصدره، وهو أردأ معنى من الصدر، وذلك قوله: «فعزماً فقدماً أدرك النأي طالبه». فتصير جملة معنى البيت: هن صوارف يوسف فاعزم؛ فقديماً أدرك البعد طالبه. وهذا كلام لا يلائم بعضه بعضاً، ولا يتشابه، وإنما كانت ألفاظه ومعانيه تتشابه لو قال: هن عوادي يوسف وصواحبه ... فلا يعدونك مطلب أنت طالبه أو «فلا يعدونك العزم فيما تطالبه»، أي لا يتجاوزك. أو «فلا تعدلن عن مطلب أنت طالبه»، أي هن صوارف يوسف عن عزمه، فلا تنصرف أنت عن عزمك ومطلبك لعذلهن، ومن أجلهن. وقد عاب أبا تمام بهذا البيت أبو سعيد الضرير (1) وأبو العميثل الأعرابي (2)، وكانا على خزانة الأدب لعبد الله بن طاهر بخراسان وكان الشاعر إذا قصده، عرض عليهما شعره، فإن كان جيداً عرضاه عليه، أو دعي به فأنشده، وإن كان رديئاً نبذاه، ودفع إلى صاحبه البر على غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الشعر، فلما قدم أبو تمام على عبد الله قصدهما، ودفع القصيدة إليهما فضماها إلى أشعار الناس، فلما تصفحا الأشعار مرت هذه القصيدة على أيديهما، فلما وقفا على الابتداء طرحاها مع الشعر المنبوذ. فأبطأ خبرها على أبي تمام فكتب إلى أبي العميثل أبياتًا يعاتبه فيها ويقول: وأرى الصحيفة قد علتها فترة ... فترت لها الأرواح في الأجسام (1) ثم لقيهما فقالا له: لم لا تقول ما يفهم؟ فقال: ولم لا تفهمان ما يقال؟ فاستحسن هذا الجواب من أبي تمام. والرجلان ما عابا إلا معيباً، وما أنكرا إلا منكراً، وكانا من أعلم الناس بالشعر وبكلام العرب. ... مضت ابتداآتهما بذكر الفراق فلنذكر الآن ما جاء عنهما من ذلك وسط الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 البكاء على الظاعنين قال أبو تمام: فارقتنا وللمدامع أنوا ... ء سوار على الخدود غواد (1) كل يوم يسفحن دمعاً طريفاً ... يمتري مزنه شوق تلاد واقعاً بالخدود والبرد منه ... واقع بالقلوب والأكباد (2) وهذا في البكاء مذهب حسن جداً، في أجود لفظ واضح سيال. وقال أيضاً فأحسن كل الإحسان: رد الجموح الصعب أيسر مطلباً ... من رد دمع قد أصاب مسيلا (3) وقال البحتري في ضد هذا المعنى: وقفنا والعيون مشغلات ... يغالب دمعها نظر كليل (4) نهته رقبة الواشين حتى ... تعلق لا يغيض ولا يسيل والناس لبيت البحتري، ونحو مذهبه فيه أشد استحساناً؛ لكثرة ما يشاهده مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وقال أبو تمام: لعمري لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحت كما محت وشايع من برد (1) وأنجدتم من بعد اتهام داركم ... فيا دمع أنجدني على ساكني نجد قوله: «كما محت وشائع من برد» غلط؛ لأن الوشائع هي: الغزل الملفوف من اللحمة التي تداخل في السدى، فإذا نسج الثوب فليس فيه شيءيسمى «وشيعة» ولا «وشائع». وقد ذكرت هذا في باب أغاليطه المجموعة (2). وقد عاب عليه أيضاً قوم قوله: «فيا دمع أنجدني على ساكني نجد» وقالوا: الإنجاد إنما يكون على المحارب، فأي محاربة أو مجاهدة تكون أعظم من مجاهدة المغرم من يهواه، ولا سيما إن كان منوعاً ولم يكن مواتياً؟ وقد أفصح البحتري بأن المحبوب محارب فقال: هل كنت لولا بينهم متوهماً ... أن امرأً يشجيه بين محارب (3) فقول أبي تمام: «أنجدني على ساكني نجد» من أحسن كلام، وأحلاه، وأجوده. ... وقال أبو تمام: وقالوا: أسى عنها، وقد خصم الأسى ... جوانح مشتاق إذا خوصمت لد (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وعين إذا نهنهتها عادت الكرى ... ودمع إذا استنجدت أسرابه نجد (1) وما خلف أجفاني شئون بخيلة ... ولا بين أضلاعي لها حجر صلد (2) وكم تحت أرواق الصبابة من فتى ... من القوم حر دمعه للهوى عبد قوله: أسى عنها، أي تأسى عنها، وقد خصم الأسى جوانح مشتاق: أي غلبت التأسي وأبت عليه. وعين إذا نهنهتها، أي كففتها عن النوم. وقوله: «تحت أوراق الصبابة» فأرواق إنما هو: جمع روق [وروق] كل شيء: أوله، ولذلك قيل للقرن: روق، ويقال: ألقى عليه أرواقه: أي ثقله، وواحدتها روق، ويقال: ألقت السحابة أرواقها: إذا دامت ولم تقلع. ... وقال أبو تمام أيضاً: دعا شوقه يا ناصر الشوق دعوة ... فلباه طل الدمع يجري ووابله (3) بيوم تريك الموت في في صورة النوى ... أواخره من حسرة وأوائله أراد أن الشوق دعا ناصراً ينصره فلباه الدمع، بمعنى أنه يخف لاعج الشوق، ويطفي حرارته (4)، وهذا إنما هو نصرة للمشتاق على الشوق، والدمع إنما هو حرب للشوق؛ لأنه يثلمه ويتخونه، ويكسر حده، ولو كان ناصراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 له كان يقويه، ويزيد فيه، ألا ترى أنك تقول: قد ذبحني الشوق إليك. فالشوق عدو المشتاق وحربه، والدمع سلمه؛ لتخفيفه عنه، وهو حرب للشوق، وليس بهذا الخطأ خفاء على أحد، وقد ذكرته في أغاليطه (1). وأحسن منه قول البحتري: إن الدموع هي الصبابة فاطرح ... بعض الصبابة تسترح بهمولها (2) لأن الصبابة -وهي رقة الشوق- تنحل مع الدمع، وتمضي بمضيه، فلذلك جعل الدموع هي الصبابة على السعة، وإنما هي عدو الصبابة كالنار التي هي عدو لما تحرقه، وهي مع ذلك تنفد بنفاده، وتمضي بمضيه، وكالريح إذا بددت الغيم ومحقته، فإنها تذهب بذهابه، وقد قال الشاعر: أشجاك من ليلتك الطول ... فالدمع من عينيك مهمول؟ وهو إذا أنت تأملته ... حزن على الخدين محلول (3) لما كان الحزن ينحل ويسيل بسيلان الدمع، جعله حزناً، ولو جعله ناصراً للحزن، أو جعل البحتري الدموع ناصرة للصبابة لكانا جميعاً مخطئين؛ لأن الناصر للشيء لا يمحق الشيء، ولا يفنيه ويذهب به. ولكن البحتري اتبع أبا تمام في خطته بقوله: نصرت لها الشوق اللجوج بأدمع ... تلاحقن في أعقاب وصل تصرما (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وقال أبو تمام: تولوا فولت لوعتي تحشد الأسى ... علي، وجاءت مقلتي وهي تهمل (1) بذلت لهم مكنون دمعي فإن ونى ... فشوقي على أن لا يجف موكل وهذا جيد بالغ. وأجود منه وأحسن قوله: فكاد شوقي يتلو الدمع منسجماً ... إن كان في الأرض شوق فاض فانسجما (2) ولم يذهب ههنا إلى نحو ما ذهب إليه البحتري في قوله: إن الدموع هي الصبابة فاطرح ... بعذ الصبابة تسترح بهمولها (3) وإنما ذهب إلى أنه بكى لشدة شوقه وغلبته حتى كاد شوقه يفيض بفيض الدمع. وقال في علي بن الجهم (4): هي فرقة من صاحب لك ماجد ... فغدا إذابة كل دمع جامد (5) فافزع إلى ذخر الشئون وعذبه ... فالدمع يذهب بعض جهد الجاهد وإذا فقدت أخاً فلم تفقد له ... دمعاً ولا صبراً فلست بفاقد قوله: «يذهب بعض جهد الجاهد» أي بعض جهد الحزن الجاهد، أي جهد الحزن الذي قد جهدك، وهو الجاهد لك. ولو كان استقام له أن يقول: بعض جهد المجهود لكان أحسن وأليق. وهذا أغرب وأطرف، وقد جاء أيضاً فاعل بمعنى مفعول: قالوا عيشة راضية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 بمعنى مرضية، ولمح باصر، إنما هو مبصر فيه، وأشباه لهذا معروفة، ولكن ليس في كل شيء يقال، وإنما ينبغي أن ننتهي في اللغة إلى حيث انتهوا، ولا نتعداه إلى غيره، فإن اللغة لا يقاس عليها. وقوله: «فلم يفقد له دمعاً ولا صبراً» من أفحش الخطأ؛ لأن الصابر لا يكون باكياً، والباكي لا يكون صابراً، فقد نسق (1) لفظة على لفظة وهما نعتان متضادان، ولا يجوز أن يكونا مجتمعين، وقد ذكرت هذا مشروحاً في أغاليطه (2). ... وقال البحتري: قد أرتك الدموع يوم تولت ... ظعن الحي ما وراء الدموع (3) عبرات ملء الجفون مرتها ... حرق للفراق ملء الضلوع وهذا غاية في جودته وبراعته. وقال أيضاً: أضحك البين يوم ذاك وأبكى ... كل ذي صبوة، وسر، وساء (4) فجعلنا الوداع فيه سلامًا ... وجعلنا الفراق فيه لقاء ووشت بي إلى الوشاة دموع الـ ... ـعين حتى حبستها أعداء وهذا من إحسان أبي عبادة المشهور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وقال أيضاً: هين ما يقول فيك اللاحي ... بعد إطفاء غلتي والتياحي (1) كنت أشكو شكوى المعرض فالآ ... ن ألاقي النوى بدمع صراح (2) وهذا أيضاً غاية في حسنه وجودته. وقال أبو تمام: صيرت لي من تباري عبرتي سكناً ... مذ صرت فرداً بلا إلف ولا سكن (3) حلبت صرف النوى صرف الأسى وحدا ... بالبث في دولة الإغرام والددن (4) فما وجدت على الأحشاء أبرد من ... دمع على وطنٍ لي في سوى وطني (5) من ذا يعظم مقدار السرور بمن ... يهوى إذا لم يعظم موقع الحزن (6) قوله: حدا بالبث: أي ساقه، وأظهره، وأشاعه في دولة الإغرام والددن، والإغرام: جمع غرم مثل: برج وأبراج، وخرج وأخراج، والغرم والغرام بمعنى واحد، والددن: اللعب. يقول: ساق صرف النوى البث -وهو أشد الحزن- وأظهره في دولة غرامي ولعبي، يقول: إنه قاسى الأسفار والهموم في أيام شبابه ولعبه، ولله در الذي يقول، وأنشدناه الأخفش، وأنشده الموصلي أيضاً: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 ولما أراد الحي بيناً ولم يكن ... درى أحد من بين ظمياء فاجع أبى الدمع أعيان الصحاح وبينت ... مكان ذوي الشجو العيون الدوامع (1) وأنشد إسحق أيضاً، وأنشده الأخفش عن المبرد: ولما رأت أن لا سبيل وأنه ... هو البين محنو عليه الأضالع (2) تهتك عن أستار قلب وأسبلت ... مدامع عين بينها السر ضائع (3) وأنشد أيضاً: تكفكف دمعها كف خضيب ... لتخفيه، وهل يخفى المريب؟ وهذا أيضاً حسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 بكاء النساء المفارقات قال أبو تمام: بدلت عبرة من الإيماض ... يوم شدوا الرحال بالأغراض (1) أعرضت برهة فلما أحست ... بالنوى أعرضت عن الإعراض غصبتها نحيبها عزمات ... غصبتني تبيتي واغتماضي (2) نظرت فالتفت منها إلى أحـ ... ـلى سواد رأيته في بياض يوم ولت مريضة اللحظ والجفـ ... ـن وليست دموعها بمراض قوله: «أعرضت عن الإعراض» ليس باللفظ الجيد، وهو من توليدات المتأخرين، ومثله قول البحتري: شغل الرقيب وأسعدتنا خلوة ... في هجر هجر واجتناب تجنب (3) قوله: «غصبتها نحيبها» يريد أن عزماتي استخرجت نحيبها وأظهرته، وقد كانت تخرنه، فكأنها اغتصبتها إياه لما أظهرته. وقوله: «غصبتني تبيتي» أي تلبثي، أي منعتني عزماتي من التلوم والتلبث، ومن النوم، فكأنها غصبتني ذلك، أي أخذته مني، وأزعجتني للرحلة. وقال: بسطت إليك بنانة أسروعا ... تصف الفراق، ومقلة ينبوعا (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 كادت لعرفان النوى ألفاظها ... من رقة الشكوى تكون دموعا وهذا معنى حسن لطيف حلو. والأسروع: واحد الأساريع، وهي دويبة بيضاء تكون في الرمل، تشبه بها الأصابع، وذلك قول امريء القيس: وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع رمل، أو مساويك إسحل (1) ... وقال أبو تمام أيضاً: بكته بما أبكته أيام صدرها ... خلي، وما يخلو له من جوى صدر (2) وقالت أتنسى البدر؟ قلت تجلداً ... إذا الشمس لم تغرب فلا طلع البدر فأذرت جماناً من دموع نظامها ... على النحر إلا أن صائغها الشفر (3) وما الدمع ثان عزمتي ولو أنها ... سقى خدها من كل عين لها نهر قوله: «إذا الشمس لم تغرب فلا طلع البدر» لم يرد بذلك امرأة أخرى سواها، وإنما جعل هذا القول احتجاجاً عليها، ورداً لكلامها، وليريها أن عزمه في السف صحيح، وأن كلامه لا يثنيه عن وجهه الذي يريده. وقد بين هذا المعنى وأفصح بقوله: «تجلداً». وهذه الأبيات صالحة، والمذهب فيها غير مستحلى، ولا مشتهى، وفيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 معنى غامض في الاحتجاج عليها يجوز أن يكون أراده، وقد ذكرته في «جزء» أفردته لغامض معاني أبي تمام. وقوله: «فأذرت جماناً» فالجمان هو: اللؤلؤ الصغار. وقوله: «إلا أن صائغها الشفر» فالجمان لا يصاغ، ولكن قد يعمل على هيئته خرز من فضة، وقد سماه هدبة بن خشرم جماناً فقال: عليهن من صوغ المدينة حلية ... جمان كأجواز الدبا ورفارف (1) ... وقال أيضاً: أظن دموعها سنن الفريد ... وهي سلكاه من نحر وجيد (2) لها من لوعة البين التدام ... يعيد بنفسجاً ورد الخدود والتدام النساء في النياحة إنما هو: ضرب الصدور، واللطم هو: ضرب الخدود، هذا المستعمل المعروف في كلامهم، فاللطم هو الذي يعيد بنفسجاً ورد الخدود لا التدام؛ لأن الالتدام: أن تأخذ المرأة جلداً أو نعلاً فتدق صدرها، وتأخذ النائحة التي هي المساعدة خرقاً (3) تشير بها في النوح إلى صدرها، ويقال لها: المآلي، واحدتها مئلاة (4). فجعل أبو تمام لطم الوجه لدماً، ولعل ذلك يسوغ؛ فإن اللدم هو: دق الشيء على الشيء. قال تميم بن أبي بن مقبل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وللفؤاد وجيب تحت أبهره ... لدم الغلام وراء الغيب بالحجر (1) ... وقال أبو تمام: نثرت فريد مدامع لم تنظم ... والدمع يحمل بعض ثقل المغرم (2) وصلت دموعاً بالدماء فخذها ... في مثل حاشية الرداء المعلم (3) ولهت فأظلم كل شيء دونها ... وأضاء منها كل شيء مظلم (4) وكأن عبرتها عشية ودعت ... مهراقة من ماء وجهي أو دمي ولهت من الوله، فأظلم كل شيء دونها: أي أظلمت الأشياء في عينيها من شدة الحزن والوله، وأضاء منها كل شيء مظلم: لنور وجهها وبهجتها. ... قال أيضاً: سرت تستجير الدمع خوف نوى غد ... وعاد قتاداً عندها كل مرقد (5) وأنقذها من غمرة الموت أنه ... صدود فراق لا صدود تعمد (6) فأذرى لها الإشفاق دمعاً مورداً ... من الدم يجري فوق خد مورد (7) هي البدر يغنيها تودد وجهها ... إلى كل من لاقت وإن لم تودد (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وهذا من إحسانه المشهور. وقوله: «دمعاً مورداً من الدم» لفظ حسن، ومعنى ليست له براعة. والجيد في مثل هذا قول البحتري: لو ترانا عند الوداع وقد ... ورد سكب الدموع ورد الخدود (1) يريد أن الدموع إذا مرت على الخدود [وردتها]، وهذا معنى صحيح مشاهد. وأبو تمام لا يقنع إلا بأن يجعل المرأة باكية عليه دماً! على عادته في الاستقصاء الذي لا حلاوة له، فهلا اقتصر على مثل قول علقمة بن عبدة وأنشده إسحاق الموصلي، وأنشده ثعلب: تراءت وأستار من البيت دونها ... إلينا وحانت غفلة المتفقد (2) بعيني مهاة يحدر الشوق منهما ... شريجين شتى: من دموع وإثمد (3) قال ثعلب: فسرقه «ابن ميادة» فقال: وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وأدمعها يحدرن حشو المكاحل (4) تمتع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيام الشهور الأطاول قال: فسرقه بعض المحدثين فقال: خذي عدة للبين إني راحل ... قرى أمل يجديك والله صانع فسحت بسمطي لؤلؤ خلط إثمد ... على الخد إلا ما تكف الأصابع ... وقال أبو تمام: خذي عبرات عينك عن زماعي ... وصوني ما أزلت من القناع (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 أقلي قد أضاق بكاك ذرعي ... وما ضاقت بنازلة ذراعي (1) أآلفة النحيب كم افتراق ... أظل فكان داعية اجتماع (2) وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوف على ترح الوداع (3) تعجب أن رأت جسماً نحيفاً ... كأن المجد يدرك بالصراع (4) وهذه كلها أبيات جياد صحيحة الألفاظ والمعاني، وقد عابه ابن عمار وغيره بهذا البيت الأخير. وحدثني أبو علي محمد بن العلاء السجستاني قال: حدثني أبو [محمد] عبد الله بن قتيبة المؤلف، قال: سمعت علي بن هارون الكاتب النصراني يقول: قلت لأبي تمام: أنشدني أجود شعر قلته، فأنشدني قصيدته: «خذي عبرات عينك» فلما بلغ إلى قوله: «توجع أن رأت» قلت: يخيل إلي أن هذا غلط منك؛ لأن الصراع ليس من النحافة والجسامة في شيء، ولو قلت: كأن المجد يدرك بحرف في معنى الجسامة كنت قد أصبت. و «علي بن هارون» هذا، وكل من عاب هذا البيت عندي غالط ولم كان الصراع عنده ليس من النحافة والجسامة في شيء، وهل تجد القوة أبداً إلا في العبالة وغلظ الأرواح؟، وهل الضعف أبداً إلا في الدقة والنحافة؟، وهذا هو الأعم الأكثر، وإلا لم صار الفيل يحمل ما لا يحمل الجمل، والجمل يحمل ما لا يحمل البغل، والبغل يحمل ما لا يحمل الحمار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 فأراد أبو تمام أن المجد لا يدرك بالصراع الذي من كان فيه أغلظ وأعبل كان أولى بالغلبة، فهذا هو الأعم الأكثر في هذا الباب. ولست أنكر أن تكون القوة قد توجد مع الدقة والنحافة كما قال بعضهم: * إنا على دقتنا صلاب * فأراد أبو تمام أن المجد لا يدرك بالصراع الذي من كان فيه أغلظ وأعبل، كان أولى بالغلبة، فهذا هو الأعم الأكثر في هذا الباب. ولست أنكر أن تكون القوة قد توجد مع الدقة والنحافة كما قال بعضهم: * إنا على دقتنا صلاب * وأن يكون الخور والرخاوة قد يوجدان مع الغلظ والعبالة في بعض الأشياء، فأما الشجاعة والجرأة فقد توجدان في النحيف الجسم الضعيف، وفي العبل الغليظ. وهذا إنما يرجع إلى القلب لا إلى الجسم؛ ولعل عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب وبسطام بن قيس ماكان يقدر كل واحد منهم أن يحمل على كتفه مائة رجل. فجعل أبو تمام معناه على الوجه الأعم الأكثر، وقد أحسن عندي فيه، ولم يسيء. ... وقال البحتري: رحلوا فأية عبرة لم تسكب ... أسفاً، وأي عزيمة لم تغلب (1) قد بين البين المفرق بيننا ... عشق النوى لربيب ذاك الربرب صدق الغراب لقد رأيت شموسهم ... بالأمس تغرب عن جوانب غرب لو كنت شاهدنا وما صنع النوى ... بقلوبنا لحسدت من لم يحبب (2) شغل الرقيب، وأسعدتنا خلوة ... في هجر هجر، واجتناب تجنب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 فتلجلجت عبراتها، ثم انبرت ... تصف النوى بلسان دمع معرب (1) تشكو الفراق إلى قتيل صبابة ... شرق المدامع بالفراق معذب (2) قوله: «قد بين البين المفرق بيننا»، فالبين: الفراق، يريد قد بين الفراق المفرق بيننا. وبعض أهل اللغة يقول: «البين» من الأضداد (3) يكون الاتصال، ويكون الافتراق، وليس الأمر كذلك، بل البين: الحد والقطع بين الشيئين، والذي يتميز به (4) الحيزان أحدهما عن الآخر، يقال: وصلت بينهما، وفرقت بينهما، وبعدت (5) بينهما، فيصلح ذلك كله فيه، لأنه الحد، والبرزخ، لا أنه الاتصال، ولا الافتراق، إلا أن الشعراء جعلوه في استعمالهم: الفراق. فقوله: «قد بين البين»، يريد قد بين الفراق المفرق بيننا. والنوى: هي النية في انتقال القوم من موضع إلى آخر، فعشق النية لربيب الربرب استعارة ليست بحسنة، غير أن الشعراء المتأخرين قد اصطلحوا على أن جعلوا البين، والفراق، والنوى كالأشخاص، وجعلوها الحائلة بينهم وبين من يهوونه، فهم يستعيرون الأفعال لها، فربما حسنت الاستعارة لها، وربما قبحت، على حسب مواضعها في الإغراق والاقتصاد. وقوله: «لو كنت شاهدنا» من أبياته المشهورة في الحسن والحلاوة. وقوله: «في هجر هجر، واجتناب اجتناب» مذهب من مذاهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 المولدين، وقد قدمت القول في أنه غير حسن ولا جميل. ولم يعتمد البحتري في هذا الباب ذكر بكاء النساء إلا قوله: «وقد ورد سكب الدموع ورد الخدود» وقوله: «فتلجلجت عبراتها» ولكنه وصفهن عند التوديع أحسن وصف وأحلاه فقال: عجلت إلى فضل الخمار فأثرت ... عذباته بمواضع التقبيل (1) وتبسمت عند الوداع فأشرقت ... إشراقة عن عارض مصقول أأخيب عندك لي شافع ... وأرد دونك والشباب رسولي؟ ... وقال أيضاً: أكنت معنفي يوم الرحيل ... وقد لجت دموعي في الهمول؟ (2) عشية لا الفراق أفاء عزمي ... إلى، ولا اللقاء شفى غليلي دنت عند الوداع لوشك بين ... دنو الشمس تجنح للأصيل (3) وقال أيضاً: إذا ما نهي الناهي فلج بي الهوى ... أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر (4) ويوم تثنت للوداع وسلمت ... بعينين موصول بلحظهما السحر توهمتها ألوى باجفانها الكرى ... كرى النوم، أو مالت بأعطافها الخمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وقال أيضاً: وأنا الفداء لمرهف غض الصبا ... يوهيه حمل وشاحه وعقوده (1) قصرت تحيته فجاد بخده ... يوم الوداع لنا، وضن بجيده ولو استطاع لكان يوم وصاله ... للمستهام مكان يوم صدوده أراد أنها لما قصرت تحيتها فلم تقدر (2) على السلام أعرضت فرأى خدها، فكأنها جادت لما رأته، وقد ضنت على الحقيقة بجيدها، وهو موضع العناق (3). ... وقال أيضاً: ما أرى البين مخلياً من وداع ... أنفس العاشقين حتى تبينا (4) من وراء العيون كثبان رمل ... تتثنى أفنانهن فنونا (5) وبود القلوب يوم استقلت ... ظعن الحي لو تكون عيونا فهذا المذهب الذي سلكه البحتري أولى بالصواب في وصف النساء المفارقات، وأشبه بأحوالهن من مذهب أبي تمام في وصفه إياهن بشدة الجزع، والوله، وبكاء الدم، ولطم الوجه، والإشفاء على الهلكة، وإظهاره التجلد، وقلة الاحتفال بهن، وذلك قوله: وقالت: أتنسى البدر؟ قلت تجلداً ... إذا الشمس لم تغرب فلا طلع البدر (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وقال أيضاً: وما الدمع ثان عزمتي ولو أنه ... سقى خدها من كل عين لها نهر (1) وقوله: لها من لوعة البين التدام ... يعيد بنفسجاً ورد الخدود (2) وقوله: وصلت دموعاً بالدماء فخذها ... في مثل حاشية الرداء المعلم (3) ولهت فأظلم كل شيء دونها ... وأضاء منها كل شيء مظلم ولو كان وصف بهذا زوجته، أو ابنته، لكان معذوراً ولكنه إنما وصف حبائبه؛ لأنه ذكرهن بالجمال والحسن، والزوجات لا يوصفن بذلك. وما انتهى عمر بن أبي ربيعة الذي كان معشقاً ينذر أشراف النساء النذور في رؤيته ومجالسته من ذكر صبوتهن به إلى مثل هذه الأوصاف، ولا قريب منها، وقد عيب عمر بذلك، واستقبح منه، على أنه قد صدق في أكثر ما قال، ولم يكذب، وأتى بالأخبار على وجوهها، فلم يقنع أبو تمام إلا بالزيادة عليه، والتناهي فيما يخرج عن العادة. ... وقال أبو تمام: لما استحر الوداع المحض وانصرمت ... أواخر الصبر إلا كاظماً وجما (4) رأيت أحسن مريء، وأقبحه ... مستعجمين لي التوديع والعنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 استحسن إصبعها (1)، واستقبح إشارتها مودعة، والعنم: شجر (2) له أغصان لطيفة غضة كأنها بنان جارية، والواحدة غنمة. وهذا خطأ منه أن يستقبح إشارتها بالوداع إليه، أتراه ما سمع قول جرير: أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بفرع بشامة سقى البشام (3) فدعا للبشام بالسقيا، لأنها ودعته به فسر بتوديعها. وأبو تمام إنما استحسن إصبعها، واستقبح إشارتها، فما ظنك بمن استقبح إشارة معشوقة إليه عند توديعه، وهذا يدل على أنه ما عرف شيئاً من هذا ولا شاهده، ولا بلي به. ... وقال في وصف النساء المفارقات أيضاً: فخت دموعك في إثر الخليط لدن ... خفت من الكثب القضبان والكثب (4) من كل ممكورة ذاب النعيم لها ... ذوب الغمام فمنهل ومنسكب أطاعها الحسن، وانحط الشباب على ... فؤادها، وجرت في روحها النسب (5) لم أنسها وصروف البين تخلجها ... ولا معول إلا الواكف السرب (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 أدنت نقاباً على الخدين وانتسبت ... للناظرين بقد ليس ينتقب (1) كانت لنا لعباً نلهو بزخرفه ... وقد ينفس عن جد الفتى اللعب (2) وهذه أبيات حسان، جيدة المعاني. وقوله: «أطاعها الحسن» من أبياته التي يسأل الناس عنها، فقوله: «أطاعها الحسن» من قول (3) بشار بن برد: كما اشتهت خلقت إذا اعتدلت ... تمت تماماً فلا طول ولا قصر وفي نحوه قول أبي نواس: تركت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتحب (4) فانتقت منه طرائقه ... واستزادت فضل ما تهب (5) قوله: «وانحط الشباب على فؤادها» يريد الذكاء والتيقظ. وقوله: «وجرت في روحها النسب»، هو أن يقال: خفيفة الروح، وعذبة الروح، ونحو هذا، كذا فسره الشيوخ بعد أن جرى في البيت خوض طويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 ما ذكره من استيلاء النوى على الأحباب المفارقين قال أبو تمام: وفي الكلة الصفراء جؤذر رملة ... غدا مستقلاً، والفراق معادله (1) تيقنت أن البين أول فاتك ... به مذ رأيت الهجر وهو يغازله قوله: «الفراق معادله» معنى غير جيد ولا صحيح؛ لأن الفراق هو مفارقة كل واحد من الاثنين صاحبه، فإذا جعل الفراق ماضياً مع أحدهما، وأخلى الآخر منه كان الآخر غير مفارق، وهذا محال، وإنما أوقع أبا تمام فيه أنه جعل الفراق كأنه شخص مسلط على المحبوب، استولى عليه فذهب. وقد يستعمل مثل هذا ولكن ليس على هذا الوجه. والاستعارة التي هي أقرب إلى الجواز قوله: سعدت غربة بسعاد ... فهي طوع الإتهام والإنجاد (2) وذلك أن النوى إنما هي: نية القوم المفارقين دون من المقيمين. ... وقال البحتري: قد بين البين المفرق بيننا ... عشق النوى لربيب ذلك الربرب (3) فنسب العشق إلى النوى على سبيل الاستعارة. وقال البحتري وهو حسن: نوين النوى، ثم استجبن لهاتف ... من البين نادى بالفراق فأسمعا (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وحاولن كتمان الترحل بالدجى ... فباح بهن المسك لما تضوعا (1) وأردأ من قول أبي تمام: «والفراق معادله»، وأقبح وأسخف قول أبي تمام: أترى الفراق يظن أني غافل ... عنه وقد لمست يداه لميسا (2) ما زلت أسمع الشيوخ من أصحاب أبي تمام المتعصبين (3) له دون من سواهم يقولون: أتره أي شيء أراد أن يصنع بالفراق: يقطع يديه أو رجليه، أو يصلبه على جذع؟ ... وقال أبو تمام: لا أظلم النأي؛ قد كانت خلائقها ... من قبل وشك النوى عندي نوى قذفا (4) وهذا معنى جيد حسن. والقذف: البعيدة. وقال أيضاً: دع الفراق فإن الدهر ساعده ... فصار أملك من روحي بجثماني (5) وهذا في جملة أبياته المشهورة التي لهج الناس بها وهي: ما اليوم أول توديعي ولا الثاني ... البين أكثر من شوقي وأحزاني (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 خليفة الخضر من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أوطاني (1) بالشام قومي، وبغداد الهوى، وأنا ... بالرقتين، وبالفسطاط إخواني (2) وما أظن النوى ترضى بما صنعت ... حتى تبلغ بي أقصى خراسان (3) قوله: «البين أكثر من شوقي وأحزاني» أي زاد عليها، وغلبها حتى صرت لا أشتاق، ولا أحزن؛ لكثرة ما أفارق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 ذكر الأنفاس والحرق والزفرات عند الفراق قال أبو تمام: فلو ترانا وإياهم وموقفنا ... في مأتم البين لاستهلالانا زجل (1) من حرقة أطلقتها فرقة أسرت ... قلباً، ومن عذل في نحره غزل (2) قوله: «أطلقتها فرقة» يعني أبرزتها وأظهرتها، وإنما قال: «أطلقتها» من أجل قوله: «أسرت قلباً»؛ ليطابق بين الإطلاق والإسار. وقوله: «أسرت قلباً» يعني الفرقة، معنى رديء، لأن القلب إنما يأسره ويملكه شدة الحب لا الفراق، فإن لم يك مأسوراً قبل الفراق فما كان هناك حب، فلم خص التوديع (3)؟، وما كان وجه هذا البكاء والاستهلال والزجل، وهذه القصة الفظيعة التي وصف الحال فيها عند مفارقتهم؟ وقد ذكرت هذا مشروحاً في باب أغاليطه (4) ... وقال أبو تمام: أمر التجلد بالتلدد حرقة ... أمرت جمود دموعه بسجوم (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 قوله: «أمر التجلد بالتلدد حرقة»، جعل الحرقة آمرة للتجلد بالتلدد. والحرقة التي يكون معها التلدد تسقط التجلد ألبتة، وتذهب به، وأما أن تجعله متلدداً فإن هذا من أحمق المعاني، وأولاها بالاستحالة، بلى لو قال: إن الفرقة أحالت التجلد إلى التلدد، أو أبدلت من التجلد التلدد لكان ذلك هو السائغ الحسن. وأرى لفظ أسخف أيضاً من أن جعل الحرقة آمرة، وإنما العادة في مثل هذا أن تكون باعثة، أو جالبة، أو نحو هذا، فأما الأمر فليس هذا موضعه. ... وقال أيضاً: ومن زفرة تعطى الصبابة حقها ... وتوري زناد الشوق تحت الحشا الصلد (1) قوله: «من زفرة تعطي الصبابة حقها» معنى جيد حسن. ولله در البحتري إذ يقول: باتوا جميعاً، ثم فرق شملهم ... بين كتقويض الجهام المقلع (2) ووراءهم صعداء أنفاس إذا ... ذكر الفراق أقمن عوج الأضلع (3) وقال أيضاً: عبرات ملء الجفون مرتها ... حرق للفراق ملء الضلوع (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 ومثل قوله: «كتقويض الجهام المقلع» قول أبي تمام: نوى كانقضاض النجم كانت نتيجة ... من الهزل يوماً إن هزل الهوى جد (1) فقولهما: كتقويض الجهام، وكانقضاض النجم يريدان السرعة. والجهام: السحاب الذي قد أراق ماءه فهو سريع الذهاب. في بيت أبي تمام: لا يليق بآخره؛ لأنه قال: «كانت نتيجته من الهزل» يعني النوى، أي كان ذكرهم للرحيل قولاً عبثاً فنتج ذلك أن حققوا الرحيل، وجدوا فيه، وهذا معنى جيد بالغ؛ ولفظ مستقيم، ولكن أفسده بقوله: «إن هزل الهوى جد»؛ وليس هزل الهوى وجده من هذا المعنى في شيء، وإنما كان وجه الكلام أن يقول: ورب جد نتجه الهزل، أو ورب كبير هاجه صغير. ولولا أن في سائر النسخ «إن هزل الهوى» لظننته ما قال إلا «هزل النوى» لأنهم أبداً ينغمون بالرحيل ولا يعزمون، فيكون ذلك كالهزل، ثم يجد الجد فيحققون، ويرتحلون، وقد عرفنا مثل هذا مشاهدة في غير شيء. وقال البحتري: وكم نافسوا من حرقة إثر فرقة ... تعجب من أنفاسنا وامتدادها (2) فهذا موضع الحرقة والفرقة. وأجود من هذا كله ما أنشدناه (3) أبو الحسن: موسى بن سليمان الهمداني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 عن أبي دلف: هاشم بن محمد الخزاعي، عن ابن الأعرابي، وحكى عن أبي دلف قال: دخلت على ابن الأعرابي، وعنده البحتري، قال: فتذاكرنا شعر الرجل، فقال ابن الأعرابي: ما استحسنت له شيئاً إلا قوله: فلما تبينت المنازل بالحمى ... ولم أقض منها حاجة المتزود زفرت إليها زفرة لو حشوتها ... سرابيل أبدان الحديد المسرد لذابت حواشيها وظلت بحرها ... تلين كما لانت لداود باليد والرجل -العلوي البصري- أشعر من أبي تمام والبحتري في هذا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 زوال الصبر وقلة التجلد قال أبو تمام: أتظنني أجد السبيل إلى العزا ... وجد الحمام إذاً إليَّ سبيلا (1) الصبر أجمل غير أن تلدداً ... في الحب أحرى أن يكون جميلا وهذا معنى حسن. وقد قال نحوه في مرثية إدريس بن بدر السامي (2). وقد كان يدعى لابس الصبر حازماً ... فأصبح يدعى حازماً حين يجزع (3) أخذ الجميع من قول العتبي: أضحت بخدي للدموع رسوم ... أسفاً عليك، وفي الفؤاد كلوم والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم (4) وقال أبو تمام: وما أحد طار الفراق بقلبه ... بجلد ولكن الفراق هو الجلد (5) وهذا معنى سخيف جداً. ولكن قد أحسن، وألطف، وأجاد في قوله حين قال: يصبرني أن ضقت ذرعاً بحبه ... ويجزع أن ضاقت عليه خلاخله (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وقال أيضاً: رحل العزاء مع الرحيل كأنما ... أخذت عهودهما عل ميعاد (1) وكأن أفئدة النوى مصدوعة ... حتى تصدع بالفراق فؤادي و «أفئدة النوى مصدوعة» يشبه قوله: وكم أبرزت منكم على قبح خدها ... صروف النوى من مرهف حسن القد (2) وما أظن أحداً انتهى في الجهل، والعي، واللكنة، وضيق الحيلة في الاستعارة إلى أن جعل لصروف النوى قداً، وأفئدة مصدوعة غير أبي تمام. ... وقال البحتري: ويأمرني بالصبر من ليس وجده ... كوجدي، ولا إعلان حالي كحاله (3) فإن أفقد العيش الذي فات باللوى ... فقدماً فقدت الظل عند انتقاله وهذا -لعمر الله- لفظ ومعنى في غاية الحسن والبراعة. ومثله قول أبي الشيص: يصبرني قوم براء من الهوى ... وللصبر تارات أمر من الصبر ... وقال أبو تمام: تحمل عنه الصبر يوم تحملوا ... وعادت صباه في الصبا وهي شمأل (4) بيوم كطول الدهر في عرض مثله ... ووجدي من هذا وهذاك أطول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 جعل الصبا شمالاً؛ لأن الشمال تفرق، وقد تقدم ذكر هذا في الابتداآت (1). ثم انظر إلى هذا السخف: كيف جعل للدهر عرضاً على هذا اللفظ الذي كأنه به يمسح أرضاً، أو يذرع ثوباً. ... وقال أبو تمام أيضاً: لم يعط نازلة الهوى حق الهوى ... دنف أطاف به الهوى فتجلدا (2) صب تواعدت الهموم فؤاده ... إن أنتم أخلفتموه موعدا لم تنكرين مع الفراق تلددي ... وبراعة المشتاق أن يتبلدا (3) وهذا المعنى مأخوذ من قول قيس بن ذريح: بليغ إذا يشكو إلى غيرها الهوى ... فإن هو لاقاها فغير بليغ ... وقال البحتري هل أنت مصطبر على مضض الأسى ... إذ كان بينهم ورحلتهم غدا (4) لا تكذبن؛ فما أمارات النوى ... للصب إلا من أمارات الردى لؤم بعيني أن يلائمها الكرى ... عن سلوة، وبمائها أن يجمدا قد أتى هذا البيت الأخير على غرض أبي تمام في بيته الأول. وأبو تمام في أبياته مع ما فيها من السرق (5) أشعر من البحتري في أبياته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 ما قالاه في قتل الفراق للمفارق وسفك دمه قال أبو تمام: قالوا: الرحيل غداً لا شك قلت لهم ... الآن أيقنت أن اسم الحمام غد (1) كم من دم يعجز الجيش اللهام إذا ... بانوا ستحكم فيه العرمس الأجد (2) ما لامريء خاض في بحر الهوى عمر ... إلا وللبين منه السهل والجلد كأنما البين في إلحاحه أبدا ... على النفوس أخ للموت أو ولدا اللهام: الذي يلتهم كل شيء لكثرته، والعرمس: الناقة الشديدة، وكذلك الأجد: هي الموثقة (3) الخلق. ولم يك هذا عندي وجه الكلام، بل كان وجهه لما قال: الجيش اللهام أن يقول: الناب الضعيفة، فيهون أمرها، لا الناقة الأجد؛ لأن الناب قد يقطع بها السفر البعيد كما قال (4): * وقد تقطع الدوية الناب * وقوله: «ما لامريء خاض في بحر الهوى عمر» قد أساء فيه إساءة ذكرتها فيما ذكرت من أغاليطه (5). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وقال أبو تمام: لو حار مرتاد المنية لم يجد ... إلا الفراق على النفوس سبيلا (1) قالوا: الرحيل فما شككت بأنها ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا إني تأملت النوى فوجدتها ... سيفاً علي مع العدا مسلولا قد عابه ابن عمار في قوله: «إني تأملت النوى»، وقالوا: مثل هذا الأمر الفظيع الذي مكروهه أبداً مصبوب على الخلق لا تعلم البلية فيه إلا بعد التأمل، وهذا إنكار صحيح، وليس هذا كقول البحتري: ولقد تأملت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امريء بطويل (2) لأن مثل هذا يوجبه التأمل، وقد فسره البحتري، وذكر علته، وكأنه رد لقول أبي تمام: «يوم الفراق لقد خلقت طويلا». وقد ذكرت ذلك مشروحاً في باب الابتداآت من هذا الباب (3). ... وقال أبو تمام: أظله البين حتى إنه رجل ... لو مات من شغله بالبين ما علما (4) أخذ المعنى من قول أبي الشيص: فكم من ميتة قد مت فيها ... ولكن كان ذاك وما شعرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وبيت أبي تمام أجود، وقوله: «وما شعرت» لفظ سخيف. وقال أبو تمام أيضاً: طلت دماء هريقت عندهن كما ... طلت دماء هدايا مكة الهمل (1) هانت على كل شيء فهو يسفكها ... حتى المنازل، والأحداج، والإبل الهمل: وصف لقوله: «دماء هدايا مكة» من همل يهمل، والمصدر هو الهمول، والهمل -ساكنة الميم- فحركها. وقوله: هانت على كل شيء فهو يسفكها ... حتى المنازل، والأحداج والإبل (2) رديء جداً؛ لأنه إذا لم يسفك دماء العاشقين المنازل إذا خلت من أهلها، والإبل إذا سارت بهم (3)؛ فأي شيء يسفكها؟ وهل شيء عند المحبين أعظم من فراق الأحباب حتى يجعل أسباب فراقهم من أهون الأشياء وأقلها في سفك دماهم؟ ... وقد قال البحتري: وقتل المحبين العيون ولم أكن ... أظن الرسوم الدارسات قواتلا (4) فأحسن، وأجاد وملح، ولم يفصح بتخسيس أمر الرسوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وقال أبو تمام: ضعفت جوانح من أذاقته النوى ... طعم الفراق فذم طعم العلقم (1) هي ميتة إلا سلامة أهلها ... من خلتين: من الثرى والمأتم (2) قوله: «ضعفت» دعاء عليها، أي أضعف الله جوانح من أذاقته النوى طعم الفراق فذم طعم العلقم. والجوانح: هي الأضلاع الصغار في الصدر، التي تلي الفؤاد، الواحدة جانحة، فكأنه يدعو عليها بأن تضعف عن حمل حرارة التشوق، وحرق الفراق (3) إن كان صاحبها قد ذاق طعم الفراق، وعلم مرارته فذم طعم العلقم. و «ضعفت» كلام ضعيف في هذا الغرض جداً، و «أضعف الله» لو كان استوى له أن يقولها أحسن، وأبلغ من ضعفت. وعلى أنه كلام لا يشبه بعضه بعضاً، و «حواس» ههنا أحسن وأليق، وأشبه من «جوانح»؛ لأنه ذكر الطعم فكانت الحواس مع الطعم لفظاً يشبه لفظاً، ومعنى يشبه معنى، أو كان يقول لو استوى نظمه: «ضعفت جوانح من أحرقت نار الهوى جوانحه فذم حرارة النار، أو فوجد للنار حرارة». ومنهم من يجعل «ضعفت» خبراً، أي لقد ضعفت جوانح من ذاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 طعم الفراق فذم طعم العلقم، وليس بشيء، وأظنه لو استوى له ذكر «الحواس» في هذا البيت لما عدل عنه. وليس هذا البيت من الباب الذي نحن فيه، وإنما أوردته لأصل به البيت الذي بعده، وكلاهما رديء. ... وقال أبو تمام: الموت عندي والفرا ... ق كلاهما ما لا يطاق! (1) يتعاونان على النفو ... س فذا الحمام، وذا السياق لو لم يكن هذا كذا ... ما قيل: موت أو فراق وهذه أبياته المشهورة المتداولة في الفراق. ذكر أبو الحسن: علي بن يحيى المنجم أنه أخذ هذا المعنى من قول النمري (2): إن المنية والفراق لواحد ... أو توأمان تراضعا بلبان وليس هو عندي من دقيق المعاني التي يتهم آخر أنه أخذها من أول. ... ومما غرى الناس به من شعر أبي تمام في هذا المعنى قوله: البين جرعني نقيع الحنظل ... البين أثكلني وإن لم أثكل (3) ما حسرتي أن كدت أقضي إنما ... حسرات نفسي أنني لم أفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 قوله: «أثكلني» أي أثكلني من هويت، بمارقته إياي، وإن لم أثكل على الحقيقة بموته، ويكون أثكلني أي أثكلني أهلي، أي جعلني قد ثكلوني وإن لم أثكل على الحقيقة وهذا سائغ (1)؛ لأنه أراد قتل الحب الذي ليس بإتيان على النفس. وقوله: «ما حسرتي أن كدت أقضي» أي أهلك، وأتلف، «وإنما حسرات نفسي أنني لم أفعل»، أي لم أقض وأتلف، وهذا لفظ ومعنى في غاية الضعف والاختلال والرداءة (2). ثم وصل هذا القول بالمعنى الذي كان يفتخر به، وهو قوله: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول (3) كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل وكان أبو تمام يقول: أنا ابن قولي: نقل ... ويذكر البيت (4)، كما كان أبو نواس يقول: أنا ابن (5) قولي: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق (6) وكما كان مسلم بن الوليد يقول: أنا ابن قولي: تجود النفس إذ ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 وكما كان دعبل يقول: أنا ابن قولي: لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى (1) ... وقال البحتري: أما وفتور لحظك يوم أبقى ... تقلبه فتوراً في عظامي (2) لقد كلفتني كلفاً أعني ... به وشغلتني عما أمامي سيقتل في المسير إذا رحلنا ... عليل كان يمرض في المقام وحسبك بهذا حلاوة وحسناً. ومما أبر (3) فيه على إحسان كل محسن قوله: أيا سكناً فات الفراق بأنسه ... وحال التعادي دونه والتزيل (4) بكرهي رضا العذال عني وإنه ... مضى زمن كنت فيه أعذل (5) فلا تعجبا إن لم يغل جسمي الضنى ... ولم يخترم نفسي الحمام المعجل فمن قبل بان الفتح عني مودعاً ... وفارقني شفعاً له المتوكل (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 فما بلغ الدمع الذي كنت أرتجي ... ولا فعل الوجد الذي خلت يفعل وما كل نيران الجوى تحرق الحشا ... ولا كل أدواء الصبابة تقتل وقد كان قوم من الرواة يقولون: أجود الشعر أكذبه، ولا والله، ما أجوده إلا أصدقه، إذا كان له من يلخصه هذا التلخيص، ويورده هذا الإيراد على حقيقة الباب (1). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 ما قالاه في الغزل من أوصاف النساء ونعوتهن، وشدة الشوق، والتذكر، والوجد، والغرام وافتتح هذا الباب بما جاء عنهما من الابتداآت في هذه المعاني، وأبوبها أبواباً؛ لتصح الموازنة بينهما. ذكر ابتداآتهما بتشبيه النساء بالظباء والبقر قال أبو تمام: نوار في صواحبها نوار ... كما فاجاك سرب أو صوار (1) «نوار» اسم امرأة، «في صواحبها نوار» أي نفور، أي هي نفور في صواحبها، أي مع صواحبها، فجعلن جميعاً نوافر. «كما فاجاك سرب أو صوار»، فالسرب: الجماعة من الظباء ههنا، والصوار: الجماعة من بقر الوحش، أي فيها وفي صواحبها نفار كما تفاجئك الظباء والبقر فتراهن نوافرعنك. وإنما ذكر الظباء والبقر جميعاً لأن النساء يشبهن بهن في حسن عيونهن وفي قد تكون بمعنى مع، قال الجعدي: ولوح ذراعين في بركة ... إلى جؤجؤ رهل المنكب (2) أي مع بركة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وصدر هذا البيت ليس بجيد. وقال: مهاة النقا لولا الشوى والمآبض ... وإن محض الإعراض لي منك ماحض (1) الشوى: يريد القوائم، والمآبض: الأرفاغ (2)، والمهاة: البقر. يقول: أنت مهاة النقا لولا قوائمها فإنها ليست كقوائمك، وكذلك المآبض. وفي البقر أشياء أخر ليست في الناس منها القرون، والأذناب وسائر خلقها، وما هناك من الشبه غير العيون وإذا مشى النساء شبهن بالبقر. فلم يمكنه أن يقول: مهاة النقا لولا الشوى، والمآبض، والأظلاف، والقرون، والشعر، والجلد، وغير ذلك مما ليس في الإنسان. وإذا اقتصر الإنسان على بعض هذه الأشياء أجزأته، وإنما أخطر أبو تمام بباله قول الشاعر: فعيناك عيناها، وجيدك جيدها ... سوى أن عظم الساق منك دقيق (3) فلذلك قال: الشوى. وقوله: «والمآبض» عي منه ولكنه، وأراد القافية. وقوله: «وإن محض الإعراض لي منك ماحض»، أي أنا أجعلك كمهاة النقا، وأشبهك بها وإن أعرضت عني، وهو معنى ضعيف جداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وقد يجوز أن يكون أراد: لولا (1) الشوى والمآبض وأن محض الإعراض لي منك ماحض بفتح أن أي لولا أن محض الإعراض لي منك ماحض، يريد أن مهاة النقا لا تقصده بإعراض، ولا غير إعراض، وهذا أيضاً معنى ضعيف. ... وقال البحتري: دنا السرب إلا أن هجرا يباعده ... ولاحت لنا أفراده وفرائده (2) والسرب: القطيع من الظباء، والنساء، والقطا، وهو ههنا: النساء. وقوله: «لاحت لنا أفراده» أي أفراده في الحسن، جمع فرد. وفرائده درره، جمع فريدة، وهي الدرة، يريد نساء مفردات في الحسن ونساء كفرائد الدرر. وبعضهم يجعل الفرائد ههنا: الثغور. ... وقال أيضاً: عارضننا أصلاً، فقلنا: الربرب ... حتى أضاء الأقحوان الأشنب (3) الربرب: القطيع من بقر الوحش، أي فحسبنا هن من البقر؛ لشبههن بهن من جهة عيونهن. «حتى أضاء الأقحوان الأشنب» يريد ثغورهن، أي لما ابتسمن علمنا أن لسن بالبقر؛ لأن البقر لا يبسمن، ولا يبدو لهن سن إلا عند التثاؤب، أو الرعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 ونور الأقحوان من أشبه شيء بالثغر، والأشنب: البارد. وهذا الابتداء أجود من جميع ما مضى. ... وقد تصرف البحتري في الابتداآت بهذا المعنى تصرفاً حسناً فقال (1): إن الظباء غداة سفح محجر ... هيجن حر جوى، وفرط تذكر (2) وقال: هل فيكم من واقف متفرس ... يعدي على نظر الظباء الأنس (3) وقال: يشوقك تخويد الجمال القناعس ... بأمثال غزلان الصريم الكوانس (4) وقال: ما لذا الريم لا يرام اقتناصه ... وهو للقرب بين إفراصه (5) وقال: توهم ليلى وأظعانها ... ظباء الصريم وغزلانها (6) وقال: عند ظباء الرمل أوعينه ... قلب مشوق القلب محزونه (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وقال: رنو ذاك الغزال أو غيده ... مولع ذي الوجد بالذي يجده (1) وهذا كله من ذكر الظباء، غاية في حسنه، وصحته، وحلاوته، على اختلاف فنونه ومعانيه. ولست أعرف لأبي تمام غير البيتين الأولين في ذكر البقر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 ابتداآتهما بذكر الثغور قال أبو تمام: وثناك إنها إغريض ... ولآل توم، وبرق وميض (1) وهذا وصف حسن، وزاد حسنه وبهجته أنه جعله يميناً حلف بها. والإغريض: ما تنشق عنه الطلعة، وهو الضحك أيضاً. والتوم: حب يعمل من الفضة يشبه بالؤلؤ. وقد كان يكفيه أن يقول: و [لآل] (2) ولكنه احتاج إلى توم. ... وقال البحتري: يضحكن عن برد ونور أقاح ... ويشبن ظلم رضابهن براح (3) وقال أيضاً: أضواء برق بدا، أم ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي (4) وقال أيضاً: بعينيك ضوء الأقحوان المفلج ... وتفتير عيني فاتر اللحظ أدعج (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وقال أيضاً: تبسم عن واضح ذي أشر ... وتنظر من فاتر ذي حور (1) شبه أبو تمام في بيته الثغر بثلاثة أشياء: بالإغريض، ولؤلؤ التوم، والبرق. وشبهه البحتري بالبرد، والأقاحي في صدر البيت، وكلا الصدرين جيد. ولو كان أبو تمام قال: «وجنى لؤلؤ وبرق وميض» لفضلت بيته. وجنى لؤلؤ: هو (2) اللؤلؤ الرطب، ولكن قوله: «ولآل توم» ليس بالجيد. ... فاجعلهما في البيتين متكافئين، وسائر أبيات البحتري فضل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 ابتداآتهما بذكر البكاء والدموع قال أبو تمام: لو صحح الدمع لي، أو ناصح الكمد ... لقلما صحباك الخد والكبد (1) وهذا بيت صالح، وليس بالجيد، ولم يستو له أن يقول: العين والكبد؛ لأنهما مؤنثتان فكان يقول: صحبتاك، فجعل مكان العين الخد؛ لأنه مذكر، ولأن كثرة البكاء تؤثر فيه، وتذهب بلحمه، وذهاب العين بالبكاء أخص من ذهاب الخد. ولو قال: «صحباك العين والكبد» لكان ذلك سائغاً وإن كانتا مؤنثتين؛ لأن هذا يجوز فيما ليس لتأنيثه حقيقة. ولأبي تمام في باب الفراق والتوديع من الابتداآت بذكر البكاء والدمع، كل شيء جيد نادر، وقد مضى في بابه. ... وقال البحتري: شوق إليك تفيض منه الأدمع ... وجوى عليك تضيق عنه الأضلع (2) وهذا من مشهور أبياته في الحسن والجودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وقال أيضاً: يكاد يبدي لسعدي غيب ما أجد ... تحدر من دراك الدمع مطرد (1) وهذا معنى حلو حسن. وقال أيضاً: لأخي عبرة ما تجف ... وغرام يدوي الحشا، ويشف (2) وقال أيضاً: تعود عوائد الدمع المراق ... على ما في الصدر من احتراق (3) وقال أيضاً: دموع عليها السكب ضربة لازم ... تجدد من عهد الصبا المتقادم (4) وقال أيضاً: أدمع قد غرين بالهملان ... وفؤاد قد لج في الخفقان (5) وقال أيضاً: بعينك لوعة القلب الرهين ... وفرط تتابع الدمع الهتون (6) وقال أيضاً: تذكر محزون، وأنى له الذكرى ... وفاضت بغزر الدمع مقلته العبرى (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وقال أيضاً: بأي أسى تثني الدموع الهوامل ... ويرجى زيال من جوى لا يزايل (1) وهذه كلها ابتداآات جياد، وأجود منها ومن كل ابتداء في هذا الباب وغيره بذكر البكاء والدمع قوله: قلب مشوق عناه البث والكمد ... ومقلة تبذل الدمع الذي تجد (2) وقد ذكرته في باب الفراق (3)، وهذا موضعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 ابتداآتهما بذكر السهر وطول الليل ولا أعرف في وسط كلامهما من هذا الباب شيئاً يعتد بمثله كنحو ما جاء في الشعر القديم والمحدث. وقال أبو تمام: أفنى، وليلي ليس يفنى آخره ... هاتا موارده فأين مصادره؟ (1) وهذ ابتداء حسن وكلام حسن سجسج (2)، ومعنى جيد بالغ. وقد أخذ البحتري معنى هذا الصدر فوقع دونه فقال: له الويل من ليل بطاء أواخره ... ووشك نوى حي تزم أباعره (3) وقد ذكرته في ابتداآت باب الفراق (4). ... وقال البحتري: هو الظلام فلا صبح ولا شفق ... هل يطلق الليل عن عيني فأنطلق (5) عجز هذا البيت في غاية الصحة والبراعة والحسن والحلاوة، ولكن قوله: «والظلام فلا صبح» معنى [غير] صحيح؛ لتوقعه الصبح وهو مبطيء متأخر فما وجه قوله: ولا شفق، لأن من كان في الليل فإنما يتوقع الصبح ولا يتوقع الشفق، وأظنه أراد نحن في ظلام ولسنا في أول نهار ولا آخره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وقال أيضاً: أبى الليل إلا أن يعود بطوله ... على عاشق نزر المنام قليله (1) وقال: ليلي بذي الأثل عناني تطاوله ... أرى به مقبلاً قرناً أنازله (2) وقال أيضاً: ترى الليل يقضي عقبة من هزيعه ... أو الصبح يجلو غرة من صديعه (3) هذه أبيات كلها جيدة المعنى، بارعة اللفظ، حسنة السبك، كثيرة الماء والرونق. وهذا البيت الأخير أجودها وأبرعها. وقال أيضاً: أيها العاتب الذي ليس يرضى ... نم هنيئاً فلست أطعم غمضا (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 باب آخر من الابتداآت قال أبو تمام: متى أنت عن ذهليه الحي ذاهل ... وصدرك منها مدة الدهر آهل (1) قوله: «ذاهل» أي منصرف، يقال: ذهلت عن الشيء بمعنى انصرفت عنه، فيقول: متى أنت عنها منصرف، وصدرك أبداً منها آهل؟ أي لا تخلو أبداً من قلبك. وقال البحتري: ضمان على عينيك أني لا أسلو ... وأن فؤادي من جوى بك لا يخلو (2) فعجز هذا البيت مثل عجز [بيت] (3) أبي تمام، وهو أجود؛ لتصريحه بذكر الجوى. وصدرا البيتين (4) مقاربان، وبيت البحتري أجود وأبرع. وقال البحتري: هواها على أن الصدود سبيلها ... مقيم بأكناف الحشا ما يزولها (5) وهذا البيت أيضاً أجود من بيت أبي تمام لفظاً ومعنى. وقال في نحو هذا: أأفاق صب من هوى فأفيقا ... أو خان عهداً، أو أطاع شفيقا؟ (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وقال أيضاً: أراد سلواً عن سليمى وعن هند ... فغالبه غي السفاه على الرشد (1) وقال: سواي مرجى سلوة، أو مريدها ... إذا واقدات الحب حب خمودها (2) وهذا كله غاية في الحسن والجودة. وقد تصرف البحتري في باب الوجد والغرام وشدة الحب في ابتداآته تصرفاً حسناً، فمن ذلك قواه: حاشاك من ذكرى ثنته كئيبا ... وصبابة ملأت حشاه ندوبا (3) وقال أيضاً: حقاً أقول: لقد تبلت فؤادي ... وأطلت مدة غيي المتمادي (4) وقال أيضاً: ناهيك من حرق أبيت أقاسي ... وجروح حب ما لهن أواس (5) وقال أيضاً: أتراك تسمع للحمام الهتف ... شجواً يكون كشجوي المستطرف (6) وقال أيضاً: يهون عليها أن أبيت متيماً ... أعالج وجداً في الضمير مكتما (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وقال أيضاً: غرام ما أتيح من الغرام ... وشجو للمحب المستهام (1) وقال أيضاً: أنافع عند ليلى فرط حبيها ... ولوعة لي أبديها وأخفيها (2) وقال أيضاً: قليل لها أني بها مغرم صب ... وأن لم يقارف غير وجد بها القلب (3) أراد: قليل لها غرامي بها وصبابتي وإن لم أهو غيرها، ولا وجه لكسر أن الثانية. فانظر إلى هذا التصرف الحسن، والألفاظ المختلفة في المعاني المتقاربة. ولا أعرف لأبي تمام في هذا كله شيئاً. ... ومما افتتحه البحتري بالهجر قوله: نصيبي منك لوم العاذلات ... وهجران أطلت به أذاتي (4) وقال أيضاً: شد ما أغريت ظلوم بهجري ... بعد وجدي بها وغلة صدري (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وقال أيضاً: خير يوميك في الهوى واقتباله ... يوم يدنيك من وصاله (1) وقال أيضاً: لج هذا الحبيب في هجرانه ... وغدا والصدود أكبر شانه (2) وقال أيضاً: لي حبيب قد لج في الهجر جداً ... وأعاد الصدود منه وأبدى (3) وقال أيضاً: طاف الوشاة به فصد وأعرضا ... وغلا به هجر أمض وأرمضا (4) وقال أيضاً: متى وصل منك ومنك هجر ... وفي ذل، وفيك كبر (5) ... وليس لأبي تمام في هذا النحو شيء إلا قوله: خشنت عليه أخت بني خشين ... وأنجح فيك قول العاذلين (6) وهذا بتداء رديء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 ومما جاء في ابتداآته في ذكر العيون قال البحتري (1): تريك الذي حدثت عنه من السحر ... بطرف عليل اللحظ مستغرب الفتر (2) وقال أيضاً: غال صبري أما سألت بصبري ... ما بعينيك من فتور وسحر (3) وقال أيضاً: ما بعيني هذا الغزال الغرير ... من فتون مستجلب من فتور (4) وقال أيضاً: ومهتزة الأعطاف نازحة العطف ... منعمة الأطراف فاترة الطرف (5) وقال أيضاً: سطا فما يأمنه خله ... أغيد ساجي الطرف معتله (6) وقال أيضاً: فتور العيون وإمراضها ... نبو الجنوب وإقضاضها (7) وهذا كله جيد حسن عذب. وليس لأبي تمام في معناه شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وقال أيضاً: لوت بالسلام بناناً خضيباً ... ولحظاً يشوق الفؤاد الطروبا (1) عهدت بعض الشيوخ يكره قوله: «لوت»، ويقول: كان ينبغي أن يقول: أشارت، أو أومأت، أو نحو هذا، وكان بعضهم يحتج له ويقول: لم يمكنه ذاك في نظم البيت. والذي أظنه أنا أنه أومأ إليها بالسلام فردت عليه والسلام الأول يشار فيه بمد الإصبع على استقامة، والرد: فمن الناس من يرد بمد الإصبع على استقامة أيضاً، ومنهم من يفتلها ويلويها كأنه يقول بإصبعه: وعليك، فيلويها إذا أراد هذا المعنى، وذلك مما نراه أبداً مشاهدة، ونفعله. وقد ذكر البحتري لي البنانة في موضع آخر فقال: إن الفراق جلا لنا عن غادة ... بيضاء تجلو عن شتيت أشنب (2) ألوت بموعدها القديم، وأيأست ... منه بلي بنانة لم تخضب (3) فدل هذا على مثل ذاك، وإن كان المعنيان مختلفين في أنها لم تمد إصبعها مشيرة بها على استقامة كما يشير المبتديء بالسلام، وإنما ألوت إصبعها في الإشارة إليه إما يمنة أو شأمة بمعنى تنح عنا، أو اعدل عنا؛ فليس إلى ما التمست سبيل. وفي البيت سؤال آخر وهو قوله: «لم تخضب» ومن شأنهم أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 يصفوا بنان المرأة بالخضاب نحو قول الشاعر: ويبدي الحصى منها إذا قذفت به ... من البرد أطراف البنان المخضب وقول الراعي: * حمر الأنامل عين طرفها ساج * ومثله كثير (1)، وعليه مذاهب الناس. ولا نعلم أحداً شرط في البنان أنه غير مخضوب غير البحتري في هذا البيت، وإنما يذكرون الخضاب أو لا يذكرونه. وما أظن البحتري قال هذا عياً ولا جزافاً ولا قاله إلا أن البنانة لم تكن مخضوبة، فوصف الحال على مذاهب الناس ومذهبه في وصف الشيء على ما هو؛ لأن هذا إذا أورده على ما هو لم تك فائدة، فأقول: إنه قد يجوز أن يكون (2) والله أعلم ذهب إلى أحد معنيين: إما أن يكون خطر بباله عند نظم البيت قول الشاعر: وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين (3) فقال هو: «وأيأست منه بلي بنانة لم تخضب»؛ لأن المرأة لا عهد لها مخضوبة البنان كانت أو غير مخضوبة؛ ألا ترى إلى قوله بعد هذا: وأرت العهود الغانيات صبابتي ... آلاً جرى، ووميض برق خلب (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 فدلك هذا على أنه خطر ذلك البيت بباله فذهب إلى ذلك المعنى. أي من كان يذم عهد مخضوبة البنان فهذه غير مخضوبة وأنا أذم عهدها أيضاً، فهذا المعنى -إن شاء الله- جيد لائق. والمعنى الآخر: أن يكون أراد أنها عزفت عن الصبا، وتركت الزينة؛ لأنه قال: «ألوت بموعدها القديم»، فدل على أنه إنما انتجزها موعداً قديماً وأن حالها الآن غير تلك الحال. وهذا أيضاً وجه قوي دقيق، وكأنه أولى من المعنى الأول بالصواب، والله أعلم. قوله: «ولحظاً يشوق الفؤاد الطروبا» بالنصب (1) إنما أراد ألوت بالسلام بناناً خضيباً، ولحظت لحظاً يشوق الفؤاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 ومن ابتداآت البحتري في التشوق قال: أقيم على التشوق أم أسير ... وأعدل في الصبابة أم أجور؟ (1) وقال أيضاً: شوق له بين الأضالع هاجس ... وتذكر للصدر منه وساوس (2) وقال أيضاً: عهد المشوق بوصل الأنس الخرد ... يكاد يشرك نجم الليل في البعد (3) وقال أيضاً: لبيت فيك الشوق حين دعاني ... وعصيت نهى الشيب حين نهاني (4) وقال أيضاً: أما لعيني كليم الهم تغميض ... أم الكرى عن جفون العين مرحوض (5) وقال أيضاً: يبيت له من شوقه ونزاعه ... أحاديث نفس أوشكت من زماعه (6) أي أسرعت من إزماعه على الرحيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وقال أيضاً: شوق إليك تفيض منه الأدمع ... وجوى عليك تضيق عنه الأضلع (1) وقد مر هذا البيت في باب البكاء والدمع (2) ... وهذه كلها ابتداآت جياد لفظاً ومعنى. ولا أعرف لأبي تمام في نحو هذا شيئاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وفي ابتداآت البحتري في معان شتى وهي كثيرة قال: رأى البرق مجتازاً فبات بلا لب ... وأصباه من ذكر البخيلة ما يصبي (1) وقال أيضاً: أخفي هوى لك في الضلوع وأظهر ... وألام من كمد عليك وأعذر (2) وقال أيضاً: يزداد في غي الصبا ولعه ... فكأنما يغريه من يزعه (3) وقال أيضاً: بودي لو يهوى العذول ويعشق ... فيعلم أسباب الهوى كيف تعلق (4) وقال أيضاً: أجرني من الواشي الذي جار واعتدى ... وغابر حب غار بي ثم أنجدا (5) وقال أيضاً: بالله أولى يميناً برة قسما ... ما كان ما زعم الواشي كما زعما (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وقال أيضاً: تغير أوحال عن عهده ... وأضمر غدراً ولم يبده (1) وقال أيضاً: جائز في الحكم لو شاء قصد ... أخذ النوم وأعطاني السهد (2) ... مضت الابتداآت بأنواع الغزل. وأنا أذكر الآن ما جاء عنهما من أوصاف الغزل في وسط الكلام، وأتلقط ذلك من باب الفراق والتوديع، وسائر أبواب التشبيب (3)؛ ليكون كل نوع من أنواع الوصف في باب واحد لا في أبواب متفرقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 ذكر ما قالاه في الجمال والبهجة وحسن الوجوه وتشبيه النساء بالشموس، والبدور، والنجوم، وغير ذلك قال أبو تمام: لحقنا بأخراهم وقد حوم الهوى ... قلوباً طيرها وهي وقع فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع نضا ضوؤها صبغ الدجنة وانطوى ... لبهجتها ثوب السماء المجزع (1) فوالله ما أدري أأحلام نائم ... وتشعب أعشار القلوب وتصدع (2) وأقرع بالعتبى حمياً عتابها ... وقد تستقيد الراح حين تشعشع؟ وتقفو لي (3) الجدوى بجدوى وإنما ... يروقك بيت الشعر حين يصرع قوله: «حوم الهوى قلوباً» أي هيجها الشوق وكانت طيرها ساكنة. يريد أن ظعنهم هيج الشوق بعد سكونه والدار جامعة. و «ثوب السماء المجزع» يريد طمس نورها نور الكواكب التي هي نقش السماء، كالجزع نقط البياض. و «يوشع» يريد يوشع بن نون، قيل: إن الشمس ردت له، في قصة تؤثر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وقوله: «تحيي الهوى» أي بهجرها، و «تميته» بوصلها ونائلها، كما قال جرير: فلما التقى الحيان ألقيت العصا ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله (1) أي لما أصيبت مقاتله بالاجتماع. «وتشعب أعشار الفؤاد» (2) تضمها، وتلائم بينها، وأعشاره: أجزاؤه من قول امريء القيس * «في أعشار مقتل» * (3) وإنما قيل أعشار؛ لأن العشرة نهاية في كل شيء من العدد، واحدها عشر، فإنما أراد جميع القلب. وقوله: «تصدع»، أي تشق، يريد (4) تلائم بين أجزائه مرة، وتفرق مرة أخرى بينها، مثل قوله: «تحيي الهوى وتميته». وقوله: «وأقرع بالعتبى حميا عتابها»، أي أعتب إذا عاتبت، وأنتهي إلى ما فيه رضاها، فجعل شدة غضبها عند العتاب حميا كحميا الخمر، وهي شدتها، وجعل العتبى التي تكون منه حتى يزول غضبها قرعاً كقرع الخمر بالماء حتى تلين. وقوله: «وقد تستقيد الراح حين تشعشع»، أي وهي مع أني كسرت غضبها وقمعته يقهرني حبها، ويغلبني سكر هواها، ويملكني كما تستقيد الراح فتصرع بالسكر من يقرعها بالمزاج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وهذه كلها معان صحيحة مستقيمة، واستعارت لائقة بما استعيرت له. فأما قوله: وتقفو لي الجدوى بجدوى وإنما ... يروقك بيت الشعر حين يصرع فلفظ حسن حلو، ولكنه مثل شيئاً بشيء كان غيره بالتمثيل أليق، وذلك لما قال: «وتقفو لي الجدوى» كان سبيله أن يقول: وإنما يبل الغليل العلل بعد النهل، أو ما كان أشبه هذا وقاربه؛ لأن الجدوى هو نائل المرأة، وليست من حظوظ السمع فيمثل بها بيت الشعر المصرع الذي إنما يروق السمع فقط. ولست أقول إنه أخطأ، ولكن ليس بالجيد اللائق، والجيد فيه قول البحتري: فإن تتبع النعمى بنعمى فإنه ... يزين اللآليء في النظام ازدواجها (1) فجعل اللآليء التي هي فرائد تحصل في اليد والعين والنفس مثالاً لنعمة المنعم وليس للأذن ههنا ولا هناك حظ. ... وقال أبو تمام: عطفوا الخدود على البدور ووكلوا ... ظلم الستور بنور حور نهد (2) وثنوا على وشي الخدود صيانة ... وشي البرود بمسجف وممهد (3) البيت الأول حسن حلو، وأخذ قوله: «وثنوا على وشي الخدود صيانة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وشي البرود» من قول الكميت: وأدنين البرود على خدود ... يزين الفداغم بالأسيل أراد بالفداغم: الخدود اللحيمة، أي يزينها بأسالة خدودهن، أو أن يكون أراد بالفداغم المواضع الممتلئة من الجسد بالشحم، فيزين ما كان ممتلئاً بأسالة خدودهن، وهذا غير حسن، والأول أشبه بلفظ البيت. ومعناه أيضاً غير جيد؛ لأن الخد الأسيل إذا اقترن بالخد اللحيم قبحه وشانه ولم يزنه؛ لبيان فضله عليه، وقد ذكرت هذا في أغاليطه مشروحاً (1). ... وقال أبو تمام: وفي الخدور مهاً لو أنها شعرت ... به طغت فرحاً، أو ألبست أسفا (2) لآليء كالنجوم الزهر قد لبست ... أبشارها صدف الإحصان لا الصدفا من كل خود دعاها البين فابتكرت ... بكراً ولكن غدا هجرانها نصفا (3) لا أظلم النأي قد كانت خلائقها ... من قبل وشك النوى عندي نوى قذفا غيداء جاد ولي الحسن سنتها ... فصاغها بيديه روضة أنفا (4) مصقولة سترت عنا ترائبها ... قلباً بريئاً يناغي ناظراً نطفا (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 (1) قوله: «صدف الإحصان لا الصدفا» ليس بالجيد؛ لأنه قال: قد لبست صدف الإحصان، فأراك أنها لابسته في الحال. وقوله: «لا الصدفا» ليس له وجه؛ لأن اللؤلؤ قد فارق الصدف وليس هو لابسه في الحال. والجيد الصحيح المعنى قول البحتري: إذا نضون شفوف الريط آونة ... قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا (2) شبه أجسامهن في وقت تجردهن من الثياب، باللؤلؤ في الوقت الذي يقشر عنه الصدف. والعذر لأبي تمام أن يقال: إنما أراد أنها خلقت لابسة صدف الإحصان لا الصدف، أي ليست كاللؤلؤ الذي خلق في الصدف. وبيت البحتري أجود. وقول أبي تمام: «صدف (3) الإحصان» معنى لطيف. وقوله: «لو شعرت به» أي لو شعرت بشدة وجده طغت فرحاً، أو «ألبست أسفاً على ما فات منه» وهذه طريقة ابن أبي ربيعة التي كانت تليق به، ومع ذلك يعاب بها. وهذه أبيات متكلفة، وخاصة قوله: «فابتكرت بكراً ولكن غدا هجرانها نصفا» فإنه غير شهي، ولا مريء اللفظ، ولا المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 . ولله در أبي عبادة إذ يقول على هذا الوزن: وفي الخدور بذور قلما طلعت ... إلا تصرم ضوء البدر أو كسفا مقسومة بين أرداف مبتلة ... تدعو الهوىن وخصور أرهفت قصفا قد كنت أشكو تمادي حبها حدثاً ... فالآن أطمع في إنصافها نصفا (1) أكاد من كلف أعطي الحمام يداً ... إذا الحمام على أغصانه هتفا ما باشر النار مشبوباً تضرمها ... من لم يضف تحت أحناء الحشا كلفا (2) أراجع من شبابي قيض مبتذل ... لو أنفقته في لبانات الصبا سرفا لله أيامنا ما كان أحسنها ... لو أن دهراً تولى ذاهباً وقفا لا تكذبن فما الدنيا براجعة ... ما فات من لذة الدنيا وما سلفا ... وقال أبو تمام: ورفيقة اللحظات يعقب رفقها ... بطشاً بمغتر القلوب عنيفا (3) حزن الصفات روادفاً وسوالفاً ... ومحاجراً ونواظراً وأنوفا (4) كن البدور الطالعات فأوسعت ... منا أفولاً بالنوى وكسوفا (5) آرام حي زعزعتهم نية ... تركتك من خمر الفراق نزيفا كانوا رداء زمانهم فتصدعوا ... فكأنما لبس الزمان الصوفا (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وهذه معان جيدة لائقة إلا قوله: «لبس الزمان الصوفا»؛ فإن الناس جميعاً استهجنوه، ولو كان اعتمد إن لا يترك قافية على الفاء إلا أوردها لما كلن ينبغي أن ذكر الصوف وخاصة على هذا الوجه. ... وقال البحتري: إن في السرب لو يساعفنا السر ... ب شموساً يمشين مشياً وئيدا (1) يتدافعن بالأكف ويعرضـ ... ـن علينا عوارضاً وخدودا يتبسمن عن شتيت أراه ... أقحواناً مفصلاً أو فريدا رحن والليل قد أقام رواقاً ... فأقمن الصباح فيه عمودا بفتاة مثل المهاة أبت ... أن تصل الوصل، أو تصد الصدودا (2) ذات حسن لو استزادت من الحـ ... ـسن إليه لما أصابت مزيدا فهي الشمس بهجة، والقصيب الـ ... ـغض ليناً والرئم! طرفاً وجيدا وحسبك بهذا حسناً، وصحة، وجودة، وخاصة هذا البيت الأخير وما جمع فيه من التشبيه بأبرع لفظ، وأحلى سبك، ولكن أفسده بقوله: «أبت أن تصل الوصل، أو تصد الصدودا»، [وإنما علقه من أبي تمام] (3). ... وقال أبو تمام: سلبنا غطاء الحسن عن حر أوجه ... تظل للب السالبيها سوالبا (4) وجوه لو أن الأرض فيها كواكب ... توقد للساري لكانت كواكبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وهذا معنى قديم متداول، وأحسن ما قيل فيه قول مزاحم العقيلي: وجوه لو أن المدلجين اعتشوا بها ... صدعن الدجى حتى ترى الصبح ينجلي (1) وهذا كثير. وقال البحتري: كالبدر إلا أنها لا تجتلى ... والشمس إلا أنها لا تغرب (2) فجاء بمعنى آخر فيه سؤال؛ وذلك أنه لما قال: «كالبدر إلا أنها لا تجتلى» كان هذا من أحسن معنى وألطفه؛ لأن عيون الناس كلهم ترى البدر وتجتليه، وهي لا تراها العيون، ولا تجتلى [ثم قال: «والشمس إلا أنها لا تغرب» وإنما قال لا تجتلى] (3) لأنها (4) محجوبة، وإذا كانت في حجاب فهي في غروب؛ لأن الشمس إذا غربت فإنما تدخل تحت حجاب، فظاهر المعنى: كالبدر إلا أن العيون لا تراها، والشمس إلا أن العيون لا تفقدها، وظاهر هذا (5) القول -كما تراه- متناقض، وأظنه أنه أراد أنها وإن كنت في حجاب فإنه لا يقال غربت تغرب كما يقال للشمس، وإنما يقال لها إذا سافرت: بعدت، واغتربت، وغربت إذا توجهت نحو الغرب. وقد يقال للرجل اغرب عنا أي ابعد، ولو استعار لها اسم الغروب عن الأرض التي تكون فيها إذا ظعنت عنها إلى أرض أخرى، كان ذلك حسناً جداً، لا سيما وقد جعلها شمساً، كما قال إبراهيم بن العباس الصولي: وزالت زوال الشمس عن مستقرها ... فمن مخبري في أرض غروبها (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وقد يجوز أن يقول قائل: أنه أراد أنها لا تغرب تحت الأرض كما تغرب الشمس، وهذه معاذير ضيقة لأبي عبادة، فإن لم يك قد أخطأ فقد أساء [وإن لم يكن قد أساء فما أحسن] (1) ... وقال أبو تمام: قالت وقد أعلقت كفي كفها ... حلا وما كل الحلال بطيب (2) فنعمت من شمس إذا حجبت بدت ... من نورها فكأنها لم تحجب وهذا معنى حسن، وقد تقدم الناس فيه وأكثروا. قال قيس بن الخطيم: قضى لها الله حين صورها الـ ... ـخالق أن لا يكنها سدف (3) وأجود من هذا قول جرير: كأنها مزنة غراء رائحة ... أو درة لا يواري ضوءها الصدف (4) ووصل أبو تمام ذلك بأن قال: وإذا رنت خلت الظباء ولدنها ... ربعية، واسترضعت في الربرب إنسية إن حصلت أنسابها ... جنية الأبوين ما لم تنسب قوله: «ربعية» يريد أنها ولدت في الربيع أول النتاج فهي أحسن ما تكون وأقوى، «واسترضعت في الربرب» والربرب: القطيع من [بقر] (5) كأنه يؤكد حسن عينها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وقوله: إنسية إن حصلت أنسابها ... جنية الأبوين ما لم تنسب فيه سؤال وهو أن يقال: قوله: «جنية الأبوين» هو كقوله: تممية الأبوين، أو قرشية الأبوين، وهذا أصح ما يكون من النسب، فكيف يقول: ما لم تنسب؟، والنسب إلى الجن كالنسب إلى الإنس، فكما تقول: إنسي فكذلك تقول: جني، فكيف يكون ذلك نسباً، وهذا غير نسب. فالجواب أنه أراد إن حصل نسبها فقيل فلانة بنت فلان من بني فلان علم أنها من الإنس، وإن أبصرها المبصر ولم يسأل عن نسبها ظن أنها من الجن من فرط حسنها الزائد على حسن الإنس المعهود، فإنما قال: «ما لم تنسب» أي ما لم ننسبها (1) إلى آبائها من الإنس، وقال المؤمل بن إميل المحاربي (2): جنية أو لها جن يعلمها ... رمي القلوب بسهم ماله وتر وأحسن في هذا كل الإحسان؛ لأن الرمي عن غير وتر ليس من رمي الإنس وقال بشار (3): إنسية .............. جنية ... أو فوق ذاك أجل قدرا فجعلها لحسنها فوق الإنس والجن. وقال حسان: جنية أرقني حبها ... تذهب صبحاً وترى في المنام (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 فأما قول الشنفرى: * فلو جن إنسان من الحسن جنت (1) * فإني أظنه أراد: لو عرضت الجن لأحد من حسنه عرضت لها، وقد قيل فيه غير شيء، وكله رديء، وليس مثله يذكر. ... وقال أبو تمام: أين التي كانت إذا شاءت جرى ... من مقلتي دمع يعصفره دم (2) بيضاء تسري في الظلام فيكتسي ... نوراً وتبدو في الضياء فيظلم (3) يستعذب الرعديد فيها حتفه ... فتراه وهو المستميت المعلم (4) مقسومة في الحسن بل هي غاية ... فالحسن فيها والجمال مقسم ملطومة بالورد أطلق طرفها ... في الخلق فهو مع المنون محكم قوله: «بيضاء تسري في الظلام فيكتسي نوراً» هو مذهب الناس نحو قول امريء القيس: تضيء الظلام بالعشاء كأنها ... [منارة ممسى راهب متبتل] (5) وقول مزاحم: «صدعن الدجى» وأشباه هذا. وقوله: «تبدو في الضياء فيظلم» يريد أن نورها يغلب على ضوء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 النهار حتى يصير كأنه مظلم، وهذا أيضاً معروف، من قولهم: لو برزت للشمس لكسفتها، والنهار عند نور وجهها ليل، وأشباه هذا. وقال في موضع آخر: ولهت فأظلم كل شيء دونها ... وأضاء منها كل شيء مظلم (1) فقوله: «أظلم كل شيء دونها» ليس من هذا الباب، وإنما أراد أن أمر الفراق أولهها فأظلمت الأشياء في عينها؛ لعظم ما ورد عليها. وهذا مثل قول الشاعر، وأنشد أبو تمام في الحماسة: نعى لي أبا المقدام فاسود منظري ... من الأرض واستكت علي المسامع (2) قوله: و «أضاء منها كل شيء مظلم» مثل قوله: «تبدو في الظلام فيكتسي نوراً». وقوله: «مقسومة في الحسن» أي محظوظة منه، كأنها قد قسم لها منه، والقسم: النصيب. وقوله: «ملطومة بالورد» يريد حمرة خدها، فلم يقل: مصفوعة بالقار، ويريد سواد شعرها، ومخبوطة بالشحم يريد امتلاء لجسمها، ومضروبة بالقطن يريد بياضها، إن هذا لأحمق ما يكون من اللفظ، وأسخفه، وأوسخه. وقد جاء مثل هذا في كلام العرب ولكن على وجه حسن، قال النابغة: وقذوفة بدخيس اللحم بازلها ... [له صريف صريف القعو بالمسد] (3) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 يريد أنها قذفت بالشحم، أي كأنه رمي على جسمها رمياً. وإنما ذهب أبو تمام إلى قول أبي نواس: «وتلطم الورد بعناب» (1) وهذه كانت تلطم على الحقيقة في مأتم على ميت بأنامل مخضوبة الأطراف، فجعلها عناباً تلطم به ورداً، فأتى بالظرف كله، والحسن أجمعه، والتشبه على حقيقته. وجاء أبو تمام بالجهل على وجهه، والحمق بأسره، والخطأ بعينه. ... وقال: ومقدودة رود تكاد تقدمها ... أصابتها بالعين من حسن القد (2) تعصفر خديها العيون بحمرة ... إذا وردت كانت وبالاً على الورد إذا زهدتني في الهوى خيفة الردى ... جلت لي عن وجه يزهد في الزهد قوله: «من حسن القد» بضم السين، من أقبح لفظة وأهجنها. ومثل قوله: * «أعرضت عن الإعراض» * (3) وهذا إذا سمعه الأعراب ضحكوا منه، بل الجيد قوله: لولا العيون وتفاح الخدود إذا ... ما كان يحسد أعمى من له بصر (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وأول هذه القصيدة: يا هذه أقصري ما هذه بشر ... ولا الخرائد من أترابها الأخر (1) خرجن في خضرة كالروض ليس لها ... إلا الحلي على أعناقها زهر بدرة حفها من حولها درر ... أرضى غرامي فيها دمعي الدرر صب الشباب عليها وهو مقتبل ... ماء من الحسن ما في صفوه كدر قوله: «خرجن في خضرة» فإن الخضرة ليست من ألوان ثياب نساء البادية ولا من صبغ نساء الأمصار إلا في الفرط، لا يلبس إلا أن يكون أصل لون الثوب أخضر. وقد جعل (2) أبو تمام جميع لباس هؤلاء النسوة الأخضر، وشبهه بالروض من أجل تشبيهه الحلي بالزهر، وهو نبت حسن، وغرضه في ذكر الخضرة غرض صحيح إلا أنه غير معروف. ... وقال البحتري: واخضر موشى البرود وقد بدا ... منهن ديباج الخدود المذهب (3) ذكر الخضرة لأنه لم يجد لوناً غيرها؛ وذلك أن البياض ليس مما توصف به ثياب النساء، والسواد ثياب الحزن والمصائب، وقد جعل خدودهن ديباجاً مذهباً، والذهب يشتمل على لون الحمرة، والصفرة، والتوريد هو من ألوان الخد، والكحلي لا يلفظ به، والعرب لا تذكره في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 الألوان، وكذلك الأزرق لا تستعمله إلا في صفة الماء والصبح، ويقولون: عدو أزرق، أي حديد النظر، وسنان أزرق أي حديده، ولم يبق من الألوان ما يخالف لون الخدود المذهبة كما قال إلا الخضرة، فهذا وجه ذكر البحتري الخضرة؛ لأنه لو قال: واحمر موشى الخدود وقد بدا ... منهن ديباج الخدود المذهب لكان مدحاً بلونين متفقين. ... وقال البحتري: هز منها شرخ الشباب فجالت ... فوق خصر كثير جول الوشاح (1) وأرتنا خداً يراح له الور ... د ويشتمه جنى التفاح وشتيتاً يغض من لؤلؤ النظـ ... ـم ويزري على شتيت الأقاحي فأضاءت تحت الدجنة للشر ... ب وكادت تضيء للمصباح وأشارت على الغناء بألحا ... ظ مراض من التصابي صحاح فطربنا لهن قبل المثاني ... وسكرنا منهن قبل الراح قد تدير الجفون من عدم الألـ ... ـباب ما لا يدور في الأقداح قوله: «فجالت فوق خصر» كلام حسن. وقوله: «يراح له الورد» حسن أيضاً. وقول أبي تمام: «كانت وبالاً على الورد» أحسن منه وألطف، وأشبه بما يستعمل في هذا المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وقوله: «ويشتمه جنى التفاح» ليس بالجيد، بل هو رديء؛ لأنه لا يدخل في الاستعارة أن يشتم التفاح خدها، ولكنه يحمل على أن لو كان مما يشتم لاشتم خدها، أو لو كان الورد مما يراح لراح له. و «يراح» أسهل من «يشتم». وهذا مثل قول [عوف بن عطية] (1) بن الخرع: لها حافر مثل قعب الوليد ... يتخذ الفأر فيه مغارا (2) والفأر لا تتخذ في الحافر مغاراً، وإنما قال ذلك لعظم الحافر، ومثله أيضاً قولهم: جاء بجفنة يقعد فيها خمسة، وإنما أراد لو قعدوا فيها لو سعتهم. وهذا على كل حال أقرب من استعارة البحتري. وقوله: «وشتيتاً يغض من لؤلؤ النظم» بيت في غاية الجودة، والصحة، والبراعة. وكذلك قوله: «وكادت تضيء للمصباح» وهو أجود من قول أبي تمام: «وتبدو في الضياء فيظلم»، وأوضح وأليق، وأشد مبالغة في الضوء. ... وقال (3) البحتري: وبنفسي مستغرب الحسن فيه ... حيد عن محبه ونفار (4) فاتر الناظرين ينتسب الور ... د وجنتيه والجلنار (5) مذنب يكثر التجني فمنه الذ ... نب ظلماً ومني الاعتذار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وهذا من قول المؤمل بن أميل المحاربي: * وتذنبون فنأتيكم فنعتذر (1) * وقال البحتري: وقد نهيت فؤادي لو يطاوعني ... عن ذي دلال غريب الحسن مفرده (2) عن حب أحوى أسيل الخد أبيضه ... ساجي الجفون كحيل الطرف أسوده مثل الكثيب تعالى في تراكمه ... مثل القضيب تثنى في تأوده فجعل الخد ههنا أبيض من أجل قوله: «كحيل الطرف أسوده». وابيضاض الخد عند كثير من الناس -إذا كان له ماء ورونق- أحسن من احمراره. وقوله: «أحوى» إنما ذهب به إلى الظبي، وهو الذي في ظهره خط أسود، فقال «أحوى» مكان قوله «ظبي» لو قاله. وهذا لفظ ومعنى في غاية الحسن. وقال: بيضاء أوقد خديها الصبا وسقى ... أجفانها من مدام الراح ساقيها (3) في حمرة الورد شكل من تلهبها ... وللقضيب نصيب من تثنيها قوله: «أو قد خديها الصبا» يريد احمرارها، وهذا لفظ حسن ومعنى مستقيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وقوله: «وسقى أجفانها من مدام الراح ساقيها» يريد تفتير ألحاظها، وانكسار أجفانها من الغنج، كما تتكسر أجفان السكران. وهذا كقوله: تحسبه نشوان إما رنا للـ ... فتر من أجفانه وهو صاح (1) والأشهر (2) الأكثر في كلامهم تشبيههم أجفان المحبوب بطرف الوسنان لا بطرف السكران، فذلك نحو قول الشاعر: وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم (3) وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم (4) ويجعلون طرف المحبوب هو الذي يسكر، ويقيمونه مقام الراح، وقد أكثر البحتري من هذا الوصف، وذلك قوله: أرسلت شغلين: من لفظ محاسنه ... تدوي الصحيح ولحظ يسكر الصاحي (5) حييت خديك بل حييت من طرب ... ورداً بورد وتفاحاً بتفاح [وقوله: قد تدير الجفون من عدم الألـ ... ـباب ما لا يدور في الأقداح] (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وقوله: وما أسكرتني الراح لكن أعانها ... علي بعينيه الغداة ومديرها (1) وقوله: سقاني بكأسيه وعينيه قادراً ... بألحاظه دون المدام على سكري (2) وقوله: مسكري إن شربت منه بعيني ... أرجوان من خمر خديه صرف (3) ولو قال: «خندريس من خمر عينيه» كان ذلك صحيحاً مستقيماً، ولكن «أرجوان من خمر خديه» أحسن وألطف. ولما قيل: «بيضاء أوقد خديها الصبا» كان يجب أن يقول: في حمرة الورد شكل من تلهبها، فلم يقل، ونسب التلهب إليها، وإن كان للخدين، وذلك من أجل قوله: * وللقضيب نصيب من تثنيها * ويجوز أن يكون ذهب بقوله من تلهبها إلى تلهب نار الخدين؛ لأنه قد دل عليها بالإيقاد. ... وقال أبو تمام في حمرة الخد: إن في خيمهم لمطعمة الحجـ ... ـلين والمتن متن خوط وريق (4) وكأن الجريال شيب بماء الد ... ر في خدها بماء العقيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 كذا رواية هذا البيت: «شيب بماء الدر في خدها (1) بماء العقيق» [وهو الصحيح] (2). والجريال: اللون الأحمر، وأراه أراد لون الخمر، كما قال الأعشى: «سلبتها جريالها» (3)، أي حمرتها، وقد سئل عن هذا فقال: شربتها حمراء وبلتها بيضاء!. واستقامة اللفظ أن يكون أراد: وكأن الجريال بماء العقيق شيب بماء الدر في خدها، كما قال في نحو هذا اللفظ: وأخلاق كأن المسك فيها ... بصفو الراح بالنطف العذاب (4) فإن كان هذا أراد فقد كان ماء العقيق يغني عن الجريال؛ لأن الدر والعقيق جوهران، واختلاط مائهما على الاستعارة حتى يشبه الخد المورد سائغ. وإن كان أراد بالجريال الخمر نفسها كما قال الشاعر: * وتكلمت بلسانها الجريال * فإن الخمرة بحمرة لونها مستغنية عن ماء (5) العقيق؛ لأنها أنصع وأحسن. وهو أيضاً جمع بين شيئين لا يتشابهان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 والعادة الجارية في مثل هذا أن يقال: كأن خدها الخمر والماء، أو كأنها في خدها الخمر والماء، فأما الخمر ممزوجة أو مشوبة بماء العقيق فإنه خطل من القول. ... وقال أبو تمام: رود أصابتها النوى في خرد ... كانت بدور دجنة وشموسا (1) وكأنما أهدى شقائقه إلى ... وجناتهن ضحى أبو قابوسا بيضاً يدرن عيونهن إلى الصبا ... فكأنهن بها يدرن كؤوسا (2) وهذه أبيات صالحة. ثم جن بعد هذا فقال: لولا حداثتها وأني لا أرى ... عرشاً لها لظننتها بلقيسا (3) فأي شيء يزيد على هذه الحماقة. ... وقال البحتري: سفرت كما سفر الربيع الطلق عن ... ورد يرقرقه الضحى مصقول (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وتبسمت عن لؤلؤ في رصفه ... برد يرد حشاشة المتبول أي شيء يزيدك على هذا الإحسان (1)؟ وأجود من هذا وأحلى قول كثير: ويوم الخيل قد سفرت وكفت ... رداء العصب عن رتل براد (2) وعن نجلاء تدفع في بياض ... إذا دمعت وتنظر في سواد (3) وعن متكاوس في العقص جثل ... أثيث النبت ذي غدر جعاد متكاوس: شعر كثير قد ركب بعضه بعضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 * ما لاقاه في وصف الثغور وقال أبو تمام: وثنياك إنها إغريض ... ولآل توم وبرق وميض (1) وأقاح منور في بطاح ... هزه في الصباح روض أريض وارتكاض الكرى بعينيك في النو ... مفنوناً وما لعيني غموض (2) لتكاءدنني غمار من الأحـ ... ـداث لم أدر أيهن أخوض وهذه لعمر الله يمين في غاية الحسن [والحلاوة] (3) والملاحة. وقوله: «وأقاح منور في بطاح» كلام مستقيم، والبطاح: ما اطمأن من الأرض وانهبط (4) والندى، والعشب فيه أبقى، ورياض الحزن أحسن، فأما قول الأعشى: * ما روضة من رياض الحزن معشبة (5) * فإن الحزن ههنا: موضع كانت أبل الملوك ترعي فيه على ما ذكر. وقوله: «هزة في الصباح روض أريض» ليس بالجيد اللائق؛ لأن الأقاحي هي من الروض، والروض أنما يهزه ويحركه الندى، والنسيم لا أن يهز بعضه بعضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 والأبيض (1): هو المتمكن في موضعه، الجيد النبات. ... وقال البحتري: لها غرائب دل ما يزال لها ... على الغرام به حث وتحريض (2) تفاح خد إذا احمرت محاسنه ... مقبل بخفي اللحظ معضوض وواضحات تريك الدر متسقاً ... كأنهن إذا استغربن إغريض (3) لو كان يكفيك علم الشيء تجهله ... فقد كفاك من التصريح تعريض (4) فقوله: «تريك الدر متسقاً» أحسن، وأصح من قول أبي تمام: «ولآل توم» غير أن أبا تمام شبه الثغر في بيته بثلاثة أشياء وقد فعل البحتري ذلك فقال: بات نديماً لي حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح (5) كأنما يضحك عن لؤلؤ ... منظم أو برد أو أقاح فشبه الثغر بثلاثة أشياء، وشرط في اللؤلؤ أنه منظم، كما قال في البيت الآخر: «تريك (6) الدر متسقاً»، حتى استوى التشبيه بالإغريض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وقد شبه الثغر بالبرد والأقاحي في مصراع فقال: يضحكن عن برد ونور أقاح ... ويشبن ظلم رضابهن براح (1) ووصله ببيت هو في حسنه وحلاوته فقال: وإذا برزن من الخدور سفرن عن ... هميك: من ورد ومن تفاح وقد شبه البحتري أيضاً بياض ثغر المرأة بالبرق، وبضوء المصاح فقال: أضوء برق بدا أم ضوء مصباح ... أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي (2) ثم قال بعده: ويرجع الليل مبيضاً إذا ضحكت ... عن أبيض خضل السمطين لماح (3) وهذا أحسن كلام، وأصحه، وأحلاه. ولكن البديع في تشبيه الثغر بالبرق قول العديل بن الفرخ العجلي: ضحكت فقلت غمامة برقت لنا ... بشعاب مكة برقها لا يبرح (4) فشرط أن برقها مقيم لا يبرح، وهذ ألطف ما يكون من المعاني وأحسنها. وقد أحسن البحتري كل الإحسن في قوله: وشتيتاً يغض من لؤلؤ النظـ ... ـم ويزري على شتيت الأقاحي (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 ومن إحسانه المشهور لفظاً ومعنى قوله: ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر حسناً ولاقطه (1) فمن لؤلؤ تبديه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه (2) والعرب تشبه الثغر باللؤلؤ ... والإغريض وهو ما (3) يتشقق عنه الطلع من النخل، والأقاحي، وهو أشبهها بالثغر هيئة، وشكلاً، وبياضاً، وتفلجاً، وتشبهه بالبرد، وبشوك السيال، وهو شجر، ولا يريدون اللون، وإنما يريدون الشكل والتفرق، قال الأعشى: باكرتها الأغراب في سنة النو ... م فتجري خلال شوك السيال (4) الأغراب: أقداح الفضة باكرتها وفيها الخمر وقد قال أبو تمام: وعلى العيس خرد يتبسمـ ... ـن عن الأشنب الشتيت البراد (5) كان شوك السيال حسناً فأضحى ... دونه للفراق شوك القتاد (6) فالبراد: هو البارد، والأشنب أيضاً: البارد، والشنب: البرد، وإنما جمع بينهما لاختلاف اللفظ. وقال أبو تمام: ولو تبسم عجنا الطرف في برد ... وفي أقاح سقته الخمر والضرب (7) من شكله الدر في رصف النظام ومن ... صفاته الفتنتان: الظلم والشنب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 قوله: «وفي أقاح الخمر والضرب» معنى حسن جداً، ولائق بالمعنى. والظلم: ماء الأسنان، والشنب: بردها. وتزعم الرواة أن أحسن ما قيل في وصف الثغر قول بشر بن أبي خازم (1): يفلجن الشفاه عن أقحوان ... جلاه غب سارية قطار (2) وهذا -لعمري- يستحق التقديم والتفضيل وليس بدونه قول النابغة: كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي (3) بل قول النابغة أجمع للمعنى؛ لأن قوله: «كالأقحوان غداة غب سمائه» بإزاء قول بشر: «جلاه غب سارية قطار». وقول النابغة: «جفت أعاليه وأسفله ندي» زيادة حسنة. ولكن بيت بشر أبرع؛ لأنه مستغن بنفسه، وبيت النابغة متعلق على البيت الذي قبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 * ما قالاه في وصف القدود، والخصور، والأخصاف، وثقل الأرداف، وحسن المشي قال أبو تمام: ومقدودة رود تكاد تقدها ... إصابتها بالعين من حسن القد (1) تعصفر خديها العيون بحمرة ... إذا وردت كانت وبالاً على الورد (2) وقال: وخوطية شمسية رشئية ... مهفهفة الأعلى ردا ح المحقب (3) تصدع شمل القلب من كل وجهة ... وتشعبه بالبث من كل مشعب بمختتل ساج من الطرف أحور ... ومقتتل صاف من الثغر أشنب من المعطيات الحسن والمؤتياته ... مجلببة أو فاضلاً لم تجلبب وهذه معان حسنة وقول حلو. والرداح: العظيمة العجز. وقوله: تصدع شمل القلب، وتشعبه بمعنى واحد، ولولا قوله: «بالبث» لصلح أن يكون تشعبه: تضم أجزاءه، وتلائم بينها، لأن من الأضداد (4): يكون جمعت وفرقت، فكأن المعنى حينئذ: تصدع شمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 القلب أي تفرقه إذا شاءت، وتشعبه أي تضمه وتجمعه، كما قال في موضع آخر: وعهدي بها تحي الهوى وتميته ... وتشعب أعشار الفؤاد وتصدع (1) أي تحي الهوى بهجرها، وتميته بوصلها. وقوله: «ساج» أي يختل بنظره، ومقتتل صاف، يريد قتل الحب؛ يقال: اقتتله الحب، واقتتلته الجن، كأنه اعتمد ازدواج اللفظين بقوله: مختتل، ومقتتل. وقوله: «مجلببة» من الجلباب وهو: الخمار، وقد يكون أيضاً الثوب. «أو فاضلاً لم تجلببب»، والفاضل: هي المتفضلة في ثوب واحد، وهو الذي تلبسه (2) المرأة للبذلة والاعتمال. ... وقال: من كل ضاحكة الترائب أرهفت ... إرهاف خوط البانة المياس (3) بدر أطاعت فيك بادرة النوى ... خطأ وشمس أولعت بشماس (4) وإذا مشت تركت بصدرك ضعف ما ... بحليها من كثرة الوسواس (5) والخطء: ما يعتمده الإنسان، والخطأ: ما لا يعتمده (6). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وقوله: «ضاحكة الترائب»: يريد ما على صدرها من الحلي، والترائب: عظام الصدر. وقال: إن في خيمهم لمطعمة الحجـ ... ـلين والمتن متن خوط وريق (1) وهي لا عقد ودها ساعة البيـ ... ـن ولا عقد خصرها بوثيق قوله: «مطعمة الحجلين»، والحجل، الخلخال، والمطعم: المرزوق من الطعم، جعل امتلاء لحم ساقها طعماً لخلخالها؛ لأنه يعض به. وقوله: «وهي لا عقد ودها ساعة البين [أراد: ولا عقد ودها ساعة البين] بوثيق، ولا عقد خصرها بوثيق عل كل حال، ولكنه أخبر عنها (2) خبراً واحداً، ونسق بأحدهما على الآخر صار الظرف، وهو ساعة البين، على ظاهر اللفظ، كأنه يضمهما (3) معاً، فيكون عقد خصرها غير وثيق أيضاً في ساعة البين، وهو قبيح على جوازه وسوغه. ... وقال البحتري: وفيهن مشغول به الطرف هارب ... بعينيه لحظ المحب المخالس (4) يخبر عن عصن من البان مائد ... إذا اهتز في ضرب من الدل مائس وهذا نمط البحتري الحلو، وإنما قال: «هارب بعينيه»، فخصهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 دون غيرهما؛ لأن الحسن (1) إنما هو في العين، علاقة الحب إنما تكون عند النظر إلى العين (2). وقال: وقد بان فيهم غصن بان إذا بدا ... ثوى مخبراً عن مثله أو مثاله (3) يسوءك ألا عطف عند انعطافه ... ويشجيك ألا عدل عند اعتداله (4) كأنه أراد بالمثل الشيء نفسه، والمثال: الشبه، أي ثوى مخبراً عن غصن بان مثله، أو شبهه، إلى هذا ذهب. وقال: أعطيت بسطة على الناس حتى ... هي صنف في الحسن والناس صنف (5) اعتدال يميل منه انخناث ... وتثن فيه الفخامة لطف (6) نعمة الغصن إن تأود عطف ... منه عن هزة تماسك عطف (7) مسكري إن سقيت منه بعيني ... أرجوان من خمر خديه صرف (8) وهذا من أحسانه المشهور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وقال: لما مشين بذي الأراك تشابهت ... أعطاف قضبان به وقدود (1) في حلتي حبر وروض فالتقى ... وشيان: وشي ربي ووشي برود وسفرن فمتلأت عيون راقها ... وردان: ورد جنى، وورد خدود (2) وضحكن فاغترب الأقاحي من ند ... غض وسلسال الرضاب برود (3) وهذا أيضاً من إحسانه المعروف. وقوله «فاغترب» يريد الضحك، والمستعمل استغرب في الضحك إذا اشتد فيه، وأغرب أيضاً، قال ذو الرمة: فما يغربون الضحك إلا تبسماً ... ولا ينسبون القول إلا تناجيا (4) ولم أسمع في الضحك اغترب، إنما ذلك من الغربة والبعد، فقوله: «اغترب الأقاحي من ند غض» يريد النور نفسه، «وسلسال الرضاب» يعني الثغور، كأنه جعلهما جميعاً من الأقاحي، وفصله فقال: من ند غض، ومن سلسال الرضاب، وسلسال الرضاب هو ند غض أيضاً، إلا أنه جعل الفرق بينهما أن هذا أندى، وأجرى من ذاك. وأظن المستغرب في الضحك إنما أخذ من غروب الأسنان إذا بدت كلها في الضحك، وهي أطرافها، وغرب كل شيء: حده. أو أن يكون استغرب في الضحك أي امتلأ ضحكاً من قولهم: أغربت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 السقاء إذا ملأته، قال بشر بن أبي خازم: وكأن ظعنهم غداة تحملوا ... سفن تكفأ في خليج مغرب (1) وسبيل هذا البيت أن يلحق في «باب الثغور». وقوله: «فالتقى وردان: ورد جنى، وورد خدود» إن كان أراد هذا الورد المعروف فمن أين بذي الأراك ورد؟، إلا أن يريد بعض الأنواع (2)، والحمر من الأنوار فإنها كثيرة، وإياها -إن شاء الله- أراد. ومن عجيب ما أورده في حسن القد قوله: تهتز مثل اهتزاز الغصن أتعبه ... مرور غيث من الوسمي سحاح (3) وقال: بيضاء يعطيك القضيب قوامها ... ويريك عينيها الغزال الأحور (4) تمشي فتحكم في القلوب بدلها ... وتميس في برد الشباب فتخطر (5) وتميل من لين الصبا فيقيمها ... قد يؤنث تارة ويذكر وقال: هل الذلفاء مخبرتي أهجراً ... أرادت بالتجنب، أم دلالاً؟ (6) ذكرت بها قضيب البان لما ... غدت تختال في الحسن اختيالا تشاكله انعطافاً واهتزازاً ... وتحيكه قواماً واعتدالا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وهذا ما لا يكاد يسمع أحلى ولا أعذب ولا أبرع منه. وقال: ألام على هوى ظمياء ظلماً ... وقلبي في يدي ظمياء عان (1) إذا انصرفت أضاءت شمس دجن ... ومال من التعطف غصن بان قوله: «أضاءت شمس دجن» أي إذا انصرفت مولية بوجهها كان ضوؤها كضوء الشمس من تحت الدجن، وهو إلباس الغم الأفق، وهذا أحسن ما يكون من المعنى (2) وألطفه، أي إذا غاب وجهها حين تولى فأنا منها أيضاً في ضياء كضياء (3) الشمس من تحت الدجن. وقال أبو تمام: أدنت نقاباً على الخدين وانتسبت ... للناظرين بقد ليس ينتقب (4) وهذا حسن جداً. وقال أبو تمام: ليالي أضللت العزاء وجولت ... بعقلك آرام الخدور الخواذل (5) من الهيف لو أن الخلاخل صبرت ... لها وشحاً جالت (6) عليها الخلاخل منها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا تلك ذوابل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 قوله: «جولت» من أجل قوله: «الخواذل» وهن (1) اللواتي تخلفن من جملة السرب على أولادهن، فأراد أن يطابق بين «الجولان» و «التأخر» وهو طباق غير جيد، ولا لائق. وقوله: «من الهيف لو أن الخلاخل صيرت لها وشحاً» من أقبح الخطأ وأفحشه، لأن الخلخال لا يكون في موضع الوشاح؛ لأن الوشاح: ما تتقلده المرأة من سير، أو خيط فيه خرزاً، أو حلياً من فضة أو غيرها، تتزين به فيكون منها في موضع حمائل السيف من الرجل، والخلخال لا يكون في هذا الموضع إلا إذا مسخها الله، وأقمأها. [(2) وقد أخطأ في البيت الثاني أيضاً فقال: «قنا الخط إلا أن تلك ذوابل» وإنما قيل للرماح: «ذوابل» للينها وتثنيتها، فنفى ذلك عن قيود النساء التي من أكمل أوصافها التثني واللين والانعطاف، كما قال تميم بن أبي بن مقبل]: يهززن للمشي أوصالاً منعمة ... هز الجنوب ضحى عيدان يبرينا (3) أو كاهتزاز رديني تداوله ... أيدي التجار فزادوا متنه لينا وقد ذكرت هذا مشروحاً في أغاليطه (4). ولله در أبي عبادة إذ يقول: غدت قضبان أسحلة عليها ... لفرط الجدل أو شحة تجول (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 يقوم من تثنيها اعتدال ... تكاد تقول من هيف نحول (1) مشين على خمائل ذي طلوح ... وقد ضاقت بما فيها من الحجول فقلت: أزيد من سقم فؤادي ... وهل يزداد من قتل قتيل (2) فهذا -والله- هو الشعر، لا تعليلات أبي تمام بطباقه وتجنيسه، وفرط تقعره، وكثرة أحالاته، وما زلت أسمع الشيوخ يفضلون هذا البيت الأخير على كل ما سمعوه في الغزل. وهذه القصيدة من قلائده، وفيها يقول قبل هذه الأبيات: بعيدة مطلب وجماد نيل ... فها هي لا تنال ولا تنيل إذا خطرت تأرج جانباها ... كما خطرت على الروض القبول ويحسن دلها والموت فيه ... وقد يستحسن السيف الصقيل ... وقال أبو تمام: وناضرة الصبا حين اسبكرت ... طلاع المرط والدرع اليدي (3) تشكى الأين من نصف سريع ... إذا قامت ومن نصف بطي وهذا ما لا مدفع لجودته وحسنه، وكأنه صفوة خاطر أبي تمام، إذا كان بجمامه يأتي به وبأمثاله، فإذا أعيا وكل زماناً رمى بالأوساخ والأقذار والغثاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وقوله: «طلاع المرط» أي تملأ الملحفة تماماً وكمالاً، كأنها تطلع عليها، أي تعلوه، والدرع: القميص التام، واليدي: الواسع. ... وقال البحتري: نواصع كسيوف الصقل مشعلة ... ضوءاً ومرهفة في الجدل إرهافا (1) إذا نضون شفوف الريط آونة ... قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا كأنهن وقد قربن من طرفي ... ضدين في الحسن تثقيلاً وإخطافا (2) رددن ما خففت منه الخصور إلى ... ما في المآزر فاسثقلن أردافا وحسبك بهذا حسن لفظ، وحلاوة نظم، وصحة معنى. وألطف من قوله: «قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا» قول أبي تمام: لآليء كالنجوم قد لبست ... أبشارها صدف الإحصان لا الصدفا (3) وبيت البحتري أبرع وأحلى. وقال البحتري أيضاً: غدت أترابها ينهضن هوناً ... لثقل من روادفها الثقال (4) مشين ضحى بأقدام لطاف ... وسوق في خلاخلها خدال إذا اجتبن الحلي رأيت بياضاً ... أوانس كاللآليء في اللآليء (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وقال: أطاع لها دل غرير، وواضح ... شتيت وقد مرهف وشوى خدل (1) وألحاظ عين ما علقن بفارغ ... فحلينه حتى يكون له شغل (2) وهذا من مشهور أبي عبادة. [وقال أبو تمام] (3): ومن جيد غيداء التثني كأنما ... أتتك بليتيها من الرشإ الفرد (4) كأن عليها كل عقد ملاحة ... وحسناً وإن أمست وأضحت بلا عقد ومن نظرة بين السجوف عليلة ... ومحتضن شخت ومبتسم برد (5) ومن فاحم جعد ومن كفل نهد ... ومن قمر سعد ومن نائل ثمد (6) محاسن ما زالت مساو من النوى ... تغطي عليها أو مستاو من الصد شخت: دقيق يتمكن الذراع من احتضانه، كأنه ينفي عنها ضخم البطن وموضع (7) [الكشح] ويستحب فيها الضمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 * ما قالاه في: شدة الحب، والوجد، والتشوق، والغرام، والحزن، وانتجاز المواعيد، وإخلافها، ونحو ذلك : ... في الحزن والوجد قال أبو تمام: حزن غداة الحزن هاج غليله ... في أبرق الحنان منك حنين (1) سمة الصبابة زفرة أو عبرة ... متكفل بهما حشأ وشئون لولا التفجع لادعى هضب الحمى ... وصفا المشقر أنه محزون وهذا المعنى غاية في حسنه وجودته، وإنما حذا على قول الأحوص: إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا (2) ولكنه عبر عنه بعبارة (3) أغرب فيها حتى صار كأنه ليس ذلك المعنى وهو هو بعينه. والعزهاة: الذي قد عزف عن اللهو والصبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وقال البحتري: زعم الزاعمون أن الذي يهـ ... ـوى مراض العيون غير رشيد (1) كذب الزاعمون قد يحسن الحـ ... ـب بمن ليس قلبه من حديد وقال: ولو أن الجبال فقدن إلفا ... لأوشك جامد منها يذوب (2) وقال: حقاً أقول لقد تبلت فؤادي ... وأطلت مدة غيي المتمادي (3) بجوى مقيم لو علمت غليله ... لوجدته غير الهوى المعتاد والحب سكر للنفوس يسرني ... سهر العوائد عنه والعواد (4) وهذا معنى آخر حسن جداً. وقد قال أبو تمام: به علة صماء للبين لم تصخ ... لبرء ولم توجب عيادة عائد (5) ومعنى البحتري أجود وأحلى. وقال أيضاً: بل ما أود بأنني أفرقت من ... وجد ولا أني بردت غليلي (6) وأعد برئي من هواك ضمانة ... والبرء أكبر حاجة المخبول (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 و في الشوق والصبابة : قال أبو تمام: لا شوق ما لم منه بالَّتي ... هجرتك وجداً كالأباء المحرق (1) يغلي إذا لم يضطرم ويري إذا ... لم يحتدم ويغص إن لم يشرق قوله: ما لم تصل منه أي من الشوق، وجداً: أي من الوجد. كالأباء المحرق: أي فتكون إذا مليت (2) به كالأباء المحرق من الوجد. وقوله: «يغلي إذا لم يضطرم»، كأنه جعل الاضطرام أشد من الغلي، والغلي هو اضطرام أيضاً. «ويري» معناه يحرق، والاحتدام: شدة الحر، ويقال: وجدت للحر حدمة. يقول: هو يحرق وإن لم يشتد حره. «ويغص إن لم يشرق»، فنزل من الغليان، والاضطرام، والورى، والاحتدام إلى الغصص، والشرق، وليس ذلك بخطأ ولا هو بالجيد، ولا الحلو، ولا الشهي. ... وقال البحتري: وحرض شوقي خاطر الريح إذ سرى ... وبرق بدا من جانب الغرب لامع (3) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وما ذاك أن الشوق يدنو بنازح ... ولا أنني في وصل علوة طامع خلا أن وجداً ما يغب ولوعة ... إذا اضطرمت فاضت عليها المدامع (1) وهذه طريقة البحتري التي يخبر فيها بالشيء على ما هو فيعفي (2) على كل بديع واستعارة إذا اعتمدها؛ وذلك لحسن عبارته وتلخيصه. وقوله: «خاطر الريح»: من الخطران كما قال في موضع آخر: * كما خطرت على الروض القبول (3) * وقال: شوق إليك تفيض منه الأدمع ... وجوى عليك تضيق عنه الأضلع (4) وهوى تجدده الليالي كلما ... قدمت وترجعه السنون فيرجع وقال: هل أنت من حر الصبابة منقذي ... أو أنت من شكوى الصبابة عائدي (5)؟ شوق تلبس بالفؤاد دخيله ... والشوق يسرع في الفؤاد الواجد ومما أحسن فيه البحتري وأغرب قوله في شدة الحب وتمكنه: غير حب لسليمى لم يزد ... فيه إسعاف ولم ينقصه ضن (6) ثبتت تحت الحشا آخية ... منه لا ينزعها المهر الأرن (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وقد بالغ أيضاً الذي يقول: أحبك ما لو كان بين قبائل ... من الناس أعداء لجر التصافيا (1) وأبلغ من هذا كله وأجود قول الأعشى: كفى بالذي تولينه لو تجنبا ... شفاء لسقم بعد ما كان أشيبا (2) ولكنما كانت توابع حبها ... توالى ربعي السقاب فأصبحا فتم على معشوقه لا يزيدها ... إليه بلاء السوء إلا تحببا وكان حماد الراوية يتعجب من قوله: «فتم على معشوقه»، ويقول: هذا (3) -والله- غاية العشق، ونهاية الإحسان في النسيب. يقول: كفى بالذي توليه من البعد والقطيعة شفاء له من سقم الحب لو تجنب، ولكنه لا يقدر على ذلك. وقوله: «توابع حبها» أي ما تتابع وتوالي من حبها كتوالي الربعي، وهو: السقب الذي نتج في أول الربيع، ينتقل من سن إلى سن حتى قوي ومرن، وانقاد (4)، جعل هذا مثلاً لزيادة حبه شيئاً فشيئاً حتى تمكن، فذلك معنى قوله قوله: «توالي». وقد روى «تأول ربعي» من حال إلى حال، من آل يئول. وقال أبو حية النميري في هذا المعنى، وجاء به أكشف وأبين وأحسن مما جاء به الأعشى فقال: لا منكر لقبيح منك أعرفه ... إني أراه -إذا أرضاك- إحسانا أحدث النفس مسرورا بذكركم ... حتى كأن الذي قد كان ما كانا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 ومن هذا أخذ أبو الشيص -والله أعلم- قوله: وأهنتني فأهنت نفسي عامداً ... ما من يهون عليك ممن أكرم (1) ولكنه تناهى في التذلل فأحسن المعنى كل الإحسان، ولكن الحر الكريم الأنف: «كثير بن عبد الرحمن» إذ يقول: ولما رأت وجدي بها وتبينت ... صبابة حران الصبابة صاد أدلت بصبر عندها وجلادة ... وتحسب أن الناس غير جلاد فيا عز صادي القلب حتى يودني ... فؤادك أو ردي علي فؤادي (2) وكان هذا مما ينشده أبو العباس ثعلب كثيراً ويستحسنه، ذكر ذلك الأخفش. وقوله: «صادي القلب» أي داريه، والمصاداة: المداراة. وقال كثير أيضاً وأحسن كل الإحسان: وكنت ألوم الجازعين على البكا ... فكيف ألوم الجازعين وأجزع ولي كبد قد برحت بي مريضة ... إذا سمتها الهجران ظلت تصدع وأظن أبا الشيص أخذ بقوله: أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... [إذ كان حظي منك حظي منهم] (3) من قول كثير: مجاورة قوماً عدى لي صدورهم ... ألا حبذا من حبها من تجاور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وقد أحسن أيضاً الإحسان كله الذي يقول: ولما بدا لي منك ميل مع العدا ... علي ولم يحدث سواك بديل (1) صددت كما صد الرمي تطاولت ... به مدة الأيام وهو قتيل ... وقال أبو تمام يذكر الوعد وإخلافه: وفي الكلة الوردية اللون جوذر ... من العين ورد الخد ورد المجاسد (2) غدت مغتدى الغصبى وأوصت خيالها ... بحران نضو العيس نضو الخرائد وقالت نكاح الحب يفسد شكله ... وكم نكحوا حباً وليس بفاسد سآوي بهذا القلب من لوعة ... إلى ثغب من نطفة اليأس بارد وهذه أبيات سخيفة المعاني، قد أتى فيها بكل قبح وفحش، لأنه قال: رمته بخلف بعدما عاش حقبة ... له رسفان في قيود المواعد وبعد ذلك بين بأن الوعد كان مباضعة، وأنه لما حقق المطالبة غضبت، وذلك قوله: «غدت مغتدى الغضبى». وقوله: «وقالت: نكاح الحب يفسد شكله»، فقال هو: «وكم نكحوا حباً وليس بفاسد»، فاحتجت عليه، واحتج عليها. وهذه خصومة ومناظرة على ذلك الباب شديدة مستقصاة ما أظن أحداً سبقه إلى مثلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وقوله بعد هذا: سآوي بهذا القلب من لوعة الهوى ... إلى ثغب من نطفة اليأس بارد (1) هو أيضاً غضب منه لمنعها إياه مما التمس، ومثل هذا إنما يفصح به الشاعر إذا هزل ومجن، وإنما وصل هذه الأبيات بما افتتحه من قوله: قفوا جددوا من عهدكم بالمعاهد ... وإن هي لم تسمع لنشدان ناشد لقد أطرق الربع المحيل لفقدهم ... وبينهم إطراق ثكلان فاقد (2) وأبقوا لضيق الهم والحزن منهم ... قرى من جوى سار وطيف معاود (3) سقته ذعافاً عادة الدهر فيهم ... وسم الليالي فوق سم الأساود به علة صماء للبين الم تصخ ... لبرء ولم توجب عيادة عائد ومن يقف على المعاهد، ويصف ما به من الهم، والحزن، والجوى، وأن عادة الدهر فيهم سقته الذعاف -وهو السم- وأن به علة للبين صماء لم تصخ لبرء: أي لم تصغ إليه، ولم تقرب منه فإنه لا يقول بعد ذلك كله: إنه كان التمس من المرأة الفاحشة، وناظرها (4) عليها، وغضب من منعها إياه، وهذا غاية ما يكون من السخف والحمق. فإن قيل: إن المعاهد التي وقف عليها لم تك معاهد هذه المرأة ذات الكلة الوردية اللون، وإن هذه إنما كانت معه في الرفاق وهم سائرون، فاستوقفهم لتجديد عهد بديار كان فيها أحباب أول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 قيل: هذا غلط من التأويل؛ لأنه قال: «به علة صماء للبين لم تصخ لبرء»، فأوجب بهذا القول أن حبه باق غير منصرم. وإذا كان لم يبرأ حبه من امرأة أولى، فكيف يقف صحبه على معاهدها وفيهم امرأة أخرى يهواها، وقد طالبها سنة، وهي تعده، وذكر أنها أوصت خيالها [به] (1)، وأنه حران هذا محال، لم يكن الحب إلا لهذه المرأة ذات الكلة [رحم الله غفلته]. وقوله: «نضو العيس» لطول السفر، و «نضو الخرائد»، يعني الخيالات. ولله در أبي عبادة إذ يقول: لو تسعفين وما سألت مشقة ... لعدلت حر جوى ببرد رضاب (2) ولئن شكوت ظماي إنك للتي ... قدماً من السراب شرابي (3) وعتبت من حبيك حتى إنني ... أخشى ملامك أن أبثك ما بي (4) وقال البحتري: إذا راجعت وصلاً على طول هجرة ... تراجعت شيئاً من بلاي إلى سقمي (5) وقد زعمت أن سوف تنحج ما وأت ... وظني بها الإخلاف في ذلك الزعم (6) خليلي ما لي لا شفاء من الجوى ... ولا نعم مرجوة النجح من نعم (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وقال: بنفسي من تنأى ويدنو ادكارها ... ويبذل عنها طيفها وتمانع (1) خليلي أبلاني هوى متلون ... له شيمة تأبى وأخرى تطاوع وهذا لعمري حسن، وأحسن منه قول كثير لأنه تمنى الحال التي وصفها البحتري فقال: والله ما يدري غريم لويته ... أيشتد إن لاقاك أم يتضرع (2) بخلت فكان البخل منك سجية ... فليتك ذو لونين يعطي ويمنع وقال [البحتري] (3): ماذا على الأيام لو سمحت لنا ... بثواء أيام لديك قلائل (4) فأويت للقلب المعنى المبتلى ... بهواك والبدن الضئيل الناحل وقال أيضاً: فداؤك ما أبقيت مني فإنه ... حشاشة حب في نحول عظام (5) صلي مغرماً قد واتر الشوق دمعه ... سجاماً على الخدين بعد سجام (6) فليس الذي حللته بمحلل ... وليس الذي حرمته بحرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وقال: وددت وهل نفس امريء بمليمة ... إذا هي لم تعط الهوى من ودادها (1) لو أن سليمى أسمحت أو لو أنه ... أعير فؤادي سلوة من فؤادها (2) وقال: أين الغزال المستعير من النقا ... كفلاً ومن نور الأقاحي مبسما (3) ظمئت جوانحنا إليه وريها ... في ذلك اللعس الممنع واللمى (4) متعتب منم حيث لا متعتب ... إن لم يجد جرماً علي تجرما (5) ألف الصدود فلو يمر خياله ... بالصب في سنة الكرى ما سلما وقال: أرى ثقة الراجي مواصلة المها ... تكاءدها أو آدها شك خائف (6) كأن الذي يكذبنه نحب ناذر ... يقضين منه أو ألية حالف (7) فليت لبانات المحب رددن في ... جوانحه أو كن عند مساعف وهذا حسن جداً. وقال: إذا قربت فهجر منك يبعدني ... وإن بعدت فوصل منك يدنيني (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 تصرم الدهر لا جود فيطعمني ... فيما لديك ولا يأس فيسليني فلست أعجب من عصيان قلبك لي ... يوماً إذا كان قلبي فيك يعصيني (1) وهذا إحسانه المشهور، ويقال: إنه أخذه من قول الخليع: أتطمع أن يطيعك قلب سعدى ... وتزعم أن قلبك قد عصاكا وما أحسن ما قال بشار: وإذا قلنا لها جودي لنا ... خرجت بالصمت من لا ونعم (2) ... وقال أبو تمام في النائل النزر القليل ماهو فوق كل حسن وحلاوة: تأبى على التصريد إلا نائلاً ... إلا يكن ماء قراحاً يمذق (3) نزراً كما استكرهت عائر نفحة ... من فأرة المسك التي لم تفتق (4) ... وقد تصرف البحتري في جملة معاني هذا الباب تصرفاً كثيراً حسناً. ومن ذلك قوله: ظلمتني تجنباً وصدودا ... غير مرتاعة الجنان لظلمي (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 ويسير عند القتول إذا ما ... أثمت في أن تبوء بإثمي (1) أجد النار تستعار من النا ... ر وينشا من سقم عينيك سقمي وقوله: لو شئت عدت إلى التناصف في الهوى ... وبذلت من مكنونه ما أبذل (2) أحنو عليك وفي فؤادي لوعة ... وأصد عنك ووجه ودي مقبل (3) وإذا هممت بوصل غيرك ردني ... وله إليك وشافع لك أول (4) وأعز ثم أذل ذلة عاشق ... والحب فيه تعزز وتذلل وقوله: وبي ظمأ لا يملك الماء دفعه ... إلى نهلة من ريقها الخصر العذب (5) تزودت منها نظرة لم تجد بها ... وقد يؤخذ العلق الممنع بالغصب وما كان حظ العين في ذاك مذهبي ... ولكن رأيت العين باباً إلى القلب أعيذك أن تمنى بشكوى صبابة ... وإن أكسبتنا منك عطفاً على الصب (6) ويجزنني أن تعرفي الحب بالجوى ... وإن نفعتنا فيك معرفة الحب (7) وقوله: نظرت وكم نظرت فأصدتني ... فجاءات البدور على الغصون (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وربة نظرة أقلعت عنها ... بسكر في التصابي أو جنون فيا لله ما تلقى القلوب الـ ... ـهوائم من جنايات العيون وقد يئس العواذل من فؤاد ... لجوج في غوايته حرون وقوله: قال بطلاً وأفال الرأي من ... لم يقل إن المنايا في الحدق (1) إن تكن محتسباً من قد ثوى ... لحمام فاحتسب من قد عشق يملأ الواشي جناني ذعراً ... ويعنيني الحديث المختلق (2) حبها أو فرقا من هجرها ... وصريح الذل حب أو فرق قوله: «يعنيني الحديث المختلق» من أحسن المعاني وأحلاها، وأجراها في عادات كل عاشق فأراد يعنيني اختلاف الحديث، وهو اختراصه أي ينصبني، ويحزنني؛ لشدة حبي لها، وخوفي من هجرها. والألف في قوله: «أو» في البيت مقحمة في الموضعين؛ وإنما أراد حبها وفرق هجرها، وصريح الذل حب وفرق، ولم يرد بإدخال الألف أحدهما وقال آخر في نحو هذا: تكذبني في الحب سلمى وليس لي ... شهود وأنى بالشهود على صدقي سوى ذوب جسمي وانتكاث بشاشتي ... وروعة قلبي بالأباطيل والحق [قوله: «روعة قلبي بالأباطيل والحق»] (3) نحو قول البحتري: * ويعنيني الحديث المختلق * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وهذا البيت حسن التقسيم. كان بعض شيوخ الأدب تعجبه (1) التقسيمات في الشعر، وكان مما يعجبه قول عباس بن الأحنف: وصالكم هجر وحبكم قلى ... وعطفكم صد وسلمكم حرب (2) ويقول: هذا أحسن من تقسيمات إقليدس. وقال أبو العباس ثعلب: سمعت «سيد العلماء» يستحسنه، يعني ابن الأعرابي (3). ونحو هذا ما أنشده المبرد لأعرابي، وليس هو عندي من كلام الأعراب، وهو بكلام المولدين أشبه: وأدنو فتقصيني وأبعد طالباً ... رضاها فتعتد التباعد من ذنبي (4) وشكواي تؤذيها وصبري يسرها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 وقال البحتري: ولي هفوات باعثات لي الجوى ... يعرضني من برحه للمتالف (1) كأن العيون الفتنات تعاونت ... على ترة عند العيون الذوارف (2) وقوله: وإذا كسرن جفونهن نظرن من ... مرضي يشفك سحرهن صحاح (3) تظمأ إليهن القلوب وقد ترى ... فيهن ري الحائم الملتاح (4) والحب سقم للصحيح إذا غلا ... فيه المحب ونشوة للصاحي (5) بكر العذول فكف غرب بطالتي ... وبدا المشيب فرد غرب جماحي قد آن أن أعصي الغواية إذ نضا ... صبغ الشباب وأن أطيع اللاحي وقوله: جنوني إلى سعدى وسعدى خلية ... وصغوي إلى سعدى وسعدى تجنب (6) إذ لبست كانت جمال لباسها ... وتسلب قلب المجتلي حين تسلب (7) وسميتها من خشية الناس زينباً ... وكم سترت حباً عن الناس زينب (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 غضارة دنيا شاكلت بفنونها ... معاقبة الدنيا التي تتقلب وجنة خلد عذبتنا بدلها ... وما خلت أنا في الجنان نعذب (1) وهذا البيت يزيد على إحسان كل محسن في الغزل (2) ... ولا خفاء بفضل أبي عبادة على أبي تمام في هذا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 * ما قيل في ائتلاف المحبي ن قال البحتري: وجدت نفسك من نفسي بمنزلة ... هي المصافاة بين الماء والراح (1) وهذا حسن جداً وأظنه أخذه من قول بشار: وإذ نلتقي خلف العيون كأننا ... سلاف عقار بالنقاخ مشوب (2) أخذه أيضاً من قول ابن أبي عيينة (3) فقال: ذاك إذ روحها وروحي مزاجا ... ن كأصفى خمر بأعذب ماء (4) وقول البحتري أيضاً أجود من البيتين، وأخذه عباس بن الأحنف فقال: ما أنس لا أنس يمناها معطفة ... على فؤادي ويسرها على راسي (5) وقولها: ليته ثوب على جسدي ... أوليتني كنت سربالاً لعباس أو ليته كان لي خمراً وكنت له ... من ماء مزن فكنا الدهر في كاس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وأخذه علي بن الجهم وجعله في العناق [فقال] (1): وبيتنا على رغم الحسود كأننا ... خليطان من ماء الغمامة والخمر (2) وأجود من هذا كله وأحلى وألطف معنى قول بشار: لقد كان ما بيني زمانًا وبينها ... كما بين ريح المسك والعنبر الورد (3) وقال عبد الصمد بن المعذل في العناق والاختلاط: كأنني عانقت ريحانة ... تنفست في ليلها البارد (4) فلو ترانا في قميص الدجى ... حسبتنا في جسد واحد وهذا أحسن من بيتي العباس الأولين. وقال البحتري: ولم أنس ليلتنا في العنا ... ق لف الصبا بقضيب قضيبا (5) وما زلت أسمع أهل العلم بالشعر يقولون إن هذا البيت أجود ما قيل في العناق؛ لأنه أصاب حقيقة التشبيه بأجود لفظ، وأحسن نظم. ومثله قول آخر وجدته في الأناشيد، ولست أدري أيهما أخذ من صاحبه: وضم لا ينهنه واعتناق ... كما التف القضيب على القضيب (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وبيت البحتري أجود سبكاً، وأحلى لفظاً؛ لقوله: «لف الصبا»؛ لأن القضيب إنما يلتف بالقضيب بالريح. وقد قال بشار في نحو هذا، وأظن هذين منه أخذا: إنني أشتهي لقاءك واللـ ... ـه فماذا عليك من لقياني (1) قد تلف الرياح غصناً من البا ... ن إلى مثله فيلتقيان وقال علي بن الجهم في وكيد الالتزام: سقى الله ليلاً ضمنا بعد هجعة ... وأدنى فؤاداً من فؤاد معذب (2) فبتنا جميعاً لو تراق زجاجة ... من الراح فيما بيننا لم تسرب وهذا أيضاً حسن لفظاً ومعنى. ... وأحسن ما قيل في المضاجعة قول امريء القيس/ تقول وقد جردتها من ثيابها ... كما رعت مكحولاً من العين أتلعا (3) وجدك لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا فبتنا نذود الوحش عنا كأننا ... قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا تجافى عن المأثور بيني وبينها ... وتدني علي السابري المضلعا إذا أخذتها هزة الروع أمسكت ... بمنكب مقدام على الهول أروعا وهذا لاشيء أجود منه ولا أحلى ولا أبرع وقد أخبر بالأمر على ما كان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وقد أحسن أيضاً عبد بني الحسحاس في قوله: وبتنا وسادانا إلى علجانة ... وحقف تهاداه الرياح تهاديا (1) فما زال بردي طيباً من ثيابها ... إلى الحول حتى أنهج البرد باليا (2) ... ولست أعرف لأبي تمام في هذا الباب شيئاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 * باب في نوح الحمام قال أبو تمام: أتضعضعت عبرات عينك أن دعت ... ورقاء حين تضعضع الإظلام (1) لا تنشجن لها فإن بكاءها ... ضحك وإن بكاءك استغرام هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام (2) قوله: «أتضعضعت عبرات عينك» أي وهت، وانحل نظامها. وقوله: «حين تضعضع الإظلام»: أي حين تقوض غلا أقله. والنشيج: البكاء. وههنا معارضات ومعارضات عورض بها أبو تمام في هذه الأبيات، وهي أن قيل: قوله: «أتضعضعت عبرات عينك» إنكار على نفسه البكاء من أجل دعاء حمامة، كأنه يخسس (3) أمرها، فما وجه قوله: «فإنهن حمام» فسهل أمرها أولاً، ثم أعظمه هذا التعظيم آخراً، هذا عين المناقضة. ثم من ذا رآه قتله بكاء الحمام (3) حتى يجعلهن حماما؟ وزعم أن بكاءها ضحك، والحمام إنما ينوح لفقد إلفه وفراخه فيطيل الترنم والنوح، فكيف يكون ذلك ضحكاً أو كالضحك؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 فقيل للمعارضين: وأي دليل في [قوله] (1): «أتضعضعت عبرات عينك أن (2) دعت ورقاء» على أنه خسس (3) أمر الورقاء وهي الحمامة، وحقره حتى يكون قوله: فإنهن (4) حمام نقضاً لهذا المعنى. فقالوا: هذا مذهب من مذاهب العرب معروف في تهوين أمر الحمامة، وتعنيف من يبكي لبكائها، ومن ذلك قول البحتري بن عزافر الحرشي: أإن غردت يوماً بواد حمامة ... بكيت ولم يعذرك بالجهل عاذر فقوله: «أإن غردت حمامة بكيت» تهوين لأمر الحمامة في تغريدها، أي ذلك لا يوجب البكاء، وهذه الألف تسمى ألف التوبيخ. ونحوه قول ابن الدمينة: أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على غصن غض النبات من الرند (5) بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ... جليداً وأبديت الذي لم تكن تبدي فقال: «بكيت كما يبكي الوليد» يعني الصبي. ومقله قول الأحوص: أأن نادى هديلاً يوم فلج ... مع الإشراف في فنن حمام ظللت كأن دمعك در سلك ... هوى نسقاً وأسلمه النظام ونحوه قول آخر من بني قشير وأنشده أبو حاتم: أتجزع أن ورق الحمام تغردا ... بكى شجوه أو جاوب اليوم هدهدا (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 ومثله في أشعارهم كثير (1) موجود. وإلى هذا المعنى ذهب أبو تمام في قوله: «أتضعضعت عبرات عينك» كأنه يوبخ نفسه على البكاء من أجل بكاء حمامة، ولما قال: «فإنهن حمام»، كانت هذه مناقضة ظاهرة. وهذه (2) -لعمري- معارضة، غير أن أبا تمام قد يجوز أن لا يكون اعتمد تهوين أمر الحمامة كما اعتمد هؤلاء الشعراء، وأن يكون توبيخه (3) لنفسه على هذا الوجه، بل إنما أراد: لا تبك لبكاء الحمام، فإنك لم تسمعه دائماً يغرد، فإن كنت كلما سمعته بكيت وحزنت طال بكاؤك وحزنك وذلك كما قال الآخر (4): أأن زم أجمال وفارق جيرة ... وصاح غراب البين أأنت حزين؟ وقد عيب هذا الشاعر في هذا (5) المعنى، وقيل: إذا كان هذا لا يحزن فأي شيء يحزن؟ ولا شك في أن ظاهر هذا القول قبيح؛ لمخالفته ما في عادات الناس، إلا أني أظن هذا الشاعر ما ذهب في هذا القول إلى تهوين هذه الأشياء وتحقيرها، وإنما أراد أن مثل هذا يقع دائماً، فإن (6) كان كلما شاهدته ورأيته حزنت، طال حزنك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وقد قال مرة النهدي: أأن سجعت في بطن واد حمامة ... تجاوب أخرى ماء عينيك غاسق (1) كأنك لم تسمع بكاء حمامة ... بليل ولم يحزنك إلف مفارق ولم تر مشغوفاً بشيء تحبه ... سواك ولم يعشق كعشقك عاشق (2) فقال: «أأن سجعت» يوبخ نفسه على البكاء لبكاء حمامة، ولم يذهب في ذلك إلى تخسيس أمرها، بل إلى ما قد دل عليه [قوله] (3): «كأنك لم تسمع بكاء حمامة»، أي قد حزنت لذلك (4) كثيراً، وبليت للحزن على مفارقة الإلف دائماً، ورأيت من حاله كحالك أبداً، فينبغي أن تقصر. فكذلك هؤلاء الشعراء في الأبيات المتقدمة جائز أن لا يكونوا هونوا أمر الحمامة، إن كانوا اعتمدوه، على أنه هين عندهم وعلى (5) الحقيقة إنما ذهبوا في ذلك إلى أن يردعوا نفوسهم عن البكاء، فغير منكر ممن أراد أن يردع نفسه عن شيء أن يهون السبب الجالب لذلك (6) الشيء ويحقره، وإن كان عظيماً. غير أن أبا تمام أوقع التوبيخ على نفسه كما فعلوا، وذهبوا إلى تهوين أمر الحمامة، وذهب هو إلى تعظيمه في قوله: «فإنهن حمام»، فقوافقهم في التوبيخ، وخالفهم في المعنى، كقائل قال لرجل: أمثلك يسامي عمرا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 ويقول له قائل آخر كهذا القول سواء، ويكون أحدهما مصغراً [له] (1) عن مساماة عمرو، والآخر مكبراً معظماً، فيستويان في اللفظ، ويختلفان في المعنى. وقد تقدم الناس أبا تمام في مثل قوله: «فإنهن حمام»، وقد ذكروا أن تغريد الحمام يبلي، ويميت، ويقتل، وهو المذهب الأعم الأكثر فمن ذلك قول «نصيب»: محلاة طوق كان من غير شربة ... بمال ولم تغرم له جعل درهم أموت لتبكاها أسى إن عولتي ... ووجدي بسعدى جوه غير منجم (2) وقال [آخر] (3): ألا يا حمامات اللوى عدن عودة ... فإني إلى أصواتكن حزين (4) فعدن فلما عدن كدن يمنني ... وكدت بأحزاني لهن أبين [وقال آخر: وهيجتني فاهتجت للشوق والصبا ... مطوقة خطباء عال رنينها تموت لها نفس الحزين صبابة ... إذا ما دعت وهناً وغنت غنونها] (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وقال [آخر]: ألا يا حمام الشعب من غيضة اللوى ... ردي الماء لا تؤخذ عليك الكظائم (1) حمائم قد أبلتني وقتلنني ... كأن لم يهم قبلي من الناس هائم وذكر هذا أنهن (2) أبلينه وقتلنه فما وجه الإنكار على أبي تمام قوله: «فإنهن حمام»؟. فإن قيل: إنما أراد هؤلاء الشعراء إماتة الحب، وقتل الحب الذي هو التذليل والتتيم، ولم يريدوا القتل الذي هو الإتيان على النفس، ولا الموت الوحي [والحمام] (3) ليس من هذا في شيء؛ وإنما قدر الموت المقدور، وقضاؤه المحتوم، يقال: قد حم الأمر إذا قضى وقدر، قال «الراعي»: * وما حم من قدر يقدر (4) * قيل: إذا استعمل الموت على المجاز فقضاء الموت، وقدره أيضاً يستعمل على المجاز؛ لأنك إذا قلت على المجاز: في هذا الأمر إذا ارتكبته قتلى، أو موتى قلت أيضاً على المجاز: في هذا الأمر حمامي، وقد ذكر الحمام على الوجه كما ذكر الموت والقتل، فقال [الفزاري: * وأوردني يوم العذيب حمامي * ولم يمت يوم العذيب، ومثله كثير موجود] (5). وأما إنكارهم قوله (6): «فإن بكاءها ضحك» وقولهم: إن الحمامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 تغرد لفقد إلفها وفرخها، وتكثر النوح عليهما، فكيف يكون ذلك ضحكاً؟ فالجواب عن هذا: أن ذلك التغريد قد يسمع منها وإلفها معها، وتفعله وهي في عشها مع فرخها، والمشاهدة لهذا أكثر وأعم، ويسمى ذلك التغريد نوحاً؛ ألا ترى إلى قول الشاعر: ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح (1) وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح ولهذا قال ورد بن الجعد: أحقاً يا حمامة بطن واد ... بأنك في بكائك تصدقينا (2) غلبتك في البكاء بأن ليلي ... أواصله وأنك تهجعينا (3) وأني إن بكيت بكيت حقاً ... وأنك في بكائك تكذبينا (4) فمن ههنا قال أبو تمام: «لا تنشجن لها فإن بكاءها ضحك»، أي ليس هناك بكاء على الحقيقة، ولا حزن على الصحة، وإنما يشجوك تغريدها لأن لها تلحيناً وترجيعاً كأنه صوت نائح؛ ومن أجل ذلك ادعت الأعراب أن فرخ حمام كان على عهد نوح يقال له (5) الهديل صاده بعذ جوارح الطير، فيزعمون أنه ما من حمامة إلا وهي تبكي عليه، وهذا من خرافات الأعراب، وإنما قالوا ذلك لما رأو الحمام على كل حال يغرد هذا التغريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 الشجي فسموه نوحاً وبكاءاً [واحتراقاً] (1) واخترعوا له هذا الحديث، وذكروه في أشعارهم (2). فمن ذلك قول الكميت: وما من تهتفين له بنصر ... بأقرب جابة لك من هديل (3) وقال نصيب: فقلت: أتبكي ذات طوق تذكرت ... هديلاً وقد أودى وما كان تبع (4) أي أودي قبل تبع. وقال نصيب أيضاً: هتوف الضحى ورقاء يذكرك الهوى ... بكاها هديلاً شجوه حين تهتف. وقوله: شجوه أي بشجوه. وقال آخر: أيبكي هديلاً بالعشي وبالضحى ... على الطلح قمري الحمام المغرد وقال آخر: إني تكرني سلمى مطوقة ... تدعو هديلاً على أفنان أغصان ومثل هذا كثير في أشعارهم جداً، ولا يكادون يخرجون في نوح الحمام عن أن يجعلوه على الفرخ القديم، أو على إلف مارق؛ وذلك لرقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 تغريدها، وشدة تشوق من يسمع ذلك إلى إلفه، قال رجل من بني نهشل: أيبكي حمام الأيك من فقد إلفه ... [وأصبر عنها إنني لصبور (1) وقال جميل] (2): أيبكي حمام الأيك من أجل إلفه ... وأصبر مالي عن بثينة من صبر وقال آخر: ألا يا حمام الأيك مالك باكياً ... أفارقت إلفاً أم جفاك حبيب (3) ومع هذا فقد جعلوا تغريدها أيضاً غناء، لأن من الغناء ما يشجوك فيحزنك، ومنه ما يشرك فيطربك، ولهذا ما جعلوا (4) نوح الحمام تفجعاً، وسموه غناءً، وبكاء في حال واحدة، ومنه قول الأحوص: أهاج لك الصبابة أن تغنت ... نطوقة على فنن بكور تفجع فوق غصن من أراك ... وتحت لبانها فنن نضير فجعل غناءها تغجعاً. وقال علي بن عميرة الجرمي: لقد هاج ذكري أم عمرو حمامة ... بنعمان غنتنا غناء مرجعا بكت ساق حر بالمراويح وانتحت ... بها الريح في واد أراض وأمرعا (5) فقال غنتنا ثم قال: بكت ساق حر، فجعل غناءها بكاءً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وقال آخر: تغنت برأد من ضحاها فأسمعت ... أخا طرب قد أسلمته عواذله (1) إذا سجعت كرت بجرس كأنه ... وتحوب ثكلى زايلت من تزايله (2) فجعل بكاءها كتحوب (3) ثكلى. وقال النابغة: بكاء حمامة تدعو هديلاً ... مفجعة على فنن تغني (4) فجعلها باكية، مفجعة، مغنية. وقال نصيب: لقد كدت تبكي أن تغنت حمامة ... على رأدة الأفنان ناعمة الأصل تهز بها الريح الضعيفة غصنها ... مراراً فتدني فرعه ثم تستعلي بهاتفة لا تبرح الدهر والهاً ... على إثر إلف أو تنوح على شكل فقال: تغنت، ثم جعلها والهاً، ونائحة على شكل، أي على شبه ومثل. وقال نصيب: وقد هاجني للشوق نوح حمامة ... هتوف الضحى هاجت حماماً فغردا طروب غدت من حيث بانت فباكرت ... بعولتها غصناً من الأثل أغيدا تغنت عليه ذات شجو مرنة ... بصوت يشوق المستهام المصيدا فقال: هاجني نوح حمامة، ثم قال: تغنت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وقال نصيب أيضاً: لعلك باك أن تغنت حمامة ... يميد بها غصن من الريح مائل من الورق يدعوها إلى شجوها الضحى ... فتبكي وتبكي حين تدنو الأصائل فجعلها باكية مغنية. ومثله قول ابن ميادة: يذكرنيها أن تغنت حمائم ... لهن على خضر العضاه عويل تجاوبن في حد النهار بعولة ... وأخرى توافي الشمس كل أصيل وقال عمر بن أبي ربيعة: أدم الظباء به ترنم سنحا ... وبكاء نائحة به تترنم (1) غنت على فنن فأسعد شجوها ... ورق أجبن كما استجاب المأتم (2) وقال رجل من بني نضر بن معاوية: أهاج لك الأحزان نوح حمامة ... تغنت بليل في ذرى ناعم نضر فقال: نوح حمامة، ثم قال: تغنت. وقال سعد بن الجراح بن سفيان بن صامت الحارثي: وحمامة أوفت بأخضر ناعم ... تبكي على غصن من الأغصان عرف الحمام لها الغناء فرنمت ... فاعتادني نكس من الأحران الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وقال حميد بن ثور: فأوفت على غصن ضحياً فلم تدع ... لباكية في شجوها متلوما (1) تغني إذا غنت بأجزاع بيشة ... أو الرخم من تثليث أو يبنما (2) وقال أبو شيبة الجرمي: ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... على الغصن ماذا هيجت حين غنت (3) تعلت على الأفنان في تلع الضحا ... فهاجت حزيناً بالبكاء وولت وقال يزيد بن عمار الهلالي: وذات فرخين غنت في مسوقة ... عجماء معربة ما ضرها العجم بكت فأبكت مريض القلب ذا شجن ... وليس لها دمع فينسجم وقال أبو مخلد الراسبي: ولكنها لم تذر دمعاً وقد بكت ... وعينك تذري الدمع سحاً شئونها وقال رجل من ولد سالم بن مالك الثقفي: ويوم اللوى أجرى دموعك إذ دعت ... حمائم في فيء الأراك صوائح (4) حوائم ما تذري الدموع إذا بكت وهن بأسرار الدموع بوائح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وقال حرب بن الحكم بن المنذر بن الجارود: وقبلي أبكى كل من كان باكياً ... هتوف البواكي والديار البلاقع (1) بواك على الأطلال من كل جانب ... نوائح ما تخضل منها المدامع (2) وقال علي بن عمرة الجرمي: هتوف الضحى معروفة اللحن لم تزل ... تقود الهوى مهدى لنا ونقودها (3) جزوع جمود العين دائمة البكا ... وكيف بكا ذي مقلة وجمودها مطوقة لم يضرب القين فضة ... عليها ولم يعطل من الحلي جيدها (4) فهذا ما عليه العرب وغيرهم في أن الحمام وغيره من الطير لا دموع لها. وقال رباح العقيلي فجعل لها دموعاً وذلك سهو منه أو جهل، وأنشده أبو حاتم: وما هاج لي إلا عشية واسط ... حمائم غيطان الأراك وقوع تجاوبن في أطلال أفنان أثلة ... بمغرورقات فيضهن دموع (5) وإني لأرعى السر من أم عاصم ... ولست لعهد صالح بمضيع فقال: «بمغرورقات تفيض (6) منهن الدموع». الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وقال آخر: فعدن بقرقار الهدير كأنما ... شربن حمياً أو بهن جنون (1) فلم تر عيني قبلهن حمائماً ... بكين فلم تقطر لهن جفون وهذا قد أفصح -كما ترى- بأن كل حمام رآه يبكي قبل هذه الحمائم رأى له دموعاً، وهذا محض الجهل، وأظنه أراد أن يقول: فلم تر عيني قبلهن بواكيا، فقال حمائماً كما قال جهم بن خلف: فلم أر باكية مثلها ... تبكي ودمعتها ما ترى (2) لم يرد باكية من الحمام، ولا من الطير، وإنما أراد بكاية من الإنس مفجعة مثل هذه الحمامة، والله أعلم. وهذا الفصل ليس من الاحتجاج لأبي تمام في أبياته، وقد كان يجوز أن أتعداه، وأقتصر (3) أيضاً على بعض الشواهد التي تقدمته، ولكن وجدت ذلك متمماً للباب فأوردته. ... وقال أبو تمام: لئن أرقأ الدمع العيون وقد جرى ... لقد رويت منه خدود نواعم (4) كما كاد ينسى عهد ظمياء باللوى ... ولكن أملته عليه الحمائم (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 بعثن الهوى في قلب من ليس هائماً ... فقل في فؤاد رعنه وهو هائم لها نغم ليست دموعاً فإن جرت ... مضت حيث لا تمضي الدموع السواجم قوله: «لئن أرقأ الدمع العيون وقد جرى»، يريد لئن قطعت العيون التي ترقبني دمعي وقد جرى، أي حال جريه، لقد رويت منه خدود أحبابي. وهذه حال مفهومة معلومة قلما يخلو منها أحد وهو أن يدور الدمع في مآقه، ويستحي أن يرى باكياً، فيكف العبرة ويردها. ولم يوضح المعنى ويلخصه. والجيد النادر، واللفظ الحسن، والعبارة الصحيحة قول البحتري: نهته رقبة الواشين حتى ... تعلق ما يغيض وما يسيل ومثل هذا لا يكون مسروقاً؛ لأنه جار على عادات الناس، مشاهد معلوم، وما علمت أحداً نظمه نظم البحتري. والجيد الحسن أيضاً لفظاً ومعنى قوله (2): ما لخضر ينحن في قضب الخضر ... على كل صاحب مفقود (3) عاطلات بل حاليات يردد ... ن الشجا في قلائد وعقود زدنني صبوة وذكرنني عهـ ... داً قديماً من ناقض للعهود ما يريد الحمام في كل واد ... من عميد صب بغير عميد كلما أخمدت له نار شوق ... هجنها بالبكاء والتغريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 قوله: «عاطلات بل حاليات»، يريد أطواق الحمام، هو لها [شبيه] (1) بالحلي، وهن منه عواطل. وما قال أحد في هذا المعنى أحسن ولا أبرع ولا أحلى من قول أمية ابن أبي الصلت في حمامة نوح: فلما فرشوا الآيات صاغو ... لها طوقاً كما عقد السخاب (2) تورثه إذا ماتت بنيها ... وإن تقتل فليس لها استلاب وقول البحتري: «يرددن الشجا في قلائد وعقود» حسن؛ لأن الباكية الحزينة ذات الشجو لا تلبس الحلي، وإن كان عليها تسلبت منه. وأحسن منه قول الآخر: مطوقة تبكي ولم أر باكياً ... بدا ما بدا من شجوها لم تسلب أخذه ابن الرومي فقال: لو تستطيع تسلبت من طوقها ... لو كان منتحلاً من الأطواق وقال البحتري: وورق تداعى بالبكاء بعثن لي ... كمين أسى بين الحشا والحيازم (3) وصلت بدمعي نوحهن وإنما ... بكيت لشجوي لا لشجو الحمائم وهذا أيضاً جيد حسن. ... ولست أعرف لهما في ذكر الحمام غير هذا (4). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 * باب في وصفهما للأيام التي خلت، والأزمان التي حمداها، والتذكر لها، والأسى عليها ويتصل بذلك شيء من ذكر النساء وأوصافهن وأذكر أولاً ابتداآتهما في هذا الباب. قال أبو تمام: أأيامنا ما كنت إلا مواهبا ... وكنت بإسعاف الحبيب حبائبا (2) وقال: أحسن بأيام العقيق وأطيب ... والعيش في أظلالهن المعجب (3) وقال البحتري: ليالينا بين اللوى فزرود ... مضيت حميدات الفعال فعودي (4) بيت أبي تمام الأول أجود من الأبيات الثلاثة. ولفظ البحتري لا زيادة على حسنه وجودته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 * ما جاء عنهما في وسط كلامهما من هذا الباب قال أبو تمام: أأيامنا ما كنت إلا مواهبا ... وكنت بإسعاف الحبيب حبائبا (1) سنغرب تجديداً لعهدك في البكا ... فما كنت في الأيام إلا غرائبا ومعترك للشوق أهدى به الهوى ... إلى ذي الهوى نجل العيون ربائبا كواعب زارت في ليال قصيرة ... تخيان لي من حسنهن كواعبا قوله: «ومعترك للشوق» يريد موضعاً زاره فيه الكواعب اللاتي ذكرهن؛ فإن ذلك الموضع يسقط فيه الشوق فلأن يكون معتركاً للوصل أولى، والعذر له أن يقال: إنه إنما كان معتركاً للشوق بعد تلك الحال التي تقصت فهو أبداً مشتاق إلى ذلك الموضع إذا ذكر له. وقال: أحسن بأيام العقيق وأطيب ... والعيش في أظلالهن المعجب ومصيفهن المستظل بظله ... سرب المها، وربيعهن الصيب أصل كبرد العصب نيط إلى ضحى ... عبق بريحان الرياض مطيب (2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وظلالهن المشرقات بخرد ... بيض كواعب غامضات الأكعب (1) وهذا لعمري حسن معجب. وقال أيضاً أبو تمام: ولقد أراك فهل أراك بغبطة ... والعيش غض والزمان غلام (2) أعوام وصل كان ينسي طولها ... ذكر النوى فكأنها أيام ثم انبرت أيام هجر أعقبت ... بجوى أسى فكأنها أعوام (3) ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام فقوله: «كان ينسي طولها ذكر النوى»، أي إنا كنا نذكر الفراق فنبادر السرور واللذات فكان ذلك يقصر من طولها، وأيام السرور على كل حال قصار، اعترض فيها خوف الزوال أو لم يعترض. وهذا من مشهور إحسان أبي تمام لفظاً ومعنى. ... وقال البحتري: عيش لنا بالأبرقين تأيدت ... أيامه وتجددت ذكراه (4) والعيش ما فارقته فذكرته ... لهفاً وليس العيش ما تنساه وهذا إحسان يزيد على كل إحسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 وقال البحتري: سقى الله أخلاقاً من الدهر رطبة ... سقتنا الجوى إذ أبرق الحزن أبرق (1) ليال سرقناها من الدهر بعدما ... أضاء بمصباح من الشيب مفرق (2) تداويت من ليلى بليلى فما شفى ... بماء الزبى من بات بالماء يشرق (3) وهذا من أحسن معنى وأحلاه، وقوله: «إذ أبرق الحزن أبرق»، أي كما عدناه، لا كما هو في الوقت من الخراب. وقوله: «تداويت من ليلى بليلى» أي فلم (4) أبرأ من الداء كما أن من شرق بالماء لم يدفع شرقه الماء ولو تناهى في الكثرة حتى يبلغ الزبى وهو من قولهم: بلغ الماء الزبى (5): جمع زبية، وهي حفرة تحفر للأسد في أعلى ما يمكن من المواضع فلهذا ضرب [بها] (6) المثل في كثرة الماء فقيل: بلغ الماء الزبى. فالشرق بالماء لا يزيله الماء كما قال عدي بن زيد: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري (7) فقال البحتري ليؤكد ذلك بقاء حبه، أي لا يكون برئي من حبها أن تداوي منها بها كما لا يدفع الماء شرق من شرق بالماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وقال البحتري: فسقى الغضا والنازليه وإن هم ... شبوه بين جوانح وقلوب (1) وقصار أيام به سرقت لنا ... حسناتها من كاشح ورقيب (2) خضراً تساقطها الصبا فكأنها ... ورق يساقطه اهتزاز قضيب (3) كانت فنون بطالة فتقطعت ... عن هجر غانية ووخط مشيب فقوله: «خضر تساقطها الصبا» معنى في غاية الحسن، وتمثيل في نهاية اللطف. ... ومن حلو معانيه، ومشهور إحسانه قوله: بعض هذا العتاب والتفنيد ليس ذم الوفاء بالمحمود (4) ما بكينا على زرود ولكنـ ... نا بكينا أيامنا في زرود وقال أيضاً: ليالينا بين اللوى فمحجر ... سقيت الحيا من صيب المزن ممطر (5) مضى بك وصل الغانيات ونشوة الشـ ... ـباب ومعروف الهوى المتنكر فإن أتذكر حسن ما فات لم أجد ... رجوعاً لما فارقته بالتذكر نضوت الأسى عني اصطباراً وربما ... أسيت فكم أصبر ولم أتصبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وقال أيضاً: عهد لعلوة باللوى قد أشكلا ... ما كان أحسن مبتداه وأجملا (1) أنسى ليالينا هناك وقد حلا ... من لهونا في ظلها ما قد حلا (2) عيش غرير لو ملكت لما مضى ... رداً إذاً لرددته مستقبلا قوله: «عيش غرير» أي رقيق ناعم، قال جرير: بيض ترببها النعيم وخالطت ... عيشاً كحاشية الفرند غريرا (3) الفرند: الحرير، والفرند: ماء السيف والحاشية: جانب الثوب، وإنما أراد الفرند نفسه. ... وقال أبو تمام: ليالينا بالرقتين وأهلها ... سقى العهد منك العهد والعهد والعهد (4) سحاب متى على النبت ذيله ... فلا رجل ينبو عليه ولا جعد (5) ضربت لها بطن الزمان وظهره ... فلم ألق من أيامها عوضاً بعد قوله: «العهد والعهد والعهد»، فالعهد جمع عهدة، وجمع عهد: عهاد، وهو المطر يأتي إثر مطر، فأراد سقي العهد الذي عهدناك هذا المطر (6) بأسره: أوله، ووسطه، وآخره، وأراد سقتك العهاد كلها، ومثله قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 * سقى عهد الصبا سيل العهاد (1) * وهذا مستقيم، والأول ليس بالجيد. وقد فسر هذا قوم بما يبعد عن المعنى، ولا يليق به، وخلطوا فيه (2). قال أبو تمام: سلام ترجف الأحشاء منه ... على الحسن بن وهب والعراق (3) على البلد الحبيب إلي غوراً ... ونجداً والأخ العذب المذاق (4) ليالي نحن في وسنات عيش ... كأن الدهر عنها في وثاق وأياماً لنا وله ولداناً ... غنينا في حواشيها الرقاق (5) كأن العهد عن عفر لدينا ... وإن كان التلاقي عن تلاق (6) وهذا كلام حلو عذب. وقوله: «سلام ترجف الأحشاء منه»، لأنه فارق العراق وهو كاره، فسلم سلام مودع متأسف، شديد النفس للشوق والأسف؛ فلذلك قال: «ترجف الأحشاء منه». الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 بيت أبي تمام النادر في هذا الباب قوله: ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام (1) وبيت البحتري قوله: والعيش ما فارقته فذكرته ... لهفاً وليس ما تنساه (2) وبيت أبي تمام أسير، وبيت البحتري ألطف معنى. ... وهما في سائر ما مر لهما في هذا الباب متكافئان. ... ومن حلو كلام البحتري في معنى الأيام قوله: ما أحسن الأيام إلا أنها ... يا صاحبي إذا مضت لم ترجع (3) وأحلى منه وأبدع قول أبي حية النميري: إذ الأيام مقبلة إلينا ... وظل أراكه الدنيا ظليل (4) ... وفي هذا الباب لأبي تمام إساءة في قصيدته التي أولها: * أما إنه لولا اللوى ومعاهده * وذلك قوله: فيا مشهداً يستهزم البين باسمه ... إذا عد أيام الهوى ومشاهده ويا ليلة لو يعرف الدهر طيبها ... لصيرها ثغراً تناغى مراصده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وهذا من أقبح ما يكون من الكلام، وأهجن (1) ما يكون من المعاني، وأبعد ما تكلفه أهل الاستعارة من الأغراض. يقول: ولو علم الدهر طيب هذه الليلة لجعلها ثغراً له مراصد. والمراصد: مواضع الحرس. وقوله: تناغى، يريد حراس المراصد، يخاطب بعضهم بعضا، وينذر واحد آخر، وأصل المناغاة: الكلام الرخيم الخفي، مثل مناغاة الصبي. وربما فعل ذلك أهل المراصد المتقاربة: يوحي بعضهم إلى بعض، وينبه بعضهم بعضاً على ما يتخوفونه ويتوقعونه، يقول: فلو علم الدهر طيب هذه الليلة لجعلها ثغراً يحرسه من أن تلحقه آفة أو جائحة تزيله وتبطله. وهذا مما ينبغي أن تسمعه وتضحك منه، كما أن جيده يسمع ويعجب منه، ومن أجل هذا التفاوت العظيم في شعره تفاوت الناس في التعصب له والتعصب عليه، فما ينبغي أن يقبح إحسانه (2)، ولا أن تحسن إساءاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 * ما جاء عنهما في طروق الخيال هذا باب الفضل فيه للبحتري على أبي تمام، وما زلت أسمع الشيوخ من أهل العلم بالشعر يقولون؛ هو أشعر الناس والخاص الـ ... والخيال (1) ولم يأت عن أبي تمام فيه إلا أبيات يسيرة منها قوله في قصيدة: زار الخيال لها لا بل أزاركه ... فكر إذا نام الناس لم ينم (2) ظبي تقنصه لما نصبت له ... من آخر الليل أشراكاً من الحلم (3) ثم اغتدى وبنا من ذكره سقم ... باق وإن كان معسولاً من السقم قوله: «زار الخيال لها بل أزاركه» ليس بالجيد؛ لأنه إذا أزاره (4) الفكر فقد زار فما وجه الاستدراك؟، فكأنه أراد أن الخيال لم يعتمد الزيارة، وإنما أزاره (4) الفكر، ومثله قام زيد، لا بل أقمته، وكأن قائل هذا يريد ما اعتمد زيد القيام بل أقمته أنا (5) ويروى: «إذا نام فكر الخلو». وقوله: «لم ينم»، لم يرد حقيقة النوم، وإنما أراد لم يسكن، ولم يفتر، كما يقال (6): فلان لا ينام عن هذا الأمر، أي لا يفتر عنه، ولا يقصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وقوله: «من آخر الليل»، ولم يقل من أول الليل، يريد أنه لا ينام بالليل، وأنه يسهره، وأنه يهوم في آخره تهويماً فيطرقه الخيال في ذلك الوقت. وقوله: «وإن كان معسولاً من السقم»، أي وإن كان حلواً من الأسقام، أي كأنه ممزوج بالعسل، ويرويه قوم:/ «وإن كان مغسولاً من السقم» وليس بشيء. وهذه أبيات حسان، وغرض صحيح. ... وقال أبو تمام أيضاً: عادك الزور ليلة الرعل من رمـ ... ـلة بين الحمى وبين المطالي (1) نم فما زارك الخيال ولكنـ ... ـنك بالفكر زرت طيف الخيال وقد أكثر أصحاب أبي تمام الفخر بهذا البيت، والتنويه بذكره، وأفرطوا في استحسانه، وقالوا (2): كشف عن العلة في طروق الخيال، وبين عن المعنى. والبيت حسن، وإنما أخذ معناه من قول جران العود: أهلاً بطيفك من زور أتاك به ... حديث نفسك عنه وهو مشغول (3) فقوله: وهو مشغول، أي إنه لم يزرك على الحقيقة، فبنى من هذا قوله: «ما زارك الخيال» وبنى من قوله: «أتاك به حديث نفسك» ولكنك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 بالفكر زرت طيف الخيال، فالمعنى كله لجران، وإنما غير أبو تمام اللفظ (1) وقد قال الكميت: فلما انتهبت وجدت الخيال ... أماني نفسي وأفكارها أي وجدت الخيال أنا الجالب له بأماني وهذا ذلك المعنى بعينه. وقد أورد أبو تمام المعنى على حذو ما قاله جران سواء فقال: استزارته فكرتي في المنام ... فأتاني في خفية واكتتام (2) تذكر أن فكرته أتته بالطيف زائراً كما قال جران: «أتاك به حديث نفسك». ووصل أبو تمام بيته بأن قال: الليالي أحفى بقلبي إذا ما ... جرحته النوى من الأيام (3) يا لها زورة تنزهت الأر ... واح فيها سراً من الأجسام (4) مجلس لم يكن لنا فيه عيب ... غير أنا في دعوة الأحلام ليس لهذه الأبيات حلاوة، ولا عليها طلاوة (5). ... وقال أبو تمام: حمتنا الطيف من أم الوليد ... خطوب شيبت رأس الوليد (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 رآنا مشعري أرق وحزن ... وبغيته لدى الركب الهجود (1) سهاد يرجحن الطرف منه ... ويولع كل طيف بالصدود يرجحن: أي يتثاقل في حركته كالمعنى في سيره المثقل إذا عدل يمنة وشأمة مثل السحابة المرجحنة لكثرة مائها، وإنما يريد ثقل أجفانه عند النظر من طول السهر. ولا أعرف لأبي تمام في طروق الخيال غير ما ذكرته. ... فأما البحتري فإنه أولع بذكر الخيال فقال فيه، وأكثر، وأجاد، وأبدع، وتصرف في معان لم يأت أحد بمثلها، وقد استفتح قصائد كثيرة بذكر الخيال؛ لشدة شغفه به، فأحسن في ابتداآته كلها،/ وزاد على الإحسان، فمن ذلك قوله: أمنك تأوب الطيف الطروب ... حبيب جاء يهدى من حبيب (2) وقوله: أجدك ما ينفك يسري لزينبا ... خيال إذا آب الظلام تأوبا (3) وقوله: قد كان طيفك مرة يغرى بي ... يعتاد ركبي طارقاً وركابي (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وقوله: طيف ألم فحيا عند مشهده ... قد كان يشفي المعنى من تلدده (1) وقوله: مثالك من طيف الخيال المعاود ... ألم بنا من أفقه المتباعد (2) وقوله: عجباً لطيف خيالك المتعاهد ... ولوصلك المتقارب المتباعد (3) وقوله: قل للخيال إذا أردت فعاود ... تدني المسافة من هوى متباعد (4) وقوله: هجرت وطيف خيالها لم يهجر ... ونأت بحاجة مغرم لم يقصر (5) وقوله: / ألمت وهل إلمامها لك نافع ... وزارت خيالاً والعيون هواجع (6) وقوله: بت أبدي وجداً وأكتم وجداً ... من خيال قد بات لي منك يهدي (7) وقوله: برح بي الطيف الذي يسري ... وزادني سكراً إلى سكر (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وقوله: سرى من خيال المالكية! ما سرى ... فتيم ذا القلب المعنى وأسهرا (1) وقوله: يهدي الخيال لنا ذكرى إذا طافا ... وافى يخادعنا والصبح قد وافى (2) وقوله: مرحباً بالخيال منك المطيف ... في شموس لم تتصل بكسوف (3) وقوله: أما الخيال فإنه لم يطرق ... إلا بعقب تشوف وتشوق (4) وقوله: هذا الحبيب فمرحباً فمرحباً بخياله ... أنى اهتدى والليل في سرباله (5) / وقوله: خيال ملم أو حبيب مسلم ... وبرق مجلى أو حريق مضرم (6) وقوله: أأراك الحبيب خاطر وهم ... أم أزارتكه أضاليل حلم (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 وقوله: خيال يعتريني في المنام ... لسكرى اللحظ فاتنه الكلام (1) وقوله: طيف تأوب من سعدى فحياني ... أهواه وهو بعيد النوم يهواني (2) وقوله: طيف لعلوة ما ينفك يأتيني ... يصبو إلي على خلف فيصبيني (3) وقوله: طيف الخيال ألم من عدوائه ... وبعيد موضع أرضه وسمائه (4) وقوله: أحبب إلي بطيف سعدى الآتي ... وطروقه في أكثر الأوقات (5) وقوله: / خيال ماوية المطيف ... أرق عيناً لها وكيف (6) وقوله: أرج لريا طلة رياه ... لا يبعد الطيف الذي أهداه (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وما أحسن ما قال مسلم بن الوليد: طيف الخيال حمدنا منك إلماما ... داويت سقماً وقد هيجت أسقاما (1) مضت الابتداآت ... وهذا ماجاء عن البحتري من وصف الخيال في وسط الكلام، قال: فلا وصل إلا أن طيف خيالها ... بنا تحت جؤشوش من الليل أسفع (2) ألمت بنا بعد الهدو فسامحت ... بوصل متى تطلبه في الجد تمنع (3) وما برحت حتى مضى الليل فانقضى ... وأعجلها داعي الصباح الملمع (4) فولت كأن البين يخلج شخصها ... أوان تولت من حشاي وأضلعي (5) ورب لقاء لم يؤمل وفرقة ... لأسماء لم تحزر ولم تتوقع (6) أسر بقرب من ملم مسلم ... وأشجى بيبن من حبيب مودع وكائن لنا بعد النوى من تفرق ... تزجيه أحلام الكرى وتجمع (7) ومن لوعة تعتاد في إثر لوعة ... ومن أدمع ترفض في إثر أدمع / فانظر إلى هذه العبارة الحسنة، وإخباره إياك بالشيء على ما كان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 ونحو ذلك في الحسن والصحة قوله: وإني وإن ضنت علي بودها ... لأرتاح منها للخيال المؤرق (1) يعز على الواشين لو يعلمونها ... ليال لنا نزدار فيها ونلتقي فكم غلة للشوق أطفات حرها ... بطيف متى يطرق دجى الليل يطرق أضم عليه جفن عيني تعلقاً ... به عند إجلاء النعاس المرنق فقوله: «أضم عليه جفن عيني تعلقاً» من أحسن كلام، وأصح معنى وأصدقه وأكثره، وكثيراً ما ينال أكثر الناس ذلك عند إجلاء النوم، وابتداء اليقظة إذا كان في رؤيا يلذها. وقال أيضاً: أجدك ما ينفك يسري لزينبا ... خيال إذا آب الظلام تأوبا (2) سرى من أعالي الشام يجلبه الكرى ... هبوب نسيم الروض تجلبه الصبا وما زارني إلا ولهت صبابة ... إليه وإلا قلت أهلاً ومرحبا (3) وليلتنا بالجزع بات مساعفاً ... يريني أناة الخطو ناعمة الصبا أضرت بضوء البدر والبدر طالع ... وقامت مقام البدر لما تغيبا قوله: «إذا آب الظلام تأوبا»، آب أي رجع، وتأوب (4): تراجع. يعني أن الطيف إذا عاد الظلام عاد، وليس ذلك من التأويب الذي هو سير النهار كله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وقوله: «سرى من أعالي الشام» بيت في غاية الحسن والحلاوة. ... وقال: أما راعك الحي الحلال بهجرهم ... وهم لك غدواً بالتفرق أروع (1) بلى وخيال من أثيلة كلما ... تأوهت من وجد تعرض يطمع إذا زورة منه تقضت مع الكرى ... تنبهت من وجد له أتفزع (2) ترى مقلتي ما لا ترى في لقائه ... وتسمع أذني منه ما ليس تسمع (3) ويكفيك من حق تخيل باطل ... ترد به نفس اللهيف فترجع ولست أقول في هذا إلا ما كان البحتري يقوله، وحدثنا به أبو علي محمد بن العلاء السجستاني: إنه كان إذا شرب وسكر أنشد مثل هذه الأبيات وأشباهها من شعره، وقال: ألا تسمعون؟ ألا تعجبون؟. ... وقال: أخيال عزة كيف زرت وعندنا ... أرق يشرد بالخيال الزائر (4) طيف ألم بنا ونحن بمهمه ... قفر يشق على الملم الخاطر (5) حتى إذا تزعوا الدجى وتسربلوا ... من نور هلهلة الصباح النائر (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 ورنوا إلى شعب الرحال بأعين ... يكسرن من نظر النعاس الفاتر (1) أهوى فأسعف بالتحية خلسة ... والشمس تلمع في جناح الطائر / سرنا وأنت مقيمة ولربما ... كان المقيم علاقة للسائر وهذا -والله- الكلام العربي، والمذهب الذي يبعد على غيره أن يأتي بمثله. وقال: إذا ما الكرى إلي خياله ... شفى قربه التبريح أو نقع الصدى إذا انتزعه من يدي انتباهة ... عددت حبيباً راح مني أو غدا (2) ولم أر مثلينا ولا مثل شأننا ... نعذب أيقاظاً وننعم هجدا وقال: أقامت على الجهران ما إن تجوزه ... وخالفها بالوصل طيف لها يسري (3) فكم في الدجى من فرحة بلقائها ... وكم ترحة بالبين منها لدى الفجر إذا الليل أعطانا من الوصل بلغة ... ثنتنا تباشير الصباح إلى الهجر (4) ولم أنس إسعاف الكرى بدنوها ... وزورتها بعد الهدو وما تدري وقال: إن ريا لم تسق ريا من الوصـ ... ـل ولم تدرما جوى العشاق (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 بعثت طيفها إلي ودوني ... وخد شهرين للمهاري العتاق زار وهناً من الشام فحيا ... مستهاماً صبا بأعلى العراق فقضى ما قضى وعاد إليها ... والدجى في برودها الأخلاق / قد أخذنا من التلاقي بحظ ... والتلاقي في النوم عدل التلاقي وهذا حسن جداً. وألطف وأحسن وأحلى قوله: وزائر زار من أعقته ... يميل وزناً بأنسه ذعره (1) كأنه جاء منجزاً عدة ... وبت في الراقبين أنتظره لم أنسه موشكاً على وجل ... مدامجاً للحديث يختصره (2) كأنما الكاشحون قد خرصوا ... مكانه أو أتاهم خبره (3) وقال: تدرين كم زورة مشكورة ... من زائر وهب الخطير وما درى (4) غاب الوشاة فبات يسهل مطلب ... لو يشهدون طريقه لتوعرا كان الكرى حظ العيون ولم أخل ... برق الغرام يسوقه حتى جرى (5) قامت تمنيني الوصال لتبتلي ... جذلي وحاجة أكمة أن يبصرا (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 منيتنا عللاً وما أنهلتنا ... والوقت ليس يحيل حتى يشهرا تالله لم أر مذ رأيت كليلتي ... في العلث إلا ليلتي في عكبرا أهوى الظلام وأن أملاه وقد ... حدر الصباح نقابه أو أسفرا وهذا لعمري هو القول الذي لو ورده الظمآن لروي؛ لكثرة مائه (1). وقال: بت أيدي وجداً وأكتم وجداً ... لخيال قد بات لي منك يهدى (2) أقسم الظن فيه أني تخطى الر ... رمل من عالج وأني تهدى خطأ ما أزارناه طروقاً ... أم توخيه للزيارة عمدا (3) لا تخيب البلاد تخطر فيها ... رسل الشوق من خيالات سعدى وعدتنا فما وفت بوصال ... ووفت حين أو عدت أن تصدا (4) قرب الطيف منتواها فأصبحـ ... ـت حديثاً بناقض العهد عهدا (5) قوله: «لا تخيب البلاد تخطر فيها» بيت حسن جداً؛ جعل الخيالات للشوق. وقال في قصيدته التي أولها: * بان عهد الصبا وباقي جديده (6) * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 منك طيف ألم والأفق ملآ ... ن من الفجر واعتراض عموده (1) زائر أشرقت لرؤيته أغـ ... ـوار أرض العراق بعد نجوده (2) أرب النفس كله ومتاع الـ ** ـعين في حده وفي توريده معطياً من وصاله في كرى النو ... م الذي كان معطياً من صدوده (3) يقظات المحب ساعات بؤسا ... هـ ونعماء عيشه في هجوده (4) / وقال: وما انفك داعي البين حتى تزايلت ... قباب بناها حاضر وخيام (5) عشية ما بي عن شبيث ترحل ... فأمضى ولالي في شبيث مقام (6) فما نلتقي إلا على حلم هاجد ... يحل لنا جدواك وهو حرام (7) إذا ما تباذلنا النفائس خلتنا ... من الجد أيقاظاً ونحن نيام وهذا قول ليس بينه وبين القلب حجاب. وقال: أرجم في ليلي الظنون وأرتجي ... أوائل حب أخلفتني أوائله (8) وليلة هومنا على العيس أرسلت ... بطيف خيال يشبه الحق باطله فلولا بياض الصبح طال تشبثي ... بعطفي غزال بت وهناً أغازله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وكم من يد لليل عندي حميدة ... وللصبح من خطب تذم غوائله وهذا كله إنما حسن هذا الحسن وقبلته النفوس لأنه اعتمد أن يخبر بالأمر على ما هو، مع حسن عبارته وبراعة نسجه وجودة تلخيصه، ومتخير ألفاظه. وقد ذهب البحتري مذهباً آخر، وأحسن فيه كل الإحسان، وهو أن شبه الزائر الذي زاره بالخيال؛ لشدة فرحه، وخوفه أن لا يكون له حقيقة. وقال في قصيدته التي أولها: * بودي لو يهوى العذول ويعشق (1) * وزور أتاني طارقاً فحسبته ... خيالاً من آخر الليل يطرق (2) أقسم فيه الظن: طوراً مكذباً ... به أنه حق وطوراً أصدق أخاف وأرجو بطل ظني وصدقه ... فلله شكي حين أرجو وأفرق وقد ضمنا وشك التلاقي ولفنا ... عناق على أعناقنا ثم ضيق فلم تر إلا مخبراً عن صبابة ... بشكوى وإلا عبرة تتدفق (3) فاحسن بنا والدمع بالدمع واشج ... تمازجه والخد بالخد ملصق (4) ومن قبل قبل التشاكي وبعده ... نكاد بها من شدة اللثم نشرق (5) فلو فهم الناس التلاقي وحسنه ... لحبب من أجل التلاقي التفرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وقال في نحو هذا: حبيب سرى في خفية وعلى ذعر ... يجوب الدجى حتى التقينا على قدر (1) تشككت فيه من سرور وخلته ... خيالاً أتى في النوم من طيفه يسري وأفرطت من وجد به فدرى بنا ... على ساعة الهجران من لم يكن يدري (2) وقال: أما معين على الشوق الذي غريت ... به الجوانح والبين الذي أفدا (3) / كيف اللقاء وقد أضحت مخيمة ... بالشام لا كثباً منها ولا صددا (4) تهاجر أمم لا وصل يخلطه ... إلا تزاور طيفينا إذا هجدا وقد يزير الكرى من لا زيارته ... قصد ويدني الهوى من بعد من بعدا (5) بتنا على رقبة الواشين مكتنفى ... صبابة نتعاطى البث والكمدا إما سألت بشخصينا هناك فقد ... غابا وأما خيالانا فقد شهدا ولم يعدني لها طيف فيفجؤني ... إلا على أبرح الوجد الذي عهدا لو كان قال: «إلا تزاور طيفينا إذا هجدنا» كان عندي أجود فكأن المعنى إذا هجدت رأيتها في النوم فكأن نفسي ونفسها اجتمعتا، وكذلك إذا هجدت ترى مثل ما رأيت، ويكون طيفينا محمولاً على معنى نفينا؛ لأن (6) النفس هي التي ترى ما ترى في النوم، وهي التي تمثل أيضاً ما تتمثله في اليقظة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وقد يسوغ مع هذا أيضاً قوله: «إذا هجدا» أن يريد النفسين؛ لأن نفس الإنسان هي التي تنام كما قال الله عز وجل: «والتي لم تمت في منامها» (1) فهذا سائغ (2) ولكن الغلط وقع عليه في قوله: هجرتنا يقظى وكادت على عا ... دتها في الصدود تهجر وسنى (3) إنما أراد طيفها، وهو يرى طيفها في نومه يقظى كانت أو نائمة. وقال: / طيف تأوب من سعدى فحياني ... أهواه وهو بعيد النوم يهواني (4) فيا لها زورة يشفى الغليل بها ... لو أنها جلبت يقظى ليقظان مهزوزة إن مشت لم تلف هزتها ... في الخيزران ولم توجد مع البان يدني الكرى شخصها مني ويوقظني ... وجد فيبعد عني شخصها الداني (5) وقال: أما الخيال فإنه لم يطرق ... إلا بعقب تشوف وتشوق (6) قد زار من بعد فنهنه من جوى ... ضرم وسكن من فؤاد مقلق (7) ولربما كان الكرى سكناً لها ... بعد الفراق إلى اللقاء فنلتقي (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وقال: مثالك من طيف الخيال المعاود ... ألم بنا من أفقه المتباعد (1) يحيي هجوداً منتشين من الكرى ... وما نفع إهداء السلام لهاجد إذا هي مالت للعناق تقطعت ... تعطف أملود من البان مائد إذا وصلتنا لم تصل عن تعمد ... وإن هجرت أبدت لنا هجر عامد وقال [من قصيدته التي أولها]: * قالت: الشيب أتى قلت: أجل (2) * خطرت في النوم منها خطرة ... خطرة البرق بدا ثم اضمحل (3) أي زور لك لو قصداً سرى ... وملم منك لو حقاً فعل يتراءى والكرى في مقلتي ... فإذا فارقها النوم بطل وقال [من قصيدته التي أولها]: * شدما أغريت ظلوم بهجري (4) * طرقتنا وفي الخيالات سقم ... أم بكر فأسعفت أم بكر (5) في بدو من الشباب عليها ... ورق من جديدها المسبكر (6) كملت أربع لها بعد عشر ... ومدى البدر أربع بعد عشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 خلفت جارها بحزوي وباتت ... بين سحرى شروى الضجيع ونحري لو درت ما أتت لمنت بنجح ... لم يكذب ونائل غير نزر (1) وقال: قل للخيال إذا أردت فعاود ... تدني المسافة من هوى متباعد (2) فلأنت في نفسي وإن عنيتني ... وبعثت لي الأشجان أحلى وافد باتت بأحلام النيام تغرني ... رود التثني كالقضيب المائد ضاهت بحلتها تلهب خدها ... حتى غدت في أرجوان جاسد وقال: بعينيك إعوالي وطول شهيقي ... وإخفاق عيني من كرى وخفوق (3) على أن تهويماً إذا عارض أطبى ... سرى طارق في غير وقت طروق (4) سرى جائحاً للخرق يخشى ولم يكن ... ملياً بإسراء وجوب خروق فبات يعاطيني على رقبة العدا ... ويمزج ريقاً من جناه بريقي وبت أهاب المسك منه وأتقي ... رداع عبير صابك وخلوق (5) أرى كذب الأحلام صدقاً وكم صغت ... إلى خبر أذناي غير صدوق وما كان من حق وبطل فقد شفى ... حرارة متبول وخبل ومشوق وحسبك بهذا حسناً وحلاوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وقال: أحبب إلي بطيف سعدى الآتي ... وطروقه في أعجب الأوقات (1) أني اهتديت لمحرمين تصوبوا ... لسفوح مكة من ربى عرفات ذكرتنا عهد الشآم وعيشنا ... بين القنان السود والهضبات (2) إذ أنت شكل مخالف وموافق ... والدهر فيك ممانع وموات لولا مكاثرة الخطوب ونحتها ... من جانبيَّ لكنت من حاجاتي (3) ... وما علمت أحداً من القدماء قال في طروق الخيال أحسن من قول قيس بن الخطيم، قال: أني سربت وكنت غير سروب ... وتقرب الأحلام غير قريب (4) ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه ... في النوم غير مصرد محسوب / ثم جاء البحتري فأبر على قيس وكل أحد ولم أستقص ههنا كل ما قاله فيه لكثرته. وما أحسن ما قال عدي بن الرقاع: يصطاد يقظان الرجال حديثها ... وتطير بهجتها بروح الحالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وقال البحتري: إذا نسيت هوى ليلى أشاد به ... طيف سرى في سواد الليل إذ جنحا دنا إلي على بعد فأرقني ... حتى تبلج ضوء الصبح فاتضحا عجبت منه تخطي القاع من إضم ... وجاوز الرمل من خبث وما برحا قال: «تخطى القطاع من إضم وجاوز الرمل من خبث» فكيف يقولك وما برحا؟ أراد ما برح على الحقيقة. فإن قيل: هي لم تبرح على الحقيقة فأما خيالها إذا طرق وهي بعيدة نائية فقد برح. قيل: خيالها إنما هو صورتها التي تتصور في النفس، والصورة أيضاً غير نازحة على الحقيقة، فقولهم: طرق الخيال، وزار الخيال مجاز. ويجوز أن يكون قوله: «وما برحا» أي ما برحت هي وجعل خيالها بدلاً، ووضعه في موضعها؛ لأنه هي، الا ترى إلى قول جرير: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام (2) قيل: إنه أراد خيالها فوضعها في موضعه؛ لأن خيالها ليس هو شيئاً غير صورتها. / وقد استجفى الناس قوله: «فارجعي بسلام»، وإنما قال هذا لأنه عاتب عليها، ألا ترى إلى قوله بعدا هذا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 لو كان عهدك كالذي عاهدتنا ... لوصلت ذاك فكان غير رمام (1) أو لم يمنعه طرده الخيال أن قال بعد هذا: تجري السواك على أغر كأنه ... برد تحدر من متون غمام وهذا وإن كان الناس قد تقدموه بتشبيه الثغر بالبرد فإن هذا لفظ وسبك في غاية الجودة والحلاوة والبراعة. ... وأول من طرد الخيال طرفة فقال: فقل لخيال الحنظلية ينقلب ... إليها فإني واصل حبل من وصل (2) وهذا أعذر من جرير لأنه قال: «فإني واصل حبل من وصل»، فدل على أن الحنظلية هجرته وواصله غيرها فطرد خيالها. ... وقد دعا الأعشى على الخيال فقال: هذا النهار بدا لها من أمرها ... ما بالها بالليل زال زوالها (3) أي أزاله كزواله. وما أظن جريراً، ولا الأعشى قبله كرها الخيال على الحقيقة، وإنما أرادا أن زيارته في غير وقتها شاغلة لنا عن حالنا التي نحن عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وقال البحتري: / أمنك تأوب الطيف الطروب ... حبيب جاء يهدى من جبيب (1) تخطي رقبة الواشين وهناً ... وبعد مسافة الخرق المحبوب (2) يكاذبني وأصدقه وداداً ... ومن كلف مصادقة الكذوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 * ما قالاه في الشيب والشباب ووصف الكبر والعزوف عن الصبا، ونحو ذلك ... وأفتتح هذا الباب بما لهما من ابتداآت القصائد في نحو معانيه. قال أبو تمام: نسج المشيب له لفاعاً مغذفا ... يققاً فقنع مذوريه ونصفا (1) قوله: «لفاعاً» يريد لباساً، يقال: لفع المشيب رأسه: إذا شمله وعلاه. والمغدوف: المسبل، يقال: أغدفت الستر إذا أسبلته، ومذرواه ها هنا: فودا، ومذروا كل شيء: ناحيتاه وقد استعملا كثيراً في أطراف الأليتين حتى صارا كالاسم لهما. وقوله: «نصفا» أي قنع جانبي رأسه حتى بلغ النصف منه. وقد قيل: إنما أراد بقوله: «نصفا» النصيفا، وهو قناع لطيف؛ يكون مثل نصف القناع الكبير، وقد ذكره النابغة فقال: * سقط النصيف ولم ترد إسقاطه (2) * فإن ذلك لا وجه له (3) بعد ذكر القناع، وإنما أراد أبو تمام ما أراده الآخر بقوله: / أصبح الشيب في المفارق شاعا ... واكتسى الرأس من مشيب قناعا فالمعنى مكتف بقوله: «قنع مذرويه»، وقوله: «نصفا» أي بلغ نصف رأسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وقال أبو تمام: يضحكن من أسف الشباب المدبر ... يبكين من ضحكات شيب مقمر (1) وهذا بيت رديء، وما سمعت بضحك من الأسف إلا في هذا البيت، وكأنه أراد قول الآخر: * وشر الشدائد ما يضحك * فلم تهتد لمثل هذا الصواب. وقوله: «من ضحكات شيب مقمر» ليس بالجيد أيضاً، ولو كان ذكر الليل على الاستعارة لحسن أن يقول مقمر؛ لأنه كان يجعل سواد الشعر ليلاً، وبياضه بالمشيب إقماره، لأن قائلاً لو قال: أقمر ليل رأسك، كان من أصح الكلام وأحسنه، وإن لم يذكر الليل أيضاً حتى يقول: قد أقمر عارضاك، أو فؤادك لكان حسناً مستقيماً، وهو دون الأول في الحسن؛ وذلك أنه قد علم أنهما كانا مظلمين فاستنارا (2) وسقى الله البحتري الغيث إذ يقول: ليال سرقناها من الدهر بعد ما ... أضاء بإصباح من الشيب مفرق (3) وإنما أراد أبو تمام قول دعبل: * ضحك المشيب برأسه فبكى (4) * فأفسد المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وقال: أبدت أسى أن رأتني مخلس القصب ... وآل ما كان من عجب إلى عجب (1) / يقال: رأس مخلس، وخليس: إذا اختلط به الشيب، والقصب: هي خصلة الشعر. «وآل ما كان من عجب إلى عجب»، أي عجب ومحبة، «وإلى عجب» أي عجب من شيء. وقال في العزوف عن الصبا: أبى: فلا شنباً يهوى ولا فلجا ... ولا احوراراً يراعيه ولا دعجا (2) وهذان ابتداآن صالحان. ... وللبحتري في هذا الباب ابتداآت كثيرة تصرف فيها أحسن تصرف، وافتن فيها أحلى افتنان، وذلك قوله: أبعد المشيب المنتضى في الذوائب ... أحاول لطف الود عند الكواعب (3) وقال: رأت وخط شيب في عذارى فصدت ... ولم تنظرني من جوى قد أجدت (4) وقوله: غلس الشيب أو تعجل ورده ... واستعار الشباب من لا يرده (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وقوله: أما الشباب فقد سبقت بغضه ... وحططت رحلك مسرعاً من نقضه (1) وقوله: ترك الشباب للابسيه وبيضا ... ونضا من الستين عنه ما نضا (2) / وقوله: لابس من شبيبة أم ناض ... ومليح من شيبة أم راض (3) وقوله: شرخ الشباب أخو الصبا وأليفه ... والشيب تزجيه الهوى وخفوفه (4) وقوله: ها هو الشيب لائماً فأفيقي ... واتركيه إن كان غير مفيق (5) وقوله: قالت الشيب أتى قلت أجل ... سبق الوقت ضراراً وعجل (6) وقوله: تقضى الصبا إلا تلوم راحل ... وأغنى المشيب عن ملام العواذل (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 أكان الصبا إلا خبالاً مسلما ... أقام كرجع الطرف ثم تصرما (1) وقوله: لا جديد الصبا ولا ريعانه ... راجع بعدما تقضى زمانه (2) وقوله: / بان عهد الصبا وباقي جديده ... بين أعوان طالب ووجوده (3) وقوله: خطته فلم تحفل به الأعين الوطف ... وكان الصبا إلفاً فودعه الإلف وقال في العزوف عن الصبا: إليك ما أنا عن لهو ولا طرب ... منيت مني بقلب غير منقلب (4) وقال: أطاع عاذله في الحب إذ نصحا ... وكان نشوان من سكر الصبا فصحا (5) وقال: في الشيب زجر له لو كان ينزجر ... وواعظ منه لولا أنه حجر (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وقال: أنزاعاً في الحب بعد نزوع ... وذهاباً في الغي بعد رجوع (1) وقال: لأية حال أعلن الوجد كاتمه ... وأقصر عن داعي الصبابة لائمه (2) وقال: إني تركت الصبا عمداً فلم أكد ... من غير شيب ولا عذل ولا فند (3) ... / وهذا باب أبر فيه البحتري على أبي تمام. قوله: «أبعد المشيب المنتضى» (4) ويقال: نضا الحناء عن اليد ينضو، ونضا ثوبه عنه ينضوه، أي نزعه، وانتضى السيف: انتزعه من غمده، فجعل الشيب منتضى في الذوائب أي مشهوراً فيها على الاستعارة، كأنه جعله سيفاً سل في رأسه. وأجود من هذا قوله: وددت بياض السيف يوم لقينني ... مكان بياضر الشيب كان لمفرقي (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 * ما جاء عنهما في وسط كلاهما من ذكر الشيب والشباب ووصف الشيب وذمه قال أبو تمام: غدا الهم مختطاً بفودي خطة ... طريق الردى منها إلى الموت مهيع (1) هو الزور والمعاشر يجتوي ... وذو الإلف يقلى والجديد يرقع ونحن نرجيه على الكره والرضا ... وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع (2) وهذه كلها معان جيدة صحيحة مستقيمة. ... وقال: شعلة في المفارق استودعتني ... في صميم الأحشاء حزناً صميما (3) يستشير الهموم ما اكتن منها ... صعداً وهي تستشير الهموما (4) / غرة مرة ألا إنما كنـ ... ـت أغرا أيام كنت بهيما (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 رقة في الحياة تدعى جلالاً ... مثلما سمي اللديغ سليما (1) حلمتني زعمتم وأراني ... قبل هذا التحليم كنت حليما (2) وهذه كلها أيضاً أبيات جيدة، والأغراض فيها (3) حسنة مستقيمة. وقوله: «تستشير الهموم ما اكتن منها» يريد أنها لم بدت حزنت، واهتممت، فصار اهتمامي يزيد فيها، لأن الهم -على كل حال- يشيب. وقوله: «وهي تستشير الهموما» قول صحيح أيضاً؛ لأنه كلما بدا منها شيء زاد همه، فالهم يجلبها، وهي تجلب الهم. وأخذ البحتري قوله: غرة مرة ألا إنما كنـ ... ـت أغرا أيام كنت بهيما! فقال: عجبت لتفويف القذال وإنما ... تفويفه لو كان غير مفوف (4) ... وقال البحتري: وكنت أرجي في الشباب شفاعة ... وكيف لباغي حاجة بشفيعه (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 مشيب كبث السر عي بجمله ... محدثه أو ضاق صدر مذيعه (1) تلاحق حتى كاد يأتي بطيئه ... لحث الليالي قبل أتي سريعه وهذا أيضاً في وصف الشيب حسن جداً. وقال البحتري: ردي علي الصبا إن كنت فاعلة ... إن الصبا ليس من شأني ولا أربي (2) جاوزت حد الشباب النضر ملتفتاً ... إلى بنات الردى تركضن في طلبي (3) والشيب مهرب من جارى منيته ... ولا نجاء له في ذلك الهرب والمرء لو كان الشعرى له وطناً ... صبت عليه صروف الدهر من كثب وقال: لابش من شبيبة ام ناض ... ومليح من شيبة أم راض (5) وإذا ما امتعضت من ولع الشيب برأسي لم يثن ذاك امتعاضي (6) ليس يرضى عن الزمان ... مرو ... فيه إلا عن غفلة أو تغاض باكرت لمتي وناكرت منها ... سوء هذي الأبدال والأعواض (7) شعرات أقصهن ويرجعـ ... ـن رجوع السهام في الأغراض وأبت تركي الغديات والآ ... صال حتى خضبت بالمقراض (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 غير نفع إلا التعلل من شخـ ... ـص عدو لم يعده إبغاضي ورواء المشيب كالبخض في عيـ ... ـني فقل فيه في العيون المراض (1) طبت نفساً عن الشباب وماسو ... ود من صبغ برده الفضفاض فهل الحادثات يابن عويف ... تاركاتي ولبس هذا البياض / وهذا هو الذي يأخذ بمجامع القلب، ويستولي على النفس، ومن حذق الشاعر أن يصور لك الأشياء بصورها، ويعبر عنها بألفاظها المستعملة فيها واللائقة بها، وذلك مذهب البحتري وصناعته؛ ولهذا ما كثر الماء والرونق في شعره، وقالوا لشعره ديباجة وما قيل ذلك في شعر أحد من المتأخرين غيره. ... وقال: وما أنس لا أنس عهد الشبا ... ب وعلوة إذ عيرتني الكبر (2) وقوله: «ما أنس لا أنس» جزم: لأنه شرط وجزاء. كواكب شوق علقن الصبا ... فقللن من حسنه ما كثر (3) وإني وجدت فلا تكذبن ... سواد الهوى في بياض الشعر ولا بد من ترك أحدى اثنتيـ ... ـن إما الشباب وإما العمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 قوله: ولا بد من ترك أحدى اثنتيـ ... ن إما الشباب وإما العمر عليه في هذا البيت معارضة، وهو أن يقال: إن من مات شاباً فقد فارق الشباب، وهو مفارق للعمر لا محالة، فهو أيضاً تارك لهما جميعاً، وقوله: إما الشباب وإما العمر لا يوجب إلا أحدهما. والعذر للبحتري أن يقال: إن من مات شاباً فإنما فارق الشباب وحده؛ لأنه لم يعمر فيكون مفارقاً للعمر، ألا تراهم يقولون: فلان عمر: إذا أسن وفلان لم يعمر: إذا مات شاباً أو هو في حدود الشباب، ومن شاب وعمر ثم مات لم يكن مفارقاً للشباب في حال موته [لأنه قد قطع أيام الشباب وتقدمت مفارقته له، وإنما يكون في حال موته] (1) مفارقاً للعمر وحده، فإلى هذا ذهب البحتري، وهو صحيح، ولم يرد بالعمر ههنا: الكبر، كما قال زهير: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطيء يعمر فيهرم (2) ومثله قول آخر: من لم يمت عبطة يمت هرماً ... للموت كأس والمرء ذائقها (3) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 هذا أجود من بيت زهير ومن بيت البحتري؛ لأنه جمع المعنيين في المصراع الأول، وهو مستغن عن المصراع الثاني. ... ولولا قوله: «مشيب كبث السر». و «فهل الحادثات يابن عويف» لفضلت أبا تمام عليه، ولكني أجعلهما متكافئين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 * كره النساء للمشيب قال أبو تمام: ألم تر آرام الظباء كأنما ... رأت بي سيد الرمل والصبح أدرع لئن جزع الوحشي منها لرؤيتي ... لإنسها من شيب رأسي أجزع (1) وهذا غاية في حسنه وصحة معناه. قوله: «سيد الرمل» يريد الذئب، وقوله: «والصبح أدرع» أي أوله مختلط بسواد الليل، يريد وقت طلوع الفجر، وكل ما اسود أوله، وابيض آخره فهو أدرع، وشاة درعاء للتي اسود رأسها وعنقها، وسائرها أبيض. وإنما قال ذلك لأن الضباء تخاف الذئب في ذلك الوقت، لأن لونه يخفى فيه لغبشته، فلا تكاد تراه حتى يخالطها، وهو الوقت الذي تنتشر (2) فيه الظباء، وتخرج من كنسها لطلب المرعى (3)، والغنم يخرجها أهلها بعد هذا الوقت. ... وقال أبو تمام: لعب البين بالمفارق بل جد ... دفابكى تماضراً ولعوبا (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 خضبت خدها إلى لؤلؤ العقـ ... ـد دماً أن رأت شواتي خضيبا كل داء يرجى الدواء له ... إلا الفظيعين ميتة ومشيبا يا نسيب الثغام ذنبك أبقى ... حسناتي عند الحسان ذنوبا (1) ولئن عبن ما رأين لقد أنـ ... ـكرن مستنكراً وعبن معيبا أو تصدعن عن قلى لكفى بالشـ ... ـيب بيني وبينهن حسيبا لو رأى الله أن للشيب فضلاً ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا وهذا البيت الأخير من شعره الجيد المشهور. ومن يتعصب عليه يقول: إنه ناقض في هذه الأبيات، لقوله: «فأبكى تماضراً ولعوبا» وقوله: «خضبت خدها إلى لؤلؤ العقد دماً» ثم قال: يا نسيب الثغام ذنبك أبقى ... حسناتي عند الحسان ذنوبا وقوله: «ولئن عبن ما رأين». وقالوا كيف يبكين دماً على مشيبه ثم يعبنه؟ وليس ها هنا تناقض؛ لأن الشيب إنما أبكى تماضراً ولعوباً أسفاً على شبابه، والحسان اللواتي عبنه غير هاتين المرأتين، فيكون من أشفق عليه من الشيب منهن وأسف على شبابه بكى، كما قال الأخطل: لما رأت بدل الشباب بكت له ... إن المشيب لأرذل الأبدال (2) ولم تك هذه حال من عابه (3) وهو مستقيم صحيح (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وقول الأخطل: بكت له أي الشباب، ولكن أبا تمام لم يرض أن يقول بكت فيكون أمراً قريباً مشبهاً، حتى قال: «بكت الدم» على مذهبه في الخروج عن الحد في كل شيء. ... وقال: راحت غواني الحي عنك غوانيا ... يلبسن نأياً تارة وصدودا (1) من كل سابغة الشباب إذا بدت ... تركت عميد القريتين عميدا (2) أرببن بالمرد الغطارف بدناً ... غيداً ألفنهم لداناً غيدا أحلى الرجال من النساء مواقعاً ... من كان أشبههم بهن خدودا قوله: «أرببن بالمرد» هو من أرب بالشيء إذا لزمه وأقام عليه، يقال: أرب به، وألب إذا لزمه، يريد أنهن أرببن (3) هوى المرد، وأقمن عليه. ورواه قوم «أرببن بالمرد»، من الربا الذي معناه الزيادة يقال (4): قد أربى الرجل إذا زاد، فيقول: «أربين بالمرد أي زدن علينا بهم، أي جعلن المرد زيادة اخترنها علينا (5) فما يقبل الرجل الزيادة في الشيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 الذي يعطاه فاضلاً من حقه، ويرغب يقال: قد أربى، فإلى هذا ذهب من قال: أربين، لا إلى قولهم: أنا أربأ بك عن كذا، لأن هذا مهموز معناه: أنا أرتفع بك، أو أرفعك عن كذا، من الربيئة والارتباء وهو الذي يصعد لأصحابه إلى شرف عال فيرصد أعداءهم (1) إذا قصدوهم فيراهم من بعد فينذرهم بهم، فكأنه قوله: «أربين بالمرد» أي أخذن المرد رباً علينا لما فيهم من الزيادة التي اخترن (2) علينا وتركننا. والمعنى الأول أقرب لفظاً. وعلى أي الوجهين كانت اللفظة فهي غير حسنة، ولا لائقة، ولا هذا الموضع موضعها بالباء كانت أم بالياء. وقيل: أخذ قوله (3): «أحلى الرجال من النساء مواقعاً؛ من قول الأعشى: وأرى الغواني لا يواصلن أمراً ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا (4) وقال منصور النمري: كرهن من الشيب الذي لو رأينه ... بهن رأيت الطرف عنهن أزورا (5) ونحو هذا قول آخر: أرى شيب الرجال من الغواني ... بموقع شيبهن من الرجال (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وقال البحتري: تعيب الغانيات علي شيبي ... ومن لي أن أمتع بالمعيب (1) ووجدي بالشباب وإن تقضى ... حميداً دون وجدي بالمشيب وهذا من فاخر هذا الباب وعجيب مذاهبه، ومن إحسان أبي عبادة المشهور. ... وقال البحتري أيضاً: أعداوة كانت فمن عجب الهوى ... أن يصطفي فيه العدو حبيبا (2) أم وصلة صرفت فعادت هجرة ... أن عاد ريعان الشباب مشيبا أرأيته من بعد جثل فاحم ... جون المفارق بالنهار خضيبا (3) فعجبت من حالين خالف منهما ... ريب الزمان وما رأيت عجيبا إن الزمان إذا تتابع خطوه ... سبق الطلوب وأدرك المطلوبا قوله: «جون المفارق»، والجون ها هنا: الأبيض؛ فلذلك قال: «بالنهار خضيبا» وخضاب البياض غير معروف ولا جرت بمثله عادة، وإنما الخضاب بالسواد والصفرة، وذلك أن الخضاب إنما هو صبغ، والبياض ليس بصبغ ولكن هو المصبوغ، والبحتري إنما جعله خضاباً لأنه لون حدث بعد لون قبله فلهذا ما جعله كالخضاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وقال: رأت فلتات الشيب فابتسمت لها ... وقالت: نجوم لو طلعن بأسعد (1) أعاتك ما كان الشباب مقربي ... إليك فألحى الشيب إذ كان مبعدي تزيدين هجراً كلما ازددت لوعة ... طلاباً لأن أردى فها أنا ذا ردي (2) متى أدرك العيش الذي فات آنفاً ... إذا كان يومي فيك أحسن من غدي (3) وهذا معنى في غاية الحسن والحلاوة. وقوله: «فابتسمت لها»، يريد استهزأت، وبهذا [جرت عادة النساء أن يضحكن من المشيب ويستهزئن لا أن] يبكين كما قال أبو تمام ولم يقنع إلا ببكاء الدم (5). وقال البحتري: عنت كبدي قسوة منك ما إن ... تزال تجدد فيها ندوبا (6) وحملت عندك ذنب المشيـ ... ـب حتى كأني ابتدعت المشيبا ومن يطلع شرف الأربعين ... يلاق من الشيب زوراً غريبا (7) عهدي بالشيوخ من أهل العلم بالشعر إذا تذاكروا ما قيل في الشيب لا يقدمون على قوله: * وحملت عندك ذنب المشيب * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وقال: وقد دعانت ناهياً فأسمعني ... وخط على الرأس مخلس شعره (1) صغر قدري في الغانيات وما ... ضغر صباً تصغيره كبره وقال: أيثني الشباب أم ما تولى ... منه في الدهر دولة ما تعود (2) لا أرى العيش والمفارق بيضٌ ... أسوة العيش والمفارق سود (3) وأعد الشقي جداً ولو أعـ ... طي غنماً حتى يقال سعيد من عدته العيون وانصرفت عنـ ... ـه التفاتاً إلى سواهد الخدود وقال: راعني ما يروع من وافد الشيـ ... ـب طروقاً ورابني ما يريب (4) شعرات سود إذا حلن بيضاً ... حال عن وصلة المحب الحبيب (5) مر بعد السواد ما كان يحلو ... مجتناه من عيشنا ويطيب (6) وقال: أجدك ما وصل الغواني بمطمع ... ولا القلب من رق الغواني بمعتق (7) وددت بياض السيف يوم لقينني ... مكان بياض الشيب كان بمفرقي (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وقال: عمر الغواني لقد بين من كثب ... هضيمة في محب غير محبوب (1) إذا مددن إلى أغراضه سبباً ... وقين من كرهه الشبان بالشيب وقال: خلياه وجدة اللهو مادا ... م رداء الشباب غضاً جديدا (2) إن أيامه من البيض بيض ... ما رأين المفارق السود سودا وقال: قدك مني فما جوى السقم إلا ... في ضلوع على جورى الحب تحنى (3) لو رأت حادث الخضاب لأنت ... وأرنت من احمرار اليرنا (4) كلف البيض بالمعمر قدراً ... حين يكلفن والمصغر سنا (5) يتشاغفن بالغرير المسمى ... من تصاب دون الجليل المكنى وقال: ترك السواد للابسيه وبيضا ... ونضا من الستين عنه ما نضا (6) وشآه أغيد في تصرف لحظه ... مرض أعل به القلوب وأمرضا وكأنه وجد الصبا وجديده ... ديناً دنا ميقاته أن يقتضى (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 أسيان أثرى من جوى وصبابة ... وأساف من وصف الحسان وأنفضا (1) شآه: سبقه أغيد الشباب الناعم، وغلبه على ود الحسان. وأساف الرجل إذا ذهب ما في يده فافتقر، وكذلك أنفض (2). وقال: أخي إن الصبا استمر به ... سير الليالي فأنهجت برده (3) تصد عني الحسان مبعدة ... إذ أنا لا قربه ولا صدده (4) شيب على المفرقين بارضه ... يكثرني أن أبينه عدده تطلب عندي الشباب ظالمة ... بعيد خمسين حين لا تجده (5) لا عجب إن مللت خلتنا ... فافتقد الوصل منك مفتقده من يتطاول على مطاولة العيـ ... ـش تقعقع من ملة عمده أنهجت برده: يريد بروده، وفعل لا يجمع على فعل. والبارض: أول ما يطلع من النبات وهو غض، يريد أن أوائل الشيب قد زادت عليه في الكثرة حتى لا يقدر على عددها بعد أن كان يعد الشعرات البيض في أول طلوع الشيب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وقوله: «تقعقع من ملة عمده» أي عظامه يجيء لها صوت إذا قام أو قعد من الكبر والضعف (1). وقوله: «من ملة»: أي من تملى العيش، يريد طوله ودوامه، ومنه تمليت حبيك (2). وأخذ قوله (3): تطلب عندي الشباب ظالمة ... بعيد خمسين حين لا تجده (4) من قول بشار: يا منظراً حسناً رأيته ... من وجه جارية فديته لمعت إلي تسومني ... شرخ الشباب وقد طويته (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 * نزول الشيب قبل حينه قال أبو تمام: أبدت أسى أن رأتني مخلس القصب ... وآل ما كان من عجب إلى عجب (1) ست وعشرون تدعوني فأتبعها ... إلى المشيب فلم تظلم ولم تحب (2) فلا يؤرقك إيماض القتير به ... فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب (3) يقال: رأس مخلس وخليس: إذا اختلط به الشيب. والقصب جمع قصبة وهي خصلة الشعر، «وآل ما كان من عجب» بي ومحبة «إلى عجب» أي تعجب من شيبي. وقال: شاب رأسي وما رأيت مشيب الـ ... ـرأس إلا من فضل شيب الفؤاد (4) وكذاك القلوب في كل بؤس ... ونعيم طلائع الأجساد طال إنكاري البياض وإن عمـ ... ـرت شيئاً أنكرت لون السواد زارني شخصه بطلعة ضيم ... عمرت مجلسي من العواد نال رأسي من ثغرة الهم لما ... لم ينله من ثغرة الميلاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 فالأبيات الثلاثة الأولى من فلسفته الحسنة الصحيحة المستقيمة، ومن مشهور أحسانه، وقد عابه قوم بقوله: «شيب الفؤاد»، وليس عندي بعيب؛ لأنه لما كان الجالب للشيب القلب المهموم نسب الشيب إليه على الاستعارة، وقد أحسن عندي، ولم يسيء (1). وقوله: «عمرت مجلسي من العواد» معنى لا حقيقة له؛ لأنا ما رأينا ولا سمعنا أحداً جاءه عواد يعودونه من الشيب، ولا أن أحداً أمرضه الشيب، ولا عزاه المعزون عن الشباب (2). وقال ابن حازم الباهلي: أليس عجيباً بأن الفتى ... يصاب ببعض الذي في يديه (3) فمن بين باك له موجع ... وبين معز مغذ إليه ويسلبه الشيب شرخ الشباب ... فليس يعزيه خلق عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 فأحب أبو تمام أن يخرج عن عادات بني آدم، ويكون أمة وحده. وقوله: «نال رأسي من ثغرة الهم. . .» بيت رديء، بعيد المعنى. ولكنه يقرب ويتخلص إذا وقع التأني للعبارة عنه، فأقول: إن الثغرة هي: الفرجة والثلمة تكون في الشيء؛ ولذلك سمي كل بلد جاور عدواً ثغرا، كأن معناه أنه مكشوف للعدو فلذلك قيل: قد سد الثغر بالرجال، وأصله -والله أعلم- من ثغر الإنسان؛ لأنه أول ما يقابلك من أسنانه، وأول ما يظهر عند الكلام، وأول ما يسقط فيرى موضعه مثلوماً، فشبه الثغر الذي هو البلد به، وقالوا: قد أثغر الصبي واثغر، وسميت تلك الثغرة فرجة في موضع السن وفي كل موضع منفرج، ومنه ثغرة النحر. فأراد بقوله: «نال رأسي من ثغرة الهم»، أي وجد الشيب من الهم فرجة دخل على رأسي منها، جاء به على مذهبه في الاستعارة، والهم يشيب لا محالة. وقوله: «لما لم ينله من ثغرة الميلاد»، يذهب في ثغرة الميلاد إلى الوقت الذي يهجم عليه (1) فيه الشيب من عمره؛ لأنه يجد السبيل في ذلك الوقت إلى الحلول برأسه، فجعله ثغرة حينئذ، فيقول: إن المشيب حل برأسه من جهة همومه وأحزانه لما لم يبلغ السن الذي يوجب حلوله به من جهة كبره (2). وكان وجه الكلام أن يقول: من ثغرة الكبر، أو من ثغرة السن، لا من ثغرة الميلا (3). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وكان يجب أيضاً أن يقول: حل برأسي، أو نزل (1)؛ فإن هذه اللفظة هي المستعملة في مثل هذا دون قوله: «نال»، كأنه يجعل الشيب لم يزل يترصده، ويتطلب فرصة منه ينتهزها في الدخول عليه وذلك لبعده كان عن الأفراح والمسار (2)، وكثرة أحزانه وهمومه، وليس لثغرة الصبي وهو إثغاره إذا سقط سنه ها هنا وجه؛ لأن الإنسان قد يشيب وهو حديث السن فأما في ذلك الوقت فلا. ... وقال: نسج المشيب له قناعاً مفدفا ... يققاً فقنع مذرويه ونصفا (3) نظر الزمان إليه قطع دونه ... نظر الشفيق تحسراً وتلهفا ما اسود حتى ابيض كالكرم الذي ... لم يأن حتى جيء كيما يقطفا لما تفونت الخطوب سوادها ... ببياضها عبثت به فتفوفا ما كان يخطر قبل ذا في فكرة ... في البدر قبل تمامه أن يكسفا قوله: نظر الزمان إليه، أي نظره بالشيب قطع دونه نظر الشفيق عن أن ينظر إليه فيتحسر عليه ويتلهف، وإنما أراد «قطع دونه» خفيفة فثقلها ليستوي له الوزن، وقد يجوز أن يكون أراد التثقيل، أي أن الشفيق الذي كان يديم النظر إليه ويواصله إعجاباً به صار لا يملأ طرفه لما شاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 تحسراً وتأسفاً، كلما نظر إليه أعرض عنه إعراض آسف عليه، لا إعراض بغضة وشناءة، فجعل ذلك الإعراض عنه في أوقاته تقطيعاً للنظر إليه. وقوله: «ما اسود حتى ابيض»، يريد سرعة مشيبه. وقوله: «كالكرم الذي لم يأن جتى جيء كيما يقطفا» (1) كلام في غاية القبح والغثاثة والبرد (2)، كأنه جعل مجيء القاطف إلى الكرم الذي لم يدرك ليقطفه كحلول الشيب برأسه قبل أوانه ليفنى عمره. وقوله: «لما تفرقت الخطوب سوادها ببياضها»، أذى لما اختلفت عليه بالخير والشر فوفت رأسه أي خلطت سواده ببياض الشيب. وقوله: «ما كان (3) يخطر قبل ذا في فكرة. . .» بيت لفظه ومعناه في غاية الاضطراب والسخافة (4). ... وقال البحتري: أقول للمتي إذ أسرعت بي ... إلى الشيب اخسري فيه وخيبي (5) مخالفة بضرب بعد ضرب ... وما أنا واختلافات الضروب (6) وكان جديدها فيها غريباً ... فصار قديمها حق الغريب (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 قوله: وكان جديدها فيها غريباً من قول أبي تمام: طال إنكاري البياض وإن عمـ ... ـرت شيئاً أنكرت لون السواد (1) وبيت أبي تمام أجود. وقول البحتري: «مخالفة بضرب بعد ضرب» في غاية الحسن والصحة والبراعة. ... وقال البحتري: هل أنت صارف شيبة إن غلست ... في الوقت أو عجلت عن الميعاد (2) جاءت مقدمة أمام طوالع ... هذي تراوحني وتلك تغادي وأخو الغبينة تاجر في لمة ... يشري جديد بياضها بسواد لا تكذبن فما الصبا بمخلف ... لهواً ولا زمن الصبا بمعاد (3) وأرى الشباب على غضارة حسنه ... وجماله عدداً من الأعداد قوله: «يشري» أي يبيع «جديد بياضها بسواد» يريد الخضاب؛ لأنه قال: «لا تكذبن فما الصبا بمخلف» (4). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وقوله: «عدداً من الأعداد»، أي عدداً قليلاً يسيراً (1). وقال: ما كان شوقي ببدع يوم ذاك ولا ... دمعي بأول دمع في الهوى سفحا (2) ولمة كنت مشغوفاً بجدتها ... فما عفا الشيب لي عنها ولا صفحا وهذا من إحسانه المشهور: ووجدت في ديوان أبي تمام في الخضاب، وهو يشبه كلامه، وأظنه منحولا (3): فإن يكن المشيب طرا علينا ... وأودى بالبشاشة والشباب فإني لست أدفعه بشيء ... يكون عليه أثقل من خضاب أراد بأن ذاك وذا عذاب ... فينتقم العذاب من العذاب (4) ... وقال البحتري: لو رأت حادث الخضاب لأنت ... وأرنت من احمرار اليرنا (5) وقال: قالت الشيب أتى قلت أجل ... سبق الوقت ضراراً وعجل (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 ومع الشيب على علاته ... مهلة للمرء حيناً والغزل (1) خليت أن التصابي خرق ... بعد خمسين ومن يسمع يخل وقال: تزيدني الأيام مغبوط عيشة ... فينقضي نقص الليالي مرورها (2) وألحقني بالشيب في عقر داره ... مناقل في عرض الشباب أسيرها مضت لي سواد الليل أولى بطالتي ... فدعني يصاحب وخط شيبي أخيرها (3) يقول: إذا زادتني الأيام شيئاً من غبطة العيش اجتمعت مع الليالي على انتقاصه، أي ارتجاعه، والمناقل: جمع منقلة، وهي المرحلة من مراحل السفر (4). وعقر الدار، وعقرها -بالفتح والضم- أصلها. وهذا من بارع لفظه وفصيحه وبليغه. ... ومن هذا الباب، ويصلح أن يثبت في الباب الذي بعده قول آخر: نزل المشيب بعارضيـ ... ـي وضقت ذرعاً بالمشيب وبكيت إذ رحل الشبا ... ب بكا المحب على الحبيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 داء عياء ليس ممـ ... ـما ما أشتكيه إلى الطبيب ما للمشيب بكيت لـ ... ـكن خشية الأجل القريب ... وما أحسن ما قال عمرو بن المبارك الخزاعي في هذا: من لأذني بملام ... ولكفي بمدام رق عظم الجهل مني ... وانحنى متن عرامي وتمشى السيف من شيبـ ... ـبي إلى شيبي التوام نظمك الدر إلى الدر ... رة في سلك النظام ومما لا شيء أجود منه في معناه قول الآخر، ولا تشينه شهرته: ألقى عصاه وأرخى من عمامته ... وقال ضيف فقلت الشيب قال أجل (1) فقلت أخطأت دار الحي قال لقد ... تمتلك الأربعون الوفر ثم نزل (2) فما شجيت بشيء ما شجيت به ... كأنما اعتم منه مفرقي بحبل ... وقد تصرف البحتري في هذا الباب تصرفاً حسناً. ولولا قول أبي تمام: «فلا يؤرقك إيماض القتير به». وقوله: «شاب رأسي»، والبيتان بعده لفضلت البحتري عليه في افتنانه، وبراعة لفظه، وسلامة، لكني أجعلهما متكافئين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 * البكاء على الشباب والتعزي عنه والعزوف عن الصبا قال أبو تمام: أصبحت روضة الشباب هشيما ... وغدت ريحه البليل سموما (1) وقال البحتري: خلق العيش في المشيب وإن كا ... ن نضيراً وفي الشباب جديده (2) ليت أن الأيام قام عليها ... من إذا ما انقضى زمان يعيده ولو أن البقاء يختار فينا ... كان ما تهدم الليالي تشيده شيبتني الخطوب إلا بقايا ... من شباب لم يبق إلا شريده (3) لا تنقب عن الصبا فخليق ... إن طلبناه أن يعز وجوده (4) وهذا من الحلاوة والحسن على ما تراه. وقال وقد مضت في باب آخر (5): أيثني الشباب أم ما تولى ... منه في الدهر دولة ما تعود لا أرى العيش والمفارق بيض ... أسوة العيش والمفارق سود ومن جيد هذا الباب قول كثير: وكان الصبا خدن الشباب فأصبحا ... وقد تركاني في مغانيهما وحدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 فوالله ما أدري أطائف جنة ... تأوبني أم لم يجد أحد وجدي ... وقال البحتري: أواخر العيش أخبار مكررة ... وأقرب العيش من لهو أوائله (1) يجري الشباب إذا ما تم تكملة ... والشيء ينفده نقصاً تكامله (2) ويعقب المرء برءاً من صبابته ... تجرم العام يمضي ثم قابله (2) إن فر من عنت الأيتم حازمها ... فالحزم فرك ممن لا تقاتله (4) وإن أراب صديقي في الوداد فكم ... أمسيت أحذر ما أصبحت آمله وقال: أما الشباب فقد فنيت بغضه ... وحططت رحلك مسرعاً عن نقضه (5) وأقام مشتاق وأقصر عاذل ... أرضاه فيك الشيب إذ لم ترضه (6) شعر صحبت الدهر حتى جازني ... مسوده الأقصى إلى مبيضه (7) فعلى الصبا الآن السلام ولوعة ... تثني عليه الدمع في مرفضه (8) وليقن تفاح الخدود فلست من ... تقبيله عزلاً ولا من غضه (9) أي فعليه السلام وعليه لوعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وقال: وصال سقاني الخبل صرفاً ولم يكن ... ليبلغ ما أدت عقابيله الهجر (1) وباقي شباب في مشيب مغلب ... عليه اختناء اليوم يكثره الشهر (2) وليس طليقاً من يروح أو غدا ... يسوم التصابي والمشيب له أسر تطاوحني العصران في رحويهما ... يسيبني عصر ويقلعني عصر (3) متاع من الدنيا استبد بجدتي ... وأعظم جرم الدهر أن يمتع الدهر (4) قوله: «وصال سقاني الخيل صرفاً»، يريد أنه لما جاده المشيب حزن على الوصل، وأسف أسفاً شديداً؛ لأنه ليس يجد له مثل ما كان، ولأن محبوبه إن واصل واصل تكلفا، وإن (5) ذلك لا بقاء له، وإنه ذاهب حتى إن عقابيله -وهي أواخره وبقاياه- لو كان مكانها الهجر لما بلغ من خبله ما بلغت. وقوله: «مغلب عليه اختناء اليوم»، فالاختناء: الانخزال والتهيب من الشيء، والخشوع له، يريد كاختناء اليوم إذا كاثره الشهر فكثره؛ لأن يوماً لا يكون كشهر في المكاثرة والمفاخرة (6). وقال: تقضى الصبا إلا تلوم راحل ... وأغنى المشيب عن ملام العوذل (7) وتأبى صروف الدهر سوداً شخوصها ... على البيض أن يحظين منه بطائل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 يحاولن عندي صبوة وإخالني ... على شغل مما يحاولن شاغل رمي رزايا صائبات كأنني ... لما أشتكي منها رمي جنادل وقال: في الشيب زجر له كان ينزجر ... وواعظ منه لولا أنه حجر (1) ابيض ما اسود من فوديه وارتجعت ... جلية الصبح ما قد أغفل السحر وللفتى مهلة في العيش واسعة ... ما لم يمت في نواحي رأسه الشعر (2) قوله: «ارتجعت جلية الصبح ما قد أغفل السحر» قريب من قوله: تزيدني الأيام مغبوط عيشة ... فتنقضي نقص الليالي مرورها (3) وقال: أيا صاحبي إما أردت صحابتي ... فكن مقصراً أو مغرماً مثل مقصر (4) فإني إن أزمع غدواً لطيتي ... أغلس وإن أجمع رواحاً أهجر وما يقرب الطيف الملم ركائبي ... ولا يعتريني الشوق من حيث يعتري سقينا جنى السلوان أم شغل الهوى ... علينا بنو العشرين من كل معشر وما قيل في هذا الباب كقول ابن حازم (5) الباهلي، ومنصور النمري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 قال بن حازم: عهد الشباب لقد أبقيت لي حزناً ... ما جد ذكرك إلا جد لي ثكل (1) لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها ... من الشباب بيوم واحد بدل (2) يكفيك بالشيب ذنباً عند غانية ... وبالشباب شفيعاً أيها الرجل (3) وقال منصور: ما تنقضي حسرة مني ولا جزع ... إذا ذكرت شباباً ليس يرتجع (4) بان الشباب وفاتني بشرته ... صروف دهر وأيام لها خدع ما كدت أوفي شبابي كنه غرته ... حتى انقضت فإذا الدنيا له تبع وأنشد إسحق الموصلي: لعمري لئن حلئت عن منهل الصبا ... لقد كنت وراداً لمشربه العذب (5) ليالي أمشي بين بردي لاهياً ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب سلام على سير القلاص منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 * الاعتذار من الشيب قال البحتري: رب عيش لنا برامة رطب ... وليال فيها طوال قصار (1) قبل أن يقبل فالمشيب وتبدو ... هفوات الشباب في إدبار (2) كل عذر من كل ذنب ولكن ... أعوز العذر من بياض العذار كان حلواً هذا الهوى وأراه ... صار مراً والسكر قبل الخمار (3) قوله: «كل عذر من كل ذنب» مقبول ونافع ناجع سوى العذر من الشيب، أو كل عذر من كل ذنب موجود ممكن، غير العذر من الشيب، فإنه غير موجود (4) وهذا أليق وأشبه. وقال: وحملت عندك ذنب المشيـ ... ـب حتى كأنني ابتدعت المشيبا (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 * مدح الشيب والتعزي عنه قال البحتري: عيرتني المشيب وهي بدته ... في عذارى بالصد والاجتناب (1) لا تريه عاراً فما هو بالشيـ ... ـب ولكنه جلاء الشباب وبياض البازي أصدق حسناً ... لو تأملت من سواد الغراب (2) قوله: «بدته»، أراد بدأته فترك الهمز، يقال: بدأت بالأمر، وأبدأته. وقوله: «ولكنه جلاء الشباب» من معانيه التي تستحسن. ... وقال أبو تمام: أبدت أسى إذ رأتني مخلس القصب ... وعاد ما كان من عجب إلى عجب (3) ست وعشرون تدعوني وأتبعها ... إلى المشيب ولم تظلم ولم تجب (4) فلا يؤرقك إيماض القتير به ... فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب وقد مرت في باب «نزول الشيب قبل حينه» (5). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وقوله: «فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب» أحسن من قول البحتري: «جلاء الشباب»، وأجود وأبرع وأصح معنى. ... وقال البحتري: ها هو الشيب لائماً فأفيقي ... واتركيه إن كان غير مفيق (1) فلقد كف من عناء المعنى ... وتلافى من اشتياق المشوق عذلتنا في عشقها أم عمرو ... هل سمعتم بالعاذل المعشوق ورأت لمة ألم بها الشيـ ... ـب فريعت من ظلمة في شروق ولعمري لولا الأقاصي لأبصر ... ت أنيق الرياض غير أنيق (2) وسواد العيون لو لم يكمل ... ببياض ما كان بالمرموق (3) ومزاج الصهباء بالماء أملى ... بصبوح مستحسن وغبوق أي ليل يبهى بغير نجوم ... أو سحاب يندى بغير بروق هذا إنما يخرجه الشاعر وأشباهه مخرج النادرة فيستحسن. وأخذ قوله: «أي ليل يبهى بغير نجوم» من قول الآخر: أشيب ولم أقض الشباب حقوقه ... ولم يمض من عهد الشباب قديم (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 تفاريق شيب في السواد لوامع ... وما خير ليل ليس فيه نجوم (1) وقال آخر في مدح الشيب: لا يرعك المشيب يا ابنة عبد الله فالشيب حلية ووقار (2). إنما تحسن الرياض إذا ما ... ضحكت في خلالها الأنوار ... وما أحسن ما قال امرؤ القيس، وأجوده وأصحه في التعزي عن المشيب: ألا إن بعد العدم للمرء قنوة ... وبعد المشيب طول عمر وملبسا (3) وقال آخر، ومن هذا أخذ هو وغيره: والشيب إن يحلل فإن وراءه ... عمراً يكون خلاله متنفس (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 * ذكر الكبر وشكوى الدهر وتغير الحال قال أبو تمام (1): . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقال البحتري: فإن ستاً وستون استقلت ... فلا كرت بطلعتها الخطوب (2) لقد سر الأعادي في أني ... برأس العين محزون كئيب وأني اليوم عن وطني شريد ... وشبت دون بغيتي الحروب (3) على حين استتم الوهن عظمي ... وأعطي في ما احتكم المشيب وقد يرد المناهل من يحلا ... على ظمإ ويغنم من يخيب وأيسر فائت خلفاً سريعاً ... رقاب المال يرزوها الكسوب فمن ذا يسأل البجلي عما ... يذم من اختياري أو يعيب يعنفني على بغتات عزمي ... وكنت ولا يعنفني الأريب وقد أكدى الصواب علي حتى ... وددت بأن شانئي المصيب لعل أخاك يرقب أن تطاطي ... له مني النوائب إذ تنوب (4) فأين النفس ذات العزم عما ... تسكع فيه والصدر الرحيب (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وقال: سيثلج صدري اليأس واليأس منهل ... متى تغترف منه الجوانح تثلج (1) قنعت على كره وطأطأت ناظري ... إلى رنق مطروق من العيش حشرج ولجلجت في قولي وكنت متى أقل ... بمسمعة في مجمع لا ألجلج يظن العدى أني فنيت وإنما ... هي السن في برد من الشيب منهج نضوت الصبا نضو الرداء وساءني ... مضي أخي أنس متى يمض لا يجي مضى جعفر والفتح بين مرمل ... وبين ضجيع بالدماء مضرج أأطلب أنصاراً على الدهر بعدما ... ثوى منهما في الترب أوسي وخزرجي أولئك ساداتي الذين برأيهم ... حلبت أفاويق الربيع المثجج مضوا أمماً قصداً وخلفت بعدهم ... أخاطب بالتأمير والي منبج وهذا من إحسانه المشهور. وقال: ومعيري بالدهر يعلم في غد ... أن الحصاد وراء كل نبات (2) أبني إني قد نضوت بطالتي ... فتحسرت وصحوت من سكراتي نظرت إلي الأربعون فأصرخت ... شيبي وهزت للحنو قناتي وأرى لدات أبي تتابع كثرهم ... فمضوا وكر الدهر نحو لداتي ومن الأقارب من يسر بميتتي ... سفهاً وعز حياتهم بحياتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وقال: علقت فودعت التصابي وإنما ... تصرم لهو المرء أن يكمل العقل (1) أرى الحلم بؤسي في المعيشة للفتى ... ولا عيش إلا ما جباك به الجهل وهذا إحسان البحتري الذي لا يفي ببراعة معناه شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 * باب في ذكر الزمان، وذكر ظلمه واعوجاجه، وتعذر الرزق على ذوي الحزم والفهم، وتيسره لذوي الجهل والعجز، وفي التعزي والصبر والقناعة، وما قالاه في ضد ذلك من بعد الهمة، والنهوض في طلب الرزق، والسير على الإبل، وقطع الفيافي، وفي مواعظ وآداب وأفتتح هذا الباب بأبيات الابتداآت في نحو هذه المعاني. ولا أعرف لأبي تمام في شيء من هذا شعراً: ووجدت للبحتيري في ذم هذه الأبيات: لا الدهر مستنفد ولا عجبة ... تسومنا الخسف كله نوبه (1) ... وقال (2): من قائل للزمان ما أربه ... في خلق منه قد خلا عجبه (3) وقال: مع الدهر ظلم ليس يقطع دائبة ... وحكم أبت إلا اعوجاجاً جوانبه (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 وقال (1): إساءة دهر برحت بي نوائبه ... وخطب زمان بالكلام أخاطبه (2) وقال: تخل من الأطماع إما تخلت ... وول صروف الدهر ما قد تولت (3) وقال: اعجب لظلم زماننا المتواتر ... ولأول مما يريك وآخر (4) وقال: نوازل دهر أيهن أنازل ... بعزمي أم من أيهن أوائل (5) وقال: ليس الزمان بمعتب فزريني ... ألقى تجهم خطبه بجبيني (6) وقال: نسعى وأيسر هذا السعي يكفينا ... لولا تكلفنا ما ليس يعنينا وقال: صنت نفسي عما يدنس نفسي ... وترفعت عن جدا كل جبس (7) وقال في النهوض لطلب الرزق: أشرق أم أغرب يا سعيد ... وأنقص من زماعي أم أزيد (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 * ما قالاه من هذه المعاني في وسط الكلام في ذم الزمان ومجاهدته والصبر على نوبه قال أبو تمام: أسيء على دهري الثناء فقد قضى ... علي بجور صرفه المتتابع (1) أيرضخنا رضخ النوى وهو مصمت ... ويأكلنا أكل الدبا وهو جائع (2) وإني إذا ألقى بربعي رحله ... لأزعره في سربه وهو راتع (3) أخو منزل الهم الذي لو بغى القرى ... لدى حاتم لم يقره وهو طائع (4) إذا شرعت فيه الليالي بنكبة ... تمزقن عنه وهو في الصبر دارع (5) [له همم ما إن تزال سيوفها ... قواطع لو كانت لهن مقاطع] قد روى: «ويأكلنا أكل الدبا وهو جائع» وهو عندي أشبه وأصح إن شاء الله، و «يأكلنا أكل الربا» لأن الربا يأكل النعم، ويمحق المال. وقوله: «لو كانت لهن مقاطع»: أي شيء يقطعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وقال: لقد ساسنا هذا الزمان سياسة ... سدى لم يسسها قط عبد مجدع (1) تروح علينا كل يوم وتغتدي ... خطوب كأن الدهر منهن يصرع حلت نطف منها لنكس وذو الحجا ... يداف له سم من العيش منقع قد عاب الناس عليه قوله: «كأن الدهر منهن يصرع» وهو -لعمري- قبيح. وقال: كم فتى للزمان وقد ... ألقى مقاليده إليه القبيض (2) لوذعي يهلل المشرفي الـ ... ـعضب عنه والزاعبي النحيض (3) أتأرتني الأيام بالنظر الشز ... ر وكانت وطرفها لي غضيض كيف يمسي برأس علياء ممس ... وجناح السمو منه مهيض (4) همة تنطح النجوم وجد ... آلف للحضيض فهو حضيض قوله: «أتأرتني الأيام» أي أدامت نظرها إلي؛ يقال: أتأرت إليه النظر: إذا أحددته. والقبيض: اسم لجلة (5) الخلق، واللوذعي الحديد الفؤاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 والمشرفي: السيف منسوب إلى المشارف، قرى تعمل فيها السيوف. والنحيض: الذي قد ذهب نحضه أي (1) لحمه، وإنما يعني سنان الرمح أنه قد دقق وحدد. والزاعبي: الرمح، قيل: هو منسوب إلى رجل كان يقوم الرماح يقال له زاعب، وقال قوم زاعب: موضع لا تعرف حقيقته، ويقال: التزعب: السرعة والنشاط فيجوز أن يكون قيل زاعبي لحركته وتثنية. ... وقال البحتري: وما جزع الجزوع من الليالي ... بمحرزه ولا جلد الجليد (2) جحدنت سهمة الحدثان فينا ... لو أن الحق يبطل بالجحود (3) فيا ويح الحوادث كيف تعطي ... شقي القوم من حظ السعيد (4) وكيف تجوز إن حكمت بحكم ... فتحمل للغوي على الرشيد (5) وما براحت صروف الدهر حتى ... أرتنا الأسد قتلى للقرود وهذا مما مزيد على حسنه وجودته لفظاً ومعنى. وقال: يغتر بالدهر ذو الإضاعة والدهر عدو مطلوبة إحنة (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 في زمن رنقت حوادثه ... أشبه شيء بحادث زمنه رضيت من سيء الزمان بأن ... يعشره غير زائد حسنه رنقت حوادثه: دنت ورفرفت كما يرنق النسر. وهذا أيضاً حسن. وقال: أرانا عناة في يد الدهر نشتكي ... تأكد عقد من عراه وثيق (1) وليس طليق اليوم إن رجعت له ... صروف الليالي في غد بطليق (2) تفاوتت الأيام فينا فأفرطت ... بظمآن باد لوحه وغريق وكنت إذا ما الحادثات أصببني ... بهايضة صم العظام دقوق شمخت فلم أبد اختشاعاً لشامت ... ولم أبتعث شكوى لغير شقيق (3) أرى كل مؤذ عاجزاً عن أذيتي ... إذا هو لم ينصر علي بموق فقد ترى هذه الفصاحة والبلاغة، والألفاظ الحلوة المتمكنة، والمعاني القريبة العجيبة. وأجود من قوله: «وكنت إذا ما الحادثات أصببني. . .» والبيت بعده قول العكوك (4): ألا رب هم يمنع النوم دونه ... أقام كقبض الراحتين على الجمر (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 بسطت له وجهي لأكبت حاسداً ... وأبديت عن ناب ضحوك وعن ثغر وشوق كأطراف الأسنة في الحشا ... ملكت عليه طاعة الدمع أن يجري ... وقال البحتري: أطل جفوة وتهوين شأنها ... فما العاقل المغرور فيها بعاقل (1) يرجي الخلود معشر ضل رأيهم ... ودون الذي يرجون غول الغوائل وليس الأماني في البقاء وإن مضت ... بها عادة إلا أحاديث باطل إذا ما حريز القوم بات وماله ... من الله واق فهو بادي المقاتل وما المفلتون أجمل الدهر فيهم ... بأكثر من أعداد من في الحبائل يسار بنا قصد المنون وإننا ... لنشغف أحياناً بطي المراحل عجالاً عن الدنيا بأسرع سعينا ... إلى آجل منها شبيه بعاجل (2) أواخر من عيش إذا ما امتحنتها ... تأملت أمثالاً لها في الأوائل وما عامك الماضي وإن أفرطت به ... عجائبه إلا أخو عام قابل غفلنا عن الأيام أطول غفلة ... وما خوفها المخشي عنا بغافل (3) تغلغل رواد الفناء ونقبت ... دواعي المنون عن جواد وباخل وقال: إذا عاجل الدنيا ألم بمفرح ... فمن خلفه فجع سيتلوه آجل (4) وكانت حياة الحي سوقاً إلى الردى ... وأيامه دون الممات مراحل (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وما لبث من يغدو وفي كل لحظة ... له أجل في مدة العمر قاتل وللمرء يوم لا محالة ما له ... غد وسط عام ماله الدهر قابل كفانا اعترافاً بالفناء ورقبة ... لمكروهه أن ليس للخلد آمل ... وقال: أناه أيها الفلك المدار ... أنهب ما تطوف أم خيار (1) ستفنى مثل ما تفنى وتبلى ... كما تبلى فيدرك منك ثار تناب النائبات إذا تناهت ... ويدمر في تصرفه الدمار وما أهل المنازل غير ركب ... مناياهم رواح وابتكار لنا في الدهر آمال طوال ... ترجيها وأعمار قصار (2) وقال: أخي متى خاصمت نفسك فاحتشد ... لها ومتى حدثت نفسك فاصدق أرى علل الأشياء شتى ولا أرى التـ ... ـتجمع إلا علة للتفرق أرى العيش ظلاً توشك الشمس نقله ... فكس في ابتغاء العيش كيسك أومق (3) أرى الدهر غولاً للنفوس وإنما ... يقي الله في بعض المواطن من يقي ولم أر كالدنيا حليلة وامق ... مب متى تحسن بعينيه تطلق تراها عياناً وهي صنعة واحد ... فتحسبها صنعي لطيف وأخرق (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 فانظر أشعار أهل الزهد وتأملها، هل ترى فيها من هذا النحو شيئاً؟ هيهات؛ هذا مذهب يتقدم كل مذهب. وقال: أرى غفلة الأيام إعطاء مانع ... نصيبك أحياناً وحلم سفيه (1) إذا ما نسبت الحادثات وجدتها ... بنات الزمان أرضعت لبنيه (2) متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا تنتظر إلا خمول نبيه وقال: أغشى الخطوب فإما جئن مأربتي ... فيما أسير أو أحكمن تأديبي (3) إن تلتمس تمر أخلاف الخطوب وإن ... تلبث مع الدهر تسمع بالأعاجيب (4) ... وما أحسن ما قال ابن عيينة: ما راح يوم على حي ولا ابتكرا ... إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا ولا أتت ساعة في الدهر فاننصرمت ... حتى تؤثر في قوم لها أثرا إن الليالي والأيام أنفسها ... عن عيب أنفسها لم تكتم الخبرا أنشد المبرد هذه الأبيات (5)، وذكر أن الطائي أخذ هذا المعنى وجمعه في ألفاظ يسيرة فقال: عمري لقد نصح الزمان وإنه ... لمن العجائب ناصح لا يشفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 أراد أن قوله: «عمري لقد نصح الزمان» من قوله: «إلا رأي عبرة فيه إن اعتبرا»، كأنه أراد أن ما يأتي فيه من العبر كأنه نصح (1) منه وتنبيه. وكذلك قوله: «ولا أتت ساعة» وقوله: «إن الليالي والأيام»، فجعل هذا كله كنصح (2) من الزمان لما يريناه من العبر. قال أبو العباس: وزاد عليه بقوله: «ناصح لا يشفق» (3). وما قاله الناس في هذا المعنى أكثر من أن يحتاج الطائي إلى أن يأخذه من وهذه الأبيات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 * في المواعظ والآداب وقال البحتري: متى تستزد فضلاً من العمر تغترف ... بسجليك من شهد الخطوب وصابها (1) تشذبنا الدنيا باخفض سعيها ... وغول الأفاعي بلة من لعابها يسر بعمران الديار مضلل ... وعمرانها مستأنف من خرابها ولم أرتض الدنيا أوان مجيئها ... فكيف ارتضائيها أوان ذهابها أقول لمكذوب عن الدهر راغ عن ... تخير آراء الحجا وانتخابها (2) سيرديك أو يتويك أنك محبس ... إلى شقة يبليك بعد ما بها (3) فهذا والله الوعظ الذي لو سمعه أبو العتاهية لضلت مقاليده. وقوله: «محبس» أي موقوف إلى أن تصير إلى هذه الشقة، من قولك: احتبست (4) فرساً في سبيل الله، واحتبست داراً، أي وقفت داراً، فأما حبست، فإن ذاك من حبست الرجل في الحبس، وحبسته عن طريقه، ونحو هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 * في الصبر والقناعة قال أبو تمام: عندي من الأيام ما لو أنه ... أضحى بشارب مرقد ما غمضا (1) لا تطلبن الرزق بعد شماسه ... فترومه سبعاً إذا ما غيضا ما عوض الصبر امرؤ إلا رأى ... ما فاته دون الذي قد عوضا «شارب مرقد» مثل غير جيد ولا حسن، ولا زال الناس يعيبونه. وقال: لا تأخذيني بالزمان فليس لي ... تبعاً ولست على الزمان كفيلا (2) من زاحف الأيام ثم عبا لها ... غير القناعة لم يزل مفلولا من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا لو جاز سلطان القنوع وحكمه ... في الخلق ما كان القليل قليلا (3) الرزق لا تكمد عليه فإنه ... يأتي ولم تبعث إليه رسولا (4) يريد من لم يقنع وكان أبداً يتمنى لم يزل مهزولا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وقوله: «لو جاز سلطان القنوع»، وهو يريد القناعة؛ لأن المتأخرين في هذا الموضع يستعملون القنوع. «ما كان القليل قليلا» أي لو كان حكم القناعة جائزاً نافذاً في الخلق، أي لو قنع الخلق ما كان القليل قليلا، أي ما كان أحد يستقل القليل، بل كان عنده بالقناعة كثيراً، أفصح بمدح القناعة فقال: الرزق لا تكمد عليه فإنه ... يأتي ولم تبعث إليه رسولا وإنما أخذ هذا من قول عروة بن أذينة: أسعى إليه فيعييني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني (1) ثم نقض أبو تمام هذا كله بأن قال في إثر هذا البيت بغير فاصلة تفصل بينهما يصف الناقة وقطعه الفلاة إلى الممدوح، فقال: لله درك أي معبر قفرة ... لا توحش ابن البيضة الإجفيلا بنت الفضاء متى تخد بك لا تدع ... في الصدر منك على الفلاة غليلا (2) أو ما تراها لا تراها هزة ... تشأى العيون ذوالقاً وذميلا (3) لو كان كلفها عبيد حاجة ... يوماً لزنى شدقماً وجديلا (4) «ابن البيضة»: الظليم، والإجفيل: السريع الانجفال يعني الذهاب يقول: لا توحشه هذه الناقة لكثرة قطعها الفيافي وإلف الظلمان (5) لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 ودل على أنه الظليم بقوله: «ابن البيضة» ولو كان جرى له ذكر لما كان لذكر البيضة معنى، إذ كل ظليم فهو ابن البيضة. وقوله: «أو ما تراها هزة» أي من سرعة مرها واهتزازها في سيرها لا تكاد ترى صورتها. تشأى العيون: تسبقها، ذوالقاً: جمع ذليقة، والذلاقة: السرعة والمضاء. ويروى: «دوالقاً» بالدال غير معجمة، وجمع دالقة، والدالق: الخارج، يقال: سيف دالق إذا كان خارجاً من غمده. وكان ينبغي أن يقول: تشأى العيون اندلاقاً وذميلاً، أو ذلاقة معجمة الذال وذميلاً؛ لأن قوله: «وذميلاً» لا يكون منسوقاً على ذوالق، وأظنه جعل الذميل منسوقاً على هزة. والذميل ها هنا رديء؛ لأنه ضرب من سير الإبل لين، وهو يصف السرعة. وعبيد: يعني البيطار الذي ذكره الأعشى في شعره، فقال يصف ناقة (1): لم تعطف على حوار ولم يقـ ... ـطع عبيد عروقها من خمال (2) وكان يعالج الإبل، أي لو كلفها عبيد حاجة، أي سيراً عليها لحاجة «لزنأ شدقماً وجديلا» وهما فحلان من فحول العرب النجيبة المذكورة، لما يرى من سرعتها ونجابتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 وهذا غاية ما يكون من سخف المعنى وركاكته؛ لأن زنأ من ألفاظ الجهال والصبيان، وإنما أراد لو سار عليها عبيد، هذا العالم بأمر الإبل، في بعض حاجة لصغر عنده، أو لهانن عليه أمر شدقم وجديل، فلم يهتد بلفظ من هذا النحو فقال: «لزنأ شدقماً وجديلا» أتراه كان يقول لهما: يا زانيين، أو يا بني الزانيين، إن هذا من حماقات الطائي المحكمة، وسخفه العجيب مع ما في أبياته هذه من نقض المعنى الذي ذكره في الأبيات قبلها من الحث على القناعة، والقعود عن الحركة والاضطراب. ... وقال البحتري: لعمرك كيف نرصف ما عدانا ... من الدنيا ونسخط ما يجينا (1) عنانا ما عساه يزول عنا ... وأنصبنا تكلف ما كفينا (2) يقيض للحريص الغيظ بحتاً ... وتتجه الحظوظ لمن قضينا وما هو كائن وإن استطلنا ... إليه النهج يوشك أن يكونا فلا تغرر من الأيام وانظر ... إلى أقسامها عمن زوينا (3) وقال: نسعى وأيسر هذا السعي يكفينا ... لولا تكلفنا ما ليس يعنينا نروض أنفسنا أقصى رياضتها ... على مواتاة دهر لا يواتينا فليت مسلفنا الأعمار أنظرنا ... مجاملاً فتأتي في تقاضينا وهذا كله لا مزيد على حسنه وصحته وحلاوته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وقال: ضيق العذر في الضراعة أنا ... لو قنعنا بقسومنا لكفانا (1) ما لنا نعبد العباد إذا كا ... ن إلى الله فقرنا وغنانا وقال: لو أنني أوفي التجارب حقها ... فيما أرت لرجوت ما أخشاه (2) والشيء تمنعه تكون بفوته ... أجدى من الشيء الذي تعطاه خفض أسى عما شآك طلابه ... ما كل شائم بارق يسقاه وقال: وكيف تعاطي الراح والرأس مخلس ... مشيباً وشرب الراح من بعد جعفر (3) قنعت وجانبت المطامع لابساً ... لباس محب للنزاهة مؤثر وأيأسني علمي بألا تقدمي ... مفيدي ولا مزر بحظي تأخري (4) ولو فاتني المقدور مما أرومه ... بسعي لأدركت الذي لم يقدر وقال: أجدك ما تنفك تشكو قضية ... ترد إلى حكم من الدهر جائر (5) ينال الفتى ما لم يؤمل وربما ... أتاحت له الأقدار ما لم يحاذر (6) وهذا في غاية الحسن والصحة والبراعة، وإنما أخذه والله أعلم من قول أبي العتاهية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 قد يسلم المرء مما قد يحاذره ... وقد يصير إلى المكروه بالحذر (1) وأخذه أبو العتاهية من قول الآخر: وحذرت من أمر فمر بجانبي ... متنكباً ولقيت ما لم أحذر ... وقال البحتري: إن تجرب بني الزمان تجدهم ... إخوة فيه للشفار الكليلة (2) والفتى كادح لفعلة دهر ... يرتضيها أو عشية مملولة (3) خائف آمل لصرف الليالي ... والليالي مخوفة مأموله راح أهل الآداب فيها قليلاً ... وحظوظ الأقسام فيها قليلة (4) فعليك الرضا بما رضيته ... لك هذي المطالب المجفوله (5) لن تنال المزور عنك بتدبيـ ... ـر ولن تصعد السماء بحيله (6) إذا ما اعتبرت ظاهر حالي ... كان أمراً من الأمور الجليله (7) كم تكرهت غب أمر فكانت ... نعمة الله فيه عندي جميله (8) ليس إلا فضل العزيمة تمضيـ ... ـها وإلا المطية المرحوله وهذا كلام يجري من رقته وحسنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 قوله: «فعليك الرضا» مدح للقناعة، ولم يحث على القعود عن المطالب، وإنما أراد عليك الرضا بما رضيته لك مطالبك، هذه الماطالب التي أنت بسبيلها، ولن تقدر على نيل ما ازور عنك ولذلك قال: ليس إلا فضل العزيمة تمضيـ ... ـها وإلا المطية المرحوله وعلى أنه قال: كم تكرهت غب أمر فكانت ... نعمة الله فيه عندي جميله يجوز أن يكون أراد غب أمر من تجشم الأسفار، وبعد المطالب، فأحمدت عاقبته فحسن أن يقول: «ليس إلا فضل العزيمة». وأبو تمام صريح بذكر القعود عن المطلب بقوله: الرزق لا تكمد عليه فإنه ... يأتي ولم تبعث إليه رسولا فكان ذكره للناقة والرحيل عليها مناقضة ظاهرة قبيحة في أبيات متصل بعضها ببعض. ... وقال البحتري: تطلب الأكثر في الدنيا وقد ... تبلغ الحاجة فيها بالأقل (1) وقال: أسيف إذا أسففت أدنوا لمطمع ... خف وأراني مثرياً يوم أقنع (2) إذا شئت حاز الحظ دونك واهن ... ونازعك الأقسام عبد مجدع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 أجدك ما المكروه إلا ارتقابه ... وأبرح مما حل ما يتوقع وقد تتناهى الأسد من دون صيدها ... شباعاً وتغشى صيدها وهي جوع (1) قوله: «أسيف إذا أسففت» يقال: أساف الرجل يسيف: إذا ذهب ماله. يقول: إنه (2) يفتقر إذا دنا لمطمع، ويستغني إذا قنع. وقوله: «وقد تتناهى الأسد من دون صيدها شباعاً» يمدح القناعة، وأن من سبيل الإنسان إذا وجد البلغة اكتفى إلى أن يحتاج. وقال: حلي سعاد غروض العيس أو سيري ... وأنجدي في التماس الحظ أو غوري (3) كل الذي نترجاه ونأمله ... مضمن في ضرورات المقادير فما يقرب تقديمي شواسعها ... ولا يباعد ما أدنين تأخيري تغدو الكلاب ولا فضل يعد لها ... سوى الذي بان من نقص الخنازير ... وقال أبو تمام: ما يحسم العقل والدنيا تساس به ... ما يحسم الصبر في الأحداث والنوب (4) الصبر كاس وبطن الكف عارية ... والعقل عار إذا لم يكس بالنشب كم ذقت في الدهرين من عسر ومن يسر ... وفي بني الدهر من رأس ومن ذنب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 بأي وخد قلاص واجتناب فلا ... إدراك رزق إذا مالج في الهرب (1) ذكر أنه لا يحسم العقل ما يحسم الصبر، والصبر على شدة الزمان وأحداثه لا يكاد يقع إلا بالعقل، وكل الأخلاق الشريفة فبالعقل تكون. وقوله: «الصبر كاس وبطن الكف عارية» من حماقاته في الطباق يريد أن الصبر مجانب لخلو اليد، وأنا ضد الفقر والعدم؛ لأن الفقر والعدم لا يكون معهما صبر، (2) فجعل كاسياً من أجل ذكر بطن الكف بالعري، ثم جعل العقل أيضاً عارياً إذا لم يكن مكسواً بالنشب، وكسوة الصبر والعقل استعارة تتجاوز كل فحش. وأعجب من هذا ذوقه الرأس والذنب في بني الدهر، وما علمنا أحداً ذاق ذنب غيره ولا رأسه (3). وأراد بالذوق الاختبار، واستعمله في أقبح موضع وأشنعه. ولا خفاء بفضل البحتري في هذا الباب على أبي تمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 * ذم ذوي الغنى على البخل، وذكر مساعدة الدهر لذوي الجهل وتحامله على أهل الفضل والعقل قال أبو تمام: مضى الأملاك وانقرضوا وأمسى ... سراة وهم تجار (1) وقوفاً في ظلال الذم تحمى ... دراهمهم ولا يحمى الذمار (2) فلو ذهبت سنات الدهر عنه ... وألقي عن مناكبه الدثار لعدل قسمة الأرزاق فينا ... ولكن دهرنا هذا حمار قوله: «وألقي عن مناكبه الدثار» لفظ رديء، وليس من المعنى الذي قصده في شيء، وصدر البيت لائق بالمعنى فلو كان أتبعه بما يكون في معناه بأن يقول: فلو ذهبت سنان الدهر عنه، واستيقظ من رقدته، أو انتبه من نومته، أو انكشف الغطاء عن وجهه، لكان المعنى يمضي مستقيماً، وقد ذكرته فيما مضى من أغاليطه مشروحاً (3). وقال: وهو من إحسانه المشهور: سأوطيء أهل العسكر اليوم عسكرا ... من الذنب محاءً لتلك المعالم (4) ومالي من ذنب إلى الدهر خلته ... سوى أملي إياكم للعظائم (5) وإني ما حورفت في طلب الغنى ... ولكنكم حورفتم في المكارم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 ومن جيد معانيه في هذا النحو قوله: إن شئت أن يسود ظنك كله ... فاجله في هذا السواد الأعظم (1) وقال: ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدي الفتى في دهره وهو عالم (2) ولو كانت الأقسام تجري على الحجا ... هلكن إذاً من جهلهن البهائم (3) وهذا معنى ما على صحته وحسنه من مزيد. وقال: وما القفر بالبيد القواء بل التي ... نبت بي وفيها ساكنوها هي القفر (4) ومن قامر الأيام عن ثمراتها ... فأحج بها أن تنجلي ولها القمر (5) وهذا أيضاً جيد بالغ، ومن إحسانه المشهور، ثم وصله بأن قال: فإن كان ذنبي أن أحسن مطلبي ... أساء ففي سوء القضاء لي العذر قضاء الذي ما زال في يده الغنى ... ثنى غرب آمالي وفي يدي الفقر رضيت وهل أرضى إذا كان مسخطي ... من الأمر ما فيه رضا من له الأمر وأشجيت آمالي بصبر حلون لي ... عواقبه والصبر مثل اسمه صبر (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 قوله: «فإن كان ذنبي أن أحسن مطلبي أساء» يريد شخوصه إلى مصر؛ لأنها كانت عنده أحسن مطالبه فأخفق فيها، فذمها بأن قال: وما القفر بالبيد القواء بل التي ... نبت بي وفيها ساكنوها هي القفر وقوله: «رضيت وهل أرضى» من أغاليطه وإحالاته في المعاني، وإنما كان ينبغي أن يقول: «رضيت وكيف لا أرضى» وقوم يحتجون بأنه (1) قال: رضيت وقد أرضى، على ما فسر به قول الله عز وجل: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر» بأن قالوا معناه: قد أتى على الإنسان. وقد ذهب إلى هذا قوم في «قد» إذا وليت الفعل الماضي، أما وليت المستقبل فإنها تكون بمعنى «ربما» وتخرج عن هذا التأويل. وأكثر أهل العربية، وجميع أهل اللغة يقولون: المعنى: ألم يأت على الإنسان، بمعنى التقرير والتوبيخ، ويدفعون أن تكون «هل» بمعنى «قد»؛ لأن ذلك لم في كلام العرب. وقد بينت هذا في الجزء الذي جمعت فيه أغاليط أبي تمام من هذا الكتاب (2). وقال: وحادثات أعاجيب خساً وزكا ... ما الدهر في فعلها إلا أبو العجب (3) يملكن قود الكماة المعلمين لها ... ويستقدن لفرسان على القصب (4) الخسا: الفرد، والزكا: الزوج، وفرسان القصب: يعني الصبيان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 وهذه ألفاظ في غاية الخلوقة والسخافة، ولو قال: ويستقدن لأهل الجبن والرعب، أو الرهب كان أحسن وتعمل (1): وقال فيها: في كل يوم صواقيري مفللة ... تستنبط الصفر لي من معدن الذهب (2) ما كنت كالسائل الأيام مجتهداً ... عن ليلة القدر في شعبان أو رجب أي ما التمست إلا من حيث يجب الالتماس، ولكني خبت. بل سافع بنواصي الأمر مشتمل ... على قواصيه في بدئي وفي عقبي (3) بغربة كاغتراب الجود إن برقت ... بأوبة ودقت بالخلف والكذب إذا عمدت لشأو خلت أني قد ... أدركته أدركتني حرفة العرب (4) قوله: «سافع بنواصي الأمر» من قوله: جل اسمه: «لنسفعاً بالناصية» والسفع بالشيء هو أن يؤخذ ويجذب جذباً فيه عنف. وكان ينبغي أن يقول: بنواصي الحزم أو العزم، فأما الأمر فإنه (5). . . وقوله: بغربة كاغتراب الجود إن برقت ... بأوبة ودقت بالخلف والكذب فشبه غيابه بغيبة (6) الجود الذي يقال يقدم ولا يقدم، يؤكد بهذا عدم الجود، وأنه كلما طمع فيه من أحد كان بعيداً كالغائب الذي يقال: يقدم ثم لا يقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 ودقت من الودق، وهو قطر المطر. يقول هذا وهو قد قدم (1) من غيباته إلا أنه جعل نفسه كمن لم يقدم؛ لأنه قدم بالخيبة؛ فلذلك قال بعد هذا: ما آب من آب لم يظفر بحاجته ... ولم يغب طالب للنجح لم يخب وهذا تعسف، والخرس أحسن منه. وقوله: «إن برقت بأوبة» يعني الغيبة، واستعارة البرق لا تحسن إلا باستعارة (2) السحاب معه، وكان الجيد أن يقول: برقت سحابها بأوبة، لو استقام له. وقوله: «أدركتني حرفة العرب» معنى ما قاله غيره، ولا جعل أحد العرب محارفين سواه، ودليل عدم حرفتهم ما هو إلا أنهم قهروا الأمم حتى صار الملك فيهم، وهم على تلك العزة الجاهلية إلى هذا الوقت. وما زال الناس ينكرون هذا المعنى عليه ويعيبونه ولو كان قال: «حرفة الأدب» كان أولى بالصواب، وبما يستعمله الناس، ولأنه أديب غير مدفوع، وليس في القصيدة أيضاً ذكر للأدب. وقد رواه قوم الأدب إنكاراً لذكر العرب ها هنا، وغيره في عدة من النسخ القديمة، والذي في نسخة أبي سعيد السكري، وأبي العلاء محمد بن العلاء وغيرهما: «العرب». وإنما ذاك لشدة عشقه بالعربية، وأن يقال طائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وقد أنكره عليه ابن عمار وغيره، وهذا دليل على أنه ما قال إلا حرفة العرب. ... وقال البحتري: أوجلتني بعد أمن غرتي ... واغترار الأم يستدعي الوجل (1) لم أوهم نعمتي تغدر بي ... غدرة الظل سجا ثم انتقل زمن تلعب بي أحداثه ... لعب النكباء بالرمح الخطل (2) وأرى العدم فلا تحفل به ... عقبة تقضى وكلما يندمل أكبرت نفسي وقدماً أكبرت ... أن تلقى النيل من كف الأشل (3) ومن المعروف مر مقر ... يلفظ الطاعم منه ما أكل (4) نطلب الأكثر في الدنيا وقد ... نبلغ الحاجة فيها بالأقل (5) وهذا من إحسان أبي عبادة المتداول. وقال: تغاضى رجال عن المكرمات ... وقد مثلت نصب أعيانها (6) ولم تلتفت لوجوب الحقوق ... وواجبها خلق آذانها فتحت يدي ثاني العطف عن ... كذوب المودة خوانها وقد علمت خلتي أنني ... أفارقها عند هجرانها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وقال: وعيرتني سجال العدم جاهلة ... والنبع عريان ما في فرعه ثمر (1) وما الفقير الذي عيرت آونة ... بل الزمان إلى الأحرار يفتقر (2) عزى عن الحظ أن العجز يدركه ... وهون العسر علمي في من اليسر لم تبق من جل هذا الناس باقية ... ينالها الوهم إلا هذه الصور (3) جهل وبخل وحسب المجد واحدة ... من تين حتى يعفى خلفه الأثر (4) إذا محاسني اللاتي أدل بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر على نحت القوافي من معادنها ... وما علي إذا لم تفهم البقر (5) ذكر علي بن يحيى المنجم عن شيوخه أن هذا البيت للمخيم (6) الراسبي، أحد الشعراء في دولة الرشيد، وكان صحب محمد منصور بن زياد فكسب معه مالاً عظيماً، ثم صحب محمد بن يحيى بن خالد البرمكي بعد موت ابن منصور (7) فلم يحمده فهجاه. وأخذ بيت بأسره قبيح لأبي عبادة، ومثله لا يضطر إلى هذا. وقد كان علي بن يحيى انحرف عن (8) البحتري لأن البحتري هجاه بأمر المتوكل بأبيات ليس مثلها يضر، ولكنه ذكر صورته فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 كل أخلاق علي ترتضيها وتذمه (1) هو قرد حين يبدو غير أنا لا نكمه مقلتاه وحجاباه وشدقاه وخطمه فضحك المتوكل حتى استلقى وبلغ علي بن يحيى فعاب (2) هذا على البحتري لما حدث بينهما من التباعد. إلا أني لم أرهم ينكرون استعارة البيت الذي يجري مجرى المثل إذا جاء موضعه، إلا أن يكون في شوارد الأمثال التي لا يكاد يعرف قائلوها. وقال: أضيع في معشر وكم بلد ... يعد عود الكباء من حطبه (3) لن ينصر المجد حق نصرته ... إلا المكين المكان من رتبه (4) يخدع عن عرضه البخيل ولا ... يخدع وهو الغني عن نشبه (5) أوثق من يصطفى عراه وإن ... حل بعيداً من حل في حسبه (6) لا يصرم المحدث الكهام ولو ... أخلصه الهالكي من جربه (7) ننسى أيادي الزمان فينا فما ... نذكر ممن دهرنا سوى نوبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 وقال: أيذهب هذا الدهر لم ير موضعي ... ولم يدر ما مقدار حلي ولا عقدي (1) ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد ... يبيع ثمينات المكارم والحمد (2) سوائر شعر جامع بدد العلى ... تعلقن من قبلي وأتعبن من بعدي يقدر فيها صانع متعمل ... لأحكامها تقدير داود في السرد (3) خيلي لو في المرخ أقدح إذ أبى ... رجال مؤتاتي إذن لخبا زندي (4) وما عارضتني كدية دون مدحهم ... فكيف أرني دون معروفهم أكدي أأضرب أكباد المطايا إليهم ... مطالبة مني وحاجاتهم عندي؟ وهذا صدق أبي عبادة عن نفسه، وما كان له بد من أن ينفث، وما قال قولاً هو أصدق من هذا. وقال: وما جهلت فلا تجهل محاجزتي ... لصاحب الباب يرمي عنه صاحبه (5) الأرض أوسع من دار ألظ بها ... والناس أكثر من خل أحاربه (6) أعاتب المرء فيما جاء واحدة ... ثم السلام عليه لا أعاتبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 ولو أخفت لئيم القوم جنبني ... أذاته وصديق الكلب ضاربه ولن تعين امرأ يوماً وسائله ... ما لم تعنه على حر ضرائبه (1) وقال: لنا في كل يوم أصدقاء ... تعود عداً وحالات تحول (2) وقد تعفو الظنون بمن يرجى ... فتخلف مثل ما تعفو الطلول وما فقد الجميل لقرب عهد ... فنسأل عنه بل نسي الجميل ويلوم سائل البخلاء حرصاً ... وإسفافاً كما لوم البخيل (3) وقال: لم ألق مقدوراً على استحقاقه ... في الحظ إما ناقصاً أو زائدا (4) وعجبت للمحدود يحرم ناصباً ... كلفاً وللمجدود يغنم قاعدا وتفاوت الأرزاق فيما بينهم ... لا يأتلين نوازلاً وصواعدا ما خطب من حرم الإرادة وادعاً ... خطب الذي حرم الإرادة جاهدا (5) وهذا كله في غاية الجودة والحسن والصحة والبراعة والحلاوة. ... فأقول في الموازنة بينهما: إنهما (6) أحسنا جميعاً في هذا الباب وأجادا، وأجعلهما متكافئين مع ما فيه لأبي تمام من الإساءة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 * ما قالاه في طلب الرزق والنهوض إليه قال أبو تمام: سيبتعث الركاب وراكبيها ... فتى كالسيف هجعته غرار (1) أطل على كلى الآفاق حتى ... كأن الأرض في عينيه دار (2) غرار: قليل، وهذا البيت حسن جداً، ولو كان في مدح خليفة ضبط الدنيا، وأحسن سياستها، ومراعاة كل ناحية منها، كان أحسن وأليق. وإنما سرق المعنى من قول منصور النمري يمدح الرشيد: وعين محيط بالبرية طرفها ... سواء عليه قربها وبعيدها وقال: سلي هل عمرت القفر وهو سباسب ... وغادرت ربعي من ركابي سباسبا (3) تغربت حتى لم أجد ذكر مشرق ... وشرقت حتى قد نسيت المغاربا (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 خطوب إذا لاقيتهن رددنني ... جريحاً كأني قد لقيت الكتائبا (1) ومن لم يسلم للنوائب أصبحت ... خلائقه طراً عليه نوائبا وقد يكهم السيف المسمى منية ... وقد يرجع المرء المظفر خائبا فآفة ذا أن لا يصادف صارماً ... وآفة ذا أن لا يصادف ضاربا (2) قوله: «فآفة ذا أن لا يصادف صارماً» ليس بالجيد؛ لأن الشجاع المظفر قد يقطع السيف الكهام في يده، ألا ترى إلى قول البحتري: وما السيف إلا بز غاد لزينة ... إذا لم يكن أمضى من السيف حامله (3) وكان الأجود له أن يقول: فآفة ذا أن لا يصادف مغنماً، أو مضرباً. يعني المرء المظفر، وآفة ذا أن لا يصادف ضارباً، يعني السيف، لأنه قد جعل آفته في أن صار كهاماً أي أنه لم يجد ضارباً يضرب به، ولم يذهب إلى نحو قول الفرزدق: كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... وتقطع أحياناً مناط القلائد (4) لأن هذا معنى آخر. ... وقال أبو تمام: وأخرى لحتني حين لم أتبع الهوى ... قيادي ولم ينقض زماعي ناقض (5) أرادت بأن يحوي الرغيبات وادع ... وهل يفرس الليث الطلى وهو رابض وهذا بيت الباب كله، فإنه لا يمر فيه أجود منه، ولا أليق، ولا أحسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وعلى أنه معنى مأخوذ من مثل للأسد: قيل له: أم أنت غليظ الرقبة؟ فقال: لا ألزم خدري وأتكل في فريستي على غيري. وقد سمعت فيه شعراً أيضاً منظوماً، ولكن أبا تمام أحسن العبارة عن المعنى جداً. ... وقال: إن خيراً مما رأيت من الصفـ ... ـح عن النائبات والإغماض (1) غربة تقتدي قيس بـ ... ـن زهير والحارث بن مضاض غرضي نكبتين ما فتلا رأ ... ياً فخاخاً عليه نكث انتقاض (2) من أبن البيوت أصبح في ثو ... ب من العيش ليس بالفضفاض والفتى من تعرفته الليالي ... والفيافي كالحية النضناض (3) صلتان أعداؤه حيث حلوا ... في حديث من ذكره مستفاض (4) كل يوم له بصرف الليالي ... فتكة مثل فتكة البراض أبن البيوت: أقام بها ولزمها، والفضفاض: الواسع، والحية النضناض: هو الخفيف الكثير الحركة. وقد عيب عليه قوله: «مستفاض»، وقالوا: إنما هو مستفيض، وقيل: إنه أراد مستفاض فيه، وليس ذلك بشيء (5). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 وقد قاله البحتري أيضاً في قصيدته التي على هذا الوزن: أفرطت لوثة ابن أيوب والشا ... ئع من ذكر أفنه المستفاض (1) وقد نطق بها غير واحد من المتأخرين، وهي رديئة. وذكرها الطرماح على غير هذا الوجه، فقال يصف حمار وحش: ويظل المليء يوفي على القر ... ن عذوباً كالحرضة المستفاض (2) القرن: الجيل، عذوقاً: رافعاً رأسه لا يذوق شيئاً. شبهه بالحرضة، وهو رجل يجيء به أصحاب الميسر، رذل من الرجال ساقط، ويشدون عينه، ويدفعون إليه القداح فيفيض بها لهم، فقيل له: المستفاض؛ لأنه جعله مفيضاً، والإفاضة بالقداح هي أن يدفعها دفعة واحدة من الربابة إلى قدام، فيخرج من مخرجها الضيق قدح واحد، ويقوم الرقيب فيأخذه، وينظر: فإن كان لاظ له رده إلى الربابة، وقال للحرضة: أعد الجلجلة والإفاضة، وإن كان السهم من ذوات الحظوظ دفعه إلى صاحبه وقال له: اعتزل، فإن كان الفذ أخذ نصيباً واحداً وهو عشر الجزور، وإن كان غيره أخذ على قدر أنصبائه. ولقيس بن زهير، والحارث بن مضاض في اغترابهما حديث وكذلك للبراض في فتكته، وأنا أذكر بجميع ذلك بعد الفراغ من [هذا] (3) الباب بإذن الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وقال أبو تمام: أعاذلتنا ما أخشن الليل مركباً ... وأخشن منه في الملمات راكبه (1) دعيني وأهوال الزمان أعانها ... فأهواله العظمى تليها رغائبه (2) ألم تعلمي أن الزماع على السرى ... أخو النجح عند النائبات وصاحبه؟! (3) دعيني على أخلاقي الصم التي ... هي الوفر أو سرب ترن نوادبه (4) فإن الحسام الهندواني إنما ... خشونته ما لم تفلل مضاربه وقلقل نأي من خراسان جأشها ... فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه (5) وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه وحسبك بهذا كله جودة وحسناً. وهذا البيت الأخير إنما أخذ معناه من قول الشاعر، وأنشده في الحماسة: فكان على الفتى الإقدام فيها ... وليس عليه ما جنت المنون (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وقال أبو تمام وسبيله أن يقدم في أول الباب؛ لأنه من إحسانه المشهور: ولكنني لم أحو وفراً مجمعاً ... ففزت به إلا بشمل مبدد (1) ولم تعطني الأيام نوماً مسكناً ... ألذ به إلا بنوم مشرد وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد فإني رأيت الشمس زيدت ملاحة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد قوله: «لم أحو وفراً مجمعاً. . . إلا بشمل مبدد» يريد أنه لم يحو ذلك إلا في الغربة مع مفارقة وطنه وأحبابه، وأنه لم ينم نوماً ساكناً إلا بعد نوم مشرد في الأسفار، وهذا مبني على قول عروة بن الورد: * ولم تدر أني للمقام أطوف * (2) وقوله: «فإني رأيت الشمس». . . مسروق من قول الكميت: * ولو لم تغب شمس النهار لملت * وقال أبو تمام: هن البجاري أيا بجير ... أهدى لها الأبؤس الغوير (3) يوم مقام على وفاز ... وسائر الدهر فيه سير في ثبة إن سرن جن ... أو يمموا شقة فطير قد ضج من فعلهم جديل ... بنسله واشتكى غرير هذا عبيد وذا زياد ... وذا لبيد وذا زهير يا لك من همة وعزم ... لو أنه في عصاك سير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 رب قليل جداً كثير ... كم مطر بدؤه مطير صبراً على النائبات صبراً ... ما صنع الله فهو خير فهذه معان مستقيمة صحيحة، ونسج جيد، ولفظ حسن إلا قوله: «هن البجاري يا بجير»، فإنه لفظ متعسف مستكره، والبجاري: جمع بجرية وهو ما يمر بالإنسان (1) من البجر والمصائب، من قوله عليه السلام: «أشكو إلى الله عجري وبجري» فالبجر: جمع بجرة. ثم قال: «أهدى لها الأبؤس الغوير»، وهذا هو المثل: «عسى الغوير أبؤسا» (2). يقول: جاءها البؤس من حيث لم تعلم أن هناك بؤساً، (3) والبجاري هي البؤس أنفسها، فكان ينبغي أن يقول: أهدى لي الأبؤس الغوير، لا أهدى لها. وإن كان أراد أهدى لها يعني نفسه، ولم يجر لها ذكر فهو رديء. ... وقال البحتري: وأحب آفاق البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب (4) كم مشرقي قد نقلت نواله ... فجعلته لي عدة في المغرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 وقال: أمسي زميلاً للظلام وأغتدي ... ردفاً على كفل الصباح الأشهب (1) فأكون طوراً مشرفاً للمشرق الـ ... أقصى وطوراً مغرباً للمغرب (2) وإذا الزمان كساك حلة معدم ... فالبس لها حلل النوى وتغرب ولقد أبيت مع الكواكب راكباً ... أعجازها بعزيمة كالكواكب والليل في لون الغراب كأنه ... هو في حلوكته وإن لم ينعب حتى تبدى الصبح من جنباته ... كالماء يلمع من خلال الطحلب (3) والعيش تنصل من دجاه كما انجلى ... صبغ الشباب عن القذال الأشيب (4) وهذا من إحسان أبي عبادة الذي يتقدم عل كل إحسان في معناه. وما قيل في وضوح الصبح أجود ولا أطلف معنى، ولا أبرع من قوله: «كالماء يلمع من خلال الطحلب». وقوله: «فأكون طوراً مشرقاً للمشرق الأقصى» أجود من قول أبي تمام: «تغربت حتى لم أجد ذكر مشرق»؛ لأنه يجوز أن لا يكون سمع (5) أهل بلد يذكرون المشرق، وليسوا جهالاً به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 وقوله: «حتى نسيت المغاربا»، يجوز أن ينساها فلا يذكرها، وأن ينسى أباه فلا يذكره، وليس ماله بروي (1)، لأن غرضه فيه معروف، ولكن قول البحتري أجود. وقال البحتري: أشرق أم أغرب يا سعيد ... وأنقص من زماعي أم أزيد (2) عدتني عن نصيبين العوادي ... فحظي أبله فيها بليد (3) أرى الحرمان أبعده قريب ... بها والنجح أقربه بعيد تقاذف بي بلاد عن بلاد ... كأني بينها خبر شرود (4) قوله: «خبر شرود»، معنى غريب طريف. وقال: وإن اغتراب المرء في غير بغية ... يطالبها من حيف دهر يطالبه (5) فليس بمعذور إذا رد سربه ... عليه بأن تعيا عليه مذاهبه ويعطيه مرجو العواقب مسرعاً ... إليه ركوب الأمر تخشى عواقبه أرجي وما نقع الرجاء إذا التقت ... مناحس أمر مجحف ومعاطبه ومما يعني النفس كل عنائها ... توقعها الصنع البعيد تقاربه (6) وهذا البيت يصلح أن يكون في باب الصبر والقناعة، ومعناه من أتقن المعاني وأحسنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 وقال: عست الإضافة أن تنال بها ... سعة ونكل ضارباً شبعه (1) والفسل تسلبه عزيمته ... أدنى وجود كفاية تسعه لا يلبث الممنوع تطلبه ... حتى يثوب إليك ممتنعه والنيل دين تسترق به ... فارتد لرقك عند من تضعه (2) قوله: «نكل ضارباً شبعه»، أي أقعده حتى نكل عن المطلب. ... وقال: أسير إذ كنت في طول المقام بها ... أكدي لعلي أجدي عند مرتحلي (3) وربما حرم الغازون غنمهم ... في الغزو ثم أصابوا الغنم في قفل (4) شرق وغرب فعهد العاهدين لما ... طالبت في ذملان الأينق الذمل (5) ولا تقل أمم شتى ولا نسق ... فالأرض من تربة والناس من رجل (6) قوله: «ولا تقل أمم شتى ولا نسق» أي لا يصدنك عن السفرأن تقول: كيف ألاقي أمماً متفرقين متباعدين، غير مقترنين، ولا متسقين، وأترك أهلي وبلدي، فإن تربة الأرض واحدة، والناس أبناء رجل واحد. وصدر هذا البيت رديء، وعجزه في غاية الحسن والبراعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 ولولا أن محاسن أبي تمام في هذا الباب هي أبياته الأربعة والجميع من معانيها مسروقة لفضلته على البحتري إلا في بيت الطحلب فإنه معنى ما علمت أحداً سبق إليه، ولا قيل في وضوح الصبح أبرع منه، فأجعلهما متكافئين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 * ومما ذكرا فيه سرى الإبل قال أبو تمام: لا تذيلن صغير همك وانظر ... كم بذي الأثل دوحة من قضيب (1) رب خفض تحت السرى وغناء ... من عناء ونضرة من شحوب فاسأل العيس ما لديها وألف ... بين أشباحها وبين السهوب (2) وقال: فتى النكبات من يأوي إذا ما ... قطفن به إلى خلق وساع (3) يثير عجاجة في كل ثغر ... يهيم بها عدي بن الرقاع أبن مع السباع الماء حتى ... لخالته السباع من السباع فلب الحزم إن حاولت يوماً ... بأن تسطيع غير المستطاع (4) فلم ترحل كناجية المهاري ... ولم تركب همومك كالزماع قوله: «قطفن» أي أبطأ في الانصراف والانكشاف عنه، وتثاقلن في المضي، مأخوذ من قولهم: دابة قطوف، وهو الذي يقصر خطوه فيبطيء ذهابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 يقول: فإنه مع هذه الحال يأوي إلى خلق واسع، وصبر على المحن حتى تنكشف. وقوله: «يثير عجاجة في كل ثغر» أي يطأ كل بلدة مخوفة، وتثير مطيته غبار كل بقعة، ونسب العجاجة إلى عدي بن الرقاع لأن عدياً وصف العير والأتان وما يثيرانه من الغبار في السهل من الأرض، فإذا صارا إلى الحزن لم يوجد لها فيه نقع، فشبهه بملاءة ينشرانها مرة، ويطويانها أخرى فقال: يتعاوران من الغبار ملاءة ... سوداء داجية هما نسجاها (1) تطوى إذا علوا مكاناً ناشراً ... وإذا السنابك أسهلت نشراها وهذا من تشبيهات العرب الموصوفة، فجعل أبو تمام عدياً ممن هام بهذه العجاجة، أتى بوصفها إعجاباً بها، وأن ناقته أيضاً تثير عجاجة في كل ناحية كهذه العجاجة. وهذا تمحل منه لمعنى غير لائق بما هو بسبيله من ذكره سيره؛ لأنه إن كان أراد أنه أيضاً يثير النقع في السهل، ولا يثيره في الحزن فكل سار فيهما هذه حاله، فما وجه ذكره عجاجة عدي، وإنما حسن من عدي، وصح التشبيه لأن الحمار إذا طلب الأتان فليس يجريان على استقامة بل تراهما بيناهما في الحزن صارا إلى السهل، ثم يعودان إلى الحزن، فتراهما مسهلين ومحزنين لجولانهما، فترى عجاجتهما تثور حيناً، وتلبد حيناً، فصح التشبيه وحسن، والمسافر إنما يمر على سنن واحد فليس يكاد يخرج من سهل إلى حزن؛ ومن حزن إلى سهل في وقت واحد تدركه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 منه العيون فيكون الغبار مشبهاً لملاءة تنشر وتطوى، وإنما يقع ذلك في أوقات متراخية يسقط معها هذا المعنى. ... وقال أبو تمام: وركب يساقون الركاب زجاجة ... من السير لم تقصد لها كف قاطب (1) فقد أكلت منها الغوارب بالسرى ... وصارت لها أشباحهم كالغوارب (2) يرى بالكعاب الرود طلعة ثائر ... وبالعرمس الوجناء غرة آيب (3) كأن به ضغناً على كل جانب ... من الأرض أو شوقاً إلى كل جانب قوله: «لم تقصد لها كف قاطب» أي سيراً لا يلين ولا يفتر، كما تقطب الراح أن تمزج وتكسر بالماء وتلين. وقال: فاطلب هدوءاً بالتقلل واستثر ... بالعيس من تحت السهاد هجودا (4) من كل معطية على علل السرى ... وخداً يبيت النوم منه شريدا (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 يخدي بمنصلت يظل إذا ونى ... ضرباؤه حلساً لها وقتودا (1) جعل الدجى جملاً وودع راضياً ... بالهون يتخذ القعود قعودا (2) وقال: ورأيت ضيف الهم لا يرضى قرى ... إلا مداخلة القفار دلاثا (3) شجعاء جرتها الذميل تلوكه ... أصلاً إذا راح الغضا حثحاثا (5) مداخلة القفار: موثقة الخلق. والدلاث: السريعة، والمندلث: المسرع، يقال: اندلث اندلاثاً. و «شجعاء جرتها الذميل» (6) مثل، أي إذا اجترت الإبل العلف من بطونها ولاكته فليس لهذه الناقة جرة إلا الذميل وهو ضرب من السير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 كما قال في وصف الخيل: * تعليقها الإسراج والإلجام * (1) جعل ذلك مكان الشعير في المخالي إذا علقت عليها. يقول: إذا ونت الركاب وغرثت، أي احتاجت إلى العلف، فإن هذه الناقة لاقتدارها على السير وصبرها على (2) الرمل تلوك الذميل كأنه طعامها. وهذه القطع كلها جياد صحيحة المعاني والألفاظ. ... وقال: سأخرق الخرق يابن خرقاء كالـ ... ـهيق إذا ما استجم من نجده (3) مقابل في الجديل صلب القرا ... لوحك من عجبه إلى كنده تامكه نهده مداخله ... ملمومه محزله أجده «ابن خرقاء»: يريد بعيراً. والهيق: الظليم، شبهه به لنشاطه وسرعته. والنجد: العرق، أي هو كالهيق في هذه الحال التي يقدر فيها فتوره. مقابل: كريم الآباء والأمهات، وفي الجديل: وهو فحل كريم. لوحك: شد ووثق، والكتد: ما يتصل بالحارك من العنق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 والتامك: المرتفع، وكذلك النهد (1). والملموم: الذي قد استوى لحمه وشحمه من سنمه، ولم يبق له عظم شاخص. والمحزئل: المرتفع، احزأل أي ارتفع في السير. وهذه معان صحيحة، ولكن النسج لا حلاوة له، ولا طلاوة عليه. ... وقال: وإلى جناب أبي الحسين تشنعت ... بزمامها كالمصعب المخطوم (2) جاءتك من معج خوانق في الرى ... وعوارف بالمعلم المأموم من كل ناجية كأن أديمها ... حيصت ظهارته بجلد أطوم تثني ملاطيها إذا ما استكرهت ... سعدانة كإدارة القرزوم طلبتك من نسل الجديل وشدقم ... كوم عقائل من عقائل كوم ينسين أصوات الحداة ونبرها ... طرباً لأصوات الصدى والبوم فأصبن بحر نداك غير مصرد ... ورداً وأم نداك غير عقيم لما وردن حياض سيبك طلحا ... خيمن ثم شربن شرب الهيم قوله: «تشنعت»: أي أخذت أهبتها للسير، وشمرت، من قولهم: تشنع الفارس، إذا لبس سلاحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 ومعج: جمع معجة، والمعج: التغلب في الجري، يقال: مر الحمار يمعج معجاً، إذا جرى في كل وجه بسرعة، وحمار معاج. والخوانق: جمع خنوق، وهي الناقة التي تضرب بيدها في السير من نشاطها وفيه بعض الميل. والمعلم: الطريق، والمأموم: الذي يؤتم، عارفة بالطريق الذي يجب أن تؤمه لطول دأبها، وكثرة سيرها في الطرق المختلفة. وقوله: «حبصت» خيطت بجلد أطوم، يقال: إن الأطوم: السلحفاء البحري الذي يجعل من جلده الذبل (1)، ويشبه جلد البعير الأملس به، ويقال: الأطوم: سمكة في البحر غليظة، وقيل بل هي بقرة يتخذ من جلدها الخفاف للحمالين، قال الشماخ يصف الناقة: وجلدها من أطوم ما يؤيسه ... طلح كضاحية الصيداء مهزول (2) قيل في تفسيره: الأطوم: سمكة بحرية تخصف الخفاف والنعال بجلدها. ويؤيسه: يذلله، والتأييس: التذليل. والطلح: والقراد ها هنا، والطلح: الضئيل المهزول. والصيداء: حصى، والصيدان (3): حجارة. وضاحية: ما ضحا للشمس منها وظهر. وقال الأخفش في تفسير هذا البيت: الأطوم: طي البئر بالصخر الأسود، ويقال: الأطوم: الصدف. وقوله: «تثنى ملاطيها» أي تباعد بينهما. وملاطاها: وعضداها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 سعدانة: والسعدانة من البعير: هي البلدة (1)، أي تباعد بين عضديها كركرة (2)، أو بلدة مستديرة كإدارة الفرزوم، وهي الخشبة المدورة التي يحذو عليها الحذاء (3)، وذلك محمود في الإبل أن يتباعد عضد البعير من زوره في السير. والكوم: العظام الأسنمة، واحدتها كوماء. وقوله: ينسين أصوات الحداة ونبرها ... طرباً لأصوات الصدى والبوم (4) أي ألفت صوت الصدى والبوم لكثرة سيرها في الفيافي، حتى صارت تطرب لذلك وتنسى أصوات الحداة. وهذا من مبالغاته البعيدة الباطلة. ولو قال: إلفاً لأصوات الصدى كان أشبه بالصواب قليلاً من الطرب. وهذه أبيات صالحة على ما فيها من التكلف. ... وقال: الهم والعيس والليل التمام معاً ... ثلاثة أبداً يقرن في قرن (5) حوباً حلاً قاسميني الهم يا ابنته ... فقد خلقت لغير الحوض والعطن (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 قوله: «حوباً حلا» زجر من زجر الإبل (1)، كأنه زجر ناقته، وقال لها: قاسميني الهم يا ابنته: يا بنت الهم، سيري وانطلقي فقد خلقت لغير الحوض والعطن، أي خلقت لقطع الأسفار لا للإقامة. ولفظ هذا الأخير رديء، ونسجه قبيح. وأخذ البحتري معنى الأول فقال: يا خليلي بالسواجير من ودبـ ... ـن معن وبختر بن عتود (2) أطلبا ثالثاً سواي فإني ... رابع العيس والدجى والبيد ... وقال البحتري: بنات العيد تعتاد الفيافي ... إذا شئنا استمر بها الذميل (3) وما طرفا زمان المرء إلا ... مقام يرتضيه أو رحيل وقال: وإذا ما تنكرت لي بلاد ... أو خليل فإنني بالخيار (4) وخدان القلاص حولاً إذا قا ... بلن حولاً من أنجم الأسحار يترقرقن كالسراب وقد خضـ ... ـن غماراً من السراب الجاري (5) كالقسي المعطفات بل الأسـ ... ـهم مبرية بل الأوتار (6) وهذا من أوصاف الإبل إذا أضمرها السير وهي في غاية الحسن والصحة والحلاوة في اللفظ والنسج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 ومثله في الجودة والحسن قوله: وهي العيس دهرها في ارتحال ... من حلول أو فرقة من جميع (1) رب مرت مرت تجاذب قطريـ ... ـه سراباً كالمنهل المشروع (2) وسرى تنتحيه بالوخد حتى ... تصدع الليل عن بياض الصديع كالبري في البرى ويحسبن أحيا ... ناً نسوعاً مجدولة من نسوع (3) وقال: سوف أعطي السلو والصبر ما أمـ ... نع من طارف الهوى أو تليد (4) بالمهارى يلبسن لوناً جديداً ... مستفاداً في كل وقت جديد فهي طول النهار بيض وطول الـ ... ـليل في أقمص من الليل سود طالبات في الغوث غوثاً سكوباً ... وحميداً في آل عبد الحميد وهذا كل جيد بالغن وعذب حلو، ومعان لطيفة لائقة. ... وقد أجاد كل واحد منهما وصف إبله على الطريقة التي قصدها واعتمدها، وإن كانت معاني البحتري فيما ذهب إليه من الضمر حلوة جداً. ... فأقول: إنهما في البابين متكافئين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 . ولأبي تمام في وصف الإبل أشياء رديئة لم أكتبها، وفيها قصيدة يصف فيها ناقة حج عليها رديئة جداً أولها: لعلك ذاكر الطلل القديم ... وموف بالعهود على الرسوم (1) له فيها ألفاظ مختلفة، ومعان من معاني السوق، وقد تقدم في الباب (2) قوله: وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن يتم صدوره ... وليس عليهم أن يتم عواقبه في أبيات ما هي (3) من ذلك الباب، ثم قال بعدها ما هو من هذا الباب في وصف الإبل، وسبيلها أن تثبت في هذا الباب في أوله: على كل موار الملاط تهدمت ... عريكته العلياء وانضم حالبه (4) رعته الفيافي بعدما كان حقبة ... رعاها وماء الروض ينهل ساكبه فأضحى الفلا قد جد في بري نحضه ... وكان زماناً قبل ذاك يلاعبه فكم جزع واد جب ذروة غارب ... ومن قبل كانت أتمكته مذانبه قوله: «موار الملاط» فالملاط: عضد البعير، وموار: يريد حركته في السير. وعريكته العلياء: يعني سنامه، تهدمت من طول السفر، وكذا انضم حالبه (5). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وقوله: «يلاعبه»: لفظة ضعيفة المعنى، وإنما جاء بها من أجل قوله: جد في بري نحضه؛ ليطابق بين الجد واللعب. أي إن الفلا جد في أخذ لحمه في سيرنا هذا السير، فجعل مكان هذا القول: «وكان زماناً قبل ذاك يلاعبه» على مذهبه في عشق الطباق الذي لا بد له من أن يأتي به وإن حصل المعنى ضعيفاً ركيكاً، وربما كان محالاً. وقوله: «أتمكنه» أي أسمنت تامكه، وهو سنامه. والمذانب: مجاري الماء، وهي أبداً معشبة. ... ولئن كانا جميعاً أحسنا في هذا الباب فما وصفا مطيهما بالسرعة وصف مسلم بن الوليد إذ يقول: إلى الأمام تهادانا بأرحلنا ... خلق من الريح في أشياخ ظلمان (1) كأن إفلاتها والفجر يأخذها ... أفلات صادرة عن صوت مرنان (2) تنساب في الليل لا ترعى لهاجسة ... كأنني راكب في رأس ثعبان (3) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وقد أفرط الذي يقول، وقد أحسن في إفراطه: مروح برجليها إذا هي هجرت ... ويمنعها من أن تطير زمامها وقال الشماخ: * تكاد تطير من رأي القطيع (1) * وقال الحطيئة: وإن نظرت يوماً بموخر عينها ... إلى علم بالغور قلت له ابعد (2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 * باب الشحوب والتغير من الأسفار قال أبو تمام: نظرت إليه فما استتمت لحظها ... حتى تمنت أنها لم تنظر (1) ورأت شحوباً رابها في وجهه ... ماذا يريبك من جواد مضمر (2) غرض الحوادث لا تزال ملمة ... ترميه عن شزر بأم حبوكر (3) سدكت به الأقدار حتى إنها ... لتكاد تفجؤه بما لم يقدر (4) وهذا ما لا غاية وراءه في الحسن والصحة والبراعة. قوله: «سدكت به الأقدار»، أي لزمته، وغريت به. وقال البحتري نحو هذا البيت الأخير ولكن على وجه آخر وأحسن وأجلى، قال: ولو فاتني المقدور مما أرومه ... بسعي لأدركت الذي لم يقدر (5) ... وقال أبو تمام: نكرت فتى ألوى بنضرة وجهه ... وبمائه نكد الخطوب ولومها (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 لا تنكري شيمي فإني زائدي ... حزماً حضار النائبات وشيمها (1) فلقبل أظهر صقل سيف أثره ... فبدا وهذبت القلوب همومها والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذي أنباك كيف نعيمها حضار النائبات: بيضها، وشيمها: سودها، يريد أنه يزيد في حزمه ومعرفته بالأمور ما يقاسيه من الخير والشر. وقال: لا يطرد الهم إلا الهم من رجل ... مقلقل لبنات القفرة النعب (2) لا تنكري منه تحديداً تجلله ... فالسيف لا يزدري إن كان ذا شطب (3) وهذا كله جيد بالغ حسن نادر. ... وقال البحتري: ما تنكر الحسناء من متوغل ... في الليل يخلط أينه بسهوده (4) قد لوحت منه السهوب وأثرت ... في يمنتيه وعنسه وقتوده فلفضة السيف المحلى حسنه ... متقلداً ومضاؤه لحديده تم الباب ... وهذا ما قلت أذكره في آخر الباب من حال قيس بن زهير، والحارث بن مضاض، والبراض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 فأما قيس بن زهير العبسي فإن بني بدر الفزاريين قتلوا أخاه مالكاً فنشبت الحرب بين عبس وذبيان ابني (1) بغيض. وكان سبب ذلك رهان داحس والغبراء فقتل قيس حذيفة بن بدر وحمل ابن بدر وغيرهما، ودامت (2) الحرب بينهما دهراً طويلاً حتى كادوا يفنون. وتشاءمت العرب بقيس، وكان سيداً حكيماً حليماً، فقال: لا أقيم ببلاد قتلت بها سادات قومي ولم أحلم، ولم أقرب، ولم أصلح فقال: تعلم أن خير الناس ميتاً ... على جفر الهباءة ما يريم (3) ولولا ظلمه ما زلت أبكي ... عليه الدهر ما طلع النجوم ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم أظن الحلم دل على قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم ثم خرج ضارباً في البلاد على وجهه متخلياً من كل أهل ومال، وصار إلى بعض نواحي عمان فهلك هناك وله في هلاكه خبر، فهذه غربة قيس. ... وأما غربة الحارث بن مضاض الجرهمي فإنه كان سيد جرهم في زمانه، وكان إلى قومه حجابة بيت الله الحرام بمكة فغلبتهم عليه خزاعة، فخرجوا وتفرقوا في البلاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وفي ذلك يقول الحارث: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر (1) بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي والجدود العواثر ويقال: بل قائل هذه الأبيات بكر بن غالب بن الحارث بن مضاض. ... فأما فتكة البراض، فهو براض بن قيس بن رافع الكناني، أحد بني مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس، وتكته كانت بعروة (2) الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب، وكانت من أجله وقعة «الفجار العظمى» (3). وسبب ذلك أن البراض وكان رجلاً شريراً فاتكاً صار إلى النعمان بن المنذر، ولما حضر الموسم جهز اللطيمة إلى سوق عكاظ، وهي من كل المتاع، ولا يقال لها لطيمة إلا إذا كان فيها مسك وطيب، فقال النعمان: من يجيزها؟، قال البراض: أنا أجيزها على قومي بني كنانة (قال: وعلى العرب أجمعين) (4) قال البراض: وعلى بني كنانة. قال: نعم، على العرب والعجم، وعلى الجن والإنس، فسار فيها عروة، وأتبعه البراض حتى إذا كان بذي طلال قريباً من خيبر حمل عليه فقتله، وكانت الحرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 باب مضت أنواع النسيب (1) كلها، وهذا باب أرسم فيه (2) الأبواب التي خرجا فيها من النسيب إلى المديح. اعلم أنهما جميعاً قد تعملا في بعض قصائدهما النسيب، وصلا به النسيب بالمديح، وأعرضا في كثير من أشعارهما عن هذا المعنى، وابتدآ بالمدح منقطعاً عما قبله، وكلا الوجهين قد فعله شعراء الجاهلية والإسلام، وكانوا كثيراً ما يقولون إذا فرغوا من النسيب وأرادوا المدح أو غيره من الأغراض: «فدع ذا»، فتجنبها المتأخرون واستقبحوها، وكذلك قولهم: «فعد عن ذا» وهي عندهم أحسن. فمما قطعه أبو تمام مما قبله: هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام (3) ثم خرج إلى المدح فقال: الله أكبر جاء أكبر من جرت ... فتعثرت في كنهه الأوهام وقال: حلمتني زعمتم وأراني ... قبل هذا التحليم كنت حليما (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 ثم قال: من رأى بارقاً سرى صامتياً ... جاد نجداً سهولها والحزونا وقال: أوما رأت بردى من نسج الصبا ... ورأت خضاب الله وهو خضابي (1) ثم قال: لا جود في الأقوام يعلم ما خلا ... جوداً حليفاً في بني عتاب وقال: لو رأى الله أن في الشيب فضلاً ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا (2) ثم قال: كل يوم تبدي صروف الليالي ... خلفاً من أبي سعيد غريبا (3) وقال: كأن له ديناً على كل مشرق ... من الأرض أو ثأراً لدى كل مغرب (4) ثم قال: رأيت لعياش خلاق لم تكن ... لتكمل إلا في الباب المهذب وقال: حلت نطف منها لنكس وذو الحجا ... يداف له سم من العيش منقع (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 ثم قال: لقد آسف الأعداء مجد ابن يوسف ... وذو النقص في الدنيا بذي الفصل مولع وقال: فلم ترحل كناجية المهارى ... ولم تركب همومك كالزماع (1) ثم قال: بمهدي بن أصرم عاد عودي ... إلى إيراقه وامتد بارعي ... ومن ذلك قول البحتري: توهمتها ألوى بأجفانها الكرى ... كرى النوم أو مالت بأعطافها الخمر (2) ثم قال: لعمرك ما الدنيا بناقصة الجدا ... إذا بقي الفتح بن خاقان والقطر وقال: ومن يطلع شرف الأربعين ... يلاق من الشيب زوراً غريبا (3) ثم قال: بلونا ضرائب من قد ترى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا وقال: تأبى رباه أن تجيب ولم يكن ... مستخبر ليجيب حتى يفهما (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 ثم قال: الله جار بني المدبر كلما ... ذكر المكارم ما أعف وأكرما (1) وقال: وكم من يد لليل عندي جميلة ... وللصبح من خطب تذم غوائله (2) ثم قال: وقد قلت للمعلي إلى المجد طرفه ... دع المجد فالفتح بن خاقان شاغله (3) وقال في وصف الغيث: فصاغ ما صاغ من حلي ومن حلل ... ما يمتع العين من وشي وديباج (4) ثم قال: إلى علي بني الفياض بلغني ... سراي من حيث لا يسرى وإدلاجي (5) وقال: ما كان هجرك مكروهاً أحاذره ... ولا وصالك معروفاً أرجيه (6) ثم قال: بنو ثوابة أقمار إذا طلعت ... لم يلبث الليل أن ينجاب داجيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وقال: أميل بقلبي عنك ثم أرده ... وأعذر نفسي فيك ثم ألومها (1) ثم قال: إذا المهتدي بالله عدت خلاله ... حسبت سماء كاثرتك نجومها (2) وقال: وهل هي إلا لوعة مستسرة ... يذيب الحشا والقلب وجداً غليلها (3) ثم قال: ولولا معالي أحمد بن محمد ... لأضحت ديار الحمد وحشاً طلولها (4) فهذا الجنس من الخروج إلى المدح هو الأعم في أشعارهما. ... وأما الوجه الذي يجعلون (5) له سبباً يصل النسيب بالمدح فعلى معاني شتى: منها الخروج بذكر وصف الإبل والمهامه إلى الممدوح، وهذا المعنى عام كثير في أشعار الناس. فمن ذلك قول أبي تمام: يصبرني إن ضقت ذرعاً بحبه ... ويجزع أن ضاقت عليه خلاخله (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 ثم خرج إلى مدح المعتصم فقال: إليك أمير المؤمنين وقد أتى ... عليها الملا أدماثه وجراوله (1) نصرن السرى بالوخد في كل صحصح ... وبالسهد الموصول والنوم خاذله (2) رواحلنا قد بزنا الهم أمرها ... إلى أن حسبنا أنهن رواحله إذا خلع الليل النهار رأيتها ... بإرقالها في كل وجه تقابله (3) إلى قطب الدنيا الذي لو بمدحه ... مدحت بني الدنيا كفتهم فضائله الملا -المقصور-: المتسع من الأرض. والأدماث: جمع دمث وهي الأرض اللينة. والجراول: جمع جرول، وهي الأرض الخشنة ذات الحجارة. ومنه قول أبي تمام أيضاً: اليوم يسليك عن طيف ألم وعن ... بلى الرسوم بلاء الأينق الرسم (4) من القلاص اللواتي في حقائبها ... بضاعة غير مزجاة من الكلم إذا بلغنا أبا كلثوم اتصلت ... تلك المنى وأخذن الحاج من أمم ومن ذلك قوله: سيبتعث الركاب وراكبيها ... فتى كالسيف هجعته غرار (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 أطل على طلى الآفاق حتى ... كأن الأرض في عينيه دار (1) تؤم أبا الحسين وكان قدماً ... فتى أعمار موعده قصار وقوله: وبساط كأنما الآل فيه ... وعليه سحق الملاء الرحيض (2) يصبح الداعري ذو المرة المر ... جم فيه كأنه مأبوض (3) قد فضضنا من بيده خاتم الخو ... ف وما كل خاتم مفضوض بالمهارى يجلن فيه وقد جا ... لت على مستماتهن الغروض (4) جازعات سود المهامه تهديـ ... ـها وجوه لمكرماتك بيض (5) وقوله: فاطلب هدواً بالتقلل واستثر ... بالعيس من تحت السهاد هجودا (6) من كل معطية على علل السرى ... وخداً يبيت النوم منه شريدا تخدي بمنصلت يظل إذا ونى ... ضرباؤه حلساً لها وقتودا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 جعل الدجى ستراً وودع راضياً ... بالهون يتخد القعود قعودا (1) طلبت ربيع الممهى لها ... ووردن ظل رواقه الممدودا (2) قوله: «فاطلب هدواً في التقلل» من قول عروة بن الورد: * ولم تدر أني للمقام أطوف * وقوله: «الممهى لها» أي الذي أكثرت مياهه، ويروى «الممهى» لها أي الذي يكثر لها الماء، وليس يريد الماء بعينه، وإنما يريد الخصب والسعة لأنه بالماء يكون. وهذا الخروج كله جيد بالغ. وله على هذا الوجه خروجات رديئة ومتوسطة لم أذكرها، ومنها قوله: دع عنك هذا إذا انتقلت إلى الـ ... ـمدح وشب سهله بمقتضبه (3) فالسهل: ما يأتيه به خاطره عفواً من غير فكر ولا طلب. والمقتضب ما يقتطعه خاطره اقتطاعاً بالفكر والتعب، ويقال: ناقة قضيب، وهي التي ريضت ولم تذل كل الذل للحمل والركوب. فأما قول البحتري لإبراهيم بن المدبر (4) في عتاب حلو: دع ذا وأخبرني بشأن صديقنا ... بشر وهل يرضى لبشر شان (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 فإن «دع» ها هنا حسنة وليست مثلها في الخروج من النسيب إلى المدح. ثم قال أبو تمام هو قوله: «دع عنك هذا»: لست من العيس أو أكلفها ... وخداً يداوي المريض من وصبه (1) إلى المصفى مجداً أبي الحسن انـ ... ـصعن انصياع الكدري في قربه (2) قوله: «يداوي المريض»، يعني المريض في حاله لا في جسمه؛ لأنه يدنيه من الغنى. والانصياع: الانحراف في السير من النشاط والسرعة، والكدري القطا. يعني إذا جنحت في الطيران وانحرفت نشيطة مسرعة. ... ومن هذا الباب قول البحتري: فالعيس ترمي بأيديها على عجل ... في مهمه مثل ظهر الترس رحراح (3) نهدي إلى الفتح والنعمى بذاك له ... مدحاً يقصر عنه كل مدح (4) وقوله: سيحمل همي عن قريب وهمتي ... قرى كل ذيال جلال جلنفع (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 يناهبن أجواز الفيافي بأرجل ... عجال إلى طي الفيافي وأذرع (1) متى تبلغ الفتح بن خاقان لا تنخ ... بضنك ولا تفزع إلى غير مفزع الجلنفع: المتناهي في سنه وقوته (2). «يناهبن أجواز الفيافي. . .» بيت في غاية الحسن، وجودة اللفظ. وقول البحتري أيضاً: ولقد تعسفت الأمور وصاحبي ... حزم يلف حزونها بسهولها (3) ونشرت أردية الصبا وطويتها ... بالعيس بين وجيفها وذميلها (4) شامت بروق سحابة قرشية ... غرقت صروف الدهر بين سيولها (5) وقوله: وإذا استصعبت مقادة أمر ... سهلتها أيدي المهارى القود (6) حاملات وفد الثناء إلى أبـ ... ـلج صب إلى ثناء الوفود علقوا من محمد خير حبل ... لرواق الخلافة الممدود (7) وقوله: تشكى الوجى والليل ملتبس الدجى ... غريرية الأنساب مرت بقيعها (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 ولست بزوار الملوك على الونى ... لئن لم تجل أغراضها ونسوعها (1) تؤم القصور البيض من أرض بابل ... بحيث تلاقى غردها وبديعها (2) إذا أشرف البرج المطل رمينه ... بأبصار خوص قد أرنت قطوعها (3) يضيء لها قصد السرى لمعانه ... إذا اسود من ظلماء ليل هزيعها نزور أمير المؤمنين ودونه ... سهوب البلاد رحبها ووسيعها وهذه ألفاظ ومعان في غاية الصحة والحسن، وكثرة الماء. وقوله: «عريرية» منسوبة إلى فحل من فحول الإبل مذكور يقال له: غرير، وغردها بديعها: قصران. ... وقال في ابن المدبر: إنني لاجيء إلى عزمات ... معديات على طريق الهموم (4) يتلاعبن بالفيافي ويوديـ ... ـن بنقي المسومات الكوم (5) الترامي بعد الوجيف إذا استؤ ... نف خرق والوخد بعد الرسيم (6) كل مهزوزة المقذين تلقى ... روحة الجاب خلفها والظليم (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 جنحا كالسمام يحملن ركباً ... طلحا من ضئولة وسهوم (1) ما لهم عرجة وإن نأت الشقـ ... ـقة دون الأغر إبراهيم (2) قوله: «مهزوزة المقذين»، فالمقذان: أصول الأذنين، وإنما يريد حركة رأسها عند السير، وما أكثر ما تصف العرب ذلك. وقوله: «تلقى روحة الجأب» إذا سارت مع حمار الوحش، والظليم، وهو ذكر النعام، فوصلت غدوة وصلا بعدها عشياً، يصفها بالسرعة والقوة على السير. والسمام (3): جنس من الطير. وجنح يجنح في طيرانه، أي يميل من النشاط على أحد جناحيه وكذلك تفعل كرائم (4) الإبل تتصرف في سيرها. وقوله: قد أقذف العيس في ليل كأن له ... وشياً من النور أو أرضاً من العشب (5) حتى إذا ما انجلت أخزاه عن أفق ... مضمخ بالصباح الورد مختضب أوردت صادية الآمال فانصرفت ... عني بها وأخذت النجح من كثب (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 هاتيك أخلاق إسماعيل في تعب ... من العلا والعلا منهن في تعب (1) أراد أوردت (2) صادية الآمال بها أي بالعيس فانصرف عني (3) الآمال الصادية، وهي العطاش، وأخذت النجح من كثب، أي من قرب. وقوله: «في ليل كأن له وشياً من النور» أي في ليل شديد الظلمة، فإذا اشتدت ظلمته أشرقت كواكبه ما صغر منها وما كبر، وأحسن ما تكون السماء إذا كانت هذه حالها. وإلى هذا المعنى ذهب ذو الرمة في قوله: وليل كجلباب العروس أدرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد (4) أراد الحلي الذي على جلبابها، شبه الليل به في حسن نجومه، وإنما يريد أنه ادرع ليلاً شديد الظلمة، مضيء الكواكب. ... وفي شدة ظلمة الليل يقول البحتري أيضاً: والليل في صبغ الغراب كأنما ... هو في حلوكته وإن لم يتعب (5) حتى تجلى الصبح من جنباته ... كالماء يلمع في خلال الطحلب (6) وهذا معنى ما سمعت في شعر قديم ولا محدث أحسن ولا أروع منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 ثم قال: والعيس تنصل من دجاه كما انجلى ... صبغ الشباب عن القذال الأشيب (1) ثم قال: والعيس تنصل من دجاه كما انجلى ... صبغ الشباب عن القذال الأشيب (1) يطلبن مجتمع العلا من وائل ... في ذلك الأصل الزكي الطيب (2) ... وقال البحتري: سوف أعطي السلو والصبر ما أمـ ... ـنع من طارف الهوى وتليد (3) بالمهارى يلبسن ثوباً جديداً ... مستفاداً في كل وقت جديد فهي طول النهار بيض وطول الـ ... ـليل في أقمص من الليل سود طالبات في الغيث غيثاً سكوباً ... وحميداً في آل عبد الحميد (4) وقال محمد بن علي القمي: لقد علمت عيدية العيس أنني ... أهب إذا نام الهدان وأعنق (5) خرجنا بها في البيض بيضاً لم نر الد ... دآديء إلا وهي منهن أمحق (6) هشمن إلى ابن الهاشمية أوجها ... عوابس للظلماء ما تتطلق (7) قوله: «خرجنا بها في البيض»، يريد في الليالي البيض، وهي التي يكون القمر فيها طالعاً من أولها إلى آخرها. وقوله: «بيضاً»: يريد الآدم من الإبل، وهو الأبيض، فإن خالطته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 حمرة فهو أصهب، وأظنه قال ها هنا بيضاً أراد حسنها وصفاء ألوانها وسمنها. والدآدي: هي الليالي في آخر الشهر، وهي مظلمة. أي لم نصل إليها حتى هزلت مطايانا، وصارت أمحق منها، وإنما جعل الدآدي ممحقة لأنها آخر الشهر (1). والهدان: الرجل البليد الذي ترضيه بالكلمة فيرضى. ... وقال: وأرى المطايا لا قصور بها ... عن ليل سامراء تدرعه (2) يطلبن عند فتى ربيعة ما ... عند الربيع تخايلت بقعه قوله: «تخايلت»، أي صارت مخيلة للنبات، ظاهراً ذلك فيها، أو أن يريد صارت كالخيلان من النبات. وقال: كالبرى في البرى ويحسبن أحيا ... ناً نسوعاً مجدولة في النسوع (3) أبلغتنا محمداً فحمدنا ... حسن ذاك المرئي والمسموع (4) وقال: وما ثنى مستهاماً عن صبابته ... مثل الزماع ووجد العرمس الأجد (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 إلى أبي نهشل ظلت ركائبنا ... يحدن من بلد ناء إلى بلد (1) إلى فتى مشرق الأخلاق لو سبكت ... أخلاقه من شعاع الشمس لم تزد وقد جعل البحتري مكان الناقة ها هنا فرساً فقال في مدح الشاه بن ميكال: فتناس من لم ترج رجعة وده ... ووصاله فتعز عن ذكراه (2) بمجنب رحب الفروج مشذب ... نابي القذال حديدة أذناه (3) ضافي السبيب مقلص لم تنخزل ... منه القطاة ولم تخنه شظاه (4) صافي الأديم كأن غرة وجهه ... فلق الصباح انجاب عنه دجاه يجري إذا جرت الجياد على الونى ... فيبذ أولى جريها أخراه يدنيك من ملك أغر سميذع ... يدنيك من أقصى مناه رضاه (5) ... وقد خرج أبو تمام من المدح بوصف الخيل أيضاً فقال: حذوناها الوجى والأين حتى ... تجاوزت الركوع إلى السجود (6) إذا خرجت من الغمرات قلنا ... خرجت حبائساً إن لم تعودي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 فكم من سؤدد أمكنت منه ... برمته على أن لم تسودي أهانك للطراد ولم تهوني ... عليه وللقياد أبو سعيد (1) ... وقد جعل البحتري أيضاً السفينة بمكان الناقة فقال: ورمت بنا سمت العراق أيانق ... سحم الخدود لغامهن الطحلب (2) من كل طائرة بخمس خوافق ... دعج كما ذعر الظليم المهذب (3) يحملن كل مفرق في همة ... فضل يضيق لها الفضاء السبسب (4) ركبوا الفرات وأملوا ... نشوان يبدع في السماح ويغرب (5) قوله: أيانق جمع أينق، وهو جمع ناقة. وهذا من المقلوب الذي جاء في كلامهم؛ لأن النون من شأنها أن تتقدم الياء، فلو جاء على الاستقامة لكان أنيق (6) وأنايق، وهذا مثل ملك وملائكة، والأصل مألك ومآلكة. وقوله: «سحم الخدود»، يريد سواد القار. ولغامهن الطحلب: يريد الخضرة التي تتعلق بالسفن من طول المكث في الماء. وقوله: «خمس خوافق» يريد أربعة مجاديف، وسكان، أو قائم الشراع. ودعج: سواد القار أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 وقوله: «كما ذعر الظليم» يريد سرعة السفن، وانبعاثها كما ينبعث الظليم ويجفل إذا فزع. والإهذاب: السرعة. وقوله يحملن كل مفرق أي متقسم في همة فضل أي همة واحدة يضيق لها الفضاء لعظمها وسعتها. والفضل: الثوب الواحد الذي يقتصر (1) عليه الرجل والمرأة ويبتذله للأعمال قال امرؤ القيس: * لم تنتطق عن تفضل (2) * وأظن البحتري أراد بقوله: «فضل» أي همة واحدة (3) وجهوها (4) إليك دون من سواك، وجعلها عظيمة على قدر الممدوح، أي اتسعت الهمة فيك وعظمت؛ قد تقسمته وصار لا فضل فيه لغيرها. وهذه أبيات حسان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وقد قال أبو تمام في السفينة والمسير فيها إلى الممدوح في قصيدة أولها: دنف بكى آيات ربع مدنف ... لولا نسيم ترابه لم يعرف (1) أبياتاً رديئة جداً لم أكتبها (2). والجيد النادر في وصف السفينة قول بشار يذكر مسيره إلى المهدي: وعذراء لا تجري بلحم ولا دم ... قليلة شكوى الأين ملجمة الدبر (3) إذا طعنت فيها القبول تشمصت ... بفرسانها لا في وعوث ولا وعر (4) وإن قصدت مرت على متنصب ... رأيت نفوس القوم من جريها تجري (6) سمونا إلى المهدي قصداً وإنما ... قطعنا بها أمواج بحر إلى بحر (7) فبلغ سيبويه قوله: «نينان البحور» فأنكر ذلك، وزعم أن العرب لا تجمع النون -وهو الحوت- وعلى نينان، فبلغ ذلك بشاراً، فقال: ويحه: أما يقول: حوت وحيتان، وغول وغيلان، فكذلك نون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 ونينان، وتوعد سيبويه ولدغه فكف سيبويه عن تتبع شعره، واحتج بشيء منه تقرباً إليه، واستكفافاً لشره. ... وللبحتري في الخروج إلى المديح بذكر الإبل غير شيء لو استقصيته، وأتيت بجميع ما لأبي تمام فيه لطال الباب، وما تركت لهما إلا وسطاً ليس بجيد ولا رديء. ... ولا خفاء بفضل البحتري في سائر ما أوردته على أبي تمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وهذا وجه آخر من الخروج و خروجهما إلى المديح بمخاطبة النساء فمن ذلك قول (1) أبي تمام: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي (2) وتنظري خبب الركاب يحثها ... محيي القريض إلى مميت المال وهذا معنى لطيف حسن. ... ومنه قول البحتري: ولم أنسها عند الوداع ونثرها ... سوابق دمع أعجلت أن تنظما (3) وقالت هل الفتح بن خاقان معقب ... رضا فيعود الشمل منا ملاما وقوله: قامت تودعني عجلى وقد بدرت ... سوابق من توأم الدمع تجريها (4) واستنكرت ظعني عنها فقلت لها ... إلى الخليفة أنضى العيس منضيها (5) وما أكثر ما يستعمل الشعراء في خروجهم (6) إلى المدح هذا الوجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 ومن جيد ذلك قول جرير: تعزت أم حزرة ثم قالت ... رأيت الموردين ذوي لقاح (1) تعلل وهي ساغبة بنيها ... بأنفاس من الشبم القراح (2) سأمتاح البحور فجنبيني ... أذاة اللوم وانتظري امتياحي ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وربما خرجا إلى المدح بيمين يحلفان بها ومن ذلك قول أبي تمام: حلفت برب البيض تدمى نحورها ... ورب القنا المنآد والمقتصد (1) لقد كف سيف الصامتي محمد ... تباريح ثأر الصامتي محمد (2) فالبيض: هي الأدم من الإبل، يقال: بعير آدم إذا كان أبيض. وقوله: «تباريح ثأر» أراد أن سيفه كف تباريح ثأره، أي كف ما برح به من الثأر حتى أدركه. ومن ذلك قوله: لا والذي عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم (3) ما زلت عن سنن الضمير ولا غدت ... نفسي على إلف سواك تحوم (4) ... ومن ذلك قول البحتري: حلفت بما حجت قريش وحجبت ... وحاز المصلى والحطيم وزمزم (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وأهل منى إذا جاوزوا الخيف من منى ... وهم عصب شتى محل ومحرم (1) يلهون من حيث ابتدا الصبح يرتقي ... سناه إلى حيث انتهى الليل يظلم (2) لقد جشم الفتح بن خاقان خطة ... من المجد لا يسطيعها المتجشم ومن ذلك قوله: وشمائل الحسن بن وهب إنها ... في المجد ذات شمائل وجنائب (3) ليقصرن لجاج شوق غالب ... وليقصرن لجاج دمع ساكب (4) ... وهما في هذا الباب متكافئان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 وربما خرجا إلى المديح بذكر الغيث ومباراته فمن ذلك قول أبي تمام: أيها الغيث حي أهلاً بمغدا ... ك وعند السرى وحين يئوب (1) لأبي جعفر خلائق تحكيـ ... ـهن قد يشبه النجيب النجيب وهذا ليس بالشهي، ولا الحلو العذب. والجيد النادر قول البحتري: أقول لثجاج الغمام وقد سرى ... بمحتفل الشؤبوب صاب فعمما (2) أقل وأكثر لست تبلغ غاية ... تبين بها حتى تضارع هيثما (3) وأجود من هذا وأحلى وأبلغ قوله يمدح المتوكل: قد قلت للغيث الركام ولج في ... إبراقه وألح في إرعاده (4) لا تعرضن لجعفر متشبهاً ... بندى يديه فلست من أنداده ومن الجيد النادر في هذا الباب أيضاً قوله: رباع تردت في الرياض مجودة ... بكل جديد الماء عذب الموارد (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 إذا راوحتها مزنة بكرت لها ... شآبيب مجتاز عليها وقاصد (1) كأن يد الفتح بن خاقان أقبلت ... تليها بتلك البارقات الرواعد وقال: سقيت رباك بكل نوء جاعل ... من وبله حقاً لها معلوما (2) فلو أنني أعطيت فيهن المنى ... لسقيتهن بكف إبراهيما (3) بسحابة غراء متئمة إذا ... كان الجهام من السحاب عقيما (4) فقوله: «سقيت رباك» بيت ليس بالبارع لفظاً ولا معنى، وما بعده جيد حلو. وإنما خص الجهام لأنه الذي قد كان فيه ماء فأراقه، ومثله لا يكون عقيماً، جعله كالمرأة الوالد. وقال أبو تمام في هذا المعنى أيضاً: شجاً في الحشا ترداده ليس يفتر ... به ضمن آمالي وإني لمفطر (5) حلفت بمستن المنى تسترشها ... سحابة كف بالرغائب تمطر إذا درجت فيه الصبا كفكفت لها ... وقام يباريها أبو الفضل جعفر (6) وهذه ألفاظ ومعان ونسج في غاية الرداءة والهجانة، والبعد من البلاغة والبراعة، على ما فيها من التعقيد واتفاق المعاني. فقوله: «حلفت» يعني نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 و «مستن المنى»: المحل الذي يستن فيه المنى، أي يطرد، يذهب ويجيء ويكثر، يريد محل الممدوح وساحته. وقوله: «يسترشها» إنما أراد يسترش سحابة كف فقال: «يسترشها» فقدم الكناية، وجعل «سحابة كف» بدلاً من الهاء والألف. يقول: حللت بمحل تستن فيه المنى، وتطلب رشاش سحابة كف. وقوله: «إذا درجت فيه الصبا» يريد في مستن المنى، كفكفت لها أي للسحابة. وكفكفت: أي دنت وقربت. و «قام يباريها» أي يباري الصبا بسحابة كفه أبو الفضل جعفر. وهذان البيتان لا يتصلان بالبيت الأول، وإنما كان وجه الكلام أن يقول: شجاً في الحشا كان ترداده ليس يفتر، وكانت آمالي به صائمة، فحللت بمستن منى من حاله وصفته، حتى يتصل الكلام بعضه ببعض. والحذف والاختصار في كلام العرب موجود، ولكن ليس في مثل هذا. ... ومن هذا الباب، وفيه بعض الغموض، قوله: إن الذي خلق الخلائق قاتها ... أقواتها لتصرف الأحراس (1) فالأرض معروف السماء قرى لها ... وبنو الرجاء لهم بنو العباس يريد أن الله تعالى، جعل أقوات عباده من وجوه مختلفة على قدر أزمانها. والأحراس: الدهور، واحدها حرس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 يقول: فالأرض إنما تحيا بما تقريها السماء من الغيث، وبنو الرجاء لهم بنو العباس، أي بنو الرجاء بنو العباس لهم، أي لهم عصمة، كما يقال: الله لك، أي معين ومغيث. ويجوز أن يكون أبو تمام ذهب في ذكر الأرض والغيث ها هنا (1) وجعل بني العباس رجاء الناس لذلك؛ لأن الناس في أيام عمر بن الخطاب رحمة الله عليه احتبس عنهم المطر فأخذ عمر بضبع العباس وقال: اللهم إن هذا عم نبيك، اللهم اسقنا غيثك، فما برح الناس حتى وافاهم المطر، فلعل أبا تمام ذهب إلى هذا المعنى، والله أعلم. والبيتان رديئان نسجاً ولفظاً. ولا محالة أن البحتري أيضاً في هذا الباب يتقدم أبا تمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 وهذا وجه آخر في خروجهما إلى المدح وهو وصف الرياح، وتشبيه أخلاق الممدوح بها فمن ذلك قول أبي تمام: من فاقع غض النبات كأنه ... دور يشقق قبل ثم يزعفر (1) صنع الذي لولا بدائع صنعه ... ما عاد أصفر بعد إذ هو أخضر خلق أطال من الربيع كأنه ... خلق الإمام وهديه المتيسر فقوله: «خلق أطل كأنه خلق الإمام» معنى صحيح. «وهديه المتيسر» فالهدي: سمته ودله وشكله، و «المتيسر» قافية رديئة جداً. ... ومثله قول البحتري: ويريك الأحباب يوم تلاق ... باعتناق الحوذان والأقحوان (2) صاغ منها الربيع شكلاً لأخلا ... ق حسين ذي الجود والإحسان (3) وهذا أيضاً خروج ليست له قوة لفظ ولا حلاوة فيه ولا معنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وهذا وجه آخر من خروجهما إلى المدح منه قول أبي تمام: صب الفراق علينا صب من كثب ... عليه إسحاق يوم الروع منتقما (1) وهذا خروج حسن (2) وقال أيضاً: فليبلغ الفتيان عني مألكاً ... أني متى يتثلموا أتهدم (3) ولتعلم الأيام أني فتها ... بأبي الحسين محمد بن الهيثم قوله: «مألكاً»: جمع مألكة، وهي الرسالة، ونصبها على الحال. وقال أبو تمام أيضاً: وعاذل هاج لي باللوم مأربة ... باتت عليها هموم الصدر تصطخب (4) لما أطال ارتجال العذل قلت له ... الحزم يثني خطوب الدهر لا الخطب لم يجتمع قط في مصر ولا طرف ... محمد بن أبي مروان والنوب (5) قوله: «الحزم يثني خطوب الدهر» ليس بواجب قاطع على كل حال، ولو كان ذلك كذلك لما رأيت حازماً قط يصيبه خطب من الدهر يكرهه، ولكنه لما كان الحزم قد يفعل ذلك صلح أن يذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وقال أبو تمام: يا أيهذا السائلي أنا شارح ... لك غائبي حتى كأنك حاضره (1) إني ونصراً والرضا بجواره ... كالبحر لا يبغي سواه مجاوره ما إن يخاف الخذل من أيامه ... أحد تيقن أن نصراً ناصره قوله: «أنا شارح لك غائبي» لست أراه شرح شيئاً، وإنما ذكر أن رضاه بجوار نصر كالبحر لا يبغي سواه مجاوره، وهذا خبر مختصر؛ والشرح لا يكون في نصف البيت. فأما قوله: «ما إن يخاف الخذل» فليس يتعلق بقوله: «أنا شارح لك غائبي حتى كأنك حاضره». وقد أخبر البحتري بخبر حسن هو أولى بالشرح من أبي تمام فقال: ومن غرائب ما تأتي الخطوب به ... في أول من صروف الدهر أوتال (2) أحدوثة عجب أنبيك عن خبري ... فيها وعن خبر الشاه بن ميكال فررت منه حياء من قصوري عن ... جزاء ما زاد في جاهي وفي مالي (3) لو لم أعوضه شكراً عن تطوله ... إذ لم أقابله إفضالاً بإفضال (4) وقد ذكر هذا المعنى في غير موضع، وإنما أذكره في أبوابه إذا جاءت بإذن الله. ... وقال البحتري: لعمر أبي الأيام ما جار حكمها ... علي ولا أعطيته ثنى مقودي (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وكيف أخاف الحادثات وصرفها ... علي ودوني أحمد بن محمد (1) وقال: فإن أراب صديقي في الوداد فكم ... أمسيت أحذر ما قد كنت آمله (2) يكفيك من عدة في الدهر تجعلها ... ذخراً سماع أبي بكر ونائله (3) وقال: لا أمدح المرء أقصى ما يجود به ... نيل يكسر من حافات جلمود حسبي بأحمد إحساناً يبلغني ... مدى الغنى وبفعل منه محمود قوله: «وبفعل منه محمود»، يريد معونته إياه على أموره، وبذله جاهه له: ومن طريف خروج البحتري وعجيبه قوله: إذا الرجال اعتمت أجوادهم ... فاسم إلى الأشرف ما فالأشرف (4) ادفع بأمثال أبي غالب ... عادية العدم أو استعفف ومن جيد ذلك ونادره أيضاً قوله: يرجو البخيل اغتراري أو مخادعتي ... حتى أسوق إليه المدح مجاناً لأكسون بني الفياض من مدحي ... ما بات منه لئيم الناس عريانا وهذا في غاية الحسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وقال: هل الشباب ملم بي فراجعة ... أيامه لي في أعقاب أيامي (1) لو أنه نائل غمر يجاد به ... لقد تطلبته عند ابن بسطام وهذا أيضاً خروج حسن طريف. ومن جيد خروجه (2) أيضاً قوله: لتسرين قوافي الشعر معجلة ... ما بين سيره المثلى وشرده (3) جوازياً حسناً من حسن أنعمه ... وعن بواديه في الجدوى وعوده (4) ... ومن طريفات الخروج أيضاً قول أبي تمام: تداو من شوقك الأقصى بما فعلت ... خيل ابن يوسف والأبطال تطرد (5) ذاك السرور الذي آلت بشاشته ... أن لا يجاورها في مهجة كمد وهذا -لعمري- معنى في غاية الحسن والحلاوة. وقال أبو تمام: تواترت نكبات العسر ترشقني ... بكل صائبة عن قوس عضبان (6) مدت عنان رجائي فاستقدت لها ... حتى رمتني في بحر ابن حسان (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 بحر من الجود يرمي موجه زبداً ... حبابه الودق مقرون بعقيان (1) وهذا من لفظ العوام وأشعار الصبيان. ومن رديء خروجه أيضاً قوله: ودع فؤادك توديع الفراق فما ... أراه من سفر التوديع منصرفا (2) يجاهد الشوق طوراً ثم يجذبه ... جهاده القوافي في أبي دلفا (3) وقد أصلحه الناس: «مجاهدات القوافي»، وبقي ما لا يمكن إصلاحه وهو قبح قوله: «يجذبه»، فإنها لفظة بشعة. ومجاهدته للقوافي أيضاً معنى رديء، وإنما كان ينبغي أن يقول: إن الشعر ييسر فيه، وتطرد قوافيه بمدحه لكثرة فضائله، ويأتي فيه عفواً، ولا يتعذر، كما قال: تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل (4) ... ومن رديء خروجه (5) أيضاً قوله: يعجبن مني أن سمحت بمهجتي ... وكذاك أعجب من سماحة جعفر (6) ملك إذا الحاجات لذن بحقوه ... صافحن كف نواله المتيسر فلم عجب من سماحة جعفر؟، وإنما العجب من سماحة البخلاء، فأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 الكرماء الذين من عاداتهم البذل فما وجه التعجب من سماحتهم؟ وليس في البيت الثاني ما يوجب التعجب، وإنما ذكر فيه أن نواله متيسر، وهو بيت رديء. ... ومن رديء خروجه (1) أيضاً لفظاً ومعنى قوله: يقول أناس في جبيناء عاينوا ... عمارة رحلي من طريف وتالد (2) أأظهرت كنزاً أم صبحت بغارة ... ذوي غرة حاميهم غير شاهد (3) فقلت لهم لاذا وذاك ديدني ... ولكنني أقبلت من عند خالد وهذا من معاني العوام أن يقولوا لمن رأوا حاله قد حسنت على من أغرت أو أي كنز وجدت، وما ظننت مثل هذا ينظم في شعر. وقوله: «أقبلت من عند خالد» كلام الفارغ، وإنما كان ينبغي لمن ابتلاه الله بهذا المعنى أن يقول في جوابهم: نعم كنز خالد، وأغار على ندى خالد، ولكنه -لعمري- بين المعنى في البيت الثاني، وعرفهم سبب عمارة رحله بأن قال: جذبت نداه غدوة السبت جذبة ... فخر صريعاً بين أيدي القصائد وهذا وأبيه معنى متناه في برده وغثاثته وركاكته، ولشتيمة الممدوح عندي بالزنى أحسن وأجمل من جذب نداه حتى يخر صريعاً!!! ولو لم يعلمنا أن ذلك كان غدوة السبت كيف كان يتم برد المعنى. و «حبيناء»: اسم موضع، في غاية القبح والهجانة، فإنهم وإن كانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 قالوا ما قالوا له في هذا الموضع فإنه لم يكن مضطراً إلى ذكره، كما أنه لم يك مضطراً إلى ذكر غدوة السبت. ومن سبيل الشاعر أن لا يذكر إلا ما حسن من أسماء المواضع، وأن يعتمد أسماء المواضع الغريبة المتكررة في أشعار الفصحاء؛ ألا ترى أن الفرزدق أنكر على مالك بن أسماء بن خارجة وقد أنشده: * حبذا ليلتي بتل بونا (1) * فقال: وأفسدت أبياتك بذكر بوناً، فقال له: ففي: «بوناً» كان ذلك، قال: وإن كان. ... ومن خروجه الرديء قوله (2): يد الشكوى أتتك على البريد ... تمد بها القصائد من نشيد (3) تقلب بينها أملاً جديداً ... تدرع حلتي طمع جديد شكوت إلى الزمان نحول جسمي ... فأرشدني إلى عبد الحميد فقوله: «تقلب بينها» يعني القصائد. وقوله: «أملاً جديداً حلتي طمع جديد» (4) لفظ رديء جداً؛ لأن معنى الطمع والأمل والرجاء معنى واحد في مقاصد الناس واستعمالهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 تقول: أنا آمل من الله تعالى الفرج، كما تقول: أطمع وأرجو، وإنما ينسق بعضها على بعض لاختلاف اللفظ. وتقول: قد انقطع من فلان الطمع، وانقطع الأمل، وانقطع الرجاء. وكذلك خاب. فإن كان بين هذه الألفاظ فرق في أصل وضع الكلام [فقد أجريت] (1) مجرى واحداً فلا فائدة إذاً في قوله: «أملاً جديداً تدرع حلتي طمع جديد». ولو كان قال: تدرع حلتي عزم جديد كان أولى بالصواب، إن شاء الله. قوله: شكوت إلى الزمان نحول جسمي ... فأرشدني إلى عبد الحميد لو كان عبد الحميد طبيباً كان يكون معنى البيت مستقيماً؛ لأن الرجل المعتر (2) الطالب الجدوى لا يشكو نحول جسمه إلى ممدوحه الذي يلتمس الفضل منه، وإنما يشكو إليه اختلال الحال، وقصور اليد، فأما أن يشكو إليه نحول الجسم فإن ذلك غاية الخناعة (3) والنذالة والانحطاط في المسألة. إنه (4) يخبره بشدة جوعه وأن ذلك هو الذي أذاب لحمه، وهذا لا يقوله شاعر على هذا الوجه، بل إنما يذكر المص بوجه (5) حسن، ولفظ معتاد. ونحول الجسم فإنما يشتكي إلى الحبيب إذا كان من غلة أو عشق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 ولو كان قال: شكوت إلى الزمان قصور حال، كان أشبه من نحول الجسم الذي قد يكون من أشياء كثيرة. أو لو كان هجر حبيب وما لحقه من الضنى والسقم لصلح أن يجعل شكواه إلى الممدوح كما قال أبو نواس: سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواكم لعل الفضل يجمع بيننا (1) فقال الفضل: جعلني قواده، وإنما أراد أبو نواس لعل الفضل يثيبني بما أصل به إلى الاجتماع معكم. ... وهذا الباب في الخروج من النسيب إلى المديح مما لا خفاء بفضل البحتري فيه على أبي تمام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وللمتأخرين خروجات ظريفة حلوة نادرة فمن ذلك قول ابن وهيب: ربما أبيت معانقي قمر ... للحسن فيه مخايل تضح (1) نثر الجمان على محاسنه ... بدعاً وأذهب همه الفرح (2) يختال في ودق الشباب به ... مرح وداؤك أنه مرح (3) ما زال يلثمني مراشفه ... ويعلني الإبريق والقدح (4) حتى استرد الليل خلعته ... ونشا خلال سواده وضح وبدا الصباح كأن غرته ... وجه الخليفة حين يمتدح (5) وحسبك بهذاحسناً يزيد عل كل ما تقدم للطائيين. ... ومن المذاهب الطريفة في باب الخروج قول بكر بن النطاح الحنفي في قصيدة يمدح فيها مالكاً الخزاعي: عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى فقالت قم جئني بكوكب (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 فقلت لها هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب فلو أنني أصبحت في جود خالد ... وعزته ما نال ذلك مطلبي (1) فتى شقيت آماله بسماحه ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب ... ونحوه قول الخليع (2) في كلمة يمدح فيها عاصماً الغساني: أقول ونفسي بين شوق وحسرة ... وقد شخصت عيني ودمعي على خدي (3) أريحي بقتل من تركت فؤاده ... بلحظته بين التأسف والجهد فقالت عذاب بالهوى قبل ميتة ... وموت إذا أقرحت قلبك من بعدي لقد فطنت بالجود فطنة عاصم ... لصنع الأيادي الغر في طلب الحمد وهذا يسميه قوم الاستطراد، وهو حسن جداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 * باب المديح أول ما أبدأ به من مدائحهما ذكر السؤدد والمجد وعلو القدر، ثم ما يخص الخلفاء من ذلك دون غيرهم: من (1) ذكر الخلافة وما يتصرف عليه القول من معانيها. وذكر الملك والدولة. وذكر ما يخص أهل بيت النبوة من المدح دون من سواهم: من ذلك ذكر طاعتهم، والمحبة لهم، والمعرفة لحقهم. وذكر الآلة التي كانت للنبي عليه السلام فصارت إليهم. وذكر الآثار بالحرم، وذكر علو القدر وعظم الفضل. وذكر تأييد الدين وتقوية أمره. وذكر الرأفة والرحمة، وذكر إفاضة العدل وإقامة الحق. وذكر سداد الرأي وحسن السياسة والتدبير والاضطلاع بالأمور والحلم والعقل. وذكر الجلال والجمال والبهاء والجهارة والهيبة. وذكر كرم الأخلاق ولينها. وذكر ما ينبغي أن يمدح به الخلفاء من الجود والكرم. وذكر ما ينبغي أن يمدحوا به من الشجاعة والبأس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 * أمر الخلافة وما يتصرف عليه القول من معانيها قال أبو تمام في المعتصم: إن الخليفة حين يظلم حادث ... عين الهدى وله الخلافة محجر (1) كثرت به حركاتها ولقد ترى ... من فترة وكأنها تتفكر (2) ما زلت أعلم أن عقد مرامها ... في كفه مذ خليت تتخير (3) قوله: «كثرت به حركتها»، يريد به ظهور الأمر والنهي والتدبير والسياسة. ويريد بالفترة ما كان من إهمال هذه الأشياء، و «كأنها تتفكر» لفظ ليس بالحلو ولا الشهي ها هنا. وقال فيه: فلاذت بحقويه الخلافة والتقت ... على خدرها أرماحه ومناصله (4) أتته معداً قد أتاها كأنها ... ولا شك كانت قبل ذاك تراسله فالبيت الأول جيد بالغ. والبيت الثاني في غاية السخف والرداءة؛ لأنه جعل الخلافة قد أتته، وجعله قد أتاها، وكان ينبغي أن يقتصر إتيانه، أو إتيانها إياه وهو أجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 فأما أن يجمع بين الحالين فما وجهه وكان ينبغي أن يعلمنا لما توجه كل واحد إلى صاحبه: أين التقيا؟ أفي منتصف الطريف؟ وقصد هذا الرجل الإغراب في الألفاظ والمعاني؛ ومن ها هنا فيسد أكثر شعره. وقوله (1): «ولا شك» من سخيف الألفاظ وسفسافها، وهي حشو رديء، وليس بالبيت إليه حاجة. ... والجيد النادر في هذا قول البحتري في المهدي بالله: بارك الله للخليفة في الملـ ... ـك الذي حازه له المقدار (2) رتبة من خلافة الله قد طا ... لت بها رقبة له وانتظار طلبته فقراً إليه وما كا ... ن به ساعة إليها افتقار (3) ومثله في الجودة قوله فيه: سرت تتبغاه الخلافة رغبة ... إليه بأوفى قصدها واعتمادها (4) فما علقته خبط عاشية الدجى ... ولكنها اختارته بعد ارتيادها فهذه هي المعاني الصحيحة، واللفظ المستقيم، والسبك الرصين. وما أحسن ما قال «سلم الخاسر» في المهدي: هبطت إليك من السماء خلافة ... دفعت إليك زمامها وقيادها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ومثل قول البحتري قول الحطيئة: أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقى إليك مقاليد النهي البشر (1) ما آثروك بها إذ قدموك لها ... لكن بك استأثروا إن كانت الأثر (2) وقال ابن هرمة في المنصور: وما الناس أعطوك الخلافة عنوة ... ولكنه من يعله الله يستعلي ومن ذلك في الجودة قول البحتري: اليوم أطلع للخلافة سعدها ... وأضاء فيها بدرها المتهلل (3) لبست جلالة جعفر فكأنها ... سحر تجلله النهار المقبل (4) جاءته طائعة ولم يهزز لها ... رمح ولم يشهر عليها منصل (5) أنى وإن كانت تعلت نحوه ... من قبل أن يقع الفضاء فتعقل (6) حتى أتته يقودها استحقاقه ... ويسوقها حظ إليه مقبل (7) ويروى: «ويسوقها حظ إليه مكمل». و «تصنع» كانت ها هنا أحسن من «تعقل» فجاء بتعقل من أجل القافية. ... وقال أبو تمام في الواثق: إن الخلافة أصبحت حجراتها ... ضربت على ضخم الهموم همام (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 ضخم الهموم: يريد ضخم الهمة لا الهم الذي يراد به الحزن، وهذا لفظ هجين في هذا الموضع. لا قدح في عود الخلافة بعدما ... متت إليك بحرمة وذمام (1) هيهات تلك قلادة الله التي ... ما كان يتركها بغير نظام إرث النبي وجمرة الملك التي ... لم تخل لهب بكم وضرام (2) مذخورة أحرزتها بحكومة ... لله تشدخ أرؤس الحكام (3) وقال أبو تمام في الواثق أيضاً: جعل الخلافة فيه رب قوله ... سبحانه للشيء كن فيكون (4) ولقد رايناها له بقلوبنا ... وظهور دونه وبطون (5) ولذلك قيل من الظنون جلية ... صدق وفي بعض القلوب عيون (6) ولقد علمنا مذ ترعرع أنه ... لأمين رب العالمين أمين قوله: «جعل الخلافة فيه رب» بيت في غاية الركاكة والرداءة؛ لأن مثل هذا إنما يقال في الأمر العجب الذي لم يكن يقدر ولا يتوقع. ولا يظن أن مثله يكون، فيقال إذا وقع ذلك: قدرة قادر، وفعل من لا يعجزه أمر، ومن يقول للشيء: كن فيكون، فأما الأمور التي لا يتعجب منها، ولا تستغرب، والعادات جارية بها وبما يشبهها فلا يقال فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 مثل هذا، وإنما يسبح الله تعالى، وتذكر قدرته على تكوين الأشياء لو جاءوا بأبي العبر (1) أو بجحا فجعلوه خليفة. فأما الواثق فما وجه تسبيح أبي تمام في أن أفضت إليه الخلافة وأبوه خليفة وهو المعتصم، وجده خليفة وهو الرشيد، وجد أبيه خليفة وهو المنصور، وأخو جده خليفة وهو الهادي، وأخو جد جده خليفة وهو السفاح، وعماه خليفتان: الأمين والمأمون؟ ثمانية خلفاء هو تاسعهم (2) وقد عدد أبو تمام منهم خمسة في البيت فقال: يسمو بك السفاح والمنصور الـ ... ـمهدي والمعصوم والمأمون (3) وذكر الرشيد قبل هذا بأبيات، وشبه الواثق به قال: [وجدوا جناب الملك أخضر] واجتلوا ... هارون فيه كأنه هارون فما وجه التعجب من خلافة من كانت هذه صورته؟ وقوله: «ولقد رأيناها له بقلوبنا» وقوله: «ولذاك قيل من الظنون جلية صدق» فهذه كهانة عجيبة من أبي تمام في الواثق لم يفطن لها غيره. وعلى أن هذين البيتين رجيدان في نظمهما ولفظهما، ولكنه وضع المعاني في غير مواضعها. وقوله: «لأمين رب العالمين أمين» يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وقد أصاب أبو الجنوب مروان بن أبي حفصة في هذا المعنى إذ يقول للأمين: إن الخلافة قد تبين نورها ... للناظرين على جبين محمد إني لأعلم أنه لخليفة ... إن بيعة عقدت وإن لم تعقد وما أحسن ما قال الحسين بن الضحاك (1) الباهلي في المأمون أيضاً: رأى الله عبد الله خير لداته ... فملكه والله أعلم بالعبد (2) ... وقال البحتري في المتوكل وزاد على الإحسان: الله آثر بالخلافة جعفراً ... ورآه ناصرها الذي لا يخذل (3) هي أفضل الرتب التي جعلت له ... دون البرية وهو منها أفضل (4) وقال فيه: إن الخلافة لما اهتز منبرها ... بجعفر أعطيت أقصى أمانيها (5) أبدى التواضع لما نالها رعة ... عنها ونالته فاختالت به تيها (6) وهذا هو المعنى الحلو، والمدح الذي يليق بالخلفاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وقال في المهدي: زاد في بهجة الخلافة نوراً ... فهو شمس للناس وهي نهار (1) وأجار الدنيا من الحيف والخو ... ف فهل يشكر المجير المجار وقال في المتوكل: عادت بحقويك الخلافة إنها ... قسم لأفضل هاشم فالأفضل (2) وتمنعت في ظل عزك واغتدت ... في خير منزلة وأحصن معقل (3) أخذ قوله: «عادت بحقويلك (4) الخلافة» من قول أبي تمام: عادت بحقويك الخلافة والتقت ... على خدرها أرماحه ومناصله (5) وقال في المعتز: حامل من خلافة الله ما يعـ ... ـجز عنه ذو الأيد والإضطلاع (6) مستقل بالثقل منها رحيب الـ ... ـصدر نهضاً بها رحيب الباع وقال في المتوكل: وقد سر في أن الخلافة فيكم ... مخيمة ما إن يخاف انتقالها (7) لكم إرثها والحق منها ولم يكن ... لغيركم إلا اسمها وانتحالها وقال فيه: وأرى الخلافة وهي أعظم رتبة ... حقاً لكم ووراثة ما تنزع (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 أعطاكموها الله عن علم بكم ... والله يعطي من يشاء ويمنع وقال في المعتز: أغر من الأملاك إما رأيته ... رأيت أبا إسحق والقرم جعفرا (1) تقدم في حق الخلافة سهمه ... إذا رد عنها غيره فتأخرا (2) ويصبح معروفاً له الفضل دونهم ... وما يتدعاه الأباعد منكرا (3) وقال في المتوكل: فضل الخلائف بالخلافة واقف ... في الرتبة العليا وفضلك أفضل (4) أوفيت عاشرهم فإن نسبوا إلى كرم وإحسان فأنت الأول (5) وهذا غاية في مدح الخلفاء. وقال في المتوكل أيضاً بفضله على الخلفاء وأحسن كل الإحسان: وما الخلفاء لو جاروك يوماً ... بمعتلقيك رأياً واعتزاما (6) ألست أعمهم جوداً وأزكا ... هم عوداً وأمضاهم حساما؟ ولو جمع الأئمة في مقام ... تكون به لكنت لهم إماما ولست أعرف لأبي تمام في الخلافة غير ما قدمته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 * ومن مدح الخلفاء ذكر الملك والدولة قال أبو تمام في المعتصم: بالقائم الثامن اطأدت ... قواعد الملك ممتداً هل الطول (1) بيمن معتصم بالله لا أود ... بالملك مذ ضم قطريه ولا خلل (2) قوله: «ممتداً له الطول» والطول: الحبل ولا وجه له ها هنا، وليس يريد قواعد الملك ممتداً أزمانه، ولا يصلح في الحال ها هنا، لأن الفعل وهو اطأدت لا يكون عاملاً فيها، لا تقول: قد استقر البناء طويلاً زمانه؛ لأن استقراره ليس هو من طول مدته في شيء، وإنما تقول: قد استقر البناء جيداً عمله، ومتقناً أساسه، أو وثيقاً صنعته، أو أن تقول: طويلاً شرفه أو علوه، وإلى هذا أذهب كأنه أراد واطأدت قواعد الملك ممتداً له الطول أي رسا أصله، وعلا فرعه، كما قال البحتري في المعتز بالله: بك اشتد عظم الملك فيهم فأصبحت ... تقر رواسيه وتعلو مراتبه (3) فجعل موضع تعلو مراتبه: «ممتداً له الطول»، وهذا غير حسن ولا لائق، بلى، لو قال: «فليمدد له الطول» على الدعاء كان سائغاً، إلا أن الطول ها هنا عل كل حال غير جيد؛ لأنها لفظة مشتركة (4). الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وقال أبو تمام في نحوه: بيمن أبي إسحق طالت يد الهدى ... وقامت قناة الملك واشتد كاهله (1) وهذا بيت جيد، وقد قال قبله:. . .؟ «وأضحى قد شق بازله» (2) وكان أحدهما يغني عن الآخر. ... وقال البحتري في المعتز: أقام قناة الملك بعد اعوجاجها ... وأربى على شغب العدو المشاغب (3) وقال البحتري: ملك حصنت عزيمته الملـ ... ـك فأضحت له معاناً وردءاً (4) وقال في تعظيم الملك في المتوكل: ملك كملك سليمان الذي خضعت ... له البرية قاصيها ودانيها (5) ... وأجود من هذا قول أبي تمام في المأمون: في دولة لحظ الزمان شعاعها ... فارتد منقلباً بعيني أرمد (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 من كان مولده تقدم قبلها ... أو بعدها فكأنه لم يولد (1) وهذا من أجود ما يقال في مدح دولة وأبلغه. ... فأبو تمام في هذا الباب على إساءته في الأبيات المتقدمة أشعر من البحتري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 * م ما يخص أهل بيت النبوة من المدح دون غيرهم ذكر طاعتهم، والمحبة لهم والمعرفة لحقهم فمن ذلك قول البحتري في المتوكل: مخالف أمركم لله عاص ... ومنكر حقكم لاق أثاما (1) وليس بمسلم من لم يقدم ... ولا يتكم ولو صلى وصاما وفيه قوله: نصلي وإتمام الصلاة اعتقادنا ... بأنك عند الله خير إمام (2) وفيه قوله: فضل الله جعفراً بخصال ... جعلت حبه على الناس فرضاً (3) وفي المعتز بالله قوله: من أبى حبكم فليس من اللـ ... ـه ولو صام ألف عام وصلى (4) وقال فيه: قضى الله للمعتز بالله أنه ... هو القائم العدل الرشيد الموفق (5) محبته فرض من الله واجب ... وعصيانه سخط من الله موبق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وقوله في المهدي (1): أقرت له بالفضل أمة أحمد ... فدان له معوجها وقويمها (2) ولو جحدته ذلك الحق لم تكن ... لتبرح إلا والنجوم رجومها ... ولست أعرف لأبي تمام في هذه المعاني شيئاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 * ذكر الآلة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فصارت إليهم قال البحتري في المتوكل: عليك ثياب المصطفى ووقاره ... وأنت به أولى إذا حصحص الأمر (1) عمامته وسيفه ورداؤه ... وسيماه والهدى المشاكل والنجر وقال فيه: يتولى النبي ما تتولا ... هـ ويرضى من سيرة ما تسير (2) حزت ميراثه بحق مبين ... كل حق سواه إفك وزور فلك السيف والعمامة والخا ... تم والبرد والعصا والسرير وقال في المهدي بالله: إمام إذا أمضى الأمور تتابعت ... على سنن من قصدها وسدادها (3) متى يتعمم بالسحاب تلث على ... كفيء لها محتاز إرث اسودادها (4) وإن يتقلد ذا الفقار يضف إلى ... شجاع قريش في الوغى وجوادها وقال في المعتز: وقد ترك العباس عندك وابنه ... علا طلن مرمى النجم حتى تحيرا (5) هما ورثاك ذا الفقار وصيرا ... إليك القضيب والرداء المحبرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وأي سناء لست أهلاً لفضله ... وأولى به من كل حي وأجدرا وأنت ابن من أسقى الحجيج على الظما ... وناشد في المحل السحاب فأمطرا ... وقال أبو تمام في نحو هذا يمدح الواثق: قوم غدا الميراث مضروباً لهم ... سور عليه من القران حصين (1) فيهم سكينة ربهم وكتابه ... وإمامتاه واسمه المخزون فالسكينة وزنها فعلية، من السكون وهو الوقار، وهذه لفظة لا تلائم البيت كل الملاءمة؛ لأنه لا وجه لأن يقول فيهم: وقار ربهم، لا سيما وقد قال: كتابة وإمامتاه واسمه المخزون، فالوقار ليس من هذه الأشياء في شيء (2). والسكينة التي في قوله عز وجل: «أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم» (3)، وقد قيل في تفسيرها: إنها حيوان له وجه مثل وجه الإنسان وقيل: لها رأس مثل رأس الهرة وله جناحان، وقيل: بل هي ريح هفافة، وقيل: هي شيء من أمر الله عز وجل (4) فإن كان هذه أراد فما كان ينبغي أن يدعي للقوم (5) ما لا يدعونه لأنفسهم. وقوله: وإمامتاه يعني النبوة والخلافة. «واسمه المخزون» يعني اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به جل وعز أجاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 * و من المجد والشرف في مدح الخلفاء ذكر الآثار بالحرم نحو قول البحتري في المعتز: لكم زمزم وأفنية الكعـ ... ـبة والحجر والصفا والمصلى (1) وقوله في المتوكل: نعد لك السقاية والمصلى ... وأركان البنية والمقاما (2) مكارم قد وزنت بها ثبيرا ... فلم يرجح وطلت بها شماما (3) وقوله في المتوكل: لكم كل بطحاء بمكة إذ غدا ... لغيركم ظهرانها وجبالها (4) وأنتم بنو عم النبي محمد ... يمين قريش إذ سواكم شمالها (5) وقال فيه: شرفاً بني العباس إن أباكم ... عمم النبي وعيصه المتفرغ (6) إن الفضيلة للذي استسقى به ... عمر وشفع إذ غدا يستشفع من ذا يساجلكم وحوض محمد ... بسقاية العباس فيكم يشفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وقال في المعتز: إمام هدى تأوي به مكرماته ... إلى مرتع من بطن مكة أفيح (1) له شرف البيت الحرام وفخره ... وزمزم والركن العتيق الممسح أراد شرف زمزم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 * و من باب السؤدد والشرف ذكر علو القدر وعظيم الفضل قال أبو تمام: الله أكبر جاء أكبر من جرت ... فتعثرت في كنهه الأوهام (1) من لا يحيط الواصفون بقدره ... حتى يقولوا قدره إلهام قوله: «الله أكبر»، يقول فيما أظنه عند قدوم المأمون من خراسان، أي الله أكبر من كل أحد، قد جاء أكبر من جرت فتعثرت في كنهه الأوهام. وكنه الشيء: غاية صفته. وقوله: «حتى يقولوا قدره إلهام» من جنونه؛ لأن الإلهام هو ما يلقيه الله، عز وجل، في قلب الإنسان حتى يعرفه بغير تعرف، ويعلمه من غير تعلم، فيقول: لا يحاط بقدره إلا أن يكون ذلك إلهاماً من الله، جل وعز، فيعرف. وقدر كل شيء: هو مبلغه، فيقول: سرنا قدر ميل، وقدر فرسخ، وأخذت منه قدر عشرين درهماً، أي مبلغ عشرين. وإنما سمع الناس يقولون هذا أمر لا يقدر قدره، وسمع قول الله عز وجل: «وما قدروا الله حق قدره» (2)، قيل في التفسير: ما عرفوه حق معرفته، فأراد أن ينجو بقدر المأمون هذا النحو فأخرجه بهذه العبارة المستكرهة. يريد أن قدره لا يعرف إلا بالإلهام من الله جل جلاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 وقد كان يكفي من هذا العويص الذي جاء به أن يقول كما قال البحتري في المتوكل: وأنت أمين الله بالموضع الذي ... أبي الله أن يسمو إلى قدره قدر (1) فجعل قدره فوق قدر كل ذي قدر، ومثل هذا لا يقال إلا لخليفة أو لأفضل الناس من أهل بيت النبوة. وقد أفرط البحتري في مدح إبراهيم بن المدبر، وإن كان لم يصرح في تفضيل قدره، وذلك قوله: دنوت تواضعاً وعلوت قدراً ... فشأنك انحدار وارتفاع (2) كذاك الشمس يبعد أن تسامى ... ويدنو الضوء منها والشعاع وما قيل في التواضع ألطف من هذا ولا أحسن، ولو مدح خليفة بالتواضع لما وجد شيئاً يليق به غير هذا الوصف أو معناه. ... وقال أبو تمام في المعتصم مادة (؟) فضل على فضله كل أحد من الناس. إلى قطب الدنيا الذي لو بفضله ... مدحت بني الدنيا كفتهم فضائله (3) وهذا تفضيل في غاية الاستقصاء والجودة والحسن والصحة، ولا يقال مثله إلا لخليفة من أفضل الخلفاء؛ لقوله: مدحت بني الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ومثله في الجودة بل يزيد عليه قول البحتري في المتوكل: يابن عم النبي حقاً، ويا أز ... كى قريش نفساً وديناً وعرضاً (1) بنت بالفضل والعلو فأصبحـ ... ـت سماء وأصبح الناس أرضا ولو قال قائل مثل هذا لغير خليفة لكان قد تجشم أعظم الخطأ إذ ليس أحد من الناس يطالبه بأن يمدحه هذا المدح، ولا أن يفضله هذا التفضيل. وقال البحتري أيضاً في المهدي (2): أقرت له بالفضل أمة أحمد ... فدان له معوجها وقويمها (3) والتفضيل الحسن الذي لا غلو فيه وكأن قائله قد غلا قول البحتري أيضاً في أبي ليلى الحارث بن عبد العزيز بن دلف: يبين بالفضل أقوام فيفضلهم ... موحد بغريب الذكر منفرد (4) توحد القمر الساري بشهرته ... وأنجم الليل نثر حوله بدد ومثله في الحسن قوله في الفتح: ولما جرى في المجد والقوم خلفه ... تغول أقصى جهدهم وهو وادع (5) وهل يتكافا الناس شتى خلالهم ... وما تتكافا في اليدين الأصابع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وهذا كله عجيب في معانيه ولكنهما في معانيهما حذو على قول معن بن أوس: وما بلغت كف امريء متطاول ... يد المجد إلا حيث ما نلت أطول (1) وما بلغ المهدون في القول مدحة ... ولو أكثروا إلا الذي فيك أفضل (2) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 * و من باب المجد والسؤدد قول أبي تمام في المأمون: هدمت مساعيه وابتنت ... خطط المكارم في عراض الفرقد (1) سبقت خطى الأيام عمرياتها ... ومضت فصارت مسنداً للمسند ما زال يمتحق العلا ويروضها ... حتى اتقته بكيمياء السؤدد (2) قوله: «سبقت خطى الأيام» أي طاولت الدهر في البقاء، فجعل مطاولتها للدهر سيراً مع الدهر، فلذلك قال: «سبقت خطى الأيام» «عمرياتها»: واحدة عمرية، منسوبة إلى العمر. وقوله: «ومضت فصارت مسنداً للمسند» فالمسند: الدهر، أي صارت دهراً للدهر. وهذا من كلام أهل الوسواس والخطرات وأصحاب السوداء. وقوله: «بكيمياء السؤدد» مما أنكروه عليه. وقد أتى به بكر بن النطاح في موضعه فقال: مدح ابن عيسى قاسم فاشدد به ... كلتا يديك الكيمياء الأعظم (3) لو لم يكن في الدهر إلا درهم ... ومدحته لأتاك ذاك الدرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 وقال البحتري في المهتدي: وللمهتدي بالله مجد لو ارتقت ... إليه النجوم رفعة ما تهدت (1) وهذا أبلغ من قول أبي تمام: «وابتنت خطط المكارم في عراض الفرقد» (2) ... ولهما في السؤدد والمجد والشرف في مدح سائر الناس ما أذكره من بعد تأييد الدين وتقوية أمره. وواجب أن يمدح الخليفة بهذا المعنى. ... قال أبو تمام في مدح المعتصم: بمعتصم قد عصمت به ... عرا الدين والتفت عليه وسائله (3) وهذا كان يصلح أن يقال لمن له نباهة وديانة وقول بحق، ولكن خصصه بالخليفة قوله: «والتفت عليه وسائله». وقال في الواثق: بهارون عز الدين واشتد ركنه ... ودانت دوانيه وقرب شاسعه (4) ... وقال البحتري في المتوكل: خلق الله جعفراً قيم الدنـ ... ـيا سدادًا وقيم الدين رشداً (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 فاختص هذا القول بالخليفة؛ لأنه جعله قيماً على الدين والدنيا، ولا يجوز أن يقال هذا لغير خليفة إلا أن يكون نائباً عنه. وقال مثل ذلك في المعتز بالله: لقد حمل الخلافة مستقل ... بها وبحقه فيها المبين (1) يسوس الدين والدنيا برأي ... رضاً لله في دنيا ودين وقال عبد الله بن السمط بن مروان في المأمون: أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين والناس في الدنيا مشاغيل (2) فلم يهش له، فشكى ذلك عبد الله، فقيل له: ما زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها ومعها سبحتها. فألا قلت كما قال جرير في عمر بن عبد العزيز (3): فلا هو الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله (4) وقال ابن هرمة: فرغت لدين الله ترفع وهيه ... وما بك عن كسب المحامد من شغل فحذا حذو قول جرير. وقال البحتري أيضاً في المتوكل مما لا يقال لخليفة إلا أن يفرط مفرط فيقوله لغيره: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 حلفت بمن أدعوه رباً ومن له ... صلاتي ونسكي خالصاً وصيامي (1) لقد حطت دين الله خير خياطة ... وقمت بأمر الله خير قيام وقال البحتري في المتوكل: علم الله كيف أنت فأعطا ... ك المحل الرفيع من سلطانه (2) جعل الدين في ضمانك والدنـ ... ـيا فعش سالماً لنا في ضمانه وهذا لا يكون إلا لخليفة. وقال في المعتز بالله: ما زال يكلأ ديننا ويحوطه ... بالمشرفية والوشيج الذبل (3) وهذا يصلح أن يقال لبعض ولاة الثغور وغيرهم من الولاة يخص الخليفة. وليس ذلك بعيب في مدح الخلفاء، ولكن إذا كان مما يخص الخليفة دون غيره كان ذلك أمدح له. والعيب على الشاعر أن يمدح غير الخليفة بما لا يستحقه إلا الخليفة. وقال في المهتدي بالله مما يختص بالخليفة: هنتك أمير المؤمنين مواهب ... من الله مشكور لديك جسيمها (4) وتأييد دين الله إذ رد أمره ... إليك فروي في الأمور عليمها فخصصه قوله: «وتأييد دين الله إذ رد أمره إليك». الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وقال أبو تمام في تقوية الإسلام: أمسى بك الإسلام بدراً بعدما ... محقت بشاشته محاق هلال (1) أكملت منه كل كل نقص بعدما ... نقصته أيدي الكفر بعد كمال (2) ألبسته أيامك الغر التي ... أيام غيرك عندهن ليال إنما قال: «أمسى» ولم يقل أضحى من أجل قوله: «بدراً»؛ لأن البدر لا ضوء له في الضحى. وهذا يصلح أن يقال لوزير ولوالي الثغور، وإن كان في غاية الجودة. وقال البحتري في المتوكل: يا كالي الإسلام في غفلاته ... ومقيم نهجي حجه وجهاده (3) وقال أبو تمام في مديح محمد بن عبد الملك: إن الخليفة قد عزت بدولته ... دعائم الدين فليعزز به الأدب (4) ودعائم الدين قد توصف بأنها ثبتت، وتمكنت، وأقامت، وتوطدت، فهذا هو اللفظ المستعمل فيها، ألا ترى أنها إذا وصفت بضد هذا الوصف قيل: وهت، وسقطت، وخرت، ولا يقال: ذلت، وإنما قال: «عزت» من أجل قوله: «فليعزز به الأدب» وهذا وإن لم يكن خطأ فليس بالجيد؛ لأنه لفظ موضوع في غير موضعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وقال أبو تمام في إسحاق بن إبراهيم المصعبي: ترضى السيوف به في الروع منتصراً ... ويعضب الدين والدنيا إذا غضبا (1) وهذا مدح لا يليق إلا بأفضل الخلفاء، وسبيل الشاعر أن يتفقد مثل هذا؛ فقد جرت به على قوم من الشعراء سلكوا دون هذا المسلك مكاره، وكان الحرمان أحسن أحوالهم التي عادوا بها. ونحو هذا قوله في محمد بن يوسف: حياتك للدنيا حياة ظليلة ... وفقدك للدنيا فناء مواشك (2) وهذا عموم؛ لذكره الدنيا ولا يصلح أن يكون إلا لخليفة، أو من ينفد في أكثر بلاد الله أمره. وهذا متجاوز لقدر محمد بن يوسف، وفي الممادح التي ترضى الممدوحين متسع. ... وهو في هذا الباب أشعر من البحتري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 * ومما يجب في مدح الخلفاء، كانت تلك حالهم أو لم تكن، ذكر التقى والورع قال أبو تمام في المأمون: يتجنب الآثام ثم يخافها ... فكأنما حسناته آثام (1) هذا وصف لطاعة الله حسن مستقصى، ولكنه ألم بمعنى قول أبي العتاهية: يعتد بإحسان كل محسن ... إليه بعد إساءة كان منه (؟) وعكس أبو تمام المعنى: لم تنتقصني إذا أسأت وزدتني ... حتى كأن إساءتي إحساني بيت أبي تمام هذا من بيت أبي العتاهية (2). ... وقال البحتري في المهتدي بالله: مزايد نفس في تقى الله لم تدع ... له غاية في جدها واجتهادها (3) وما نقلت منه الخلافة شيمة ... وقد مكنته عنوة من قيادها (4) ولا مالت الدنيا به حين أشرقت ... له في تناهي حسنها واحتشادها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وقال في المعتمد: ملك تحييه الملوك ودونه ... سيما التقى وتخشع الزهاد (1) متهجد يخفي الصلاة وقد أبى ... إخفاءها أثر السجود البادي (2) وقال في المهدي (3): فضل الأنام أرومة محمودة ... وتقى وأنعم في الأنام وافضلا (4) وقال في المعتز بالله: يتقبل المعتز فضل جدوده ... بخلال محمود الخلال موفق (5) ويظل يخشى في الإله ويتقى ... فيه كما يخشى الإله ويتقى (6) ... ومع وصف الخليفة بالتقى والورع يجب أن يوصف بالرأفة والرحمة. قال أبو تمام في المعتصم: رعى الله فيه للرعية رأفة ... تزايله الدنيا وليست تزايله (7) فأضحى وقد فاضت إليه قلوبهم ... ورحمته فيهم تفيض ونائله (8) فقوله: «فاضت إليه قلوبهم» ليس بالجيد؛ لأن هذه لفظة غير مستعملة في مثل هذا، وإنما قال ذلك من أجل قوله: «ورحمته فيهم تفيض». الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وقال في الواثق: فغدوا وقد وثقوا برأفة واثق ... بالله طائره لهم ميمون (1) ... وقال البحتري في المتوكل: يحببه عند الرعية أنه ... يذبب عن أعراضهم ويحامي (2) وأن له عطفاً عليهم ورأفة ... وفضل أياد بالعطاء جسام (3) ... وليس لأحدهما فضل في هذا الباب على صاحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 * ما قالاه في الجمال والجلال والهيبة والبهاء والجهارة قال أبو تمام: إنا غدونا واثقين بواثق ... بالله شمس ضحى وبدر تمام (1) ثم قال بعد في القصيدة: ما أحسب البدر المنير إذا بدا ... بدراً بأضوأ منك في الأوهام (2) قوله: «في الأوهام» قد عيب به، وقيل لم يجعله مضيئاً في العين، وجعله مضيئاً في الأوهام، والذي ذهب إليه أبو تمام معنى صحيح؛ لأن وجه الإنسان لا يكون أضوأ من البدر، فجعله أضوأ منه في الصدور وفي النفوس، يريد الجلال والهيبة. وأجود من هذا قول محمد بن وهيب: تعظمه الأوهام قبل عيانه ... ويصدر عنه الطرف والطرف حاسر وأحسن من قول ابن (3) وهيب قول الأحوص: تراهم خضع الأبصار هيبته ... كما استكان لضوء الشارق الرمد ... وقال أبو تمام في خالد بن يزيد بن مزيد: كالبدر حسناً وقد يعاوده ... عبوس ليث العرين في عبده (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 كالسيف يعطيك ملء عينيك من ... فرنده تارة ومن ربده (1) وهذا غاية في حسنه وصحته وبراعته. وقال جعفر الخياط: فتى في يديه البأس يضحك والندى ... وفي سرحه بدر وليث غضنفر (2) وهذا مأخوذ من قول مسلم بن الوليد: تمضي المنايا كما تمضي أسنته ... كأن في سرحه بدراً وضرغاما (3) وقد أحسن محمد بن وهيب كل الإحسان في قوله: وكأن ضوء جبينه قمر ... وكأن سائر خلقه أسد ... وقال أبو تمام في خالد بن يزيد بن مزيد: وقد كان مما يضيء السريـ ... ـر والبهو يملؤه بالبهاء (4) مضى خالد بن يزيد بن مز ... يد قمر الليل شمس الضحاء وهذا يمر في المراثي. ... وقال البحتري في المهتدي بالله: زاد في بهجة الخلافة نوراً ... فهو شمس النهار وهي نهار (5) طلعة تملأ القلوب ووجه ... خشعت دون ضوئه الأبصار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 ذكروا الهدى من أبيك وقالوا ... هو ذاك السيما وذاك النجار (1) وعليهم سكينة لك إلا ... مد أيد يوماً بها ويشار بهتوا حيرة وصمتاً فلو قيـ ... ـل أحيروا مقالة ما أحاروا (2) وقليل إن أكبروك لك الهيـ ... ـبة ممن رآك والإكبار وقال في المتوكل لما خرج لصلاة العيد: وافتن فيك الناظرون فإصبع ... يوماً إليك بها وعين تنظر (3) يجدون رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعم الله التي لا تكفر ذكروا بطلعتك النبي فهللوا ... لما طلعت من الصفوف وكبروا حتى انتهيت إلى المصلى لابساً ... نور الهدى يبدو عليك ويظهر ومشيت مشية خاشع متواضع ... لله لا يزهو ولا يتكبر (4) ولو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لمضى إليك المنبر (5) وقال فيه لما دخل عليه وفد الروم: وأيت وفد الروم بعد عنادهم ... عرفوا فضائلك التي لا تجهل (6) لحظوك أول لحظة فاستصغروا ... من كان يعظم فيهم ويبجل ورأوك وضاح الجبين كما يرى ... قمر السماء السعد ساعة يكمل (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 نظروا إليك فقدسوا لو أهم ... نظقوا الفصيح لكبروا ولهللوا حضروا السماط فكلما راموا القرى ... مالت بأيديهم عقول ذهل تهوي أكفهم إلى أفواههم ... فتجور عن قصد السبيل وتعدل (1) متحيرين فباهت متعجب ... مما يرى أو ناظر متأمل (2) ويود قومهم الأولي بعثوهم ... لو ضمهم بالأمس ذاك المحفل (3) قد نافس الغيب الحضور على الذي ... شهدوا وقد حسد الرسول المرسل قوله: «باهت»، من بهت يبهت وقد قيلت وهي رديئة والجيد بهت يبهت. وقال في المعتز: يبهت الوفد في أسرة وجه ... ساطع الضوء مستنير الشعاع (4) وقال فيه: إذا نظر الوفود إليه فقالوا ... أبدر الليل أم شمس النهار (5) وأجود من هذا قول ابن هرمة: لا يرفعون إليه الطرف خشيته ... لا خوف بأس ولكن خوف أجلال وأجود من هذا قول طريح الثقفي: يعروهم أفكل لديك كما ... قفقف تحت الدجنة الصرد (6) لا خوف ظلم ولا قلى خلق ... لكن خلال كساكه الصمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 وأصل الباب كله قول الحزين الكناني: يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم (1) ... وقال في المتوكل: اليوم أطلع للخلافة سعدها ... وأضاء فيها بدرها المتهلل (2) لبست جلالة جعفر فكأنها ... سحر تجلله النهار المقبل (3) وقال في المعتز ويذكر الزو (4): ولم أر كالمعتز إذ راح موفياً ... عليه بوجه لاح في الرونق النضر (5) ملياً بأن يجلو الظلام بغرة ... تخضع إكباراً لها غرة الفجر إذا اهتز غب الأريحية والندى ... وأسفر في ضوء الطلاقة والبشر (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 وقابله بدر السماء بحسنه ... فبدر على بدر وبحر على بحر رأيت بهاء الملك مجتمعاً له ... وديباجة الدنيا ومكرمة الدهر وقال فيه: ملك يملأ العيون بهاء ... حين يبدو في تاجه المعقود (1) والخلفاء وملوك الإسلام لا يلبسون التيجان، وأظنها كانت يتخذها الأحداث منهم فيلبسونها في خلواتهم، ومع نسائهم، ومن لا يحتشمونه من ندمائهم، فأما القلانس المعممة التي ترصع بالجوهر فلا شك فيها، ومن ذكر تيجان الخلفاء من الشعراء فلعله رأى على رؤسهم هذا الجنس، فقد قال البحتري أيضاً في المهتدي ينفي عنه لبس التاج: لسجادة السجاد أحسن منظراً ... من التاج في أحجاره وأتقادها (2) وقال في المعتز: كأنما التاج إذا ما علا ... غرته بالدور الزهر (3) كواكب الفكة في أفقها ... دنت فحفت غرة البدر (4) وقد تقدم من إنكار عبد الملك بن مروان على ابن الرقيات قوله: * يعتدل التاج فوق مفرقه * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 فأما الجلال والبهاء والهيبة وسائر ما مضى من ذلك في هذا الباب فإنه واجب في مدح الخلفاء والملوك والعظماء؛ لأنه من الأوصاف التي تخصهم، ويحسن موقع ذكرها عندهم. وكذلك جمال الوجه وحسنه مما يجب المدح به؛ فإن الوجه الجميل يزيد في الهيبة، ويتيمن به العرب؛ لأنه يدل على الخصال المحمودة، كما أن قبح الوجه والدمامة يسقط الهيبة، ويدل على الخصال المذمومة، وذلك ما تكرهه العرب، وتتشاءم به؛ لأن أول ما تلقاه من الإنسان وتعاينه وجهه. ألا ترى إلى قول البحتري: أغر كبارق الغيث المرجى ... يحبب في الأباعد والأداني (1) تخاضعت الوجوه لحسن وجه ... يدل على خلائقه الحسان وقال في مثل ذلك: حسن الوجه والرواء وكم د ... ل على سؤدد الشريف رواؤه (2) ماء وجه إذا تبلج أعطا ... ك أماناً من نبوة الدهر ماؤه يتعالى ضياؤه فيجلى ... طخية الحادث المضب ضياؤه (3) ... وقد غلط بعض المتأخرين في هذا الباب ممن ألف في نقد الشعر كتاباً غلطاً فاحشاً (4)، فذكر أن المدح بالحسن والجمال، والذم بالقبح والدمامة ليس بمدح على الحقيقة، ولاذم على الصحة، وخطأ كل من يمدح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 بهذا أو يذم بذاك، فعدل بهذا المعنى عن مذاهب الأمم كلها عربيها وعجميها، وأسقط أكثر مدح العرب وهجائها، وقد بينت قبح غلطه في تبييناً شافياً مستقصى في كتاب منفرد (1). ... وقال البحتري يمدح المعتز ويذكر ابنه عبد الله: عليه من المعتز بالله بهجة ... أضاءت فلو يسري بها الركب لاهتدى (2) يروق العيون الناظرات بطلعة ... من الحسن لو وافى بها البدر ما عدا (3) تأمل أمين الله فرط جلالة ... رائعة تبدو عليه إذا بدا وقد تصرف البحتري في المدح بالجمال والهيبة والجلال تصرفاً كثيراً في غير مدح الخلفاء، فقال في الفضل بن إسماعيل الهاشمي: لا تطلبن له الشبيه فإنه ... قمر التأمل مزنة التأميل (4) وقال في الفتح بن خاقان: تكشف الليل من لألاء غرته ... عن بدر داجيه أو شمس إصباح (5) وقال يمدحه: ويبتدر الراءون منه إذا بدا ... سنا قمر من سدة الملك مطلع (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 يقومون من بعد إذا بصروا به ... لأبلج من نور الجلالة أروع (1) ويدعون بالأسماء مثنى وموحداً ... إذا حضروا باب الرواق المرفع (2) إذا سار كف اللحظ عن كل مبصر ... سواه وغض الصوت عن كل مسمع (3) فلست ترى إلا إفاضة شاخص ... إليه بعين أو مشير بإصبع الإفاضة: الدفع، يريد أنه يدفع ببصره إليه، وينحو به نحوه. والإفاضة في الكلام أن يدفعوا أيضاً القول، ويبعثوا الكلام، وهذه هيبة وجلال ما وراءها غاية، وكان المتوكل أولى بهذا الوصف من الفتح وإن كان الفتح أوفر وأهيب. ... وقال البحتري في دخوله إلى الفتح: ولما حضرنا سدة الإذن أخرت ... رجال عن الباب الذي أنا داخله (4) فأفضيت ممن ثقرب إلى ذي مهابة ... أقابل بدر الأفق حين أقابله فسلمت واعتاقت جناني هيبة ... تنازعني القول الذي أنا قائله فلما تأملت الطلاقة وانثنى ... إلي ببشر آنستني مخايله دنوت فقبلت الندى في يد امريء ... جميل محياه سباط أنامله (5) صفت مثلما تصفوا المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله (6) هكذا لعمري تمدح الملوك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وقال فيه: مهيب تعظم العلماء منه ... جلالة أروع واري الزناد (1) يؤدون التحية من بعيد ... إلى قمر من الإيوان باد قيام في المراب أو قعود ... سكون من أناة واتئاد فليس اللحظ بالمكرور شزراً ... ولا الحديث بمستعاد (2) ... وقال فيه أيضاً لما دخلت إليه بنو تغلب بعدما أصلح بينهم حتى سكنت حربهم، يقول ذلك في قصيدته المنصفة: تراءوك من أقصى السماط فقصروا ... خطاهم وقد جازوا الستور وهم عجل (3) إذا قلبوا أبصارهم من مهابة ... ومالوا بلحظ خلت أنهم قبل (4) وهذا من فاخر المدح ومصيب الوصف. وفي اقتصاص مثل هذه الأحوال التي تشاهد يظهر (5) حذق الشاعر وبراعته. والله الموفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي ت: 370 هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 صفحة فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 بسم الله الرحمن الرحيم * ما قالاه في الجمال والجلال والهيبة والبهاء والجهارة قال أبو تمام: إنا غدونا واثقين بواثق ... بالله شمس ضحى وبدر تمام ثم قال بعد في القصيدة: ما أحسب البدر المنير إذا بدا ... بدراً بأضوأ منك في الأوهام قوله: «في الأوهام» قد عيب به، وقيل لم يجعله مضيئًا في العين، وجعله مضيئًا في الأوهام، والذي ذهب إليه أبو تمام معنى صحيح؛ لأن وجه الإنسان لا يكون أضوأ منه في الصدور وفي النفوس، يريد الجلالة والهيبة. وأجود من هذا قول محمد بن وهيب: تعظمه الأوهام قبل عيانه ... ويصدر عنه الطرف والطرف حاسر وأحسن من قول ابن وهيب قول الأحوص: تراهم خضع الأبصار هيبته ... كما استكان لضوء الشارق الرمد وقال أبوتمام في خالد بن يزيد بن مزيد: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 وقال أبو تمام في خالد بن يزيد بن مزيد: كالبدر حسناً وقد يعاوده ... عبوس ليث العرين في عبده كالسيف يعطيك ملء عينيك من ... فرنده تارة ومن ربده وهذا غاية في حسنه وصحته وبراعته. وقال في جعفر الخياط: فتى في يديه البأس يضحك والندى ... وفي سرجه بدر وليث غضنفر وهذا مأخوذ من قول مسلم بن الوليد: تمضي المنايا كما تمضي أسنته ... كأن في سرجه بدرًا وضرغاما وقد أحسن محمد بن وهيب كل الإحسان في قوله: وكأن ضوء جبينه قمر ... وكأن سائر خلقه أسد وقال أبو تمام في خالد بن يزيد بن مزيد: وقد كان مما يضيء السريـ ... ـر والبهو يملؤه بالبهاء مضى خالد بن يزيد بن مز ... يد قمر الليل شمس الضحاء وهذا يمر في «المراثي». وقال البحتري في المهتدي بالله: زاد في بهجة الخلافة نورًا ... فهو شمس النهار وهي نهار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 طلعة تملأ القلوب ووجه ... خشعت دون ضوئه الأبصار ذكروا الهدى من أبيك وقالوا ... هو ذاك السيما وذاك النجار وعليهم سكينة لك إلا ... مد أيد يومًا بها ويشار بهتوا حيرة وصمتًا فلو قيـ ... ـل أحيروا مقالة ما أحاروا وقليل إن أكبروك لك الهيـ ... ـبة ممن رآك والإكبار وقال في المتوكل لما خرج لصلاة العيد: وافتن فيك الناظرون فإصبع ... يومًا إليك بها وعين تنظر يجدون رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعم الله التي لا تكفر ذكروا بطلعتك النبي فهللوا ... لما طلعت من الصفوف وكبروا حتى انتهيت إلى المصلى لابسًا ... نور الهدى يبدو عليك ويظهر ومشيت مشية خاشع متواضع ... لله لا يزهو ولا يتكبر ولو أن مشتاقًا تكلف فوق ما ... في وسعه لمضى إليك المنبر وقال فيه لما دخل عليه وفد الروم: ورأيت وفد الروم بعد عنادهم ... عرفوا فضائلك التي لا تجهل لحظوك أول لحظة فاستصغروا ... من كان يعظم فيهم ويبجل ورأوك وضاح الجبين كما يرى ... قمرالسماء السعد ساعة يكمل نظروا إليك فقدسوا ولو أنهم ... نطقوا الفصيح لكبروا ولهللوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 حضروا السماط فكلما رامو القرى ... مالت بأيديهم عقول ذهل تهوي أكفهم إلى أفواههم ... فتجور عن قصد السبيل وتعدل متحيرين فباهت متعجب ... مما يرى أو ناظر متأمل ويود قومهم الألي بعثوهم ... لو ضمهم بالأمس ذاك المحفل قد نافس الغيب الحضور على الذي ... شهدوا وقد حسد الرسول المرسل قوله: «باهت»، من بهت يبهت وقد قيلت، وهي رديئة، والجيد بهت يبهت. وقال في المعتز: يبهت الوفد في أسرة وجه ... ساطع الضوء مستنير الشعاع وقال فيه: إذا نظر الوفود إليه قالوا ... أبدر الليل أم شمس النهار وأجود من هذا قول ابن هرمة: لا يرفعون إليه الطرف خشيته ... لا خوف بأسٍ ولكن خوف إجلال وأجود من هذا قول طريح الثقفي: يعروهم أفكل لديك كما ... قفقف تحت الدجنة الصرد لا خوف ظلم ولا قلى خلق ... لكن جلال كساكه الصمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وأصل الباب كله قول الحزين الكناني: يغضي حياءً من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم وقال في المتوكل: اليوم أطلع للخلافة سعدها ... وأضاء فيها بدرها المتهلل لبست جلالة جعفر فكأنها ... سحر تجلله النهار المقبل وقال في المعتز ويذكر الزو: ولم أر كالمعتز إذ راح موفيًا ... عليه بوجه لاح في الرونق النضر مليًا بأن يجلو الظلام بغرة ... تخاضع إكبارًا لها غرة الفجر إذا اهتز غب الأريحية والندى ... وأسفر في ضوء الطلاقة والبشر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وقابله بدر السماء بحسنه ... فبدر على بدر وبحر على بحر رأيت بهاء الملك مجتمعًا له ... وديباجة الدنيا ومكرمة الدهر وقال فيه: ملك يملأ العيون بهاء ... حين يبدو في تاجه المعقود والخلفاء وملوك الإسلام لا يلبسون التيجان، وأظنها كانت يتخذها الأحداث منهم فيلبسونها في خلواتهم، ومع نسائهم، ومن لا يحتشمونه من ندمائهم، فأما القلانس المعممة التي ترصع بالجوهر فلا شك فيها. ومن ذكر تيجان الخلفاء من الشعراء فلعله رأى على رؤسهم هذا الجنس، فقد قال البحتري أيضًا في المهتدي ينفي عنه لبس التاج: لسجادة السجاد أحسن منظرًا ... من التاج في أحجاره واتقادها وقال في المعتز: كأنما التاج إذا ما علا ... غرته بالدرر الزهر كوكب الفكة في أفقها ... دنت فحفت غرة البدر وقد تقدم من إنكار عبد الملك بن مروان على ابن الرقيات قوله: * يعتدل التاج فوق مفرقه * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 فأما الجلال، والبهاء، وسائر ما مضى من ذلك في هذا الباب، فإنه واجب في مدح الخلفاء والملوك والعظماء؛ لأنه من الأوصاف التي تخصهم، ويحسن موقع ذكرها عندهم، وكذلك جمال الوجه وحسنه مما يجب المدح به؛ فإن الوجه الجميل يزيد في الهيبة، ويتيمن به العرب؛ لأنه يدل على الخصال المحمودة، كما أن قبح الوجه والدمامة يسقط الهيبة، ويدل على الخصال المذمومة، وذلك ما تكرههه العرب، وتتشاءم به؛ لأن أول ما تلقاه من الإنسان وتعاينه وجهه، ألا ترى إلى قول البحتري: أغر كبارق الغيث المرجى ... يحبب في الأباعد والأداني تخاضعت الوجوه لحسن وجه ... يدل على خلائقه الحسان وقال في مثل ذلك: حسن الوجه والرواء وكم د ... ل على سؤدد الشريف رواؤه ماء وجه إذا تبلج أعطا ... ك أمانًا من نبوة الدهر ماؤه يتعالى ضياؤه فيجلي ... طخية الحادث المضب ضياؤه وقد غلط بعض المتأخرين في هذا الباب - ممن ألف في «نقد الشعر» كتابًا- غلطاً فاحشاً، فذكر أن المدح بالحسن والجمال، والذم بالقبح والدمامة ليس بمدح على الحقيقة، ولا ذم على الصحة، وخطأ كل من يمدح بهذا أو يذم بذاك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 فعدل بهذا المعنى عن مذاهب الأمم كلها عربيها وعجميّها، وأسقط أكثر مدح العرب وهجائها، وقد بينت قبح غلطه في هذا تبيينًا شافيًا مستقصى في كتاب منفرد. وقال البحتري يمدح المعتز ويذكر ابنه عبد الله: عليه من المعتز بالله بهجة ... أضاءت فلو يسري بها الركب لاهتدى يروق العيون الناظرات بطلعة ... من الحسن لو وافى بها البدر ما عدا تأمل أمين الله فرط جلالة ... وأبهة تبدو عليه إذا بدا ... وقد تصرف البحتري في المدح بالجمال والهيبة والجلال تصرفًا كثيرًا في غير مدح الخلفاء، فقال في الفضل بن إسماعيل الهاشمي: لا تطلبن له الشبيه فإنه ... قمر التأمل مزنة التأميل وقال في الفتح بن خاقان: تكشف الليل من لألاء غرته ... عن بدر داجية أو شمس إصباح وقال يمدحه: ويبتدر الراءون منه إذا بدا ... سنا قمر من سدة الملك مطلع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 يقومون من بعد إذا بصروا به ... لأبلج من نور الجلالة أروع ويدعون بالأسماء مثنى وموحدًا ... إذا حضروا باب الرواق المرفع إذا سار كف اللحظ عن كل مبصر ... سواه وغض الصوت عن كل مسمع فلست ترى إلا إفاضة شاخص ... إليه بعين أو مشير بإصبع الإفاضة: الدفع، يريد أنه يدفع ببصره إليه وينجو به نحوه. والإفاضة في الكلام: أن يدفعوا أيضًا القول، ويبعثوا الكلام، وهذه هيبة وجلال ما وراءهما غاية. وكان المتوكل أولى بهذا الوصف من الفتح أوقر وأهيب. وقال البحتري في دخوله إلى الفتح: ولما حضرنا سدة الإذن أخرت ... رجال عن الباب الذي أنا داخله فأفضيت من قرب إلى ذي مهابة ... أقابل بدر الأفق حين أقابله فسلمت وأعتاقت جناني هيبة ... تنازعني القول الذي أنا قائله فلما تأملت الطلاقة وأنثنى ... إلى ببشر آنستني مخايله دنوت فقبلت الندى في يد امريء ... جميل محياه سباط أنامله صفت مثل ما تصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله هكذا - لعمري- تمدح الملوك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وقال فيه: مهيب يعظم العلماء منه ... جلالة أروع واري الزناد يؤدون التحية من بعيد ... إلى قمر من الإيوان باد قيام في المراتب أو قعود ... سكون من أناة واتئاد فليس اللحظ بالمكرر شزرًا ... إليه ولا الحديث بمستعاد وقال فيه أيضاً لما دخلت إليه بنو تغلب بعدما أصلح بينهم حتى سكنت حربهم، يقول ذلك في قصيدته المنصفة: تراءوك من أقصى السماط فقصروا ... خطاهم وقد جازوا الستور وهم عجل إذا قلبوا أبصارهم من مهابة ... ومالوا بلحظ خلت أنهم قبل وهذا من فاخر المدح، ومصيب الوصفن وفي اقتصاص مثل هذه الأحوال التي تشاهد يظهر حذق الشاعر وبراعته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 وقال البحتري في الفتح: تلفت فوق العالمين فطالهم ... تشوف بسام إلى الوفد قاعد جهير الخطاب يخفض القوم عنده ... معاريض قول كالرياح الرواكد يخصون بالتبجيل أطولهم يدًا ... وأظهرهم أكرومة في المشاهد ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... إلى الفضل حتى قيس ألف بواحد وقال في عبيد الله بن عبد الله بن طاهر حين قدم بغداد: وتعطف أثناء السرداق حوله ... على قمر تنجاب عنه سدولها إذا القوم قاموا يرقبون بدوه ... بدا حسن الأخلاق فيهم جميلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 كأنهم عند استلام ركابه ... غضائب عند البيت حان قفولها إذا ازدحموا قدامه ووراءه ... مشوا مشية يأبى الأناة عجولها وقال أبو عمرو والمفضل: كثير أشعر الناس في وصف الهيبة إذ يقول: شهدت ابن ليلى في مواطن قد خلت ... يزيد بها ذا الحلم حلمًا حضورها فلا هاجرات القول يورثن عنده ... ولا كلمات النصح ملقى مشيرها ترى القوم يخفون المواعظ عنده ... وينذرهم عور الكلام نذيرها وقد أحسن ذو الرمة كل الإحسان إذ يقول في مدح بلال بن أبي بردة: من آل أبي موسى ترى القوم حوله ... كأنهم الخربان أبصرن بازيا مرمين من ليث عليه مهابة ... تفادى الأسود الغلب منه تفاديا فما يغربون الضحك إلا تبسمًا ... ولا ينسبون القول إلا تناجيا لدى ملك يعلو الرجال بضوئه ... كما بهر البدر النجوم السواريا ولا الفحش فيه يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ما هيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 «المرم»: الساكت المطرق، وقوله: «يغربون» من أغرب في الضحك واستغرب إذا أكثر، و «وينسبون»: يتكلمون كلامًا خفيًا، وهذا مثل قول كثير: ترى القوم يخفون المواعظ عنده وليس هذا ولا قول كثير بأجود ولا أبلغ من قول البحتري في الفتح بن خاقان. وقال أبو العتاهية في الهادي: يضطرب الخوف والرجاء إذا ... حرك موسى القضيب أو فكر وإنما حذاه على قول ابن هرمة في المنصور: له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرها منها عقاب ونائل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 * إفاضة العدل وإقامة الحق : « ...... ؟» بما قالوه في الخلفاء. وقال أبو تمام في المأمون: يأ أيها الملك الهمام وعدله ... ملك عليه في القضاء همام ما زال حكم الله يشرق وجهه ... في الأرض مذ نيطت بك الأحكام قوله: «يشرق في الأرض» عموم يليق بالخليفة، ولكن لا يقبح أن يوصف به وزير أو من يقوم مقامه، لأن الخليفة ينوط أمر الأحكام وغير الأحكام به. وقوله: «وعدله ملك» ليس بمنكر أن يجعل العدل ملكًا على الحقيقة إذا كان يتدبر بإفاضته واستعماله، فلم يقنع بهذه الاستعارة حتى جعل العدل ملكاً همامًا من أجل قوله: «يا أيها الملك الهمام»، على مذهبه في رديء الاستعارة. والهمام: ذو الهمة البعيدة، ويقال: الذي إذا همَّ بشي أمضاه ولم يتعذر عليه. والجيد النادر في إفاضة العدل قول منصور: لقد شمل البرية منه عدل ... سيجعله أئمتهم مثالا يقدم عفوه وإذا استخفوا ... نكال عقوبة مطل النكالا وقال أبو تمام في المعتصم: جلا ظلمات الظلم عن وجهه أمة ... أضاء لها من كوكب الحق آفله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وقام فقام العدل في كل بلدة ... خطيباً وأضحى الملك قد شق بازله وجرد سيف الحق حتى كأنه ... من السل موذ جفنه وحمائله البيت الأول والثاني جيدان في مدح الخلفاء، وقوله في البيت الثالث: «من السل» لفظ غير جيد ولا متمكن. وقال أيضًا المعتصم: سكن الزمان فلا يد مذمومة ... للحادث ولا سوام يذعر في الأرض من عدل الإمام وجوده ... ومن النبات الغض سرج تزهر البيت الاول في غاية الجودة، والثاني في غاية الركاكة لأنه من ألفاظ العوام. وقال البحتري في المتوكل: تحسنت الدنيا بعدلك فاغتدت ... وآفاقها بيض وأكنافها خضر هنيئًا لأهل الشام أنك سائر ... إليهم مسير الشمس يتبعها القطر وهذا في غاية الحسن والحلاوة، وقال فيه: أظهر العدل فاستنارت به الأر ... ض وعم البلاد غورًا ونجدا وهذا عموم لا يحسن أن يقال إلا لخليفة، أو ولي عهد أو وزير. وقال في المتوكل: ما ضيع الله في بدو ولا حضر ... رعية أنت بالإحسان راعيها وأمة كان قبح الجور يسخطها ... دهرًا فأصبح حسن العدل يرضيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 وقال في المعتز: إمام هدى عم البرية عدله ... فأضحى لديه آمنًا كل راهب وردت وما كانت ترد بعدله ... ظلامات قوم مظلمات المطالب وقال في المهتدي: ملي بنصر الحق والحق واحد ... إذا عصبة يومًا لظلم تصدت وتأييده حكم الهدى بخشونة ... من الجد لو مرت على الصخر خدت وهذا في غاية الجودة إلا أنه خال من العموم، ويصلح أن يمدح به قاض وغيره من الولاة. وقال فيه: بالمهتدي بالله والهادي به ... أرست قواعد ديننا فتأثلا ورث النبي سجية مرضية ... وطريقة قصداً وقولاً فيصلا فإذا قضى في المشكلات ترادفت ... حكم تريك الوحي كيف ينزلا وقال فيه: أسفت لأقوام ملكت بعيدهم ... وكانت دجت أيامهم فاسوأدت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 مضوا لم يروا من حسن عدلك منظرًا ... ولم يلبسوا نعماك حين استنجدت ولم يعلموا أن المكارم أبديت ... جذاعًا ولا أن المظالم ردت وقال فيه: أرى حوزة الإسلام حين وليتها ... تخرم باغيها وحيط حريمها تدارك مظلوم الرعية حقه ... وخلى له وجه الطريق ظلومها وقال في المعتمد: بلغ احتياطك وفد كل قبيلة ... وأغاث عدلك أهل كل بلاد وقال في المعتز: أقام منار الحق حتى اهتدت به ... وأبصرها من لم يكن قط مبصرا وعادت على الدنيا عوائد فضله ... فأقبل منها كل ما كان مدبرا وهذا كله في غاية الجودة والصحة والاستقامة، وهو عموم لا يكون إلا من خليفة، أو من يقوم مقامه. وقال في المتوكل: عرفتنا سنن النبي وهديه ... وقضيت فينا بالكتاب المنزل لولا قوله: «وهديه» كان يصلح أن يكون مدحاً لقاض أو فقيه، إلا أن يسرف مسرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وقال فيه: إمام يراه الله أولى عباده ... بحق وأهداهم لقصد سبيله خليفته في أرضه ووليه المـ ... ـرضي لديه وابن عم رسوله ترى الأرض تسقى غيثها بمروره ... عليها وتكسى نبتها بنزوله وقال فيه: أو ما ترى حسن الزمان وما بدا ... وأعاد في أيامه المتوكل أشرقن حتى كاد يقتبس الدجى ... ورطبن حتى كاد يجري الجندل فهذا ما يليق بالخلفاء من ذكر العدل وإقامة الحق وصلاح الأمور، والبحتري فيما أورده من ذلك كله أشعر من أبي تمام. ومما قالاه من ذلك في سائر الناس، قال أبو تمام في محمد بن عبد الملك: أرى ابن أبي مروان أما لقاؤه ... فدان وأما حكمه فهو عادل وقال في إبراهيم بن الخصيب: ما لأهل الشام أن يكفروا بعـ ... ـدك فيهم نعماء أهل العراق فلقد صار أفقهم بأياديـ ... ـك حديثًا لسائر الآفاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 نزل العدل حيث شاءوا وأضحى الـ ... ـجور والظلم عنهم في وثاق كل يوم تزيدهم منك عدلاً ... ونوالاً كذاك جري العتاق هذه الأبيات كلها رديئة، وقوله: «كذاك جري العتاق»؛ لأن الخيل العتاق إذا استزدتها في الجري زادتك، وليس بالمعنى الحلو ها هنا. وقال البحتري في صاعد بن مخلد: فكيف وجدتم عدله وقد التقت ... مساوية شاء البلاد وسيدها فإن تخرج الأيام مذخور حسنها ... فقد آن أن يبدي النضارة عودها وهذا غاية في حسنه وحلاوته. وقال في أبي الصقر: تقرى جنوب الأرض جودًا ونائلاً ... وطبق عدلاً حزنها وسهولها ولو سيقت الدنيا إليه بأسرها ... ولم يتلها حمد لعاف قبولها وقال في أبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل: إن العواصم قد عصمن بأبيض ... ماض كصدر الأبيض المسلول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 أعطى الضعيف من القوي ورد من ... نفس الوحيد ومنة المخذول عز الذليل وقد رآك تشد من ... وطء على عنق العزيز ثقيل رعت الرعية مرتعًا بك مونقًا ... وثنت بظل في ذراك ظليل أعطيتها حكم الصبي وزدتها ... في الرفد إذ زادتك في التأميل وقال في إبراهيم بن المدبر: نافر الجأش لا تقر حشاه ... أو تؤدى ظلامة المظلوم وهذا كله جيد نادر فوق ما قاله أبو تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 * سداد الرأي والتدبير والاضطلاع بالأمور وحسن الكفاءة وإمضاء العزائم قال أبو تمام في المعتصم: فكر إذا راضه راض الأمور به ... رأى تفنن عنه الريث والعجل أراد أن الرأي يروض الأمور بالفكر، وقوله: «تفنن عنه الريث والعجل» أي تشعب منه، وصار أفناناً، يقول: يريث في حال إذا كان الريث أولى، ويعجل في حال إذا كانت العجلة أحزم، فالريث والعجل يصدران جميعًا عنه، وهذا بيت غير جيد ولا شهي. وقال في المأمون: وأرى الأمور المشكلات تمزقت ... ظلماتها عن رأيك المتوقد عن مثل نصل السيف إلا أنه ... مذ سل أول سلة لم يغمد فبسطت أزهرها بوجه أزهر ... وقبضت أربدها بوجه أربد له في هذا البيت إساءة قد ذكرتها في أغاليطه. ولله در أبي عبادة إذ يقول في المهتدي بالله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وقد علم الأقوام أن صريمة ... إذا اختلفت شورى النجي استبدت متى وقدت في مظلم الأمر ضوأت ... وإن ضربت في جانب الخطب قدت وقوله فيه: له عزمة ما استبطأ الملك نجحها ... ولا استعتب الإسلام ورى زنادها إذا شوهدت بالرأي بان اختيارها ... وإن غاب ذو الرأي اكتفت بانفرادها وقال ابن هرمة في المنصور: ولا ينتجى الأدنون فيما يحاول وتبعه أبو العتاهية فقال: إذا هم لم يشركه في الأمر غيره ... وكان بما يأتي أطب وأبصرا وقوله في المعتمد: تبعت بنو العباس هدي محمد ... ثبت البصيرة في المحجة هاد وكأنهم لما اقتفوا منهاجه ... تبعوا ضياء الكوكب الوقاد وقوله: متيقظ عصمت بوادر حكمه ... بعرى من الرأي الأصيل شداد كالسيف في ذات الإله وقد يرى ... كرمًا كفرع النبعة المياد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وقوله في المهتدي: تثني بوادره الأناة وإنما ... سارت عزيمته فكانت جحفلا وقال أبو تمام: وعزائماً في الروع معتصمية ... ميمونة الإدبار والإقبال فتعمق الوزراء يطفو فوقها ... طفو القذى وتعقب العذال والسيف ما لم يلف فيه صيقل ... من سنخه لم ينتفع بصقال ما كان ينبغي أن يجعل العزائم إدباراً، لأنها لفظة قبيحة ولا يصح لها أيضًا معنى في هذا الموضع، وخاصة وقد قال: «في الروع»، إلا أن يتأول أن يكون أراد قولهم: فلان يضرب الأمر ظهرًا لبطن ويقبل بالرأي ويدبر، يريد أنه يصرفه ويقلبه، وبين اللفظتين فرق كبير، وما كانت ها هنا ضرورة إلى هذا اللفظ الرديء، لأن في سائر الألفاظ والمعاني مندوحة، و «تعقب العذال» رديء أيضاً، لأن الخليفة يجل أن يقدم أحد على عذله، وقوله: «فتعمق الوزراء يطفو فوقها» في غاية الحسن والجودة والحلاوة. وقال أبو تمام: ترى الحادث المستعجم الخطب معجماً ... لديه ومشكولاً إذا كان مشكلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وهذا من أشعار المعلمين ومعانيهم؛ لأنه أراد بقوله «معجما» أي: منقوطاً؛ و «مشكولا» أراد الشكل. والبحتري في هذا الباب أشعر من أبي تمام ألفاظاً ومعاني، وليس لأبي تمام فيه إلا قوله: «يطفو فوقها طفو القذى». الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 * في مراعاة أمر الدنيا والإضطلاع بالأمور وحسن الكفاءة : وهو قريب المعنى من الباب الذي قبله، يقول البحتري في مدح المعتز بالله: به تعدل الدنيا إذا مال قصدها ... ويحسن صنع الدهر والدهر أخرق وقال فيه: مدبر دنيا أمسكت يقظاته ... بآفاقها القصوى وما طر شاربه وقال في المتوكل: وله وإن غدت البلاد عريضة ... طرف بأطراف البلاد موكل وأجود من هذا قول أبي تمام يعني نفسه في اغترابه: أطل على طلى الآفاق حتى ... كأن الأرض في عينيه دار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 وهذا المعنى حسن جدًا، ولكنه ليس له، وإنما سمع منصورًا النمري يقول في الرشيد: وعين محيط بالبرية طرفها ... سواء عليه قربها وبعيدها فحذاء عليه، غير أن قوله: «كأن الأرض في عينيه دار» في غاية الحسن والحلاوة. وقال البحتري في عبيد الله بن يحيى بن خاقان: طرف مطل على الآفاق يكلأها ... بناظر لم ينم عنها ولم ينم وبيت منصور أجود من هذا، وبيت أبي تمام أجود من بيت منصور، وإن كان منه أخذ، وما قاله الناس في السياسة أحسن من قول محمد بن وهيب: وكأن ضوء جبينه قمر ... بدر وسائر خلقه أسد وكأنه روح تدبرنا ... حركاته وكأننا جسد ونحوه قول أبي العتاهية: أمين الله أمنك خير أمن ... عليك من التقى فيه لباس تساس من السماء بكل بر ... وأنت به تسوس كما تساس كأن الخلق ركب فيه روح ... له جسد وأنت عليه راس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وقال علي بن جبلة في حميد بن عبد الحميد: يفتق ما يرتق أعداؤه ... وما لما يفتق من آس فالناس جسم وإمام الهدى ... رأس وأنت العين في الرأس وقال أبو تمام في محمد بن عبد الملك: ردء الخلافة في الجلي إذا نزلت ... وقيم الملك لا الواني ولا النصب جفن يعاف لذيذ النوم نافره ... شحاً عليه وقلب حولها يجب طليعة رأيه من دون بيضتها ... كما انتمى رابيء في الغزو منتصب حتى إذا ما انتضى التدبير ثاب له ... جيش يصارع عنه ماله لجب شعارها اسمك إن عدت محاسنها ... إذا اسم حاسدك الأدنى لها لقب وزير حق ووالي شرطة ورحا ... ديوان ملك وشيعي ومحتسب كالأرحبي المذكي سيره المرطى ... والوخد والملع والتقريب والخبب عود تساجله أيامه فبها ... من مسه وبه من مسها جلب قوله: «كما انتمى رابيء»: ارتفع إلى رأس جبل، وانتمت أي: ارتفعت، ومنه انتمى في النسب إلى بني فلان، أي ارتفع، و «الرابيء» الذي يربأ للقوم كأنه يرتفع إلى موضع عال، وليس هو من «الربوة» لأن تلك غير مهموزة، يفعل ذلك يرقب للقوم أمر العدو، والرابيء لا ينتصب وإنما ينام على بطنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 أو يستلقي على جنبه ليخفى شخصه؛ لأنه إن قام أدركته العين من بعد كما قال الهذلي: أقمت بريدها يومًا طويلاً ... ولم أشرف بها مثل الخيال ولم يشخص بها بصري ولكن ... دنوت تحدر الماء الزلال فإن كان حذا على قول متقدم فالصواب هو هذا، إلا أن يكون أراد: نصب نفسه لذلك، أي: أعدها، ولم يرد الانتصاب. و «الأرحبي» من الإبل منسوب إلى «أرحب» حي من همدان تنسب إليهم النجائب، و «المذكي» الذي قد انتهى في سنة وقوته، و «المرطى»: عدو الخيل فوق التقريب ودون الإلهاب، و «الوخذ» الاهتزاز في السير، مثل وخد النعام. و «الملع» من سير الإبل السريع، و «التقريب» من عدو الخيل معروف، و «الخبب» دونه. وليس التقريب من عدو الإبل، وهو عندي في هذا الموضع مخطيء، وقد يكون التقريب لأجناس من الحيوان ولا يكون من الإبل، فإنا ما رأينا قط بعيراً يقرب تقريب الفرس، و «المرطى» من عدو الخيل، ولم أره في أوصاف الإبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وقوله: «شعارها اسمك» يعني الخلافة، والشعار هو العلامة التي تخص الشيء، أخذ من الشعار وهو الثوب يصل شعر الجسد، وقسمة البيت رديئة على مذهبه في الطباق، لأن الشعار طباقه الدثار، واللقب طباقه الاسم، وكان ينبغي أن يقول: إذا اسم حاسدك الأدنى لها دثار، وذلك أن الشعار أخص بالجسد من الدثار، ولو استوى له أن يقوله كان أيضاً في غاية الرداءة، لأن الدثار يعلو على الشعار ويغطيه، وليس بجيد أن يعلو لقب حاسده على اسمه، وإنما يعني هذا الحاسد المعروف بأبي الوزير وكان قد اختص بالواثق، ولطفت منزلته عنده جداً، حتى كان ربما عرض عليه الكتب، وكان عدو محمد بن عبد الملك، فيقول: شعار الخلافة اسمك، لأنك الوزير، وذلك أبو الوزير لقب، فلهذا قال: وزير حق ووالي شرطة ورحا ... ديوان ملك وشيعي ومحتسب فجعله الوزير حقاً، وأنه ينظر في الأمور كلها، ليعلم أنها إليه، وأنه القيم بها، وهذا بيت من مدح الوزراء في غاية الركاكة والسخف، وقبح المعاني والألفاظ، ومن الذي يشك في أن الوزير إليه النظر في هذه الأشياء، وكأنه أراد أنه يعانيها بنفسه، من غير واسطة، ليدل على كفاءته. وجعله «رحا ديوان ملك»، و «الرحا» ها هنا في غاية القبح، وأراد أنه هو الذي يدبر أمور الديوان دون الكتاب، فجعله هو الذي يدور، ولم يقنع حتى جعله رحا، وإنما المستعمل من الاستعارة لمثل هذا المعنى: قطب الرحا لا الرحا، لأن المدار على القطب. وقد جعل البحتري «رحى» في موضع أشبه بالصواب من هذا الموضع فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 لله أنت رحا هيجاء مشعلة ... إذا القنا من صبابات الطلى رعفا ثم قال أبو تمام: «وشيعي»، منسوب إلى شيعة ولد العباس، وكان لهم في كل ديوان رجل من الشيعة، يخزن الديوان ويحفظ الحساب، فجعل الوزير أيضاً خازناً، وكان ينبغي أن يجري عليها أيضاً للخزن جراية!، ثم ختم البيت «بالمحتسب»، وما علمنا أحدًا مدح وزيرًا فجعله والي شرطة ولا محتسباً ولا خازناً، وقد كان يكفيه من ذلك كله أن يقول إنه ينظر في كبارها نحو ما قال البحتري في أبي نوح عيسى بن ابراهيم: يؤيد الملك منهم نصح مجتهد ... لله يسرع بالتقوى ويتئد مباشر لصغار الأمر لا سلس ... سهل ولا عسر التنفيذ منعقد ولا يؤخر شغل اليوم يذخره ... إلى غد إن يوم الأعجزين غد وقال البحتري في الفتح بن خاقان: تحمل أعباء المعالي بأسرها ... إذا خط منها مغرم عاد مغرم وقام بما لو قام رضوى ببعضه ... هوى الهضب من أركان رضوى الململم مدبر ملك أي رأييه صارعوا ... به الخطب رد الخطب يدمى ويكلم أمد الرجال لبثة حين يرتئي ... وأسرعهم إمضاءة حين يعزم بتسديده تلغى الأمور وتجتبى ... وتنقض أسباب الخطوب وتبرم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 وما أحسن ما قال منصور النمري في حسن الكفاءة وسرعة إمضاء الأمور: وليس لأعباء الأمور إذا عرت ... بمكترث لكن لهن صبور يرى ساكن الأوصال باسط وجهه ... يريك الهوينا والأمور تطير وقال آخر -أظنه أشجع السلمي-: بديهته مثل تفكيره ... إذا رمته فهو مستجمع وقال البحتري في ابن بسطام: بتدبير مأمون على الأمر رأيه ... ذكير وأمضى المرهفات ذكيرها تحاط قواصي الملك فيه وتسكن الـ ... خلافة ملقاة إليه أمورها وذو هاجس لا يحجب الغيب دونه ... تريه بطون المشكلات ظهورها وقال أبو تمام في محمد بن عبد الملك: هززت أمير المؤمنين محمدًا ... فكان ردينيًا وأبيض منصلا فما إن تبالي إذ تجهز رأيه ... إلى ناكث ألا تجهز جحفلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ترى شخصه وسط الخلافة هضبة ... وخطبته دون الخلافة فيصلا وما هضبتا رضوى ولا ركن معنق ... ولا الطود من قدس ولا انف يذبلا بأثقل منه وطأة يوم يغتدي ... فيلقى وراء الملك نحرًا وكلكلا وهذا جيد بالغ، إلا أن قول البحتري في الرأي «رد الخطب يدمى ويكلم» أجود من قوله «ألا تجهز جحفلا»، وقوله «هوى الهضب من أركان رضوى الململم» أجود من قوله «بأثقل منه وطأة» وإن كان هذا قد جمع عدة جبال، ولكن قوله «فيلقي وراء الملك نحرًا وكلكلا» حسن جدًا. وقال أبو تمام في محمد بن عبد الملك: وأنت شهاب في الملمات ثاقب ... وسيف إذا ماهزك الحق قاصل من البيض لم تنض الأكف كنصله ... ولا حملت مثلا إليه الحمائل مورث نار والإمام يشبها ... وقائل فصل والخليفة فاعل وإنك إن صد الزمان بوجهه ... لطلق ومن دون الخلافة باسل قوله: «مؤرث نار»، بنى البيت على معنى له وجه جيد، ولكن عكسه أجود وأبلغ وأعرق، وذلك أنه قال: «مؤرث نار والإمام يسبها»، «فمؤرث» موقد، و «يشبها» يرفع لهبها، فجعله مبتدئاً، والخليفة متمماً، وكذلك قوله: «وقائل فصل والخليفة فاعل» وكان الأحسن أن يكون الخليفة المبتديء بتأريث النار وهو الذي يشب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 والخليفة القائل، وهو الذي يفعل؛ لأن القائل هو الآمر، والفاعل هو المأمور، ولكنه بنى الأمر على أن الخليفة يعمل على رأيه، فصار الخليفة مأمورًا عليه، ولو سمع الخليفة لأنكره وعاقب من أجله. وقال البحتري يخاطب صالحاً مولى المهتدي بالله: إن الخليفة ليس ينظر بالذي ... طالبت إلا أن تقول فيفعلا وليس هذا من قول أبي تمام في شيء، إنما استشفع البحتري إلى المهتدي بصالح، فقال إن الخليفة ينتظر أن يسأله في أمري فيفعل ما يقول، فأبو تمام أطلق القول عموماً في الأمور كلها، وأن وزيره يقول وأن الخليفة يفعل. وقوله: وإنك إن صد الزمان بوجهه ... لطلق ومن دون الخلافة باسل بيت غير جيد القسمة، لأن الصدود بالوجه لا يكون مقابلته طلاقة الوجه، و «الباسل» هو الشديد، والبسالة الشدة، ولذلك قيل للشجاع باسل، فذهب أبو تمام إلى أن الطلاقة في الوجه أن يكون منبسطاً مسفراً، والبسالة الشدة، فجعلها في موضع النقيض كما قال ابن هرمة: كريم له وجهان وجه لذي الرضا ... أسيل ووجه في الكريهة باسل والجيد النادر قول البحتري في محمد بن عبد الملك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 علقوا من «محمد» خير حبل ... لرواق الخلافة الممدود لم يخن ربها ولم يعمل التد ... بير في حل تاجها المعقود مصلتاً بينها وبين الأعادي ... حد رأي يفل حد الحديد صارم العزم حاضر الحزم ساري الـ ... ـفكر ثبت المقال صلب العود وقال البحتري في الحسن بن مخلد: وزرالخلافة حين يعضل حادث ... وشهابها في المظلمات الواقد المذهب الأمم الذي عرفت له ... فيه الفضائل والطريق القاصد ولي الأمور بنفسه ومحلها ... متقارب ومرامها متباعد إن غار فهو من النباهة منجد ... أو غاب فهو من المهابة شاهد فقد اغتدى المعوج وهو مقوم ... بيديه واستوفى الصلاح الفاسد أوفى فأغشاك الصباح بضوئه ... وجرى فغرقك الفرات الذائد وهذا هو القول الذي لو عصرته لانعصر، لكثرة مائه ورونقه. وقوله: «وشهابها -في المظلمات- الواقد» مثل قول أبي تمام: «وأنت شهاب في الملمات ثاقب»، وليس هذا بمأخوذ من ذاك، لأن المعنى مشترك وليس من خاص المعاني الذي يأخذها واحد عن آخر. وقال البحتري في عبيد الله بن يحيى بن خاقان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وكم لعبيد الله من يوم سؤدد ... يجلي طخا الأيام ضوء شعاعه وكم بحثوه عن طباع تكرم ... يرد الزمان صاغرًا عن طباعه سل الوزراء عن تقدم شأوه ... وعن فوته من بينهم وانقطاعه وهل وازنوه عند جد حقيقة ... بمثقاله أو كايلوه بصاعه زعيم بفتح الأمر عند انغلاقه ... عليهم ورتق الفتق عند اتساعه علا رأيه مرمى العقول فلم تكن ... لتنصفه في بعده وارتفاعه وقارب حتى أطمع الغمر نفسه ... مكاذبة في ختله واختداعه تضيع صروف الدهر في بعد همه ... وتتوى الخطوب في اتساع ذراعه وتعلم أعباء الخلافة أنها ... وإن ثقلت موجودة في اضطلاعه وما طاولته محنة من ملمة ... فينزع إلا باعها دون باعه رعى الله من تلقى الرعية أنسها ... إلى ذبه من دونها ودفاعه فهل تريد زيادة في مدح وزير على هذا حسناً، وبلاغة وحلاوة معان؟! وإذ قد انتهيت إلى هذا الموضع من الأبيات، فأذكر ما بعدها من اعتذار البحتري، وذلك قوله: تصرعت حولاً بالعراق مجرماً ... مدافعة مني ليوم وداعه أأنساك بعد الهول ثم ائصرافه ... وبعد وقوع الكره ثم اندفاعه إذا نسى الله اطيافي ببيته ... ووفد الحجيج حاشد في اجتماعه ووالله لاحدثت نفسي بمنعم ... سواك ولا عنيتها باتباعه ولو بعت يوماً منك بالدهر كله ... لفكرت دهراً ثانياً في ارتجاعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وقال فيه: الدهر يضحك عن بشاشة بشره ... والعيش يرطب من نضارة عوده ونصيحة السلطان موقع طرفه ... ونجي فكرته وحلم هجوده إن أوقف الكتاب أمر مشكل ... في حيرة رجعوا إلى تسديده والحزم يذهب غير ملتاث إلى ... تصويبه في الرأي أو تصعيده أوفى على ظلم الشكوك فشقها ... كالصبح يضرب في الدجى بعموده وهذا هو القول الذي لو قدحت منه النار لأورى. وقال في أبي الحسن بن عبد الملك بن صالح: أفنى «أبو الحسن» المحاسن منعماً ... بخلائق للقطر بعض شكولها وإذا الأمور تصعبت شبهاتها ... سبقت رياضته إلى تذليلها عرف المصادر قبل حين ورودها ... ومواقع البدهات قبل حلولها وهذا مثل قول الآخر: مطل على الأشياء حتى كأنما ... له من وراء الغيب مقلة شاهد يرى عاقبات الأمر والأمر مقبل ... كأن له في اليوم عيناً على غد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 وحسبك بهذا حسناً، وهو ألطف من معنى البحتري. وقال آخر: بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يخاطبه من كل أمر عواقبه وقال آخر: بصير بأعقاب الأمور كأنما ... يرى بصواب الرأي ماهو واقع ورواه المبرد: يرى فلتات الرأى والرأي واثق ... كأن له في اليوم عيناً على غد وقال البحتري في أبي العباس أحمد بن الموفق: وإن «أبا العباس» من تم رايه ... ومن شهرت آثاره ومناقبه يريناك لا نرتاب فيك إذا بدا ... يؤديك نصًا نجره وضرائبه وقد شحذت منه حداثة سنه ... شهامة غطريف حداد مخالبه إذا المرء لم تبدهك بالحزم كله ... قريحته لم تغن عنك تجاربه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 * بلاغة الوزراء وحسن عبارتهم ووصف القلم وإذ قد ذكرت كفاية الوزراء واضطلاعهم بالأمور، فأذكر ها هنا شيئاً من بلاغتهم، وحسن عبارتهم ووصف القلم. قال أبو تمام في سليمان بن وهب: ما على الوشج الرواتك من عتـ ... ـب إذا ما أتت أبا أيوب حول لا فعاله مرتع الذم (م) ... ولا عرضه مراح العيوب سرح قوله إذا ما استمرت ... عقدة العي في لسان الخطيب وقال في الحسن بن وهب: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 لصدور الأقلام أمضى بكفيـ ... ـك إذا شئت من سهام نبال بمصفى فرندها النير الوشـ ... ـي وحدثان عهدها بالصقال نطف تثلج امرءًا وهو حرًا ... ن ببرد من المعاني زلال وتناغي الهوى وتنساب في الرو ... ح بسحر من البيان حلال يشرع الذهن والمسامع فيها ... في صفايا أمثالها أمثالي يريد أمثاله من الشعر الذي يقوله. وقال فيه: ولقد سمعتك والكلام لآليء ... توم وبكر في النظام وثيب فكأن قساً في عكاظ يخطب ... وكأن ليلى الأخيلية تندب وكثير عزة يوم بين ينسب وابن المقفع في اليتيمة يسهب تكسو الوقار وتستخف موقراً ... طوراً وتبكي سامعين وتطرب قوله: «بكر في النظام» يريد مالم يسبق إليه، و «ثيب» يريد الألفاظ والمعاني قد تقدم الناس فيها واستعملوها، والبيتان بعد هذا رديئان جداً، وما ندبة ليلى الأخيلية من النساء وغيرها، والرجال أندب منها؟!، وكان ينبغي أن يفضله على ابن المقفع وغيره إلا أن يشبهه به، وكذلك ذكره «لكثير» ركاكة وضيق حيلة. وقال فيه حين ورد عليه كتابه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 لقد جلى كتابك كل بث ... جو وأصاب شاكلة الرمي فضضت ختامه فتبلجت لي ... غرائبه عن الخبر الجلي وكان أغض في عيني وأندى ... على كبدي من الزهر الجني وأحسن موقعًا مني وعندي ... من البشرى أتت بعد النعي وضمن صدره مالم يضمن ... صدور الغانيات من الحلي وكائن فيه من معنى خطير ... وكائن فيه من لفظ بهي وكم أفصحت عن بر جليل ... به ووأيت من وأي سني فأطلق من عقالي في الأماني ** ومن عقل القوافي والمطي فيا ثلج الفؤاد وكان رضفًا ... ويا شبعي برونقه وري لئن غربتها في الأرض بكراً ... لقد زفت إلى سمع كفي بيان لم ترثه تراث دعوى ... ولم تنبطه من حسي بكي وهذه أبيات مضطربة، وليس فيها جيد إلا قوله: «ويا شبعي برونقه وري» وقال فيه: فأجل القذى عن مقلتي بأسطر ... يكشفن من كربات باك بالي سود يبيضن الوجوه بمصطفى ... تلك النوادر منك والأمثال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 واحثث أناملك السوابغ كلها ... حتى يجول هناك كل مجال فى بطن قرطاس رخيص ضمنت ... أحشاوه غرر الكلام الغالي وهذا البيت الأخير جيد، والباقي صالح. وقال في ابن الصالح الهاشمي: لقمان صمتاً وحكمة فإذا ... قال لقطنا الجمان من خطبه ولله در أبي معاذ بشار بن برد إذ يقول على هذا الروي: لله ما قد حواه منطقه ... من لؤلؤ لا ينام عن طلبه يخرج من فيه في الندى كما ... يخرج ضوء السراج في لهبه وما أحسن ما قال أبو عبادة البحتري في الحسن بن وهب أيضًا: وإذا استهل «أبو علي» في الندى ... جاء الغمام المستهل بسكبه وإذا احتبى في عقدة من حلمه ... يوماً رأيت متالعًا في هضبه وإذا تألق في الندي كلامه الـ ... ـمصقول خلت لسانه من عضبه وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى من كتبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 باللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله فى قربه حكم فسائحها خلال بنانه ... متدفق وقليبها فى قلبه كالروض مؤتلقًا بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه أو كالبرود تخيرت لمتوج ... من خاله أو وشيه أو عصبه وكأنها والسمع معقود بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبه قوله: «دجت أقلامه» يريد إذا أخذت المداد. قوله: «باللفظ يقرب فهمه في بعده منا» أي: يقرب فهمه منا لحسن بيانه وتلخيصه، «في بعده» أي: في دقة معانيه. «ويبعد نيله في قربه» أي: ويبعد أن ينال أحد، أي: يأتي بمثله، «في قربه» يريد أنه مطمع ممتنع، إذا سمعه سامع ظن أنه قريب عليه، وأنه يأتي بمثله، وهو منه بعيد. وقوله: «فسائحها» أي ما يسيح منها فيجري، أي يتدفق ذلك خلال بنانه. وقوله: «كالروض مؤتلقاً بحمرة نوره وبياض زهرته»، قد أنكر ذلك على البحتري بعض أهل اللغة وذكر أن النور هو الأبيض خاصة، وأن الزهر هو الأصفر لا محالة، وإنما يضمهما إذا قلت: أنوار وأزهار، فيدخل في هذا اللفظ سائر الألوان. وقد قال -لعمري- قوم من أهل اللغة -منهم ابن الأعرابي وغيره- إن النور هو الأبيض والزهر هو الأصفر، فما يصنع إذًا بقول حميد بن ثور: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 كأن على أشداقه نور حنوة ... إذا هو مد الجيد منه ليطعما يصف فرخ الحمامة، وصفرة أشداقها، ويشبهها بزهر الحنوة، وهو أصفر شديد الصفرة، فقال: «نور حنوة»، ولم يقل: «زهر حنوة». وقال الأعشى: وشمول تحسب العين إذا ... صفقت وردتها نور الذبح «والذبح» نبت، ونوره أحمر شديد الحمرة، ويروى «الذبح». وقال أبو النجم: فالروض قد نور في حوائه ... نورًا تحار الشمس في حمرائه مكللاً بالنور من صفرائه فجعل الأحمر والأصفر نورًا، وقد ذكرت هذا مشروحًا في الجزء الذي بينت فيه معايب البحتري، وذكرت ما عيب عليه مما هو عيب صحيح وما ادعى عليه مما ليس بعيب. وقال البحتري في محمد بن عبد الملك الزيات: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 لتفننت في الكتابة حتى ... عطل الناس فن عبد الحميد في نظام من البلاغة ماشك ... امرؤ أنه نظام فريد وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديد مشرق في جوانب السمع مايخـ ... لقه عوده على المستعيد ما أعيرت منه بطون القراطيـ ... ـس وما حملت ظهور البريد حجج تخرس الألد بألفا ... ظ فرادى كالجوهر المعدود ومعان لو فصلتها القوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد حزن مستعمل الكلام اختيارًا ... وتجنبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ القريب فأدركـ ... ـن به غاية المراد البعيد كالعذراى غدون في الحلل الصفـ ... ـر أو رحن في الخطوط السود وقد وصف أبو تمام القلم فقال في مديح محمد بن عبد الملك: لك القلم الأعلى الذي بشباته ... تصاب من الأمر الكلى والمفاصل له الخلوات اللاء لولا نجيها ... لما احتفلت للملك تلك المحافل لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل له ريقة طل ولكن وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابل فصيح إذا استنطقته وهو راكب ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل إذا ما امتطى الخمس اللطاف وافرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافل أطاعته أطراف القنا وتقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وقد رفدته الخنصران وشددت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل رأيت جليلاً شأنه وهو مرهف ... ضناً وسمينا خطبه وهو ناحل وما وصف الناس القلم بأجود ولا أبرع، ولا أصح معان وألطف من هذا الوصف وقد كان الناس يستحسنون قول المقنع الكندي: قلم كخرطوم الحمامة ماثل ... مستحفظ للعلم من علامه يسم الحروف إذا تشابه أيها ... لبيانها بالنقط من إعجامه يحفى فيقضم من شعيرة أنفه ... كقلامة الأظفور من مقلامه وبأنفه شق تلاءم فاستوى ... سقي المداد فزاد في تلآمه مستعجم وهو الفصيح بكل ما ... نطق الرجال به على استعجامه وهجاه قاف ثم لام بعدها ... ميم معلقة بأسفل لامه وهذه الأبيات في قصيدة يمدح فيها الوليد بن يزيد، ولا تبلغ في الجودة أبيات أبي تمام، ولا تعشرها. وما سمعت فيه وصفاً أردأ ولا أقبح من أبيات منسوبة إلى البحتري وهي لوهب ابن شاذان الهمداني، رواها أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح في كتاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 «الورقة» ووصف وهباً هذا بشدة التكلف وقال: وعريان من خلفه مكتس ... يسير من الوشي في يلمق يحذف في الرأس شابورة ... تسيل على ذروة المفرق فعمر في البحر مستأنساً ... فلم ير يبساً ولم يغرق وناصب في البر شمس الهجير ... فما لوحته ولم يفرق إذا أنت مشيته راكباً ... تسمع منك ولم يخرق يقيم بغريبه غرب البلاد ... وينهى ويأمر في المشرق إذا ما استقام سقى غيره ... من الثمد الآجن الأورق وأطرق ثم جرى ماضياً ... على فكرة الساكن المطرق فكم من طليق له موثق ... وكم من وثيق له مطلق يسوق إلى المطبق الناكثيـ ... ـن ومثواه في مطبق الخندق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 * العفو والحلم ويوصف الخليفة بالعفو والحلم، وذلك موجود في سائر الناس، وينبغي أن يتوصل إلى لفظ تكون للخليفة فيه مزيه على غيره. قال أبو تمام: وكم ناكث للعهد قد نكثت به ... أمانيه واستخذى لحقك باطله فأمكنته من رمة العفو رأفة ... ومغفرة إذ أمكنتك مقاتله وحاط له الإقرار بالذنب روحه ... وجثمانه إذ لم تحطه قنابله وهذا لعمري حسن، ولكنه يصلح أن يوصف به غير خليفة. وقال / البحتري في المتوكل: وله وراء المذنبين ودونهم ... عفو كظل المزنة الممدود قوله: «كظل المزنة الممدود» لفظ ومعنى ما لحسنه نهاية، وكأنه أليق بالخلفاء من غيرهم، من أجل جعله عفوًا يعلوهم ويظلهم، كما تعلو المزنة وتظل. وقال بعده في الأناة والحلم: وأناة مقتدر تكفكف بأسه ... وقفات حلم كالجبال عتيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وقال في المعتز: بحلم كأن الأرض منه توقرت ... وجود كأن البحر منه تفجرا وهذا حلم عظيم في البيتين، وجود في هذا البيت هو أعظم. وقال أيضاً في المتوكل: أكرم الناس شيمة وأتم النـ ... ــاس حلماً وأكثر الناس رفدا ففضل حلمه على حلوم الناس. ولم يرض أبو تمام أن يجعل الحلم رزيناً ثقيلاً على مذاهب الناس كلهم عربهم وعجمهم، ولكن جعله رقيقاً، قال: رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه ... بكفيك ما ماريت في أنه برد فجعله كالبرد، والبرد لا يوصف بالرقة، وكان ينبغي أن يجعله كالهوء!!. وقال البحتري في المعتز: وعفوت عفوًا عم أمة أحمد ... في الغرب من أوطانهم والمشرق ولقد رددت على الأنام عقولهم ... بهلاك سلطان الرقيق الأحمق وقال فى المعتز: وأبيض من آل النبي إذا احتبى ... لساعة عفو فالنفوس مواهبه تغمد بالصفح الذنوب وأسمحت ... سجاياه في أعدائه وضرائبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 قوله: «فالنفوس مواهبه» لفظ ومعنى في غاية الحسن والحلاوة، ولكنه يصلح أن يقال لخليفة وغير خليفة إذا كان عظيمًا مسلطاً. وينبغي للشاعر أن ينظر أغلب خلال الخير على الممدوح فيمدحه، ويكرره في أوصافه ويردده. ومن أشهر فضائل المأمون وأحبها إليه أن يذكر بها الحلم والعفو، ومما يؤثر عنه أنه قال: «أنا ألذ العفو حتى أخاف ألا أوجر عليه، ولو علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب». وقد مدحه أبو تمام بقصيدتين فما وصفه فيهما بعفو ولا حلم، إلا ماذكره من منه على أسرى الروم، لما أتوه بهم، في غزاته، وذلك قوله: / لما رأيتهم تساق ملوكهم ... حزقاً إليك كأنهم أنعام جرحى إلى جرحى كأن جلودهم ... يطلى بها الشيان والعلام متساقطي ورق الثياب كأنهم ... دانوا فأحدث فيهم الإحرام أكرمت سيفك غربه وذبابه ... عنهم وحق لسيفك الإكرام فرددت حد الموت وهو مركب ... في حده فارتد وهو زؤام والمن على هؤلاء الأسرى المثخنين من الروم يلزم المأمون، ولا يسوغ له الدين تجاوزه إلى غيره، لأن الله عز وجل قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها». وقوله في القصيدة الأخرى: فانتاش مصر من اللتيا والتي ... بتجاوز وتعطف وتغمد وهذا كان منه على سبيل السياسة والإصلاح والضرورة، وليس هذا مما يعتد به المأمون في فضائل الحلم، ولا لأبي تمام في مدحه به، وإنما يعتد به المأمون في سياسته وحسن تدبيره، وما أحسن ما قال فيه محمد بن عبد الملك الفقعسي: أمير المؤمنين عفوت حتى كأن الناس ليس لهم ذنوب وقال فيه عبد الله بن أبي السمط: عفوت حتى تمنينا الذنوب كما ... أعطيت حتى لقلنا إنه سوف أخذ هذا من قول أبي دهبل: مازلت في العفو للذنوب وإطـ ... ـلاق لعان بجرمه غلق حتى تمنى البراة أنهم ... عندك أمسوا في القد والحلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 ونحوه قول الآخر في المأمون: صفوح عن الإجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما وقال البحتري في المتوكل: ملك إذا عاذ المسيء بعفوه ... غفر الإساءة قادر لا يعجل وعفا كما صفح السحاب ورعده ... قصف وبارقه حريق مشعل وهذا نسج في غاية الحسن وتمثيل يروق سامعه، ولكنه غير معروف، ولا معتاد أن يشبه عفو القادر عن إساءة المسيء بإمساك السحاب عن المطر، وهذا إنما يصلح أن يكون تمثيلاً لصفحه عن ذنب المذنب، والإمساك عن عقوبته، فإن قيل إن الوعيد والتهدد قد يرضعان في معنى الرعد والبرق وذلك جائز فى كلام العرب، وكثير في أشعارها، ومنه قول الشاعر: فابرق بأرضك مابدا لك وارعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وقول الكميت: أرعد وأبرق يا يزيـ ** ـد فما وعيدك لي بضائر فإلى هذا ذهب البحتري في أن جعل البرق والرعد بإزاء الوعيد والتهدد، قيل: ليس في البيت الأول إفصاح بذكر تهدد ولا وعيد، ولا كل من أراد العقوبة يفصح بالتهدد، وخاصة الملوك والعظماء، ألا ترى إلى قوله: «قادر لا يعجل» وبعد، فإن صفح الممدوح إنما هو عن إيقاع المكروه، وصفح السحاب إنما هو عن إسبال المطر، وهذا تشبيه الشيء بضده، فإن قيل: فإن الغيث قد يضر ضرراً عظيماً، إذا جاء في غير حينه، وقد يكون معه الصواعق والغرق وذهاب النفوس، قيل: الأشياء إنما تحمل على الأغلب الأكثر، دون الأخص الأقل، الذي إنما يقع في الفرط. والغيث إذا أتى فإنه حياة الأرض على كل، وفي أكثر الأمر، وإن ضر، فإن ضرره لا يبين في عظم منفعته والمصلحة بمكانه، وخاصة مواطن العرب، ومحاضرهم ومباديها، التي عليه فيها يعولون، وبه يحيون، وبه يخصبون، فإساءة البحتري عندي في هذا ظاهرة، ألا ترى أنه لو كان في وصف الحرمان فقال: ملك رأيت البشر منه مبشراً ... بنوال كف تستهل وتمطل فأبى كما امتنع السحاب ورعده ... قصف وبارقه حريق يشعل لكانت هذه الألفاط من أليق شيء بهذا المعنى، وأصحها فيه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وقال فى المغتز: إذا استعرضته بخفي لحظ ... رضيت مهزة السيف الحسام غفور بعد مقدرة إذا ما ... ترجح بين عفو وانتقام وقال مروان الأصغر في المتوكل: ملك يسبق العقوبة بالعفـ ... ـو ويعطي الجزيل قبل السؤال وقال مروان الأكبر: لله يغضب رغبة ومخافة ... وبه يكون إذا رضيت رضاكا يضحي عدوك خائفاً فإذا رأى ... أن قد قدرت على العقاب رجاكا وقال البحتري في المعتمد: يعفو بعفو الله عنه تحرياً ... والعفو خير خلائق الأمجاد وقال في المتوكل لما عفا عن أهل حمص: / أريتهم إذ ذاك قدرة قادر ... وعفو محب للسلامة مستبق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 ولو شئت طاحوا بالسيوف وبالقنا ... وباللهذميات المذربة الزرق وإن ولاء المعتقين من الردى ... يفوق ولاء المعتقين من الرق وقال بشار في المهدي: إذا ما أساءوا مرة عاد حلمه ... عليهم وإن عادوا له كان أحلما وهذا أيضًا جيد. فهذا ماوجدته مما قالاه في الخلفاء، وقد أساءا في هذا الباب وأحسنا، فأجعلهما متكافئين. ومن قولهما في الوزراء والأمراء والكتاب وغيرهم، قال البحتري في الحسن بن مخلد: عفو به كبت العدو ولم أجد ... كالعفو غيظ به العدو الحاسد حتى لكان الصفح أثقل محملاً ... مما تخوفه المسيء العامد وهذا حسن جداً، ولكنه أخذه من قول أبي تمام يفخر بقومه: إذا أسروا لم يأسر البغي عفوهم ... ولم يمس عان فيهم وهو كانع إذا أطلقوا عنه جوامع غله ... تيقن أن المن أيضاً جوامع «كانع» محتاج خاضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وقال البحتري في معناه: وثنى العداة إليه عفو لو دنى ... لثنتهم غصباً إليه سيوفه نعم إذا ابتل الحسود بسيبها ... أحيته بالإفضال وهي حتوفه ومثله قول البحتري في أبي سعيد: أسال لكم عفوًا رأيتم ذنوبكم ... غثاء عليه وهو ملء المذانب وفي عفوه لو تعلمون عقوبة ... تقعقع في الأعناق إن لم يعاقب قوله: «أسال لكم عفوًا» إلى آخر البيت، استعارة وتجنيس في غاية الحسن والصحة والحلاوة، وهذا كله من قول الشاعر: وللكف عن شتم اللئيم تكرماً ... أضر له من شتمه حين يشتم وقال أبو تمام في مالك بن طوق: لم يألكم مالك صفحاً ومغفرة ... لو كان ينفخ قين الحي في فحم أخرجتموه بكره من سجيته ... والنار قد تنتضى من ناضر السلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 هذا ما لحسنه وجودته وصحته نهاية، وهو من مشهور إحسانه، لأنه «؟» بين الشجر شديد ولا يقدح منه نار، ويقال: لا نار فيه، وكأن هذا البيت ليس من الباب. وقال في عبد الله بن طاهرـ: ليالي لم يقعد لسيفك أن يرى ... هو الموت إلا أن عفوك غالبه / وقال أبو تمام أيضًا في ابن أبي دؤاد يصف رجال قومه: إذا سيفه أضحى على الهام حاكماً ... غدا العفو منه وهو في السيف حاكم وقال البحتري في علي بن مر: نهيت حساده عنه وقلت لهم ... السيل بالليل لا يبقي ولا يذر كفوا وإلا كففتم مضمري أسف ... إذا تنمر في إقدامه النمر واللوم أن تدخلوا في حد سخطته ... علمًا بأن سوف يعفو حين يقتدر وهذا من إحسان أبي عبادة المشهور. وقال في محمد بن عبد الله بن طاهر: ولم ير يومًا قادرًا غير صافح ... ولا صافحاً عن زلة وهو قادر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وهذا تقسيم حسن لطيف، منه قول ابن هرمة: وليس بمعطي العفو من غير قدرة ... ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل وأجود من هذا قول زهير: وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله عبأت له حلمي وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله وقال البحتري: لا يكفهر إذا انحاز الوقار به ... ولا تطيش نواحيه إذا مزحا خفت إلى السؤدد المجفو نهضته ... ولو يوازن رضوى حلمه رجحا وقال في عبد الله بن يحيى بن خاقان: مقامات حلم ما يوازن قدرها ... وساعات جود ما يطاع عذولها وقال في الحسن بن وهب: وإذا احتبى في عقدة من حلمه ... يوماً رأيت متالعاً في هضبه وهذا كله جيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وقال في ابن بسطام: له نبعة في العز طالت فروعها ... وطاب ثراها واطمأنت أصولها فلو وزنت أركان رضوى ويذبل ... وقدس بها في الحلم خف ثقيلها وقال: وسواء مقاوم الحلم منه ... ورعان الريان أرست هضابه لو كان قول أبي تمام: «اخرجتموه بكره من سجيته» من هذا الباب، لفضلته على البحتري، ولكني أجعلهما متكافئين، لأن قول أبي تمام: «تيقن أن المن أيضًا جوامع» ليس من اختراعاته كما ذكرت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 * كرم الأخلاق ولينها ومن ذلك قول أبي تمام في أبي سعيد: لقد آسف الأعداء مجد ابن يوسف ... وذو النقص في الدنيا بذي الفضل مولع أخذت بحبلٍ منه لما لويته ... على مرر الأيام ظلت تقطع هو السيل إن واجهته انقدت طوعه ... وتقتاده من جانبيه فيتبع ومثله قول البحتري في الفتح بن خاقان: حرون إذا عاززته في ملمة ... فإن جئته من جانب الذل أصحبا وهذا من المعاني المشتركة، وليس من المخصوصة التي لا يقع فيها اتفاق. وقد أحسن أبو تمام كل الإحسان في قوله في الأفشين: لانت مهزته فعز وإنما ... يشتد بأس الرمح حين يلين وترى الكريم يعز حين يهون ... وترى اللئيم يهون حين يهون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وقال في أبي سعيد: قطب الخشونة والليان بنفسه ... فغدا جليلاً في القلوب لطفيا وقد أحسن أبو الشيص في قوله: كريم يغض الطرف فضل حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان وكالسيف إن لاينته لان مسه ... وحداه إن خاشنته خشنان وقال آخر: إذا قيلت العوراء أغضى كأنه ... ذليل بلا ذل ولو شاء لانتصر وقال أبو تمام أيضًا في عمر بن طوق: الجد شيمته وفيه فكاهة ... سجح ولاجد لمن لم يلعب شرس ويتبع ذاك لين خليقة ... لا خير في الصهباء مالم تقطب وهذا معنى في غاية الحسن، وتمثيل في غاية الصحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وقال أبو تمام في أبي دلف: جم التواضع والدنيا بسؤدده ... تكدد تهتز من أطرافها صلفا جعل «الصلف» ها هنا بمعنى: التيه، وهذا مذهب العوام، وقد غري به الشعراء المحدثون، فأما العرب فإن «الصلف» في كلامها: «البغض» من الرجل والمرأة، يقال: قد صلفت المرأة عند زوجها، إذا لم يحببها، وصلفت هي، إذا لم تحببه، فهو صلف، وهي صلفة، كما قال جرير: إني أواصل من أردت وصاله ... بحبال لا صلف ولا لوام وقال البحتري في التواضع، يخاطب ابن المدبر: دنوت تواضعًا وعلوت قدرًا ... فشأناك انحدار وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تسامى ... ويدنو الضوء منها والشعاع وهذا لا شيءء يفوقه حسناً وصحة ومبالغة، وهو بتواضع الخلفاء أشبه منه بتواضع من سواهم، وأظنه أخذ المعنى من قول بشار: أو كبدر السماء غير قريب ... حين يوفى والضوء فيه اقتراب / وبيت البحتري أجود. وقال في حسن الأخلاق: صفت مثلما تصفو المدام خلاله ... ورقت كما رق النسيم شمائله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وقال في أبي سعيد: واستمطروا في المحل منك خلائقاً ... أصفى وأعذب من زلال الماء وقال البحتري في أبي نهشل بن حميد: إلى أبي نهشل ظلت ركائبنا ... يخدن من بلد ناء إلى بلد إلى فتى مشرق الأخلاق لوسبكت ... أخلاقه من شعاع الشمس لم تزد وقال أبو تمام في الحسن بن وهب: ضم الفتاء إلى الفتوة برده ... وسقاه وسمي الشباب الصيب وصفا كما اعتدل الشباب وإنه ... في ذاك من صبغ الحياء لمشرب تلقى السعود بوجهه وتحبه ... وعليك مسحة بغضة فتحبب وقال البحتري في محمد بن يحيى: كل يوم تسن مجدًا جديدًا ... بفعالٍ في المكرمات بديع أدب لم تصبه ظلمة جهل ... فهو كالشمس عند وقت الطلوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 ورجال جاروا خلائقك الغر (م) ... وليست يلامق من دروع وليالي الخريف خضر ولكن ... رغبتنا عنها ليالي الربيع وإن كل هذا جيد إلا قوله: «وليست يلامق من دروع» فإنه تمثيل من قلت حيلته. وقال في إبراهيم بن الحسن بن سهل: خلق أتيت بفضله وسنائه ... طبعاً فجاء كأنه مصنوع وحديث مجد عنك أفرط حسنه ... حتى ظننا أنه موضوع وقال أبو تمام في أبي الحسين محمد بن الهيثم: فلا يغبب محلك كل يوم ... من الأيام ألطاف السحاب فثم الجود مشدود الأواخي ... وثم المجد مضروب القباب وأخلاق كأن المسك فيها ... بصفو الراح بالنطف العذاب وقال في الحسن بن وهب: لمكاسر الحسن بن وهب أطيب ... وأمر في حنك الحسود وأعذب وله إذا خلق التخلق أو نبا ... خلق كروض الحزن أو هو أطيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 ضربت به أفق الثناء ضرائب ... كالمسك يفتق بالندى ويطيب يستنبط الروح اللطيف نسيمها ... أرجًا وتوكل بالضمير وتشرب ويقال: فلان طيب المكسر، وطيب المكاسر، إذا كان كريم الأخلاق / سهلها. ورياض الحزن، إنما يوصف بالحسن، ورياض الخفض والأغواط أخصب. وقوله: «يستنبط الروح اللطيف نسيمها» مثل يؤكد به ذكاء طيب أخلاقه، وهي ضرائبه وأن يسير الروح ولطيفه يهيج نسيم أرجها. وقال أبو تمام في الحسن بن وهب: واجد بالخليل من برحاء الشـ ... ــوق وجدان غيره بالحبيب آمن الجيب والضلوع إذا ما ... أصبح الغش وهو درع القلوب لا كمصفيهم إذا حضروا الود ... ولاح قضبانهم بالمغيب يتغطى عنهم ولكنه تنـ ... ـصل أخلاقه نصول المشيب وقال أبو تمام في محمد بن حسان الضبي: بمحمد صار الزمان محمدًا ... عندي وأعتب بعد سوء فعاله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 بمروق الأخلاق لو عاشرته ... لرأيت وجهك في جميع خصاله أبدًا يفيد خلائقًا من ظرفه ... ورغائبًا من جوده ونواله وقال البحتري في أبي أيوب بن أخت أبي الوزير: سر وإعلان تسوي منهما ... نفس تضيء وهمة تتوقد فكأن مجلسه المحبب محفل ... وكأن خلوته الخفية مشهد وتواضع لولا التكرم عاقه ... عنه علو لم ينله الفرقد وشبيبة فيها النهى فإذا بدت ... لذوي التوسم فهي شيب أسود قوله: «فكأن مجلسه المحبب محفل. . .» مثل قول ابن مطير: يعف ويستحيي إذا كان خاليًا ... كما كان لو أضحى عليه رقيب وهذا معنى متداول. وقال: صاف أمثال أحمد بن علي ... تعترف فضله على من تصافي أريحي إما يوافق من تهـ ... وى وإما يكفيك حرب الخلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وفي نحو هذا يقول في أبي العباس عبد الله بن المعتز بالله وفي مدح المعتز: ورأيت عبدالله في السن التي ... تعد الكبير بدهره المتطاول قمر تؤمله الموالي للتي ... يقضي بها المأمول حق الآمل يرجون فيه نجابة شهدت بها ... فيه عدول شواهد ودلائل ومذاهب في المكرمات بمثلها ... يتبين المفضول سبق الفاضل حدث يوقره الحجى فكأنما ... أخذ الوقار من المشيب الشامل وقال في المعتز: ضرب كنصل السيف أرهف حده ... وأضاء لامع مائه المترقرق / ومهذب الأخلاق يعطفه الندى ... عطف الجنوب من القضيب المورق طلق فإن أبدى العبوس تطأطأت ... شوس الرجال وخفضت في المنطق وقال في الفتح: غرائب أخلاق هي الروض جاده ... ملث العزالى ذو رباب وهيدب فكم عحبت من ناظرـ متأمل ... وكم خبرت من سامع متعجب وقد زادها إفراط حسن جوارها ... خلائق أصفار من المجد خيب وحسن دراري الكواكب أن ترى ... طوالع في داج من الليل غيهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 وهذا حسن جدًا. وقال: رضيت منك بأخلاق قد امتزجت ... بالمكرمات امتزاج الروح بالبدن وزدتني رغبة في عقد ودك إذ ... شفعت ذاك الندى بالفهم والفطن من يصبه سكن ممن يحب ومن ... يهوى فمالك غير المجد من سكن هذا باب فضل أبي تمام فيه على البحتري ظاهر ومعلوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 صفحة فارغة [في المطبوع] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 * باب ما ينبغي أن يمدح فيه الخلفاء من الجود والكرم وقد أفردت لذلك كتابًا مفردًا يتلو هذا الكتاب، ولكن لما كان هذا الكتاب قد اشتمل على أكثر أنواع مدائح الخلفاء، وجب أن أذكر معها ما مدحاهم به من الجود والكرم، ثم إني أقدم قبل ذلك مقدمة فأقول: إن هذه خلة من أدون الخلال التي يمدح بها الخلفاء، لأن من ملك الدنيا لم يك منكرًا منه العطاء والبذل، إذ كانت رغبات الناس جميعًا إليه، وكان إخراج المال واجبًا عليه، ثم إن الجود، وإن كانت خلة شريفة، فليست كسائر الخلال الشريفة التي قد تقدمت في هذا الجزء، لأن تلك لا تكون إلا في الأعيان من الناس، والجود قد يشارك الخلفاء وعظماء الملوك فيه أدون الناس طبقة، حتى الحائك والحجام. فينبغي للشاعر أن يتأتى لمدح الخليفة بالجود بما يخرجه عن أن يكون له فيه مشبه أو نظير، فإن قول أبي تمام في المعتصم: تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 وهو أبرع بيت له في وصف الجود، يصلح أن يمدح به بعض السوقة، إذا كان متخرقاً في البذل، مسرفًا في إتلاف المال. وسبيل مدح الخليفة أن يكون دالاً على الخليفة بمعناه نحو قول البحتري: إذا غبت عن أرض ويممت غيرها ... فقد غاب عنها شمسها وهلالها غدت بك آفاق البلاد خصيبة ... وهل تمحل الدنيا وأنت ثمالها؟ / فجعله ثمال الدنيا، والثمال: الغياث. وقوله فيه أيضًا: قد قلت للغيث الركام ولج في ... إبراقه وألح في إرعاده لا تعرضن لجعفر متشبهًا ... بندى يديه فلست من أنداده الله شرفه وأعلى ذكره ... ورآه غيث عباده وبلاده فجعله غيث العباد والبلاد. وقوله في المعتز: ياجمال الدنيا سناء ومجدًا ... وثمال الدنيا عطاء وبذلاً ثم جعل صدر هذا البيت عجزه في قصيدة أخرى فقال: يا ثمال الدنيا عطاء وبذلاً ... وجمال الدنيا سناء ومجدا وهذا لا يقال إلا لخليفة. وكذلك قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 أكرم الناس شيمة وأتم النـ ... ـاس خلقاً وأكثر الناس رفدا وحكى القطر بل أبر على القطـ ... ـر بكف على البرية تندى وقوله: بثثت فينا عطاء زاد فى عدد الـ ... ـعليا ونوه باسم الجود تنويها ما زال بحرًا لعافينا فكيف وقد ... قابلتنا ولك الدنيا وما فيها أعطاكها الله عن حق رآك له ... أهلاً وأنت بحق الله تعطيها وقوله فى المعتز: وماحسنت نواحي الأرض حتى ... ملكت السهل منها والجبالا بوجه يملأ الدنيا ضياء ... وكف تملأ الدنيا نوالا وقال في المتوكل: يا ابن عم النبي لا زال للدنـ ... ـيا ثمال من راحتيك غزير أي محل عرا فكفك غيث ... أو ظلام دجا فوجهك نور ولله در أبي معاذ إذ يقول: إذا جلس المهدي عمت فضوله ... علينا كما عم الضياء من البدر فهذا هو المدح الذي لا يليق إلا بخليفة، فإن مدح مادح بمثل هذا غير خليفة، فما ترك للخليفة شيئاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 فأما قول أبي تمام في المعتصم: مدى العفاة فلم تحلل به قدم ... إلا ترحل عنها العثر والزلل وقوله فيه: هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله فهي في غاية الحسن والصحة والحلاوة والبراعة، وليس بمدح يخص الخلفاء دون غيرهم، ولا أقول إن ذلك عيب في المدح، ولكن ما يخص أجود وأليق. فأما قوله في المأمون: من شرد الإعدام عن أوطاننا ... بالبذل حتى استطرف الإعدام وتكفل الأيتام عن آبائهم ... حتى وددنا أننا أيتام وقوله: سخطت لهاه على جداه سخطة ... فاسترفدت أقصى رضا المسترفد وقوله: لو يعلم العافون كم لك في الندى ... من لذة وقريحة لم تحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 فليس ذلك بجيد، ولا محمود من الوصف، وقد ذكرت ما فيه في كتاب «الجود والكرم» في مواضعه. والبحتري في هذا أشعر من أبي تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 * الشجاعة والبأس فأما الشجاعة فليس ذلك من الخلال التي تعتمد في مدح الخلفاء، إلا أن يكون خليفة قد عرف بها وشهر به، وكانت به مواقف فيه، لأن الملوك والعظماء ترفع أقدارهم عن أن يجعل الشاعر غرضه بالبأس والجود، فإن اعتمد ذلك شاعر، فسبيله أن يجعله في تضاعيف الخلال التي هي بالملك أخص، ألا ترى إلى قول البحتري في أبي الحسن بن عبد الملك بن صالح الهاشمي: وكأنك العباس نبل خليقة ... وعلو هم في بني العباس لو جل خلق قط عن أكرومة ... تثنى جللت عن الندى والباس وإنما قال هذا، لأن الندى والبأس موجود في ساسة دواب عبيدهم، فضلاً عنهم. فمن حكم الشاعر إن ذكر البأس أن يتأتى له كما تأتى البحتري في الجود، بما أبان به الخليفة من غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 وكاد أبو تمام يظفر بهذا المعنى في مدح المعتصم لولا أنه أفسده فقال: من البأس والمعروف والجود والتقى ... عيال عليه رزقهن شمائله فجعل البأس مع هذه الحال عيالاً عليه، وجعل شمائله -وهي أخلاقه- رزقاً لها، وهذه استعارة في غاية القبح والشناعة، وإنما سمع قول جرير في يزيد بن معاوية: الحزم والجود والإيمان قد نزلوا ... على يزيد أمين الله فاحتفلوا فحذا حذوه، وما أظن لجرير بيتاً في المدح أردأ من هذا البيت، وهو خير من بيت أبي تمام. وإنما أراد جرير أن يجعل ليزيد في وصفه بالحزم والإيمان مزية على غيره من أجل الخلافة فكان المعنى جيداً واللفظ رديئاً لأنه قال: «نزلوا واحتلفوا»، وهذا فعل ما يعقل، ولو كان استوى له أن يقول «نزلت واحتلفت»، كان ذلك أليق وأحسن، ولكن لما كان الاحتلاف لا يكون إلا لما يعقل، حمل الفعل عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 وأجود من هذا وذاك قول دعبل، ومن جرير أخذ إلا أنه أورده على أحسن وجه وألطفه، فقال: تنافس فيه الحزم والبأس والتقى ... وبذل الندى حتى اصطحبن ضرائرا وقد أساء أيضًا سلم الخاسر في قوله: جمع الخلافة والشجـ ... ـاعة والسماحة في نظام وما ذكر السماحة مع الخلافة؟ وأظنه قال ذلك من شح المنصور. والجيد قوله: إمام هدى في راحتيه مع الهدى ... مقادير تجري من نحوس وأسعد وقال سلم أيضًا: أقام الندى والبأس في كل منزل ... أقام به فضل بن يحيى بن خالد وقال مسكين الدارمي في يزيد بن معاوية: فتى ماله في البأس والمجد والندى ... وبذل اللهى في العالمين نظير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 ففضله بهذه الخلال على العالمين. وقال أبو تمام في مدح المعتصم: ومشهد بين حكم الذل منقطع ... صاليه أو بحبال الموت متصل جليت والموت مبدحر صفحته ... وقد تفرعن في أفعاله الأجل وهذا مدح يصلح أن يكون لكل بادي بأس ونجدة، كائناً من كان من الناس، والبيتان جميعًا رديئان، فالأول رديء من جهة الاعراب، والثاني من جهة المعنى، فقوله: «بين حكم الذل»، لو كان لحكم الذل أشياء متفرقة لصلحت فيها بين، غير أن حكم الذل والذل بمنزلة واحدة، وكذلك حكم العز والعز، فكما لا يقال: «بين العز» فكذلك لا يقال: «بين حكم العز» حتى يقال هذا، وكذلك لأن بين إنما هي وسط بين شيئين، وقد بينت هذا فيما قدمت ذكره من أغاليطه واستقصيته. وقوله: «وقد تفرعن في أفعاله الأجل» معنى في غاية الركاكة والسخف، وهو من ألفاظ العامة، وما زال الناس يعيبونه به، ويقولون: اشتق للأجل الذي هو مطل على كل النفوس فعلا من اسم فرعون وقد أتى الأجل على نفس فرعون، وعلى نفس كل فرعون كان في الدنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وقال في مدح الواثق: ليث إذاخفق اللواء رأيته ... يعلو قرا الهيجاء وهي زبون لحياضها متورد ولخطبها ... متعمد ولثديها ملبون وهذا يصلح أن يمدح به كل أحد. وقوله: «ولخطبها متعمد» لفظ ومعنى سخيفان، وإنما جاء به من أجل قوله: «لحياضها متورد». وقال البحتري في المتوكل: وإذا ما تشنعت حومة الحر ... ب وكان المقام بالقوم دحضا غشي الدارعين ضربًا هذاذيـ ... ـك وطعنًا يوزع الخيل وخضا وقد يكذب الشاعر للممدوح، ولا مثل هذا الكذب للمتوكل. وقد أحسن -لعمري- سلم الخاسر كل الإحسان في قوله يمدح المهدي: أعذرت إذ أنذرت كل مخالف ... نار الخليفة أن يكون رمادها فإن هذا ما وراء حسنه وصحته شيء. ومما عيب على أبي تمام في مدح المعتصم قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس وقالوا كان ينبغي أن يفضله على جميع هؤلاء، فقالوا: قال أبو تمام لما أنكر ذلك عليه: لا تنكري ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس «المشكاة»: الكةة، يقال بلسان الحبشة، و «النبراس»: المصباح. وقد اعترض عليه أيضًا في هذين البيتين، وقيل أنه قصر في البيت الأول، بأن ذكر الندى والبأس، وترك الحلم والذكاء، وكان يجب أن يذكرها أجمع، ولا يسميها، فقيل لمن أنكر هذا: فلو كنت أنت مكانه، كيف كنت تقول؟، فقال: كنت أقول: لا تنكروا ضربي له من دونه ... غايات أمثال جرت لأناس أو: «مضت لأناس». وهذا -لعمري- مستقيم أن لو قيل، ولكن لم يستقم لأبي تمام أن يجمع الوجوه الأربعة في هذا البيت كما جمعها في البيت الأول، فأقتصر على اثنين منهما، وقد علم أن المعنى يضمهما جميعاً. والقبيح قول جريرـ: كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 فقيل لرجل من بني حنيفة: فمن أي الأثلاث أنت؟، فقال: من الثلثالملغي. وقد يكون من الضرورات في الشعر ما يكون بعضه أحسن من بعض. وقيل في البيت الثاني في قوله: «فالله قد ضرب الأقل لنوره» إن نوره إنما هو نور هداه، الذي يهدي به من في السماوات والأرض، ولذلك قال: «يهدي الله لنوره من يشاء» أي: بنور هداه، وليس يحيط الخلق بهذا النور ولا بقدره معرفة، ولا بالمثل الذي ضربه عز وجل له، فمن أين علم أبو تمام أن أحدهما أقل من الآخر؟، وذلك أنه جل اسمه قال: «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري» ثم قال: «يوقد من شجرة مباركة زيتونة لاشرقية». أي: ليست بضاحية بارزة للشمس، تشرق عليها ولا تكاد تغيب عنها. «ولا غربية»، أي: ولا مقنوءة، والمقنوءة: الأرض المنحرفة عن الشمس بساتر يسترها، فتغيب عنها بسرعة، ولا تأخذ بحظها منها، يريد اعتدال موضع الشجرة ليخلص الزيت من ثمرتها ويصفو، وهذا كله قد يوجد في الشجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 ثم قال: «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار». ولم يعرف الخلق ولا شاهدوا زجاجة كأنها كوكب دري ولا زيتاً يكاد يضيء وإن لم تمسسه نار. ثم قال: «نور على نور»، وهذا الوصف كله إنما أراد عز وجل به تعظيم أمر نور المصباح، الذي جعله مثلاً لنور هداه، فإنا وإن لم نعرف حقيقته، فقد دلنا تبارك اسمه على أنه نور عظيم القدر، فكيف يجوز أن يجعله أقل من نور الهدى، والله تبارك اسمه قد جعله مثله؟. فإن قيل: قد يشبه الشيء من بعض جهاته لا من جهاته كلها، قيل: ليس النور إلا جهة واحدة، وهي الضياء فقط. وأظن أبا تمام ذهب إلى أن «مثل نوره» إلى نور وجهه، فإن كان ذهب إلى هذا فهو غلط منه، ولا أعرف له عذرًا يتوجه، فإن قيل: بل العذر له متوجه، وهو أن نوراً يملأ السماوات والأرض أكثر وأعظم من نورٍ تضمه مشكاة، وهي الكوة غير النافذة، قيل: لم يرد جل جلاله بذكر المشكاة تقليل أمر الضوء، وأنه على قدر المشكاة، وإنما أراد جل اسمه أن يؤكد شدة النور وعظمه، لأنه إذا كان في شيء يضمه كان أغلب وأشد لضيائه منه إذا كان ضاحياً منتشرا، وهذا معلوم، ومعرفته قائمة في النفوس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وقال بعض المفسرين: أراد جل وعز: مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة فيها مصباح، وهو أثبت في العقول وأولى بالصواب، وأبعد من أن يحيط العلم بأن أحد النورين أقل من الآخر، لأنه تشبيه صحيح، وقد نطقت بذلك العرب، قال الطحن الحرمازي يصف عيني الأسد: قالب حملاقين مثل الوقبين أو مثل مصباحين في مشكاتين «الحملاق» جوانب العين من داخل، و «الوقب» النقرة في الحجر وقال أبو زبيد الطائي: كأن عينيه مشكاتين في حجر ... قيضا اقتياضًا بأطراف المناقير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 * تمام باب السؤدد والشرف وهذا ما قلت إني أذكره من تمام باب السؤدد والشرف، بعدما ذكرته من ذلك في مدائح الخلفاء. قال أبو تمام في مالك بن طوق: لتغلب سؤدد طالت منابته ... في منتهى قلل منها وفي قمم مجد رعى تلعات الدهر وهو فتى ... حتى غدا الدهر يمشي مشية الهرم التلاع: مجاري الماء من ارتفاع إلى انخفاض، والخفض منها كثير العشب، وقلل: جمع قلة، وقمم: جمع قمة، وهما رأس الجبل. ولو قال: «حتى هرم الدهر»، كانت استعارة محتملة، كما قال البحتري: هرم الزمان وعزهم لم يهرم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وكما قال الأخطل: عمرت شباب الدهر لا يستطيعهم ... أفالآن لما أصبح الدهر فانيا؟ فما وجه قوله: «يمشي»؟، كأنه لا يجوز أن يعلم أنه هرم، حتى يرى ماشيًا مرتعشاً. وقال معن بن أوس المرني: تعللت إذ دهري فتى بوصالها ... فقد عصلت أنياب دهر وعردا فإنما أراد نفسه لا الدهر، كما قال: نهارك يقظان وليلك نائم والاستعارة الحسنة في هذا قول النابغة: علوت معدًا نائلاً ونكاية ... فأنت لغيث الحمد أول زائد وقال في أبي سعيد: طلب المجد يورث المرء خبلاً ... وهموماً تقضقض الحيزوما فتراه وهو الخلي شجياً ... وتراه وهو الصحيح سقيما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 تجد المجد في البرية منشو ... راً وتلقاه عنده منظوما ولهته العلى فليس تعد الـ ... بؤس بؤساً ولا النعيم نعيما وتشديد «الشجي» خطأ. وهذه الأبيات من صحيح المعاني، ومتقنها، وإنما احتذى فيه حذو لقيط الإيادي في قصيدته المشهورة، وقد ذكرتها في سرقاته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وقال في محمد بن الهيثم: خدم العلى فخدمنه وهي التي ... لا تخدم الأقوام مالم تخدم وإذا انتمى في قلة من سؤدد ... قالت له الأخرى بلغت تقدم ماضر أروع يرتقي في همة ... روعاء يرتقي في سلم قوله: «قالت له الأخرى: بلغت»، أي: بلغت تلك، فتقدم إلي، ولولا هذا لكانت مناقضة، لأنه إذا بلغ، فإلى أين يتقدم؟، ويجوز أن يكون: قد بلغت، فما تنتظر؟. وقوله: «ألا يرتقي في سلم»، ليس بمبالغة إذ لا قدر لعلو السلم، ولو كان قال: ألا يرتقي في طود أو جبل كان أبلغ، ولكنه إنما ذكر السلم، لأنه آلة الصعود المستعملة، وقد قال تعالى: «أم لهم سلم يستمعون فيه». وقال زهير: ولو نال أسباب السماء بسلم وقد ذكر البحتري «السلم» فوضعه في موضعه، فقال فى خضر بن أحمد التغلبي: والعلا سلم مراقيه خطا ... ب أبي عامر إلى مسعوده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 يعني حدوده، فهذا هو الوجه الحسن في معنى «السلم». وقال كثير في عبد العزيز بن مروان: إلى حسب عال بني المرء قبله ... أبوه له فيه معاريج سلم وهذا أيضًا معنى صحيح حسن. والجيد في هذا المعنى قول أبي تمام في أبي دلف: محاسن من مجد متى تقرنوا بها ... محاسن أقوام تكن كالمعايب معال تمادت في العلو كأنها ... تطالب ثأرًا عند بعض الكواكب وقال في خالد بن يزيد بن مزيد: وما زال يقرع تلك العلى ... مع النجم مرتدياً بالعماء ويصعد حتى لظن الجهو ... ل أن له منزلاً في السماء «العماء» السحاب الرقيق، وأين هو من النجم؟، إن بينهما لبوناً بعيدًا، ولفظ «العماء» قبيح أيضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 وقد أتى البحتري بما هو أبلغ من هذا فقال: لمحمد بن علي الشرف الذي ... لا يلحظ الجوزاء إلا من عل ثم أفسد المعنى، بأن حط الممدوح عن هذه الرتبة إلى ماهو دونها فقال: عال على نظر الحسود كأنما ... جذبته أفراد النجوم بأحبل فبين أن ينظر إلى الجوزاء من عل، وبين أن تكلف النجوم أن تمده بالحبال، فرق كبير. والعذر له في هذا أن يقال: إن البيت الأول أراد به شرفه، والبيت الثاني أراد به نفسه. ثم جاء بعده ببيت في غاية الجودة، ولكنه أساء من حيث أجاد، لأنه عرض نفسه لغضب كل سيد شريف ماجد، من خليفة إلى ما هو دونه، وهو قوله: أو مارأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول فلما سمع هذا البيت بعض من له فهم من الخلفاء والملوك وكبار الأمراء -وهو في القصيدة المعشوقة، التي يصف فيها الفرس والسيف، وهي من أشهر شعره، والناس أكثر لها رواية، وقد ذكر دعبل منها في «كتاب الشعراء» الذي ألفه عدة أبيأت- كان بوده أن يقول له: اذهب فالتمس الجدوى من الموضع الذي ألقى المجد فيه رحله، ولم يتحول عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وقال البحتري: لبني مخلد على كل حي ... أثر من عطائهم ليس يعفو مجدهم فوق مجد من يتعاطى ... سعيهم والسماء للأرض سقف وهذا-لعمري- حسن جدًا، ومثله قول عمارة بن عقيل: هم الأفق فوق الناس والناس تحتهم ... وآل عبيد الله فيه كواكبه وأجود من هذا قول التياح بن مالك البجلي: لكل أناس بلدة يسكنونها ... وأنتم سماء فوقها ونجومها وقال في ابن ثوابة: يفوت احتفال القوم أول عفوه ... وقد بلغوا أو جاوزوا آخر الجهد مخفضة أقدارهم تحت قدره ... كما انخفضت سفلى تهامة عن نجد ومثل قول أبي تمام: .......... قالت له الأخرى بلغت تقدم قوله أيضًا في أبي دلف: إذا ارتقى طود مجد ظل في نصب ... أو يرتقي من سواه ذروة شعفا جم التواضع والدنيا بسؤدده ... تكاد تهتز من أطرافها صلفا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وهذا أحسن جدًا، رقد ذكرته فيما قبل هذا الباب، وذكرت معنى «الصلف». ثم قال بعد هذا وأساء وقبح: لو لم تفت مسن المجد من زمن ... بالبأس والجود كان المجد قد خرفا وهذا مما عابه به الناس كلهم. وأقبح من هذا ما قاله في محمد بن المستهل: أبوك شقيق لم يزل وهو للندى ... شقيق وللملهوف حرز ومعقل أفاد من العليا كنوزًا لو أنها ... صوامت مال مادرى أين تجعل كان يجعلها حيث تجعل كنوز الأموال تحت الأرض، وسقاط الشعراء لا يرضون لأنفسهم بمثل هذا، وأظنه سمع قول كثير: ولو أن حبي أم ذي الودع كله ... لأهلك مال لم تسعه المسارح أراد: لو أن حبى يأ أم ذي الودع كله مال، أي: إبل، «لم تسعه المسارح»، أي: المواضع التي تسرح فيها، وهذا معنى لا حلاوة فيه، فنقله أبو تمام إلى المعالي والمجد، وجاء به على أقبح لفظ وأهجنه وأسخفه، ثم أتى بعد ذلك ببيت جيد، إلا أن فيه لفظة هي حشو، وليست حشوًا على مذهبه وذلك قوله: فحسب امريء أنت أمرء آخر له ... وحسبك فخرًا أنه لك أول فقال: «أنت امرؤ»، و «امرؤ» مستغنى عنها. وقال البحتري في وصف محمد بن يوسف: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 أغر إذا عدت مناقب فعله ... توهمت أن الحق منهن باطل وإن جاءنا يحكي أباه فلم تزل ... له من أبيه شيمة وشمائل هما شرع في المكرمات فهذه ... أواخر أخلاق وتلك أوائل وقال البحتري في الفتح بن خاقان، يذكر ابنه: ومليت عيشًا من أبي الفتح إنه ... سليل العلا والسؤدد المترافد متى ما تشد مجدًا تجده بهمة ... تقيل فيها ماجداً بعد ماجد وإن يطلب مسعاة مجد بعيدة ... ينلها بجد أريحي ووالد كما مدت الكف المضاف بنانها ... إلى عضد في المكرمات وساعد يسرك في هدي إلى الرشد ذاهب ... ويرضيك في هم إلى النجم صاعد وقال البحتري: يبين بالفضل أقوام فيفضلهم ... موحد بغريب الذكر منفرد توحد القمر الساري بشهرته ... وأنجم الليل نثر حوله بدد أحيت خلال أبي ليلى أبا دلف ... ومثله أوجد الأقوام ما افتقدوا وقوله: «أوجد الأقوام ما افتقدوا» في غاية الحسن والحلاوة. وقول أبي تمام في أبي سعيد: وبالهضب من أبرشتويم ودروذ ... علت بك أطراف القنا فاعل وازدد أفادتك فيها المرهفات مآثرًا ... تعمر عمر الدهر إن لم تخلد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وهذا هو المدح الشريف، الذي لا يدفع حسنه وجودته. وقال فيه: فأفخر فما من سماء للعلى رفعت ... إلا وأفعالك الحسنى لها عمد وقال في محمد بن حسان الضبي: إذا نوى الدهر أن يودي بتالده ... لم يستعن غير كفيه بأعوان لو أن إجماعنا في فضل سؤدده ... في الدين لم يختلف في الأمة اثنان وقال في خالد بن يزيد بن مزيد: طلبت ربيع ربيعة الممهي لها ... ووردن ظل ربيعة الممدودا ذهليها مريها مطريها ... يمنى يديها خالد بن يزيدا بكريها علويها صعبيها الـ ... ـحصنى شيبانيها الصنديدا نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نورًا ومن فلق الصباح عمودا عريان لا يخبو دليل من عمى ... فيه ولا يبغي عليه شهودا شرف على أولي الزمان وإنما ... خلق المناسب ما يكون جديدا لو لم تكن من نبعة نجدية ... علوية لظننت عودك عودا قوله: «الممهى لها» أي: الذي هو غياثها، يقال: قد أماه وأمهى، إذا أكثر من سقي الماء، وقوله: «عريان» يعني النسب مكشوفًا لا ستر عليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وقوله: «لا يخبو» أي: لا يخبو نوره «دليلاً»، أي: لا يخبو في حال دلالته على نفسه. «من عمى فيه» أي: من ظلمة أو شك «ولا تبغي عليه شهودا». وهذا بيت رديء، وما كانت به إليه حاجة مع قوله: «نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا»، وهذا أجود بيت فيها، وأجود ما وصف به النسب الشريف، وسائر الأبيات رديء، ولا طائل فيه. وقوله: «لظننت عودك عودا» من عثاراته. وقال في عبد الله بن طاهر: سما للعلى من جانبيها كليهما ... سمو عباب الماء جاشت غواربه قوله: «من جانبيها كليهما» لم يفدنا «بكليهما» فائدة، لأن أحدًا لم يكن يظن أنه سما لها من جانب واحد. والتوكيد -لعمري- غير منكر ولكنه يكون في موضع أحسن منه في غيره ولو قال: سما للعلى حتى علا ذروة العلى لكان هذا أشبه بمذهبه، وأظن أنه أخذ هذا من قول امريء القيس: سمو حباب الماء حالاً على حال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ولكن الجيد النادر قوله في خالد بن يزيد أبياتًا جيدة: هصور المعالي لا يزيد أذاله ... ولا مزيد ولا شريك ولا الصلب ولا مرتا ذهل ولا الحصن غاله ... ولا كف شأويه على ولا صعب مضوا وهم أوتاد نجد وأرضها ... يرون عظاما كلما عظم الخطب وما كان بين الهضب فرق وبينهم ... سوى أنهم زالوا ولم يزل الهضب لهم نسب كالفجر ما فيه مسلك ... خفي ولا واد عنود ولا شعب هو الإضحيان الطلق رفت فروعه ... وطال الثرى من أصله وزكا الترب فيا وشل الدنيا بشيبان لا تغض ... يا كوكب الدنيا بشيبان لا تخبو فما دب إلا في بيوتهم الندى ... ولم ترب إلا في حجورهم الحرب أولاك بنو الأحساب لولا فعالهم ... درجن فلم يوجد لمكرمة عقب جعلت نظام المكرمات فلم تدر ... رحى سؤدد إلا وأنت لها قطب إذا افتخرت يومًا ربيعة أقبلت ... مجنبتي مجد وأنت لها قلب يجف الثرى منها وتربك لين ... وينبو بها ماء الغمام وما تنبو لو لم يقل أبو تمام غير هذه القصيدة لكان بها شاعرًا محسنًا مقدمًا. / قوله: «واد عنود»، فالعنود ها هنا: المعوج، العادل عن الوضوح، وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 عند فلان عن الحق: عدل، والمعاندة: أن تعدل عنه، ويعدل عنك، والعنود من الإبل: الذي لا يخالطها، إنما هو أبدًا في ناحية منها. و «الشعب»: كل فرجة بين جبلين، يريد أنه نسب عال على كل شيء، وظاهر غير باطن. و «الإضحيان»: المضيء الشديد البياض. و «الطلق»: يقال: ليلة طلقة إذا كانت مقمرة، عن يعقوب، وقال غيره إذا لم يكن فيها ريح ولا شيء مؤذ. و «رفت فروعه» لمعت من غضاضتها وحسنها. قوله: «فيا وشل الدنيا» فالوشل الماء القليل، وما قطر من شيء فهو وشل، وقد عيب بهذا، وقيل: ما كان ينبغي أن يجعله وشلاً، بل كان يجب أن يجعله بحرًا. وما ذهب عندي في هذا إلا إلى مذهب صحيح، لأن العرب تجعل النطفة الماء الكثير، والماء القليل، ويقولون: وصلنا إلى هذه النطفة، يعنون البحر، وإنما ذلك تقليل على وجه التكثير والتعظيم، ومثل هذا كثير شائع في كلامهم، فأخرج أبو تمام الوشل ها هنا مخرج التعظيم، والله أعلم، لأنه يعلم أن الوشل الماء القليل، وذلك قوله في بابك: بحر من المكروه عب عبابه ... ولقد يرى وشلاً من الأوشال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وقد أساء عندي في قوله: فما دب إلا في بيوتهم الندى كإساءة البحتري في قوله: أو ما رأيت المجد ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول وأعظم إساءة منه أبو تمام، لأنه إنما ذكر الندى وهو طائي، فأي شيء ترك لحاتم، ودع ما سواه، وفي المدح متسع لمن يريد المبالغة والإغراق، ولا يخص واحدًا بفضيلة دون الناس جميعاً. وقال في عمر بن طوق: لكن بنو طوق وطوق قبلهم ... شادوا المعالي بالبناء الأغلب فستخرب الدنيا وأبنية العلى ... وقبابهم جدد بها لم تخرب رفعت بأيام الطعان وغشيت ... رقراق لون للسماحة مذهب يا طالباً مسعاتهم لينالها ... هيهات منك غبار ذاك الموكب أنت المعنى بالغواني تبتغي ... أقصى مودتها برأس أشيب وطيء الخطوب وكف من غلوائها ... عمر بن طوق نجم أهل المغرب ملتف أعراق الوشيج إذا انتمى ... يوم الفخار ثري ترب المنصب في معدن الشرف الذي من حليه ... سبكت مكارم تغلب ابنة تغلب قال: «تغلب» لأنها اسم القبيلة، وهي ابنة تغلب، الذي نسبت إليه. / وقال البحتري في أبي الخطاب الطائي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وصلت بنو عمران يوم فخاره ... بمناقب طائية الأنساب قوم يضيمون الجبال وقد رست ... أعلامها برجاحة الألباب سحبوا حواشي الأتحمى وإنما ... وشي البرود على أسود الغاب نزلوا من الجبلين حيث تعلقت ... غر السحائب من ربى وهضاب مستمسكين باولية سؤدد ... وبمنصب في أسودان لباب يستحدثون مكارمًا قد أحسروا ... فيها نفوسهم من الإتعاب فكأنما سبقوا إلى قدم العلا ... في الغوث أوغلبوا على الأحساب «أسودان» هو: نبهان بن عمرو بن غوث بن طيء. وقال البحتري في أبي الحسن بن عبد الملك بن صالح: أخذوا النبوة والخلافة فانثنوا ... بالمكرمات كثيرها وقليلها لو سارت الأيام في مسعاتهم ... لتنالها لتعطفت في طولها وقال في ابن بسطام: أخ لي متى استعطفته أو جفوته ... فنفسي إلى نفسي أظل أمورها إذا ما بدا أخلى المعالي دخيلها ... وأنسى صغير المكرمات كبيرها إذا ذكرت أسلافه وتشوهرت ... أماكنها قلت النجوم قبورها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وما المجد في أنباء جردان إذ رسا ... بعارية ينوى ارتجاعًا معيرها إذا ماتت الأرض ابتدوها كأنما ... إليهم حياها أو عليهم نشورها ودون علاهم للمسامين برزخ ... إذا كلفته العير طال مسيرها «البرزخ» ها هنا: ما بين السماء والأرض، كل ما حجز بين الشيئين فهو برزخ، وناهيك بهذا مدحا، وحسبك بهذا الشرف شرفًا. والبحتري أحذق الناس بمدح أشراف العجم، وذكر مناقبهم، ومن ذلك ما قال حين مدح أحمد بن علي: صاف أمثال أحمد بن علي ... تعترف فضله على من تصافي أريحي إما يوافق ما تهـ ... ـوى وإما يكفيك شر الخلاف همة ترذل الدنايا ونفس ... شرفت أن تهم بالإشراف وعلا في الصبهبذين وددنا ... أنها في الزيود والأعواف قدمته قوادم الريش منهم ... حين خاست بآخرين الخوافي رهط سابور ذي الجنود وطلا ... ب مساعي سابور ذي الأكتاف عمروا يخلفون باطل ما ظن (م) ... العدى بالثقاف قبل الوقاف / إن بلوناك كنت واحد آحا ... د لهم كثرة على الآلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وهذا حسن جداً. وقال في بني الفياض: يرذل البحر في بحور بني الفيـ (م) ـاض إذ جشن بالنوال ففضنا واسطو سؤدد فليس ينادو (م) ن إلى المجد من هناك وهناً نزلوا ربوة العراق ارتياداً ... أي أرض أشف ذاكراً وأسنى بين دير العاقول مرتبع يشـ ... ـرف محتله إلى دير قنى حيث بات الزيتون من فوقه النخـ ... ـل عليه ورق الحمام تغنى ما المساعي إلا المكارم ترتا ... د وإلا مصانع المجد تبنى وقال في بني الجراح: لأخبرنك عن بني الجراح ... وعتادهم من سؤدد وسماح ومكانهم من فارس حيث التقت ... غرر الجياد تعان بالأوضاح من بيت مكرمة وعز أرومة ... بسل على المتغلبين لقاح ورثوا الكتابة والفروسة قبلها ... عن كل أبيض منهم وضاح بصدور أقلام ترد إليهم ... شرف الرياسة أو صدور رماح وقال في أحمد بن محمد: أعدد ود أبي نصر ونصرته ... لشكة الدهر من ناب وأظفور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 تنازعته ملوك العجم وارثة ... عن شمر يرعش فخراً جد مذكور مردد من قديم في نباهتهم ... كالمشتري لم يكن مستحدث النور وقال: ليهنيء بني يزداد أن أكفهم ... خلائف أنواء السحاب الرواجس ذوي الحسب الزاكي المنيف علوه ... على الناس والبيت القديم القدامس إذا ركبوا زادوا المواكب بهجة ... وإن جلسوا كانوا صدور المجالس ينو الأبحر المسجورة الفيض والظبا الـ ... ـقواضب عتقاً والأسود العنابس لهم منتمى في هاشم بولائهم ... يوازي علاهم في أرومة فارس وأقلام كتاب إذا ما نضضتها ... إلى نشب كانت رماح فوارس يرون لعبد الله فضل مهابة ... تطاطيء لحظ الأبلج المتشاوس يخلي الرجال مجده لا تلومه ... وهم نابهو الأخطار شم المعاطس ولم أر مثل الفضل ضنت بغيره ... وعادت به النفس الحسود المنافس لا كالعطايا يشرف النجم ما بنت ... وهن منال للأكف اللوامس أبا صالح إن المحامد تلتقي ... بساحة رحب من فنائك آنس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 بحيث الثرى رطب يرف نباته ... رفيفاً وعهد الدهر ليس بخائس فداؤك أبناء الخمول إذا هم ... ألامو وأرباب الخلال الخسائس وإن كنت قد أخرت ذكر معونتي ... وألغيت رسمي في الرسوم الدوارس وقال: ينولنا حمولة من بعيد ... ويحرمنا رجال من قريب سحاب الجود منهل العزالى ... وريح منه صادقة الهبوب له في مارج النار انتساب ... بأمات نقيات الجيوب سراة الإنس والجنان أدت ... إلى جوذرز نجدتها وبيب تطول لها الأعاجم حين يثنى ... وتعرفها القبائل للشعوب وقال البحتري في مدح العجم: ما للمكارم ما تريد سوى أبي ... يعقوب إسحاق بن إسماعيل وإلى أبي سهل بن نوبخت انتهى ... ما كان من غرر لها وحجول نسب كما اطردت كعوب مثقف ... لدن يزيدك بسطة في الطول يفضي إلى بيب بن جوذرز الي ... شهر المكارم بعد طول خمول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الوارثين من السرير سراته ... عن رب كل تحية مأمول والضاربين بسهمة معروفة ... في التاج ذي الشرفات والإكليل وهذا حسن جدًا. وقال في بني نوبخت: وإذا أبو الفضل استعار سجية ... للمكرهات فمن أبي يعقوب لا يحتذي خلق القصي ولا يرى ... متشبهًا في سؤدد بغريب يمضي عزيمته ويوقد رأيه ... عزمات جوذرز وسورة بيب شرف تتابع كابرًا عن كابر ... كالرمح أنبوبًا على أنبوب وقد قال بشار نحو هذا: خلقوا قادة فكانوا سواء ... ككعوب القناة تحت السنان فهم خمسة كخمس من الديـ ... ـن كفلنا بهن للديان وهذا هو المعنى الحلو، لا قول أبي تمام: «كثلاثة القدر» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 «ثلاثة كثلاثة» وأظن البحتري على هذا حذا قوله: في فتية طلبوا غبارك إنه ... رهج ترفع عن طريق السؤدد كالرمح فيه بضع عشرة فقرة ... منقادة تحت السنان الأصيد وقد أتى بشار بهذأ المعنى في أوصاف النسأء فقال: ويك إن النساء بيضاً وأدمًا ... صبغة مثل صبغة الأتراب / ككعوب القناة مشتبهات ... وكأن الرباب أخت الرباب وقأل البحتري في نحو هذا: وإذا رأيت شمائل ابني صاعد ... أدت إليك شمائل ابني مخلد كالفرقدين إذا تأمل ناظز ... لم يعل موضع فرقد عن فرقد وقال في صاعد بن مخلد: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 عقيد المعالي ماونت في طلابه ... لتعلقه ولا ونى في طلابها إذا طمع الساعون أن يلحقوا به ... تمهل قاب العين أو فوت قابها إذا ما تراءته العشيرة طالعًا ... عليها جلت ظلماءها بشهابها وإن أنهضته كافئاً في ملمة ... من الدهر سلت نصلها من قرابها إذا اضطحبت آلاؤه غطت الربى ... وحسن اللآلي زائد في اصطحابها جاء بهذا على القلب، وإنما هو: واصطحاب اللآلي زائد في حسنها. وقال في إسماعيل بن بلبل: صغرت مقادير الرجال وقاربوا ... في السعي حتى ما ترى لك حاسدا لو نافسوك لخالسوك من الندى ... ما يصلحون به الزمان الفاسدا تأبى الألوف على الألوف ترى لها ... تبعاً وتتبع الألوف الواحدا قعدوا وأين قيام من قد طلنه ... شرفات ما تبني ذرى وقواعدا ولقد برعت على الملوك محلة ... علوًا وأفنية يرقن الرائدا ومددت تطلب الذي لم يطلبوا ... كفًا تناولك السماء وساعدا وهذا -لعمري- مدح يعلو كل مدح، قوله «شرفات ما تبني» أي: طالته الشرفة، وطالته القواعد أيضاً. قال في إسماعيل أيضاً: ومكرمة جلى أبو الصقر طامحاً ... إليها كما جلى طريدته الصقر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 تجاوزها المغمور لا ينثني لها ... بعطف وينحو نحوها النابه الغمر وقال في ابن المدبر: وما زالت العيس المراسيل تنتحي ... فيقضنى إلى آل المدبر حاجها أناس قديم المكرمات وجدتها ... لهم وسرير العجم فيهم وتاجها إذا خيموا في الدار ضاقت رباعها ... وإن ركبوا في الأرض ثار عجاجها مليون أن تسقى الديار غياثها ... بأوجههم حتى تسيل فجاجها ثم اعتد لإبراهيم بما لا شيء أحسن منه فقال -ليس من الباب-: يد لك عندي قد أبر ضياؤها ... على الشمس حتى كاد يخبو سراجها فإن تتبع النعمى بنعمى فإنه ... لزين اللآلي في النظام ازدواجها وللبحتري افتنان في ذكر السؤدد والمجد والشرف، وملح كثيرة معجبة، فمن ذلك قوله في أبي جعفر الطائي: معطى من المجد مزداد برغبته ... يجري على سنن منه وأسلوب كالعين منهومة في الحسن تتبعه ... والأنف يطلب أقصى غاية الطيب وقال في إسحاق بن كنداج: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 شرف تزيد بالعراق إلى الذي ... عهدوه بالبيضاء أو ببلنجرا مثل الهلال بدا فلم يبرح به ... صوغ الليالي فيه حتى أقمرا قوله: «صوغ الليالي» من أحسن لفظة، وأوقعها في أحسن موضع يليق بها. وقال في محمد بن حميد: أبني حميد طال مجدمحمد ... لما تطاولتم لبعد مناله ولكم وإن لا تلحقون بشأوه ... شرف تظل الشمس تحت ظلاله لا تحسدوه فضل رتبته التي ... أعيت عليكم وافعلوا كفعاله متنقل من سؤدد في سؤدد ... مثل الهلال جرى إلى استكماله وقال في أبي عامر الخضر بن أحمد التغلبي: واغر يرفعه أبوه وكم ... لكريم قوم من أب يضعه إن سرك استيفاء سؤدده ... بالرأي تبحثه وتنتزعه فانظر بعينك أية لحقت ... ضوء الغزالة أين منقطعه وحسبك بهذا حسناً وحلاوة. ومن أعجب ما أتى به في هذا الباب قوله في علي بن مر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 ومصعد في هضاب المجد طالعها ... كأنه لسكون الجأش منحدر مازال يسبق حتى قال حاسده ... له طريق إلى العلياء مختصر وقال أبو تمام في عمر بن عبد العزيز الطائي: لله در بني عبد العزيز فكم ... أردوا عزيز عدى في خده صعر تتلى وصايا المعالي بين أظهرهم ... حتى لقد ظن قوم أمنها سور بل ليت شعري من هاتا مآثره ... ماذا الذي ببلوغ القوم ينتظر وهذا أيضًا جيد حسن. وقال البحتري: لا تنظرن إلى الفياض من صغر ... في السن وانظر إلى المجد الذي شادا إن النجوم نجوم الليل أصغرها ... في العين أذهبها في الجو إصعادا وقال في الطائي أبي جعفر: بلغ السيادة في بدو شبابه ... إن السواد مظنة للسؤدد في كل يوم رتبة يزدادها ... ومشارف النقصان من لم يزدد / وقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 فتى لم ينكبه الشباب عن الحجى ... ولم ينس عهد اللهو والشيب شاغله إذا سؤدد دانى له مد همه ... إلى سؤدد نائي المحل يزاوله توقع أن يحتلها درج العلا ... كما انتظرت أوب الهلال منازله وكم عدة للمجد بادر فوتها ... وعاثر حمد أعلقته حبائله وقال في إبراهيم بن الحسن بن سهل: يفديك قوم ليس يوجد منهم ... في الحمد مرئي ولا مسموع خدعوا عن الشرف المقيم تظنياً ... منهم بأن الواهب المخدوع باتت خلائقهم على أموالهم ... وكأنهن جواشن ودروع قنعوا بميسور الفعال وأوهموا ... أن المكارم عفة وقنوع كلا وكل مقصر متجهور ... عند الحطيم طوافه أسبوع لا يبلغ العلياء غير متيم ... ببلوغها يعصي لها ويطيع وقال: أو ماترون الشامتين أمامكم ... ووراءكم من مضمر أو مظهر من غير ذنب جئتموه سوى علا ... زهر لجدكم الأغر الأزهر فكأنما شرف الشريف إذا انتمى ... جرم جناه إلى الوضيع الأصغر وقال البحتري في إسماعيل بن بلبل، وهو من بني شيبان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 سيجبر كسرى المصقليون إنهم ... بهم تدفع الجلى ويجتبر الكسر فما تتعاطى ما ينالونه يد ... ولا يتقضى ماينيلونه شكر إذا اتجروا في سؤدد وتزايدوا ... فأنفق ما أبضعت عندهم الشعر يجازي القوافي بالأيادي مبرة ... تضاعيفها عن كل واحدة عشر وما سود الأقوام مثل عمارة ... إذا نسي الأقوام شاع لهم ذكر تجنب سواهم للعلا واتباعها ... بسعي وعرس حيث أدركك الفجر وقال في الهيثم بن عثمان الغنوي: لا يقتل الحساد أنفسهم فقد ... هتك الصباح دجى الهزيع المظلم غنيت غنى بالذرى من مجدها ... وقبائل بين الحصى والمنسم فقفوا على أحسابكم وهبوطها ... ودعوا العلو فإنه في الأنجم وقال فيها: ولقد جريت إلى المعالي سابقاً ... وأخذت حظ الأول المتقدم وكبا عدوك حين رامك للتي ... تخشى فقلنا لليدين والفم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 كذا والله يكون المدح، فليقل الشاعر، أو فليمسك. وقال أبو تمام في بني حميد: عهدي بهم تستنير الأرض إن نزلوا ... فيها وتجتمع الدنيا إذا اجتمعوا ويضحك الدهر منهم عن غطارفة ... كأن أيامهم من حسنها جمع وقال أبو تمام: إذا أكدت سوام الشعر أضحت ... عطاياه وهن لها مراعي سعى فاستنزل الشرف اقتسارًا ... ولولا السعي لم تكن المساعي وما في الأرض أنصح للمعالي ... إذا دوجين من جود مطاعقوله: «سعى فاستنزل الشرف اقتسارًا» ليس بالمعنى الجيد، بل هو عندي هجاء مصرح، لأنه إذا استنزل الشرف فقد صار غير شريف، لأنك إذا ذممت رجلاً شريف الآباء، كان أبلغ ما تذمه به أن تقول: قد حط شرفه، ووضع من قدره وشرفه، وقد بينت هذا في أغاليطه مشروحًا مستقصى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وقوله: وما في الأرض أنصح للمعالي ... إذا دوجين من جود مطاع فياويحه، بلغ به عشق الاستعارة إلى نصح المعالي ومداجاتها، سوأة له. وقد غضب ديك الجن على الدهر، وذكر أنه لا ينصحه، ولست أدري أيهما تبع صاحبه في هذا الجنون المحض فقال: لا جرد الدهر لي كفًا تعاقدني ... عقدًا من النصح إلا وهو منقوض ولا بسطت يدًا للدهر أنصحه ... ما عشت إلا بنصح فيه تمريض قد سود الدهر ما كانت تبيضه ... من الأيادي لدى السود والبيض وقال أبو تمام -ويكتب في أول الباب-: لآل وهب أكف كلما اجتديت ... فعلن في المحل مالا تفعل الديم قوم تراهم غيارى دون مجدهم ... حتى كأن المعالي عندهم حرم وهذا من مختار معانيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وقال: يكاد نداه يتركه عديمًا ... إذا هطلت يداه على عديم تراه يذب عن حرم المعالي ... فتحسبه يدافع عن حريم وهذا أيضًا مثل الأول في الجودة أو قريب منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 * باب في الحسد قال أبو تمام: مخامري حسد ماضر غيرهم ... كأنما هو في أبدانهم مرض وقال: هم حسدوه لا ملومين مجده ... وما حاسد في المكرمات بحاسد / وقال: واعذر حسودك فيما قد خصصت به ... إن العلى حسن في مثلها الحسد وقال: ممتليء الصدر والجوانح من ... رحمة مملوئهن من حسده وقال: وإذا سرحت الطرف حول قبابه ... لم تلق إلا نعمة وحسودا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وقال: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود لولا التخوف للعواقب لم تزل ... للحاسد النعمى على المحسود وهذا غاية في حسنه وحلاوته وصحة تمثيله، وهو إحسانه المشهور. وقال: مشمر ما يكل في طلب الـ ... ـعلياء والحاسدون في طلبه أعلاهم دونه وأسبقهم الـ ... إلى العلى واطيء على عقبه وقال: أحب مدانيه إليه مكاشح ... ينافسه في سؤدد ويماجده محا حقده عند التيقن أنه ... على المجد يومًا لا على المال حاسده وقال البحتري: نعم الله عنده وعليه ... علل ما يبل منها حسوده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وقال: مكارم هن الغيظ بات غليله ... يضرم في صدر الحسود المكابد ولن تستبين الدهر موضع نعمة ... أذا أنت لم تدلل عليها بحاسد وهذا من قول أبي تمام. وقال: حاد عن مجدك المسامي وأمعنـ ... ـت علواً فصد عنك الحسود وقال: يئس الحاسدون منك وما مجـ ... ـدك مما يرجوه ظن الحسود وقال: ويرد غرب مساجليك إذا غلوا ... سعي أطلت به عناء الحاسد جهدوا على أن يلحقوك وأفحش الـ ... ـحرمان يقدر للحريص الجاهد وهذا حسن جداً. وقال: نعم إذا ابتل الحسود بسيبها ... أحيته بالإفضال وهي حتوفه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 وقال: وملأت أحشاء الحسود بلابلاً ... فارتد يحسد فيك من لم يحسد وقال في البيعة التي أخذها المتوكل لولاة عهوده: فنيت أحاديث النفوس بذكرها ... وأفاق كل منافس وحسود واليأس إحدى الراحتين ولن ترى ... تعبًا كظن الخائب المكدود وقال في مدح ابن طاهر: ومرضى من الحساد قد كان شفهم ... توقع هذا الأمر قبل وقوعه وما عذرهم في أن تغل صدورهم ... على ناشر الإحسان فيهم مشيعه؟ لئن شهر السلطان أمضى سيوفه ... ورشح عود الملك أزكى فروعه فلا عجب أن يطلب السيل نهجه ... وأن يستقيم المشتري من رجوعه وهذا لاشيء أحسن منه. وقال: وكم لك في الناس من حاسد ... وفي الحسد النزر حظ الحسود وقال: وكم أنافت من الأبناء مأثرة ... مشهورة تدع الآباء حسادا وقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 شغل الحاسدين أن لم يبيتوا ... قط من همه ولا أشغاله فاضحاً سعيهم إذا ما تعاطوا ... سعيه فحش نقصهم عن كماله وقال: صغرت مقادير الرجال وقاربوا ... في السعي حتى ما ترى لك حاسدا لو نافسوك لخالسوك من الندى ... ما يصلحون به الزمان الفاسدا وقال: أبني حميد طال مجد محمد ... لما تطاولتم لبعد مناله ولكم وإن لا تلحقون بشأوه ... شرف تظل الشمس تحت ظلاله لا تحسدوه فضل رتبته التي ... أعيت عليكم وافعلوا كفعاله وقال: لا يقتل الحساد أنفسهم فقد ... هتك الصباح دجى الهزيع المظلم وكبا عدوك حين رام بك التي ... تخشى فقلنا لليدين وللفم وقال: محسد بخلال فيه فاضلة ... وليس تفترق النعماء والحسد وقال: محسد وكأن المكرمات أبت ... أن توجد الدهر إلا عند محسود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وقال: خلائق ما تنفك توقف حاسدًا ... له نفس في إثرها متراجع ولن ينقل الحساد مجدك بعدما ... تمكن رضوى واطمأن متالع وقال: بفضيلة في النفس توجد عنده ... بفضائل الآباء والأجداد ومحلة تعلو فتسقط دونها ... همم العدى ونفاسة الحساد وقال: هبل الحسود لقد تكلف خطة ... تبدي الخزاية في وجوه الحسد لؤمت خلائقهم فكذب سعيهم ... عن سعي فرد في المكارم أوحد وقال: يئس الحاسدون منك وكانوا ... أسفاً ينظرون نحوك حولا ورأوا أنهم إذا وصلوا تلـ ... ـك المساعي بالفكر ذابوا نحولا فثنوا عنك أعيناً وقلوباً ... لم يردوا إلا خسيراً كليلا وكفاني على الذي يوجد الفضـ ... ـل لديه بالحاسدين دليلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 قد تصرفا في هذا الباب تصرفاً حسناً، غير أني أفضل أبا تمام لقوله: «وإذا أراد الله نشر فضيلة» لأنه معنى متناه في حسنه وحلاوة لفظه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 * الجود والكرم : هذا باب يعول عليه الشعراء في المديح، لأن الجود قد يكون في الملك والسوقة، والشريف والدون. وأنا الآن أميز في هذا الكتاب أنواع الجود والكرم، وأنتزع من القصائد الأبيات المتجانسة، وأبوبها أبواباً، وأوازن بينها، ليصح القول، ويلوح التفضيل، فأبتديء بما قالاه: في الرجاء والتأميل ، - وفي الوعد وإنجازه، - وفي الابتداء بالعطاء، - وفي البشر عند السؤال، - وفي الإكثار من العطاء، - والقصد والإسراف، - وتعجيل العطاء، - ومتابعة العطاء، - وتشبيه جود الجواد بالسحاب والغيث والأنواء، وبالبحر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 - وفي خبط الجواد بنائله من غير تمييز، - وفي عذل الجواد على الجود، - وفي تعجرف الجواد على ماله حتى يتلفه، - ودفع جود الجواد وعطاياه لنوائب الدهر، - وإعطاء الجواد حتى لا يجد من يعطيه، - وفي التذاذ الجواد بالجود، - وإغناء الجواد للسائلين حتى يكونوا مسئولين، - واكتساب الشرف بعطاء الجواد، - وفي اعتذار الجواد بعد العطاء والاعتذار له، - وفي إخفاء الجواد لنائله، - وفي شفاعة الجواد إلى غيره مع مايجود به، - وفي ما استنه الكريم للناس من الكرم حتى اقتدوا به، - وفي نوادر من باب الجود، - وفي الاعتداد بنعم الممدوحين، - وفي الشكر والثناء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 * الرجاء والتأميل قال أبو تمام: رجاؤك للباغي الغنى عاجل الغنى ... وأول يوم من لقائك آجله هذا بيت في غاية الحسن والحلاوة، يقول: عاجل الغنى لمن يبتغيه عندك هو رجاوة إياك، وآجل الغنى هو أن يلقاك، أي ليس يتأخر الغنى عنه بعد لقائك. ونحو صدر هذا البيت قول البحتري: ما فقدنا الإعدام حتى مددنا ... أملاً نحو سيبك الموجود صدر بيت أبي تمام أجود وأبلغ وأجمع من بيت البحتري بأسره. وقال أبو تمام: رأيت رجائي فيك وحدك همة ... ولكنه في سائر الناس مطمع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 أخذه البحتري فقال: ثنى أملي فاختاره عن معاشر ... يبيتون والآمال فيهم مطامع وقال أبو تمام: ملك إذا خاض المسامع ذكره ... خف الرجاء إليه وهو ركين وقال: أمل من الآمال أحكم فتله ... فكأنه مرس من الأمراس وقال أبو تمام أيضًا: ترد الظنون به على تصديقها ... ويحكم الآمال في الأموال وقال البحتري: غمر النوال إذا الآمال أكذبها ... مثال نيل من الأقوام ضحضاح بيت أبي تمام ألطف معنى في تحكيمه الآمال في الأموال، وبيت البحتري اكثر ماء ورونقًا. وقال أبو تمام: إذا أخذته هزة المجد غيرت ... عطاياه أسماء الأماني الكواذب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 يرى أقبح الأشياء أوبة آمل ... كسته يد المأمول حلة خائب وأحسن من نور يفتحه الندى ... بياض العطايا في سواد المطالب «بياض العطايا في سواد المطالب»، إنما نقله من قول الأخطل: رأين بياضًا في سواد كأنه ... بياض العطايا في سواد المطالب / ذكره ابن أبي طاهر في سرقاته، إلا أن قول أبي تمام: « .... من نرر يفتحه الندى» في غاية الحلاوة. وقوله: ...... غيرت ... عطاياه أسماء الأماني الكواذب فالأماني هي الأكاذيب، أي أعطى أصحاب الأماني ما يتمنونه من الأباطيل فصارت حقائق وزال عنها اسم الأماني. وقال البحتري: جلا أوجه الآمال حتى أضاءها ... هلال عليه بهجة وقبول وهذا في غاية الحسن. وقال البحتري أيضًا في صحة الأمل: حيث لا تتلى المعاذير ولا ... يطأ اليأس على عقب الأمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وهذا «نمط» من مشهور إحسانه. وقال: موسر من خلائق تتراءى ... من ضروب الربيع أو أشكاله يتضرعن للرجاء دنو الـ ... ـغيم والودق خارج من خلاله «يتصرعن للرجاء» أي: ينحططن إليه، ويدنون منه، وهذا تمثيل حسن جدًا، ومعنى غريب لطيف. وقال أبو تمام: رددت المنى خضرًا تثنى غصونها ... علينا وأطلقت الرجاء المكبلا وهذا البيت في غاية الجودة لفظاً ومعنى، وإطلاقه للرجاء المكبل في غاية الحسن. وقال أبو تمام: أهببت لي ريح الرجاء فأقدمت ... هممي بها حتى استبحن همومي فقوله: «أقدمت هممي» من الإقدام بها، أي: بريح الرجاء، أي: تجاسرت هممي بها، فأقدمت حتى استباحت همومي، وهذا بيت ليس بجيد السبك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وقال أبو تمام في ابن أبي دؤاد: أنت جبت الظلام عن سبل الآ ... مال إذ ضل كل هاد وحاد فكان المغذ فيها مقيم ... وكأن الساري عليهن غاد وضياء الآمال أفسح في الطر ... ف وفي القلب من ضياء البلاد وهذا جيد بالغ. وقال البحتري: وإني لأرجو والرجاء وسيلة ... على بن يحيى للتي هي أعظم فأحسن في قوله: «والرجاء وسيلة» وألطف، وأظنه سمع قول أبي الشيص: بحسب الذي يرجو نداك ذريعة ... إذا لم يكن إلا الرجاء له سبب وقال أبو نواس في مثله: رجوك في قصدهم وأملوا ... وللرجاء حرمة لا تجهل وبيت البحتري أجود من هذين البيتين، وهذا باب الفضل فيه لأبي تمام على البحتري، لأنه تصرف في معاني الرجاء أكثر من تصرف البحتري وفي كل ذاك أحسن وأجاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 * ما قالاه في الوعد وإنجازه وقال: قوم إذا وعدوا أو أوعدوا غمروا ... صدقاً ذوائب ما قالوا بما فعلوا قوله: «ذوائب ما قالوا»، فذوائب كل شيء أعلاه، يريد أن أفعالهم زادت على وعدهم ووعيدهم حتى غمرتها. وقال: فلويت بالموعود أعناق الورى ... وحطمت بالإنجاز ظهر الموعد حطم ظهر الموعد استعارة قبيحة جدًا، والمعنى أيضًا رديء، لأن إنجاز الوعد هو تصحيحه وتحقيقه، وبذلك جرت العادة، أن يقال: قد صح وعد فلان، وتحقق ما قال، فجعل أبو تمام في موضع صحة الوعد حطم ظهره، وهذا إنما يكون إذا أخلف الوعد وكذب، ألا ترى أنهم يقولون: قد مرض فلان وعده وعلله ووعد وعداً مريضًا، فإذا أخلف وعده فقد أماته، فالإخلاف هو الذي يحطم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 ظهر الوعد لا الإنجاز، فلا خفاء بفساد ما ذهب إليه، وكان ينبغي أن يقول: وحطمت بالإنجاز ظهر المال، لأن الوعد كان يصح ويسلم حينئذ، والمال يتلف. وقال: إذا وعد انهلت يداه فأهدتا ... لك النجح محمولاً على كاهل الوعد وكاهل الوعد إذا حمل النجح فمن سبيله أن يكون صحيحًا مسلماً، لا أن يكون محطومًا كما قال في البيت الأول، وهذه استعارة في البيت صحيحة، وإن كان كاهل الوعد قبيحًا. ومثل ذلك في الفساد قوله: إذا ما رحى دارت أدرت سماحة ... رحى كل انجاز على كل موعد وهذا إتلاف الوعد وإبطاله، وإنما ذهب إلى أن الإنجاز إذا وقع بطل الوعد، وليس الأمر كذلك، لأن الوعد ليس بضد للإنجاز، فإذا وقع بطل الوعد، وليس هذا بضد ذاك، بل الوعد الصادق طرف للإنجاز، وسبب من أسبابه، فإذا وقع الإنجاز فهو تمام الوعد، وتصحيح له، وتحقيق وتصديق، فهو بهذا غالط، والمعنى الصحيح قوله: أبلهم ريقاً وكفاً لسائل ... وأنضرهم وعدًا إذا صوح الوعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 فتصويح الوعد هو أن يخلفه الواعد، فيبطل، ولا يصح، و «صوح النبت» إذا جف. ومثله في الصحة قوله: تزكو مواعده إذا وعد امريء ... أنساك أحلام الكرى الأضغاثا فهذا هو الصحيح، أن يكون الوعد يزكو، لا أن يبطل ويذهب، ولله در إبراهيم بن هرمة إذ يقول: يسبق بالفعل ظن سائله ... ويقتل الريث عنده العجل فهذه الاستعارة الصحيحة، أن يقتل العجل الإبطاء، لا أن يقتل الإنجاز الوعد، فأما قوله: نؤم أبا الحسين وكان قدماً ... فتى أعمار موعده قصار وقول البحتري: وجعلت فعلك تلو قولك قاصراً ... عمر العدو به وعمر الموعد فإنر عمر الموعد مدة وقته، فإذا أنجز صار مالاً، فنفاد وقته ليس بمبطل له، بل ذلك نقله من حال إلى حال أخرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 ألا ترى إلى البحتري كيف كشف عن المعنى، وجاءك بالأمر من فصه فقال: يوليك صدر اليوم قاصية الغنى ... بمواهب قد كان أمس مواعدا فبطلان الموعد هو بطلان للشيء الذي الموعد واقع عليه. ثم أتبع هذا البيت بأن قال: سوم السحائب ما بدأن بوارقاً ... في عارض إلا انثنين رواعدا فالعارض: السحاب، وجعل البوارق مثالاً للمواعيد وجعل الرواعد التي هي البوارق على الحقيقة وحالهما واحدة، مثالاً للغيث، الذي هو العطايا فالرواعد ليست بمبطلة للبوارق، بل هي هي، لأن تلك نور يحدثه ازدحام السحاب واصطكاكه، والرعد صوت ذلك الازدحام، فالبرق يرى أولاً، والرعد يسمع ثانياً، وذلك لأن العين أسبق إلى الإبصار من الأذن إلى الاستماع، لأن العين ترى الشيء في موقعه، والأذن لا تسمع الصوت إلا إذا وصل إليها. وقال البحتري: والوعد كالورق النضير تأودت ... فيه الغصون ونجحه أن يثمرا فشبهها بالمواعد التي تحول مواهب، وهذا أحسن ما يكون من التمثيل وأصحه، وأقام الرواعد مقام المواهب، لأنه قد يكون برق لا مطر فيه، ولا يكاد يكون رعد إلا ومعه الغيث، ثم إن التشبيه إنما صح بأن كان الرعد بعد البرق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وما أحسن ما قال خلف بن خليفة الأقطع: مواعيدهم فعل إذا ما تكلموا ... بتلك التي إن سميت وجب الفعل يعني قولهم «نعم» فجل الوعد هو الفهل نفسه لصحته وصدقه، وقد مثل البحتري المواعيد أيضاً، وكيف تحول العطاء تمثيلاً آخر حسناً، فقال: وشكرت منك مواهباً مشكورة ... لو سرن في فلك لكن نجوما ومواعداً لو كن شيئاً ظاهراً ... تفضي إليه العين كان غيوما لأن الغيم يصير مطراً، كما أن الوعد يصير عطاء، فأبو تمام فيما ذهب إليه غالط، لأنه وضع الاستعارة في غير موضعها. وقال: لو كان في عاجل من آجل بدل ... لكان في وعده من رفده بدل له رياض ندى لم يكد زهرتها ... خلف ولم تتبختر بينها العلل وهذا غلط أيضاً؛ لأن العاجل أفضل من الآجل، فكيف لا يكون بدلاً منه، وقد قيل -وجرى مثلاً-: «والنفس مولعة بحب العاجل» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 وكان ينبغي أن يقول: «لو كان في عاجل قول بدل من آجل فعل» وإلى هذا ذهب، غير أن الصواب لا يقبل إذا كان مطوياً في القلب، ومخبوءاً تحت الإضمار، حتى يخرج إلى الوجود. ألا ترى إلى البحتري لما جاء بهذا المعنى كيف أورده على غاية الصحة والسلامة فقال: لو قيل كفى امرأ من كثير ... لاكتفينا بقوله من فعاله وحسبك بقوله: «لم تتبختر بينها العلل» قبحاً. وقال أبو تمام: تحن عداته إثر التقاضي ... وتنتنج مثلما نتج العشار وهذا بيت رديء المعنى، لأنه جعل الممدوح ممن يقتضى، وأن عداته تحن، والحنين لا يكون إلا بعد حبس ومنع، وقال: «وتنتج مثلما نتج العشار» والعشار من الإبل: الحوامل، التي قد أتى لحملها عشرة أشهر، والواحدة عشراء، فلا يزال ذلك اسمها إلى أن تضع، وبعد ما تضع، فأراد أن عداته تنتج لا محالة، كما أن العشار تنتج لا محالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وإنما خص العشار دون غيرها من الحوامل لعظم قدر الإبل عندهم، وأنها معولهم في الخصب والجدب، وعلى كل حال فقوله: «وتنتج مثلما نتج العشار» ليس بجيد ولا حسن، لأنه لم يدلل به على سرعة، بل هو إلى الدلالة على إبطائه أقرب. والجيد له في هذا الباب قوله في أبي دلف: يقول هو الذي ليس الوفاء له ... عزماً وينجز إنجاز الذي حلفا وهذا في غاية الحسن. وقال البحتري: يجن إلى المعروف حتى ينيله ... كما حن إلف مستهام إلى إلف ويقلق حتى ينجز الوعد مثل ما ... يجافي الذي يمشي على رمض الرضف وهذا جيد حسن لطيف. وقال: مواهب أعداد الأماني وخلفها ... عدات يكاد العود منهن يورق فذكر أنه إذا أعطى وعد، والوعد بعد العطية أحسن من الوعد قبل العطية، لأن تلك عطية واحدة وهذه عطيتان، وفرحتان، وذلك دليل على جود الجواد وربه لعطاياه، ومتابعته إياها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 ومثل هذا قول أبي النضر جهم بن عبد الملك في الفضل بن يحيى: يفعل الناس إذا ما وعدوا ... وإذا ما فعل الفضل وعد وقال البحتري: يمضي المنايا دراكاً ثم يتبعها ... بيض العطايا ولم يوعد ولم يعد وقد مدح البحتري الوعد وفضل العطاء بعده على ما يأتي من غير وعد، وشبهه تشبيهاً يفوق كل حسن وصحة، فقال: أحب انتظارات المواعيد والتي ... تجيء اختلاساً لا يدوم سرورها وإن جمام الماء يزداد نفعها ... إذا صك أسماع العطاش خريرها فسقط الآن الشك في أن البحتر -في هذا الباب- أشعر من أبي تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 * وفي الابتداء بالعطاء من غير سؤال قال أبو تمام: يأخذ الزائرين قسراً ولو كف (م) دعاهم إليه واد خصيب وهذا معنى جيد بالغ, وقال: فأضحت عطاياه نوازع شرداً ... تسائل في الآفاق عن كل سائل وهذا تضعيف للمعنى شديد، وكيف تكون عطاياه نوازع شرداً خالية من معطى، وهل هذا شيء يعقل، وتقوم في النفس صحته؟. فإن قيل: فهذه استعارة ومبالغة، قيل: الاستعارة التي فيها بعض الغلو لا تنكر، ولكن لكل جنس من المعاني سبيل في الاستعارة، وقد عدهت وجرى بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 الاستعمال، ولم تجر عادة الاستعارة في مال الجواد أن يقول المال: هل من طالب؟، هل من سائل، ثم أن يشرد في الآفاق يلتمس من يأخذه، وإنما العادة فيه أن يكون كارهاً لأن يبذل، خائفاً أن يمحق، لأنه يقال: فلان قد أتلف ماله، وقد محقه، فالاستعارة فيه أن يجعل المال شاكياً من التمحيق، وضاجاً من كثرة البذل، كما قال هو في باب من بعد: قاسى المضير على التلاد كأنما ... يغدو على تفريق مال مذنب وكما قال: يلقى بها حر التلاد وعبده ... عند السؤال مصارعاً وحتوفا وكما قال: غادرت فيها ما ملكت قتيلا وكما قال أبو نواس: بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح فعيب بقوله: «بح» أنه إفراط في الاستعارة وغلو، وكذلك جرت العادة في غير المال أن يقال للرجل الكثير الاستعمال للماء: قد ضجت منك دجلة، والبحر على وجل، ونحو هذا مما هو على أفواه الناس، وذلك لأن كلما وقع الثلم والمحق لا تكون الاستعارة له إلا الخوف من ذلك، والكره له، كما أنه لو كان سبباً يعقل لما اختار أن يتلف ويستهلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 والاستعارة الصحيحة في هذا قوله: تكاد مغانيه تهش عراصها ... فتركب من شوق إلى كل راكب لأن مغانيه لو كانت تعقل لهشت لسؤاله، وعفاته، كاهتشاشه هو إذ في احتشادهم فيها جمال له ولها معه. وأصلح معنى هذا البيت أيضاً وجوده قوله: «تكاد»، فإنما تمثل الجمادات أبداً بما يعقل، فتحمل الاستعارة على ما يجوز فيه، ويليق به، ألا ترى إلى قوله في وصف سحابة: لو سمعت بقعة لإعظام نعمى ... لسعى نحوها المكان الجديب وذلك لما له فيها من المصلحة، وكذلك قول البحتري: ولو أن مشتاقاً تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر وذلك لما له في أن يرقاه من الجمال. فالمال ما وجه شهوته لأن يمحق ويتلف حتى يجعله شارداً في البلاد يلتمس من يأخذه؟ فإن قيل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 فما الذي ينكر من الشاعر أن يغرب ويبدع، ويأتي بما لم يسبق إليه؟، قيل: ليس بمنكر أن يفعل ذلك إذا سلك الطرق المعهودة في ذلك المعنى، وأن يتفرع لها، ولا يخرج عنها، ويأتي فيها بكل ما يسنح له من المبالغة والإغراب، كما قال أبو نواس: بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصح فلم يقتصر على المعهود في هذا، بأن يقول: قد شكا المال، وكم يشكوك المال، حتى يجعل له صوتاً قد بح من كثرة ما يصيح فعلى هذا الوجه يكون الإغراب والإبداع، ولو قال أبو نواس: قد بح صوت المال مما يصيح، ويلتمس من يأخذه، لقلنا له: قد هجوت ممدوحك -أصلحك الله- أقبح هجاء. والسليم الصحيح قول البحتري: أعطيت سائلك المحسد سؤله ... وطلبت بالمعروف غير الطالب وأظن أبا تمام سمع قول أبي العتاهية: وإنا إذا ما تركنا النوال ... فلم نبغه فيه يبتدينا وإن نحن لم نبغ معروفه ... فمعروفه أبداً يبتغينا وإنما أراد أبو العتاهية: أنه يبتغينا لمعروفه، لا أن المعروف بنفصل عنه، ويشرد في طلبنا والتماسنا، وقد أحسن أبو العتاهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وقال ابن أذينة: أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لم يعنيني وإنما أراد يأتيني الله به، وعلى هذا الوجه قال دعبل: والرزق أكثر لي مني له تطلبا أي أن الله -جل وعز- يأتيني به، فكأنه يطلبني. وقد حذا هو حذو قول ابن أذينة، فقال: الرزق لا تكمد عليه فإنه ... يأتي ولم تبعث إليه رسولا فهذه طريقة الاستعارة في هذا المعنى. وقال أبو تمام أيضاً في الابتداء بالعطاء: ورأيتني فسألت نفسك سيبها ... لي ثم جدت وما انتظرت سؤالي كالغيث ليس له أريد غمامه ... أو لم يرد بد من التهطال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 وهذا معنى في غاية الجودة، إلا أنه كان ينبغي أن يجعل الغيث في موضع الغمام، والغمام في موضع الغيث، لأن الذي يراد ليس هو الغمام، وإنما هو الغيث، ولو قال: كالغيم ليس له أردنا غيثه ... أم لم نرد بد من التهطال أو «كالمزن» فإنهما لفظة أحسن من الغيم كان عندي أصح وأجود، وقوله: ثم جدت وما انتظرت سؤالي معنى قد ابتذلته الشعراء، وتقدمت فيه، ألا ترى إلى قول أبي العتاهية: فلم نبغه فبه يبتدينا وقال مسلم بن الوليد: أخ لي يعطيني إذا ما سألته ... ولو لم أعرض بالسؤال ابتدانيا وأجود من كل جيد في هذا قول سلم الخاسر: أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال وقال أبو تمام أيضاً: أسائل نصر لا تسله فإنه ... أحن إلى الإرفاد منك إلى الرفد وهذا جيد بالغ، وهو قريب من قول مروان بن أبي حفصة: لمعن بما يعطي من الذي ... بما نال من معروفه يتمول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 وبيت أبي تمام أجود، وأجود منهما قول البحتري: يحن إلى الإرفاد حتى ينيله ... كما حن إلف مستهام إلى إلف وإنما أخذه من قول أبي تمام: ما زال بالمعروف وهو متيم وقال البحتري على الوجه الأول المبتذل: جاد حتى أفنى السؤال فلما ... باد السؤال جاد ابتداء ونحوه قوله: حليف ندى إن سيل فاضت جمامه ... وذو كرم إن لم يسل يتبرع وقال: رطب الغمام إذا ما استمطرت يده ... جاءت مواهبه قبل المواعيد وقال: وثقت بنعماه ولم تجتمع بها ... يدي ورأيت النجح قبل سؤاله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 وقوله: «لم تجتمع بها يدي» أي: لم أضم عليها يدي بعد، ثم مثله أحسن تمثيل فقال: وتعلم أن السيف يكفيك حده ... مكاثرة الأقران قبل استلاله وقال: كان ابتداؤك بالعطاء عطية ... أخرى وبذلك للجسيم جسيما وأجود من هذا كله قول مسلم: أعطى فما تنفك تنزع همة ... أملاً إليه من المحل الأبعد سبقت مواهبه مني مرتادها ... واستحدثت همماً لمن لم يرتد وقال البحتري في ابن بسطام: وبديهة من طوله لم ترتقب ... وفاك مبتدئاً بها إنعامه كالسيل أصبح في ذراك أتيه ... والجو مصح ما يحس غمامه وهذا أيضاً تمثيل في غاية الحسن والصحة والحلاوة. ومثله قول السمط بن مروان بن أبي حفصة: لعمري لنعم الغيث غيث أصابنا ... ببغداد من أرض الجزيرة وابله فكنا كحي صبح الغيث أهله ... ولم تنتجع أظعانه وحمائله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 ذكر ثعلب عن ابن سلام قال: قال أبو الغراف: سرق هذا المعنى من قول نهشل بن حري، وقد بعث إليه كثير بن الصلت الكندي -وهو قاضي عثمان على المدينة، ونهشل بالبصرة- بكسوة ومال، فقال نهشل: جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... بني الصلت إخوان السماحة والمجد أتاني وأهلي بالعراق نداهم ... كما أرفض غيث من تهامة في نجد فما يتغير من بلاد وأهلها ... فما غير الإسلام مجدكم بعدي البحتري في هذا الباب عندي أشعر من أبي تمام لكثرة تصرفه فيه، ولما تضمنه من إساءة أبي تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 * ما وصفا به البشر عند السؤال وحسن اللقاء قال أبو تمام: ومرحب بالزائرين وبشره ... يغنيك عن أهل لديه ومرحب وقال: إذا قال أهلاً مرحباً نبعت لهم ... مياه الندى من تحب أهل ومرحب وقال: وجدناك أندى من رجال أناملاً ... وأحسن في الحاجات وجهاً وأجملا تضيء إذا اسود الزمان وبعضهم ... يرى الموت أن ينهل أو يتهللا أي: يرى انهلال الموت أو يتهللا، أي: انصباب الموت أو أن يتهلل، يعني الطلاقة والبشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وقال: وإذا المواهب أظلمت ألبستها ... بشراً كبارقة الحسام المخذم أعطيت ما لم تعطه ولو انقضى ... حسن اللقاء حرمت ما لم تحرم فقوله: أعطيت ما لم تعطه، يعني: البشر، لأنه ليس بعطاء على الحقيقة، ولو لم تفعل لحرمت ما لم تحرم، أي: لحرمت منه ما لا يسمى حرماناً على الصحة، أو أن يكون أراد: ولو انقضى حسن اللقاء كنت قد حرمت العطاء الذي لم يحرمه أي: كنت كأنك لم تعطه لسوء لقائك. وما ترك زهير في البشر إحساناً لقائل مع قوله: تراه إذا ماجئته متهللاً ... كأنك معطيه الذي أنت سائله وقد قدح فيه مالاً يضره، وهو أن قيل: إنه قد حط من همته، ووضع منه إذ جعله يفرح بعطية يعطاها، وكان أن يجعل الدنيا تصغر عنده أن لو سيقت إليه. وما قاله زهير غير مانع أن يكون صاحبه بهذا الوصف، بل ما قاله يوجب لصاحبه هذا الوصف، أن يكون بشره وطلاقة وجهه في إعطاء ما يعطي، وأخذ ما يأخذ على حال واحدة، وقد أخذه الكميت فقال: يلقى أبانا على عسر وميسرة ... كأن مستوهبيه المال هم وهبوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وقد تصرف البحتري في وصف البشر تصرفاً كثيراً حسناً، فقال: أريحي إذا تهلل للجو ... د أضاءت طلاقة وقبول وقال: لو أن كفك لم تجد لمؤمل ... لكفاه عاجل وجهك المتهلل ولو أن مجدك لم يكن متقادماً ... أغناك آخر سؤدد عن أول وقال: وتبسماتك للعطاء كأنها ... زهر الربيع خلال روض معشب قوله: «تبسماتك»، جمع التبسم، هو مصدر، والمصادر لا تجمع كما لا يقال: تعجبت تعجبات، وتقدمت تقدمات، فكذلك لا يقال تبسمات. وقال: وأبيض وضاح إذا ما تغيمت ... يداه تجلى وجهه فتقشعا ترى ولع السؤال يكسو جبينه ... إذا قطب المسئول بشراً مولعا وهذا أحسن من قول مسلم بن الوليد: لا يضحك الدهر إلا حين تسأله ... ولا يعبس إلا حين لا يسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وقال البحتري: ووجه رق ماء الجود فيه ... على العرنين والخد الأسيل يريك تألق المعروف فيه ... شعاع الشمس في السيف الصقيل هذا من قول أبي تمام: بشراً كبارقة الحسام المخذم فوكده بذكر شعاع الشمس. وقال: مشرق للندى ومن حسب السيـ ... ـف لمستله ضياء حديده ضحكات في إثرهن العطايا ... وبروق السحاب قبل رعوده وهذا مثل ما تقدم من قوله: سوم السحائب ما بدأن بوارقاً ... في عارض إلا انثنين رواعدا قوله: «ما بدأن»: يريد السحائب، يقال: بدأت الشيء وأبدأته وذلك عن أكثر أهل اللغة غير الأصمعي، فإنه قال: لا يقال: بدأت الشيء، وإنما يقال: أبدأته. وقال: أزهر والروض لا يروقك أو ... يحكي مصابيح ليله زهره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 يخيل حتى ترى النجاح على ... ظاهر بشر متينة بشره والغيم محبوكة طرائقه ... أحجى من الصحو يبتغي مطره وما لا نهاية لحسنه قوله: شيمة حرة وظاهر بشر ... راح من خلفه السماح يشف وأعجب من هذا وألطف قوله: يشرق بشراً وهو في مغرم ... لو مني البدر به ربده ضوء لو أن الفلك ازداد في ... أنجمه فيه لما أنفده وقال: تنبي طلاقة وجهه عن جوده ... فتكاد تلقى النجح قبل لقائه وضياء وجه لو تأمله امرؤ ... صادي الجوانح لارتوى من مائه وهذا معنى حسن لطيف، والعطشان لا يرويه النظر إلى الماء، وإنما يرويه أن يكرع فيه، فأراد البحتري أن تأمل وجهه يروي العطشان، على المبالغة، من كلام الناس أن يقولوا: هذا وجه يشبع الجائع ويروي الظمآن، يريدون من حسنه. وقال: كانت بشاشتك الأولى التي ابتدأت ... بالبشر ثم اقتبلنا بعدها النعما كالمزنة استؤنفت أولى مخيلتها ... ثم استهلت بغزر تابع الديما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وهذا أيضاً تمثيل جيد بالغ مصيب. وقال في إسماعيل بن بلبل: مضيء ينوب البشر عن ضحكاته ... ولا ريب في أن العبوس هو العسر ولو ضمن المعروف طي صحيفة ... يطان عليه كان عنوانها البشر وهذا من باب فضل البحتري فيه على أبي تمام ظاهر لصحة تمثيلاته وكثرة افتنانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 * وفي الإكثار من العطاء قال أبو تمام: لهى تستثير القلب لولا اتصاله ... بحسن دفاع الله وسوس قائله وقال: كم نفحة لك لم فيحفظ تعجرفها ... لصامت المال لا إلا ولا ذمما مواهب لو تولى عدها هرم ... لم يحصها هرم حتى يرى هرما يعني هرم بن سنان المري، الذي مدحه زهير وكان من الأجواد، وقال أبو تمام: إذا شئت أن تحصي فواضل كفه ... فكن كاتباً أو فاتخذ لك كاتبا وهذا من معاني العوام، وضعفه المعلمين. وقال في أبي الغريب يحيى بن عبد الله: لولا تناهي كل مخلوق لقد ... خلنا نوالك ليس بالمتناهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وليس هذا الجنس من الإغراق جيداً ولا حسناً. وقال أبو تمام: ولله أنهار من الناس شقها ... ليشرع فيها كل مقو وواجد المقوي: الذي قد فني زاده، والواجد: الغني. ولا يقال: أنهار من الناس شقها إلا من لم يسمع بمدح المادح، ولا بكلام العرب قط، وإنما المستعمل في هذا أن يقال: كالبحر، وكالسيل، وكالفرات، فأما نهر مشقوق فمن أقبح لفظ وأوضعه. وإنما قال كعب بن معدان الأشقري: براك الله يوم براك بحراً ... ففجر منك أنهاراً غزارا بنيك السابقين إلى المعالي ... إذا ما أعظم الناس الخطارا لأنه جعل المهلب بحراً، وجعل بنيه أنهاراً مفجرة منه فحسن ذلك ولم يقبح. وقال أبو تمام: كأن أمواله والبذل يمحقها ... نهب تعسفه التبذير أو نفل وهذا بيت جيد المعنى، وأجود منه قول البحتري: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 تحسب في وفره يداه يدي ... عدوه أو لغيره نشبه مال إذا الحمد منه عيض غدا ... منهبه غانماً ومنتهبه قوله: تحسب في وفره بداه يدي ... عدوه ....................... يشبه قول أبي تمام: وإن خفرت أموال قوم أكفهم ... من النيل والجدوى فكفاه مقطع وهذا من قبيح المعاني: وقال أبو تمام: من رأى بارقاً سرى صامتياً ... جاد نجداً سهولها والحزوما فسقى طيئاً وكلباً وذودا ... ن وقيساً ووائلاً وتميما لن ينال العلى خصوصاً من الأقـ ... وام من لم يكن نداه عموما وهذا جيد بالغ في العموم والكثرة. وقال أيضاً في كثرة العطاء: يقول الحاسدون إذا انصرفنا ... لقد قطعوا طريقاً أو أغاروا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وحسبك بهذا قبحاً وركاكة، وكان يجب أن يتبعه ببيت آخر يذكر فيه أنهم هربوا لئلا يؤخذوا فيعاقبوا عقوبة قطاع الطرق!. ومن هذا الباب قوله: سخطت لهاه على جداه سخطة ... فاسترفدت أقصى رضى المسترفد «فاللها» جمع «لهوة»، وهي: العطية، وأصلها ما تلقيه في فم الرحا من الحب، كأنك جعلته طعمة للرحى، فشبهت العطية به، والجدوى هي العطية أيضاً، فكيف يسخط عطاياه؟، هذا عين الخطأ، ولو قال: «سخطت يداه على جداه» كان قولاً حسناً مستقيماً. وقد جاء بهذا المعنى في موضع آخر وأتى به على الصواب فقال: ما التقى وفره ونائله مذ ... كان إلا ووفره المغلوب قال: والوفر هو المال الكثير، والنائل: هو المال الذي يعطيه، وهو قطعة يقتطعها من وفره، وهو مذهب للوفر ومفنيه، كما قال زهير: أخو ثقة، لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله وقد أحسن البحتري في هذا الباب كل الإحسان وذلك قوله في الكثرة والعموم: وأنفق في العلياء حتى حسبته ... من الدهر يعطي أو من الدهر ينفق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 عطاء كضوء الشمس غمر فمغرب ... يكون سواء سناه ومشرق وقال في قصيدة أخرى: مواهب أعداد الأماني وخلفها ... عدات يكاد العود منهن يورق قوله: «أعداد الأماني» في غاية الحسن والصحة. وقال: لم يحص عدة ما توليه من حسن ... وسيد النيل ما لم يحصه العدد وقال: مواهب ضربت في كل ذي عدم ... بثروة وأماحت كل ممتاح وقال: كلما جاءت الليالي بإحسا ... ن فبادي إحسانها إحسانه جمل من لهى يشككن في القو ... م أهم مجتدوه أم خزانة؟ وقال في مثله: أعطيتني حتى حسبت جزيل ما ... أعطيته وديعة لم توهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وإنما أخذ هذا المعنى من قول الفرزذق: أعطاني المال حتى قلت يودعني ... أو قلت أودع مالاً قد رآه لنا وبيت البحتري أجود من هذا لفظاً وسبكاً. وقال: تجاوز غايات العقول رغائب ... يكاد بها لولا العيان تكذب وقال في أبي نهشل: وعطاياك في الفضول عداد الر ... مل من عالج وكيف الحقوق ظل فيها البعيد مثل القريب الـ ... ـمجتبى والعدو مثل الصديق كحبي الغمام جاد فروي ... كل واد من البلاد ونيق وهذه معان مختلفة، وكلها في غاية الجودة والصحة، ولا خفاء بفضل البحتري -في هذا الباب أيضاً- على أبي تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 * في ذكر القصد والإسراف قال أبو تمام: قصد الخلائق إلا في ندى ووغى ... كلاهما سبة ما لم يكن سرفا وكان ينبغي أن يقول: ما لم يكونا سرفا، وكأنه تأول ما لم يكن ذاك، أو حمله على قولهم «كلاهما فارس إذا ركب، وفارسان إذا ركبا» لأن كلا تصلح ها هنا للإفراد والتثنية. وقال البحتري: ولا إسراف غير الجود فيه ... وسائره لهدي واقتصاد فذكر السرف في الجود وحده، وأبو تمام السرف في الندى والوغى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 جميعاً، وأراد بالسرف في الوغى القتل، فبيته أجمع للمعاني، وبيت البحتري أحسن سبكاً وأجود لفظاً. وقال البحتري: كرم دعتك به القبائل مسرفاً ... ما مسرف في المكرمات بمسرف فأما قول أبي تمام: له خلق نهى القرآن عنه ... وذاك عطاؤه السرف البدار ولم يك ذاك إصراراً ولكن ... تمادت في سجيتها البحار فمما لا يفي بجودته وحسنه شيء، ولكن جاء به بعد بيت لو خرس كان خيراً له من أن يأتي بمثله، وهو قوله: يقول الحاسدون إذا انصرفنا ... لقد قطعوا طريقاً أو أغاروا وقد مضى ذكره، وأبو تمام في هذا الباب أشعر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 * ذكر تعجيل العطاء لم أر أبا تمام جرد القول في هذا الباب، ولا أتى فيه بشيء يعتد به، ووجدته قال في محمد بن عبد الملك الزيات: فما يلحظ العافي جداك مؤملاً ... سوى لحظة حتى يؤوب مؤملا وقال البحتري: عجل بالذي تنيل يداه ... إن بطء النوال من تنكيده كاد ممتاحه لسابق جدوا ... هـ يكون الإصدار قبل وروده وهذا معنى حسن لطيف وإنما ساغ ذلك لقوله: «كاد». وقال: إذا قال وعداً أو وعيداً تسرعت ... مكارم تثني آجل الأمر عاجلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 ومن المكارم تحقيق الوعيد وتعجيله أيضاً كالوعد، ولذلك ضمهما معاً. ومثله قوله: إن يقل واعداً تواف إلى النجـ ... ـح يداه في صفقة ولسانه ضامن للتي تراد لديه ... قلق الفكر أو يصيح ضمانه وقال: حيث لا تدفع الحقوق المعاذيـ ... ـر ولا يسبق العطاء السؤال وأجود من هذا قول ابن هرمة: يسبق بالفعل ظن سائله ... ويقتل الريث عنده العجل وقال البحتري: وقد أعجز العذال أن يتداركوا ... لهى تشبق الألحاظ قبل ارتدادها وهذا نهاية في السرعة والتعجل. وقال: كم قد عجلت إلى النعماء تصنعها ... مبادراً وبخيل القوم متئد وقد أبر البحتري في هذا الباب على أبي تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 * ذكر متابعة العطاء قال أبو تمام: كلما زرته وجدت لديه ... نشباً ظاعناً ومجداً مقيما وتوأم الندى يري الكرم الفلـ ... ـتة في أكثر المواطن لوما وهذا معنى صحيح حسن. وقال: إذا كانت النعمى سلوباً من امريء ... غدت من خليجي كفه وهي متبع السلوب: التي لا ولد لها، والمتبع: التي يتبعها ولدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وقال: ولتعلم الأيام أني فتها ... بأبي الحسين محمد بن الهيثم بأغر ليس بتوأم ويمينه ... تغدو وتطرق فالفعال التوأم كلف برب الحمد يزعم أنه ... لم يبتدأ عرف إذا لم يتمم وقال أيضاً: وصنيعة لك ثيب أهديتها ... وهي الكعاب لعائذ بك مصرم حلت محل البكر من معطى وقد ... زفت من المعطي زفاف الأيم قوله: «وصنيعة لك ثيب أهديتها» يريد: أنك قد صنعت مثلها فليست بكر صنائعك، أي ليست أول ما صنعت، ولما لم تكن بكراً جعلها ثيباً، وقال: «وهي الكعاب لعائذ بك»، قام الكعاب ها هنا مقام البكر، أي هي ثيب عندك وبكر عند من تعطيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 والكعاب هي التي قد كعب ثديها، وقد تكون بكراً وتكون ثيباً قد افترعت، فليست بضد الثيب في الحقيقة، ولكنه أقامها مقامها، لقوله: «حلت محل البكر من معطى». وقوله: «وقد زفت من المعطى زفاف الأيم» يريد بالأيم الثيب، والأيم هي التي لا زوج لها، بكراً كانت أو ثيباً. وقد بينت هذا في أغاليطه وأوضحته. وقال في موضع آخر يذكر الصنيعة: وليست بالعوان العنس عندي ... ولا هي منك بالبكر الكعاب قوله: «ليست بالعوان العنس عندي» يريد لجلالتها، وأنه ما أسدي إليه مثلها، وأراد أن يقول «العانس» فقال «العنس» إنما هي الناقة التي قد انتهت في قوتها وشدتها وشبابها، وقد ذكرت هذا في أغاليطه أيضاً. وقال أبو تمام في الحسن بن وهب: جمعت لنا فرق الأماني منكم ... بأبر من روح الحياة وأوصل فصنيعة في يومها وصنيعة ... قد أحولت وصنيعة لم تحول كالمزن من ماضي الرباب ومقبل ... منتظر ومخيم متهلل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 قوله: «وصنيعة قد أحولت، وصنيعة لم تحول» لا يشبه أحوال الأمطار في قرب بعضها من بعض، ولكن قوله: «بأبرمن روح الحياة وأوصل» حسن جداً. والصحيح المعنى في هذا قول البحتري: لي منه في كل يوم نوال ... لم تنله كدورة الترنيق عنده أول وعندي ثان ... من نداه وثالث في الطريق وإن كنت لا أحب لفظة «الطريق» فإنها من ألفاظ العوام. وقد أحسن البحتري أيضاً في متابعة العطاء كل الإحسان، فمن ذلك قوله: إلى فتى يتبع النعمى نظائرها ... كالبحر يتبع أمواجاً بأمواج وقوله: فإن تتبع النعمى بنعمى فإنه ... يزين الآلي في النظام ازدواجها وقوله: إذا كرت الآمال فيه تتابعت ... مواهب مكرور الأيادي معادها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وأحسن من كل حسن قوله: يكر نواله عللاً علينا ... كرور الكأس أترعها المدير وقال البحتري أيضاً في أحمد بن محمد بن بسطام: تتابع منه كل يوم مواهب ... تفوت ارتداد الطرف سبقاً عجولها إذا كرها بالبر منه أعادها ... على النهج محمود السجايا جميلها وقال: بلغت يداه إلى التي لم أحتسب ... وثنى لأخرى فهو باد عائد هو واحد في المكرمات وإنما ... يكفيك عادية الزمان الواحد والبحتري في هذا كله أشعر من أبي تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 * وفي تشبيه جود الجواد بالسحاب والغيث والأنواء قال أبو تمام: مواهب جدن الأرض حتى كأنما ... أخذن بآداب السحاب الهواطل وهذا حسن جداً. وقال: نشأت من يمينه نفحات ... ما عليها ألا تكون غيوما والبيت الأول أجود. وقال: جرى حاتم في حلبة منه لو جرى ... بها القطر شأواً قيل أيهما القطر فهذا تشبيه بالسحاب. وأكثر ما جاء عنه تفضيل جود الجواد على السحاب فمن ذلك قوله: في قلة كثر السماك وإن غدا ... هطلاً وعفو يديه جهد المرزم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 السماك سماكان: الأعزل والرامح، وهما كوكبان من نجوم برج الأسد ونوء الأسد من أغزر الأنواء، والمرزم أحد كوكبي ذراعي الأسد وقال ابن هرمة: جواد تبارى المرزمين شماله ... وتحقر أنواء الربيع يمينها قول أبي تمام أبلغ، وهذا أحسن لفظاً وأبرع. وقوله: غيث حوى كرم الطبائع دهره ... والغيث يكرم مرة ويلوم وهذا غاية في الحسن والصحة. وقال في مثله: كرمت راحتاه في أزمات ... كان فيها صوب الغمام لئيما وقال: ولا أرى ديمة أنفى لنائبة ... منه على أن ذاكراً طار للديم وقال: له كرم لو كان في الماء لم يغض ... وفي البرق ما شام امرؤ برق خلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وقال: إن غاض ماء المزن وفضت وإن قست ... كبد الزمان على منت رؤوفا وقال: يفيض سماحة والمزن مكد ... ويقطع والحسام العضب ناب وقال: إذا وعد انهلت يداه فأهدتا ... لك النجح محمولاً كاهل الوعد دلوحان تفتر المكارم عنهما ... كما الغيث مفتر عن البرق والرعد قوله: «دلوحان» من السحاب والدوالح، وهي المثقلة بالماء. «تفتر المكارم عنهما» تبدو وتظهر. «كما الغيث مفتر عن البرق والرعد» أقام راحتيه مقام البرق والرعد، وأن الغيث يفتر عنهما. هذا على ظاهر لفظ أبي تمام، وهو عندي من المقلوب، لأن حقيقة الافترار الانكشاف، ومنه قولهم: فررت الدابة، أي: كشفت جحفلته لأنظر إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 سنه وقد فر فلان عن ذكاء، وفر عن عقل أي كشف، فوجه الكلام: دلوحان يفتران عن المكارم، أي ينكشفان وينفتحان عن الغيث، وهو عندي من المقلوب الحسن السائغ الجائز مثله للمتأخرين، لأن اليدين إذا انفتحتا وانكشفتا عن المكارم فإن المكارم أيضاً قد انكشفت، وكذلك البرق والرعد إذا انفتحا وانكشفا عن الغيث، فإن الغيث قد انكشف واتضح. وقال البحتري في هذا المعنى: لعمرك ما الدنيا بناقصة الجدا ... إذا بقي الفتح بن خاقان والقطر وقال: وجرى جوده رسيلاً لجود الـ ... ـغيث من غاية فجاءا سواء وقال: فهو غيث والغيث محتفل الود ... ق وبحر والبحر طامي العباب فهذا شرط في غاية الجودة والقوة ولكن قول أبي تمام: يفيض سماحة والمزن مكد ... ويقطع والحسام العضب نابي ألطف معنى. وقد فضل البحتري جود الجواد على السحاب والغيث وتصرف في ذلك وافتن افتناناً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 عجيباً فقال: ليس السحاب ببالغ فيه الرضى ... فأقول إن نداه صوب سحاب وقال: إن أنا شبهته بالغيث في مدحي ... ضضت منه وكنت المادح الهاجي وقال: فلو ذارعت أخلاقه الغيث حافلاً ... لحاجزها باع من الغيث ضيق وقال: كرمت وكان القطر أنأى مسافة ... وأضيق باعاً من نداك وأقصرا وقال: وأكبر أن أشبه جود فتح ... بماء غمامة أو سيل واد وقال: ويحمل إسماعيل عنا ابن بلبل ... من المحل عبئاً ليس يحمله القطر بغزر يد منه تقول تعلمت ... يد الغيث منها أم تقيلها البحر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 وقال: إن قصرت همم العافين جاش لهم ... جحاف أغلب في حافاته الزبد عفو من الجود لم تكذب مخيلته ... يقصر القطر عنه وهو مجتهد فقوله: «يقصر القطر عنه وهو مجتهد» مثل قول أبي تمام: في قلة كثر السماك وإن غدا ... هطلاً وعفو يديه جهد المرزم وبيت أبي تمام هذا أجود. وقال البحتري: قد قلت للغيم الركام ولج في ... إبراقه وألح في إرعاده لا تعرضن لجعفر متشبهاً ... بندى يديه فلست من أنداده وقال: أقول لثجاج الغمام وقد سرى ... بمحتفل الشؤبوب صاب فعمما أقل وأكثر لست تبلغ غاية ... تبين بها حتى تضارع هيثما وقال: تراح الغوادي أن تشاهد عنده ... شبائهها من سيبه وشكولها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 بقيت وكأين جئت باديء نعمة ... يقل السحاب أن يجيء رسيلها وقال: أعطيت حتى تركت الريح حاسرة ... وجدت حتى كأن الغيث لم يجد هذا من قولهم: فلان يباري الريح جوداً، فيقال: أي جود للريح حتى يباريها الجواد، فإنما المعنى أنه يباري هبوبها، فيعطي أبداً ما هبت، كما نذر لبيد أن يطعم ما هبت الصبا وخبره في هذا مشهور. ويجوز أن يكون ذهب إلى أن الأمطار لا تكون إلا الرياح، ولا يجمع السحاب ويأتي بالغيث إلا الريح، والأول أليق وأشبه لقوله: «تركت الريح حاسرة» أي: معيبة. وقال: ورأيت يوم نداك أشرق بهجة ... واهتز أطرافاً ورق نسيما ورأيت يوم الغيث في طلمائه ... جهماً محياه أغم بهيما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 ويخص أرضاً دون أرض جوده ... وسحاب جودك في العفاة عموما فهذا كله تفضيل لجود الجواد على الغيث. وقد شبهه بالغيث أحسن تشبيه فقال: يعطي على الغضب المتعتع والرضا ... وعلى التهلل والعبوس والأربد كالغيث يسقي الخابطين بأبيض ... من غيمه وبأحمر وبأسود وأحسن من هذا وأجمع قوله: يجود على الطلاب سحاً وديمة ... وهطلاً وإرهاماً ووبلاً وريقا فجاء بستة أنواع من نعوت الغيث في بيت واحد. و «السح» شدة انصباب المطر، و «الديمة» المطر الدائم في سكون و «الهطل» فوق ذلك، و «الإرهام» من أرهمت السماء وهي الرهمة: المطر الضعيف الدائم، و «الوبل» من الوابل وهو المطر الشديد الضخم القطر، و «الريق» من تريق الماء وهو تردده على وجه الأرض من الضحضاح ونحوه، وإذا انصب الماء قلت راق يريق، ويقال أرقته أنا إراقة وهرقته، ويقال راق السراب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 يريق إذا تضحضح فوق الأرض، والريق من كل شيء أفضله، ريق الشراب وريق المطر. فأقول الآن في الموازنة بينها: إنه لولا قول أبي تمام: والغيث يكرم مرة ويلوم وقوله: كان فيها صوب الغمام لئيما لفضلت البحتري عليه، ولكني أجعلهما متكافئين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 * وفي تشبيه جود الجواد بالبحر قال أبو تمام: هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحته وهو معنى في غاية الجودة والصحة، وإنما حذاه على قول مسلم: هو البحر يغشى سرة الأرض فيضه ... وتدرك أطراف البلاد سواحله وغير معناه. وقال: يمين محمد بحر خضم ... طموح الموج مجنون العباب وقال: بحر يطم على العفاة فإن تهج ... ريح السؤال بموجه يغلولب والشؤل ما حبلت تدفق رسلها ... وتجف درتها إذا لم تحلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 أراد أن هذا الممدوح يجود ويوسع، فإن سئل أعطى وأكثر وزاد، وذكر أن الشؤل ليست هذه حالها، وأن ألبانها تتدفق إذا حلبت، وتنقطع إذا لم تحلب، ففضل جوده على لبن الشول، وإنما كان ينبغي أن يفضل جوده على الغيث كما قال: والغيث يكرم مرة ويلوم أو على البحر حسب ما يأتي في هذا الباب، ولكنه ذكر الشؤل، لأن ألبانها غياث العرب وغناها، ومعولها ولهذا ما قال في المواعيد: وتنتج مثلما نتج العشار وإنما أخذ قوله: وتجف درتها إذا لم تحلب من قول بشار: والدر يقطعه جفاء الحالب وهذا كله جيد بالغ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 ولم يمر بي له تفضيل جود الجواد على البحر، ولكن البحتري يقول في المعتز: ملك تدين له الملوك وتقتدي ... لجج البحار بسيبه المتدفق وقال فيه: لم أر كالمعتز في حلمه الـ ... ـوافي وفي نائله الغمر يستصغر البحر إذا استمطرت ... يد له تربي على البحر وأجود من هذا قول قعنب بن أم صاحب: قالوا الفرات وما أرضى به شبهاً ... ولن يقوم بجاري سيبك النهر يسقي من الأرض جنباً لا يجاوزه ... وسائر الأرض منه يابس صفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 وقد تقدم الناس في هذا وأكثروا، وكل هذا إفراط حسن مستحلى لا ينفر منه الطبع، ولكن الرديء المطرح المرذول عند أهل العلم بصناعة الشعر ما أنشده المبرد لبعضهم: له همم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر له راحة لو أن معشار جودها ... على البر صار البر أندى من البحر ولو أن خلق الله في مسك فارس ... وبارزه كان الخلي من العمر وقال البحتري في ذلك: إذا قرن البحر الخضم بأنعم الـ ... ـخليفة كاد البحر فيهن يغرق وقال: فات الرجال وفي الرجال تفاوت ... بخصائص الأخلاق والآداب فكأنما البحر استجاش يمينه ... فقضى بها أرباً من الآراب وقال: وفي جوده بالبحر والبحر لو رمى ... إلى ساعة من جوده ما وفى بها وقال: ألست ترى مد الفرات كأنه ... جبال شرورى جئن في البحر عوما؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 ولم يك من عاداته غير أنه ... رأى شيمة من جاره فتعلما وقال في المعتز: بحلم كأن الأرض منه توقرت ... وجود كأن البحر منه تفجرا ولا خفاء بفضل البحتري في هذا الباب على أبي تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 * ومن خبط الجواد بنائله من غير تمييز ولا تأمل لإيقاع الصنيعة فيم موقعها قال أبو تمام: إذا ما غدا أغدى كريمة ماله ... هدياً ولو زفت لألأم خاطب وهذا وأبيك الكرم المحض. وقال: فتى جوده طبع فليس بحافل ... أفي الجور كان الجود منه أم القصد وهذا أيضاً غاية الكرم. وقال البحتري: تغطرس جود لم يملكه وقفة ... فيختار منها للصنيعة موضعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 وهذا أيضاً جيد. وقال البحتري: ماض على عزمه في الجود لو وهب الـ ... ـباب يوم لقاء البيض ما ندما وهذا أجود الناس وأجهلهم. وقال أبو تمام في المعتصم: عطاء لو اسطاع الذي يستميحه ... لأصبح من بين الورى وهو عاذله وقال فيه يصف مذاهبه في عزائمه: وعزائماً في الروع معتصمية ... ميمونة الإدبار والإقبال فتعمق الوزراء يطفو فوقها ... طفو القذى وتعقب العذال وهذا ليس بالجيد، ومن هذا الذي يعذل الخليفة على أمر يعزم عليه، إنما يشير ويذكر صواباً إن كان عنده، فأما أن يعذل فلا. وقال البحتري في المهتدي: وقد أعجز العذال أن يتداركوا ... لهى تسبق الألحاظ قبل ارتدادها والذي هو في غاية القبح قول البحتري في المعتز: لا العذل يردعه ولا الـ ... ـتعنيف عن كرم يصده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 فجعل الخليفة ممن يعذل ويعنف على الكرم. وقول أبي تمام: ميمونة الإدبار والإقبال لفظ غير جيد، من أجل لفظة «الإدبار» كأنه أراد أن يقول: ميمونة البدء والعود، والكر والرجوع أو التصرف، فقال: «الإدبار» من أجل قوله «الإقبال». وقال أبو تمام: أمهدياً لحيت على نوال ... لقد حكت الملام لغير واع وقال: لا ملبس ماله من دون سائل ... ستراً ولا منصب المعروف للعذل قوله: «ولا منصب المعروف للعذل»، أي: لا يجعله نصيباً للعذل، ويمنع من الإعطاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وقال البحتري: له بدع في الجود تدعو عذوله ... عليها إلى استحسانها فيساعده وقال أيضاً: ملوم على بذل التلاد مفند ... ولا مجد إلا للملوم المفند وقال: أشهرت ليل عواذل لولا لهى ... تصفى كرائمها لبتن هواجدا يسقين منك الغيظ دون معاشر ... يسقون بالذم الزلال الباردا وإذا وسمنك والبخيل بنبزة ... كنت المضلل والبخيل الراشدا وقال: وإذا ما رياح جودك هبت ... صار قول العذال فيها هباء وقال: إذا جاد أغضى العاذلون وكفهم ... قديم مساعيه التي تتقيل ومن ذا يلوم البحر إن بات ذاخراً ... يفيض وصوب المزن إن راح يهطل وهذا غاية في الحسن والبراعة، وإنما أخذه من قول الشاعر المعروف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 بأبي الأسد في الفيض: ولائمة لامتك يا فيض في الندى ... فقلت لها لن يقدح اللوم في البحر أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر بيت البحتري الثاني أجمع، وبيت أبي الأسد الثاني أبرع، والبحتري في هذا الباب، أشعر من أبي تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 * تعجرف الجواد على ماله وإتلافه إياه قال أبو تمام: كأن أمواله والبذل يمحقها ... نهب تعسفه التبذير أو نفل وقال: جزى الله كفاً ملؤها من سعادة ... سرت في هلاك المال والمال نائم قوله: «ملؤها من سعادة» من أحسن لفظة وأبرعها. وقال: كم وقعة لك في المكارم ضخمة ... غادرت فيها ما ملكت قتيلا «ضخمة» لفظة غير جيدة في هذا الموضع ولا لائقة، وإنما جعلها في موضع «عظيمة». الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وقوله: «في المكارم» أي في سبيل المكارم، كما تقول: في الله، أي في سبيل الله. وقال: وإن خفرت أموال قوم أكفهم ... من النيل والجدوى فكفاه مقطع وهذا البيت مما عهدت الشيوخ يضحكون منه، وقد أتى البحتري بمثل قوله: «فكفاه مقطع»، ولكنه جاء به حسناً فقال: تحسب في وفرة يداه يدي ... عدوه أو لغيره نشبه وقال أبو تمام: فالمال أني ملت ليس بسالم ... من بطش كفك مصلحاً أو مفسدا وقال: يلقى بها حر التلاد وعبده ... عند السؤال مصارعاً وحتوفا وقال: كم نفحة لك لم يحفظ تعجرفها ... لصامت المال إلا ولا ذمما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وقال: ملكت ماله المعالي فما تلـ ... ـلقاه إلا فريسة للحقوق يقظ وهو أكثر الناس إغضا ... ء على نائل له مسروق فقوله: «فريسة للحقوق» كلام حسن حلو. وقوله: «على نائل مسروق»، معنى ليس بالجيد بل هو رديء، لأن نائله هو ما ينيله، فكيف يكون مسروقاً منه؟!، وهل يكون الهجو إلا هكذا: أن يجعل نائله مأخوذاً منه على وجه السرقة؟. وإنما اعتمد المطابقة لما وصفه بالتيقظ جعله ممن يسرق منه، إذ كان من شأن المتيقظ ألا يغفل حتى يستمر عليه السرق، وكان يصح هذا المعنى لو قال: «على مال له مسروق» حتى يكون يعطي ماله اختياراً لجوده، ويغضي إذا سرق منه لمكروه، وقد ذكرت في أغاليطه على هذا الشرح. وقال البحتري في هذا الباب: فكم لك في الأموال من يوم وقعة ... طويل من الأهوال فيه عويلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 ومثل هذا قول أبي نواس: بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح وما زال الناس يعيبون قوله: «بح». وقال البحتري أيضاً: ويحكم في ذخائره نداه ... كما حكم العزيز على الذليل وأحسن من كل حسن قوله: يتفادى من نداه تالد ... لو ترقى للثريا ما وأل وهذا أجود من أبيات أبي تمام كلها. وقال: غريب المكرمات ترى لديه ... رقاب المال تهتضم اهتضاما إذا وهب البدور رأيت وجهاً ... يخال لحسنه البدر التماما وقال في محمد بن عبد الملك: ما فقدنا الإعدام حتى مددنا ... أملاً نحو سيبك الممدود سؤدد يصطفي ونيل يرجى ... وثناء يحيا ومال يودي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 * دفع جود الجواد وعطاياه لنوائب الدهر قال أبو تمام: مشت الخطوب القهقري لما رأت ... خببي إليك مؤكداً برسيم فزعت إلى التوديع غير لوبث ... لما فزعت إليك بالتسليم والدهر ألأم من شرقت بلومه ... إلا إذا أشرقته بكريم وهذا البيت الأخير من الاستعارة القبيحة. وقوله: صدمت مواهبه صدمة ... شغبت على شغب الزمان الأنكد وحسبك بـ «صدمت» لفظة هجينة قبيحة. وقال: أي مداو للمحل نائله ... وهانيء للزمان من جربه إن جد رد الخطوب تدمى وإن ... يمزح فجد العطاء في لعبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 قوله: «وهانيء للزمان من جربه» هي الاستعارة الجيدة الحسنة، وكان ينبغي أن يقول: «وإن يلعب فجد العطاء في لعبه» وأبلغ وأجود من هذا قول البحتري: وادع يلعب بالدهر إذا ... جد في أكرومة قلت هزل وقال أبو تمام وأحسن: برقت بوارق من يمينك غادرت ... وضحاً بوجه الخطب وهو بهيم ضربت أنوف المحل حتى أقلعت ... والعدم تحت غمامها معدوم وقال: أوطأت أرض البخل فيها غارة ... تركت حزون الحادثات سهولا وهذا كله جيد. وقال: ألا لا يمد الدهر كفاً بسيء ... إلى مجتدي نصر فتقطع من الزند وهذا من مضاحيك شعره التي تشبه شعر أبي العبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 وقال البحتري: شامت بروق سحابة قرشية ... غرقت صروف الدهر بين سيولها وقال: كريم لا يزال له عطاء ... يغير سنة السنة الجماد وقال: إن ترم آلاؤه في الدهر عن وتر ... تكن لها نوب الأيام أهدافا وهذا بيت حسن جداً. وقال: ودع الخطوب فإنه يكفيها ... من حيث واجهها أبو الخطاب خرق إذا بلغ الزمان فناءه ... نكصت عواقبه على الأعقاب وقال: قمر من الفتيان أبيض صادع ... لدجى الزمان الفاحم الغربيب أعيا خطوب الدهر حتى كفها ... والدهر سلك حوادث وخطوب قوله: «سلك حوادث» من أحسن لفظ وأعذبه. هما عندي في الباب متكافئان، على ما لأبي تمام من الإساءة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 * وفي إعطاء الجواد حتى لا يجد من يعطيه قال أبو تمام: فنول حتى لم يجد من ينيله ... وحارب حتى لم يجد من يجاربه وقد قال أبو نواس: وأطعم حتى ما بمكة آكل قال علي بن جبلة وأظن أبا تمام أخذ منه: أعطيت حتى لم تجد لك سائلاً ... وبدأت إذ قطع العفاة سؤالها ومثله سواء قول البحتري ومنه أخذ فيما أظن: جاد حتى أفنى السؤال فلما ... باد منا السؤال جاد ابتداء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وعلى أن هذا كله عندي من المعاني المشتركة، التي ليس بمنكر أن تتفق الخواطر فيها لأنها خلائق الأجود مشاهدة، وما شوهد وصف واتفق عليه. وقال أبو تمام أيضاً: تلافى نداك المجتدين فأصبحوا ... ولم يبق مذخور ولم يبق مجتد وقال البحتري: إذا قيل قد فنى السائلو ... ن قالت عطاياه هل من مزيد صاحب أبي تمام أكرم، لأنه لم يبق مذخوراً. وقوله: «قالت عطاياه هل من مزيد»، فالعطايا هي ما يعطيه فيخرج عن يده إلى المجتدين، فكيف قالت: هل من مزيد؟؟، وإنما وجه الكلام لو ساغ له الوزن أن يقول: قالت مكارمه هل من طالب؟، هل من ملتمس؟، وهذا عندي في الخطايا شبيه بقول أبي تمام: وأضحت عطاياه نوازع شرداً ... تسائل في الآفاق عن كل سائل وقال البحتري: بث اللهى في المعتفين فلم يدع ... في الأرض مجتدياً ولا مسترفدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 المجتدي هو المسترفد، وقد وكد الأول بالثاني لاختلاف اللفظين، ولو كان بينهما خلاف كان أجود في المعنى، ولا يجوز أن يكون مسترفداً بفتح الفاء، أي شيئاً يرفد، لأن ذلك في الأرض كثير وليس يملكه، ويحين أن يقال على المبالغة: لم يدع في الأرض مسترفداً إلا أغناه، يريد مسترفداً له. وقال البحتري: أعطيت حتى لم تجد لك سائلاً ... وعلوت حتى لم تجد لك مصعدا وقال أبو تمام في نحو هذا: وإذا حللت به أنالك جهده ... ووجدت فوق الجهد منه مزيدا وقال البحتري: جاد حتى لو استزيد من الجو ... د لما كان عنده من مزيد وكلاهما قد ذهب مذهباً جيداً محموداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 * في التذاذ الجواد بالجود قال أبو تمام في المأمون: لو يعلم العافون كم لك في الندى ... من لذة وقريحة لم تحمد أي: من لذة واقتراح، أي: ابتداع واستخراج. وهذا عندي غلط منه، لأن هذا الوصف الذي وصفه به، داعيه إلى أن يتناهى الحامد له في الحمد ويجتهد في الثناء، لا أن يدع حمده، وإنما ذهب إلى أن الإنسان إنما يحمد على الشيء الذي يتكلفه ويتجشمه ويتحمل المشقة فيه لا على الشيء الذي له بواعث شهوة وشدة صبابة إليه وميل إلى فعله، ومن كان غرامه بالجود هذا الغرام، فعلى قدر ذلك يجب أن يحمد ويمدح، وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 ذكرت هذا في أغاليطه على هذا الشرح. فأما قول البحتري: ولقد أبدت الحمد حتى لو بنت ... كفاك مجداً ثانياً لم يحمد فمذهب صحيح، يريد أنك قد أفنيت أوصاف المحامد، فإن جئت بنوع من المكارم تبني بها مجداً آخر لم يقدر من يحمدك أو يثني عليك على أكثر مما قدم. وقال البحتري: يلذ الأريحية للعطايا ... كما لذت لشاربها الشمول وهذا حسن حلو. ووجدت في التعليقات أن بشاراً أخذ قوله في عقبة بن سلم: ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ... ف ولكن يلذ طعم العطاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 من قول القائل: يلذ عطاء الراغبين إذا غدوا ... كما لذ أنفاس العروس مشوق وهذا كله أجود من قول أبي تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 * إغناء الجواد للسائلين حتى يكونوا مسئولي ن وقال أبو تمام: تندى عفاتك للعفاة وتغتدي ... رفقاً إلى زوارك الزوار وقال: فما يلحظ العافي جداك مؤملاً ... سوى لحظة حتى يؤوب مؤملاً وقال: فكم لحظة أعطيتها لابن نكبة ... فأصبح منها ذا عقاب ونائل وقال: وكنت أخا الإعدام لسنا لعلة ... فكم بك بعد العدم أغنيت معدما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وإذ أنا ممنون على ومنعم ... فأصحبت من خضراء نعماك منعما وأنشد ابن أبي طاهر لأبي تمام: وأني لأرجو عاجلاً أن تردني ... مواهبه بحراً ترجى مواهبي وذكر أنه أخذه من قول دعبل: إن جاءه مرتغباً سائل ... آلت إليه رغبة السائل فسائر أبياته على هذا محذوة. وقال البحتري في مثل ذلك: ألحقتني برجال كنت أتبعهم ... وأطلب الرفد منهم إن هم رفدوا فالآن أجدي كما كانت سراتهم ... تجدي وأحمد إفضالاً كما حمدوا مقسماً نشبي في عصبتي طلب ... فعصبته صدرت وعصبة ترد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 وقال: كرم الأمير بن الأمير فأقبل الـ ... ـمجدي إليه وهو عاف مجتد وقال: أما أياديك عندي فهي واضحة ... ما أن تزال يد منها تسوق يدا ألازمي الكفر إن لم أجزها كملاً ... أم لاحقي العجز إن لم أحصها عددا أصبحت أجدي على العافين مبتدئاً ... منها وما كانت إلا مستميح جدا ومن يبت منك مطوياً على أمل ... فلن يلام على إعطاء ما وجدا وهذا في غاية الحسن. وقال: من شاكر عني الخليفة في الذي ... أولاه من طول ومن إحسان حتى لقد أفضلت من أفضاله ... ورأيت نهج الجود حين أراني ملأت يداه يدي وشرد جوده ... بخلي فأفقرني كما أغناني ووثقت بالخلف الجميل معجلاً ... منه فأعطيت الذي أعطاني أخذ هذا من قول ابن الخياط المكي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 لمست بكفي كفه ابتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي فلا أنا منه ما أفاد ذووا الغنى ... أفدت وأعداني ففرقت ما عندي هما عندي في هذا الباب متكافئان، لأنهما أخذا المعنى الذي ركباه من غيرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 * ذكر الشرف في العطاء قال أبو تمام في أبي دلف: تدعى عطاياه وفراً وهي إن شهرت ... كانت فخاراً لمن يعفوه مؤتنفا ما زلت منتظراً أعجوبة زمناً ... حتى رأيت سؤالاً يجتني شرفا وهذا معنى حسن جداً. وإنما أخذه من قول أمية بن أبي الصلت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 عطاؤك زين لامريء إن حبوته ... بخير وما كل العطاء يزين وقال أبو تمام: لا يكرم النائل المعطى وإن أخذت ... به الرغائب حتى يكرم الطلب وقال البحتري ومنه أخذ: علمتني الطلب الشريف وربما ... كنت الوضيع من اتضاع مطالبي وقال: عالي النوال أنالني بنواله ... شرفاً أطل على النجوم منيفه أي اليدين أجل عندي نعمة ... إغناؤه إياي أم تشريفه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 وقال: وإذا اجتداه المجتدون فإنه ... يهب العلا في نيله الموهوب شهرت عطاياه فصرن قبائلاً ... لقبائل من زوره وشعوب كم حزن من ذكر لغفل خامل ... وبنين من حسب لغير حسيب قول أبي تمام: حتى رأيت سؤالاً يجتني شرفا خير من هذا كله، وإن كان المعنى مسروقاً. وقال أبو تمام في ضد ما تقدم: فإن كان ذنبي أن أحسن مطلبي ... أساء ففي سوء القضاء لي العذر حذا حذو قول عباس بن الأحنف: وما كان مثلي يعتريك رجاؤه ... ولكن أساءت شيمة من فتى محض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 وقال البحتري: لمتني أن رميت في غير مرمى ... وعزيز علي تضييع سهمي إن أكن خبت في شؤال بخيل ... فبكرهي ذاك السؤال ورغمي وهذا جيد بالغ. وأبو تمام أشعر في قوله: «يجتني شرفا» وإن كان المعنى مأخوذاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 * ما قالاه في شفاعة الجواد قال أبو تمام: أنضرت أيكتي عطاياك حتى ... صار ساقاً عودي وكان قضيبا ممطر لي بالجاه والمال ما ألـ ... ـقاك إلا مستوهباً أو وهوبا وإذا ما أردت كنت رشاء ... وإذا ما أردت كنت قليبا وهذا معنى في غاية الحسن وتمثيل في غاية الصحة. وقال: فلقيت بين يديك حلو عطائه ... ولقيت بين يدي مر سؤاله وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله وهذا حسن جداً. ولدعبل مثل معنى البيت الأول وأظن أبا تمام عليه حذا وذلك قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 شفيعك فاشكر في الحوائج إنه ... يصونك عن مكروهها وهو يخلق فأما معنى البيت الثاني فمبتذل متداول، يجري في العادات وفي كلام الناس، إلا أن أبا تمام أحسن العبارة عنه فصار مثلا. وقال البحتري: وكريم غدا فأعلف كفي ... مستميحاً في نعمة من كريم حاز حمدي وللرياح اللواتي ... تجلب الغيث مثل حمد الغيوم وأصحاب السرقات يقولون: هذا مأخوذ من قول أبي تمام: «وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة» وليس الأمر كذلك، لأن هذا المعنى مشترك بين الناس، وليس باختراع لأبي تمام، لأنك دوماً تسمع القائل يقول لمن بلغ حاجته بشفاعته: ما أعتد هذا إلا من مالك، أو من الله ثم منك، فليس لأبي تمام فيه أكثر من أن عبر عنه عبارة حسنة مكشوفة، فصارت مثلاً، والمعنى جار في العادات فجاء به البحتري ومثله بمثال أبدع فيه فأغرب، وهو قوله: حاز حمدي وللرياح اللواتي ... تجلب الغيث مثل حمد الغيوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 فلو كان أبو تمام أورد هذا المعنى، كان البحتري سارقاً منه لا محالة. وقال البحتري: يشفعني فيما يعز وجوده ... ويمهد لي عند الرجال ويشفع سرى الغيث يروي غرزه حيث ينبري ... وتتبعه أكلاؤه حين يقلع وهذا أيضاً تمثيل في غاية الحسن والصحة، وهو نحو قول ابن مطير: فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا وعلى هذا الحذو أيضاً حذا البحتري في وصف قصيدته فقال: فقد أتتك القوافي غب فائدة ... كما تفتح غب الوابل الزهر وقال البحتري: لم يأت جودك سابقاً في سؤدد ... إلا وجاهك للعفاة رديفه غيثان إن حدب تتابع أقبلا ... وهما ربيع مؤمل وخريفه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 وقال البحتري أيضاً: أبا عيسى وأنت المرؤ تعلو ... له النفس الشريفة والقبيل وفرتك لا هوى بك في وفور ... إذا ما حان من حق نزول ولكن جاه ذي خطر شريف ... أراه وهو من جود بديل وقال في المهتدي وابنه العباس: وإني أرتجيك وأرتجيه ... لديك لنائل بك مستفاد وأقرب ما يكون النجح يوماً ... إذا شفع الوجيه إلى الجواد وقال في حمولة: خطبنا إليه قوله غب فعله ... ومن يفعل المعروف فهو يقول وما عائد من جاهه بعد جوده ... بمبعده من أن ينال جزيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 أراني حقيقاً أن أؤول إلى الغنى ... إذا كانت الشورى إليك تؤول وقال: وهبت لنا العناية بعدما قد ... نراها عند أقوام تباع ولم يحظر علينا الجاه حتى ... جرت عنه المذانب والتلاع ففعلك إن سئلت لنا مطيع ... وقولك إن سألت لنا مطاع وقال: ولما التمست جاهه جاء تالياً ... لمستسلف من سبق موهوب ماله ولست خليقاً بانتفاع ترومه ... بقول امريء لم تنتفع بفعاله وقال: ظننت به التي سرت صديقي ... فكان الظن قادم اليقين وكنت إليه في وعد شفيعي ... فصرت إليه في نجح ضميني وما ولي المكارم مثل خرق ... أغر يرى المواعد كالديون وقال: راسنا أمس جاهه وثنى اليو ... م لنا بالرياش أجمع ماله كان معروفه المقدم قولاً ... فقفا القول من قريب فعاله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 قد تصرف البحتري في هذا الباب تصرفاً جميلاً، وأحسن كل الإحسان في قوله: «إذا شفع الوجيه إلى الجواد» ولولا قول أبي تمام: «فلقيت بين يديك حلو عطائه» لفضلته على أبي تمام، ولكني أجعلهما متكافئين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 * ذكر ما استنه الكريم في الناس من الكرم قال أبو تمام: أيقظت نوام الكرام بحادث ... لنداك أظهر كنز كل كريم ولقد نكون ولا كريم نناله ... حتى نخوض إليه ألف لئيم وسنن بالمحمود من أثر الندى ... سنناً شفت من دهرنا المذموم وسم الورى بخصاصة فوسمته ... بسماحة على الخرطوم وهذه معان جياد. وقال: أوليس عمرو سن للناس الندى ... حتى اشتهينا أن نصيب بخيلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 وما زال الناس يستقبحون هذا اللفظ والمعنى، وإنما سمع أبا نواس قال: سن للناس الندى فندوا ... فكأن البخل لم يكن فأخذه وأفسده بشهواته أن يصيب بخيلاً وقال: أرى الناس منهاج الندى بعدما عفت ... مهايعه المثلى ومحت لواحبه ففي كل شرق للبلاد ومغرب ... مواهب ليست منه وهي مواهبه وهذا معنى حسن جداً، ومثله قول البحتري: رغبت قوماً في السماح وأين هم ... إن ساجلوك من السماك الأعزل ساموك من حسد فأفضل منهم ... غير الجواد وجاد غير المفضل فبذلت فينا ما بذلت سماحة ... وتكرماً وبذلت ما لم تبذل قوله: «وجاد غير المفضل»، أي: صار جواداً من لم يقدر على الإفضال، وقوله: «وبذلت ما لم تبذل» أي: لما ساماك حسادك فسمحوا وبذلوا، كان ذلك البذل كأنه منك، وإن لم تكن بذلته على الحقيقة، فهذا معنى قول أبي تمام: ففي كل شرق في البلاد ومغرب ... مواهب ليست منه وهي مواهبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 وقال البحتري: كم سري تقيل السرو عنهم ... واشتباه الأفعال عدوى وإلف! وقال: أقام به في منتهى كل سؤدد ... فعال أقام الناس دون مناله فإن قصرت أكفاؤه عن محله ... فإن يمين المرء فوق شماله وما أحسن ما قال دعبل: علم الجري في السماحة حتى ... قد جرى في السماح كل بليد رأيه للخطوب والسيف للمضـ ... ـرب وقف والمال للتبديد هما في هذا الباب متكافئان، لأنهما ركبا معنى قد تقدم الناس فيه، وهو من المعاني المشتركة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 * في اعتذار الجواد بعد العطاء قال أبو تمام: له كرم لو كان في الماء لم يغض ... وفي البرق ما شام امرؤ برق خلب أخو أزمات بذله بذل محسن ... إلينا ولكن عذره عذر مذنب أزمات: شدائد وجدب. وقال: يعطي عطاء المحسن الخضل الندي ... عفواً ويعتذر اعتذار المذنب هذا من قول دعبل: فتى يعتفيك بإنعامه ... كما تعتفيك يد الطالب ويعطيك معتذراً فوق ما ... تؤمله رغبة الراغب فتحوى مواهبه جمة ... وأنت بمنزلة الواهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وهذا من قول زهير: كأنك تعطيه الذي أنت سائله وأما البحتري فإنه قال في الطائي: أيد الأعباء لو حمله ... سائلو القوم ثبيراً لحمل ساحة إن يعتمدها يعترف ... ناشد السؤدد فيها ما أضل حيث لا تبلى المعاذير ولا ... يطأ اليأس على عقب الأمل ولكن لم يرد البحتري بالمعاذير، الاعتذار الذي يقع مع العطاء على نحو ما ذهب إليه أبو تمام، ولكن قوله: أيد الأعداء لو حمله ... سائلو القوم ثبيراً لحمل ينفي عنه الاعتذار على كل حال. وكلاهما أحسن، وأبو تمام فيما ذهب إليه أشعر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 صفحة فارغة [في المطبوع] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 وها هنا باب آخر في الاعتذار للجواد من تأخر عطائه قال أبو تمام: على أي أحوال مضيت فشاكر ... لما كان من بر الأمير وعاذر فإن صدق البرق الذي شمت عارضاً ... فلا عجب من أن تجود المواطر وإن عاقت الأسباب فالبحر ربما ... تمنع منه جانب وهو زاخر وهذا مثل قول أبي ذفافة المصري، أحد شعراء البرامكة: أنت الربيع الذي تحيا الأنام به ... كل يعيش بفضل منك مقسوم وما السحاب إذا ما انجاب عن بلد ... وحان ميقاته فيه بمذموم إن جدت فالجود أمر قد عرفت به ... وإن تجافيت لم تنسب إلى لوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 وهذا حسن جداً، وأظن أبا تمام عليه حذا. وقد تقدم ابن هرمة في هذا المعنى، فقال في المنصور: يجود إذا ما صادف الجود حقه ... ويبخل أحياناً فيعذر بالبخل وقال المتوكل لعبد الأعلى بن حماد النرسي: إني أريد أن أبرك فيمنعني من ذلك النسيان، فقال: أحسن الله يا أمير المؤمنين عن هذه النية جزاءك، ألا أنشدك في هذا المعنى؟، قال: هات، فأنشده: لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف ولا ألومك إذ لم يجره قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف وقال عمارة بن عقيل في خالد بن يزيد: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 أأترك إن قلت دراهم خالد ... زيارته إني إذاً للئيم وقد يسلع المرء اللئيم اصطناعه ... ويعتل نقد المرء وهو كريم «يسلع» أي: تكثر سلعته. وقال أبو تمام: وكنت أعلم علماً لا كفاء له ... أن ليس كل قطار ينبت العشبا وربما عدلت كف الكريم عن الـ ... ـقوم الحضور ونالت معشراً غيبا وقال البحتري: وما منع الفتح بن خاقان نيله ... ولكنها الأقدار تعطي وتحرم سحاب خطاني جوده وهو مسبل ... وبحر عداني فيضه وهو مفعم وبدر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً ... وموضع رجلي منه أسود مظلم أأشكو نداه بعدما وسع الورى ... ومن ذا يذم الغيث إلا المذمم هما في هذا الباب أيضاً متكافئان، لأن المعنى الذي ركباه مشترك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 * ذكر كتمان الجواد لنائله قال أبو تمام في الفضل بن صالح الهاشمي: سميدع يتغطى من صنائعه ... كما تغطت رجال من فضائحها وفأرة المسك لا يخفي تضوغها ... طول الحجاب ولا يزري بفائحها وهذا غاية في الحسن والحلاوة. وقال في ابن الهيثم: عرف غدا ضرباً نحيفاً عنده ... شكر الرجال وإنه لجسيم أخفيته فخفيته وطويته ... فنشرته والشخص منه عميم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 جود مشيت به الضراء تواضعاً ... وعظمت عن ذكراه وهو عظيم وهذا جيد بالغ. «والضراء» ما واراك من شجر أو غيره، يقال: هو يمشي الضراء أي يستر ما يفعله ولا يجاهر به، يريد أنه يفعل الجميل في ستر ليكون أبعد من الامتنان. وقال في مالك بن طوق: وصنيعة لك قد كتمت جزيلها ... فأبى تضوعها الذي لا يكتم مجد تلوح حجوله وفضيلة ... لك سافر والحق لا يتلثم وهذا معنى لا يسمع ألطف ولا أحسن منه. وقد قال دعبل: إذا انتقموا أعلنوا أمرهم ... وإن أنعموا أنعموا باكتتام تقوم القعود إذا أقبلوا ... وتقعد هيبتهم بالقيام وهذا لعمري حسن، وأحسن منه قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 يهوى اقترابك كل طالب حاجة ... كرماً كما يهوى الطبيب المدنف وإذا صنعت صنيعة أنسيتها ... وذكرت موعدك الذي لا يخلف ولهج الناس بقول الخريمي، وأعرضوا عما سواه وهو يستحق، وذلك قوله: زاد معروفك عندي عظماً ... أنه عندك مستور حقير تناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير وقال منقذ الهلالي: فإن إحياءها إماتتها ... وإن منا بها يكدرها وقال أبو البصير جهم بن عبد الملك أظنه السواق مولى المهالبة: أمواله بين أخلائه ... وفي الوغى كالأسد العادي يكتم ما يفعل من جوده ... وقد حدا في جوده الحادي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وقال أبو قابوس النصراني: رأيت يحيى أتم الله نعمته ... عليه يأتي الذي لم يأته أحد ينسى الذي كان من معروفه أبداً ... إلى الرجال ولا ينسى الذي يعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 * نوادر من باب الجود بيت أبي تمام في الجود قوله: تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله وبيت البحتري: لا يتعب النائل المبذول همته ... وكيف يتعب عين الناظر النظر وهذان المعنيان لا غاية وراءهما في الحسن وقد وقعت فيهما جميعاً معارضة من أهل الإعنات، فقيل في بيت أبي تمام: إن الجواد لا يعطي ما يعطيه من يده، وإن كان في يده شيء يعطيه فلن يكون مبسوط الكف به لأن الكف حينئذ تكون فارغة، وإنما يبسطها للسلام والمصافحة، لا لأن يعطي شيئاً فيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 وهذا معارضة في غاية الفساد، إنما ذهب أبو تمام إلى المعنى المشهور المعتاد في استعمال الناس أن يقولوا: فلان مبسوط اليد بالمكارم، وسبط الأنامل بالخيرات، ويقولون في البخيل: شنج الأصابع، وجعد الكف عن الخير، وهذا أكثر في كلامهم من أن يحتاج عليه إلى استشهاد. وإنما أخرج أبو تمام المعنى على هذه العادة وحذا حذو مسلم بن الوليد في قوله: لا يستطيع يزيد من طبيعته ... عن المروءة والمعروف إحجاما إلا أنه كشف المعنى، وأحسن العبارة عنه، فصار أولى به. وقيل في بيت البحتري: وكيف لا يتعب عين الناظر؟ وأنت ترى الإنسان أبداً يكب على شيء يعمله فتسدر عينه، وخاصة الكاتب المكب على الكتابة، أو الناظر فيها، وهذا أبداً ترى كل أحد يشكوه، وترى الإنسان يعمل طرفه في النظر إلى الشيء البعيد فيسدر ناظره حتى لا يرى شيئاً، فهل هذا كله إلا من إتعاب العين بالنظر، وأنت أبداً تقول للمديم الدراسة للكتب: لا تتعب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 عينك وارفق بها، وروح عنها ونحو هذا. وهذه أيضاً معارضة في غاية الفساد، لأن البحتري لم يذهب إلى استعمال العين وكذها في النظر إلى الشيء الواحد، لأن ذلك إخراج لها عن عادتها الطبيعية، كالكلام الذي إذا أخرجته عن العادة الطبيعية إلى أن ترفع به الصوت من غناء أو حداء، أو خطبة طويلة أتعبت جميع الآلات من الحلق ومجاري النفس والفكين، وإلا فالكلام الذي تستعمله في عاداتك غير متعب، لأنك لست تحمل على الطبيعة، إنما تتركها فيه وعادتها، وذلك غير متعب لها، وكذلك اليد والرجل وسائر الأعضاء، وجناح الطائر مثله، وإذا أتعبت اليد بأن تحمل الشيء الثقيل، وأتعبت الرجل بالمشي الطويل، فقد حكلت على الحركة الطبيعية وأخرجتها عن عادتها، وللطائر أيضاً في طيرانه حدود محمودة في استعمال جناحيه، ومواقيت موقتة، فإن لم يسقط للاستراحة، أسقطه التعب والكد، فهذا كله أنت تراه مشاهدة، فإنما ذهب البحتري إلى أن عين الناظر لا يتعبها النظر الطبيعي، الذي جعل الباري تبارك وتعالى له مبلغاً وقدراً فيها ليستدرك الناظر به معرفة ما يشاهد من الأشياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 وهذان البيتان بيتا الطائيين في الجود. وقال بكر بن النطاح الحنفي: ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله وقد قال مسلم بن الوليد: يجود بالنفس إن ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود وهذا البيت هو بيت مسلم في الجود الذي يفتخر له به، وبيت بكر أجود من هذا لقوله: «ولو لم يكن في كفه غير روحه» ولقوله: « .... فليتق الله سائله» وهذا لعمري إفراط حسن. وبيتا الطائيين أجود معنى وألطف، لأنهما لم يخرجا عن طريقة الجود والكرم، وهذان البيتان خارجان عنهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 * ومن نوادر باب الجود قول أبي تمام في توجهه إلى عبد الله بن طاهر: يقول في قومس صحبي وقد أخذت ... منا السرى وخطى المهرية القود أمطلع الشمس تبغي أن يؤم بنا ... فقلت كلا ولكن مطلع الجود وهذا ما لا نهاية لحسنه، ولكنه نقل هذا المعنى من قول ابن هرمة في وصف امرأة: تبدت لنا كالشمس يوم طلوعها ... بلون غني الجلد عن أثر الورس فلما ارتجعت الطرف قلت لصاحبي ... على مرية ما ها هنا مطلع الشمس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 فحول المعنى إلى ذكر الجود. وقال البحتري في معنى آخر: دان على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب كالبدر أفرط في العلو وضوؤه ... للعصبة السارين جد قريب وهذا أيضاً غاية في حسنه ومعناه، وبيتا أبي تمام ألطف معنى. وقال أبو تمام: رأى البخيل من كل فظيعاً فعافه ... على أنه منه أمر وأفظع وكل كسوف في الدراري شنعة ... ولكنه في البدر والشمس أشنع قوله: «على أنه منه»، أي: على أن البخل من أبي سعيد أمر وأفظع منه من غيره. وقوله: «وكل كسوف في الدراري شنعة» يريد بالدراري: النجوم المضيئة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وكسوفها ليس مما يظهر لعيون الناس، لأن كسوف الكواكب إنما هو أن يحصل سمته كوكب في فلك هو أسفل من فلكه فيستره، فذاك كسوفه، ولا يتفقده ولا يعرفه إلا المنجمون، فليست فيه شنعة، لأن الشنعة ما عمت رؤيته فجعل أبو تمام كسوف الكواكب شنعة وجعل كسوف الشمس والبدر أشنع وقد أحسن ولم يسيء. وللبحتري شيء يقارب هذا المعنى، ولكن ليس مثله في الجودة وهو قوله: فرق بين الناس في نجرهم ... ما يعظم العبد له سيده وأنجم الأفق نظام خلا ... ما خالفت أنحسه وأسعده لم أحفل الأشباح حتى أرى ... بيان ما تأتي به الأفئدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 وهذا شبيه بقول نصيب الأصغر: وإذا جهلت من امريء أعراقه ... وقديمه فانظر إلى ما يصنع وهذا معنى شائع. وقال نابغة بني شيبان: لا تحمدن امرأ حتى تجربه ... ولا تذمنه من غير تجريب وقال آخر: إِني امرؤ قلما أثني على أحد ... حتى أرى بعض ما يأتي وما يذر لا تحمدن امرأ حتى تجربه ... ولا تذمن من لم يبله الخبر وقد أحسن بشار في قوله: ولولا الذي زعموا لم أكن ... لأحمد ريحانة قبل شم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 وأظن أول من نظم هذا المعنى الأعشى في قوله: فجئتك مرتاد ما خبروا ... ولولا الذي خبروا لم ترن وقال آخر: أبل من شئت تقله ... عن قليل لفعله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 * ومن نوادر باب الجود قول أبي تمام في محمد بن الهيثم لدى ملك من أيكة الجود لم يزل ... على كبد المعروف من فعله برد وداني الجدا تأتي عطاياه عل ... ومنصبه وعر مطالعه جرد فقد نزل المرتاد منه بماجد ... مواهبه غور وسؤدده نجد به أسلم المعروف بالشام بعدما ... ثوى منذ أودى خالد وهو مرتد فقال: «داني الجدا» ثم قال «تأتي عطاياه من عل» و «الجدا»: هو العطاء الذي يعطيه، وهذا من عويصاته التي يتجنب مثلها الحذاق، وهو مشغوف بها وكأنه يريد: أن عطاياه دانية من يد المتناول، وأنها تأتي من عل لعلو قدره، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 أو أراد أنها تأتي كما يأتي السيل من ارتفاع إلى هبوط، فيكون أغزر لها وأسرع، وكأن المعنى الأول أقوى، لأنه قد كرره وأكده بقوله: «مواهبه غور وسؤدده نجد» وبقوله: ومنصبه وعر مطالعه جرد أي: جداه دان قريب ممن يريده، ومنصبه بعيد المرام ممن يريد التعلق به أو المساواة له، فمطالعه جرد: جمع أجرد، أي ملس لا يتعلق بها شيء، كما يقال: «تقدم إليه المتناول» والمعنيان لا يتشاكلان كل التشاكل؛ لأن العطايا ليست من المنصب في شيء، وإنما كان ينبغي أن يقول: وداني الجدا تأتي عطاياه من يد هي مع الثريا، أو من راحة هي فوق النجم، حتى تكون عطاياه دانية مع علو يده، لأن العطايا منها تأتي، وعنها تصدر، فيشبه شيء شيئاً، وتصح المقابلة، أو أن يجعل الممدوح دانياً ممن يريده، دمثاً متواضعاً سهلاً، ويجعل منصبه رفيعاً وعراً صعباً، حتى يكون المعنى أنه رفيع القدر على تواضعه، كما قال البحتري: دنوت تواضعاً وعلوت قدراً ... فشأناك انخفاض وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تسامي ... ويدنو الضوء منها والشعاع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 فأما أن تجعل عطاياه دانية مع علو قدره ورفيع منصبه، فكذا يجب أن تكون، وليس هذا ببديع، ولا بمعنى مفيد، لأنه ليس بطباق، ثم أنا ما علمنا أن للمعروف كبداً، وأنه كان مرتداً فأسلم، إلا من هذه الأبيات، فأما قوله: « ..... ............. وإن قست ... * كبد الزمان علي كنت رؤوفا» فإن استعارة الكبد ها هنا ليست بقبيحة كقبح استعارة الكبد للمعروف، لأن المعروف لا يوصف بالقسوة ولا بالشدة كما وصف الزمان، فلما وصف الزمان بالشدة والصعوبة، لم ينكر أن يجعل له على الاستعارة كبداً قاسية، فعلى هذه السبيل وما أشبهها تحسن الاستعارة وتقبح، وقوله: «منذ أودى خالد وهو مرتد» يريد خالد بن يزيد بن مزيد. وقال في خالد بن يزيد أيضاً: ظل عفاة يحب زائره ... حب الكبير الصغير من ولده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 إذا أناخو ببابه أخذوا ... حكميهم من لسانه ويده آثرني إذ جعلته لجأ ... كل امريء لا جيء إلى سنده إيثار شزر القوى يرى جسد الـ ... ـمعروف أولى بالطب من جسده فقد أفدنا من الأبيات الأول أن المعروف كبداً، وأنه كان مرتداً فأسلم، وأفدنا من هذه الأبيات أن جسده مما يجب أن يتطبب له، وأن الممدوح يرى أنه أولى بالطب من جسد نفسه. وقال: وقددت من شيم كأن سيورها ... يقددن من شيم السحاب المرزم شهرت فما تنفك توقع باسمها ... من قبل معناها بعدم المعدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 وهذا من فلسفته التي يخرج العبارة عنها خروجاً صحيحاً، يريد أن المعدم إذا ملك وفكر في كريم أخلاقك، ذهب عنه البؤس والفقر قبل عطائك لثقته بالغنى من جهتك. وقال: لا شمسه حرة تشوى الوجوه بها ... يوماً ولا ظله عنها بمنتقل تحول أمواله عن عهدها أبداً ... ولم يزل قط عن عهد ولم يحل وهذا معنى ليس بالجيد، وظاهره أن أمواله أبداً تنتقل عن يده وأن كونها في يده عهد بينها وبينه، وليس بممدوح من جعل هو وماله متعاهدين، وكأنه أراد أن أمواله تحول عن عهد العاهد لها من اجتماعها عنده، ووفورهما لديه، لأنه يفرقها، ولم يحل هو قط عن عهد عليه من كرم ولا غيره. والجيد الحسن الذي لا يتطرق عليه التأول في هذا المعنى قول البحتري: إما تنقلت العهود فإنه ... ثبت على عهد الندى وذمامه معاهدة الندى إنما هي بذل المال. ومثله في الجودة قول دعبل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 والجود يعلم أني منذ أن عاهدني ... ما خنته وقت ميسوري ومعسوري وقال البحتري في معاقدة الجواد والجود: إن القناني وإن الندى ... تربا اصطحاب وأخيا لده تعاهدا حلفاً على وفر ذي ... وفر إذا جمعه بدده فالفعل فوت القول إن فاض في ... عارفة والجود فوت الجده وهذا معنى حسن حلو، وقد تقدم الناس فيه، فقال موسى شهوات في سعيد بن خالد بن أسيد: عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لم يرض الندى بعقيد فأخذت هذا المعنى بعينه أخت الوليد بن طريف فقالت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 حليف الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لم يرض الندى بحليف وأظن الأعشى أول سابق إلى هذا المعنى بقوله: تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بأسحم داج عوض لا نتفرق قيل في «أسحم داج» أنه أراد: تقاسما في ظلمة الرحم، أي: تحالفا هناك وتعاقدا، لأنهما أخوان، وقيل «أسحم داج» الرماد، لأن العرب كانت تحلف به وبالنار. وقال حبيب بن شوذب المدني في السري بن عبد الله الهاشمي: فك السري عن الندى أغلاله ... فجرى وكان مكبلاً مغلولا وتعاقدا العقد الوثيق وأشهدا ... من كل قوم مسلمين عدولا فوفى الندى لك بالذي عاقدته ... ووفى السري فما يريد بديلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 فهذا لم يرض بالحلف والعقد حتى أوقع بينهما شهادة قوم مسلمين عدول، فويحه، ألا قال: «وأشهدا ملك السماء وأشهدا جبريلا»؟!، لأن الإنسان قد يقول فيما يعقده على نفسه: أشهد الله وملائكته على كذا، وهذا النحو إنما يخرجه الشعراء مخرج النادرة، وهو غير حسن ولا جميل. وقد قال حبيب بن شوذب هذا وهو حسن، وإن كان قد غلا في الاستعارة: أنت أنف الجود إن فارقته ... عطس الجود بأنف مصطلم ومثل قوله: فك السري عن الندى أغلاله ... فجرى وكان مكبلاً مغلولا قول بكر بن النطاح الحنفي: أبا دلف إن السماحة لم تزل ... مغللة تشكو إلى الله غلها فبشرها ربي بميلاد قاسم ... وأرسل جبريلاً إليها فحلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وهذا ليس بغلو ولا استعارة قبيحة. ومما أخرج مخرج النادرة قول ابن المولى: رشت الندى ولقد تكسر ريشه ... فعلا الندى فوق البلاد فطارا ونحو هذا ما أنشده الأخفش لبعضهم، وهو من باب الهجاء: لأضربن رجائي ألف مقرعة ... غداً وأصلب آمالي على خشبه إذ منياني قوماً لا حراك بهم ... وإن سمعت لهم في دورهم جلبه وهذه نوادر من الشعراء مضحكات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 * ومن نوادر باب الجود ويصلح أن يكون في باب «تعجرف الجواد على ماله»، قول البحتري: غريب السجايا ما تزال عقولنا ... مدلهة في خلة من خلاله إذا معشر صانوا السماح تعسفت ... به همة مجنونة في ابتذاله قوله: «إذا معشر صانوا السماح» معنى رديء، لأن البخيل ليس من أهل السماح، فيكون له سماح يصونه، وسواء عليه قال: صانوا السخاء، أو صانوا الجود أو صانوا الكرم، فإن هذا كله لا يملك البخلاء منه شيئاً، وهو منهم بعيد، فكيف يصونونه؟، فإن قيل: إنما أقام السماح مقام الشيء يسمح به، وفي مجازات العرب ما هو أبعد من هذا، قيل: البحتري لا يسوغ له مثل ذلك ولا يجوز له، لأنه متأخر، لا سيما وليست ها هنا ضرورة؛ لأنه قد كان يمكنه أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 يقول: «صانوا الثراء» مكان «السماح»، [وينبغي أن يلحق هذا بمساوئه]. ومن هذا الباب قول البحتري أيضاً: يا ابن عبد المليك الحمـ ... ـد وقوف بين الندى والجود ما فقدنا الإعدام حتى مددنا ... سبباً نحو سيبك الموجود سؤدد يصطفى ونيل يرجى ... وثناء يحيا ومال يودي ويصلح أن يكون في باب الرجاء والأمل. قوله: «ملكك الحمد وقوف» إن كان أراد: وقوف قوم بين الندى والجود، أي: ليس لهم فيهما حظ، فقد أقام النعت مقام المنعوت، والمعنى رديء، جعل الممدوح لم يملك الحمد إلا لما بخل هؤلاء، فلم يكن لهم في الجود حظ، فكأنهم هم الذين ملكوه الحمد، أي: إنما حمد لما أضيفت أفعاله إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 أفعال البخلاء، وهذا إلى الذم أقرب منه إلى المدح. وكأنه أراد «ملكك الحمد وقوف»، أي: وقوفك بين الندى والجود، أي: إنك لا تقف إلا بينهما، كأنه مقيم بينهما لا يفارقهما، كما يقال: أنا مقيم بين أمرك ونهيك، وواقف عند طاعتك. وقوله: «بين الندى والجود» ليس بالجيد، لأن الندى هو الجود والجود هو الندى، يقال: فلان يتندى على إخوانه ويتجود عليهم، ويقال: هو ذو ندى، كما يقال: هو ذو جود. و «بين» ها هنا ليست قوية المعنى، لأنها ليست كالواو التي تنسق بالكلمة على الكلمة الأخرى التي هي في معناها، مثل النأي والبعد، والسر والنجوى، بل يوجب أن تكون إحدى الكلمتين غير الأخرى، وكأن البحتري ذهب إلى أن الندى سجيته في الكرم والبذل، وأن الجود العطاء، وهو محتمل وينبغي أن يلحق هذا أيضاً بمساوئه. ومن نوادر باب الجود قول أبي تمام: نعم الفتى عمر في كل نائبة ... نابت وقل له نعم الفتى عمر يعطي ويحمد من يأتيه يحمده ... فشكره عوض وماله هدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 وهذا نهاية في حسنه وصحته، ولست أعرف للبحتري مثل هذا المعنى، ولكنه قال: فهو يعطي جزلاً ويثني عليه ... ثم يعطي على الثناء جزاء وهذا مذهب آخر، وذلك ألطف وأجود في معناه. ومن نوادر باب الجود أيضاً قول أبي تمام في أبي الغريب يحيى بن عبد الله القمي: عرفنا الجود فيك وما عرضنا ... لسجل من نداك ولا ذنوب ولكن دارة القمر استتمت ... فدلتنا على مطر قريب وقال البحتري: معول أمل ترجى نسيئة ... ويصبح منسوها مليين بالنقد وقد دفعوا بخل الزمان بجوده ... ولا طب حتى يدفع الضد بالضد ومن نوادر باب الجود قول أبي تمام: من شرد الإعدام عن أوطانه ... بالبذل حتى استطرف الإعدام أخذ «تشريد الإعدام» -والله أعلم- من قول الأعشى: هم يطردون الفقر عن جارهم ... حتى يرى كالغصن الناضر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 إلا أن أبا تمام شرد الإعدام عن أوطانه، والأعشى طرد الفقر عن جار القوم. وما زال الناس يعيبون قوله: «حتى استطرف الإعدام». وقال أبو تمام: غريم للملم به وحاشا ... نداه م مماطلة الغريم هذا حذاه على قول بشار: كأن لهم ديناً عليه وما لهم ... سوى جود كفيه عليه حقوق وقال البحتري: وما ولي المكارم مثل خرق ... أغر يرى المواعد كالديون وقال أبو تمام: وترى تسحبنا عليه كأننا ... جئناه نطلب عنده ميراثا وهذا حسن جداً. وقال أبو تمام: ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 وقال البحتري: إلى غمر في ماله تستخفه ... صغار الحقوق وهو عود مجرب وهذا من قول دعبل: تخال أحياناً به غفلة ... من كرم النفس وما أعلمه! وقال أبو دلامة في المنصور: وأخدع خليفتنا بمسألة ... إن الخليفة للسؤال منخدع وقال آخر: مجرب لا ترى الأعداء تخدعه ... ولو يخادعه السؤال لانخدعا وقال أبو تمام: وما إن زال في جرم بن عمرو ... كريم من بني عبد الكريم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 يكاد نداه يتركه عديماً ... إذا هطلت يداه على عديم تراه عن حرم المعالي ... فتحسبه يدافع عن حريم أحق الناس بالكرم امرؤ لم ... يزل يأوي إلى أصل كريم أحلهم الندى سطة المعالي ... إذا نزل البخيل على التخوم إذا نزل النزيع بهم قروه ... رياض الود من أنف جميم فلو أبصرتهم والزائريهم ... لما مزت البعيد من الحميم أخذ هذا المعنى من قول محمد بن بشير الخارجي: وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيهما ذوو الأرحام وقد ذكرته في سرقاته المجموعة. ومن نوادر باب الجود قول أبي تمام: شافهت أسباب الغنى بمحمد ... حتى ظننت بأنها تتكلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 قد تيمت منه القوافي بامريء ... ما زال بالمعروف وهو متيم يحلو ويعذب إن زمان ناله ... بغنى وتلتاث الخطوب فيكرم تلقاه إن طرق الزمان بمغرم ... شرهاً إليه كأنما هو مغنم لا يحسب الإقلال عدماً بل يرى ... أن المقل من المروءة معدم وهذا مدح شريف. وأبو تمام في هذه الأبواب من النوادر أكثر تصرفاً وأشعر من البحتري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 * ذكر اعتداد المداح بنعم الممدوحي ن قد مر في هذه الأبواب من هذا الجنس غير شيء مما وجدته لائقاً بموضعه فأثبته فيه، وهذا باب مفرد في ذلك. قال أبو تمام: وكم لك عندي من يد مستهلة ... علي ولا كفران مني ولا جحد يد تستزل الدهر من نفحاتها ... ويخضر من معروفها الأفق الورد وهذا حسن جداً. وقال البحتري: يد لك عندي قد أبر ضياؤها ... على الشمس حتى كاد يخبو سراجها فإن تتبع النعمى بنعمى فإنه ... يزين اللآلي في النظام ازدواجها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وكنت إذا مارست عندك حاجة ... على نكد الأيام هان علاجها وهذا أيضاً حسن جداً. وقال البحتري أيضاً: أما أياديك عندي فهي واضحة ... ما إن تزال يد منها تسوق يدا ألازمي الكفر إن لم أجزها كملاً ... أم لاحقي العجز إن لم أحصها عددا لم لا أمد يدي حتى أنال بها ... مدى النجوم إذا ما كنت لي عضدا وقال أيضاً: كم من يد لك لم أكن أشري بها ... ربعي صوب الديمة السحاح إن سدت فيها المنعمين فإنني ... بالشكر عنها سيد المداح وقال أبو تمام في كف الدهر ونوائبه: لقيت صروف الدهر عني تابعاً ... لأمر العلى واخترت شكري على عذري وأوليتني في النائبات صنائعاً ... كأن أياديها فجرن من البحر فعلمتني أن ألبس الحمد أهله ... وذكرتني ما قد نسيت من الشكر قوله: «وذكرتني ما قد نسيت من الشكر» حسن جداً، يريد عهدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 بإحسان المحسنين إلي ممن كنت أشكره بعيد، فنسيت الشكر حتى أحسنت إلي فذكرته بشكري إياك. وقال أبو تمام في نحوه: حبيب بغيض عند راميك عن قلى ... وسيف على شانيك ليس له غمد وكم أمطرته نكبة ثم فرجت ... ولله في تفريجها ولك الحمد وقد كان دهراً للحوادث مضغة ... فأضحت جميعاً وهي عن لحمه درد تصارعه لولاك كل ملمة ... ويعدو عليه الدهر من حيث لا يعدو وقال في نحوه: جعلت حطاماً منكب الدهر إذ نوى ... زحامي لما أن جعلتك منكبي وما ضيق أقطار البلاد أضافني ... إليك ولكن مذهبي فيك مذهبي فقومت لي ما اعوج من قصد همتي ... وبيضت لي ما اسود من وجه مطلبي وقال أبو تمام في كف الدهر نوائبه وقمعها: نبذت إليه همتي فكأنما ... نبذت به نجماً على الدهر ثاقبا وكنت امرأ ألقى الزمان مسالماً ... فآليت لا ألقاه إلا محاربا وهذا جيد حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 وقال في نحوه وهو أحسن من كل حسن وأجود من كل جيد: بمهدي من أصرم عاد عودي ... إلى إيراقه وامتد باعي أطال يدي على الأيام حتى ... جزيت صروفها صاعاً بصاع وهذا عين هذا الباب كله. وقال: قرب الدهر من يدي وأكنت ... يده من سمائم العدم حالي لهذا أضحى ثنائي طريقاً ... عامراً بينه وبين الليالي وهذا عين هذا الباب كله في الرداءة والسخف؛ لأن قوله: «وأكنت يده من سمائم العدم حالي» استعارة ما رواء قبحها غاية. وقال البحتري: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 وإن ابن دينار ثنى وجه همتي ... إلى الخلق الفضفاض والنائل النهب فلم أمل إلا من مودته يدي ... ولا قلت إلا من مواهبه حسبي لقيت به حد الزمان ففله ... وقد يثلم العضب المهند في العضب وقال: ألنت لي الأيام من بعد قسوة ... وعاتبت لي الدهر المسيء فأعتبا وألبستني النعمى التي غيرت أخي ... على فأمسى نازح الود أجنبا وقال في ضد البيت الأخير: وعرفت ودك في تعصب شيعتي ... ووجوه إخواني وعطف أقاربي وقال: وآليت لا أنسى بلوغي بك العلى ... على كره شتى من شهود وغيب ودفعي بك الأعداء عني وإنما ... دفعت بركن من شروري ومنكب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 وقال: تداركني الإحسان منك ومسني ... على حاجة ذاك الجدا والتطول ودافعت عني حين لا الفتح يبتغي ... لدفع الذي أخشى ولا المتوكل وقال: أأنساك بعد الهول ثم انصرافه ... وبعد وقوع الكره ثم اندفاعه إذاً نسي الله اطيافي ببيته ... ووفد الحجيج حاشد في اجتماعه وقال أبو تمام: أبديت لي عن جلدة الماء الذي ... قد كنت أعرفه كثير الطحلب ووردت بي بحبوحة الوادي ولو ... طاوعتني لوقفت عند المذنب وبرقت لي برق اليقين وطالما ... أمسيت مرتقباً لبرق الخلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 فجعلت لي مندوحة من بعدما ... أكدى على تصرفي وتقلبي والحر يسلبه جميل عزائه ... ضيق المحل فكيف ضيق المذهب هيهات تأبى أن تضل بي السرى ... في بلدة فيها كوكبي وهذا كله جيد بالغ. وقال أبو تمام في الاستغناء بالممدوح عمن سواه: فتى أحيت يداه بعد يأس ... لنا الميتين من كرم وجود لبست سواه أقواماً فكانوا ... كما أغنى التيمم بالصعيد وقال في مثل ذلك: غنيت عمن سواه وحولت ... عجاف ركابي من سعيد إلى سعد تجلى به رشدي وأثرت به يدي ... وفاض به ثمدي وأورى به زندي وما زال منشوراً علي نواله ... وعندي حتى قد بقيت بلا عند قوله: «قد بقيت بلا عند» من كلام السقاط ورذال العوام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وقال البحتري في نحو هذا: وأغنيتني عن معشر كنت برهة ... أكافحهم عن نيلهم وأقارع فلست أبالي جاد بالبذل باذل ... على راغب أو ضن بالخير مانع وقال في نحوه: نفسي فداؤك طالما أغنيتني ... فكفيتني عن هذه الأشباح خلق ممثلة بغير خلائق ... ترضى وأبدان بلا أرواح وقال في نحوه: لله دركما من سيدي زمن ... أجريتما من معاليه إلى أمد وجدت عندكما الجدوى ميسرة ... أوان لا أحد يجدي على أحد وقد تطلبت جهدي ثالثاً لكما ... عند الليالي فلم تفعل ولم تكد وقال: ورجال جاروا خلائقك العز ... وليست يلامق من دروع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 وليالي الخريف خضر ولكن ... زهدتنا عنها ليالي الربيع قوله: «وليست يلامق من دروع» تشبيه قبيح جداً، وغير لائق بالمعنى، وكان ينبغي -لما ذكر المجاراة- أن يقول: وليس البطيء مثل السريع، ونحو هذا، أو لو كان جعل صدر البيت «ورجال ظننتهم جنناً دوني»، لصلح أن يقول «وليست يلامق دروع» فتصح القسمة، لأن «اليلامق» جمع «يلمق»، وهو القباء المحشو، ولا يرد ما يرد الدرع التي هي أحصن الجنن، إذ لو ساعدت القافية لما ذكر الغر حتى يقول: وليس الأغر مثل البهيم، لكان هذا من أصح تقسيم. والبحتري أحذق الناس بالتقسيمات والمقابلات، ولست أدري كيف تسامح في مثل هذا، وإذا لم تساعد القافية، فاطراح البيت من الشعر واستئناف آخر أولى بالصواب، وأشبه بمذاهب الحذاق من الشعراء. وقال أبو تمام في نحو آخر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 وما سافرت في الآفاق إلا ... ومن جدواك راحلتي وزادي مقيم الظن عندك والأماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد هذا من قول أبي نواس: وإن جرت الألفاظ منا بمدحة ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني وإنما أخذ أبو نواس هذا من قول كثير: متى ما أقل في آخر الدهر مدحة ... فما هي إلا لابن ليلى المكرم وما أحسن ما اعتذر ابن هرمة، وليس هو هذا المعنى بعينه، وذلك قوله: فإن أك قد هفوت إلى أمير ... فعن غير التطوع والسماح ولكن سقطة عيبت علينا ... وبعض القول يذهب في الرياح وقال أبو تمام: أعطيتني دية القتيل وليس لي ... عقل ولا حق عليك قديم إلا ندى كالدين حل قضاؤه ... إن الكريم لمتفيه غريم وقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 صدفت عنه فلم تصدف مودته ... عني وعاوده ظني فلم يخب كالغيث إن جئته وافاك ريقه ... وإن تحملت عنه كان في الطلب وهذا في غاية الحسن والصحة والحلاوة. وقال: كل شعب كنتم به آل وهب ... فهو شعبي وشعب كل أديب لم أزل بارد الجوانح مذ خضـ ... ـخضت دلوي في ماء ذاك القليب بنتم بالمكروه دوني وأصبحـ ... ـت الشريك المختار في المحبوب ثم لم أدع من بعيد لدى الإذ ... ن ولم أثن عنكم من قريب كل يوم تزخرفون فنائي ... بحباء فرد وبر غريب إن قلبي لكم لكالكبد الحر ... ى وقلبي لغيركم كالقلوب وهذا الاعتداد عندي الذي لا يفي بحسنه وغرابته شيء. وقال: أبا سعيد ما وصفي بمتهم ... على الثناء وما شكري بمخترم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 لئن جحدتك ما أوليت من حسن ... إني لفي اللؤم أحظى منك في الكرم أنسى ابتسامتك والألوان كاسفة ... تبسم البرق في داج من الظلم كذا أخوك الندى لو أنه بشر ... لم يلف طرفة عين غير مبتسم رددت رونق وجهي في صحيفته ... رد الصقال بهاء الصارم الخذم وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي وقال البحتري: أأكفرك النعماء عندي وقد نمت ... على نمو الفجر والفجر ساطع وأنت الذي أعزرتني بعد ذلتي ... فلا القول مخفوض ولا الطرف خاشع وقال: أراك بعين المكتسي ورق الغنى ... بآلائك اللاتي يعددها الشعر ويعجبني فقري إليك ولم أكن ... ليعجبني لولا محبتك الفقر ووالله ما ضاعت أياد أتيتها ... إلي ولا أزرى بمعروفك الكفر ومالي عذر في جحودك نعمة ... ولو كان لي عذر لما حسن العذر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 وقال: أعطيتني حتى حسبت جزيل ما ... أعطيتنيه وديعة لم توهب فشبعت من بر لديك ونائل ... ورويت من أهل لديك ومرحب أخذه من قول الرزدق: أعطاني المال حتى قلت يودعني ... أو قلت أودع مالاً قد رآه لنا وبيت البحتري أجود. وقال: إني هجرتك إذ هجرتك وحشة ... لا العود يذهبها ولا الإبداء أخجلتني بندى يديك وسودت ... ما بيننا تلك اليد البيذاء وقطعتني بالجود حتى إنني ... متخوف ألا يكون لقاء صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجب وبر راح وهو جفاء ليواصلنك ركب شعر سائر ... يرويه فيك لحسنه الأعداء حتى يتم لك الثناء مخلداً ... أبداً كما تمت لي النعماء فتظل تحسدك الملوك الصيد بي ... وأظل يحسدني بك الشعراء وهذا أيضاً حسن حلو في معناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 وقريب منه قول مروان الاصغر -وهو ابن أبي الجنوب- في المتوكل: وأمسك ندى كفيك عني ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا وقال البحتري -وموضعها مع الأبيات في أول الباب-: لابس منك نعمة لا أرى الإخـ ... ـلاف إلا في حالة لها بخليق إن تقل زينة فحلية عقيا ... ن وإن خفة ففص عقيق هي أغلت قدري وأمضت لساني ... وأشاعت باسمي وبلت ريقي ولست أعرف للبحتري معنى رثاً ولفظاً غثاً إلا قوله: «فص عقيق». وأبو تمام في هذا الباب أشعر من البحتري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 صفحة فارغة [في المطبوع] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 * وهذا باب فيما نطقا به من الشكر والحمد والباب الذي رسمته وترجمته قبل هذا بالاعدادهو صريح الشكر، وفي هذا الباب إفصاح بلفظ الشكر والحمد. قال أبو تمام في الحسن بن وهب: يهب النائل الجزيل ويعطي ... إن مطلنا بالشكر بعد المطال لفظ «المطل بالشكر» ها هنا حلوة جداً. وقال في ابن الهيثم: أقول ببعض ما أسديت عندي ... وما أطلبتني قبل الطلاب ولو أني استطعت لقام عني ... بشكرك من مشي فوق التراب إذاً شكرتك مذحج حيث كانت ... بنو ديانها وبنو الضباب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 وجئتك في قضاعة قد أطافت ... بركني عامر وبني جناب ولاستنجدت حنظلة وعمراً ... ولم أعدل بسعد والرباب هذه لام التوكيد. ولاسترفدت من قيس ذراها ... بني بدر وصيد بني كلاب ولاحتفلت ربيعة لي جميعاً ... بأيام كأيام الكلاب وأشفي من صميم الشكر نفسي ... وترك الشكر أثقل للرقاب وقال في مدح الحسن بن وهب: والحمد شهد لا ترى مشتاره ... يجنيه إلا من نقيع الحنظل غل لحامله ويحسبه الذي ... لم يوه عاتقه خفيف المحمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 وقال: أثنيت إذ كان الثناء حبالة ... شركاً يصاد به الكريم المنعم ووفيت إن من الوفاء تجارة ... وشكرت إن الشكر حرث مطعم وقال البحتري: يميل وزن القوافي بالنوال ولو ... راح النوال وفي ميزانه أحد والشكر أن يخبر الوراد سائلهم ... عن فضل مختبر العد الذي وردوا وقال أبو تمام في ابن المعتصم: والحمد برد جمال اختالت به ... غرر الفعال وليس برد لباس وكأن بينهما رضاع الثدي من ... فرط التصافي أو رضاع الكاس وقال في أبي عبد الله حفص بن عمر الأزدي: وما كنت ذا فقر إلى صلب ماله ... وما كان حفص بالفقير إلى حمدي ولكن رأي شكري قلادة سؤدد ... فصاغ لها سلكاً بهياً من الرفد «السلك» هو الخيط نفسه، وذلك لا يصاغ، ولو قال: «فصاغ عقداً» كان أحسن. فما فاتني ما عنده من حبائه ... ولا فاته من فاخر الشعر ما عندي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 وقال أبو تمام في ابن أبي ربعي: ما من جميل من الدنيا ولا حسن ... إلا وأكثره في ذلك الخلق يا منة لك لولا ما أخففها ... به من الشكر لم تحمل ولم تطق بالله أدفع عني ثقل فادحها ... فإنني خائف منها على عنقي وقال البحتري في يوسف بن محمد: وما اخترت داراً غير دارك من قلى ... وأين ترى قصدي ومن دوني البحر سأشكر لا أني أجازيك نعمة ... بأخرى ولكن كي يقال له شكر وأذكر أيامي لديك وحسنها ... وآخر ما يبقي من الذاهب الذكر وقال البحتري: بنعمتكم يا آل سهل تسهلت ... عليَّ نواحي دهري المتوعر شكرتكم حتى استكان عدوكم ... ومن يول ما أوليتموني يشكر ألست ابنكم دون البنيين وأنتم ... أحباء أهلي دون معن وبحتر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 وقال في أبراهيم بن حسن بن سهل: جئناك نحمل ألفاظاً مدبجة ... كأنما وشيها من يمنة اليمن نهدي القريض إلى رب القريض معاً ... كحامل العضب يهديه إلى عدن من كل زهراء كالنوار مشرقة ... أبقى على الزمن الباقي من الزمن شكر امريء ظل مشغولاً بشكرك عن ... فرط البكاء على الأطلال والدمن أي: هي شكر. وقال في عبد الله بن يحيى بن خاقان أخي عبيد الله: نفسي فداء أبي محمد الذي ... ما زلت أحمد في ذراه مكاني خل بلغت برأيه شرف العلى ... وأخ غنيت به عن الإخوان والله يجزيك الذي لم يجزه ... شكري ولم يبلغ مداه لساني وقال في الفضل بن إسماعيل الهاشمي: مستأثر بالمكرمات تلومه ... فيها خلائق حاسد وبخيل ومتى عرضت لشكره فالبرح من ... نيل على ثبج الثناء ثقيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 وقال في إسماعيل بن بلبل: هاتيك أخلاق إسماعيل في تعب ... من العلا والعلا منهن في تعب أتعبت شكري فأضحى منك في نصب ... أقصر فما لي في جدواك من أرب لا أقبل الدهر نيلاً لا يقوم به ... شكري ولو كان مسديه إلي أبي لما سألتك وافاني نداك على ... أضعاف ظني فلم أظفر ولم أخب وقد أحسن البحتري في هذا كل الإحسان. وقد قال دعبل في خلاف هذا المعنى، وكلاهما في غاية الحسن فقال يمدح قوماً: لا يقبلون الشكر ما لم ينعموا ... نعمى يكون لها الثناء تبيعا وقال أبو تمام وينقل إلى الباب الذي قبله: ومن الرزية أن شكري صامت ... عما فعلت وأن برك ناطق تأتي الصنيعة منك ثم أسرها ... إني إذاً ليد الكريم لسارق ويروى: لندى الكريم لسارق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 وقال في مثله: للنار نار الشوق في كبد الفتى ... والبين أوقدها هوى مسموم خير له من أن يخامر صدره ... وحشاه معروف امريء مكتوم سرق الصنيعة واستمر بلعنة ... يدعو عليه النائل المظلوم أأقنع المعروف وهو كأنه ... قمر الدجى إني إذاً للئيم مثر من المال الذي ملكتني ... أعناقه ومن الوفاء عديم فأروح في بردين لم يسحبهما ... قبلي فتى وهما الغنى واللوم وأبو تمام في هذا الباب أيضاً ألطف من البحتري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 * كتاب البأس والنجدة فأول ما أبدأ به من ذلك: - وصف الجيش وكثافته وعظمه. - وفي الرأي والتدبير. - وفي صفة الحرب. - وفي وصف رجال الحرب. - وفي تشبيه الأبطال بالسباع. - وفي وصف السيوف والرماح. - وفي وصف الدروع والجنن. - وفي وصف الخيل في الحرب. - وفي المسير إلى أرض العدو والنزول. - وفذ كر الظفر والفتوح. - وفي ذكر من انهزم ونجا بحشاشته ومن أسر. - ذكر الصلب على الجذوع وحمل الرؤوس. - ذكر الحرب في البحر. - ذكر حرب ذوي الأرحام والحض على الصلح والصفح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 * ما قالاه في وصف الجيش وكثافته قال أبو تمام: مثعنجر لجب ترى سلافة ... ولهم بمنخرف الفضاء زحام ملأ الملا عصباً فكاد بأن يرى ... لا خلف فيه ولا له قدام «مثعنجر»، يقال: اثعنجرت العين دمعاً، واثعنجر دمعها، وهو انصباب الدمع وتتابعه، واثعنجر السحاب بالمطر، واثعنجر المطر، وقول امريء القيس: «وجفنة مثعنجرة» أي: مملوءة تفيض إهالة. و «السلاف»: المتقدمون، و «لجب»، أراد: كثير الأصوات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 وقوله: «ملأ الملا عصبا»: فالملا -مقصور- ما اتسع من الأرض، أراد أن الجيش قد ملأه لكثرته، وهذل معنى قد تداولته العرب وتقدمت فيه الشعراء، وجودوه، قال أوس بن حجر: ترى الأرض منا بالفضاء مريضة ... معضلة بجيش عرمرم قوله: «معضلة» من قولهم: عضلت المرأة عند الولادة، إذا نشب ولدها في بطنها، وعسر خروجه، يؤكد بذلك كثرة الجيش، وأن الأرض الغضاء قد ضاقت به، ومن هذا قولهم: قد أعضل الأمر، وأمر معضل، أي: عسير ضيق. و «العرمرم» الكثير. وتبع النابغة أوساً في هذا فقال: مجر يظل به الفضاء معضلاً ... يذر الإكام كأنهن صحاري فأورد النابغة معنى بيت أوس في صدر بيته، وزاد عليه في العجز بقوله: «يذر الإكام كأنهن صحاري» أي: يهدمها ويطحنها بحوافر الخيل حتى تلحق بالأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 ومثل هذا قول زيد الخيل: بجمع تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجداً للحوافر أي: تدقها الحوافر بكثرتها، وتكبها إلى الأرض، وبيت النابغة أجود البيتين، لأنه تضمن المعنيين جميعاً، واقتصر أبو تمام على وصف الكثرة في بيته بمعنيين مختلفين، كأنه اتبع أوساً، إلا أن قوله: ولهم بمنخرق الفضاء زحام لفظ حسن. وقد حذا البحتري على قوله: يذر الإكام كأنهن صحاري فقال: إذا سار في ابني مالك قلق الحصى ... على جبل يغشى الجبال فتقلق عفاريت هيجاء كأن خميسهم ... به حين تلقاه الكتائب أولق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 فقوله: «يغشى الجبال فتقلق» أي: يحطمها بكثرته، ويجوز أن يريد بقوله: «يغشى الجبال» أي: جيوشاً فيقضها، والأول أشبه. وقال البحتري في كثافة الجيش وكثرته: لما أتاك يقود جيشاً أرعناً ... يمشي عليه كثافة وجموعا يريد انضمام الخيل والرجالة، بعضهم إلى بعض، بكثرتهم حتى يمشي الماشي عليهم، وإنما نحا نحو قول قيس بن الخطيم: لو أنك تلقي حنظلاً فوق بيضنا ... تدحرج عن ذي سامة المتقارب وقول قيس أحسن وأجود وأبرع. وقوله: «عن ذي سامة» أي: على ذي سامة، والسام: خطوط في البيض يجري فيها ماء الذهب. وقد أخذ ابن الرومي معناه، ولفظه أيضاً فقال: فلو حصبتهم بالفلاة سحابة ... لظل عليهم حصباً يتدحرج وليس في قصيدته أجود من هذا البيت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وفي كثافة الجيش واجتماعه يقول أبو نواس: أمام خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قنا وجياد «الجياد» الخيل، ولو كان قال: ........... ليس فيه خصاصة ... كثوب محوك .............. كان ثوب أحسن من قميص. وقالت امرأة من بني سليم في كثرة الجيش وانتشاره: وكان إذا ما أورد الخيل بيشة ... إلى جنب أشراج أناخ فألجما وأرسلها رهواً رعالاً كأنها ... جراد زهته ريح نجد فأتهما وأحسن من كل حسن في عظم الجيش وكثرته، قول مالك بن الريب المازني: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 بجيش لغام يشغل الأرض جمعه ... على الطير حتى ما يجدن منازلاً وقال أبو تمام في صفة الجيش: بأرشق إذ سالت عليهم غمامة ... جرت بالعوالي والعتاق الشوازب قوله: «سالت» و «جرت» معناهما واحد، وقد كان تكفي أحدى اللفظتين من الأخرى، وليس بعيب. وقال البحتري: إذا انشعبت في جانبيه غمامة ... إلى بلد كانت دماً متدفقا وأجود من غمامتي أبي تمام والبحتري قول عبد الله بن عمرو بن العاص: غداة أتى أهل العراق كأنهم ... من البحر لج موجه متراكب وجئنا إليهم في الحديد كأننا ... سحاب خريف زعزعته الجنائب وقال البحتري: بجمع ترى فيه النهار قبيلة ... إذا سار فيه والظلام قبائلا أراد: أنك ترى النهار قبيلة الجيش لعظمه، وترى الظلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 قبائلاً، كأنه جعل الظلام مختلف الأحوال في الظلمة يشتد اسوداده، ويخف، بحسب اختلاف أحوال تعرض لليل ريح أو غمام، أو تجلى قمر، غيوبه، وأنت ترى الليل على هذه الأحوال أبداً، والنهار حاله حال واحدة، لا يقبض البصر فيه شيء في حال صحو ولا غمام، فهذا معنى -إن شاء الله- يليق بالصواب، أو يقاربه. ووجه آخر أن الليل لا يقبض الطرف دفعة واحدة بل شيئاً فشيئاً، حتى يشتد سواده إلى أن يمضي ثلثه، وتلك فحمة الليل، ثم يتجلى إلى ظلمة هي أرق، ويقال بل العين تألف سواد الليل إذا امتد هذا الوقت، فتقوى على إدراك ما لم تكن تدركه عند هجوم الظلمة، وهي قريبة العهد بالضوء، وهذا قول غير مدفوع الصحة، ثم إنهم يقولون في مجيء الليل: جهمة بعد جهمة، حتى إن بعضهم يقول أنه يرى الظلام يتحرك عند انحساره ولهذا قال امرؤ القيس: «وليل كموج البحر ... » وقال: فقلت له ام تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل وقال البحتري: في خميس كأنما طرقوا منـ ... ـه بليل أو صبحوا بنهار وهذا حسن، والبحتري متبع في هذا وغير مبتدع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 وقال ضوء بن اللجلاج الذهلي: بأرعن جرار كأن زهاءه ... دجى الليل ألقى جانبيه فعسكرا وبيت البحتري أبرع، لأنه جمع فيه الليل والنهار بأحسن لفظ. وقال أحمر بن شجاع الكلبي: بجأواء تعشى الناظرين كأنها ... دجى الليل بل هي من دجى الليل أكثر وهذا إفراط حسن. وقال أبو نخيلة في وصف كتيبة يشبهها بالليل: طود جناباه القنان الحلك منها الدجوجي ومنها الأرمك ذا الليل إلا أنها تحرك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 وهذا إحسان أبي نخيلة المشهور الذي يفوق كل إحسان، وفي كثرة الجيش وعظمه يقول النابغة الجعدي: بأرعن مثل الطود يحسب أنهم ... وقوف لأمر والركاب تهملج وهذا أيضاً من الجيد المشهور، وهو ضد معنى أبي نخيلة، وكلاهما بديع في معناه. وأنشد إسحاق الموصلي: كأنهم ليل إذا استنفروا ... أو لجة ليس لها ساحل وقد أحسن النجاشي أيضاً في قوله: فمن ير صفينا غداة تلاقينا ... يقل جبلا جيلان ينتطحان قتلنا وأفنينا وما كل ما ترى ... بكف المذري تأكل الرحيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 وأجود من كل جيد قول مهلهل: كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مدير وقال البحتري: جو أذا ركز القنا في أرضه ... أيقنت أن الغاب غاب أسود وفي لمعان أضاء فيه رأي العدا ... براً تألق فيه بحر حديد وفي لمعان الحديد يوقل البحتري أيضاً: جافي المضاجع لا بنفك في لجب ... يكاد يقمر من لألائه القمر وهذا -لعمري- معنى حسن، وأحسن منه وأصح معنى قول الأخنس بن شهاب التغلبي: وجأواء تعشي الناظرين كأنها ... إذا ما بدت قرن من الشمس طالع وقد قال المتأخرون في وصف السلاح ولمعان الحديد ما يفوق كل حسن وصحة، ومن ذلك قول سلم الخاسر: وكتائب تعشي العيون إذا جرى ... ماء الحديد عليهم الرجراج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وتفرقت زرق الأسنة فيهم ... تسقي المنايا ما لهن مزاج نزلت نجوم الليل فوق رؤسهم ... ولكل رأس كوكب وهاج وحسبك بهذا حسناً وحلاوة. وقال مسلم: في عسكر تشرق الأرض الفضاء به ... كالليل أنجمه القضبان والأسل وقال العتابي: تبني سنابكها من فوق أرؤسهم ... سقفاً كواكبه البيض المباتير أراد بالسقف: الغبار، وذهب إلى قول بشار. جعلنا سماء فوقنا بنجومها ... سيوفاً ونقعاً يقبض الطرف أقتما أو إلى قوله الذي لا يدانيه معنى ولا يتعلق به هو: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 ولو قال: ليل تضيء كواكبه، أو تلوح كواكبه، أو تنير، لكان أيضاً قولاً مستقيماً، فلما قال: تهاوى كواكبه، استوفى المعنى بأسره، وانتهى إلى غاية التشبيه، وكمال الوصف. وقال محمد بن وهيب: وأرعن فيه للسوابغ لجة ... وسقف سماء أنشأته الحوافر له فلك فوق الأسنة دائر ... ونقع المنايا مستطير وثائر ولولا أن قصدي الإجمال والاختصار، لأوردت في هذا الباب من أوصاف الجيوش والكتائب أكثر مما أوردته، وفيما ذكرته مقنع لك في أن الطائيين قد قصرا عن جميع معانيه، ولم يبدعا في الباب إبداعاً يتقدمان به غيرهما، ولا يساويانه، ومن شأن المتأخر أن يزيد على من تقدم، أو لا يعرض للمعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 * ما قالاه في الرأي والتدبير في الحرب والمكر والخديعة والحزم وإمضاء العزم قال أبو تمام في أبي دلف: ويوم أرشق والهيجاء قد رشقت ... من المنية رشقاً وابلاً قصفا فكان شخصك في إغفالها علماً ... وكان رأيك في ظلمائها سدفا «وابل» شبهه بالمطر، والوابل: الشديد. وقوله: «في إغفالها» أي: المواضع الخالية من الفرسان وأهل الحماية، أو: في المواضع التي يخفى فيها الفرسان أنفسهم لشدة الأمر. وقوله: «وكان رأيك في ظلمائها سدفا» والسدف: اختلاط الضوء بالظلمة، ولهذا يذكر في الأضداد، فيجعل مرة الضوء، ومرة الظلمة، ولو جعل رأيه كالنهار، كان أجود على مذهبه، ولكن قد يستعمل في هذا أن يقال: قد وضح هذا الأمر كالفجر، وقد بان كالفجر، والسدف: هو وقت الفجر وبعده أيضاً، ولكن الفجر في هذا أجود من السدف وأحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 وقال في أبي سعيد: وصليب القناة والرأي والإسـ ... ـلام سائل بذاك عنه الصليبا حية الليل يشمس الحزم فيه ... حين فاءت شمس النهار الغروبا قوله: «صليب القناة» يريد رمحه، وليس يريد صليه وظهره، ولو كان أراد ذلك لما كان مدحاً. و «صليب الرأي» جائز سائغ، و «صليب الإسلام» فيه قبح لأنه غير مستعمل، ولكن المنسوق قد يحمل على نسق عليه، إذا كان مقارباً له. وقوله: «يشمس الحزم فيه» أي: يضيء ويستنير، كأنه يريد أنه يظهر صوابه. وقوله: «حين فاءت شمس النهار غروبا» أي: يشرق حزمه حتى يضيء لنوره الليل. وقال في هذه القصيدة: سكن الكيد فيهم إن من أعـ ... ـظم إرب ألا يسمى أريبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 مكرهم عنده فصيح وإن هم ... خاطبوا مكره رأوه جليبا قوله: «سكن الكيد فيهم» أي: أخفاه، و «سكن» لا ينوب مناب «أخفى» ولا يستعمل أيضاً في هذا الموضع. ثم قال: «إن من أعظم إرب ألا يسمى أريبا» و «الإرب»: الدهاء، يريد أنه لما أخفى كيده، فقالوا: لا كيد له، فقال: إن من أعظم إرب، أي: من أعظم دهاء ألا يسمى داهياً، أي: إن من أعظم دهائه أن يخفى كيده فلا يظنوا به الدهاء. ثم قال: «مكرهم عنده فصيح» أي: ظاهر بين. «وإن هم خاطبوا مكره رأوه جليبا» يريد: أعجمياً مجلوباً، فجعل المكر يخاطب، وجعله أعجمياً، ودل على عجمته بالجلب، وما أظن أبالعبر لو تعمل للسخف كان ينتهي إلى هذا الحد. وقال في أبي سعيد: كادت تحل طلاهم من جماجمهم ... لو لم يحلوا ببذل الحكم ما عقدوا لكن بذلت لهم رأى ابن محصنة ... يخاله السيف سيفاً حين يجتهد قوله: «يخاله السيف سيفاً» من إغراقه المعروف الذي لا حلاوة له ولا تحصيل فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 وقال البحتري في علي بن مر: إذا ارتقى في أعالي الرأي لاح له ... ما في الغيوب التي تخفى فتستتر توسط الدهر أحوالاً فلا صغر ... عن الخطوب التي تعرو ولا كبر كالرمح أذرعه عشر وواحدة ... فليس يزري به طول ولا قصر مجرب طالما أشجت عزائمه ... ذوي الحجا وهو غر بينهم غمر آراؤه اليوم أسياف مهندة ... وكان كالسيف إذ آراؤه زبر قوله: «آراؤه اليوم أسياف مهندة» أي: ماضية، لأنه قد كمل في عقله وتجاربه، فكان في نفسه كالسيف، «إذ آراؤه زبر»، أي: لم تطبع، يريد: لم يستكمل، يقول: أنه اليوم يمضي الأمور بآرائه بحنكته وتجربته، وكان قبل الحنكة والتجربة يمضيها بمباشرته إياها بنفسه بشجاعته وإقدامه. وقال أبو تمام في عمر بن عبد العزيز الطائي: نعم الفتى عمر في كل نائبة ... نابت وقل له نعم الفتى عمر مجرد سيف رأى من عزيمته ... للدهر صيقله الإطراق والفكر عضباً إذا سله في وجه نائبة ... جاءت إليه صروف الدهر تعتذر يريد: مجرد للدهر سيف رأي، وهذه مبالغة في غاية الحسن والجودة والحلاوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 وقال البحتري في أبي سعيد: يببت وراء الناطلوق ورأيه ... يجز بأقصى السيسجان المفاصلا إذا اسود فيه الشك كان كواكباً ... وإن سار فيه الخطب كان حبائلا «الناطلوق»: ببلد الروم، و «السيسجان»: من بلاد المشرق، أظنه من «سجستان»، أراد أنه إذا كان غازياً، فإنه لا يغفل ما بعد عنه من الأمور التي وكلت إليه، وعول فيها على رأيه، وهذا معنى حسن جداً. وقال في أبي سعيد، يذكر كيده وتدبيره في الظفر ببقراط بن أشوط: بتدبيرك الميمون أغلق كيده ... عليه وكلت سمره وبواتره وطيك سراً لو تكلف طيه ... دجى الليل عنا لم تسعه ضمائره وهذا هو التدبير والكيد الصحيح، لا قول أبي تمام: «سكن الكيد فيهم» وقوله: «مكرهم عنده فصيح» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 وقال في أبي سعيد: في عارض يدق الردى ألهبته ... بصواعق العزمات والآراء العارض: السحاب، وإنما يريد الجيش. «يدق الردى»: يذري الردى ويمطره، من الودق: وهو القطر إذا أرسله السحاب، والوديقة: شدة الحر، لدنو الشمس من سمت الرؤوس. وقال: عزمات يضئن داجية الخطـ ... ـب وإن كن من وراء حجاب يتوقدن والكواكب مطفا ... ة ويقطعن والسيوف نواب وقال البحتري: حتى إذا كادت مصابيح الدجى ... تخبو وكاد ممرة يتقضب ضرب الجبال بمثلها من رأيه ... غصبان يطعن بالحمام ويضرب وقال في أبي سعيد: ثم فرقت من كتائب آرا ... ئك جنداً لا ياخذون عطاء بين ضرب يفرج الهام أنصا ... فاً وطعن يفرج الغماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 ويود العدو لو تضعف الجيـ ... ـش عليهم وتصرف الآراء وقال في الخضر بن أحمد التغلبي: مستشار في المعضلات إذا ما ار ... تفع الخطب عن نداء وليده ومصيب مفاصل الرأي إن حا ... رب كانت آراؤه من جنوده قومت عزمه الأصالة والرمـ ... ـح يقيم الثقاف من تأويده وأجود من هذا كله وأشبهه بوصف الرأي قول أبي تمام في مدح أبي دلف: وقد علم الأفشين وهو الذي به ... يصان رداء الملك عن كل جانب بأنك لما استحنك الأمر واكتسى ... أهابي تسفي في وجوه التجارب تجللته بالرأي حتى أريته ... به ملء عينيه مكان العواقب بأرشق إذ سالت عليهم غمامة ... جرت بالعوالي والعتاق الشوازب نصلت له سيفين رأياً ومنصلاً ... وكل كنجم في الدجنة ثاقب وكنت متى تهزر لخطب تغشه ... ضرائب أمضى من رقاق المضارب وهذا أحسان يجب أن يعفى لأبي تمام من أجله عن كل إساءة. وقد سلك البحتري هذه السبيل فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 إلى صامتي الكيد لو لم يكن له ... قريحة كيد لاكتفى بالتجارب عليم بما خلف العواقب إن سرت ... رويته فضلاً بما في العواقب وصيقل آراء يبيت يكرها ... ويشحذها شحذ المدى للنوائب تحرق تحريق الصواعق ألهبت ... برعد وتنقض انقضاض الكواكب وهذا -لعمري- جيد بالغ، ولكنه يقصر عن قول أبي تمام. والذي هو في غاية الجودة، قوله في أبي نهشل بن حميد: إذا ما رمى بالرأي خلف أبيه ... من الأمر يوماً أدركته مكائده له فكر بين الغيوب إذا انتهى ... إلى مقفل منها فهن مقالده صواعق آراء لو انقض بعضها ... على يذبل لانقض أو ذاب جامده وحسبك بهذا جودة. وقال البحتري أيضاً في «الفتح» وهو من فاخر كلامه: بعيد مقيل السر لا يدرك التي ... يحاولها منه الأريب المخادع ومكتتم التدبير ليس بظاهر ... على طرفه الرأي الذي هو تابع ولا يعلم الأعداء من فرط عزمه ... متى هو مصبوب عليهم فواقع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 خلائق ما تنفك توقف حاسداً ... له نفس في إثرها متراجع ولن ينقل الحساد مجدك بعدما ... تمكن رضوى واطمأن متالع وقال أبو تمام في أبي سعيد: يقظان أحصدت التجارب عقده ... شزراً وثقف حزمه تثقيفا واستل من آرائه الشعل التي ... لو أنهن طبعن كن سيوفا كهل الأناة فتى الشذاة إذا غدا ... للروع كان القشعم الغطريفا وقد أحسن البحتري في هذا الباب إحساناً كثيراً إلا أن أبا تمام فيه عندي عندي أشعر منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 * ما قالاه في وصف الحرب قال أبو تمام: في معرك أما الحمام فمطر ... في هبوتيه والكماة صيام والضرب يقعد كل قرم كتيبة ... شرس الضريبة والحتوف قيام ففصمت عروة جمعهم فيه وقد ... جعلت تفصم من عراها الهام «الهبوة»: الغبرة، وجعلها هبوبتين، يريد غبرة هؤلاء وهؤلاء في الكر والرجوع، وقد يجوز أن يكون أراد هبوة واحدة فثناها مرتين، و «الضريبة» الخلق والطبيعة. وقال في مدح أبي سعيد: ويوم يظل العز يحفظ وسطه ... بسمر العوالي والنفوس تضيع مصيف من الهيجا ومن جاحم الوغى ... ولكنه من وابل الدمع مربع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 «المصيف»: هو الموضع الذي يصيفون فيه، و «المربع»: منزلهم الربيع ووقت المطر والخصب. وقال أبو تمام: ومشهد بين حكم الذل منقطع ... صاليه أو بحمام الموت متصل ضنك إذا خرست أبطاله نطقت ... فيه الصوارم والخطية الذبل لا يطمع المرء أن يجتاب ظلمته ... بالقول ما لم يكن جسراً له العمل قوله: «بين حكم الذل» رديء، لأن حكم الذل ليس يراد به أشياء متفرقة، فيصلح فيها بين، لأن حكم الذل، والذل بمنزلة، وكذلك حكم العز والعز وحكم الظلم والظلم، وحكم العدل والعدل، وقد بينت هذا في باب أغاليطه، وهو الجزء الثاني من جملة «كتاب الموازنة» ز وليس هذا من اللحون التي يتجاوز في مثلها، مثل تسكين ما يجب أن يكون منصوباً، أو تحريك ما يجب أن يكون ساكناً ونحو ذلك، لأن هذا فساد في اللفظ، وذلك فساد في اللفظ والمعنى، وكان ينبغي أن يقول: ومشهد بين حكم الذل وحكم العز، لأنه قد قال: «منقطع صاليه» يريد فراره عن الحرب، «أو بحبال الموت متصل»، الذي لا يبرح مكانه حتى يقتل أو يظفر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 ثم قال: جليت والموت مبد حر صفحته ... وقد تفرعن في أفعاله الأجل وقد عابه الناس بهذا، وقالوا: اشتق للأجل -الذي هو مطل على النفوس- فعلاً من اسم فرعون، وقد أتى الأجل على نفس فرعون، وعلى كل فرعون، وقد أتى الأجل على نفس فرعون، وعلى كل فرعون، كان على وجه الأرض. وقال: وإذا كان عارض الموت سحا ... خضلاً بالردى أجش هزيما في ضرام من الوغى واشتعال ... يحسب الجو منهما محموما «عارض الموت»: سحاب الموت، «أجش»: ذو رعد، وقوله: «يحسب الجو منهما محموما» مما أنكره الناس عليه، وإنما ذهب إلى نحو قول امريء القيس: إذا ركبوا الخيل واستلاموا ... تحرقت الأرض واليوم قر وهذا هو الوضف الذي لا شيء يفوقه، فجعل أبو تمام الجو محموماً. وقال في أبي سعيد: في موقف وقف الموت الذعاف به ... والمجد يوجد والأرواح تفتقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 وقال البحتري: وقد كان التراب جنادلا أراد أن الجيش طحن الصخر بحوافر الخيل لكثرته، حتى صارت تراباً، وإنما ألم بقول زيد الخيل: ومجر تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجداً للحوافر وقوله: «وقد كان التراب جنادلا»، يريد: وقد كان تراب الفلا أيضاً جنادل، فصيرته حوافر خيلنا تراباً قبل هذا الوقت، أو أن يكون أراد: فاغتدى جندل الفلاة تراباً، بعد أن كان جنادل، أي بعد أن كان بالأمس جنادل، وهذا أشبه من المعنى الأول، لأن ذاك يوجب أن لم يكن للفلا أصلاً تراب البتة. وقال أيضاً في موضع آخر في وصف وقعة أوقعها أبو سعيد أيضاً بالروم: وهدة يوم لابن يوسف أسمعت ... من الروم من بين الصفا والأخاشب أنكر الناس على مهلهل قوله: فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وقيل كان بين الوقعة وبين حجر -وهي قصبة اليمامة- مسيرة عشرة أيام، وعلى أنه قال «فلولا الريح»، فجاءنا البحتري بما طم على قول مهلهل، فزعم أن هذه الوقعة بالروم أسمعت أهل مكة، و «الأخاشب»: جبال مكة، وقد اعتذر له بأن قيل: إنه أراد خبرها إلى أهل مكة، وكذا أراد لا محالة. ومن إفراط البحتري قوله في أحمد بن محمد بن بسطام: وكم لك في الأموال من يوم وقعة ... طويل من الأهوال فيه عويلها ومن صولة في يوم بؤس على العدا ... يهال فؤاد الدهر حين تصولها قوله: «يهال فؤاد الدهر» مثل قول أبي تمام: ........... لسمعنا ... لقلوب الأيام منك وجيبا جعل هذا للدهر فؤاد يهال، كما جعل ذلك للأيام قلوباً تجب. وقال البحتري في مدح إسحاق بن إبراهيم: ووقفت مشكور المكان كريمه ... والبيض تطفو غب الغبار وترسب ما إن ترى إلا توقد كوكب ... من قونس قد غاب فيه كوكب فمجدل ومرمل وموسد ... ومضرج ومضمخ ومخضب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يسلبوا وفي نحو قوله: والبيض تطفو في الغبار وترسب قوله: في مقام تخر في ضنكه البيـ ... ـض على البيض ركعاً وسجودا وقال أبو تمام في إسحق بن إبراهيم -أظنه في حرب الخرمية-: وقائع أشرقت منهن جمع ... إلى خيفي مني والموقفين ثوى في المشرقين لها ضجاج ... أطار قلوب أهل المغربين قوله: «أشرقت منهن جمع» أي: أضاءت، من الإشراق والحسن، لما جاءت الأخبار والبشائر بذلك، وقوله: «أطار قلوب أهل المغربين» لما سمعوا بذلك خوفاً، وهذا كله يستقيم على الوجه الذي أراده البحتري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 وقال البحتري: ربما كنت للأوانس زيراً ... مستهاماً بكل بيضاء رود كم جمعت الرحيق والريق منها ... وكلانا قتيل صنج وعود وكلانا قد أحدث الراح فيه ... زهو عيسى بن خالد بن الوليد فارس يضرب القوانس بالسيـ ... ـف إذا ما التقت جبال الحديد وقال البحتري أيضاً: معاقلهم سمر القنا وعتادهم ... شريجان أسياف وقمص حديد إذا غمرات الموت أدجت تكشفت ... بهم عن أسود زوحفت بأسود هم أخدوا نار العدو وأوقدوا ... من الحرب ناراً غير ذات خمود بشهباء من ماء الحديد كأنها ... جبال شرورى أضرمت بوقود تريك إذا ما الحرب غامت سماؤها ... نجوم صعاد في سماء صعيد وهذا حجة في أن الصعيد هو التراب في الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 وقال أبو تمام: والحرب تركب رأسها في مشهد ... عدل السفيه به بألف حليم في ساعة لو أن لقاناً بها ... وهو الحكيم لكان غير حكيم جثمت طيور الموت في أوكارها ... فتركن طير العقل غير جثوم البيتان الأولان في غاية الجودة وصحة المعنى. قوله: «جثمت طيور الموت في أوكارها» بيت رديء القسمة رديء المعنى، لأنه جعل طير الموت في أوكارها جثوماً ساكنة لا ينفرها شيء، وطير العقل غير جثوم، يعني أنها قد نفرت فطارت، يريد طيران عقولهم من شدة الروع، وما كان ينبغي أن يجعل طير الموت جثوماً في أوكارها، وإنما كان الوجه أن يجعلها جاثمة على رؤوسهم، أو وقعاً عليهم، فأما أن تكون في أوكارها، فإنها في السلم وفي الأمن في أوكارها أيضاً، وطير العقل ليس بضد لطير الموت، وإنما هي ضد لطير الجهل، وطير الحياة هي الضد لطير الموت، وهذا المعنى الذي ركبه عندي خطأ، وقد بينته فيما قدمت ذكره من أغاليطه. وقد أساء أبو تمام في هذا الباب إساءات كثيرة، والبحتري فيه عندي أشعر منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 * ذكر وصف رجال الحرب قال أبو تمام: مسترسلين إلى الحتوف كأنما ... بين الحتوف وبينهم أرحام هذا معنى ليس بالجيد، لأن الاسترسال قد يكون إلى ذوي الأرحام وقد لا يكون، وهل العداوة والشقاق والضغائن إلا بين ذوي الأرحام. والجيد النادر في هذا قول البحتري: تسرع حتى قال من شهد الوغى ... لقاء أعاد أم لقاء حبائب ومثله في الجودة بل أوكد منه قوله أيضاً. يمشون تحت ظبا السيوف إلى الوغى ... مشي العطاش إلى برود المشرب ثم قال بعد هذا ما هو أحسن من كل حسن، وأصح من كل صحة، وهو قوله: يتراكمون على الأسنة في الوغى ... كالصبح فاض على نجوم الغيهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 فإن كان سمع قول سلم الخاسر: كأنه والقنا دوان ... يوم على ليلة مغير فعليه -والله أعلم- حذا، ولا أدري أيهما أحلى وأبرع. وقال بشار: إذا الحرب قامت بهم شمروا ... وكأنوا أسنة خرصانها وهذا أيضاً حلو في معناه. وأجود منه وأحلى قول البردخت الضبي: وأشجع من أبي شبلين ورد ... وأنفذ في الكريهة من سنان وقال البحتري: وعصائب يتهافتون إذا ارتمى ... بهم الوغى في جاحم الهيجاء مثل اليراع بدت له نار وقد ... لفته ظلمة ليلة ليلاء وهذا أصح في المعنى وأشبه من كل ما مضى. وقال أبو تمام: حن إلى الموت حتى ظن جاهله ... بأنه حن مشتاقاً إلى وطن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 وقد جاء البحتري بالوطن في موضع هو أليق به من هذا الموضع، فقال: تسمو إلى حلل العلياء أنفسهم ... كأن أنفسهم يطلبن أوطانا وذلك لذكره حلل العلياء. وقد أتى به أيضاً في موضع ليس بجيد فيه، وذلك: ألفوا الفراق كأنه وطن لهم ... لا يقربون إليه حتى يبعدوا وقال أبو تمام: ركوب بأثباج المتالف عالم ... بأن المعالي بينهن المهالك مطل على الروح المنيع كأنه ... لصرف المنايا في النفوس مشارك وهذا من معانيه الجياد، جعله شريكاً للمنايا في القدرة على النفوس، وأبلغ من هذا وأوكد وأليق قوله: لقيتهم والمنايا غير دافعة ... لما أمرت به والملتقى كبد وقال البحتري في نحوه، ومنه -والله أعلم- أخذ: إذا التهبت في لحظ عينيه غضبة ... رأيت المنايا في النفوس تؤامره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 فجعل المنايا مطيعة له، تفعل ما يأمرها به، فإن كانا جميعاً سمعا قول سلم الخاسر: كأن المنايا عاملات برأيه ... إذا اختلفت أرماحه ومناصله فمنه أخذا، أو أخذه أبو تمام فأخذه البحتري منه. ومثله قول دعبل: وترى المنايا تحت ظل لوائه ... طوع القواضب والوشج الذبل وقد تجاوز سلم هذا المعنى إلى إفراط فقال: تخشى المنايا حد صولته ... والجود عند عطائه بخل فجعل المنايا تخشى حد صولته، وجعل الجود بخلا لعظم ما يعطى وينبل. وما أحسن عنترة في قوله: إن المنايا لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل وقال أبو تمام: وسائل عن أبي حفص فقلت له ... أمسك عنانك عنه إنه القدر جعله ها هنا القدر، أراد أنه يدفع البؤس ويصرفه، وينفي العسر والفقر، لأنه قال بعد هذا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 فتى تراه فتنفي العسر غرته ... نفياً وينبع من أسرارها اليسر فوضع القدر ها هنا بحيث أراد أنه جالب للخير واليمن والغنى، وليس يليق القدر بهذا الموضع، ولو كان ذكره في حرب، وأنه منصب على النفوس انصباب القدر الذي لا مرد له، كان ذلك أليق وأشبه، كما قال البحتري: ضرب الجبال بمثلها من رأيه ... غضبان يطعن بالحمام ويضرب أوفى فظنوا أنه القدر الذي ... سمعوا به فمصدق ومكذب ولكنه قد قال في موضع آخر وأجاد وأحسن: بأسمح من غر الغمام سماحة ... وأشجع من صرف الزمان وأنجد ففضله في السماحة على غر الغمام، وفي البأس على صرف الزمان. قال أبو تمام: رآه العلج مقتحماً عليه ... كما اقتحم الفناء على الخلود أخذه من قول مسلم بن الوليد: موف على مهج في يوم ذي رهج ** كأنه أجل يسعى إلى أمل وقد أحسن كل الإحسان الذي يقول: سريع اختلاس الروح يغدو فلا يرى ... به الباسل العادي إليه بباسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 كأن له عيناً إلى كل مهجة ... تطالع أو علماً بطرق المقاتل وقال أبو تمام: تناول الفوت أيدي الموت قادرة ... إذا تناول سيفاً منهم بطل قوله: «تناول الفوت ... » عويص من عويصاته، وهو أيضاً محال، وإنما سمع قول سعد بن مالك: هيهات حال الموت دو ... ن الفوت وانتضى السلاح «فالفوت» هو النجاة، أي: حال الموت دون النجاة، وهذا صحيح مستقيم، فقال: «تناول الفوت أيدي الموت» وهذا محال، لأن النجاة لا تتناولها يد الموت ولا تصل إليها، وإلا لم تكن نجاة، وقد ذكرت هذا فيما قدمت ذكره من أغاليطه. وقال أبو تمام: بادي المحيا لأطراف الرماح فما ... يرى بغير الدم المعبوط ملتئما يضحي على المجد مأموناً إذا اشتجرت ... سمر القنا وعلى الأرواح متهما وهذا غاية في الحسن والصحة، ثم قال بعده: قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فخيل من شدة التعبيس مبتسما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 وإنما سمع قول عنترة: لما رآني قد نزلت أريده ... أبدى نواجذه لغير تبسم فوصفه بشدة الجزع لما أقبل نحوه، وذلك من أوصاف الجبناء لا الأبطال، وكذلك قوله: قد قلصت شفتاه من حفيظته من قول عنترة: إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم وهذا إنما يكون من الهول والشدة، فجعله أبو تمام من الحفيظة، وهي الغضب، وقد تعرض هذه الحال للغضبان، غير أنها تذكر عند الشدة والجهد والروع، فهذا موضعها المعروف الذي تستعمل فيه من الشعر. وقد قال ابن هرمة: كريم له وجهان وجه لذي الرضا ... أسيل ووجه للكريهة باسل والوجه الأحسن قول أبي تمام: كالليث ليث الغاب إلا أن ذا ... في الروع بسام وذاك شتيم وقال البحتري: ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم ... وللسيف حد حين يسطو ورونق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 حياة وموت واحد منتهاهما ... كذلك غمر الماء يروي ويغرق وهذا لا شيء أحسن منه ولا ألطف. وقال الفرزدق: إذا التقت الأبطال أبصرت لونه ... مضيئاً وأعناق الكماة خضوع وكان ينبغي أن يقول: «وألوان الكماة كاسفة». وأخذ المعنى منه مروان بن أبي حفصة وصحح قسمته فقال: تمضي أسنته ويسفر وجهه ... في الروع عند تغير الألوان وقال البحتري: تبسم وقطوب في ندى ووغى ... كالبرق والرعد وسط العارض البرد وهذا بيت رديء المعنى على ما أذكره، لأنه شبه تبسمه عند العطاء بالبرق، وهذا معنى صحيح مستقيم؛ لأن التبسم يلوح معه الثغر كما يلوح البرق، وإذا كان في وقت العطاء فإن العطاء يتبعه، كما أن الغيث يتبع البرق في أكثر أحواله. وشبه القطوب بالرعد، وإنما كان ينبغي أن يشبهه بالمرئيات لا بالمسموعات، والرعد إنما يوضع في موضع التهدد والوعيد. والقطوب أيضاً في الوغى لا يدل على شجاعة الشجاع، لأن الجبان أيضاً في الحرب مقطب مكلح، فليس القطوبة في هذه الحالة مدحاً، كالتبسم في حال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 العطايا، لأن هذا دليل الكرم وذاك ليس بدليل على الشجاعة، بل دليل الشجاعة التبسم في الحرب كما قال: ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم وكما قال أبو تمام: إلا أن ذا في الروع بسام وذاك شتيم وقد قال بشار: إذا ما تردى عابساً فاض سيفه ... دماء ويعطي ماله إن تبسما قوله: «إذا ما ترى» أي: تقلد السيف، وقوله: «عابساً» أي: من الغضب، والمحارب لا ينكر منه الغضب، والغضبان يعبس وهو آمن، فليس ها هنا بمدح، وأما تقليص الشفة فأكثر ما يعرض من شدة الفزع، وخاصة في الحرب. قال أبو تمام: لفظ لأخلاق التجار وإنهم ... لغد بما ادخروا له لتجار ومجربون سقاهم من بأسه ... فإذا لقوا فكأنهم أغمار أخذ معنى البيت الأول من قول الشاعر: يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالطعان هم تجار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 ولكنه ذهب إلى غرض آخر فأفسد المعنى، وأخذ معنى البيت الثاني قول قطري بن الفجاءة، وعكسه وكلا المعنيين جيد، وبيت قطري أبرع وأجود لأنه قابل بين المعنيين في نصف بيت، وذلك قوله: ثم انثنيت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الإقدام وذهب البحتري أيضاً في هذا الشعر إلى ما ذهب إليه أبو تمام حين عكس بيت قطري ابن الفجاءة فقال: مالك له في كل يوم كريهة ... إقدام غر واعتزام مجرب وقد أتى أبو تمام بمعنى قطري بعينه فقال في أبي سعيد: كهل الأناة فتى الشذاة إذا غدا ... للحرب كان القشعم الغطريفا وقال أبو تمام وقد ذكر الخيل: يحملن كل مدجج سمر القنا ... بإهابه أولى من السربال خلط الشجاعة بالحياء فأصبحا ... كالحسن شيب لمغرم بدلال فقوله: سمر القنا بإهابه أولى من السربال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 إنما سمع قول عنترة: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم فظن أن عنترة أراد الثياب نفسها، وإنما أراد الرجل نفسه لا الثياب كما قال الأغلب: أوجب حجاً في ثياب دسم أي: في نفس كثيرة الخطايا والذنوب، فكنى عن النفس بالثياب، وعن وعن الثياب الدسم، وهو يريد الوسخ، ومثل هذا موجود في كلامهم، وقد قيل: «وثيابك فطهر» أي: نفسك في بعض تفسير الآية، وقال أبو تمام: ............. سمر القنا ... بإهابه أولى من السربال مظهراً لمخالفة عنترة إلى ما هو أولى عنده، ولم يعلم ما ذهب إليه عنترة، وقد بين المعنى أبو محجن الثقفي فقال: وما رمت حتى خرقوا برماحهم ... ثيابي وجادت بالدماء الأباجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 وما أحسن ما قال منصور النمري: ترى الخيل يوم الروع يظمأن تحته ... وتروى القنا في كفه والمناصل حلال لأطراف الأسنة نحره ... حرام عليها متنه والكواهل وقد قيل: «فشككت بالرمح الأصم ثيابه»، أي: درعه. وقوله: «خلط الشجاعة بالحياء»، من قول ليلى الأخيلية: فتى هو أحيا من فتاة حيية ... وأشجع من ليث بخفان خادر ولكنه مثله بمثال في غاية الحلاوة والحسن على ظاهره، وهو قوله: «كالحسن شيب لمغرم بدلال»، فجعل الحسن بإزاء الحياء، لأن الحياء يعصفر الوجه الجميل فيزيده حسناً، وجعل الدلالة بإزاء الشجاعة، ولو قال: «كالحسن شيب لمغرم بقسوة»، حتى تكون القسوة بإزاء الشجاعة، أو «بسطو عليه»، أو «بظلم» أو «تعد»، كان أكشف للمعنى، ولكن لفظة الدلال مع الحسن من أليق شيء بشيء، على أن المدل يقسو ويتعدى ويظلم، فلا أرى شيئاً أحسن من الدلال في هذا الموضع. وقال أبو تمام: إذا كانت الأنفاس جمراً لدى الوغى ... وضاقت ثياب القوم وهي فضافض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 بحيث القلوب الساكنات خوافق ... وماء الوجوه الأريحيات غائض فأنت الذي تستنطق الحرب باسمه ... إذا جاض عن حد الأسنة جائض إذا قبض النقع العيون سمالها ... همام على جمر الحفيظة قابض قوله: «وأنت الذي تستنطق الحرب باسمه»، ليست قسمته مع عجز البيت قسمة مؤتلفة على ظاهر اللفظ، وإنما يأتلف المعنى على التأول، وكان اللفظ يحسن في القسمة لو قال: «وأنت الذي تستنطق الحرب باسمه، إذا كان اسم غيرك يخرسها ولا ينطقها» وإنما يريد: يوريها ويشعلها، أو أن يقول: وأنت الذي يغشى الأسنة مقدماً ... إذا جاض عن حد المنية جائض والقسمة الصحيحة في هذا قول البحتري: إذا خرس الأبطال في حمس الوغى ... علت فوق أصوات الحديد زماجره وسائر أبيات أبي تمام في غاية الجودة والصحة. وقال البحتري: غمام حياً ما تستريح بروقه ... وعارض موت ما تفيل رواعده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 تظل العطايا والمنايا قرائناً ... لعاف يرجيه وغاو يعانده إذا فترقت أسيافه وسط جحفل ... تفرق عنه هامه وسواعده وهذا غاية في الحسن والصحة، ولو كان أبو تمام القائل لهذا لقال: «إذا اجتمعت أسيافه وسط جحفل» ليكون الاجتماع والتفرق طباقاً، والبحتري لا يقصد هذا في كل الأحوال، إنما قصده أن يجيد اللفظ والسبك. وقال: مزقت أنفسهم بقلب واحد ... جمعت قواصيه وقلب أوحد في فتية طلبوا غبارك إنه ... رهج ترفع عن طريق السؤدد كالرمح فيه بضع عشرة فقرة ... منقادة تحت السنان الأصيد وهذا في غاية الحسن والجودة، وتشبيه في غاية القرب والحلاوة. وقال: نعم المفرق من أعناق مأسدة ... قد التقت بصفيح الهند تجتلد وهذا بيت حلو المعنى جداً. وقال أبو تمام في أبي سعيد: وفي أبرشتويم وهضبتها ... طلعت على الخلافة بالسعود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 بضرب ترقص الأحشاء منه ... وتبطل مهجة البطل النجيد وبيت البيات بعقد جأش ... أشد قوى من الحجر الصلود رأو ليث الغريفة وهو ملق ... ذراعيه جميعاً في الوصيد عليماً أن سيرفل في المعالي ... إذا ما بات يرفل في الحديد قوله: «يرفل في المعالي» استعارة قبيحة، لأنه يحط المعالي حتى يجرها على الأرض، فتصير حينئذ غير معال، ولو استوى له أن يقول: يرفل في السؤدد، أو في المجد، كان أقل قبحاً، ومثل هذا قوله: سعى فاستنزل الشرف اقتساراً ... ولولا السعي لم تكن المساعي وليس ينبغي للشاعر -إذا لم يساعده الوزن- أن يعذر نفسه، ويركب المحال. وقال أبو تمام في مدح ابن أبي دؤاد: يفرج منهم الغمرات بيض ... جلاد تحت قسطلة الجلاد لهم جهل السباع إذا المنايا ... تمشت في القنا وحلوم عاد قوله: «بيض جلاد» يعني: رجالاً لا سيوفاً، لأن السيوف لا توصف بالجلاد، وهذا في غاية الجودة والرصانة، يقال: جلد وجلاد مثل كلب وكلاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وقال في عبد الله بن طاهر: ويا أيها الساري اسر غير محاذر ... جنان ظلام أو ردى أنت هائبه فقد بث عبد الله خوف انتقامه ... على الليل حتى ما تدب عقاربه وهذا غاية في النجدة والبأس وعظم الهيبة. وما وصف أحد الشجاع في الحرب بأبلغ من قول زهير: ليس بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا والقتال لا يكون بأكثر من هذه الأحوال، فجمعها في بيت واحد، وهذه براعة لا يقدر عليها الطائيان ولا أمثالهما، ولم أرهما وصفا أحوال الطعن والضرب، فإن الناس قد تقدموا في هذا الباب بما بالغوا فيه واستقصوا، ومن ذلك قول قيس بن الخطيم: يرى قائم من دونها ما وراءها وقول قيس بن الخطيم أيضاً: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 أتتك المنايا من بلاد بعيدة ... بمنخرق السربال عبل المناكب أخي العرف والنكراء يعدل دفه ... بأبيض سقاط وراء الضرائب وقال النمر: تكاد تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي وقال آخر: وفارس جللته ضربة ... فبان عن منكبه الكاهل فصار ما بينهما رهوة ... يمشي بها الرامح والنابل وقال الفرزدق: ولولا الحياء زدت رأسك هزمة ... إذا سبرت ظلت جوانبها تغلي بعيدة ما بين الصدوع كأنها ... ركية لقمان الشبيهة بالدحل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 ومثل هذا كثير. وقال البحتري في أبي مسلم الكجي: إذا ارتد يوم الحرب ليلاً رددته ... نهاراً بلألاء السيوف الصوارم وإن غلت الأرواح أرخصت سوقها ... هنالك في سوق من الموت قائم بضرب يشيد المجد في كل موقف ... ويسرع في هدم الطلى والجماجم فتصرف وجه المجد أبيض مشرقاً ... بوجه من الهيجاء أغبر قاتم وهذا جيد حسن لفظه ومعناه. وأقول في الموازنة بينهما: أنهما جميعاً قد أحسنا في هذا الباب وأساءا، ولكني أفضل أبا تمام على البحتري لقول أبي تمام: لهم جهل السباع إذا المنايا ... تمشت في القنا وحلوم عاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 * ذكر تشبيه الأبطال بالسباع قال أبو تمام: آساد موت مخدرات مالها ... إلا الصوارم والقنا آجام وقال البحتري: حشدت حولها سباع الموالي ... والعوالي غاب لتلك السباع «الموالي» في ذلك الوقت: الأتراك، وهي لا تعمل بالرماح وكذلك الخزر والسغد فيما أظن. وقال أبو تمام في مثل ذلك: أسد العرين إذا ما الروع صبحها ... أو صبحته ولكن غابها الأسل كأنه أراد إذا أغير عليها أو أغارت هي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 وقال: يا يوم أرشق كنت رشق منية ... للخرمية صائب الآجال أسرى بنو الإسلام فيه وأدلجوا ... بقلوب أسد في صدور رجال «أسرى» من السرى، وهو السير بالليل، و «الإدلاج» أيضاً بالليل، وإنما أراد: «الإدلاج» بالتشديد ..... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 * في وصف السيوف والرماح وقال أبو الهول الحميري: أخضر اللون بين حديه ماء ... من ذعاف تميس فيه المنون فإذا ما سللته بهر الشمـ ... ـس ضياء فلم تكد تستبين يستطير الأبصار كالقبس المشـ ... ـعل لا تستقر فيه العيون وكأن المنون نيطت إليه ... فهو من كل جانبيه منون ...................................... [وما] يبهر الشمس ويزيد عليها في النور لا يشبه بالقبس المشعل، ثم قال: «ما تستقر فيه العيون»، والقبس المشعل تستقر فيه العيون، ولا تنبو عنه، ولا يعشها ضوؤه، وقال: «المنون» ثم كرر القافية فقال «منون» بغير ألف ولام، وهذا جائز في القوافي، ولكن الأحسن إذا بعد ما بين القافيتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 ومن المستحسن المختار في وصف السيف قول إسحاق بن خلف البهراني: ألقى بجانب خصره ... أمضى من الأجل المتاح وكأنما ذر الهبا ... ء عليه أنفاس الرياح ولكن الذي وصف السيف وأبر فيه على كل محسن ممن تقدم وتأخر البحتري في قوله لمحمد بن علي القمي يستهديه سيفاً. قد جدت بالطرف الجواد فثنه ... لأخيك من أدد أبيك بنمصل يتناول الروح البعيد مناله ... عفواً ويفتح في القضاء المقفل بإنارة في كل خطب مظلم ... وهداية في كل نفس مجهل ماض وإن لم تمضه يد فارس ... بطل ومصقول وإن لم يصقل يغشى الوغى فالترس ليس بجنة ... من حده والدرع ليس بمعقل مصغ إلى حكم الردى فإذا مضى ... لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل متوقد يبري بأول ضربة ... ما أدركت ولو أنها في يذبل وإذا أصاب فكل شيء مقتل ... وإذا أصيب فما له من مقتل وكأنما سود النمال وحمرها ... دبت بأيد في قراه وأرجل وكأن شاهره إذا استضوى به الز ... حفان يعصى بالسماك الأعزل حملت حمائله القديمة بقلة ... مذ عهد عاد غضة لم تذبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 قوله: «حملت حمائله القديمة بقلة» من وحي الشعر، وقوله: «وكأنما سود النمال وحمرها» من قول أوس بن حجر: كأن مدب النمل يتبع الربى ... كفى بالذي أتلو وأنعت منصلا فقد بان فضل البحتري في هذا الباب على أبي تمام، وبهذه الأبيات على كل أحد في وصف السيف. وأحسن ما قيل في وصف رمح قول مسكين الدارمي، ويروى لسالم بن قحفان: جماجمنا عند اللقاء تراسنا ... إلى الموت نمشي ليس فينا تجانف بكل رديني كأن كعوبه ... قطا نسق مستورد الماء صائف كأن هلالاً لاح فوق قناته ... جلا القين عنه والقتام الحراجف له مثل حلقوم النعامة حية ... ومثل القدامى شافه لك شائف كأنه أراد أن يقول: جلا القين عنه والحراجف القتام، يقال: ريح حرجف إذا كانت عاصفة شديدة، فقلب اللفظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 والقين لا وجه له ها هنا مع الحراجف، لأنه إنما يصف الهلال الذي شبه السنان به، وأن الحراجف جلت عنه القتام حتى أضاء واستبان، والقين إنما جلا السنان لا الهلال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 * ما قالاه في وصف الدروع قال أبو تمام: تخذوا الحديد من الحديد معاقلاً ... سكانها الأرواح والأجسام هذا كلام رائق وليس له مفتش، لأن المعاقل كلها لو كانت من صخر لصحت الفائدة وكان يقول: «تخذوا الحديد معاقلاً إذ كانت معال غيرهم الحجارة والشيد»، فيكون فضلهم على غيرهم إذ كانت معاقلهم من حديد ومعاقل غيرهم من الأبنية، ولو قال: «تخذوا الحديد من الحديد معاقلاً»، وتمم البيت بمعنى آخر لما كان ذلك منكراً، إذ ليست المعاقل والحصون من حديد. ولما قال: «سكانها الأرواح والأجسام» لم يفدنا بهذا الكلام كبير فائدة، إذ المعاقل من أي جنس كانت لا يكون سكانها إلا الأرواح والأجسام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 والجيد النادر، والمعنى الصحيح في هذا قول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي: ولا لاقياً كعب بن عمرو يقودها ... أبو دهثم نسج الحديد ثيابها فجعل الحديد ثياباً وهي الدروع، ولا تسمى ثياباً، فأغرب بهذا اللفظ وأحسن، ولو قال: «نسج الحديد لباسها» لما كانت له غرابة، وإنما أراد: قد ألفوها فصارت لهم كالثياب، لا كلفة عليهم فيها، ونحوه قول جرير: تردينا المحامل قد علمتم ... بذي لجب وكسوتنا الحديد قوله: «تردينا المحامل» أي: جعلنا محامل السيوف على عواتقنا في موضع الأردية، وقد أحسن جداً. ومثل هذا قول البحتري: يهول العدى جده في ادخا ... ر قمص الحديد وأبدانه فجعل الدروع قمصاً. وقال في مثل هذا. معاقلهم سمر القنا وعتادهم ... شريجان أسياف وقمص حديد وأحسن من هذا كله وألطف قول البحتري: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 ملوك يعدون الرماح مخاصراً ... إذا زعزعوها والدروع غلائلاً يقول: لا كلفة عليهم من حمل الرماح، وأنها في أكفهم مثل المخاصر، وهي القضبان لخفتها عليهم، واعتيادهم لحملها، ولا ثقل عليهم من لبس الدروع، وأنها عليهم كالغلائل على الأبدان، وأنها ترفة لباسهم، كما أن الغلائل من ترف اللباس، فهذا هو البديع المفيد. وكذلك قول البحتري: ولم يدرع وشيء الحديد فيلتقي ... على شابك شاك حديد أظافره فجعل الدروع كالوشي الذي يزين به. وقال البحتري: يمشون في زعف كأن متونها ... في كل معركة متون نهاء بيض تسيل على الكماة فضولها ... سيل السراب بقفرة بيداء وإذا الأسنة خالطتها خلتها ... فيها خيال كواكب في ماء وهذا من إحسانه المشهور. قوله: «سيل السراب» يريد إضاءة الدروع ولمعانها، شبهها بالسراب، لأنه يطرد كاطراد الماء، وشبه الأسنة فيه بالكواكب المرئية في الماء، وأظنه والله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 أعلم قول سلم الخاسر: قوم إذا لبسوا الحديد كأنه ... جاري السراب بقفرة ضحضاح فقال: «سيل السراب بقفرة بيداء». وقد قال قيس بن حوط التيمي: إذا غدونا علينا كل سابغة ... كأنها من زلال الماء تطرد فأحسن وأجاد، وأجود منه وأغرب لفظاص قول أنس بن الديان الحارثي: وألبس في الروع فضفاضة ... كماء الغدير إذا نمنما وقال ذواد بن الرقراق العقيلي: وفرسان الحفاظ بكل ثغر ... إذا ما الريح زعزعت العقابا كأن متونهن تظل تكسى ... شعاع الشمس أو ذهباً مذابا وقال سالم بن قحطان العنبري -وتروى لمسكين الدارمي-: تهش لعرفان الدروع جلودنا ... إذا جاء يوم مظلم الشر كاسف فريح الصدا المسود أطيب عندنا ... من المسك ذافته أكف ذوائف تعلق في مثل السواري سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفانف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 وهذا كله جيد نادر. وأنشد المفضل لجذع بن عمرو الشيباني: كالجن يمشون في الحديد فما ... تبصر إلا الأطراف والمقلا وهذا يفوق كل حسن وصحة. وقال: علينا دلاص من تراث محرق ... كمثل السماء زينتها نجومها وأين الطائيان من هذه المعاني وهذه المذاهب. وقال محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي الحلبي: نهنهت أولاها بضرب صائب ... هبر كما عط الرداء المعلم وعلي سابغة كأن قتيرها ... سلخ كسانيه الشجاع الأرقم وشبه الدرع بجلد حية، وهذا أحسن تشبيه وأصحه وألطفه، في أبرع لفظ، وأجود سبك، وإنما أخذ المعنى من قول أخر وأنشده ثعلب: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 ونثرة تهزأ بالنصال ... كأنها من خلع الهلال وقال: الهلال: الحية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 * ذكر وصف القوانس والبيض قال أبو تمام: بالمصعبين الذين كأنهم ... آساد أغيال وجن صريم مثل البدور تضيء إلا أنها ... قد قلنست من بيضهم بنجوم ويروى: «قد قنست» من القونس، وهذا لفظ ومعنى سخيفان، وأظنه سمع قول سلم الخاسر: نزلت نجوم الليل فوق رؤوسهم ... فلكل رأس كوكب وهاج وقال أبو تمام: كأنهم وقلنس البيض فوقهم ... يوم الهياج بدور قلنست شهبا وهذا أسخف وأوضع من بيته الأول، ولله در أبي لبيد القرشي إذ يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 إذا لبسوا القوانس ثم جاءوا ... كأمثال الكواكب حين تجري وقال أبو تمام: مصيف من الهيجا ومن جاحم الوغى ... ولكنه من وابل الدم مربع عبوس كسا أبطاله كل قونس ... يرى المرء منه وهو أقرع أنزع قوله: «وهو أقرع أنزع» كما يقال: هذا الشراب حلو حامض، أي قد جمع الطعمين، أي: يرى المرء وهو أقرع وهو أيضاً أنزع، وإلى هذا ذهب والله أعلم، وفيه معارضة، وهو أنه لا يكون من أجل البيضة أقرع، وإنما يكون من أجلها أنزع فقط، اللهم إلا أن يقيم البيضة مقام الشعر، وذلك في غاية البعد، ولو كانت الرواية: «يرى المرء فيه» مكان «منه» «وهو أقرع أنزع» كان المعنى صحيحاً، ولو كانت القافية منصوبة لكان المعنى أصح من كل صحيح، أي: يرى المرء الذي هو أقرع أنزع. ولله در أبي عبادة إذ يقول: قوم إذا قيل النجباء فما لهم ... غير الحفائظ والردى من مهرب حص التريك رؤوسهم فرؤوسهم ... في مثل لألاء التريك المذهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وقوله: جليته بشعاع رأس رده ... لبس الترائك للهياج صليعا غير أن هذا ليس وصفاً للبيض. وما أحسن ما قال قتادة بن سلمة الحنفي: ومعي أسود من حنيفة في الوغى ... للبيض فوق رؤوسهم تسويم قوم إذا لبسوا الحديد كأنهم ... في البيض والحلق الدلاص نجوم وقال خداش بن زهير: وكتيبة بيضاء يبرق بيضها ... مثل السماء تزينت بنجوم خالطتها بمهند ذي رونق ... وأصم مطرد الكعوب قويم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 * ذكر وصف الرايات قال أبو تمام فب حرب بابك، ويذكر رايات الأفشين: وقد ظللت عقبان راياته ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل أقامت مع الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل وهذا معنى قد تداولته العرب في الجاهلية والإسلام، وقد ذكرته في سرقاته وكل ما قيل فيه. وقال في مدح أبي سعيد: فتح الله في اللواء لك الخا ... فق يوم الاثنين فتحاً عظيما حومته ريح الجنوب ولن يحـ ... ـمد صيد العقاب حتى تحوما قوله: «ولن يحمد صيد العقاب حتى يحوما»، لأنها إذا حامت أبصرت الطرائد فانقضت عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 وقال البحتري: تصوت فوقهم حزق العوالي ... وغاب الخط مهزوز العلوب كنخل سميحة استعلى ركيب ... تكفيها الرياح على ركيب فهذا هو التشبيه الصحيح والمعنى المستقيم. وقال أبو تمام: نعم لواء الخميس أبت به ... يوم خميس عالي الضحى أفده خلت عقاباً بيضاء في حجرا ... ت الملك طارت منه وفي سدده فشاغب الجو وهو مسكنه ... وقاتل الريح وهي من مدده ومر تهفو ذؤابتاه على ... أسمر متن يوم الوغى جسده مارنه لدنه مثقفه ... عراصه في الأكف مطرده تخفق أثناؤه على ملك ... يرى طراد الأبطال من طرده نال بعاري القنا ولابسه ... مجداً تبيت الجوزاء من أمده يعلم أن ليس للعلى لقم ... نهج إذا لم يطأ على قصده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 وهذا شعر في غاية الاضطراب ورداءة المعاني وسوء التأليف. قوله: «على أسمر متن» أراد: أسمر المتن، كما يقال: مررت بأحول عين وأصفر وجه، أي: بأحول العين وأصفر الوجه، وليس في هذه الأبيات بيت جيد إلا قوله: «فشاغب الجو وهو مسكنه» وقوله: «يرى طراد الأبطال من طرده» وحذا حذو قول أبي نواس: تعد عين الوحش من أقواتها وأخذه أبو نواس من قول أبي النجم: تعد عانات اللوى من مالها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 * ذكر وصف الخيل في الحرب قال أبو تمام: واكتست ضمر الجياد المذاكي ... من لباس الهيجا دماً وحميما في مكر تلوكها الحرب فيه ... وهي مقورة تلوك الشكيما وهذا معنى قبيح جداً، أن جعل الحرب تلوك الخيل من أجل قوله: «تلوك»، و «تلوك الشكيما» ها هنا أيضاً خطأ، لأن الخيل لا تلوك الشكيم في المكر وحرمة الحرب، وإنما تفعل ذلك إذا كانت واقفة، وقد ذكرت هذا في أغاليطه في المعاني وأوضحته. و «المقورة»: الضامرة. وأما قول أبي حزابة التميمي. خاض الردى في العدى قدماً بمنصله ... والخيل تعلك ثن الموت باللجم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 فإنما قال: «ثن الموت»، مثلاً، والثن: هو حطام النبات اليابس، ولم يرد أنها تعلك اللجم على الحقيقة. وقال أنس بن الديان: أقود الجياد إلى عامر ... علائك لجم تمج الدما ولم يقل أنها تفعل هذا في حال كرها. وقال أبو تمام: تقاسمنا بها الجرد المذاكي ... سجال الكره والداب البعيد فنمسي في السوابغ محكمات ... وتمسي في السروج وفي اللبود حذوناها الوجي والأين حتى ... تجاوزت الركوع إلى السجود إذا خرجت من الغمرات قلنا ... خرجت حبائساً إن لم تعودي فكم من سؤدد أمكنت منه ... برمته على أن لم تسودي أهانك للطراد ولم تهوني ... عليه وللقياد أبو سعيد بلاك وكنت أرشيه المعالي ... وبرد مسافة الأمد البعيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 وهذا وصف حسن، ومعان جيدة حلوة. قوله: «أهانك للطراد» معنى صحيح، و «للقياد» أظنه يريد إذا قيدت بين يدي من يهبها له، ويحمله عليها، أي: يهون عليه أن يطارد عليها فيتبعها وينصبها، ويهون عليه أن يهبها، وإلا فليس بها هوان أن تقاد بين يدي أبي سعيد، بل قود الخيل إذا تعبت والجنائب بين يدي الملوك من إكرامها لا من هوانها. وقال البحتري: فلم أر مثل الخيل أبقى على السرى ... ولا مثلنا أحنى عليها وأشفقا وما الحسن إلا أن تراها مغيرة ... تجاذبنا حبلاً من الصبح أبرقا فكم من عظيم أدركته صدورها ... فبات غنياً ثم أصبح مملقا وأوحشها من يوسف حمل يوسف ... عليها المعالي جامعاً ومفرقا إذا أفلتت من سملق بنفوسها ... أعاد عليها رائدا المجد سملقا قوله: «تجاذبنا حبلاً من الصبح أبرقا» غاية في حسنه وحلاوته. وقوله: «حمل يوسف عليها المعالي جامعاً ومفرقا» أي: وأوحشها منه كده إياها في طلب المعالي، بأن يغير فيجمع الأموال ويفرقها. وقال: عابسات حملن يوماً عبوساً ... لأناس عن خطبه غافلينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 زرن بالدارعين أهل البقلا ... ر وأجلوا عن صاغري صاغرينا قد طواهن طيهن الفيافي ... واكتسبن الوجيف حتى عرينا كوعول الهضاب رحن وما يمـ ... ـلكن إلا صم الرماح قرونا جلنا في يابس التراب فما رمـ ... ـن طعاناً حتى وطئن الطينا «البقلار» و «صاغري» من بلاد الروم، و «الوجيف»: ضرب من السير، وجعله كسوة للخيل على مذهب أبي تمام الرديء في الاستعارة، وإنما قال: «اكتسين» من أجل قوله: «عرين» يريد: عرين من اللحم من طول السير. وقوله: كوعول الهضاب رحن وما يمـ ... ـلكن إلا صم الرماح قرونا من أحسن تشبيه وألطفه، شبه الخيل بوعول الهضاب، لأنه قطع بها جبال الروم، وجعل قرونها الرماح، وإنما سمع الحجاج بن علاط السلمي: ترى غابة الخطي فوق متونهم ... كما أشرقت فوق الصوار قرونها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 واحتذى عليه كثير فقال: وهم يضربون الصف حتى يثبتوا ... وهم يرجعون الخيل جما قرونها أراد أنهم يطعنون بالرماح حتى تكسر، وقرون الخيل: الرماح، كذا فسره يعقوب. وقوله: «حتى يثبتوا» أي: أمرهم وملكهم، وقوله: «يثبتوا» من قولهم: رجل مثبت، أي مثخن بالجراح ومثبت من المرض. وقال البحتري: وأزرت الخيول قبر امريء القيـ ... ـس سراعاً فعدن عنه بطاء وجلبت الحسان حواً وحوراً ... آنسات حتى أغرت النساء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 * ذكر المسير إلى أرض العدو والنزول عليها والظفر والفتوح قال أبو تمام: لقد انصعت والشتاء له وجـ ... ـه تراه الكماة جهماً قطوبا طاعناً منحر الشمال متيحاً ... لبلاد العدو موتاً جنوبا أخذ البحتري المعنى فقال: ورمى بثغرته الثغور فسدها ... طلق اليدين مؤملاً مرهوبا بالسيف أرسله الخليقة مصلتاً ... والموت هب من العراق هبوبا بيت البحتري أحسن وأجود لذكره الهبوب، وبيت أبي تمام أجمع لذكره الشمال مع الجنوب. ثم وصف أبو تمام شدة الزمان من البرد فقال: في ليال تكاد تبقي بحد الشـ ... ـمس من ريحها البليل شحوبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 سبرات إذا الحروب أنيخت ... هاج صنبرها فكانت حروبا فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربة غادرته عوداً ركوبا وهذا من استعاراته القبيحة المعروفة. وقال في ضد قوله: «فضربت الشتاء في أخدعيه» في مدح أبي سعيد: كرمت غزوتاك بالأمس والخيـ ... ـل دقاق والخطب غير دقيق كم أفادت من أرض قرة من قر ... ة عين وربرب موموق ثم آبت وأبت خوف الغمام الـ ... فظ ذا فكرة وقلب خفوق لا تبالي بوارق البيض والسمـ ... ـر ولكن باليت لمع البروق تشنأ الغيث وهو جد حبيب ... رب حزم في بغضة الموموق لم تخوف ضر العدو ولا بغـ ... ـياً ولكن تخاف ضر الصديق وقال البحتري: إذ مضى مجلباً يقعقع في الدر ... ب زئيراً ينس الكلاب العواء يوم حاضت من خوفه ربة الرو ... م صباحاً وراسلته مساء حين أبدت إليك خرشنة العلـ ... ـيا من الثلج هامة شمطاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 ما نهاك الشتاء عنها وفي صد ... رك نار للحقد تنهي الشتاء قوله: «خرشنة العليا» هي خرشنة واحدة، وإنما قال: «العليا» أراد: التي هي عالية. وقوله: «وفي صدرك نار الحقد تنهي الشتاء» أحسن من «فضربت الشتاء في أخدعيه»، وخلاف قوله: لا تبالي بوارق المسر والبيـ ... ـض ولكن باليت لمع البروق وقال أبو تمام: أوقدت من دون الخليج لأهلها ... ناراً لها خلف الخليج شرار إلا تكن حصرت فقد أضحى ... من خوف قارعة الحصار حصار فهناك نار وغى تشب وها هنا ... جيش له لجب وثم مغار خشعوا لصولتك التي هي عندهم ... كالموت يأتي ليس فيه عار وهذا في غاية الجودة والصحة والسلامة. وقال بعد هذا: غادرت أرضهم بخيلك في الوغى ... فكأن أمنعها لها مضمار «لها»: للخيل مضمار، وهو الميدان الذي تجري فيه وتضمر. فأقمت فيها وادعاً متمهلاً ... حتى ظنناً أنها لك دار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 وهذا معنى حسن لطيف، وأحسن منه وأجود وأحلى قول البحتري: ووصلت أرض الروم وصل كثير ... أطلال عزة في لوى تيماء في كل يوم قد نتجت منية ... لحماتها من حربك العشراء وقال أبو تمام في فتح عمورية: يا يوم وقعة عمورية انصرفت ... منك المنى حفلاً معسولة الحلب أبقيت جد بني الإسلام في صعد ... والمشركين ودار الشرك في صيب أم لهم لو رجوا أن تفتدي جعلوا ... فداءها كل أم منهم وأب وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدت صدوداً عن أبي كرب بكر فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النوب من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد ... شابت نواصي الليالي وهي لم تشب حتى إذا مخض الله السنين لها ... مخض البخيلة كانت زبدة الحقب أتتهم الكربة السوداء كاربة ... منها وكان اسمها فراجة الكرب جرى لها الحال برحا يوم أنقرة ... إذ غودرت وحشة الساحات والرحب لما رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الجرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 قوله: «مخض البخيلة»، لأنها تستقصي مخض البخيلة حتى لا يبقى شيء من الزبد إلا استخرجته. وقوله: «الكربة السوداء» من أجل الرايات السود، «كاربة منها» يريد من عمورية، «كاربة» أي: غاشية لها ودانية منها، يقال: قد كرب أن يفعل كذا، أي: دنا وقرب. «وكان اسمها فراجة الكرب» أي: الكربة السوداء، يريد الرايات السود، و «فراجة الكرب»: لأنها فرجت الكربة من الدولة الأموية لما خرجت من خراسان. ثم وصف الحريق فقال: تركت فيها بهيم الليل وهو ضحى ... يشله وسطها صبح من اللهب حتى كأن جلابيب الدجى رغبت ... عن لونها وكأن الشمس لم تغب ضوء من النار والظلماء عاكفة ... وظلمة من دخان في ضحى شحب فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت ... والشمس واجبة من ذا ولم تجب وإنما حذا في هذا كله حذو قول النابغة يصف يوم حرب: تبدو كواكبه والشمس طالعة ... لا النور نور ولا الإظلام إظلام ثم قال: تكشف الدهر تصريح الغمام لها ... عن يوم هيجاء منها طاهر جنب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 ما ربع مية معموراً يطيف به ... غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب ولا الخدود وقد أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظر من خدها الترب سماجة غنيت منا العيون بها ... عن كل حسن بدا أو منظر عجب وحسن منقلب تبقى عواقبه ... جاءت بشاشته من سوء منقلب وقوله: «ما ربع مية معموراً يطيف به غيلان» إنما استحسنه غيلان وحده ويكون بهياً عنده لا عند الناس، وكأنه أراد: أبهى ربى عندنا من ربع مية عند غيلان، والمعنى غير جيد، وإنما كان ينبغي أن يشبهه بشيء له بهاء على كل حال عند كل أحد على العموم، لكن البحتري ذكر كثيراً وأطلال عزة فوضع القول في موضعه الذي يليق به فقال: ووصلت أرض الروم وصل كثير ... أطلال عزة في لوى تيماء وهذا في غاية الحسن والصحة، يصلح أن يكون مثالاً لكل شيء أدام الملازمة لشيء. وقال البحتري: رمى الروم بالغزو الذي ما تتابعت ... نوافذه إلا أصبن المقاتلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 غزاهم فأفناهم ولم يقتصر بهم ... على العام حتى جدد الغزو قابلا رويدك أنظرهم لتنتجع الربى ... منورة أو تحلب الخلف حافلا فقد عرت بالغارات في وهداتهم ... ولياً ووسمياً رذاذاً ووابلا وسقت الذي فوق المعاقل منهم ... فلم يبق إلا أن تسوق المعاقلا فهذه هي الطريقة العربية والبلاغة المتقنة. وقال: حوى كل ما دون الخليج ولم يدع ... فؤاداً بما دون الخليج معلقا قليل السرور بالكثير يناله ... فتحسبه وهو المظفر مخفقا ومحترس من أين رمت اغتراره ... وجدت له سهماً إليك مفوقا وهذا حزم وتيقظ لا غاية وراءهما، ولفظ وعبارة عن معنى لا شيء أوضح منه. ومثل قوله: « .... وهو المظفر مخفقا» قوله في أبي سعيد: يرجى التقى من هديه واعتلاله ... سكينة مغلوب وأوبة غالب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 * ذكر من انهزم ونجا بحشاشته ومن أسر قال أبو تمام يعني بابك الخرمي: ونجا ابن خائنة البعولة لو نجا ... بمهفهف الكشحين والآطال ترك الأحبة سالياً لا ناسياً ... عذر النسي خلاف عذر السال هتكت عجاجته القنا عن وامق ... أهدى الطعان له خليقة قال وقال فيه: عشية صد البابكي عن القنا ... صدود المقالي لا صدود المجامل تحدر من لهبيه يرجو غنيمة ... بساحة لا الواني ولا المتخاذل فكان كشاة الرمل قيضه الردى ... لقانصه من قبل نصب الحبائل وهذا وما قبله جيد بالغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 وقال: عدا الليل فيها عن معاوية الردى ... وما شك ريب الدهر في أنه ردي لعمري لقد حررت يوم لقيته ... لو أن القضاء وحده لم يبرد وفي أرشق الهيجاء والخيل ترتمي ... بأبطالها في جاحم متوقد عططت على رغم العدا عزم بابك ... بصبرك عط الأتحمي المعضد فإن لا يكن ولى بشلو مقدد ... هناك فقد ولى بعزم مقدد قوله: «لو أن القضاء وحده لم يبرد» من معانيه التي كان الشيوخ يضحكون منها. وقوله: «وفي أرشق الهيجاء» أراد: في هيجاء أرشق فجاء به على القلب، أي: في حرب أرشق، «عططت»: شققت، والأتحمي: ضرب من الثياب. وقال: وقد كانت الأرماح أبصرن قلبه ... فأرمدها ستر القضاء الممدد والستر الممدود من كل شيء إنما يحجب العين عن أن تنظر إلى ما وراءه، فأما أن يرمدها فلا، لكنه ذهب إلى أن الأرمد لا يبصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 وقال: وكان هو الجلد القوي فسلبته ... بحسن الجلاد المحض حسن التجلد لعمري لقد غادرت حسي فؤاده ... قريب رشاء للقنا سهل مورد فكان بعيد القعر من كل ماتح ... فغادرته يسقس ويشرب باليد وهذا غاية في حسنه وصحته وحلاوته وغرابته. وقال: إلا تنل منويل أطراف القنا ... أو تثن عنه البيض وهي حرائر فلقد تمنى أن كل مدينة ... جبل أصم وكل حصن غار فانظر بعين شجاعة فلتنظرن ... أن المقام بحيث كنت فرار هيهات جاذبك الأعنة باسل ... يعطي الشجاعة كل من تختار فمضى لو أن النار دونك خاضها ... بالسيف إلا أن تكون النار وقال يمدح الأفشين: لاقاك بابك وهو يزأر فانثنى ... وزئيره قد عاد وهو أنين لما رأى علميك ولى هارباً ... ولكفره طرف عليه سخين ولى ولم يظلم وهل ظلم امرؤ ... حث النجاء وخلفه التنين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 طعن التلهف قلبه ففؤاده ... من غير طعنة فارس مطعون ورجا بلاد الروم واستعصى به ... أجل أصم عن النجاء حرون هيهات لم يعلم بأنك لو ثوى ... بالصين لم تبعد عليك الصين وهذا كله معنى ولفظاً لا مطعن في الصحة والاستقامة والحسن والجودة. وقال: إن ينج منك أبو نصر فعن قدر ... تنجو الرجال ولكن سله كيف نجا وهذا بيته المشهور الذي يستحسن من أجل إجماله وتركه أن يشرح. وقد أحسن البحتري في قوله: إن ينج منهزماً ركضاً فقد وطئت ... منه الرماح صليفي كاهل وقفا وقال أبو تمام: ولى معاوية عنهم وقد أخذت ... فيه القنا فأبى المقدار والأمد نجاك في الروع ما نجى سميك في ... صفين والخيل بالفرسان تنجرد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 إن تنفلت وأنوف الموت راغمة ... فاذهب فأنت طليق الركض يا لبد وقال فيها: تركت منهم سبيل النار سابلة ... في كل يوم إليها عصبة ترد كأن بابك بالبذين بعدهم ... نؤي أقام خلاف الحي أو وتد وقال: لما رأى الحرب رأي العين توفلس ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب غدا يصرف بالأموال جزيتها ... فعره البحر ذو التيار والحدب لم ينفق الذهب المربي بكثرته ... على الحصى وبه فقر إلى الذهب إن الأسود أسود الغيل همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب ولى وقد ألجم الخطى منطقه ... بسكتة تحتها الأحشاء في صخب أحذى قرابينه صرف الردى ومضى ... يحتث أنضى مطاياه من الهرب وهذا إحسانه المعروف الذي لا شيء يفوقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 وقال: رآه العلج مقتحماً عليه ... كما اقتحم الفناء على الخلود فمر ولو يجاري الريح خيلت ... لديه الريح ترسف في القيود قوله: كما اقتحم الفناء على الخلود من قول مسلم بن الوليد: كأنه أجل يسعى إلى أمل وقوله: .................... خيلت ... لديه الريح ترسف في القيود في غاية الجودة وقال في مدح إسحاق بن إبراهيم: سماهم البطر الأسد الغضاب فلم ... تهجع سيوفك حتى صيروا نعما ولت شياطينهم عن حد ملحمة ... كانت نجوم القنا فيها لهم رجما وما وراء هذا البيت غاية في حسنه وحلاوته وصحة معناه، ولست أدري أيهما أجود في معناه أهو أم قول البحتري: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 قمر يكر على الكماة بكوكب وقال في مدح خالد بن يزيد بن مزيد: ولما رأى توفيل راياتك التي ... إذا ما اتلأبت لا يقاومها الصلب تولى ولم يأل الردى في اتباعه ... كأن الردى في قصده هائم صب غدا خائفاً يستنجد مذعناً ... عليك فلا رسل ثنتك ولا كتب وما الأسد الضرغام يوماً بتارك ... صريمته إن أن أو بصبص الكلب فمر ونار الكرب تلفح قلبه ... وما الروح إلا أن يخامره الكرب مضى مدبراً شطر الدبور ونفسه ... على نفسه من سوء ظن بها إلب جفا الشرق حتى ظن من كان جاهلاً ... بدين النصارى أن قبلته الغرب وحسبك بهذا جودة. وقال البحتري في هذا الباب: أشلى على منويل أطراف القنا ... فنجا عتيق عتيقه جرداء ولو أنه أبطى لهن هنيهة ... لصدرن عنه وهن غير ظماء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 فلئن تبقاه القضاء لوقته ... فلقد عممت جنوده بفناء أثكلته أشياعه وتركته ... للموت مرتقباً صباح مساء حتى لو ارتشف الحديد أذابه ... بالوقد من أنفاسه الصعداء وقال: وما كان بقراط بن آشوط عنده ... بأول عبد أوبقته جرائره وقد شاغب الإسلام خمسين حجة ... فلا الخوف ناهيه ولا الحلم زاجره ولم يرض من جرزان حرزاً يجيره ... ولا في جبال الروم ريداً يجاوره فجاء مجيء العير قادته حيرة ... إلى أهرت الشدقين تدمى أظافره ومن كان في استسلامه لائماً له ... فإني على ما كان من ذاك عاذره ولم يبق بطريق له مثل جرمه ... بأران إلا عازب اللب طائره كسرتهم كسر الزجاجة بعده ... ومن يجبر الوهي الذي أنت كاسره فإن يك هذا أول النقص فيهم ... وكنت لهم جاراً فما هو آخره وهذا في غاية الحسن والصحة والسلامة. وقوله: فجاء مجيء العير قادته حيرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 مثل قول أبي تمام: فكان كشاة الرمل قيضه الردى والبيتان جميعاً جيدان ومعناهما مشترك جار في العادات وليس مثله مسروقاً. وقال: ولقد عزلت أبا أمية لو وعت ... أذناه ذاك العذل والتأنيبا قصد الهدى بالمعضلات يكيده ... ودعا إلى إضلاله فأجيبا حتى تقنص في أظافر ضيغم ... ملأت هماهمه القلوب وجيبا ونهيت بقراط بن حمزة لو نهى ... أملاً كبارقة الجهام كذوبا ظن الظنون صواعداً فرددته ... خزيان يحمل منكباً منكوبا متقسم الأحشاء ينفض روعه ... قلباً كأنبوب اليراع نخيبا وهذا كله جيد بالغ لفظاً ومعنى وسبكاً. وقال: ولما رأى الأكراد برق سنانه ... تمج دماً منهم فوبل وريق تولوا فهام بالفرار معير ... دهوراً وهام بالسيوف ملفق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وهذا كما ترى غاية في حسنه وغرابته. وقال: وزر فروج المرهفات على بني ... زرارة واختاروا عليه السلاسلا وأصلح منهم كل من كان فاسداً ... وقوم منهم كل من كان مائلا وأصعد موسى في السماء فلم يجد ... بها مهرباً منه فأقبل نازلا ولم تستطع بدليس تمنع ربها ... من الأسد المزجي إليها القنابلا لأذكرته بالرمح ما كان ناسياً ... وعلمته بالسيف ما كان جاهلا أحطت به قهراً فلما ملكته ... أحطت به منا عليه ونائلا ولو لم تناهضه وأبصر ما ... تنيل من الجدوى لجاءك سائلا وهذا هو الإحسان الذي لا يتعلق به إحسان، غير أن قوله: «وزر فروج المرهفات» استعارة رديئة وتجنيس قبيح يشبه تجنيسات أبي تمام الرديئة. وقال: سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يسلبوا ولو أنهم ركبوا الكواكب لم يكن ... ينجيهم من أخذ بأسك مهرب «ركبوا الكواكب» لأنه لا تفي بحركة سيرها حركة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 وما أحسن ما قال عبد العزى بن وديعة المزني: كأن سيوفنا فينا وفيهم ... سحاب يستهل ويستطير كأنهم وقد ولوا جراد ... بذي لجب تهوره الدبور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 * ذكر الصلب على الجذوع وحمل الرؤوس قال أبو تمام: لما قضى رمضان فيه قضاؤه ... شالت به الأيام في شوال أهدى لمتن الجذع متنيه كذا ... من عاف متن الأسمر العسال لا كعب أسفل موضعاً من كعبه ... مع أنه عن كل كعب عال سام كأن العز يجذب صبعه ... وسموه من ذلة وسفال متفرغ أبداً وليس بفارغ ... من لا سبيل له إلى الإشغال هذا كله من مشهور إحسانه وبارع قوله. وقوله: «متفرغ أبداً ....... » من الفلسفة العجيبة، وهو البيت الذي كان الكندي يعجب به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 وقال فيه: ولقد شفى الأحشاء من برحائها ... أن صار بابك جار مازيار ثانيه هو كبد السماء ولم يكن ... لاثنين ثان إذ هما في الغار وكأنما انتبذا لكيما يطويا ... عن ناطس خبراً من الأخبار سود اللباس كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدارعاً من قار بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النجار لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفر من الأسفار قوله: « .... لم يكن لاثنين ثان إذ هما في الغار» من لحونه القبيحة، وقد ذكرته في جملة ما ذكرته من أغاليطه في المعاني. وأما ناطس فلست أدري ما أراد به وأظنه عظيماً من عظماء أهل الشرك ممن كان تجب طاعته، كأنما أتاهما خبر فهما يتقاوضانه ويطويانه، وقد كنت سمعت فيه شيئاً أظنه هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 وقوله: لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبداً على سفر من الأسفار مأخوذ من قول آخر وأنشده ثعلب: قام ولما يستعن بساقه ... آلف مثواه على فراقه وقال البحتري في صلب بابك يخاطب أبا سعيد: ما زلت تقرع باب بابك بالقنا ... وتزوره في غارة شعواء حتى أخذت بنصل سيفك عنوة ... منه الذي أعيا على الخلفاء أخليت منه البذ وهي قراره ... ونصبته علماً بسامراء لم يبق منه خوف بأسك مطعماً ... للطير في عود ولا إبداء فتراه مطروداً على أعواده ... مثل اطراد كواكب الجوزاء مستشرقاً للشمس ممتداً لها ... في أخريات الجذع كالحرباء قوله: «بسامراء» من لحونه القبيحة، وإنما ذهب إلى أن جعلها اسماً واحداً كما تلفظ به العامة، وإنما هي: «سر من رأى». وقوله: «مطرداً على أعواده» أي: يلوح، لأن الشمس صيرته كما ترى الكواكب، كأنها تتحرك، تطرد: أي يطرد ضوءها بعضه بعضاً، كأن الضوء يتدافع، وخص كواكب الجوزاء لأنها كهيئة الإنسان المصلوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 وقوله: «في أخريات الجذع كالحرباء» ما زلت أسمع الشيوخ من أهل العلم بالشعر يقولون إنه ما شبه المصلوب بأصح من هذا التشبيه ولا أقرب ولا أحسن لفظاً ولا أشبه بكلام العرب. وأما ما تقدم من قول أبي تمام فإنه حكمة متقنة وفلسفة تفوق كل فلسفة وتتقدم معاني الناس في الرقة واللطافة. وقال البحتري في قوم أخذوا ومعهم صليب لهم فصلبوا: وما صليب ابن آشوط بأمنع من ... صليب برجان إذ خلوه وانجفلوا أمسى يرد حريق الشمس جانبه ... عن بابك وهو في الباقين يشتعل كأنهم ركبوا في الحرب وهو لهم ... بند فما لف مذ أوفى ولا نزلوا تفاوتوا بين مرفوع ومنخفض ... على مراتب ما قالوا وما فعلوا رد الهجير لحاهم بعد شعلتها ... سوداً فعادوا شباباً بعدما اكتهلوا وهذا مرعى ولا كالسعدان. وقال: قوم ترى أرماحهم يوم الوغى ... مشغوفة بمواطن الكتمان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 يتسربلون أسنة وصفائحاً ... والموت بين صفيحة وسنان قوم إذا شهدوا الكريهة صيروا ... كمم الرماح جماجم الأقران فهذا مأخوذ من قول مسلم: يغشي السيوف نفوس الناكثين به ... ويجعل الهام تيجان القنا الذبل وأخذه أبو تمام فأساء الأخذ وقبح لفظاً ومعنى، وسلك وجهاً آخر فقال: بدلت أرؤسهم يوم الكريهة من ... قنا الظهور قنا الخطي مدعما وإنما ألم مسلم بن الوليد بقول جرير: كأن رؤوس القوم فوق رماحنا ... غداة الوغى تيجان كسرى وقيصرا وقال آخر: سخطت جماجمهم على أجسادهم ... فتبدلت منها صدور رماح ما واجهتك عقاب حرب مرة ... إلا كسرت جناحها بجناح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 * ذكر الحرب في البحر قال البحتري في أحمد بن دينار في الحرب التي تولاها في البحر: ولما تولى البحر والجود صنوه ... غدا البحر من أخلاقه بين أبحر أضاف إلى التدبير فضل شجاعة ... ولا عزم إلا للشجاع المدبر إذا شجروه بالرماح تكسرت ... عواملها في صدر ليث غضنفر غدوت على الميمون صبحاً وإنما ... غدا المركب الميمون تحت المظفر أطل بعطفيه ومر كأنما ... تشوف من هادي حصان مشهر إذا زمجر النوتي فوق علاته ... رأيت خطيباً في ذوابة منبر يغضون دون الاشتيام عيونهم ... وقوف السماط للعظيم المؤمر إذا عصفت فيه الجنوب اعتلى لها ... جناحا عقاب في السماء محجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 إذا ما انكفى في هبوة النار خلته ... تلفع في أثناء برد محبر وحولك ركابون للهول عاقروا ... كؤوس الردى من دارعين وحسر تميل المنايا حيث مالت أكفهم ... إذا أصلتوا حد الحديد المذكر إذا رشقوا بالنار لم يك رشقهم ... ليقلع إلا عن شواء مقتر صدمت بهم صهب العثانين دونهم ... ضراب كإيقاد اللظى المتسعر يسوقون أسطولاً كأن سفينه ... سحائب صيف من جهام وممطر كأن ضجيج البحر بين رماحهم ... إذا اختلفت ترجيع عود مزمجر يقارب من زحفيهم فكأنما ... يؤلف من أعناق وحش منفر فما رمت حتى أجلت الحرب عن طلى ... مقطعة فيهم وهام مطير على حين لا نقع تطوحه الصبا ... ولا أرض تلفى للصريع المقطر وكنت ابن كسرى قبل ذاك وبعده ... ملياً بأن توهي صفاة ابن قيصر جدحت له الموت الذعاف فعافه ... وطار على ألواح شطب مشمر مضى وهو مولى الريح يشكر فضلها ... عليه ومن يول الصنيعة يشكر وهذا من أحسان أبي عبادة المشهور الذي يفوق كل إحسان. وليس لأبي تمام في حرب البحر شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 * ما قالاه في حرب ذوي الأرحام والحض على صلحهم والصفح عنهم قال أبو تمام في مالك بن طوق: لو أن دهراً رد رجع جواب يا مالك ابن المالكين ولم تزل ... تدعى ليومي نائل وعقاب لم ترم ذا رحم ببائقة ولا ... كلفت قومك من وراء حجاب للجود باب في الأنام ولم تزل ... كفاك مفتاحاً لذاك الباب ورأيت قومك والإساءة منهم ... جرحى بظفر للزمان وناب هم صيروا تلك البروق صواعقاً ... فيهم وذاك العفو سوط عذاب وأقل أسامة جرمها واصفح لها ... عنه وهب ما كان للوهاب رفدوك في يوم الكلاب وشققوا ... فيه المزاد بجحفل غلاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 وهم بعين أباغ راشوا للوغى ... سهميك عند الحارث الحراب وليالي الثرثار والحشاك قد ... جلبوا الجياد لوحق الأقراب فمضت كهولهم ودبر أمرهم ... أحداثهم تدبير غير صواب لا رقة الحضر اللطيف غذتهم ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب وإذا كشفتهم وجدت لديهم ... كرم النفوس وقلة الآداب أسبل عليهم ستر عفوك مفضلاً ... وانفح لهم من نائل بذناب لك في رسول الله أعظم أسوة ... وأجلها في سنة وكتاب أعطى المؤلفة القلوب رضاهم ... كملاً ورد أخايذ الأحزاب والجعفريون استقلت ظعنهم ... عن قومهم وهم نجوم كلاب حتى إذا أخذ الفراق بقسطه ... منهم وشط بهم عن الأحباب ورأوا بلاد الله قد لفظتهم ... أكنافها رجعوا إلى جواب فأتوا كريم الخيم مثلك صافحاً ... عن ذكر أحقاد مضت وضباب ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي فاضمم قواصيهم إليك فإنه ... لا يزخر الوادي بغير شعاب والسهم بالريش اللؤام ولن ترى ... بيتاً بلا عمد ولا أطناب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 وهذه من قصائد أبي تمام التي يرضاها أضداده لتركه التصنع فيها بطلب الطباق والتجنيس والاستعارات إلا أبياتاً يسيرة نسيبها. وقال أبو تمام في مالك بن طوق: مهلاً بني عمرو بن غنم إنكم ... هدف الأسنة والقنا يتحطم وستذكرون غداً صنائع مالك ... إن جل خطب أو تدوفع مغرم إن تذهبوا عن مالك أو تجهلوا ... نعماه فالرحم الضعيفة تعلم هي تلك مشكاة بكم لو تشتكي ... مظلومة لو أنها تتظلم كانت لكم أخلاقه معسولة ... فتركتموه وهي ملح علقم فقسا لتزدجروا ومن يك حازماً ... فليقس أحياناً على من يرحم أعزز عليه إذا ابتأستم بعده ... وتذكرت بالأمس تلك الأنعم ووجدتم قيظ الأذى ورميتم ... بعيونكم أين الربيع المرهم وندمتم ولو استطاع على جوى ... أحشائكم لوقاكم أن تندموا قوله: «هي مشكاة بكم» أي: مشكاة منك يقال: أشكيته إذا شكا إليك فزدته مما كان شكاه، وأشكيته: إذا نزعت عما شكاه، وهي من الأضداد وهي ها هنا: لو أ، ها تشتكي لزدتموها. وقوله: «لوقاكم أن تندموا» كأنه لفظ موضوع في غير موضعه، لأن ندمهم إنما هو عقوقهم له، والندم إنما هو رجوع واستبصار، فكيف يقيهم من رجوعهم واستبصارهم، فإن قيل: إنما أراد: يقيهم الأمر الذي ندموا عليه لا أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 يقيهم الندم، قيل فالذي ندموا عليه هو العقوق، فكيف يقيهم العقوق، ووجه هذا عندي أنه أراد: لوقاكم غم الندم ولوعته، وقد يكون أراد: لوقاكم الأمر الذي تدفعون إليه فيكون سبب ندمكم، فوضع الندم موضع سبب الندم. وقال أيضاً في مالك بن طوق: سلم على الربع من سلمى بذي سلم مهلاً بني مالك لا تجلبن إلى ... حي الأراقم دؤلول ابنة الرقم فأي حقد أثرتم من مكامنه ... وأي عوصاء جشمتم بني جشم لم يألكم مالك صفحاً ومغفرة ... لو كان ينفخ قين الحي في فحم لا بالمعاود ولعاً في دمائكم ... ولا إلى لحم خلق منكم قرم أخرجتموه بكره من سجيته ... والنار قد تنتضي من ناضر السلم أوطأتموه على جمر العقوق ولو ... لم يحرج الليث لم يخرج من الأجم قد انثنى والمنايا في أسنته ... وقد أقام حياراكم على اللقم جذلان من ظفر حران إن رجعت ... أظفاره منكم مخضوبة بدم ديم يكفكف منه كل بائقة ... ورحمة رفرفت منه على الرحم «الدؤلول»: الأمر الشديد العظيم، أراد به أبو تمام الداهية، و «العوصاء»: الأمر المعتاص الشديد، و «السلم»: شجر شديد الصلابة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 لا يكاد تقدح منه النار، و «اللقم»: جادة الطريق، وإنما أراد أقامهم على الهدى وأراهم إياه. وقوله: «دين يكفكف منه كل بائقة» يقال: كفكفت الشيء عن الشيء إذا رددته عنه، مثل «كففته»، ويكون: «يكفكف عنه كل بائقة» بدفع، أي: تقف وتحجم مثل قوله: إذا درجت فيه الصبا كفكفت لها ... وقام يباريها أبو الفضل جعفر وليس في هذه القصيدة بيت جيد عليه طلاوة إلا قوله: أخرجتموه بكره من سجيته ... والنار قد تنتضي من ناضر السلم فإنه من مشهور إحسانه ونادر معانيه، والبيت الذي بعده أيضاً جيد بالغ. وما أحسن ما قال شماس بن أوس الطهوي: فإلا تصل رحم ابن عمرو بن مرثد ... يعلمك وصل الرحم عضب مجرب وقال حميد بن أبي شحاذ الضبي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 فقضينا قضاءنا من بني عبـ ... ـس وقد يقتل الشقيق الشقيق هم بنو أمنا فجرينا الدهـ ... ـر ففي أهب بيننا تمزيق وقال القطامي: لم تر قوماً هم شر لإخوانهم ... منا عشية يجري بالدم الوادي تفريقهم لهذميات نقد بها ... ما كان خاط عليهم كل زراد وحسبك بهذا جودة. ولله در أبي عبادة إذ يقول لبني الحارث بن كعب في قصيدة يمدح بها علي بن مر: أقيموا بني الديان من سفهائكم ... فقد طال عن قصد السبيل مجيدها أما آن أن ينهى عن الجهل والخنا ... قيام المنايا فيكم وقعودها قرابتكم لا تظلموها فتبعثوا ... عليكم صدوراً ما تموت حقودها لها الحسب الزاكي الذي تعرفونه ... وفيكم طريفات العلا وتليدها فلا تسألوها عن قديم تراثها ... فعسجدها مما أفاد حديدها ذوو النخلات الخضر من بطن حائل ... وفي فلج خطبانها وهبيدها وأهل سفوح من شمائل تكتسي ... بهم أرجاً حتى يشم صعيدها ينامون عن أكفانهم ولديهم ... من الله نعمى ما ينام حسودها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 مقاماتهم أركان رضوى ويذبل ... وأيديهم بأس الليالي وجودها أبا خالد ما جاور الله نعمة ... بمثلك إلا كان حتماً خلودها وجدنا خلال الخير عندك كلها ... ولو طلبت في الغيث عز وجودها فقد جزعت جلد ولولاك لم يكن ... ليجزع من صرف الزمان جليدها فأولهم نعمى فكل صنيعة ... رأيناك تبديها فأنت تعيدها قرابتك الأدنين من حيث تنتمي ... وجيرتك الداني إليك بعيدها أتهدم جرفيها وطودك طودها ... وتنحت فرعيها وعودك عودها وتنهض بالأبطال تفني عديدها ... وسؤلك في أن التراب عديدها إليك وقود النار عند ابتدائها ... وليس إذا تمت إليك خمودها فأقصر ففي الإقصار بقيا فإنها ... مكارم حيي يعرب تستفيدها ودونك فاختر في قبائل مذحج ... أتقرها عن أمرها أم تسودها قوله: «وأهل سفوح» فسفوح: موضع، «من شمائل»، أي: وفي أهل سفوح شمائل، أي: أخلاق، و «من» زائدة، «تكتسي أرجا» أي: تكتسي سفوح بأهلها أرجاً، «حتى يشم صعيدها» أي: ترابها، وهذا هو اللفظ الجزل والمعنى الفحل والنظم الرصين والطبع السلس والمذهب العجب. ومثله في الجودة والرصانة والحلاوة قوله في القصيدة التي يمدح فيها المتوكل ويذكر حرب تغلب وإصلاح الفتح بينهم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 أسيت لأخوالي ربيعة إذ عفت ... مصايفها فيها وأقوت ربوعها بكرهي أن باتت خلاء ديارها ... ووحشاً مغانيها وشتى جميعها وأمست تساقي الموت من بعدما غدت ... شروباً تساقي الراح رفهاً شروعها «الرفه»: أن ترد الإبل الماء كل يوم. إذا افترقوا عن وقعة جمعتهم ... لأخرى دماء ما يطل نجيعها تذم الفتاة الرود شيمة بعلها ... إذا بات دون الثأر وهو ضجيعها حمية شغب جاهلي وعزة ... كليبية أعيا الرجال خضوعها وفرسان هيجاء تجيش صدورها ... بأحقادها حتى تضيق دروعها تقتل من وتر أعز نفوسها ... عليها بأيد ما تكاد تطيعها إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها شواجر أرماح تقطع بينها ... شواجر أرحام ملوم قطوعها ولولا أمير المؤمنين وطوله ... لعادت جنوب والدماء دروعها ولاصطلمت جرثومة تغلبية ... به استبقت أغصانها وفروعها رفعت بضبعي تغلب ابنة وائل ... وقد يئست أن يستقل صريعها وكنت أمين الله مولى حياتها ... ومولاك فتح يومذاك شفيعها فألفهم من بعد ما شردتهم ... حفائض أخلاق بطيء رجوعها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 وأبصر غاويها المحجة فاهتدى ... وأقصر غاليها ودانى شسوعها وأمضى قضاء بينها فتحاجزت ... ومخفوضها راض به ورفيعها فقد ركزت سمر الرماح وأغمدت ... رقاق الظبا مجفوها وصنيعها أتتك وقد ثابت إليها حلومها ... وباعدها عما كرهت نزوعها فقرت قلوب كان جماً وجيبها ... ونامت عيون كان نزراً هجوعها تعيد وتبدي من ثناء كأنه ... سبائب روض الحزن جاد ربيعها تصد حياء أن تراك بأوجه ... أتى الذنب عاصيها مطيعها ولا عذر إلا أن حلم حليمها ... يسفه في شر جناه خليعها بقيت فكم أبقيت بالعفو محسناً ... على تغلب حتى استمر ظليعها ومشفقة تخشى حماماً على ابنها ... لأول هيجاء تلاقى جموعها ربطت بصلح القوم نافر جأشها ... فقر حشاها واطمأنت ضلوعها وقال البحتري في هذه الحرب بعينها، ويذكر ما كان من الفتح في صلح بينهم، وهي من المنصفات، وقد بينت عن فضل البحتري وعربيته وطريقته التي ليس لشاعر من المتأخرين، وهي تبر على كل ما قالوه في وصف حرب، وهي القصيدة التي أولها: ضمان على عينيك أني لا أسلو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 بني تغلب أعزز علي بأن أرى ... دياركم أمست وليس بها أهل خلت بلد من ساكنيها وأوحشت ... مرابع من سنجار يهمي بها الوبل وأزعج أهل المحلبيات ناجز ... من الحرب ما فيه خداع ولا هزل وأقوت من القمقام أعراض مارد ... فما ضمنت تلك الأعقة والرمل أفي كل يوم فرقة من جميعكم ... تبيد ودار من مجامعكم تخلو مصارع بغي تابع الظلم بينها ... بساعة عز كان آخره الذل إذا ما التقوا يوم الهياج تحاجزوا ... وللموت فيما بينهم قسمة عدل غدوا عصبتي ورد سجالها الردى ... ففي هذه سجل وفي هذه سجل إذا كان قرض من دم عند معشر ... فلا خلف في أن يؤدي ولا مطل كفي من الأحياء لاقى كفيه ... ومثل من الأقران زاحفه مثل إذا ما أخ جر الرماح انبرى له ... أخ لا بليد في الطعان ولا وغل تحضهم البيض الرقاق وضمر ... عتاق وأحساب بها يدرك التبل وما الموت إلا أن تشاهد ساعة ... فوارسهم في ما قط وهم رجل بطعن يكب الدارعين دراكه ... وضرب كما ترغو المخزمة البزل يهال الغلام الغر ثم يرده ... على الهول من مكروهها الأشيب الكهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 تجافى أمير المؤمنين عن التي ... علمتم وللجانين في مثلها الثكل وعاد عليكم منعماً بفواضل ... أتت وأمير المؤمنين لها أهل وكانت يد الفتح بن خاقان عندكم ... يد الغيث عند الأرض أجهدها المحل ولولاه طلت بالعقوق دماؤكم ... فلا قود يطعى الأذل ولا عقل تلافيت يا فتح الأراقم بعدما ... سقاهم بأوحى سمه الأرقم الصل وهبت لها بالسلم باقي نفوسهم ... وقد شارفوا أن يستتمهم القتل أتوك وفود الشكر يثنون بالذي ... تقدم من نعماك عندهم قبل فلم أر يوماً كان أكثر سؤدداً ... من اليوم ضمتهم إلى بابك السبل تاءوك من أقصى السماط فقصروا ... خطاهم وقد جازوا الستور وهم عجل ولما قضوا صدر السلام تهافتوا ... على يد بسام سجيته البذل إذا قلبوا أبصارهم من مهابة ... ومالوا بلحظ خلت أنهم قبل قوله: «وأقوت من القمقام أعراض مارد ..... » «فالقمقام»: العدد الكثير، و «الأعراض» جمع عرض، وعرض كل شيء ناحيته، ويجوز أن يكون أراد بالأعراض: جمع عرض، والعرض: الجبل، و «مارد»: يريد بلاد ماردين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 ولماردين جبال فيها حصون، و «الأعقة»: جمع عقيق، فجمعه بما أحواله [؟]، وكذلك «الرمل» ها هنا: موضع. وقوله: «فرقة من جميعكم .... » أي: من كلا الحزبين، و «دار من مجامعكم ... » أي: من محافلكم واجتماعكم. وقوله: «سجالهما الردى ... » فالسجال: المساجلة وهو من السجل، والسجل: الدلو وذلك أن يتبارى الساقيان بسجليهما في الاستقاء، فيستقي هذا سجلاً وهذا سجلاً، فجعله مثلاً ها هنا، أي: لكل واحد منهما قسط من الردى. وللبحتري قصيدة أخرى في حرب بني الأعمام، منصفة، هي مثل القصيدة التي مضت، أو تزيد عليها في الجودة والبراعة، يمدح فيها أبا المعمر الهيثم بن عبد الله التغلبي ويذكر حروب بني تغلب أيضاً، أولها: أمنك تأوب الطيف الطروب أما «لربيعة الفرس» انتهاء ... عن الزلزال فيها والحروب لكل قبيلة خيل تداعى ... إلى خيل معاودة الركوب كدأب بني المعمر حين زاروا ... بني عمرو بمصمية شعوب تبالوا صادق الأحساب حتى ... نفوا خور الضعيف عن الصليب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 صريح الخيل والأبطال أغنى ... عن الهجنات والخطأ المشوب وكانوا رقعوا أيام سلم ... على تلك القوادح والندوب إذا ما الجرح دم على فساد ... تبين فيه تفريط الطبيب رزية هالك جلبت رزايا ... وخطب بات يكشف عن خطوب يشق الجيب ثم يجيء أمر ... يصغر فيه تشقيق الجيوب وقبر عن أيامهن برقعيد ... إذا ما ناحرت أفق الجنوب يسح ترابه أبداً عليها ... عهاداً من مراق دم حبيب إذا سكبت سماء ثم أجلت ... ثنت بسماء مغدقة سكوب ولم أر للتراث بعدن عهداً ... كسل المشرفية من قريب تصوت فيهم حزق العوالي ... وغاب الخط مهزوز العلوب كنخل سميحة استعلى ركيب ... تكفيه الرياح على ركيب فمن يسمع وغى الأخوين يذعر ... لصك من قراعهما عجيب تخمط تغلب الغلباء ألقت ... على الثرثار برداً والرحوب زعيماً خطة ورداً حماماً ... ورودهما حيا الماء الشروب إذا آد البلاء تحملاه ... على دفي موقعة ركوب إذا قسم التقدم لم يرجح ... نصيب في الرجال على نصيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 على أن الكبير يزاد فضلاً ... كفضل الرمح زيد من الكعوب فهل لابني عدي من نصيح ... يرد شريد حملهما الغريب أخاف عليهما إمرار مرعى ... من الكلأ الذي علفاه موبي وأعلم أن حربهما خبال ... على الداعي إليها والمجيب كما أسرى القطا لبيات عمرو ... وسال لهلكه وادي قضيب وفي حرب العشيرة مؤيدات ... تضعضع تالد العز المهيب لعل أبا المعرم يتليها ... ببعد الهم والصدر الرحيب فكم من سؤدد قد بات يعطي ... عطية مكثر منه مطيب فهذه طريقة الشعراء الفحول من مذهب لا يحسنه إلا الفصحاء المطبوعون من الأعراب، ولا يتجه لمثله مسلم ولا أبو نواس فضلاً عن أبي تمام. قوله: «بمصمية ... » فمصمية: داهية، يقال: «رماه فأصماه» إذا قتله مكانه، و «رماه فأنماه»، إذا أصاب الصيد فتحامل وغاب عن عين الرامي، و «رماه فأشواه»، إذا أصاب الشوى وهو الأطراف غير المقاتل و «الشعوب»: التي تشعب أي تفرق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 وقوله: «تبالوا صادق الأحساب» تفاعلوا، من البلوى، وهي الاختبار حتى نفوا الضعاف وأبقوا الشداد. «إذا م الجرح دم» أي عولج حتى اندم، امتلأ والتحم. «إذا ما ناحرت أفق الجنوب»، أي: كانت في نحرها، أي: تلقاء هبوبها، «عهاداً» أي: شيئاً بعد شيء، مثل عهاد المطر. وقوله: «مهزوز العلوب»: يريد عوامل الرماح، وهي صدورها، والعلوب: من قولهم: رمح معلب، وهو الذي يشد موضع السنان منه بالعلباء، وهي عصبة العنق من البعير. و «سميحة»: موضع كثير النخيل، «استعلى ركيب» أي: نخيل مركوب، عليه حمله كالراكب، أو يريد بالركيب الذي قد غرس سطراً بإزاء سطر. وقوله: «أسرى القطا لبيات «عمرو»»: له خبر، وكذلك «وادي قضيب». وقال أيضاً: لا دمنة بلوى خبث ولا طلل بني زرارة نصح ماله ثمن ... يرجى لديكم وقول كله عذل وإنما هلكت من قبلكم أرم ... لأنهم نصحوا دهراً فما قبلوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 مستعصمين مع الأروى كأنكم ... لا تعلمون بأن العصم لا تئل أنذرتكم عارضاً تدمى مخايله ... القطرة الفذ منه عارض هطل هذا ابن يوسف في سرعان ذي لجب ... فيه الظبا والقنا والخيل والحيل غزاكم بقلوب مالها خلل ... من خلفها وسيوف مالها خلل ولاكم البغي ثم انساب نحوكم ... بالمشرفية وهي الثكل والهبل وانحاز مثل انحياز الطود يتبعه ... رأي يصغر فيه الحادث الجلل الله الله كفوا إن خصمكم ... أبو سعيد وضرب الأرؤس الجدل تغنموا الصلح إن الحرب توعدكم ... يوماً يعود به صفين والجمل الآن والعذر مبسوط لمعتذر ... والأمر مستقبل والعفو مقتبل ولا يغرنكم منه تبذله ... بالإذن حتى استوى الأرباب والخول فإن يكن ظاهراً فالشمس ظاهرة ... أو كان مبتذلاً فالركن مبتذل طال الرواء في رأس فحلكم ... لا يسهل الصعب حتى يقصر الطول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 لا بجذب الوطن المأمول عزمته ... ولا الغزال الذي في طرفه كحل مسافر ومطاياه محللة ... غروضها ومقيم وهو مرتحل يهش للغزو حتى شك عسكره ... فيه فقالوا أغزو ذاك أم قفل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي ت: 370 هـ دراسة وتحقيق الدكتور/ عبد الله حمد محارب الجزء الثالث - القسم الثاني الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة الطبعة الأولى 1410 هـ - 1990 م الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 ما قالاه في أوصاف الخيل قال أبو تمام: جرت له أسماء حبل الشموس وامدد عناني بوأي ضلعه ... تذرع والعذرة فيه تنوس أقاتل الهم بإيجافه ... فإن حرب الهم حرب ضروس إذا المذاكي خطبت نقعه ... فحظها منه اللفاء الخسيس موضح ليس بذي رجلة ... أشأم والأرجل منها بسوس فكل لون فليكن ما خلا الـ ... أشهب فالأشهب لون لبيس ومجفر لم يصطلم كشحه ... فالضمر المفرط فيها رسيس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 إن زار ميداناً شأى أهله ... أو نادياً قام إليه الجلوس ترى رزان القوم قد أسمحت ... أعينهم في حسنه وهي شوس كأنما لاح لهم بارق ... في المحل أو زفت إليهم عروس سام إذا استعرضته زانه ... أعلى رطيب وقرار يبيس فإن خدا يرتجل المشي فالـ ... ـمركب في إحسانه والخميس كأنما خامره أولق ... أو غازلت هامته الخندريس عوذه الحاسد بخلاً به ... ورفرفت خوفاً عليه النفوس ومثله ذو العنق السبط قد ... أمطيته والكفل المرمريس غادرته وهو على سؤدد ... وقف وفي سبل المعالي حبيس قوله: «فامدد عناني بوأي» أي: اجعل لي عناناً أمده، «بوأي» على وزن: وغاً، وهو الحديد الشديد، «ضلعه تذرع» أي: تتسع، والذراعة السعة، كأنه مأخوذ من الذرع، يريد أن ضلعه واسعة تامة تهمى فإنه، منتفخ الجنبين، ويروى «يعذر» أي: يوسع، و «العذرة»: الشعر الذي في قفا الفرس، ويستحب أن يكون له تمام وسباطة وتفرق، كما قال امرؤ القيس: لها عذر كقرون النسا ... ء ركبن في يوم ريح وصر وقوله: «تنوس» أي: تتحرك وتضطرب وإذا كانت قصيرة لم يكن لها تحرك، و «المذاكي» من الخيل التي قد جاوزت القروح بثلاث سنين، واحدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 مذك، وهو جمع على غير قياس، وجمعها الصحيح: مذكيات، وهي مسان الخيل، و «اللفاء الخسيس» ... [؟]. و «الموضح»: الذي به أوضاح، والأوضاح البياض في أطرافه، وقوله: «ليس بذي رجلة» أي ليس بأرجل، والأرجل: الذي تحجيله في رجل واحدة دون سائر قوائمه، وقال: «بسوس»، لأنه يتشاءم به، والبسوس المرأة التي رمى كليب وائل ضرع ناقتها، وكانت في جوار جساس، فقتله جساس فكانت حرب بكر وتغلب من أجلها، فضرب بها المثل في الشؤم، وليست للبسوس ها هنا حلاوة في الموضع ولا طلاوة. وكذلك قوله: «فالشهبة لون لبيش»، والأشهب من مراكب الملوك، يقال: شهب الخيل ملوكها. ولا وجه لقوله: «لون لبيس»، ولا علمت أحداً نعت الشهبة بها النعت، لأن اللبيس هو الذي قد استعمل فأخلق واتسخ، ومن أين جعله خلقاً او دنساً بل هو من أحد ألوان الخيل وأنصعها، لا سيما إن كان أسود العرف والذنب، فإن ذاك من مراكب الخلفاء والجبابرة، وإنما يقال في الأشهب أنه ليس من سراع الخيل، ولا مما يجري في الحلبة لقلة صبره ورقته، لأن البياض عندهم رقة وترفة، وكذلك الأبلق ما شبق قط في حلبة من أجل ما فيه من البياض، فهذا عيب الشهبة عند أهل البادية، فما وجه قوله: «لبيس». وقوله: «لم يصطلم كشحه» أي: لم يصطلمه الضمر حتى يذهب به، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 والكشح هو الخاصرة، ويستحب فيها أن تكون ضامرة، فيقول: إن الضمر المفرط فيها -يعني الخيل- رسيس، يريد علة وسقما، ويقال: به رسيس من مرض، المعنى صحيح واللفظ والنظم رديئان جداً. وقوله: «والكفل المرمريس»، يريد انملاسه، استواءه، والجساة في عنق الفرس، والكزازة من أعيب عيوبه، والسباطة ضد ذلك، فلهذا قال: «ذو العنق السبط»، والمرمريس من الألفاظ الوحشية الغريبة التي يدخلها في شعره مع ألفاظ لا تشبهها ولا تليق بها. وليس في هذه الأبيات من أوصاف الخيل معنى لطيف ولا مستحسن. وقوله: «أعلى رطيب وقرار يبيس»، فقد تقدم الناس فيه، وأوردوه نظماً ونثراً، فهو متبع. وقوله: «قام إليه الجلوس» و «زفت إليهم عروس» و «رفرفت عليه النفوس»، فإن قوماً يستحسنونه وليس من أوصاف الخيل في شيء ولا طائل فيه. وقوله: «أسمحت أعينهم في حسنه وهي شوس»، فالأشوس هو الذي بنظر بمؤخر عينه من الكبر، فيقول: ترى العيون التي لا تملأ طرفها من الشيء كبراً، وإنما تخرز في النظر، قد أسمحت في النظر إليه من حسنه. وقال في قصيدة يمدح فيها الحسن بن وهب: يا برق طالع منزلاً بالأبرق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 ما مقرب يختال في أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق بحوافرحفر وصلب صلب ... وأشاعر شعر وخلق أخلق وبشعلة نبذ كأن فليلها ... في صهوتيه بدو شيب المفرق ذو أولق تحت العجاج وإنما ... من صحة إفراط ذاك الأولق تغرى العيون به ويفلق شاعر ... في نعته عفواً وليس بمفلق بمصعد من حسنه ومصوب ... ومجمع من نعته ومفرق صلتان يبسط إن ردى أو عدا ... في الأرض باعاً منه ليس بضيق وتطرق الغلواء منه إذا عدا ... والكبرياء له بغير مطرق أهدى كناراً جده فيما مضى ... للسيل واستصفى أباة اليلبق مسود شطر مثل ما اسود الدجى ... مبيض شطر كابيضاض المهرق قد سالت الأوضاح سيل قرارة ... فيه فمفترق عليه وملتقى وكأن فارسه يصرف إذ بدا ... في متنه ابنا للصباح الأبلق صافي الأديم كأنما ألبسته ... من سندس برداً ومن إستبرق إمليسه إمليده لو علقت ... في صهوتيه العين لم تتعلق يرقى وما هو بالسليم ويغتدي ... دون السلاح سلاح أروع مملق في مطلب أو مهرب أو رغبة ... أو رهبة أو مركب أو فيلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 قوله: «من صلف» يريد الكبر والتيه، وهذا مذهب العامة في هذه اللفظة، فأما العرب فإنها لا تستعمله على هذا المعنى، وإنما تقول: صلفت المرأة عند بعلها، إذا لم تحظ عنده، وصلف الرجل كذلك إذا كانت زوجته تكرهه، قال جرير: إني أواصل من أردت وصاله ... بجبال لا صلف ولا لوام والصلف: لالذي لا خير عنده، ومثل يضرب: «رب صلف تحت الراعدة» يعني رعداً بلا مطر، فهذا معنى الصلف في كلامهم، وعلى هذا فقد ذم أبو تمام الفرس ولم يمدحه. و «التلهوق»: لا أعرفه إلا لطف المداراة والحيلة وإظهار الخضوع بالقول وغيره حتى تبلغ الحاجة، ويدل على ذلك قول الأغلب العجلي يصف مداراة رجل امرأة حتى نال منها ما أراد: فلم يزل بالحلف النجي ... لها وبالتلهوق الخفي أن قد خلونا بفضاء قي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 وقد ذكر أبو عبيد في كتاب «الغريب المصنف» في أول نوادر الأسماء، وما أرى أبا تمام في وضع هاتين اللفظتين في هذا الموضع إلا غالطاً. وأطن أن أبا تمام عثر بقول أبي نواس يصف فلاة قطعها على ناقة: كلفتها أجداً تخال بها ... مرحاً من الخيلاء أو صلفا وأبو نواس قال: «تخال بها» فجاء به على التشبيه، فجعله أبو تمام حقيقة فقال: «ملآن من صلف به وتلهوق» فالخيل قد توصف بالكبر، وكذلك الإبل، وإنما يراد به قوة نفوسها، وإما الصلف الذي معناه البغض ويوضع في موضع التيه فليس مما يوصف به. وقوله: «بحوافر حفر» في نهاية الهجانة والركاكة، يريد أنه حافر للأرض، والجمع حفر مثل صابر وصبر، وإنما قال الشاعر: ترى الأكم منها سجداً للحوافر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 يريد كثرة الخيل، وأنها تطحن الأكم إذا سارت عليها، وإنما ذهب إلى ما ذكرته العرب من أوصاف الخيل في عددها، وما تثيره من العجاج، ونحو قول متمم بن نويرة: لتبك خليلي مالكاً كل شطبة ... تثير غباراً كالدواخن أكدرا وقال طفيل: إذا استعجلت بالركض سد فروجها ... غبار تهاداه السنابك أصهب وهذا يحسن إذا ذكر جري الفرس، فاستعملوه على هذا الوجه وبنحو هذا اللفظ، وذلك من أوصافهم للشيء على ما هو، وإذا أرادوا المبالغة ذموا هذا الوجه، كما قال امرؤ القيس: مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن الغبار بالكديد المركل وقال البحتري على هذا الوجه وأحسن كل الإحسان: خفت مواقع وطئه فلو أنه ... يجري برملة عالج لم يرهج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 فهذه الطريقة أحسن، وتلك الطريقة أعم في أشعارهم وأكثر، وأما «حوافر حفر» ففي غاية القباحة، كذلك «صلب صلب» يريد صلابته. وقوله: «أشاعر شعر» معنى صحيح، لأن «الأشاعر»: ما حول الحافر من الشعر، ويستحب أن يكون وافياً، و «خلق أخلق» أيضاً كلام عدل، لأنه أراد إملاسه واستواءه، والخلاقة أيضاً حسن، وإنما طرحه في تخليط الصدر صحة هذا العجز؛ لأنه أراد أن يجعل ألفاظ هذا البيت كلها متجانسة، وما أفسد شعره وأحال أكثر معانيه وخبله غير عشقه للطباق والتجنيس. وقوله: «وبشعلة نبذ كأن فليلها» يريد ما تفرق منها في صهوتيه، والصهوة موضع اللبد، وهو مقعد الفارس، وذلك الموضع أبداً ينحت شعره ويبيض لغمز السرج إياه، وأنت تراه في الخيل كلها على اختلاف شياتها، وليس هو بالبياض المحمود، ولا هي شعلة، ولا البياض في ذلك الموضع أن لو كان خلقة حسناً ولا جميلاً، وهذا من أقبح الأوصاف وأهجنها، وأبعدها عن الصواب. والشعلة والشعل إنما هي بياض في الذنب والناصية وهو من عيوب الخيل، وهو في الناصية الشعل والسعف، ولا يكون الشعل في الصهوة، لا يقال: فرس أشعل إلا للذي في عرض ذنبه، أو ناحية من ناصيته بياض. وقد أخذ البحتري هذا منه، فأتى به على غاية ما يكون من الحلاوة والحسن فقال: وبشعلة كالشيب مر بمفرقي ... غزل لها عن شيبه بغرامه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 وأراد: «لهى» فقال: «لها» على لفظ طيء، فجعل الشعل في موضعه، لأنه أراد الناصية، إلا أنه أخرجه مخرج المدح، وهو عيب في الخيل، لأنه فرس حمله عليه محمد بن يوسف، فأراد أن يعلمه أن ذلك حسن غير معيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 وقوله: «مسود شطر ومبيض شطر»، فشطر الشيء، ناحيته وجانبه، قال الله تعالى: «فول وجهك شطر المسجد الحرام» أي ناحيته وقد يراد بالشطر نصف الشيء، فيقال: قد شاطرتك مالي، أي: قد ناصفتك، فهذا هو الأكثر الأعم فيما يستعملون، وذلك من أقبح شيات الأبلق على ظاهر المعنى، ولم يرده، وإنما أراد بالشطر ها هنا: البعض، أو الجزء، أي: مسود جزء ومبيض جزء، فجاء بالشطر، والجيد النادر في هذا قول البحتري: أو أبلق يلقى العيون إذا بدا ... من كل لون معجب بنموذج وقد كان جعله في أول الأبيات أشعل بقوله: «وشعلة نبذ»، ثم جعله ها هنا أبلق، فهذا الفرس هو الأشعل الأبلق، على مذهب أبي تمام في هذا التشبيه ولا ينكر مثل هذا من ابتداعاته. وقوله: «قد سالت الأوضاح»، و «الأوضاح»: بياض أطراف الفرس وقوله: «فمفترق عليه وملتقى» لا أعرفه وجهه إلا أن يكون أراد من بياض التحجيل ما لا يستدير على وظيفة وإنما يحيط ببعضه ومنه ما يحيط به كله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 فسمى ذاك «مفترقاً» وسمى هذا «ملتقيا»، وها وصف ما سمع بمثله، ولا أظن أحداً نطق به، لأنه في غاية القباحة، وما دعاه إلى مفترق وملتق إلا إعواز الكلام، وحاجته إلى تمام البيت. وقوله: قد سالت الأوضاح سيل قرارة، سيلاً استقر في موضعه، كما قال: «ولكل سائلة تسيل قرار» أي موضع تستقر فيه، فيريد: كأن البياض في أطرافه سيل سال واستقر في موضعه. وقوله: وكأن فارسه يصرف إذ بدا ... في متنه ابناً للصباح الأبلق فهذا الذي ينبغي أن تسمعه وتضحك منه. وقوله: « ... من سندس برداً ومن إستبرق» فالسندس على ما يقال: دقيق الديباج، والإستبرق: غليظه، ويقال: السندس هو الحرير الأخضر، وإنما أراد صفاء لونه، وأن نصوعه كنصوع الديباج، ولم يرد هذا اللون. وقوله: «إمليسه» يريد إملاسه واستواءه، وكذلك «إمليده»، والأملود من القضبان: الحسن الاستواء والإملاس. وقوله: «لو علقت في صهوتيه العين لم تتعلق» يريد أنها تلمع وترف من صفائها، فلا يتمكن الناظر من إثبات النظر إليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 وقوله: أهدى كناراً جده فيما مضى ... للسيل واستصفى أباة اليلبق فهو مما يتعلق بخبر وفيه معنى غامض قد ذكرته فيما أفردته من تفسير غامض معانيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 وليس في هذه الأبيات بيت جيد إلا قوله: «بمصعد من حسنه ومصوب» وقوله: «وتطرق الغلواء منه إذا عدا» وما بقي مما لم أذكره صالح المعنى، على ما فيه من التكلف. وقال يمدح مالك بن طوق: قالت وعي النساء كالحرس هل يرجعن غير جانب فرساً ... ذو سبب في ربيعة الفرس كأنني بي قد زرت ساحتها ... بمسمح في قياده سلس أحمر منها مثل السبيكة أو ... أحوى به كاللمى أو اللعس أو أدهم فيه كمته أمم ... كأنه قطعة من الغلس مبتل متن وصهوتين إلى ... حوافر صلب له ملس فهو على الروع والحلائب ذو ... أعلى مندى وأسفل يبس يكثر أن يستحم في الحر والـ ... ـقر حميماً في النجس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 مخلق وجهه على الشبق تخـ ... ـليق عروس الإبناء للعرس حر له سورة لدى السوط والز ... جر وعند العنان والمرس فهو يسر الرواض بالنزق السـ ... ـاكن منه واللين والشرس صهصلق في الصهيل تحسبه ... أشرج حلقومه على جرس تقتل عشراً من النعام به ... بواحد الشد واحد النفس قوله: «كأنني بي» من أقبح ألفاظ العوام وأسخفها، وقوله: «أحمر منها» يريد الخيل، ولا شيء أقبح من قوله: «منها»، وليست به إليها حاجة، وقوله: «أحوى»: فالحوة حمرة تضرب إلى السواد، وهي من الألوان التي تستحبها، وقوله: «كاللمى أو اللعس»، واللمى: هو سواد اللثة، ويدل على طيب الفم، وبه قيل للمرأة لمياء، و «اللعس» سواد يعلو شفة المرأة البيضاء وقد جعله العجاج في الجسد كله، إذا كان بياضاً ناصعاً تعلوه أدمة خفيفة، قال: وبشر مع البياض العسا فجعله أبو تمام في ألوان الخيل، وقد كان في «أحوى» كفاية، لأنه اللون المعروف من ألوان الخيل، وهذا كله إنما يأتي به لشدة محبته للإغراب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 وقوله: «أو أدهم فيه كمتة أمم» فالأمم: القصد، أي كمتته مقتصدة يسيرة، ولهذا يقال في تفسير الأمم مرة يقال: قصد، ومرة: قريب، وهذا من ألوان الخيل يقال له: أدهم، على ما ذكره أبو عبيدة، وهو أهون الدهم سواداً، وتراه تعلوه حمرة، ويقال للأنثى: جونة، وللجميع جون وإنما يقال: أدهم جون، ولا يقال: أدهم فيه كمتة، وقوله: «كأنه قطعة من الغلس» أي: هو أدهم تعلوه حمرة يسيرة، كما أن الغلس هو اختلاط الظلمة بضياء النهار، وذلك الوقت لا حمرة فيه، وإنما هو بياض الفجر يعترض الأفق، فإذا جاءت الحمرة فليس ذلك بغلس، بل ذلك حمرة الشمس وأول النهار، وقد تبعه البحتري في هذا المعنى فقال في وصف لون الفرس بالحمرة: صبغة الأفق بين آخر ليل ... منقض شأنه وأول فجر ولا حمرة بين آخر الليل، وأول الفجر، لأن أول الفجر الزرقة ثم البياض، وإذا جاءت الحمرة فذلك لطلوع الشمس، وهو أول النهار، وهذا الوصف منهما جميعاً عندي إلى الخطأ أقرب منه إلى الصواب. وقوله: يكثر أن يستحم في الحر والـ ... ـقر حميماً يزيد في النجس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 يريد أنه إذا جرى في أي أوقات الزمان من حر كان أو من برد أرسل العرق، وذلك مما يحمد في الخيل، ويكره منها الذي يبطيء عرقه أو يقل، وقوله: «يزيد في النجس» من إبداعاته القبيحة، أي: ليس استحمامه مما يؤدي إلى طهارة ونظافة، بل ذاك يزيد في النجس، يريد النجاسة، وليست هناك نجاسة، وإنما أراد: يزيد في الوسخ الذي يتعلق به من الغبار وغيره، فجعل مكان الوسخ النجس من أجل القافية فقبح كل القبيح، ومن أوصاف جياد الخيل ودلائل العتق فيها طيب رائحة العرق، وقال أبو النجم: كأن مسكاً علة معللة ... في ناصح الماء الذي يشلشله قوله: «مخلق وجهه على السبق» معنى عامي وبيت سخيف، وقال: «عروس الإبناء»، ولم يقل: «البناء»، لأن البناء مصدر الباني على أهله، فإذا صنع غيره له أمر البناء فقد أبناه، كما يبني الباني البيت، فإذا أعانه غيره، أو أمكنه من بنائه فقد أبناه، كما قال الشاعر: لو وصل الغيث أبنين أمرأً ... كانت له قبة سحق بجاد «أبنين أمرأً» يعني الخيل إذا أغارت ألحقت الغنى بالفقير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 وقوله: «حر له سورة» أي: حر الطينة، كريم الأصل، لا يصبر على الهوان، فله عند السوط والزجر سورة، لا كالكودن الذي إذا ضرب لم يحرك منه الضرب كبير تحريك، وقوله: «عند العنان» أي له سورة، أي: انبعاث وحركة عند السوط والزجر وعند تحريك النعان، وإنما أراد قول امريء القيس: فللزجر ألهوب وللساق درة ... وللسوط منه وقع أهوج منعب وبقي قوله: «والمرس» وهو مما يسأل عنه، وإنما جعل المرس -وهو المعقود- تبعاً للعنان إذا حركه، لأن الفرش يلجم ومقوده عليه، كذلك تفعل العرب والصعاليك. وقوله: «يسر الرواض بالنزق الساكن» الزاي من «النزق» مكسورة أي: سكن وإذا نوقوه نزق، وكذلك «اللين والشرس» ويروى «اللين الشرس» مثل «النزق الساكن». و «الصهصلق» الصافي من الأصوات الحاد، وقوله: «تقتل عشراً من النعام به» أي: إذا أرسلته إلى عشر نعامات أقصعها، وقوله: «بواحد الشد» أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 بالطلق الواحد، لا بتكرير العدو، وقوله: «واحد النفس» أي: بشد واحد، ونفس واحد، لا بتكرير الأنفاس الموجبة للبهر والتعب. وقال في قصيدة يمدح فيها الحسن بن وهب: هل أثر من ديارهم دعس نعم متاع الدنيا حباك به ... أروع لا جيدر ولا جبس أصفر منها كأنه محة الـ ... ـبيضة صاف كأنه عجس هاديه جذع من الأراك وما ... خلف الصلا منه صخرة جلس يكاد يجري الجادي من ماء عطـ ... ـفيه ويجني من متنه الورس هذب في جنسه ونال المدى ... بنفسه فهو وحده جنس أحرز آباؤه الفضيلة مذ ... تفرست في عروقها الفرس ليس بديعاً منه ولا عجباً ... أن تطرق الماء ورده خمس يترك ما مر مذ قبيل به ... كأن أدنى عهد به الأمس وهو إذا ما ناجاه فارسه ... يفهم عنه ما تفهم الإنس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 وهو ولما تهبط ثنيته ... لا الربع في نقعه ولا السدس وهو إذا ما رنا بمقلته ... كانت سخاماً كأنها نقس وهو إذا ما أعرت غرته ... عينيك لاحت كأنها برس ضمخ من لونه فجاء كأن ... قد كسفت في أديمه الشمس كل ثمين من الثناء به ... غير ثنائي فإنه بخس قوله: «أصفر منها» مثل قوله في القصيدة التي قبلها: «أحمر منها»، يريد من الخيل، وهي في هذا الموضع عي قبيح، ولكنه تزيد على كل لكنة، و «العجس» والمعجس من القوس مقبض الرامي. وقوله: «هاديه جذع من الأراك» غلط، لأن عيدان الأراك لا تسمى جذوعاً، ولا تعظم حتى تكون في امتلاء الجذوع، ولا استوائها ولا قريباً منها، و «الصلا» الظهر، و «الصخرة الجلس» يعني كفله، شبهه بالصخرة، لشدة لحمه وصلابته، أراد أن ينفي عنه الرخاوة، وقوله: «جلس» يريد متمكنة في موضعها. و «الجادي» الزعفران، و «الورس» هو العصفر وهو الحص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 وقوله: «ورده خمس» أي ليس عجيبا أن يصبح السير، ويطرق الماء، أي: يأتيه طروقاً، أي مساء، وورده خمس، أي: لا يوصل إليه في المسير إلا في اليوم الخامس، فيسير هو في يوم واحد، لأنه ليس في ذكر الطروق فائدة إلا إذا كان السير من أول نهار ذلك اليوم، وإلا فالكودن والحمير قد تطرق ذلك الماء بعد سير أيام ولذلك قال: يترك ما مر مذ قبيل به ... كأن أدنى عهد به الأمس وإنما أراد السرعة. وقوله: «لا الربع في نقعه ولا السدس» فالربع أراد جمع رباع، والسدس جمع سديس، وأراد الربع والسدس، فسكن عين الفعل، والرباعي من الخيل الذي قد سقطت رباعيته في السنة الرابعة، وفي السنة الخامسة هو قارح، وليس السديس من أوصاف الخيل، وإنما ذلك في الإبل، وهذا غلط منه إن كان أراد الخيل، وإن كان أراد الرباعي من الإبل، وهو الذي يلقى رباعيته في السنة السادسة، والسديس هو الذي يلقى السن التي بعد الرباعية في السنة التاسعة لا يلحقان نقعه -أي غباره- فذلك سائغ، أي أن الإبل لا تلحقه في الجري أو في السير. ووجدت في في أكثر النسخ العتق: وهو إذا ما أعرت عذرته ... عينيك لاحت كأنها بري و «العرس» من الفرس هي خصلة الشعر التي على قفاه، وليس بياض ذلك الشعر بمحمود، بل هو عندي عيب، كما أن بياض الناصية عيب ويسمى: السعف، وه من عيوب الخيل، وما أظنه قال إلا «غرته». الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 فهذا ما وجدت له من وصف الخيل في هذه القصائد الأربع، وليس له طبع في وصف الخيل يدل على ذلك قلة معرفته بها، وملابسته لها. وقد قال البحتري وأحسن كل الإحسان: مالت نواحي عرفه فكأنها ... عذبات أثل مال تحت حمامه واسود ثم صفت لعيني ناظر ... جنباته فأضاء في إظلامه ومقد الأذنين يحسب أنه ... بهما يرى الشخص الذي لأمامه يختال في استعراضه ويكب في اسـ ... ـتدباره ويشب في استقدامه وإذا التقى الثفر القصير وراءه ... فالطول حظ عنانه وحزامه وكأن فارسه وراء قذاله ... ردف فلست تراه من قدامه لانت معاطفه فخيل أنه ... للخيزران مناسب بعظامه في شعلة كالشيب مر بمفرقي ... غزل لها عن شيبه بغرامه ومردد بين القوافي يجتني ... ما شاء من ألف القريض ولامه وكأن صهلته إذا استعلى بها ... رعد تقعقع في ازدحام غمامه مثل الغراب بدا يباري صحبه ... بسواد نقبته وحسن قوامه أو كالعقاب نقض من عليائه ... في باقر الصمان أو أرامه لا شيء أجود منه غير فتى غدا ... من جوده الأوفى ومن إنعامه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 أرسلته ملء العيون مسلماً ... منها لشهوتها لطول دوامه وكأن كل عجيبة موصولة ... بتقسم اللحظات في أقسامه والطرف أجلب زائر لمؤونة ... ما لم تزره بسرجه ولجامه قوله: «ومقدم الأذنين» بكسر الدال، يريد أن ينصبهما، وإذا فعل ذلك فإلى قدامه ينصبهما، وإنما يفعل الفرس ذلك لأنه يصغي بها فيسمع الشيء على بعد، يقال: «أسمع من فرس»، وكلما أنس شيئاً أو خاف من شيء عرفت ذلك من نصبه أذنيه وتقديمه إياهما. وقوله: «يختال في استعراضه» أي: إذا استعرضته فرأيته من عرضه رأيت خيلاءه، وقوله: «ويكب في استدباره» أي: إذا رأيته مستدبراً رأيته كالمكب لارتفاع كفله، وقوله: «ويش في استقدامه» أي: إذا رأيته من مقدمه مقبلاً كأنه قد شب لإشراف رأسه وعنقه، وهذا أوضح وأحسن ما يكون من أوصاف الخيل، وذلك كما قال ابن قيصر -وكان أعلم الناس بالخيل-: خير الخيل ما إذا استقبلته أقعى، وإذا استدبرته جبي، وإذا استعرضته استوى. والمقعي: يرفع مقدمه ويخفض مؤخره، والمجبى: الذي يرفع مؤخره ويخفض مقدمه، وهذا وصف البحتري بعينه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 وقوله: «وإذا التقى الثفر القصير وراءه»، إنما جعله قصيراً ليدل على قصر ظهر الفرس، وذلك هو المحمود في الظهر، والطول مذموم فيه، وقوله: «فالطول حظ عنانه وحزامه»، لأن العنان إنما يطول لطول عنق الفرس، وكلام طالت عنق الفرس كان أعتق له وأكرم وأسرع إذا عدا، وإذا طال الحزام فإنما هو لانتفاخ جوفه، وذلك هو المحمود وضده الهضم، فوصفه في هذا البيت بطول العنق وانتفاخ الجنين وقصر الظهر فأحسن كل الإحسان، وأتى من الوصف بالصواب كله في أجود لفظ وأحسن نسج. وقوله: «وكان راكبه وراء قذاله ردف» أي: وكأن راكبه ردف وراء قذاله، أي تحسبه رديفاً لإشراف رأسه وعنقه، فلست تراه من قدامه. وقوله: «وبشعلة كالشيب ... » أحسن فيه كل الإحسان لأنه يصف فرساً أدهم، فأراد أن شعلته شعرات بيض يسيرة في دهمته، كما يبتديء الشيب بمفرقي الرجل الغزل فيلهى عنه، ولا يزيله بخضاب وغيره لاشتغاله بلهوه وغرامه، وهذا أحسن وأصح وأليق ما يكون من الأوصاف في مثل هذا المعنى لا قول أبي تمام: وبشعلة نبذ كأن فليلها ... ي صهوتيه بدو شيب المفرق وهو يصف فرساً أبلق. وقوله: «للخيزران مناسب لعظامه» تشبيه في غاية الصحة والاستقامة. وقوله: «مثل الغراب» يريد سواده واستواءه، يعني الغراب الأسود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 وقوله: «أو كالعقاب من عليائه» رديء، لأن العقاب أنثى، قال: امرؤ القيس: عقاب تدلت من شماريخ ثهلان وقد ذكرها وعلة الجرمي فقال: عقاب تدلي عند تيمن كاسر وأظنه أخرج كاسراً مخرج، جارية بالغ وطاهر، أي ذات بلوغ وطهر، وناقة ضامر ونازع إلى وطنها، كما يقال للجمل عاقر، وعانس للرجل والمرأة، وقوله: «في باقر الصمان أو أرامه» يريد بقر الصمان، و «الصمان» موضع و «الأرام» الظباء البيض الخالصة البياض، والأدم أيضاً البيض إلا أنها تعلوها كدرة فيها غبرة، واحدها رئم، أي انقضت على البقر أو أولاد البقر والظباء شبه الفرس إذا عدا بها في تلك الحال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 وقوله: لا شيء أجود منه غير فتى غدا ... من جوده ...................... أي: غير فتى الفرس من جوده، أي من بعض جوده وإنعامه. وقوله: «أرسلته» أي: أرسلته إلي، لأنه حمله عليه، «ملء العيون» لأنها لا تقلع عن النظر إليه، يقال: هو يملأ العين والقلب، أي يملأهما حسناً و «مسلماً منها» أي من العيون لا يصاب بها لشهوتها لنقائه وسلامته، وذلك أن أكثر الإصابة بالعين إنما يقع من الحاسد والمبغض بإدارة النظر إلى الشيء. وقوله: «وكأن كل عجيبة» من أوصافه، «موصولة بتقسم اللحظات» أي: يتفرقها في أقسامه، أي في أجزائه وأعضائه. وهذه القصيدة من إحسانه المشهور. وقال البحتري أيضاً في قصيدته التي على الجيم يمدح أبا نهشل بن حميد ويستهديه فرساً: فأعن على غزو العدو بمنطو ... أحشاؤه طي الكتاب المدرج إما بأشقر ساطع أغشى الوغى ... منه بمثل الكوكب المتأجج متسربل شية طلت أعطافه ... بدم فما تلقاه غير مضرج أو أدهم صافي السواد كأنه ... تحت الكمى مظهر بيرندج ضرم يهيج السوط من شؤبوبه ... هيج الجنائب من حريق العرفج خفت مواقع وطئه فلو أنه ... يجري برملة عالج لم يرهج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 أو أشهب يقق يضيء وراءه ... كفل كمتن اللجة المترجرج تخفى الحجول وما بلغن لبانه ... في أبيض متألق كالمدلج أوفى بعرف أسود متغربب ... فيما يليه وحافر فيروزجي أو أبلق يلقى العيون إذا بدا ... من كل لون معجب بنموذج جذلان تحسده الجياد إذا مشى ... عننا بأحسن حلة لم تنسج أرمى به شوك القنا وأورده ... كالسمع أثر فيه شوك العوسج وأقب نهد للصواهل شطره ... يوم الفخار وشطره للشحج خرق يتيه على أبيه ويدعى ... عصبية لبنى الضبيب وأعوج مثل المذرع جاء بين عمومة ... في غافق وخؤولة للخزرج لا ديزج يصف الرماد ولم أجد ... حالاً تخسس من وراء الديزج وعريض أعلى المتن لو عليته ... بالزئبق المنهال لم يترجرج خاضت قوائمه الوثيق بناؤها ... أمواج تحنيب بهن مدرج ولأنت أبعد في السماحة همة ... من أن تضن بمركب أو مسرج قوله: «فما تلقاه غير مضرج»، لأن الضرج الحمرة. وقوله: «مظهر بيرندج» هي لفظة فارسية، وأظنه جلداً أسود، وقوله: «كمتن اللجة ... » إذا ترجرج لحمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 وقوله: «تخفى الحجول ... » يريد أن بياض قوائمه ليس هو من أجل بياض شهبته، فهي خافية فيه لا تتبين، أي لو أن هناك تحجيلاً في أصل خلقته، ولو اتصل بياضه حتى يصل إلى لبانه، لخفي في شدة بياض شهبته، كأنه يؤكد نقاء بياضه، فقوله: «متألق كالدملج» لفظ ومعنى في غاية الحسن وصحة التشبيهن وكذلك قوله: «حافر فيروزجي»، لأنه إذا كان ذلك ذلك لونه دل على شدته. وقوله: «إذا مشى عننا» أي اعتراضاً، كما يعن الماشي، أي يعرض حتى تراه. وقوله: «أرمى به شوك القنا ... » إلى أخر البيت، من أحسن كلام وأفصحه وأبرعه وأشبهه بكلام الأوائل، وعلى أنها طريقته التي لا يكاد يزول عنها إلا غالطاً. «وأقب نهد» يريد بغلاً مشرفاً، «للصواهل» يريد الخيل، و «الشحج» الحمير. «خرق يتيه على أبيه» أي يترفع عنه، «ويدعي عصبية لبني «الضبيب» وأعوج»، «فالضبيب» فرس مشهور من خيل طيء، «وأعوج» فرس، وهما أعوجان، فالأعوج الأكبر من خيل «غنى» والأعوج الأصغر «لبني هلال». وقوله: «خرق» يريد أخرق، كما يقال أحمق وحمق أي: هو أخرق في سيره، والخرق الجهل، كأنه الذي يخبط بيده في سيره من النشاط، فيقال: ناقة خرقاء كذلك لنجاتها، قال الشاعر يصف ناقة: فهي صناع الرجل خرقاء اليد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 يصف ناقة تخبط السير خبطاً من نشاطها، والرجل لما كانت تابعة لليد جعلها صناعاً لاتباعها، وجعل اليد مخصوصة بالخرق لأنها المبتدئة. وقوله: «مثل المذرع» فالمذرع الكريم الأم الوضيع الأب، و «غافق» حي من أحياء اليمن، أظنهم من الأزد، وهو مأخوذ من الغفق، وهو الهجوم على الشيء، كأنه يخسس أمر غافق ويعظم أمر الخزرج. وقوله: «خاضت قوائمه الوثيق بناؤها ... » قد شرحته في جزء أخرجت فيه الغامض من معانيه، فاطلبه هناك. وهذا من مشهور إحسان البحتري في نعت الخيل. وقال في قصيدة يخاطب فيها محمد بن عبد الله بن طاهر: غرام ما أتيح من الغرام أراجعتي يداك بأعوجي ... كقدح النبع في الريش اللوام بأدهم كالظلام أغر يجلو ... بغرته دياجير الظلام تقدم في العنان فمد منه ... وضبر فاستزاد من الحزام ترى أحجاله يصعدن فيه ... صعود البرق في الغيم الجهام وما حسن بأن تهديه فذا ... سليب السرج منزوع اللجام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 فأتمم ما مننت به وأنعم ... فما المعروف إلا بالتمام وقال يخاطب أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد: إما ألم فبعد طول تجنب هل أنت مبلغي التي أغدو لها ... بمقلص السربال أحمر مذهب لو يوقد المصباح منه لسامحت ... بضيائه شية كوهي الكوكب إما أغر تشق غرته الدجى ... أو أرثم كالضاحك المستغرب متقارب الأقطار يملأ حسنه ... لحظات عين الناظر المتعجب وأجل سيبك أن تكون قناعتي ... منه بأشقر ساطع أو أشهب وإذا التقى شعري وجودك يسراً النـ ... ـيل الجزيل وثنيا بالمركب قوله: «مقلص السربال» يريد أن قوائمه معروقة عارية من اللحم، فكأنه قد جعل لحمه كسوة لا تصل إلى قوائمه، فكان بذلك مقلص السربال، وكان بعض الشيوخ يقول: إنما عنى فرساً خلوقياً مجيباً، فبياض التجبيب إلى ركبه، فذلك هو تقليص السربال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 وقوله: «كوهي الكوكب» قد مضى تفسيره عند تفسير قوله تعالى في وصف الخمر: من كميت تقولها وهي نجم ... ضوأ الليل أو مجاجة شمس وقوله: «إما أغر» والغرة من الفرس: فوق الدرهم، والقرحة: قدر الدرهم، والأرثم: إذا كانت بجحفلته العليا بياض، وذلك مما يستحسن، فإن كان البياض بالسفلي فهو ألمظ وقوله: «كالضاحك المستغرب» تشبيه لطيف حسن. وقوله: «متقارب الأقطار» لفظ ومعنى ما لحسنها نهاية. وقوله: «وأجل سيبك» كأنه استعفى من الأشهب، والأشقر، ولم يكره كل أشقر وأشهب، وإنما عنى دابتين كانتا عند أبي صالح بأعيانهما، أشقر وأشهب، واقترح عليه غيرهما. وقال يمدح محمد بن علي القمي، ويصف فرساً حمله عليه، ويستهديه سيفاً: وأغر في الزمن البهيم محجل ... قد رحت منه على أغر محجل كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل وافى الضلوع يشد عقد حزامه ... يوم اللقاء على معم مخول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 أخواله للرستمين بفارس ... وجدوده للتبعين بموكل يهوي كما تهوي العقاب وقد رأت ... صيداً وينتصب انتصاب الأجدل تتوهم الجوزاء في أرساغه ... والبدر فوق جبينه المتهلل متوجس برقيقتين كأنما ... يريان من ورق عليه موصل ذئب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوماً خلائق حمدويه الأحول جذلان ينفض عذرة في غرة ... يقق تسيل حجولها في جندل كالرائح النشوان أكثر مشيه ... عرضاً على السنن البعيد الأطول ذهب الأعالي حين تذهب مقلة ... فيه بناظرها حديد الأسفل صافي الأديم كأنما عنبيت له ... لصفاء نقبته مداوس صيقل وكأنما نفضت عليه صبغها ... صهباء للبردان أو قطربل لبي القنوء مزعفراً ومعصفراً ... يدمى فراح كأنه في خيعل وتخاله كسي الخدود نواعماً ... مهما تواصلها بلحظ تحجل وتراه يسطع في الغبار لهيبه ... لوناً وشداً كالحريق المشعل وتظن ريعان الشباب يروعه ... من جنة أو نشوة أو أفكل هزج الصهيل كأن في حيزومه ... نبرات معبد في الثقيل الأول ملك العيون فإن بدا أعطينه ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 قوله: «وينتصب انتصاب الأجدل» يريد الصقر وليس بأحسن تصرفاً من الغراب، ولكن لما شبهه في هويه بالعقاب، شبهه في انتصابه بالأجدل. وقوله: «متوجس» أي: مستمع، والفرس كثير التوجس بأذنيه وبعيد الاستماع، يقال: أسمع من فرس، وقوله: «برقيقتين»، لأنه يستحب في الأذن الانتصاب والرقة، وقوله: «كأنما تريان» أي كأنما تظنان من ورق موصل عليه لرقتها وكثرة حركتهما. وقوله: «ذنب كما سحب الرداء» قد ذكرته في أغاليطه، و «عرف كالقناع المسبل» معنى حسن صحيح. وقوله: «ما إن يعاف قذى ولو أوردته .... » معنى في غاية البراعة والصحة والجودة، لأنه يستحب من الفرس أن يأكل من كل ما وجد ويشرب من كل شيء، ولا يعاف الأقذار والأوساخ في مأكله ولا مشربه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 وقوله: «يتفض عذرة في غرة» فالعذرة: شعر قفاه، وهي ها هنا خصلة شعر ناصيته، وكل خصلة من الشعر عذرة. وقوله: «ذهب الأعالي»، لأنه يصف فرساً خلوقياً، و «حديد الأسفل»، وهذه قسمة في غاية الحسن والصحة. وقد كرر ذكر شية الفرس في ثلاثة أبيات أخر متوالية، وليس هذا من أفعاله، فقال: وكأنما نفضت عليه صبغها .... وقال: لبس القنوء مزعفراً ومعصفرا ... وقال: وتخاله كسي الخدود نواعماً ... والشعراء أهل الشره، يفعلون هذا، ومثله في بلاغته وبراعته كان يكفيه من هذه الأبيات بيت واحد. و «الخيعل» القميص الذي لا كمي له، وهو ليس من لباس النساء، والمرأة أبداً تصبغه بالزعفران والعصفر مع شيء من الطيب فتطرحها على جسدها تتطيب به، فإذا رتفع بياض التحجيل عن أوظفة الفرس حتى يكون مجبباً أو فوق التجبيب كانت شيته كالقميص الذي لا كم له. وقوله: «وتراه يسطع في الغبار لهيبه لوناً وشدا .... » معنى حسن جداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 وقوله: «وتظن ريعان الشباب ... » أي: قوة الشباب تفزعه، أي تحسب قوة ذاك من جنة أو نشوة أو أفكل، يريد بذلك كله قلقه وكثرة حركته، أي ليس له معها استقرار من نشاطه وعزة نفسه. ويعاب عليه: «نبرات معبد الثقيل الأول» فلم يصرف معبداً، والمتأخرون لا يعرون من اللحن، وقد قال أبو تمام: صلتان يبسط إن ردى أو إن غدا ... في الأرض باعاً منه ليس بضيق ولهما لحون في مواضع أخر. وهذه القطعة أيضاً من مشهور إحسانه، وعجيب أوصافه. ومما يتجاوز كل صحة وحسن وحلاوة قوله يمدح المتوكل على الله ويصف خيل الحلبة، وقد ألبس السودان الذين يجرونها ألوان الحرير: يا حسن مبدى الخيل في بكورها ... تلوح كالأنجم في ديجورها جاءت وقد أبدع من تشهيرها ... مصور من أحسن تصويرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 تحمل غرباناً على ظهورها ... في السرق المنقوش من حريرها إن حاذروا النبوة من نفورها ... أهووا بأيديهم إلى نحورها كأنها والحبل في صدورها ... أجادل تنقض في سيورها مرت تباري الريح في مرورها ... ترى الرجال شرفاً لسورها والشمس قد غاب ضياء نورها ... في الرهج الساطع من تنويرها حتى إذا أصغت إلى بدورها ... وهطلت تنصب في حدورها تصوب الطير إلى وكورها ... أعطي فضل السبق من جمهورها من فضل الأمة في أمورها ... في فضلها وبذلها وخيرها جعفر الذائد عن ثغورها ... تبهى به وهو على سريرها خليفة وفق في تدبيرها ومثل هذا الجنس من الألفاظ والمعاني لا يأتي بها إلا عربي اللفظ عربي المعرفة بما ينثر وينظم. وقال يخاطب عبد الرحمن بن خاقان: أضحت بمرو الشاهجان منادحي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 إني أقول ولا أقول معرضاً ... في ذكر مكرمة بعبثة مازح أي: إني أقول وما أعرض بذكر المكارم مازحاً لأنبهك، أي على نائل تنيله، بل أقول على سبيل الحقيقة: ماذا ترى في مدمج عبل الشوى ... من نسل أعوج كالشهاب اللائح لا تربه الجذع الذي يعتاقه ... وهن الكلال وليس كل القارح عنق كقائمة القليب تعطفت ... أوداً ورأس مثل قعب المائح يختال في شية يموج ضياؤها ... موج القتير على الكمي الرامح لو يكرع الظمآن فيها لم يمل ... طرفاً إلى الماء الزلال السائح أهديته لتروح أبيض واضحاً ... منه على جذلان أبيض واضح فتكون أول سنة مأثورة ... أن يقبل الممدوح رفد المادح إذا فني الماء من البئر وبقي ما لا تخرجه الدلو، نزل المائح وله قعب فيجمع فيه الماء ثم يصبه إلى الدلو حتى يملأها. وقوله: «موج القتير» والقتير مسامير الدروع، ويقال رؤوس المسامير، وإنما يريد الدرع نفسها، ولم يخص الرامح ها هنا بقوله لأن فيه علة في هذا الموضع ليس للسيف، ولو كانت القافية على الفاء حتى يقول: «الكمي السائف» لكان أيضاً صحيحاً مستقيماً، وإن كان لفظ «الرامح» أحسن وأكثر في الاستعمال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 وهذا أليق الأوصاف وأحسن المذاهب في نعوت الخيل. وقال البحتري في قصيدة أولها: شد ما أغريت «ظلوم» بهجري أي شيء ترى يكون وقد كثـ ... ـرت فيه قصر الكميت وقصري متعة العين من حلاوة مرعى ... ورضى النفس من وثاقة أسر حذفت من فضوله صحة العتـ ... ـق فأدته كالجديل الممر يتعالى به التدفق سيلاً ... كانكفات السري أسرع يجري أو تقدي الشجاع بادر ينضو ... مزقاً من قميصه المتفري فهو يعطيك من تضرم شد ... نهيه العين من تضرم جمر شية تخدع العيون ترى أن ... عليه منها سحالة تبر صبغة الأفق عند آخر ليل ... منقض شأنه وأول فجر علك ابن الحصان تزداد في غيـ ... ـظ أعادي بالحصان الطمر فالجواد الأغر مثلك لا يمـ ... ـنع مثلي من الجواد الأغر قوله: «قصر الكميت وقصري» من قولهم: قصارك أن تفعل كذا، وقصرك أن تفعل كذا، أي: غاية أمرك الذي يزول معها طولك فتصير بها قصيراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 كذا، فهو من القصر مأخوذ، كأنه أراد: أي شيء ترى يكون وقد كثرت في مسألتك الكميث انتهاء أمري وأمره حتى يقصر القول، ويقل ويسقط التكثير وترديد المسألة. وقوله: «من حلاوة مرعى» يريد ما ترعاه العين، إذا كررت النظر إليه ورددته فيه، جعل ذلك مرعى للعين. و «السري»: النهر ليس بالكبير العريض. «أو تقدي الشجاع» يريد الحية، وتقديه: انصلاته في الجري وسرعته، «ينضو»: ينزع، «مزقاً»: قطعاً متمزقة من جلده، وذلك أن الحية إذا أراد أن يسلخ، وهو أن يرمي بجلدته كما ينسل الطائر إذا رمى بريشه سعى سعياً شديداً حتى يسلخها. وقوله: «وهو يعطيك من تضرم شد» أي: يعطيك من تضرم عدوه، كما أعطى عينك لهباً من «تضرم جمر» يريد حمرة لونه التي كانت نهاية العين في الاحمرار، وهذا تمثيل حسن جداً. وقوله: «صبغة الأفق بين آخر ليل» قد تقدم القول فيه. وهذا منقول من يعلم أمر الخيل ويدري كيف يصفها وهذا باب البحتري فيه أشعر من أبي تمام وغيره من شعراء أهل زمانه، وإن كان العكوك قد أتى في قصيدته التي على الباء بكل معنى جيد، ولكن ليس فيها حلاوة ألفاظ البحتري ومعانيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 وقد أحسن غير العكوك في وصفها ولكن في البيتين والثلاثة من القصيدة نحو قول مسلم بن الوليد: وغيث من الوسمي جاد على الحمى ... فأبرز عن نور الأقاحي المكلل غدوت عليه في مسارب وحشه ... بذي ميعة والشمس لم تترجل نتجناه عن ريح وبرق فأسبلا ... شآبيبه كالعارض المتهلل وقال ابن النطاح: كميت كأن الريح حشو عظامه ... على أنه من جرية الماء أطلق يشبه بالسيف الصقيل صريمة ... وجوهره من جوهر السيف أعتق قوله: «كأن الريح حشو عظامه» حسن جداً، وفرس البحتري أسرع، لأنه قال: جاري الجياد فطار عن أوهامها ... سبقاً وكاد يطير من أوهامه وقال: مرت تباري الريح في مرورها ... تصوب الطير إلى وكورها فطيران الطير السريع أسرع من مر الريح. ولم يأت أبو تمام في السرعة بشيء يعتد به، ولا في غيرها من الوصف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 * ما قالاه في الفخر قال أبو تمام: ألا صنع البين الذي هو صانع وعاو عوى والمجد بيني وبينه ... له حاجز دوني وركن مدفع ترقت مناه طود عز لو ارتقت ... به الريح فتراً لا نثنت وهي ظالع أنا ابن الذين استرضع الجود فيهم ... وسمي منهم وهو كهل ويافع سما بي أوس في السماء وحاتم ... وزيد القنا والأثرمان ورافع وكأن إياس ما إياس وعارق ... وحارثة أوفى الورى والأصامع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 نجوم طوالع جبال فورارع ... غيوث هوامع سيول دوافع مضوا وكأن المكرمات لديهم ... لكثرة ما أوصوا بهن شرائع فأي يد في المجد مدت فلم تكن ... لها راحة من جودهم وأصابع هم استودعوا المعروف محفوظ مالنا ... فضاع وما ضاعت لدينا الودائع بهاليل لو عاينت فضل أكفهم ... لأيقنت أن الرزق في الأرض واسع إذا خفقت بالبذل أرواح جودهم ... حداها الندى واستنشقتها المطامع رياح كريح العنبر المحض في الندى ... ولكنها يوم اللقاء زعازع إذا طيء لم تطو منشور بأسها ... فأنف الذي يهدي لها السخط جاذع هي السم ما ينفك في كل بلدة ... تسيل به أرماحهم وهو ناقع أصارت لهم أرض العدو قطائعاً ... نفوس لحد المرهفات قواطع بكل فتى ما شاب من روع وقعة ... ولكنه قد شبن منه الوقائع إذا ما أغاروا فاحتووا مال معشر ... أغارت عليهم فاحتوته الصنائع فتعطي الذي تعطيهم الخيل والقنا ... أكف لإرث المكرمات موانع هم قوموا درء الشآم وأيقظوا ... بنجد عيون الحرب وهي هواجع إذا أسروا لم يأسر البغي عفوهم ... ولم يمس عان فيهم وهو كانع إذا أطلقوا عنه جوامع غله ... تيقن أن المن أيضاً جوامع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 إذا صارعوا عن مفخر قام دونهم ... وخلفهم بالجد جد مصارع علوا بجنوب موجدات كأنها ... جنوب فيول ما لهن مضاجع كشفت قناع الشعر عن حر وجهه ... وطيرته عن وكره وهو واقع بغر يراها من يراها بسمعه ... ويدنو إليها ذو الحجى وهو شاسع يود وداداً أن أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقاً إليها مسامع وهذا كله جيد بالغ، ومعان صحيحة، وأغراض حسنة مستقيمة، وليس فيها بيت رديء إلا قوله: «إذا خفقت بالبذل». وقوله: «سما بي أوس» يريد أوس بن حارثة بن لام، و «زيد القنا» يريد زيد الخيل، وقوله: «إياس» يعني إياس بن عامر الثعلبي، وثعلبة هو جرم بن عمرو بن الغوث بن طيء، أو يريد أوس بن قبيصة الطائي، و «عارق» هو قيس بن جروة بن سيف بن وائلة بن عمرو الطائي، وقيل له «عارق» لقوله في عمرو بن هند: لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم ... لأنتحين للعظم ذو أنت عارقه وقال أيضاً يفخر: تصدت وحبل البين مستحصد شزر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 أبى لي نجر الغوث أن أرأم التي ... أسب بها والنجر يشبهه النجر وهل خاب من جذماه في ضن طيء ... عدي العديين القلمس أو عمرو لنا غرر زيدية أددية ... إذا نجمت ذلت لها الأنجم الزهر لنا جوهر لو خالط الأرض أصبحت ... وبطنانها منه وظهرانها تبر جديلة والغوث اللذان إليهما ... صغت أذن للمجد ليس بها وقر مقاماتنا وقف على العلم والحجا ... فأمردنا كهل وأشيبنا حبر ألنا الأكف بالعطاء فجاوزت ... مدى اللين إلا أن أعراضنا صخر كأن عطايانا يناسبن من أتى ... ولا نسب يدنيه منا ولا صهر إذا زينة الدنيا من المال أعرضت ... فأزين منها عندنا الحمد والشكر وكور اليتامى في السنين فمن نبا ... بفرخ له وكر فنحن له وكر أبى قدرنا في الجود إلا نباهة ... فليس لمال عندنا أبداً قدر لينجح بجود من أراد فإنه ... عوان لهذا الناس وهو لنا بكر جرى حاتم في حلبة منه لو جرى ... بها القطر شأواً قيل أيهما القطر فتى ذخر الدنيا أناس ولم يزل ... لها باذلاً فانظر لمن بقي الذخر فمن شاء فليفخر بما شاء من ندى ... فليس لحي غيرنا ذلك الفخر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 جمعنا العلى بالجود بعد افتراقها ... إلينا كما الأيام يجمعها الشهر بنجدتنا ألقت بنجد بعاعها ... سحاب المنايا وهي مظلمة كدر بكل كمي نحره غرض القنا ... إذا اضطرب الأحشاء وانتفخ السحر فأعجب به يهدي إلى الموت نحره ... وأعجب منه كيف يبقى له نحر يشيعه أبناء موت على الوغى ... يشيعهم صبر يشيعه نصر كماة إذا ظل الكماة بمعرك ... وأرماحهم حمر وألوانهم صفر بخيل لزيد الخيل منها فوارس ... إذا نطقوا في مجلس خرس الدهر على كل طرف يحسر الطرف سابح ... وسابحة لكن سباحتها الحضر طوى بطنها الأساد حتى لو أنها ... بدت لك ما شككت في أنه ظهر ضبيبية ما إن تحدث نفسها ... بما خلفها ما دام قدامها وتر فإن ذمت الأعداء سوء صنيعها ... فليس يؤدي شكرها الذئب والنسر بها عرفت أقدارها بعد جهلها ... بأقدارها قيس بن عيلان والفزر وتغلب لاقت غالباً كل غالب ... وبكر فألفت حربنا بازلاً بكر وأنت خبير كيف أبقت سويفنا ... بني أسد إن كان ينفعك الخبر وقسمتنا الضيزى بنجد وأهلها ... لنا خطوة في عرضها ولهم فتر مساع يضل الشعر في طرق وصفها ... فما يهتدي إلا لأصغرها الشعر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 وهذه القصيدة فيها جيد نادر، وفيها رديء ساقط، وفيها ألفاظ وضعها في غير موضعها، فمن ذلك قوله: «لنا غرر زيدية أددية إذا نجمت» وليس هذا موضع «نجمت»، إنما هو موضع «ذكرت»، لأن الشيء يذكر وقتاً بعد وقت، وإذا نجم الشيء فليس ينجم وقتاً بعد وقت، يقال: قد نجم خارجي في موضع كذا وكذا، وقد نجم في بلد كذا مذهب رديء، أي ظهر، وقد نجم قرن الظبي، إذا طلع، ونجمت سن الصبي، فما معنى «لنا غرر إذا نجمت» وهي قد نجمت وفرغ الله من نجومها؟، و «ذكرت» كان أولى بهذا الموضع، وإنما يقال «نجمت» من أجل قوله «الأنجم» ليتجانس اللفظ، وإنما يحسن التجنيس إذا حسنت وصحت المعاني. وقوله: «لنا جوهر ... » بيت رديء سخيف، وزاد في سخفه قوله: «منه»، لأن «منه» إنما يوجب أن يكون من جوهرنا، وهو ليس يريد: لنا جوهر لو خالط الأرض أصبحت وبطانتها من جوهرنا، وإنما كان ينبغي أن يقول: لنا جوهر وظهرانها تبر، لأن هذا الجوهر غير ذلك الجوهر، وإنما قاسه به، فإذا قال: «وبطنانها منه» فقد رد الكناية إلى الجوهر الأول وسقط أن يكون في ذلك فائدة، وهو إنما أراد لفظ الجوهر ولم يراع المعنى فجاء به رديئاً. وقوله: «وكور اليتامى في السنين ... » بيت ركيك جداً بارد المعنى سخيف عامي. وقوله: «كماة إذا ظل الكماة بمعرك ... وأرماحهم حمر .... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 أي: هم كماة وأرماحهم حمر إذا ظل الكماة بمعرك وألوانهم صفر، أي: رماح هؤلاء حمر من الطعن وألوان الكماة صفر من الروع، والبيت رديء وليس بجيد التأليف. وقوله: «لكن سباحتها الحضر» تفسير سخيف أحمق، ومن شك في أن سباحتها الحضر، وهل يظن أحد أن سباحتها غير الحضر. وقوله: «ما شككت أنه ظهر» معنى أقبح من كل قبيح. وكذلك: «ما إن تحدث نفسها» من أرذل لفظ وأدونه، وفيها غير بيت سخيف، وأكثرها جيد نادر. و «الإساد»: سير الليل، و «التأويب»: سير النهار. و «الفزر» سعد بن زيد مناة بن تميم. وقوله: «وتغلب لاقت غالباً كل غالب» يريد غالب بن ... وقال البحتري يفخر: إنما الغي أن تكون رشيدا إن قومي قوم الشريف قديماً ... وحديثاً أبوة وجدودا فإذا ما عددت يحيى وعمرا ... وأباناً وعامراً ووليدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 وعبيدا ومسهرا وجديا ... وتدولاً وبحتراً وعتودا لم أدع من مناقب المجد ما يمـ ... ـنع من هم أن يكون مجيدا ذهبت طيء بسابقة المجـ ... ـد على العالمين بأساً وجودا معشر أمسكت حلومهم الأر ... ض وكادت من عزهم أن تميدا نزلوا كاهل الحجاز فأضحى ... لهم ساكنوه طراً عبيدا منزلاً قارعوا عليه العماليـ ... ـق وعاداً في عزها وثمودا وإذا قوت وائل وتميم ... كان إذ ذاك حنظلاً وهبيدا ظل ولداننا يغادون نخلاً ... مؤتياً أكله وطلحا نضيدا بلد ينبت المعالي فما يثـ ... ـغر الطفل فيه حتى يسودا وليوث من طيء وغيوث ... لهم المجد طارفاً وتليدا فإذا المحل جاء جاءوا سيولا ... وإذا النقع ثار ثاروا أسودا يحسن الذكر عنهم والأحاديـ ... * ـث إذا حدث الحديد الحديدا في مقام تخر في ضنكه البيـ ... ـض على البيض ركعاً وسجودا يفرجون الوغى إذا ما أثار الـ ... ـضرب من مصمت الحديد صعيدا بوجوه تعشي العيون ضياء ... أو سيوف تعشي الشموس وقودا عدلوا الهضب من تهامة أحلا ... ماً ثقالاً ورمل نجد عديدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 ملكوا الأرض قبل أن تملك الأر ... ض وقادوا في حافتيها الجنودا وجروا عند مولد الدهر في السؤ ... دد والمكرمات شأوا بعيدا بمساع منظومة ألبستهن ... الليالي قلائداً وعقودا عبد شمس شمس العريب أبونا ... ملك الناس واصطفاهم عبيدا وطيء السهل والحزونة بالأبـ ... ـطال شعثاً والخيل قباً وقودا وأبو الأنجم التي لا تني تجـ ... ـري على الناس أنحساً وسعودا نحن أبناء يعرب أعرب النا ... س لساناً وأنضر الناس عودا وكأن الإله قال لنا في الـ ... ـحرب كونوا حجارة أو حديدا قوله: «من هم أن يكون مجيدا» أي: لم أدع من مناقب المجد شيئاً يمنع من هم بالمجد أن يبلغ المجد لخلوه منه وفوته إياه، أي: إذا ذكرت هؤلاء وفيهم الخلال التي تجمع المجد كله، ولم أدع خلة للحسن ليس فيهم، مما يمنع الماجد أن يكون مجيداً بفقده إياها. و «الهبيد» ثمر الحنظل، و «الطلح» يقال هو الموز، وإياه عنى ها هنا. وقوله: «عند مولد الدهر» تعد وإسراف في المبالغة، ولكنه غير قبيح لحسن لفظه. وقد استعمل الإيطاء في هذه القصيدة فأتى بقوله: «عبيدا» في موضعين، وهذا يجري من المطبوعين من قلة التفقد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 وأقول في الموازنة بينهما: إن وازنت بين معانيهما خاصة فيما افتخرا به، كان أبو تمام أشعر، لأنه أبرع وأفصح وأسلم ألفاظاً وأحكم، وأبو تمام على كل حال في قصيدته العينية أشعر، لأن ألفاظها وسبكها غير مقصرين. ومما أجاد فيه البحتري وأحسن كل الإحسان قوله يمدح بني مخلد: بني مخلد كفوا تدفق جودكم ... ولا تبخسونا حظنا في المكارم ولا تنصروا مجدي قنان ومالك ... بأن تذهبوا منا بسمعة حاتم وكان لنا اسم الجود حتى جعلتم ... تغضون منا بالخلال الكرائم وشيبني ألا أزال مجرراً ... سرابيل سآل كثير المغارم وما خطري دون الغنى إن بلغته ... سؤالاً ولا عرضي نظير الدراهم ومن عربي شعره، وفاخر كلامه الدال على بدويته وحلاوة طبعه قوله في نحو هذا المعنى لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر: تزاجر هذا الناس عني تقية ... فما بال هذا الطاهري وبالي يساجلني حتى كأن ليس بحتر ... أبي وابن همام بن مرة خالي أخي وابن عمي سابقتني خصاله ... إلى شرف أو سابقته خصالي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 بنو الحارث الحراب يغشون نصره ... بكل جهير في السلاح طوال أولئك قوم أنت كفء سراتهم ... وشراؤهم في سؤدد ومعال ديارهم بالغوطتين وداركم ... بعسفان يغدو برها وغزال لهم ورق الزيتون غضاً وعندكم ... شريجان من أثل يرف وضال تراك مسامي الغداة ففائتي ... بجملة شعري وهو جملة حالي قوله: «يغدو برها وغزال» فغزال: هضبة مرتفعة ويقال: ثنية غزال بنواحي عسفان. يقول: إن كنت نظيري في النسب والشرف والمحل والبلد، فإنك لا تتقدمني في الشعر، الذي هو جملة ما أفتخر عليك به، فسلك أحسن مسلك بأبرع لفظ ومعنى. وقال: أحبب إلي بطيف سعدى الآتي ومن الأقارب من يسر بميتتي ... سفهاً وعز حياتهم بحياتي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 إن أبق أو أهلك فقد نلت التي ... ملأت صدور أصادقي وعداتي وغنيت ندمان الخلائق نابهاً ... ذكرى وناعمة بهم نشواتي وشفعت في الأمر الجليل إليهم ... بعد الجليل فأنجحوا طلباتي وصنعت في العرب الصنائع عندهم ... من رفد طلاب وفك عناة يجري ليدخل في غبار تسرعي ... من رفد طلاب وفك عناة ويذيمني من لو ضغمت قبيلة ... يوم الفخار لطار في لهواتي جدي الذي رفع الأذان بمنبج ... وأقام فيها قبلة الصلوات فالآن إذ ناصيت أعنان العلا ... ورقيت فيها أرفع الدرجات وأي أبو حيان قائد طيء ... للروم تحت لوائه المنصات وولي فتح الجسر إذ أغرى بهم ... عمرو وفاعل تلكم الفعلات وخؤولتي فالحوفزان وحاتم ... والخالدان الرافدان حماتي إذ لم يكن شرف المناكح يشترى ... بالمال في اللأواء والزبات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 * ما قالاه في التوجع من العلل والنكبات والتهاني على السلامة منها قال أبو تمام: أبا القاسم المحمود إن ذكر الحمد ... وقيت رزايا ما يروح وما يبدو وطابت بلاد أنت فيها فأصبحت ... ومربعها غور ومصطفاها نجد فإن تك قد نالتها أطراف وعكة ... فلا عجب أن يوعك الأسد الورد سلمت وإن كانت لك الدعوة اسمها ... وكان الذي يحظى بإنجاحها المجد فقد أصبحت من صفرة ووجوهها ... وراياتها سيان غماً بك الأزد بنا لا بك الشكوى فليس بضائر ... إذا صح نصل السيف ما لقي الغمد وهذه أبيات مضطربة الألفاظ والمعاني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 وأحسن من هذا وأبرع قول أبي الشمر الغساني وهو العلاء بن عاصم: فإن تك حمى الربع شفك وردها ... فعقباك منها أن يطول لك العمر وقيناك لو نعطى الهوى فيك والمنى ... فكانت لنا الشكوى وكان لك الأجر وأجود منها وألطف معنى قول محمد المعروف بالبيدق، شاعر رشيدي كان الرشيد يستحسن إنشاده، يقول في عمرو بن مسعدة: قالوا أبو الفضل معتا فقلت لهم ... نفسي فداء له من كل محذور يا ليت علته بي ثم إن له ... أجر العليل وأني غير مأجور وأول من قال هذا أظن الأخطل في يزيد بن معاوية: ونعود سيدنا وسيد غيرنا ... ليت التشكي كان بالعواد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 لو كان يقبل فدية لفديته ... بأناملي وبطارفي وتلادي وقال أبو تمام: لا عيش أو يتحامى جسمك الوصب ... فتنجلي بك عن أخوانك النوب لعاً أبا جعبر واسلم فقد سلمت ... بك المروءة واستعلى بك الحسب إنا جهلنا فخلناك اعتللت ولا ... والله ما عتل إلا الظرف والأدب وقال في خروج أبي دلف من علة: قد شرد الصبح هذا الليل عن أفقه ... وسوغ الدهر ما قد كان من شرقه سيقت إلى الخلق في النيروز عافية ... بها شفاههم جديد الدهر من خلقه يا رب مصطبح بالبث معتبق ... صحا ومشتجر ليلاً ومرتفقه لما اكتسى القاسم البرد الأنيق غدا ... على السرور فأعداه على حرقه الله جلاه من كرب ومن وصب ... كاد السماح يذوق الموت من فرقه لم يبق ذو كرم إلا وجامعة ... ثقيلة قد حناها الدهر في عنقه أجناك من ثمرات البرء أينعها ... رب كساك الأثيث النضر من ورقه حتى يقال لقد أضحى أبو دلف ... وخلقه قد طغا حسناً على خلقه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 وهذا كله رديء لفظاً ومعنى إلا قوله: «أجناك من ثمرات البرء أينعها ... ». وقال البحتري في إبراهيم بن المدبر: بأنفسنا لا بالطوارف والتلد ... نقيك الذي تخفي من الشكو أو تبدي بنا معشر الأخوان ما بك من أذى ... فإن أشفقوا مما أقول فبي وحدي ظللنا نعود المجد من وعكك الذي ... وجدت وقلنا اعتل عضو من المجد ولم ننصف الليث اقتسمنا نواله ... ولم نقتسم حماه إذ أقبلت تردي ولست ترى شوك القتادة خائفاً ... رياح السموم الأخذات من الرند ولا الذئب محموماً وإن طال عمره ... ألا إنما الحمى على الأسد الورد وحرت على الأيدي مجسة كفه ... كذلك موج البحر ملتهب الوقد بدت صفرة في لونه إن حمدهم ... من الدر ما اصفرت نواحيه في العقد قوله: «قلنا: اعتل عضو من المجد» إنما أخذ المعنى من قول أبي تمام في الأبيات المتقدمة: «وكان الذي يحظى بإنجاحها المجد». وقوله: «ألا إنما الحمى على الأسد الورد» من قول أبي تمام: «فلا عجب أن يوعك الأسد الورد» ولعمري أن هذا معنى مشترك يتداوله الناس، ولكن لما أخذ ذلك المعنى الأول ذكر به هذا وأورده معه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 وأبيات البحتري على كل حال أبرع وأجود. وقد عابه أبو العباس بن نعمان من حيث ظن أن الأبيات لأبي تمام بقوله: ............ إن حمدهم ... من الدرما اصفرت نواحيه في العقد وقال: ما حمد الناس ذلك قط، وما المحمود من الدر إلا الأبيض النقي البياض. ولم يرد البحتري الصفرة المعيبة، وإنما أراد الصفار الذي يخرج الدرة عن أن تكون ناشفة اللون، ولهذا قال الناس: لون دري، يراد صفاؤه وحسنه، وأنه ليس ببياض ناشف فإن ذلك مكروه في الألوان. وقال البحتري: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 إن ترج نيل عبيد الله لم تخب ... أو ترم في غرض من سيبه تصب ذاك أخ أفتديه أن يحس أذى ... بالنفس عما توقاه وبالنشب إن كان من فارس في بيت سؤددها ... وكنت من طيء في البيت والحسب فلم يضرنا تنائي المنصبين وقد ... رحنا نسيبين في خلق وفي أدب إذا تساجلت الأخلاق واقتربت ... دنت مسافة بين العجم والعرب اسلم ولا زلت في ستر من النوب ... وعش حميداً على الأيام والحقب وليهنك البرء مما كنت تألمه ... والأجر في عقب ذاك الشكو والوصب أوحشت مذ غبت قوماً كنت أنسهم ... إذا شهدتهم فاشهد ولا تغب وإن فصدت ابتغاء البرء من سقم ... فقد أرقت دماً يشفي من الكلب وهذه أبيات جياد حسان المعنى. وقال في أبي نوح عيسى بن إبراهيم: نغتد أنحسنا بعزك أسعدا ... ونسر فيك بما يساء به العدا فاسلم أبا نوح فإنك إنما ... تهوى السلامة كي تجود وتحمدا وهنتك عافية الأمير فإنه ... قد راح مجتمع العزيمة واغتدى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 في نعمة هي للمكارم والعلى ... وسلامة هي للسماحة والندى لما تشابهت الرجال حكيته ... مجداً أطل على النجوم وسؤددا ومرضتما وفقاً فكان دعاؤنا ... أن تبقيا وتكون أنفسنا الفدا لك عادة ألا تزال شريكه ... فيما عناه مساعفاً ومساعدا لو يستطيع وقاك عادية الضنى ... أو تستطيع وقيته صرف الردى والنفس واحدة وإن أصبحتما ... شخصين غارا في السماح وأنجدا روح تدبر منكما حركاتها ... بدنين ذا عبداً وهذا سيدا هذا المعنى هو ما قاله ابن وهيب: فكأنه روح تدبرنا ... حركاته وكأننا جسد وقال في أبي نوح -وكان الأسد غشيهم ليلاً، وأظنه جزع فمرض-: الله جارك مكلوءاً وممتنعا ... من الحوادث حتى ينفذ الأبد إذا اعتللت ذممنا العيش هو ند ... طلق الجوانب صاف ظله رغد لو أن أنفسنا اسطاعت وقيت بها ... حتى تكون بها الشكوى التي تجد ما أنصف الأسد العادي مخاتله ... والراح تسري وجنح الليل محتشد ولو يلاقيك صبحاً مصحراً لرأى ... صريمة ينثني عن مثلها الأسد لصده عنك عزم صارم ويد ... طويلة وحسام صارم يقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 وهذا مما لا يفي بحسنه وصحته وحلاوته شيء. وقال في الفتح بن خاقان يهنئه بسلامته من الغرق: بعدوك الحدث الجليل الواقع ... ولمن يكايدك الحمام الفاجع قلنا لعاً لما عثرت ولا تزل ... نوب الليالي وهي عنك رواجع ولربما عثر الجواد وشأوه ... متقدم ونبا الحسام القاطع لن يظفر الأعداء منك بزلة ... والله دونك حاجز ومدافع أحدى الحوداث شارفتك فردها ... دفع الإله وصنعه المتتابع دلت على رأي الإمام وأنه ... قلق الضمير لما أصابك جازع هل غاية الوجد المبرح غير أن ... يعلو نشيج أو تفيض مدامع وفضيلة لك أن منيت بمثلها ... فنجوت متئداً وقلبك جامع ما حال لون عند ذاك ولا هفا ... عزم ولا راع الجوانح رائع حتى برزت لنا وجأشك ساكن ... من نجدة وضياء وجهك ساطع خبر يسوء الحاسدين إذا بدا ... وأعاد فيه محدث أو سامع وحسبك بهذا جودة وحسناً. وقال يهنيء المتوكل بسلامة الفتح من الغرق: هنتك أمير المؤمنين عطية ... من الله يزكو نيلها ويطيب يد الله في فتح لديك جميلة ... وإنعامه فيه عليك عجيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 وليك دون الأولياء محبة ... ومولاك والمولى الصريح نسيب وعبدك أحظته لديك نصيحة ... وأرضاك منه مشهد ومغيب رمته صروف النائبات فأخطأت ... كذا الدهر يخطي مرة ويصيب ولم أنسه يطفو ويرسب تارة ... ويظهر للرائين قم يغيب دعا باسمك المنصور والموج غامر ... لدعوته والموت منه قريب ولم أنسه يطفو ويرسب تارة ... ويظهر للرائين ثم بغيب دعا باسمك المنصور والموج غامر ... لدعوته والموج منه قريب وأقسم لو يدعوك والخيل حوله ... لفرجها عنه أغر نجيب فلولا دفاع الله دامت على البكا ... عيون ولجت في الغرام قلوب فجاء على يأس وقد كادت القوى ... وبشرى أتت بعد النعي تؤوب ثنت من تباريح الغليل ونهنهت ... مدامع ما ترقا لهن غروب بقيت أمير المؤمنين فإنما ... بقاؤك حسن للزمان وطيب ولا كان للمكروه نحوك مذهب ... ولا لصروف الدهر فيك نصيب وقال في مثله من قصيدة: لقد كان يوم النهر يوم عظيمة ... ألمت ونعماء جرى بهما النهر أجزت عليه عابراً فتشاغبت ... أواذيه لما طغا فوقها البحر وزالت أواخي الجسر وانهدمت به ... قواعده العظمى وما ظلم الجسر تحمل حلماً مثل قدس وهمة ... كرضوى وقدراً ليس يعدله قدر فلولا دفاع الله عنك ومنه ... عليك وفضل من مواهبه غمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 لأظلمت الدنيا ولانقض حسنها ... ولانحت من أفنانها الورق الخضر ولما رأيت الخطب ضنكاً سبيله ... وقد عظم المكروه واستفظع الأمر صرمت فلم تقعد بعزمك حيرة الـ ... ـمروع ولم يسدد مذاهبك الذعر وما كان ذاك الهول إلا غيابة ... بدا طالعاً من تحت ظلمتها البدر فإن ننس نعمى الله فيك فحظنا ... أضعنا وإن نشكر فقد وجب الشكر وقال أبو تمام في علة نالت أحمد بن أبي دؤاد: لا نالك العثر من دهر ولا الزلل ... ولا يكن للعلا في فقدك الثكل لا تعلل إنما بالمكرمات إذا ... أنت اعتللت ترى الأوجاع والعلل تضاءل الجود مذ مدت إليك يد ... من بعض أيدي الردى واستأسد البخل لم يبق في صدر راجي حاجة أمل ... إلا وقد ذاب سقماً ذلك الأمل بينا كذلك والدنيا على خطر ... والعرف فيك إلى الرحمن يبتهل وأعين الناس تعطي فوق ما سئلت ... عليك والصبر يعطي دون ما يسل حبا بك الله من لولاك لانبعثت ... فيه الليالي ومنها الوخد والرمل سقم أتيح له برء فذعذعه ... والرمح يناد حيناً ثم يعتدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 وحال لون فرد الله نضرته ... والنجم يخمد شيئاً ثم يشتعل وكسب أجر ولم تعمل له وبلى ... وعك المقيم على توحيده عمل الأربعة الأبيات الأول جياد، والباقية رديئة مضطربة الألفاظ والمعاني، والنجم لا يوصف بالخمود، وما رأينا نجماً قط خمد، وإنما تستره هبوة أو غمامة، فيقال: غاب واستتر ولا يقال خمد. وقال في مرض إلياس بن أسد -يكتب في أول الباب-: إلياس كن في أمان الله والذمم ... ذا مهجة عن ملمات الأذى حرم سلامة لك لا تهتاج نضرتها ... ودعدعاً ولعاً في النعل والقدم الله أنقذ منها علة عرضاً ... لم تنح أظفارها إلا على الكرم تكشفت هبوات الثغر مذ كشفت ... آلاء ربك ما استشعرت من سقم فإن يكن وصب عانيت سورته ... فالورد حلف لليث الغابة الأضم إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالرتم بنات نعش ونعش لا كسوف لها ... والشمس والبدر منه الدهر في الرقم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 والحادثات عدو الأكرمين فما ... تعتام إلا امرأً يشفى من القرم فليهنك الأجر والنعمى التي سبغت ... حتى جلت صدأ الصمصامة الخذم قد ينعم الله بالبلوى وقد عظمت ... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم وهذه أبيات جياد، وهذا البيت الأخير في غاية الحسن والحلاوة، وإنما حذا على قول أبي العتاهية في قوله: كم نعمة لا يستقل بشكرها ... لله في طي المكاره كامنه إلا أنه أحسن كل الإحسان في أن جاء بالزيادة التي هي عكس المعنى الأول، فصار البيت مقسوماً قسمين نادرين. قوله: «دعدعا، ولعا» لفظ يقال العاثر إذا عثر: قم قم وانتعش، ولو قال هذا رؤبة بن العجاج لاستثقل منه فكيف أبو تمام. وقال: أعقبك الله صحة البدن ... ما هتف الهاتفات في غصن كيف وجدت الدواء أوجدك اللـ ... ـه شفاء به مدى الزمن لا نزع الله منك صالحة ... أبليتها م بلائك الحسن وهذا لعمري جيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 وقال البحتري في محمد بن علي القمي لما خرج من الحبس: لشهر ربيع نعمة ما يفي بها ... ثناء ولو قمنا بأضعافها نثني غداة غدا من سجنه البحر مطلقاً ... وما خلت أن البحر يحظر في سجن وليست له إلا السماح جناية ... إذا أخذ الجاني ببعض الذي يجني تقلقل منه في الحديد عزيمة ... يكل الحديد عن جوانبها الخشن فما فل ريب الدهر من ذلك الشبا ... ولا زعزع المكروه من ذلك الركن ولما بدا صبح اليقين وكشفت ... به الظلمة الطخياء من شبه الظن تجلى لنا من سجنه وهو خارج ... خروج شعاع الشمس من جانب الدجن يفيض كما فاض الغمام تتابعت ... شآبيبه بالهطل منا وبالهتن محمد عش للمكرمات التي اصطفت ... يداك وللمجد الرفيع الذي تبني فكم من يد بيضاء منك بلا يد ... ومن منة زهراء منك بلا من «بلا يد» أي: بلا يد كانت إليك. وقال في أبي أيوب: لتهنك النعمة المخضر جانبها ... من بعد ما اصفر في أرجائها العشب قد كان أعطي منها حاسد حنق ... سؤلاً ونيب فيها كاشح كلب فمن دموع عيون قلما دمعت ... ومن وجيب قلوب قلما تجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 عافوك خصك مكروه فعمهم ... ثم انجلى فتجلت أوجه شحب بحسن رأي أمير المؤمنين وما ... لصاعد وهو موصول به سبب ما كان إلا مكافاة وتكرمة ... ذاك الرضى وامتحاناً ذلك الغضب وربما كان مكروه الأمور إلى ... محبوبها سبباً ما مثله سبب هذي مخايل برق خلفه مطر ... جود ووري زناد خلفه لهب وأزرق الفجر يأتي قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب وقال في حبس أبي سعيد محمد بن يوسف: جعلنا فداك الدهر ليس بمنفك ... من الحادث المشكو والنازل المشكي وما هذه الأسباب إلا منازل ... فمن منزل رحب ومن منزل ضنك وقد هذبتك النائبات وإنما ... صفا الذهب الإبريز قبلك بالسبك وما أنت بالمهزوز جأشاً على الأذى ... ولا المتفري الجلدتين على الدعك على أنه قد ضيم في حبسك الهدى ... وأضحى بها الإسلام في قبضة الشرك أما في نبي الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والإفك أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك وهذا من إحسانه المشهور. وكان سبب حبسه أنه كوتب بأن يدعو على منابر الثغور التي يليها لسعيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 ابن الحاجب، حاجب المتوكل، وكان المتوكل أراد أن ينوه باسمه، ويرفع من قدره، فامتنع أبو سعيد، وروجع فامتنع، فأنفذ إليه نقيب، وتقدم إليه بأن يخاطبه بإقامة الدعوة لسعيد، فإن فعل وإلا حمله مقيداً، فلم يفعل، وقدم رجله فقيده النقيب وحمله، فلما قرب من سر من رأى سلمه سعيد بن الحاجب إلى كاتب له نصراني، فحفر له جباً وحبسه فيه فبقي على تلك الحال برهة. ثم إن المتوكل أخبر أن جارية له رومية جاءها رسول من أهلها ببلد الروم، فأحضرها وسألها وداعبها، وقال: كيف بلادك؟ قالت: أعمر بلاد مذ قتل محمد بن يوسف الثغري، فبكى المتوكل بكاءً عظيماً، وجزع جزعاً شديداً، وأمر بإحضار سعيد، فلما بصر به، قال: يا ابن الفاعلة، نفيت من قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لئن كان سقط من رأس محمد بن يوسف شعرة لأضربن عنقك وعنق كل من يقال له سعيد، أين محمد بن يوسف؟ ويلك!، قال: عندي يا أمير المؤمنين حي يرزق ما شيك بشوكة، قال: جئني به الساعة على حال رضي لا على حال سخط، وأذن للقواد وأهل الدولة، وقال لهم: لا جزاكم الله عني وعن الإسلام خيراً، أما كان فيكم من يذكرني بأمر محمد بن يوسف؟، أما تعلمون له علماً؟، فقال له بغا: كيف لا نعلم؟!، وهو في يدي أبي الخير النصراني، كاتب سعيد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 الحاجب، يلعب به كما يلعب السنور بالفأرة، وأنت أمرت أن لا تذكر به لاشتداد غضبك عليه، فلم يقدم أحد على إذكارك، فقال: لا يبقى منكم أحد إلا يلقاه. فتوجه الناس كلهم نحوه، وأخرج من الجب فلم يبصر شيئاً لما عاين الضوء، وجعل الأمراء يسلمون عليه فلا يعرفهم حتى يعرفوه أنفسهم، فأدخل الحمام وصب على رأسه الماء الفاتر وعولج ساعة حتى ألف الضوء. وتوجه الناس وهو معهم إلى دار الخلافة، فوقف على دابته بباب العامة، فقيل له: ادخل، فقال: قد كانت لي مرتبة أنزل عندها، ثم سخط علي، فلست أدري أي مرتبة أرتب، فوصل الناس إلى المتوكل، وهو يتشوفه، فقيل: إنه لا يدري أي مرتبة يرتب، ولا أين ينزل عن دابته، فقال: على بساطي هذا، فدخل مرتباً في أجل المراتب وله مع المتوكل في هذا المعنى خطاب، ثم ولاه الثغور، وزاده إلى ما كان في يده أمصاراً كثيرة. وقال البحتري فيه وهو في حبس أبي الخير النصراني كاتب سعيد: يا ضيعة الدنيا وضيعة أهلها ... والمسلمين وضيعة الإسلام طلبت دخول الشرك في دار الهدى ... بين المداد وألسن الأقلام هذا ابن يوسف في يدي أعدائه ... يجزى على الأيام بالأيام نامت بنو العباس عنه ولم تكن ... عنه أمية لو رعت بنيام ويقال: إن هذه الأبيات بلغت المتوكل فرضي عنه، والسبب هو الأول. ومما لا يفي بحسنه وصحته وجودته وحلاوته شيء قوله في علة اعتلها الفتح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 في القصيدة التي أولها: أكنت معنفي يوم الرحيل ولما اعتل أصبحت المعالي ... محبسة على خطر مهول فكائن فض من دمع غزير ... وأضرم من جوى كمد دخيل ألم تر للنوائب كيف تسمو ... إلى أهل النوافل والفضول وكيف تروم ذا الشرف المعلى ... وتخطو صاحب القدر الضئيل وما تنفك أحداث الليالي ... تميل على النباهة للخمول فلو أن الحوادث ساعدتني ... وأعطتني صروف الدهر سولي كفاك الله ما تخشى وغطى ... عليك بظل نعمته الظليل فلم أر مثل علتك استفاضت ... بإعلان الصبابة والعويل وكم بدأت وثنت من مبيت ... على رمض وجافت من مقيل وقد كان الصحيح أشد شكوى ... غداتئذ من الدنف العليل محاذرة على الفضل المرجى ... وإشفاقاً على المجد الأثيل وعلماً أنهم يردون بحراً ... بجودك غير موجود البديل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 ولو أن الذي رهبوا وخافوا ... إذا ذهب النوال من المنيل إذاً لغدى السماح بلا حليف ... له وجرى الغمام بلا رسيل تعافى في الكثير وأنت باق ... لنا أبداً وتوعظ بالقليل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 * ما قالاه في المراثي قد جرت العادة في كل باب أن تعتبر فيه الابتداءات، فيجب أن أقدم ابتداءات هذا الباب. قال أبو تمام: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... وليس لعين لم يفض ماؤها عذر قد عابه قوم من متقدمي الشيوخ بهذا، وقالوا: قوله «كذا» إشارة إلى مجهول غير معروف، وقالوا: كان ينبغي أن يقول كما قال البحتري: انظر إلى العلياء كيف تضام ... ومآتم الأحساب كيف تقام فأوضح المعنى بقوله: «ومآتم الأحساب كيف تقام»، وليس هذا العجز بمبين عن معنى صدره كما ذكروا، وإنما هو قسم منسوق على قسم آخر، له معنى غير معناه، فقوله: «انظر إلى العلياء كيف تضام» مثل قول أبي تمام: «كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر». الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 وإنما نظر كل واحد منهما إلى الجيوب تشقق والستور تهتك، والأعلام تمزق، والرماح تكسر، فإن مثل هذا يفعل عند هلاك السادة من الأمراء وغيرهم، والخيل أنما تعقر عند قبورهم وأشباه هذا، فلما عاين هذان الشاعران من الأمر ما عيناه هذا: «كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر»، وقال ذاك: «انظر إلى العلياء كيف تضام»، ونظر البحتري إلى كثرة النساء، وعظم أقدارهن، وانهتاكهن، وما يفعلن بأنفسهن، فأتم البيت بأن قال: «ومآتم الأحساب كيف تقام»، لأن المآتم هي اجتماع النساء في الفجائع، ومساعدة بعضهن، فما على أحدهما فيما قاله مطعن. وقال أبو تمام: أصم بك الناعي وإن كان أسمعا ... وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا وهذا معنى حسن جداً، وليس يريد بالصمم انسداد السمع، وإنما يريد أن الناعي أذهل عن كل شيء وحير، حتى صار الإنسان يخبر بالشيء فلا يفهم ما يقال لعظم ما ورد، فجعل ذلك صمماً، وإنما أخذ هذا من قول محياة بنت طليق أحدى بني تيم الله بن ثعلبة: نعى ابني محل صوت ناع أصمني ... فلا آب محبوراً بريد نعاهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 وقبلها ما قال النابغة: وخبرت خير الناس أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع وقد قاله غير النابغة: وقال أبو تمام: أي القلوب عليكم ليس ينصدع ... وأي نوم عليكم ليس يمتنع وهذا ابتداء حسن حلو. وقال: ما زالت الأيام تخبر سائلاً ... أن سوف تفجع مسهلاً أو عاقلا أراد تفجع مسهلاً أو عاقلا، فأقحم الألف، وهي تدخل مع الواو أبداً، وهو ابتداء حسن. وقال: أي ندى بين الثرى والجبوب ... وسؤدد لدن ورأي صليب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 عجز هذا البيت رديء لقوله: «وسؤدد لدن» فإنها لفظة قبيحة في هذا الموضع، وإنما أراد الطباق، واللدن أيضاً يكون صليباً، لأن الرمح يوصف باللدونة، واللدونة فيه تثنية، وتلك صلابته وتثنيته، وإن لم يكن متثنياً أسرع الكسر إليه، وقد قال أبو تمام: ................. وإنما ... يشتد بأس الرمح حين يلين والصلابة في الرأي والسؤدد بمنزلة واحدة، اللهم إلا أن يكون ذهب إلى أن رأيه صليب لا ينثني عن جهته وسداده، وأن سؤدده ينعطف وينثني وأراد به نفسه، وهذا كله رديء، ولفظ موضوع في غير موضعه، وما سمعنا في نثر ولا نظم بسؤدد لدن، وإنما يقال: سؤدد أول وقديم ومكين وعال ونبيه ورفيع، ويقال: رأي وثيق، ورأي محصد، ورأي سديد ومصيب. وقال: ما للدموع تروم كل مرام ... والجفن ثاكل هجعة ومنام وهذا ابتداء جيد بالغ. وقال: جوى ساور الأحشاء والقلب واغله ... ودمع يضيم العين والجفن هامله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 وقال: بأبي وغير أبي وذاك قليل ... ثاو عليه ثرى النباح مهيل وهذان ابتداءان صالحان. وقال: لنمنا وصرف الدهر ليس بنائم ... خزمنا له قسراً بغير خزائم وهذا ابتداء رديء كز اللفظ والمعنى. وقال: دموع أجابت داعي الحزن همع ... توصل منا عن قلوب تقطع وقال: اليوم أدرج زيد الخيل في كفن ... وانحل معقود دمع الأعين الهتن وهذان ابتداءان صالحان. وقال: ريب دهر أصم دون العتاب ... مرصد بالأوجال والأوصاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 وهذا ابتداء ليس بجيد ولا رديء. وقال: نعاء إلى كل حي نعاء ... فتى العرب احتل ربع الفناء كأنه يقول لنفسه: انع إلى كل حي انع، وهي لفظة عربية مستعملة ولكنها غير حلوة إذا ابتديء بها، وقد ابتدأ بها الكميت فقال: نعاء جذاماً غير موت ولا قتل أي: انع جذاماً، وكثيراً ما يقتدي به أبو تمام. وقال: بكى شجوه قلب بكته فواجعه ... وإنسان عين ليس ترقا مدامعه يريد الأحداث التي فجعته رحمة له، أو لعله قال: فجائعه وذلك أبعد في الاستعارة وأقبح، وهذا رديء. وقال: داب عيني البكاء والحزن دابي ... فدعيني وقيت مابي لما بي وهذا من ألفاظ الصوفية ومعانيهم المخلقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 وقال: لو صحح الدمع لي أو ناصح الكمد ... لقلما صحباك الخد والكبد وهذا ابتداء رديء لقوله: «أو ناصح الكمد». وقال: أعيدي النوح معولة أعيدي ... وزيدي من بكائك ثم زيدي وهذا من ألفاظ النوائح. وقال: يا دهر قداك وقلما يغني قدي ... وأراك عشر الظمء مر المورد قوله: «عشر الظمء» العشر: أن تعطش الإبل، ولا تورد الماء إلا بعد عشر، يقول: فإذا أوردت كان موردك مراً غير عذب، وهذه استعارة قبيحة جداً. فذلك ثمانية عشر بيتاً ليس فيها جيد إلا الأربعة التي ذكرتها. وله مقطعات لا يعتد بمثلها، وليس فيها جيد إلا مقطوعتان، منهما قوله: محمد بن حمد أخلقت رممه ... أريق ماء المعالي مذ أريق دمه وإراقة ماء المعالي قبيح جداً، ولم يستو له لضيق الحيلة في النظم أن يقول: دم المعالي، لأن ذاك أشبه بازدواج ألفاظه وأجود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 ومنهما قوله: جفوف البلى أسرعت في الغصن الرطب ... وخطب الردى والموت أبرحت من خطب وهذا -لعمري- ابتداء حسن جيد. وقد نحل أبو تمام قصائد أخر رديئة جداً، وهي ثابتة في نسخة أبي علي محمد بن العلاء، ولم أذكر منها شيئاً. وهذه ابتداءات البحتري: قال: انظر إلى العلياء كيف تضام ... ومآتم الأحساب كيف تقام وقال: بأي أسى تثني الدموع الهوامل ... ويرجى زيال من جوى لا يزايل وقال: أقول لعنس كالعلاة أمون ... مضبرة في نسعة ووضين وقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 محل على القاطول أخلق داثرة ... وعادت صروف الدهر وهي تساوره وقال: أراني متى أبغ الصبابة أقدر ... وإن أطلب الأشجان لا تتعذر وقال: عذيري من صرف الليالي الغوادر ... ووقع رزايا كالسيوف البواتر وقال: أفي مستهلات الدموع السوافح ... إذا جدن برء من جوى في الجوانح وقال: تقضى الصبا إلا تلوم راحل ... وأغنى المشيب عن ملام العواذل وهذه القصيدة ليست مرثية بأسرها، وإنما المرثية بعض أبياتها فلهذا ابتدأ هذا الابتداء. وقال: أقصر حميد لا عزاء لمغرم ... ولا قصر عن دمع ولو كان من دم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 وقال: ملامك أنه عهد قريب ... ورزء ما عفت منه الندوب وقال: أعجب من الغيث كيف ارفض فانقشعا ... وصالح العيش كيف اعتيق فارتجعا وقال: لأية حال أعلن الوجد كاتمه ... وأقصر عن داعي الصبابة لائمه وقال: غروب دمع من الأجفان تنهمل ... وحرقة بغليل الحزن تشتعل فذلك ثلاثة عشر ابتداء كلها جيد حسن إلا قوله: «وإن أطلب الأشجان لا تتعذر» فإن الأشجان جمع شجن، والشجن: الحاجة المهمة، وهذا ضد ما ذهب إليه، وكأنه -والله أعلم- أراد: «وإن أطلب الأشجاء» جمع شجا، من: شجيت بالشيء أشجى شجاً، فتكون: متى أبلغ الصبابة -وهي رقة الشوق- أقدر عليها، لأنها موجودة معي، وإن أطلب ما أشجى به ويحزنني لا يتعذر أيضاً، فيكون المعنى: أنه صب أبداً، وحزين أبداً، ولم يقصد إلى قسمين مختلفين، وما أظنه قال إلا «الأشجاء» -والله أعلم- فألحقت النون، وإلا فمثل البحتري لا يذهب عليه فرق ما بين الشجى والشجن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 أو أن يكون أراد: «وإن أطلب الأشجان تتعذر»، وجاء بقوله «لا» زائدة، فإنها تزاد كثيراً، والمعنى طرحها، قال أبو النجم: فما ألوم البيض ألا تسخرا أراد: أن تسخر. وقال العجاج: في بئر لا حور سرى وما شعر أراد: في بئر هلاك، وأصل الحور: النقصان، وقد قال الله تعالى: «لئلا يعلم أهل الكتاب» أي: ليعلم، و «قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك» أي: أن تسجد. فهذه ابتداءتهما في سائر مراثيهما، فأما الموازنة بين الجملتين فإن ابتداءات البحتري أجود من ابتداءات أبي تمام، لما في ابتداءات أبي تمام من التخليط الذي قد ذكرته، وسلامة ابتداءات البحتري من مثل ذلك. فأما الموازنة بين معاني الأبيات، فليس بين معانيهما اتفاق إلا في صدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 البيتين الأولين على ما وصفته، ثم ما ذكراه من أمر البكاء والدمع، فإن أبا تمام قال: «وليس لعين لم يفض ماؤها عذر» وقال البحتري: «ولا قصر من دمع ولو كان من دم» وكلاهما جيد في معناه. وقال أبو تمامك «دموع أجابت داعي الحزن همع» وقال البحتري: «بأي أسى تثني الدموع الهوامل» والمعنيان مختلفان، وكلاهما جيد حسن. وقال أبو تمام: «ما للدموع تروم كل مرام» وقال البحتري: «غروب دمع من الأجفان تنهمل» وكلاهما صالح، ووباقي ما قاله أبو تمام في الدمع رديء وقال البحتري: أفي مستهلات الدموع السوافح ... إذا جدن برء من جوى في الجوانح وهذا حلو حسن، فأجعلهما في هذه المعاني خاصة متكافئين، وجملة أبيات البحتري أفضل الجملتين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 * الموازنة بعد الابتداءات من الأبيات اعلم أن تأبين الميت كمدح الحي، لا فرق بينهما إلا ما يفترق بذلك من ذكر التوجع وأنواعه، فلا يمكن الموازنة بين قصيدة وقصيدة، كما لم يمكن ذلك في قصائد المدح، لأن القصيدة الواحدة تتضمن من المعاني ما ليس في القصيدة الأخرى، ولو اعتمدنا أن نعرف أيهما أشعر في جملة مراثيه حتى نثبت قصائدهما بأسرها في هذا الباب لم يخلص لأبي تمام إلا قصيدتان، وهما: «كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر» وقوله: «ما زالت الأيام تخبر سائلا» ومقطوعتان تقومان مقام قصيدة وهما: «أصم بك الناعي وإن كان أسمعا» وقوله: «أي القلوب عليكم ليس ينصدع» فإنه برز في القصائد وأحسن وأجاد لفظاً ومعنى وسبكاً، حتى كأنها من بحر غير بحره، ومن معدن سوى معدنه، وكان يظهر تقصيره في باقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 قصائده وهي أربع عشرة قصيدة، لأن الجيد فيها إنما هو لمع قليلة بين الرديء الساقط، ورداءته إما في معناه أو لفظه أو نسجه أو تأليفه، وقد تقدم ذكر جميعها في باب الابتداءات، فكان كثرة رديئه يشين قليل جيده ويزري به، وكان يظهر فضل البحتري في قصائده، وهي ثلاث عشرة قصيدة، لأن كلها جيدة، لا يكاد يختل من القصيدة شيء البتة إن شاء الله، إلا أن تكون القصيدة التي أولها: «لأية حال أعلن الزجد كاتمه» فإن فيها بيتاً أو بيتين، فكنا لو فعلنا ذلك نحكم بفضل جملة قصائد البحتري على جملة قصائد أبي تمام. ولو اطرحنا رديء أبي تمام كله من جميع قصائده وتلطنت جيده منها وأضفنا إلى القصائد الأربع اللواتي قدمت ذكرها، ووزاناً بالجميع قصائد البحتري حتى نكون قد وازناً جيداً بجيد، كما يختار أصحاب أبي تمام، لأنهم أبداً يقولون: فدعوا رديئه وخذوا جيده، كان في ذلك ظلم للبحتري قبيح، وتعد ظاهر معلوم، لأن المتخير المتنقى الذي قد نفي رديئه، وبقيت عيونه وفاخره لا يقاس جملة على جهته إن كان نقياً من الدرن، لأن النقاوة لها أبداً فضلها، ولكن الموازنة تكون بين جملة وجملة، واختيار واختيار، والمنصفون من أصحاب أبي تمام يمثلون القصيدة من شعر البحتري بعقد فيه خرز وأنواع جوهر سوى الدر، ويقولون: أي العقدين أثمن؟، فقيل لهم: بل قولوا: أي العقدين أحسن، وأيهما أولى بأن يكون على صدر الجارية الكعاب، هذا إن سلم لكم انفراد أبي تمام من شريف المعاني بما ليس للبحتري مثله، ولكن ليس بمنكر أن يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 لأبي تمام لطيفة ليس للبحتري مثلها من ذلك الجنس، كما أن للبحتري أيضاً معاني لطيفة ليس لأبي تمام مثلها من جنسها، وقد مر مثل هذا كثيراً فيما تقدم من أبواب هذه الموازنة، ومثل ذلك أيضاً موجود في أشعار القدماء، أن ترى الشاعر قد سخر له معنى أو معان لا يوجد مثلها من جنسها في شعر من هو أعلى طبقة منه، فلا يقدم عليه من أجلها، لأن التقدمة لا تكون بالمعاني وحدها، وإنما ينظر إلى بحر الشاعر وجنس شعره وبلاغته وقدرته وتمكن خاطره واستواء طريقته، فإن أحببت أن تمتحن ذلك فأثبت مراثي الطائيين كلها في الباب وتأمل الجميع، فإن الأمر يظهر لك ظهوراً بيناً واضحاً، ولا تكن مراعاتك مقصورة على تأمل المعاني دون سواها، فإن رداءة الكلام منظومه ومنثوره ليست من أجل رداءة المعنى فقط، بل يكون أيضاً من أجل رديء اللفظ، وقبيح النظم وسوء التأليف، وإن يقترن البيت بما لا يليق بموضعه، ألم تسمع بعض الشعراء وقد قال لابنه وكان أيضاً شاكراً: أنا أشعر منك؟، قال: بم ذاك؟، فقال أنا أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمه. واعلم أن رديء اللفظ يكون على وجهين: إما أن تكون اللفظة من ألفاظ العوام سخيفة في نفسها، أو جيدة قد وضعت في غير موضعها فصارت رديئة في ذلك الموضع خاصة، فإن كانت لك بلاغة وبجوهر الكلام خبرة تعرف هذا إذا مر بك من النظم والنثر لا محالة، وإن كنت بمعزل عن ذلك فلست تقدر أبداً على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 تمييز ما بين الجيد والرديء، فاترك هذا الباب لأهله، ولا تداخلهم فيه. ولما كانت طريقة الشاعر وجنس شعره على ما وصفته لا تبين إلا لطائفة من الناس، وهم ذوو البلاغة، وأهل الأطباع النقية، والقرائح السليمة، وكان من سواهم يعلم ولا لهم جملته حتى تقع الموازنة فيه بين بيت وبيت، ومعنى ومعنى، وجب أن أعدل في المراثي أيضاً إلى انتزاع الأبيات المتفقة من المعاني من قصائدهما، وأنواعهما أنواعاً، وأوازن بين أبيات كل نوع على حسب ما فعلت في الأبواب السابقة المتقدمة م هذا الكتاب، حتى يظهر الفضل في المعاني خاصة، وبالله أستعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 * أنواع المعان ي عموم الفجيعة وجلالة الرزء. - البكاء على الفقيد. - زوال الصبر عن المفجوع. - ذم الدهر والأيام لاخترامها الفقيد. - تولي العيش وذهابه وتغير الأشياء لفقده. - تخطي المنايا إلى الأشرف فالأشرف والأفضل فالأفضل. - ذكر السؤدد والمجد والعلى وبكائهما على الميت وقبحهما بعده. - ذكر انقطاع الرجاء والأمل من الطالبين وقعودهم عن الطلب. - ذكر سقوط الحزن وخفة المصائب بعد الفقيد. - ذكر شماتة الأعداء والحساد وتهديد القاتلين. - ذكر صبر المقتول واختياره القتل على الفرار. - ذكر تحقير القاتل وتهوين أمره. - ذكر القبور والدعاء لها بالسقيا وتشييع الميت. - وذكر النعش والكفن. - الذكر الجميل وحسن الحديث بعد الفقيد. - ذكر تعديد مناقب الميت بعده. - ذكر من يخلف الميت ويسد مسده. - مرثية الصغار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 * ذكر عموم الفجيعة وجلالة الرزء قال أبو تمام: لئن ألبست في المصيبة طيء ... لما عريت منه تميم ولا بكر كذلك لا ننفك نفقد هالكاً ... يشاركنا في فقده البدو والحضر وهذان بيتان جيدان. وقال: لقد فجعت عتابه وزهيره ... وتغلبه أخرى الليالي ووائله وكان لهم غيثاً وعلماً فمعدم ... فيسأله أو باحث فيسأله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 وهذا البيت الأول في غاية الجودة والبراعة، لأنه عم بالفجيعة عموماً حسناً، والبيت الثاني من أشعار المعلمين، وقد قرن الغيث بالعلم، وهما لا يتجانسان. وقال البحتري: ورزيئة حمل الخليفة شطرها ... والمسلمون وشطرها الإسلام وهذا عموم حسن. وقال: أما وأبي كهلان يوم مصابه ... لقد ثقلت بالرزء منها الكواهل رأوا شمسهم في يومهم وهي ظلمة ... وبدرهم في ليلهم وهو آفل فشاموا سيوفاً ما لهن مضارب ... وألقوا رماحاً ما لهن عوامل وهذا غاية في حسنه وصحته. وقال أبو تمام: كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر وهذا معنى حسن جداً، ولكنه أخذه من قول مريم بنت طارق: كنا كأنجم ليل بيننا قمر ... يجلو الدجى فهوى من بيننا القمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 أو من قول جرير يرثي الوليد بن عبد الملك: يا عين جودي بدمع هاجه الذكر ... فما لدمعك بعد اليوم مدخر إن الخليفة قد وارى شمائله ... غبراء ملحودة في جولها زور أمسى بنوه وقد جلت مصيبتهم ... مثل النجوم هوى من بينها القمر «الجول، والجال»: جانب البئر. وأحسن من هذا كله قول ديك الجن: عداك أبا العباس ما منه عديت ... وأعقب تأليف القرابة تشتيت فناؤك أبقانا بغير بقية ... كأنا جمعنا ثم قيل لنا موتوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 * ذكر البكاء على الميت قال أبو تمام: فلم أر يوماً كان أشبه ساعة ... بيوم من اليوم الذي فيه ودعا مصيف أفاض الحزن فيه جداولاً ... من الدمع حتى خلته صار مربعا ووالله لا تقضي العيون الذي له ... عليها ولو صارت مع الدمع أدمعا قوله: « .... كان أشبه ساعة بيوم» يريد: كانت ساعاته كأيام، يريد طول اليوم من شدة الوجع والحزن. وقال: اليوم أدرج زيد الخيل في كفن ... وانحل معقود دمع الأعين الهتن هذا بيت رديء لقوله: «وانحل معقود ... »، فجعل الدمع معقوداً، والاستعارة غير منكرة إلا إذا وقعت في غير موضعها الذي يليق بها، ولو كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 قال: «الأعين الجمد» كان أولى لو كانت القافية على الدال، لأن «الأعين الهتن» لا يكون دمعها الآن معقوداً، وذاك أجود. ومثل هذا قوله: «أذيلت مصونات الدموع السواكب» ولو قال: «الجوامد» لكن أليق بالمعنى، ولكنه أراد التي هي الآن. وقال البحتري في يوسف بن محمد بن يوسف: أعاذلتي ما الدمع من فرط صبوة ... ولا من تنائي خلة فذريني ولا تسألي عما بكيت فإنه ... على ماء عيني جاد ماء جفوني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 قوله: «على ماء عيني جاد ماء جفوني» من قولهم: لؤلؤة كثيرة الماء، أي: الصفاء والضياء والرونق، وكذلك «ثوب كثير الماء»، ولو عدل إلى اللفظة المستعملة، فقال: «نور عيني» لكان أوضح، وأظنه عدل عنها لأنها من كلام العوام، وأراد أن يجمع بين «ماء» و «ماء» في قوله: «ماء عيني وماء جفوني» على مذهب أبي تمام. وقال حذواً على قول أبي تمام: «ولو صارت مع الدنيا أدمعا»: ودمع متى أسكبه لا أخش لائماً ... ولو أنني مما تفيض هزائمه قوله: «ولو أنني مما تفيض هزائمه» أي: لو أفاضتني، أي: أجرتني هزائمه معها، فقصر عن أبي تمام وأساء وقبح. وقال: ألام إذا ذكرتك واستهلت ... غروب العين تتبعها غروب ولو أن الجبال فقدن إلفاً ... لأوشك جامد منها يذوب وقال: تولى سحاب الجود ترقا سجومه ... وجاء سحاب الدمع تدمى سواجمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 وقال: سلام الله والسقيا سجالاً ... على تلك الضرائح واللحود رزايا من شيوخ الأزد ألقت ... علينا ظل موهنة هدود نصك لها الجباه إذا احتشمنا ... حياء الناس من لطم الخدود مباك نستزيد الدمع منها ... وما للدمع فيها من مزيد وهذا كله جيد بالغ ولكن لا يفي بقول أبي تمام: ووالله لا تقضي العيون له ... عليها ولو صارت مع الدمع أدمعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 * ذكر ذم الدهر والأيام بعد الميت وذم الدنيا قال أبو تمام: لئن أبغض الدهر الخؤون لفقده ... لعهدي به ممن يحب له الدهر وقال: لئن غدرت في الروع أيامه به ... فما زالت الأيام شيمتها الغدر وقال: فول شاء هذا الدهر أقصر شره ... كما قصرت عنا لهاه ونائله سنشكوه إعلاناً وسراً ونية ... شكية من لا يستطيع يقاتله هذا كله من أشعار صبيان المكاتب وألفاظهم، وكيف جسر على شكية الدهر إعلاناً، فأما شكواه سراً فمن ذا الذي سكن إليه ووثق به حتى شكاه إليه، ولله در أبي عبادة إذ يقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 أجدك ما تنفك نشكو قضية ... ترد إلى حكم من الدهر جائر ينال الفتى ما لم يؤمل وربما ... أتاحت له الأقدار ما لم يحاذر وقال أبو تمام: إن ريب الزمان يحسن أن يهـ ... ـدي الرزايا إلى ذوي الأحساب فلهذا يجف بعد اخضرار ... قبل روض الوهاد روض الروابي وهذا أيضاً من ألفاظه الركيكة السوقية، وعاداته السخيفة العامية، لأن من ألفاظ العوام أبداً أن يقولوا: يا فلان أنت تحسن أن تأخذ، ولا تحسن أن تعطي، وتحسن أن تعق، ولا تحسن أن تبر، وربما جاء اللفظ في موضعه فلم يقبح، فجاء به أبو تمام في أقبح موضع، وما كانت به حاجة إلى «يحسن» ولو قال: إن ريب الزمان يهدي المنايا ... والرزايا إلى ذوي الأحساب فتكون المنايا مهداة إلى من أصيب، والرزايا إلى قومه، أو غير المنايا، فإن الألفاظ كثيرة، ولو قال: «إن ريب الزمان لن يني يهدي الرزايا» أو «إن ريب الزمان مجتهد يهدي الرزايا»، ولو قال: «فتراها تجف بعد اخضرار» لكان أحسن من قوله: «فلهذا»، لأنا قد منا نعلم ما يريد بالتمثيل من غير إشارة هجينة. وقال البحتري: ما كنت أحسب أن عزك يرتقي ... بالنائبات ولا حماك يرام قدر عدت فيه الحوادث قدرها ... وتجاوزت أقدارها الأيام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 وقال: عجبت لهذا الدهر أفنى محمداً ... وكان الذي يسطو به ويصاول مضى فمضى مجد تليد وسؤدد ... وأودى فأودى منه بأس ونائل وكان سراج الأرض والأرض مظلم ... قراها وحلي الدهر فالدهر عاطل وهذا لعمري حسن. ونحو هذا قول أبي تمام: فتى سلبته الخيل وهو حمى لها ... وبزته نار الحرب وهو لها جمر وإنما أخذ المعنى من قول مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة: ألم تعجب له أن المنايا ... فتكن به وهن له جنود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 * ذكر تخطي المنايا عن الميت والعجر عن دفعها قال أبو تمام: ما زالت الأيام تخبر سائلاً ... أن سوف تفجع مسهلاً أو عاقلا إن المنون إذا استمر مريرها ... كانت لها جنن الأنام مقاتلا ما إن ترى شيئاً لشيء محيياً ... حتى تلاقيه لآخر قاتلا من ذاك أجهد أن أراه فلا أرى ... حقاً سوى الدنيا تسمى باطلا «فالمسهل»: الذي يأوي السهل، و «العاقل» الذي يأوي المعاقل، وهي الجبال. وقوله: «من ذاك أجهد أن أراه» من سخيف ألفاظ العوام، وليس من ألفاظ الشعراء، وهو ها هنا يشبه قوله: «فلهذا يجف بعد اخضرار ... ». وقال: وفاجع موت لا عدواً يخافه ... فيبقي ولا يلقى صديقاً يجامله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 وأي أخي عزاء أو جبرية ... ينابذه أو أي قرن يناضله إذا ما جرى مجرى دم المرء حكمه ... وبثت على طرق النفوس حبائله قوله: «وفاجع موت لا عدو يخافه» من كلام النوائح وتعديدهم وليس من كلام الشعراء، أفتراه لم يسمع قول يحيى بن زياد الحارثي: دفعنا بك الأيام حتى إذا أتت ... تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا ولله در الفرزذق إذ يقول في بشر بن مروان: ولو أن قوماً قاتلوا الموت قبلنا ... بشيء لقاتلنا المنية عن بشر وقال أبو الخطار الكلبي وأحسن كل الإحسان: ولو كانت الموتى تباع اشتريته ... بكفي وما استثنيت منها أناملي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 وقال أبو تمام: هدمت صروف الدهر أرفع حائط ... ضربت دعائمه على الإسلام دخلت على ملك الملوك رواقه ... وتسربت لمقوم القوام وهذان بيتان جيدان. وقال البحتري لمحمد بن عبد الله بن طاهر يرثي أخاه وعمه: أزال حجاب الملك عنه رزية ... تهجم أخياس الأسود الخوادر مسلطة لم يتئر من وقوعها ... بساع ولم ينجد عليها بناصر يؤسي الأداني عنه أن ليس عندهم ... نكير سوى سكب الدموع البوادر وهذا جيد بالغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 * ذكر ثكل المعالي والمجد والجود والبأس وبكائها على الميت قال أبو تمام: يعزون عن ثاو تعزى به العلى ... ويبكي عليه البأس والجود والشعر وهذه استعارة حسنة لائقة. وقال: فمن مبلغ عني ربيعة أنه ... تقشع طل الجود عنها ووابله وأن الحجى منها استطارت صدوعه ... وأن الندى منها أصيبت مقاتله وهذا أيضاً جيد بالغ. وقال: إذا فقد المفقود من آل مالك ... تقطع قلبي رحمة للمكارم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 وتقطع قلبه رحمة للمكارم ركاكة ما سبق إليها، وحماقة لا ينافس عليها، ولكن الجيد النادر قوله: ألا إن في ظفر المنية مهجة ... تظل لها عين العلى وهي تدمع هي النفس إن تبك المكارم فقدها ... فمن بين أحشاء المكارم تنزع قوله: «فمن بين أحشاء المكارم تنزع» استعارة تفوق كل حسن وحلاوة. وقال: فمالنا اليوم وما للعلى ... من بعده غير الأسى والنحيب ونحيب العلى غلو في الاستعارة، والجيد المستقيم في هذا قول البحتري: فتى أقفرت منه المعالي ولم تكن ... لتقفر ممن بان إلا المنازل وثاو بكته المكرمات وإنما ... تبكي على الثاوي النساء الثواكل وقد غلا في الاستعارات غلواً قبيحاً، والرديء لا يؤتم به، ولا يحتذى عليه. وقد يأتي غلو غير مستهجن لحسن تأليفه وحلاوة العبارة، وذلك نحو قول ابن مطير في معن بن زائدة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا بكى الجود لما مات معن فلم يدع ... لعينيه لما أن بكى الجود مدمعا وقال حبيب بن شوذب المدني: أنت أنف الجود إن فارقته ... عطس الجود بأنف مصطلم وقال الفرزذق -وليس من باب الغلو-: فإلا تكن هند بكته فقد بكت ... عليه الثريا في كواكبها الزهر وقال ميسرة أبو الدرداء في معاوية: فهاتيك الكواكب وهي خرس ... ينحن على معاوية الشآمي ونادى الفرقدان بنات نعش ... يبشرن الثريا بالإمام نعته الريح للآفاق حتى ... بكته الأرض رافعة الخدام وهذا كله جيد إلا قوله: «رافعة الخدام» فإنه من الغلو، وكل ما ذكرته العرب من بكاء الأشياء على الميت، فإنما ذلك يقوم مقام النفوس عند عظم المصاب وجليل الرزء، أن الأشياء قد حالت عن صورها وتغيرت عن حالاتها، ولذلك قال أوس بن حجر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 ألم تكسف الشمس شمس النهار ... مع النجم للقمر الواجب وقال النابغة: بكى حارث الجولان من هلك ربه ... وحوران منه خاشع متضائل وقال أبو قطيفة لما أخرج ابن الزبير بني أمية من الحجاز: بكى أحد إذ فارق اليوم أهله وقال جزء بن ضرار في عثمان بن عفان: أبعد قتيل بالمدينة أصبحت ... له الأرض تهتز العضاه بأسؤق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 «العضاه» جمع عضة، وهي كل شجرة ذات شوك، و «أسؤق» جمع ساق. ومثله قول أخت الوليد بن طريف: أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تحزن على ابن طريف ولهذا قال أبو تمام: لبدلت الأشياء حتى لخلتها ... ستثني غروب الشمس من حيث تطلع وقال البحتري: حالت يد الأشياء عن حالاتها ... فالحزن حل والعزاء حرام وقال أيضاً: لعاد النهار الضوء جوناً كأنما ... تجلله من مصمت الليل فاحمه مصاب كأن الجو يمنى بعظمه ... فما ينجلي في ناظر العين قاتمه ونرجع الاستعارة، قال أبو تمام: أإدريس ضاع المجد بعدك كله ... ورأي الذي يرجوه بعدك أضيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 وأصبحت الأحزان لا لمبرة ... تسلم شزراً والمعالي تودع وتسليم الأحزان شزراً من كلام الطومي. وقال البحتري: سكن العلى أودي فهن ثواكل ... وأبو العفاة ثوى فهم أيتام «الأيتام» ها هنا أشبه من قول أبي تمام: وتكفل الأيتام عن آبائهم ... حتى وددنا أننا أيتام وإنما أخذ أبو تمام هذا من قول أبي دهبل: ما زلت في العفو للذنوب وإطـ ... ـلاق لعان بجرمه غلق حتى تمنى البراة أنهم ... عندك أمسوا في القد والحلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 * ذكر الخيل والسلاح وقبحهما بعد الميت وبكائهما عليه قال أبو تمام: وقد كانت البيض المباتير في الوغى ... بواتر فهي الآن من بعده بتر يريد بقوله: «بتر» أي ليست لها أيد تصلها وتضرب بها وقال: لئن عم ثكلاً كل شيء مصابه ... لقد خص أطراف السيوف الصوارم وقال: للسيف بعدك حرقة وعويل ... وعليك للمجد التليد غليل وحرقة السيف استعارة فيها استقصاء، ولو قال: بكى السيف، أو: ليبك السيف، لكانت استعارة مألوفة معتادة. وقد قال ابن هرمة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 تبكي السيوف إذا فقدن أكفنا ... جزعاً وتعلمنا الرفاق بحورا فاستقصى بقوله: «جزعاً». وقال كعب بن سعد الغنوي: لتبك أرماح شهدن بك الوغى ... فأبن ولم تخضب لهن كعوب وقال الخزيمي: وإن مصاليت السيوف تضاءلت ... وسمر القنا أصبحت وهي خشع وقال البحتري: ستبكيه عين لا ترى الجود بعده ... إذا غاض منها هامل عاد هامل وتعلم جرد الخيل أن ليس فارس ... سواه وسمر الخط أن ليس حامل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 جعل للخيل والرماح علماً، وقد تقدم الناس في مثل هذا، قال النابغة: والخيل تعلم أنا في تجاولنا ... يوم الحفاظ أولو بأس وإنعام وقال ابن هرمة: وقد علم المعروف أنك خدنه ... ويعلم هذا الجوع أنك قاتله وقال مسلم بن الوليد: سخنت أعين الجياد عليه ... وكبا بعده القنا والصفيح ويحها أدرت على من تنوح ... أقريح فؤادها أم صحيح جبل أطبقوا عليه بجرجا ... ن ضريحاً ماذا أجن ضريح وهذا أجود من كل ما مضى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 * ذكر انقطاع الرجاء والأمل من الطالبين وتركهم للرحيل والطلب قال أبو تمام: توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر ألا في سبيل الله من عطلت له ... فجاج سبيل الله وانثغر الثغر أخذ هذا المعنى من قول مسلم بن الوليد: نفضت بك الأيام أحلاس المنى ... واسترجعت نزاعها الأمصار وقال البحتري في مثل ذلك: خبر ثنى ركب الركاب فلم يدع ... للركب وجه ترحل فأقاموا وقال أبو تمام: أظلمت الآمال من بعده ... وعريت من كل حسن وطيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 كانت خدود صقلت برهة ... فاليوم صارت مألفاً للشحوب فيا ويحه! ضاقت المعاني والاستعارات الحسنة حتى جعل للآمال خدوداً وصقولة وشاحبة. قال عبد الله بن أبي الشيص في هذا المعنى -وأظن أباه إنما كني لأنه كان شيص الشعراء في وقته، وكأن يقفو مذهب أبي تمام-: قد هدمت قبة آمالي ... واجتث فرع الشرف العالي لا رحلة بعد أبي جعفر ... أيقن بالراحة أجمالي فذكر أن قبة آماله قد انهدمت، ولا ينكر لعبد الله مثل هذه الاستعارة، فليس أبو العذافر بأشعر منه إذ يقول: باض الهوى في فؤادي ... وفرخ التذكار ولا الذي يقول -وأنشده أبو العنبس-: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 ضرام الحب عشعش في فؤادي ... وحضن فوقه طير البعاد وأنبذت الهوى في دن قلبي ... فعربدت الهموم على فؤادي فيا ويح الطائي! أما كفاه من هذا المعنى ما حذاه على حذو مسلم حتى جاء بهذا التخليط؟!. ولله در مسلم بن الوليد إذ قال في الفضل بن سهل ذي الرياستين: ثوى وثوب عيس الفلاة مناخة ... بكل سبيل ما لهن سبيل خليلي ما لي في سرخس تئية ... على جدث فيه السماح قتيل وقال مروان بن أبي حفصة: أقمنا بالمدينة بعد معن ... مقاماً ما نرد به زيالا وقلنا أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 وهذا وإن كان غاية في مرثية الميت، فهو خطأ من جهة الشعر، لأن مروان دخل على المهدي في جملة الشعراء فقال له: ألست القائل في معن: وقد ذهب النوال فلا نوالا؟ اذهب فلا شيء لك عندنا، وحجب مروان عنه برهة من الزمان حتى عمل هذه القصيدة: طرقتك زائرة فحي خيالها وتلطف في الوصول فأنشده فحظي منه بما لم يحظ به شاعر قط ولا من غيره. وقد سبق النابغة إلى هذا المعنى فقال: فإن يهلك النعمان تعر مطية ... وتخبأ في جوف العياب قطوعها وقال البحتري في نحو هذا: من يعتفي بهمته ومن ... يحدو إليه المعتم المعتام وقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 أسفي عليك لآسف بين القنا ... أسوان تعذل خيله وتلام ولمجتد رجعت يداه بلا جدًا ... أعيا عليه البذل والإنعام وقال: ستبكيه عين لاترى الجود بعده ... إذا فاض منها هامل عاد هامل وهذا معنى كثيرًا ما تذكره العرب وتكرره في مراثيها، ومن ذلك قول أوس بن حجر: ليبكك الشرب والمدامة والـ ... ـفتيان طرًا وطامع طمعا وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبًا جدعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 * ذكر ذهاب الحزن على الهالك بعده قال البحتري: دع الموت يغتل من أراد فإنه ... ثوى اليوم من تخشى عليه الغوائل ولم يبق مرهوب يخاف شذاته ... ولا مفضل ترجى لديه الفواضل قوله: «دع الموت يغتل من أراد» من قول ليلى الأخيلية: فآليت أبكي بعد توبة هالكًا ... وأحفل من غالت صروف المقادر وأنشد الطائي في الحماسة: فأقسمت لاآسى على إثر هالك ... قدي الآن من وجد على هالك قدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 وقال العجير السلولي: ألا ليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا وقال مطيع بن إياس في يحيى بن زياد: أقول للموت حين بادهني ... والموت نزالة على البهم لو قد تدبرت من فجعت به ... قرعت سنًا عليه من ندم فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به ... مابعد يحيى للرزء من ألم وقال ابن المقفع: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 لئن كنت قد خلفتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في انسداد لها طمع لقد جر نفعًا فقدنا لك أننا ... أمنَّا على كل الرزايا من الجزع وقال مروان في معن: لقد عزى ربيعة أن يومًا ... عليها مثل يومك لا يعود وقال البحتري: تنكر العيش حتى صار أكدره ... يأتي نظامًا ويأتي صفوه لمعا وآنست من خطوب الدهر كثرتها ... فليس يرتاع من خطب إذا وقعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 * ذكر الكفن والنعش وتشييعه وترك الميت في حفرته والإنصراف عنه قال أبو تمام: ثوى في الثرى من كان يحيى به الثرى ... ويغمر صرف الدهر نائله الغمر مضى طاهر الأثواب لم تبق بقعة ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر قوله: «إلا اشتهت أنها قبر» من ألفاظه الموضوعة في غير مواضعها، وما زال الناس يستنكرونها، لأنه في موضع «ودت»، وأنت لاتقول: «أشتهي أني قدرت»،وإنما تقول: «أود أني قدرت»، ولله در مروان بن أبي حفصة إذ يقول في مرثية المهدي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 لما استبان ببطن مكة هلكه ... حن التراب إليه من بطحائها وفيها يقول: لو خلدت بعد الإمام محمد ... نفس لما فرحت بطول بقائها وقال التيمي في منصور بن زياد: أما القبور فإنهن أوانس ... بجوار قبرك والديار قبور وقال عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي: إني لأرباب القبور لغابط ... لسكنى سعيد وسط أهل المقابر وقال أبو تمام: راحت وفود الأرض عن قبره ... فارغة الأيدي ملاء القلوب قد علمت ما رزئت إنما ... يعرف فقد الشمس بعد المغيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 وهذا جيد حسن، ونحوه قول البحتري: فاذهب كما ذهبت بساطع نورها ... شمس النهار وأعقب الإظلام وقال أبو تمام: غدوا في زوايا نعشه وكأنما ... قريش يوم مات مجمع وما أنس سعي الجود خلف سريره ... بأكسف بال يستقيم ويظلع وتكبيره خمسًا عليه معالنًا ... وإن كان تكبير المصلين أربع وما كنت أدري يعلم الله قبلها ... بأن الندى في أهله يتشيع قوله: «وكأنما قريش قريش يوم مات مجمع» من أحسن معنى وأجوده وأبرعه. وأما سائر الأبيات فقد اختزل أبو تمام عن معانيها مساعدة، وحلف أيضاً بعلم الله أنه يصدق ولا يرد قوله، فليس محله محل من يخترع مثل هذا الحديث الطويل كله كذبًا إن شاء الله!!؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 وقال البحتري: سلا حقبة عن صاحب الجيش إنه ... أقام بظهر الكرخ والجيش راحل أعاقته عن ذاك العوائق أم عدت ... عليه العدى أم أعلقته الحبائل وقال: عجبت لأيد غيبته فلم تصر ... رمائم في حيث استقرت رمائمه أما وأبي النعش الخفيف لقد حوت ... مآخيره ثقل العلى ومقادمه وهذا كله جيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 * تعديد آياديه وذكر محاسنه قال أبوتمام: وما كان يدري مجتدى يسر كفه ... إذا ما استهلت أنه خلق العسر وما كان إلا مال من قل ماله ... وذخرًا لمن أمسى وليس له ذخر فتى كان عذب الروح لا من غضاضة ... ولكن كبرًا أن يقال به كبر وحسبك بهذا حسنًا وحلاوة. وقال ذو الرمة: تعز ضعاف الناس عزة نفسه ... وتقطع أنف الكبرياء عن الكبر وبيت أبي تمام أجود. وقال أبو تمام: فتى سيط حب المكرمات بلحمه ... وخامره حب السماح وباطله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 فتى جاءه مقداره وبنى العلى ... يداه وعشر المكرمات أنامله جعل يديه أبنية العلى، وإنما كان يجب أن يجعل يديه تبنيان العلى، على ما ماجرت به عادات الشعراء في مثل هذا، غير أنه أراد المبالغة، فجعل يديه أنفسهما أبنية العلى، وهذا من شدة تقعره. وأراد أن يقول: «والمكرمات عشر أنامله» وهي معروفة، فقال: «عشر المكرمات» فجعل المكرمات عشرًا، وحصرها بهذا العدد، وأنها أنامله، والمكرمات غير محصية العدد، وهذا قلة حيلة في اللفظ والنظم. وقال البحتري: أحقًا بأن الليث بعد ابتزاره ... نفوس العدى من شاسع ومجاور مخل بتصريف الأعنة تارك ... لقاء الزخوف واقتياد العساكر ومنصرف عن المكارم والعلا ... وقد شرعت فوت العيون النواظر كأن لم ينف نجد المعالي ولم تغر ... سراياه في أرض العدو المغاور ولم يتبسم للعطايا فتنبري ... مواهب أمثال الغيوث البواكر ولم يدرع وشي الحديد فيلتقي ... على شائك الأنياب شاكي الأظافر على ملك ما انفك شمس أسرة ... تعار به ضوءًا وبدر منابر وقال: ولي هدى سفر إلى الموت سائر ... وقائد زحف للخطوب مقاتل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 يؤمل للخير الكثير إذا نبت ... خلائق أصحاب الخيور القلائل إذا طلعت منه شذاة على العدى ... أرت أن بغث الطير صيد الأجادل زعيم بني مكيال حيث تكاملوا ... وكان ابتداء النقص فرط التكامل وقال أبو تمام في خالد بن يزيد بن مزيد: تذكرت خضرة ذاك الزمان ... لديه وضجة ذاك الفناء وزواره للعطايا حضور ... كأن حضورهم للعطاء ومما لا يفي بحسنه وحلاوته وصحته شيء قول حسين بن مطير في معن: فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 * ذكر القبور وأوصافها والدعاء بالسقيا لها قال أبو تمام: سقي الغيث غيثاً وارت الأرض شخصه ... وإن لم يكن فيه سحاب ولا قطر وكيف احتمالي للسحاب صنيعة ... بإسقائها قبرًا وفي لحده البحر ذكر ابن أبي طاهر أن قوله: «سقى الغيث غيثاً» من قول شقيق ابن السليك العامري: «سقاك الغيث إنك كنت غيثاً» وقوله: «وكيف احتمالي للسحاب صنيعة»، يشبه قول آخر- ولست أدري أيهما أقدم؟ أهو أم الطائي-؟ -: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 ما كنت أحسب أن بحرًا زاخرًا ... عم البرية كلها إرواء أضحى دفيناً في ذراع واحد ... من بعد ما ملك الفضاء فضاء وقال: للحد أبي نصر تحية مزنة ... إذا هي حيت ممعرًا عاد ممرعا «الممعر» من الأرض: الذي قد ذهب نباته، وذلك من المعر، وهو سقوط الشعر. وقال: يا حفرة المعصوم تربك مودع ... ماء الحياة وقاتل الإعدام إن الصفائح منك قد نضدت على ... ملقى عظام لو علمت عظام وهذا جيد حسن. وقال: وما يوم زرت اللحد يومك وحده ... علينا ولكن يوم عمرو وحاتم فكم ملحد في يوم ذلك غانم ... وكم منبر في يوم ذلك غارم وقال: بني مالك قد نبهت خامل الثرى ... قبور لكم مستشرفات المعالم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 رواكد قيس الكف من متناول ... وفيها على لا ترتقى بالسلالم وهذا إحسانه المشهور، ولكنه أفسده بأن قال: قضيتم حقوق الأرض منكم بأعظم ... عظام قضت دهرًا حقوق المقاوم يريد: حقوق المقامات التي قاموها على الأرض، وإنما كان يجب أن يجعله اعتدادًا للأرض، لأنها ثبتت أقدامهم في تلك المقاوم، حتى يكون دفنهم فيها قضاء لحقها، لا أن تكون هذه العظام قضت حق الأرض بثباتها، فإن هذا لاشيء للأرض فيه، ولا يعود عليها منه جمال إذا أحسنوا، ولا قبح إذا أساءوا. وقال: أطفأ اللحد والثرى لبك المسـ ... ـرج في وقت ظلمة الألباب وتبدلت منزلاً ظاهر الجد ... ب يسمى مقطع الأسباب وهذا رديء جدًا. وقال: لا يبعد الله ملحودًا أقام به ... شخص الحجى وسقاه الواحد الصمد يا صاحب القبر دعوى غير متئب ... إن قال أودى الندى والبدر والأسد وهذا يرجع إلى قول مسلم: كأن في سرجه بدرًا وضرغاما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 وقال البحتري: يا صاحب الجدث المقيم بمنزل ... ما للأنيس بحجرتيه مقام قبر تكسر فوقه سمر القنا ... من لوعة وتشقق الأعلام ملآن من كرم وليس يضره ... مر السحاب عليه وهو جهام بي لابغيري حفرة محفورة ... لك في ثراها رمة وعظام قوله: «ملآن من كرم» بيت في غاية الحسن، وإنما هو محذو على قول أبي تمام: «وكيف احتمالي للسحاب صنيعة» وإن كان قد عدل عن المعنى عدولاً لطيفاً. وقال: سقى الله قبرًا لو يشاء ترابه ... إذا سقيت منه الغيوم الهواطل نأى ربه عنا وأعرض دونه ... على كرهنا عرض الثرى والجنادل حيا الأرض ألقت فوقه الأرض ثقلها ... وهول الأعادي فوقه الترب هائل قوله: «لويشاء ترابه» إسراف عظيم كأنه إسراف أبي تمام، وليس هو مأخوذاً من قول أبي تمام: «وكيف احتمالي .... ». وقال البحتري: وما اشتد خطب الدهر إلا ألانه ... حميد بني عبد الحميد الأكارم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 أسود يفر الموت منهم مهابة ... إذا فر منه كل أروع صارم مصارعهم حول العلا وقبورهم ... مجامع أوصال النسور الحوائم وقال: فلله قبر في خراسان أدركت ... نواحيه أقطار العلا والمآثر تطار عراقيب الجياد إزاءه ... وتسقى صبابات الدماء الموائر جرى دونه العصران تسفي ترابها ... عليه أعاصير الرياح الخواطر سقى جوده جود الغمام ومن رأى ... حياً ماطراً تسقيه ديمة ماطر قوله: ......................... ومن رأى ... حياً ماطرًا تسقيه ديمة ماطر من قول أبي تمام: وكيف احتمالي للسحاب صنيعة وقال في أولاد حميد: أحب بنوك المكرمات ففرقت ... جماعتهم في كل دهياء صيلم تدانت مناياهم بهم وتباعدت ... مضاجعهم عن تربك المتنسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 فكل لهم قبر غريب ببلدة ... فمن منجد نائي الضريح ومتهم قبور بأطراف الثغور كأنما ... مواقعها منها مواقع أنجم وهذا غاية في حسنه وبراعته. وقال: لمصيبة بأبي عبيد أردفت ... بأبي حميد بعده ومبشر ولو أنهم من هضب أعفر ثلموا ... لتتابعت قطعاً ذوائب أعفر كانوا ثلاثة أبحر أفضى بهم ... ولع المنون إلى ثلاثة أقبر وهذا أيضاً من إحسانه المشهور. وقال في غلامه قيصر: وكنت وتربه يحثى عليه ... كنضو الداء أيأسه الطبيب أأنسى من يذكرنيه ألا ... نديد ينوب عنه ولا ضريب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 وأترك للثرى من كنت أخشى ... عليه العين تؤمن أو تريب وأصفح للثرى عن حر وجه ... غنيت يروعني فيه الشحوب ضجيج مسندين بكفر توثى ... خفوت مثل ما خفت الشروب هجود لم يسل بهم حفي ... ولم تقلب لضجعتهم جنوب تغلق دورهم عنهم عشاء ... وقد عزوا بها زمناً وهيبوا سقى الله الجزيرة لا لشيء ... سوى أن يرتوي ذاك القليب ملظ بالطريق فليس يصغي ... لأنجية الطريق ولا يجيب وما كانت لتبعد عنه عين ... سفوح الجفن لو أني قريب وهذا عجب في حسنه ورقته. وقوله «سقى الله الجزيرة .... »، مثل قول النمر بن تولب: فو لله ما أسقي الديار لحبها ... ولكنني أسقيك حار بن تولب وقال أبو تمام في جارية رثاها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 لقد نزلت ضنكًا من الأرض ضيقًا ... ولو كان رحب الذرع ما كان بالرحب وكيف أرجى القرب وهي بعيدة ... فقد نقلت بعدي عن البعد والقرب لها منزل بين الثرى وعهدتها ... لها منزل بين الجوانح والقلب وهذا أيضاً حسن لطيف. وقال محرز بن مكعبر: لأم الأرض ويل ما أجنت ... بحيث أضر بالحسن السبيل فهذا عدل عن الدعاء لحفرته بالسقيا، إلى أن جعل لها الويل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 * ذكر شماتة الأعداء والحساد وتهديد القاتلين قال أبو تمام في بني حميد: بود أعدائهم لوأنهم قتلوا ... وأنهم صنعوا مثل الذي صنعوا فيم الشماتة إعلاناً لأسد وغى ... إفناهم الصبر إذ أبقاكم الجزع وهذا المعنى ليس باختراع لأبي تمام، وإنما أخذه من قول السموأل: يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وليس للبحتري في هذا المعنى شيء، وله يقول في أبي سعيد: وبرغم أنفي أن أراك موسدًا ... يد هالك والشامتون قيام وهذا معنى آخر حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 * ذكر من يخلف الميت بعده وينوب منابه قال أبو تمام في مرثية المعتصم: إنا غدونا واثقين بواثق ... بالله شمس الضحى وبدر تمام لله أي حياة انبعث لنا ... يوم الخميس وبعد أي حمام أودى بخير إمام اضطربت به ... شعب الرجال وقام خير إمام تلك الرزية لا رزية مثلها ... والقسم ليس كسائر الأقسام إن أصبحت هضبات قدس أزالها ... قدر فما زالت هضاب شمام ما إن رأى الأقوام شمسًا قبلها ... أفلت فلم تعقبهم بظلام وهذا - لعمري- مستوفي الحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 وقال: رأى فيهم ريش الجناح إذا مضت ... قوادم منه بشرت بقوادم وقال يرثي المعتصم ويهنيء الواثق: لناع نعى بدرًا ثوى قبر ملحد ... بدا بعده بدر أضاءت مطالعه وما مات من أبقى بعد موته ... إمامًا هدانا نهجه وشرائعه لئن بكت الدنيا لثامن ملكها ... فقد ضحكت إذ قام بالملك تاسعه وقال البحتري: لا تبعدن وكيف يقرب نازل ... بالغيب تفنى دونه الأعوام ولقد كفاك المكرمات مهذب ... يرضيك منه النقض والإبرام حزت العلا سبقاً وصلَّى ثانيًا ... ثم استوت من بعده الأقدام وقال: فقدناك فقدان الحياة وأقبلت ... تلاحظنا خزرًا إلينا القبائل ولولا ابنك المرجو فينا لأصبحت ... أعالي الربى منا وهن أسافل رددنا إليك الأمر طوعًا ولم نقل ... له في الذي يأتيه ما أنت فاعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 تخطَّى إليه الرزء من كل وجهة ... حريم ندى لا تختطيه العواذل قوله: «فقدناك فقدان الحياة» من قول أخت الوليد بن طريف: فقدناك فقدان الحياة وليتنا ... فديناك من دهمائنا بألوف وقال دعبل فأحسن كل الإحسان: وداعك مثل وداع الحياة ... وفقدك مثل افتقاد الديم عليك السلام فكم من وفاء ... نفارق منك وكم من كرم وقال: على أنه لا مرتجى كمحمد ... ولا سلف في الذاهبين كطاهر سحابا عطاء من مقيم ومقلع ... ونجما ضياء من منيف وغائر وقال البحتري يرثي قوماً من أهله ويذكر أباه: أبعد مبشر وأبي عبيد ... ومعيوف المكارم والمعالي وبعد أبي أبي العطاف أرجو ... وفاء الدهر أو عهد الليالي شيوخ بني عبيد أسلموني ... إلى ربع من الأكفاء خال ورثت سيوفهم ومضوا كرامًا ... وما نفع السيوف بلا رجال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 * ذكر صبر المقتول على القتل واختياره إياه على الفرار وتأثيره الجميل قبل أن يصاب قال أبوتمام: فتى مات بين الطعن والضرب ميتة ... تقوم مقام النصر إذ فاته النصر وما مات حتى مات مضرب سيفه ... من الضرب واعتلت عليه القنا السمر وقد كان فوت الموت سهلاً فرده ... إليه الحفاظ المر والخلق الوعر ونفس تعاف العار حتى كأنما ... هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر فأثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها من دون أخمصك الحشر وهذا غاية في حسنه وحلاوته وإنما أخذه من قول عبد يغوث: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 ولو شئت نجتني من الخيل نهدة ... ترى خلفها الحو الجياد تواليا ولكنني أحمي ذمار أبيكم ... وكان الرماح يختطفن المحاميا وقالت أم الصريح الكندية: ولو أنهم فروا لكانوا أعزة ... ولكن رأوا صبرا على الموت أكرما وأبيات أبي تمام أجود، وكذا سبيل المتأخر إذا أخذ المعنى. وقال: فتى كان شربًا للعفاة ومرتعا ... فأصبح للهندية البيض مرتعا فتى كلما ازداد الشجاع من الردى ... مفرًا غداة المأزق ارتاد مصرعا إذا ساء يوم في الكريهة منظرًا ... تصلاه علماً أن سيحسن مسمعا وما كنت إلا السيف لاقى ضريبة ... فقطعها ثم انثنى فتقطعا وهذا البيت ليحيى بن زياد الحارثي، وهو أنشده في الحماسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 ومثله قول البعيث: وإنا لنعطي المشرفية حقها ... فتقطع في أيماننا وتقطع وقال بن هرمة: أوفى به الدهر من أحداثه شرفًا ... والسيف يمضي مرارًا ثم ينقصد وقال: ولي الحماة فأضحى عند سورته ... مع الحفيظة كالمشدود في قرن حنَّ إلى الموت حتى ظن جاهله ... بأنه حن مشتاقاً إلى وطن رأى المنايا حبالات النفوس فلم ... يسكن سوى الميتة العليا إلى سكن لو لم يمت بين أطراف الرماح إذًا ... لمات إذ لم يمت من شدة الحزن وقال: ينتجعون المنايا في منابتها ... ولم تكن قبلهم في الدهر تنتجع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 كأنما بهم من حبها شره ... إذا هم انغمسوا في الروع أو جشعوا وقال البحتري: رأى الموت رأي العين لا ستر دونه ... وما موت شك مثل موت يقين وقيل انج من ظلمائها فأبت به ... سجية شكس في اللقاء حرون ولما استخفوا للنجاة أبت له ... جوانب ثبت للسيوف ركين وقى كتفيه والرماح شوارع ... بثغرة نحر واضح وجبين وقال في بني حميد: ولما رأو بعض الحياة مذلة ... عليهم وعز الموت غير محرم أبوا أن يذوقوا العيش والذم واقع ... عليهم وماتوا ميتة لم تذمم حتوف أصابتها الحتوف وأسهم ... من الموت كر الموت فيها بأسهم ولو أنصفت نبهان ما طلبت بهم ... سوى المجد إن المجد خطه مغرم دعاها الردى بعد الردى فتتابعت ... تتابع منبت الفريد المنظم قوله: «ما طلبت بهم سوى المجد» معنى حلو جدًا، أي لولا طلب المجد والمحافظة عليه، ماصبروا للقتل ولنجوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 وقوله: «تتابع منبت الفريد المنظم» حلو أيضاً حسن. وقوله: «حتوف أصابتها الحتوف» محذو على قول يحي بن زياد الذي ذكرته، أو قول أبي قابوس النصراني: وما أبصرت قبلك يا ابن يحيى ... حساماً فله السيف الحسام وأحسن من هذا كله قول ليلى الأخيلية: إن يقتلوك فقد قتلت سراتهم ... والليث أكرم مايكون قتيلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 * ذكر تحقيق القاتل وتهوين أمره وتعظيم أمر المقتول وتهديد القاتل قال أبوتمام: من لم يعاين أبا نصر وقاتله ... فما رأى ضبعًا في شدقها سبع أخذ هذا المعنى على ما حكى ابن المنجِّم، من قول طريح الثقفي: فلله عيناً من رأى قط حادثاً ... كفرس الكلاب الأسد يوم المشلَّل وقال عبد الرحمن بن الحكم في قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد الأشدق: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 كأن بني مروان إذ يقتلونه ... بغاث من الطير اجتمعن على صقر وقال البحتري: ولا عجب للأسد إن ظفرت بها ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم فحربة وحشيٍّ سقت حمزة الردى ... وموت علي من حسام ابن ملجم وقال: فيا ويح الحوادث كيف تعطي ... شقيَّ القوم من حظ السعيد وكيف تجور إذ همت بحكم ... فتحمل للغوي على الرشيد وما برحت صروف الدهر حتى ... أرتنا الأسد قتلى للقرود وما عندي أنَّ أحدًا من هؤلاء أخذ من آخر، لأنه من المعاني المشتركة الجارية في عادات الناس. وقال الحارث بن النمر التنوخي: وقد تنقل الأيام حالات أهلها ... فتعدوا على أسد الرجال الثعالب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 * ذكر تأسف من لم يشهد المقتول فيحميه أو يموت دونه قال البحتري في يوسف بن محمد بن يوسف: خلا أملي من يوسف بن محمد ... وأوحش فكري بعده وظنوني وكان يدي شلت ونفسي تخونت ... ودنياي بانت يوم بان وديني فوا أسفي ألا أكون شهدته ... فجاست شمالي عنده ويميني وألا لقيت الموت أحمر دونه ... كما كان يلقى الموت أحمر دوني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 * مراثي الصغار قال أبو تمام في ابني عبد الله بن طاهر: لله أية لوعة ظلنا بها ... تركت بكيات العيون هواملا مجد تأوب طارقاً حتى إذا ... قلنا أقام الدهر أصبح آفلا نجمان شاء الله ألا يطلعا ... إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا إن الفجيعة بالرياض نواضرًا ... لأجل منها بالرياض ذوابلا لو ينشآن لكان هذا غارباً ... للمكرمات وكان هذا كاهلا لهفاً على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تكون شمائلا لغدا سكونهما حجًى وضياهما ... كرماً وتلك الأريحية نائلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 ولأعقب النجم المرذ بديمة ... ولعاد ذاك الطل جودًا وابلا إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيكون بدرًا كاملا وهذا ما لا شيء أحسن منه، ولا ألطف ولا أبرع لفظاً ومعنى. قوله: أمهلت حتى تكون شمائلا أخذه من قول الفرزدق في امرأة له توفيت حاملا: وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث إليه البواكيا وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو أن المنايا أنسأته لياليا وقال أبو تمام: يا شهاباً خبا لآل عبيد اللـ ... ـه أعزز بفقده من شهاب زهرة غضة تفتح عنه الـ ... ـمجد في منبت أنيق الجناب خلق كالمدام أو كرضاب الـ ... ـمسك أو كالعبير أو كالملاب أنزلته الأيام عن ظهرها من ... بعد إثبات رجله في الركاب البيت الثاني في غاية الحسن والحلاوة، وهذا الأخير في غاية الرداءة والسخافة. وتأتي بعد هذا جهالات وحماقات منها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 فهو غض الإباء والرأي غض الـ ... ـحزم غض النوال غض الشباب وحسبك بهذا رقاعة ورعونة وسخفا. وقال: حين ارتوى الماء وافترت شبيبته ... عن مضحك للمعالي ثغره برد فجعل للمعالي ثغرًا، وجعله بردًا. وقال البحتري يرثي غلامًا صغيرًا لابن بسطام مغنياً: يقولون لم يكبر فيشتد حزنه ... وكان الهوى يحلى لأصغر أصغر وأعتد إبهامي أشد أصابعي ... ولم يتحمل خاتمي مثل خنصري رثى هذا الغلام كما يليق بالغلمان، لا كما يرثي أولاد السادة، يقول فيها: يشيد بحاجات النفوس إذا اعتزى ... إلى ابن سريج أو حكى ابن محرر لنعم شريك الكأس في لب ذي الحجى ... إذا استهلكته بين ناي ومزهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 ومغتال طول الليل حتى يقيمنا ... على ساطع من طرة الفجر أحمر غرير متى تخلط به النفس تبتهج ... له ومتى يقرن به العيش يقصر إذا ما تراءته العيون تحدثت ... بكل مسر من هواها ومضمر أسيت لمولاه على حسن مسمع ... خليق بشغل السامعين ومنظر مضيء تظل العين تصبغ خده ... متى تثن فيه نظرة يتعصفر كأن النجوم الزهر أدته خالصًا ... لزهرة صبح قد تعلت ومشتري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 * الذكر للميت وطيب الأحاديث بعده قال أبو تمام: فتى ينفح الأقوام من طيب ذكره ... ثناء كأن العنبر الورد شامله وقال: إلا تكن صدرت عن منظر حسن ... منه فقد صدرت عن مسمع حسن وقال: وقمنا فقلنا بعد ما أودع الثرى ... له ما يقال في السحابة تقلع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 * ذكر الحجاب والشفاعة والاستبطاء والتنجز وقال بشار: تعطي العزيرة درها فإذا أبت ... كانت ملامتها على الحلاب يقول: أنت من المهدي بمنزلة الحالب من الناقة الغزيرة، التي إذا لم يوصل إلى درها فليس ذلك من قبلها، وإنما هو من منع الحالب منها. وقال أبو تمام وذكر الحجاب: ومحجب حاولته فوجدته ... نجماً عن الركب العفاة شسوعا لما عدمت نواله أعدمته ... شعري فرحنا معدمين جميعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 وهذا غاية في حسنه وصحته وهو من مشهور إحسانه. وقال البحتري في قريب من هذا المعنى: ومؤمر صارعته عن عرفه ... فوجدت قدس معمماً بعمائه جدة يذود البخل عن أطرافها ... كالبحر يدفع ملحه عن مائه أعطى القليل وذاك مبلغ قدره ... ثم استرد فذاك مبلغ رائه خطب المديح فقلت خل طريقه ... ليجوز عنك فلست من أكفائه وقال أبو تمام: صبرًا على المطل ما لم يتله الكذب ... فللخطوب إذا سامحتها نوب يأيها الملك النائي برؤيته ... وجوده لمراعي جوده كثب ليس الحجاب بمقص عنك لي أملاً ... إن السماء ترجى حين تحتجب هذا معنى عابه به أبو العباس المبرد على ما حكاه عنه الفزاري، وقال: الذي يرجى هو الحجاب نفسه، وإنما أخذ هذا من قول مسلم بن الوليد: كذلك الغيث يرجى في تحجبه ... حتى يرى مسبلاً عن وابل المطر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 وقول أبي تمام أقرب إلى الصحة من قول مسلم، وقد ذكرت ما في البيتين جميعاً في باب سرقات أبي تمام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 وقال البحتري في هذا المعنى: عجباً منه ما انطوى سيبه عنـ ... ـا بعوق أني طواه حجابه لم يكن نيله الجزيل وقد رمـ ... ـناه صعباً فكيف يصعب بابه خاب من خاب عن طلاقة بشر ... ضوأ الحادث المضب شهابه وأحسن ما قيل في رفع الحجاب قول الفرزدق: ولو شاء بشر كان من دون بابه ... طماطم سود أو صقالبة حمر ولكن بشرًا سهل الإذن للتي ... يكون لبشر عندها الحمد والشكر يرى بارزًا للناس بشر كأنه ... إذا راح في أثوابه القمر البدر وقال أبو تمام: ولي همة تمضي العصور وإنها ... كعهدك من أيام مصر لحامل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 ولو حاردت شول عذرت لقاحها ... ولكن حرمت الدر والضرع حافل وقال منقذ بن هلال في غير هذا المعنى: علام أرى من مرور الغيو ... ث حولي وأحرم أمطارها وقال البحتري: وما منع الفتح بن خاقان نيله ... ولكنها الأقدار تعطي وتحرم سحاب خطاني جوده وهو مسبل ... وبحر عداني فيضه وهو مفعم وبدر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً ... وموضع رجلي منه أسود مظلم! أأشكو نداه بعدما وسع الورى ... ومن ذا يذم الغيث إلا مذمم! وقال آخر: وما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له خلق من الناس عاذر وقال أبو تمام يستشفع: كيف الشكاية للزمان وصرفه ... وندى الأمير وأنت من أيامه هذا سحاب أنت سقت ثقاله ... وعليك بعد الله صوب غمامه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 إن ابتداء العرف مجد باسق ... والمجد كل المجد في استتمامه هذا الهلال يروق أبصار الورى ... حسناً وليس كحسنه لتمامه وقال: بأي نجوم وجهك يستضاء ... أبا حسن وشيمتك الإباء؟ أتترك حاجتي عرض التواني ... وأنت الدلو فيها والرشاء؟! تألف آل إدريس بن بدر ... فتسبيب العطاء هو العطاء وهذا معنى حسن ثم أفسده بقوله: وخذهم بالرقى إن المهاري ... يهيجها على السير الحداء فإما جاد مني الشعر فيهم ... وإما جاد منك الكيمياء «الكيمياء» في هذا الموضع ليس يقبح كقبحه في قوله: كيمياء السؤدد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 وقال البحتري في المهتدى وابنه العباس: وإني أرتجيك وأرتجيه ... لديك لنائل بك مستفاد وأقرب ما يكون النجح يوماً ... إذا شفع الوجيه إلى الجواد وهذا إحسان أبي عبادة الذي يتمثل به. وقال: أبا عيسى وأنت المرء يعلو ... له النفس الشريفة والقبيل وفرتك لا هوى لك في وفور ... إذا ما كان من حق نزول ولكن جاه ذي خطر شريف ... أراه وهو من حق بديل إذا ما القول عاد لنا بطول ... فقبض من فعالك ما تقول وقال: خطبنا إليه قوله غب فعله ... ومن يفعل المعروف فهو يقول وما عائد من جاهه بعد جوده ... بمبعده من أن ينال جزيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 أراني حقيقاً أن أؤول إلى الغنى ... إذا كانت الشورى إليك تؤول وهذا كله جيد بالغ. ولهما في «كتاب الجود والكرم» باب أفردته في الشفاعة، ولكن ذاك وصف لما كان من شفاعة الجواد، وهذا سؤال للجواد أن يشفع. وقال البحتري وذكر الشفاعة في وجه آخر: أبعد إعطائك الجزيل وإيـ ... ـمان مرج من سوء منقلبه أبغي شفيعاً إليك أو سبباً ... عندك في الناس أستزيدك به؟ والظلم أن يبتغي الفتى سبباً ... يجعله وصلة إلى سببه! ولأبي تمام في الاستبطاء والتنجز أشياء رديئة قبيحة منها قوله: أبا بشر قد استفتحت أمرًا ... وقد أتممته إلا قليلا فأصبح وهو جبار وعهدي ... به مذ أشهر يدعى فسيلا ومنها قوله: قد لان أكثر ما أريد وبعضه ... خشن وإني بالنجاح لواثق في الروض قراض وفي سيل الربى ... كدر وفي بعض الغيوث صواعق وغير هذا من السخف الذي لم أكتبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 وقال أبو تمام: إذا ما الحاجة انبعثت يداها ... جعلت المنع منك لها عقالا وأين قصائد لي فيك تأبى ... وتأنف أن أهان وأن أذالا؟ من السحر الحلال لمجتنيه ... ولم أر قبلها سحرًا حلالا فالبيت الأول جيد، والثاني رديء، ومعنى الثالث متداول على الأفواه وجار في العادات. وقال البحتري يخاطب الحسن بن مخلد: أمطلقي من يد السيبي أنت فقد ... كلت لديه ركاب الطالب الطلح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 * العتاب والوعيد والتهدد والذم المجمل والهجاء * العتاب قال أبو تمام في محمد بن عبد الملك الزيات: سأقطع أمطاء المطايا برحلة ... إلى الوطن الغربي هجرًا وموصلا إلى الرحم الدنيا التي قد أجفها ... عقوقي عست أسبابها أن تبللا قبيل وأهل لم ألاق مشوقهم ... لوشك النوى إلا فواقاً كلا ولا كأنهم كانوا لخفة وقعتي ... معارف لي أو منزلاً كان منزلا وأصرف وجهي عن بلاد غدا بها ... لساني معقولًا وقلبي مقفلا وجد بها قوم سواي فصادفوا ... بها الصنع أعشى والزمان مغفلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 كلاب أغارت في فريسة ضيغم ... طروقاً وهام أطعمت صيد أجدلا وإن صريح الحزم والرأي لامريء ... إذا بلغته الشمس أن يتحولا لعمري لئن أوجدتني في تقلبي ... مآلاً لقد أفقدتني منك موئلا وإن عفت أمرًا مدبر الوجه إنني ... لأترك حظاً في فنائك مقبلا وإن كنت أخطو ساحة المحل إنني ... لأترك روضاً من جداك وجدولا فمرني بأمر أحوذي فإنني ... رأيت العدا أثروا وأصبحت مرملا فسيان عندي صادفوا لي مطمعاً ... أعاب به أو صادفوا لي مقتلا ووالله لا أنفك أهدى شواردًا ... إليك يحملن الثناء المنخلا تخال به بردًا عليك محبرًا ... وتحبسه عقدًا عليك مفصلا ألذ من الشكوى وأطيب نفحة ... من المسك مفتوقًا وأيسر محملا أخف على قلب وأثقل قيمة ... وأقصر في سمع الجليس وأطولا ويزهى له قوم ولم يمدحوا به ... إذا مثل الراوي به أو تمثلا على أن إفراط الحياء استمالني ... إليهم ولم أعدل بعرضي معدلا فثقلت بالتخفيف عنك وبعضهم ... يخفف في الحاجات حتى يثقلا وهذه قصيدته المشهور إحسانه فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 قوله: «وإن عفت أمراً مدبر الوجه»، هو من العيافة والزجر، كما يخرج العائف في طلب الرزق فيتعفف الطير ويزجر، وربما صادف خيرًا في وجهه، وربما أخفق، وللعرب في هذا مذاهب مأثورة. ومنه قول الأعشى: ما يعيف اليوم في الطير الروح أي: الرائحة، يقال: رائح وروح، مثل: غائب وغيب. وقوله: «فواقًا كلا ولا» أي: الاستراحة بهذا المقدار، قول القائل: «لا لا». وفي التنزيل: «مالها من فواق» قيل: من استراحة وهذا من أبي تمام عذب حسن، استعمل فيه حسن الأدب. والجيد الحسن الحلو لفظًا ومعنى قول الآخر: قد يبلغ المشتاق موضع شوقه ... سرى البحتريات البعيد كلالها تركت سواد الشك وانحزت طالبًا ... بياض الثريا حيث مال ذبالها وقال أبو تمام يعاتب على التعبيس والقطوب: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 عجبًا لعمري أن وجهك معرض ... عني وأنت بوجه ودك مقبل؟! بر بدأت به ودار بابها ... للخلق مفتوح ووجه مقفل أو لا ترى أن الطلاقة جنة ... من سوء ما تجني الظنون ومعقل؟! حلي الصنيعة أن يكون لربها ... لفظ له زجل وطرف قلقل ومودة مطوية منشورة ... فيها إلى إنجاحها متعلل إن تعط وجهًا كاسفًا من تحته ... كرم وطيب خليقة ما تدخل فلرب سارية عليك مطيرة ... قد جاء عارضها وما يتهلل وهذا تمثيل في غاية الحسن والصحة، والأبيات كلها جياد. قوله: «مطوية» أي: مصونة محفوظة، و «منشورة»: مطهرة مبذولة «فيها إلى إنجاح الصنيعة متعلل». وقوله: «ما تدخل» لفظة غير جيدة ها هنا كأنه أراد ما يدخل عليها ما يفسدها. وقال في نحوه: ليس يدري إلا اللطيف الخبير ... أي شئ يطوى عليه الضمير! ويقولون إنك المرء بالغيـ ... ـب محام على الصديق نصور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 وإذا جئت زائرًا حجبت وجـ ... ـهك عني كآبة وبسور فتطلق من العناية إن الـ ... ـبشر في أكثر الأمور بشير إنما البشر روضة فإذا كا ... ن وبر فروضة وغدير فاقسم اللحظ بيننا إن في اللحـ ... ـظ لعنوان ما تجن الضمير! وله أشياء رديئة لم أكتبها. وقال البحتري: على أي أمر مشكل أتلوم ... أقيم فأثوي أو أهم فأعزم؟ ولو أنصفتني سر من راء لم أكن ... إلى العيس من إيطانها أتظلم لقد خاب فيها ناطق وهو جاهد ... وأعطي منها وادع وهو مفحم فلو وصلتني بالإمام ذريعة ... درى الناس أي الطالبين يحكم أعاتب إخواني ولست ألومهم ... مكافحة إن اللئيم الملوم وكنت أرجي والرجاء وسيلة ... علي بن يحيى للتي هي أعظم مشاكلة الآداب تصرف ناظري ... إليه وود بيننا متقدم وهزته للمجد حتى كأنما ... تثنى به الخطي فيها المقوم أبا حسن ما كان عدلك دونهم ... لواحدة إلا لأنك تفهم وما أنت بالثاني عناناً عن العلا ... ولا أنا بالخل الذي يتجرم خلا أن بابًا ربما التاث دونه ... ووجهاً طليقاً ربما يتجهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 وإني لنكس إن ثقلت عن العلا ... وكنت خفيف الشخص إذ أنا معدم سأحمل نفسي عنك حمل مجامل ... وأكرمها إن كانت النفس تكرم وأبعد حتى تعرض الأرض بيننا ... ويمسي التلاقي وهو غيب مرجم عليك السلام أقصر الوصل فانطوى ... وأجمع توديعاً أخوك المسلم وإلا تساعدني الليالي فربما ... تأخر في الحظ الرئيس المقدم وما منع الفتح بن خاقان نيله ... ولكنها الأقدار تعطي وتحرم سحاب خطاني جوده وهو مسبل ... وبحر عداني فيضه وهو مفعم وبدر أضاء الأرض شرقاً ومغرباً ... وموضع رجلي منه أسود مظلم أأشكوا نداه بعدما وسع الورى؟ ... ومن ذا يذم الغيث إلا مذمم! وهذا من إحسان أبي عبادة المشهور. وقال: رأيت خير الأيام قل فعنـ ... ـد الله أخرى الأيام نحتسبه واستؤنف الظلم في الصديق فهل ... حر يبيع الإنصاف أو يهبه عندي ممض من الهناء إذا ... عريض قوم أحكه جربه ولي من اثنين واحد أبدًا ... عرض عزيز الرجال أو سلبه وخير ما اخترت أو تخير لي ... رضا شريف يسوءني غضبه وصاحب ذاهب بخلته ... ولي بها وانثنيت أطلبه يرصد لي إن وصلته ملل الـ ... ـجافي وأشتاق حين أجتنبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 فلست أدري أبعد شقته ... أشق رزءًا علي أم صقبه تاركته ناصرًا هواه على ... هواي فيه حتى انقضى أربه هجر أخي لوعة يرى جلدًا ... وهو مريض الحشا لها وصبه فاضل بين الأخوان عسري وعن ... ظلماء ليل تفاضلت شهبه وعدتي للهموم إن طرقت ... توخيد هذا المطي أو خببه ساقت بنا نكبة مذممة ... فينا ودهر رخيصة نوبه فهل لضيف العراق من صفد ... عندعميد العراق يرتقبه ومستسرين في الخمول بلو ... ناهم فذم الحرام مكتسبه كانوا كشوك القتاد يسخط را ... عيه ويأبى رضاه محتطبه لا أحفل المرء أو تقدمه ... شتى خصال أشفها أدبه ولست أعتد للفتى حسباً ... حتى يرى في فعاله حسبه وقال: دعاني إلى قول الخنا واستماعه ... أبو نهشل بعد القرابة والحلف وأخطرني للشامتين ولم أكن ... لأشتم إلا بالتكذيب والقرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 فلا ثلموا مجدي ولا فتلوا يدي ... ولا ضعضعوا ركني ولا زعزعوا كهفي وهل هضبات ابنى شمام بوارح ... إذا عصفت هوج الجنائب بالعصف رجعت إلى حلمي وإن شئتُ شردت ... نوافذ تمضي في الدلاصية الزغف ولما تنادينا فررتُ من الخنا ... بأشياخ صدق لم يفروا من الزحف جمعت قوى عزمي ووجهتُ همَّتي ... فسرت ومثلي سار عن خطة الخسف وإني مليء إن ثنيت ركائبي ... بديمومة تسفي بها الريح ما تسفي تركتك للقوم الذين تركتني ... لهم وسلا الإلف المشوق عن الإلف وقال: يراقب صول الوغد حين يهزه اقـ ... ـتدار وصول الحر حين يضام وأعلم ما كل الرجال مشيع ... ولا كل أسياف الرجال حسام أدين بألا تستحل أمانة ... لحر وألا يستباح ذمام وأترك عرض المرء لو شئت كان لي ... وللذم فيه مسرح ومسام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 وكيف أذود الخسف عمن تطوله ... يدي وأسام الخسف حيث أسام؟ فتالله أرضى في العراق إقامة ... وفي الأرض للسفر المغذ شآم شذاتي من نحو الصديق كليلة الـ ... ـمُدى وزياراتي الصديق لمام ولست بغاشي القوم إلا ذؤابة ... ولا بابهم إلا عليه زحام أي: لا أغشى إلا أبواب الملوك الأشراف. وقال: هل ابن حمدون مردود إلى كرمٍ ... عهدته مرة عند ابن حمدون أخ شكرت له نعمى أخي ثقة ... زكت لديَّ ومنا غير ممنون طاف الوشاة به بعدي وغيَّره ... معاشر كلهم بالسوء يعنيني أصبحت أرفعه حمدًا ويخفضني ... ذماً وأمدحه طورًا ويهجوني وكاد محتفلًا بالسوء يهدمني ... وكان من قبل بالإحسان يبنيني تدعو اللئام إلى شتمي ومنقصتي ... بئس الحباه على مدحيك تحبوني! أين الوداد الذي قد كنت تمنحني ... أين الصفاء الذي قد كنت تصفيني؟ إن كان ذنب فأهل الصفح أنت وإن ... لم آت ذنبًا ففيم الذم يعروني؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 بني زراراء ما أزرى بكم حسب ... دونٌ وما الحسب العادي بالدون تلك الجماجم تنميكم أوائلها ... إلى الذوائب منها والعرانين فخر الدهاقين مأثور وجدكم ... من قبل دهقن أبناء الدهاقين إني أعدكم رهطي وأجعلكم ... أحقَّ بالصون من عرضي ومن ديني وقال: قد قلت لابن الشلمغان وقد بدا ... من ظلمه لي ما أمض وأرمضا ما زال لي من عزمتي وصريمتي ... سند يثبت وطأتي أن تدحضا لا تنكرن من جار بيتك إن طوى ... أطناب جانب بيته أو قوضا فالأرض واسعة لنقله راغب ... عمن تنقل وده وتنقضا لا تهتبل إغضائتي إذ كنت قد ... أغضيت مشتملًا على جمر الغضا لست الذي إن عارضته ملمة ... ألقى إلى حكم الزمان وفوضا لا يستفزني الطفيف ولا أرى ... تبعًا لبارق خلَّب إن أومضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 وقال في الفتح بن خاقان: فديناك من أي خطب عرا ... ونائبة أوشكت أن تنوبا وإن كان رأيك قد حال فيَّ ... فلقيتني بعد بشر قطوبا وخيبت آمالي النازعا ... ت إليك وما حقها أن تخيبا يَريني الشيء تأتي به ... وأكبر قدرك أن أستريبا وأكره أن أتمادى على ... سبيل اغترار فألقى شعوبا أكذب ظني بأن قد سخطـ ... ـت وما كنت أعهد ظني كذوبا ولو لم تكن ساخطاً لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا ولا بد من لومة أنتحي ... عليك بها مخطئاً أو مصيبا أيصبح وردي في ساحتيـ ... ـك طرقاً ومرعاي محلًا جديبا أبيع الأحبة بيع السوام ... وآسى عليهم حبيباً حبيبا ففي كل يوم لنا موقف ... يشقق فيه الوداع الجيوبا وما كان سخطك إلا الفراق ... أفاض العيون وأشجى القلوبا ولو كنت أعرف ذنبًا لما ... تخالجني الشك في أن أتوبا سأصبر حتى ألاقي رضا ... ك إما بعيدًا وإما قريبا أراقب رأيك حتى يصح ... وأنظر عطفك حتى يثوبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 وقال في أبي الفضل الحسن بن سهل: فداؤك نفسي دون أهلي ومعشري ... ومبداي من علو الشآم ومحضري فكم شعب جود يصغر البحر عنده ... توردته من سيبك المتفجر! وكم أمل في ساحتيك غرسته ... فمن مورق زاكي النبات ومثمر! فلا يهنيء الواشين إفساد بيننا ... بأسهمهم من بالغ ومقصر تقدمت في الهجران حتى تأخرت ... حظوظي في الإحسان كل التأخر ولولاك ما رمت القطيعة بعدما ... وقفت عليها وقفة المتحير لأسمعتني في ظلمة الهجر دعوة ... سرت بي على وقت من العفو مقمر أتيت بمعروف من الصفح بعدما ... أتيت بمذموم من الغدر منكر وكنت إذا استبطأت ودك زرته ... بتفويف شعر كالرداء المحبر عتاب بأطراف القوافي كأنه ... طعان بأطراف القنا المتكسر فأجلو به وجه الإخاء وأجتلي ... حياء كصبغ الأرجوان المعصفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 قوله: «ولولاك ما رمت القطيعة»، أي: كنت سبب قطيعتي لك، لأنك رددت الغلام علي فشغلت به عنك، فتأخرت حظوظي منك، وشرح هذا المعنى في باقي القصيدة. وقال في إبراهيم بن حسن بن سهل: أإبراهيم دعوة مستعيد ... لرأي منك محمود فقيد تجلى بشرك الأمسي عنا ... تجلى جانب الظل المديد وفي عينيك ترجمة أراها ... تدل على الضغائن والحقود وأخلاق عهدت اللين منها ... غدت وكأنها زبر الحديد وأظلم بيننا ما كان أضوا ... على اللحظات من فلق العمود أميل إليك عن ود قريب ... فتبعدني على النسب البعيد فما ذنبي بأن كان ابن عمي ... سواك وكان عودك غير عودي! لئن بعدت عراقك عن شآمي ... كما بعدت جدودك عن جدودي فلم نيتي عنك اختيارًا ... وكان الله أولى بالعبيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 ويصنع في معاندتي لقوم ... وبعض الصنع من سبب بعيد أما استحييت من مدح سوار ... بوصفك في التهائم والنجود؟! تود بأنها لك فيَّ عجبًا ... بجوهرها المفصل في النشيد بنت لك معقلًا في الشعر ثبتًا ... وأبقت منك ذكرًا في القصيد وتبدهني إذا ما الكاس دارت ... بنزقات تجيء على البريد عرابد تطرق الجلساء منها ... علي كأنها خطب الوفود ومعترضين إن عظمت أمرًا ... بهم شهدوا عليَّ وهم شهودي ومالي قوة تنهاك عني ... ولا آوي إلى ركن شديد سوى شعل يخاف الحر منها ... لهيبًا غير مرجو الخمود ولو أني أشاء وأنت تربي ... عليَّ لثرت ثورة مستفيد ظلمت أخًا لو التمس انتصارًا ... غزاك من القوافي في جنود وقد عاقدتني بخلاف هذا ... وقال الله أوفوا بالعقود أتوب إليك من ثقة بحر ... طريف في الأخوة أو تليد وأشكر نعمة لك باطلاعي ... على أن الوفاء اليوم مود سأرحل عاتبًا ويكون رحلي ... على غير التهدد والوعيد وأحفظ منك ماضيعت مني ... على رغم المكاشح والحسود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 رأيت الحزم في صدر سريع ... إذا استوبأت عاقبة الورود وكنت إذا الصديق رأى وصالي ... مناجزة رجعت إلى الصدود وقال لما ارتجع إقطاعه: أمرتجع مني حباء خلائف ... توليت تسيير المديح لهم وحدي؟! ولم يشتهر إلا الذي قلت فيهم ... وإن رفدوا قومًا وزادوا على الرفد فإن أخذ الإيغار أخذ صريمة ... ودارت على الإقطاع دائرة الرد ولم يغن توكيد السجلات والذي ... تناصر فيها من ضمان ومن عقد فردوا القوافي السائرات التي خلت ... وما كسبتكم من سناء ومن حمد وشرخ شباب قد نضوت جديده ... إليكم كما ينضو الفتى سمل البرد وما أنا والتقسيط إذ تكتبونني ... ويكتب قبلي جلة القوم أو بعدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 سبيلي أن أعطي الذي تطلبونه ... وحكمي أن يجدى علي ولا أجدي صحبت رجالًا أطلب المال عندهم ... فكيف يكون المال يطلب من عندي! وقال: أتغضب أن تعاتب بالقوافي ... وفيها المجد والشرف الحسيب؟ وكم من آمل هجوى ليحظى ... بذكرٍ منه يصعد أو يصوب؟! فكيف بسير متنخلات ... تجوب من الفيافي ما تجوب ينافس سامع فيها أباه ... إذا جعلت بسؤدده تهيب بلغن الأرض لم يلغبن فيها ... وبعض الشعر يدركه اللغوب فإلا تحسب الحسنات منها ... لصاحبها فلا تحص الذنوب أتوب من الإساءة إن ألمت ... وأعرف من يسيء فلا يتوب وقال يعاتب الحسن بن وهب: إسمع مديحي في كعب وما وصلت ... كعب فثم ثناء ماله ثمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 حق من الشعر ملوي بواجبه ... فلا سليمان يقضيه ولا الحسن أأعجزتكم مكافاتي به ولكم ... مصر فما خلفها فالسند فاليمن؟ أللخلافة أستبقي الرجاء فلن ... يعطى الخلافة نجران ولا عدن هل في مسامعكم عن دعوتي صمم ... أم في نواظركم عن خلتي وسن؟ إن أرمكم تك من بعضي لكم شعل ... تهوي إليكم ومن بعضي لكم جنن أو أجر في الحلبة الأولى بلا صفد ... تولونه فهو الخسران والغبن لأغمدن لساني جانبًا أبدًا ... عن تين فيكم فلا سوء ولا حسن وحسبنا الله لا تقذي عيونكم ... روح يمانية أنتم لها بدن رددت نفسي على نفسي وقلت لها ... بنو أبيك فما الأحقاد والإحن؟ وهذا عتاب لا شيء أليق منه ولا أحسن. وقال: وكيف أنظر مختارًا إلى بلد ... يكون يأسي أعلى فيه من أملي؟ جاء الولي فبل الأرض ريِّقه ... وغلتي منك ما أفضت إلى بلل وقد سألت فما أعطيت مرغبة ... وكان حقي أن أعطى ولم أسل أرمي بظني فلا أعدو به خطأ ... فأعجب لأخطاء رام من بني ثعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 يريد قول امريء القيس: «رب رام من بني ثعل» وكانوا رماة. وقال في أبي نهشل بن حميد: أبا نهشل للحادث النكر إن عرا ... وللدهر ذي الخطب المبرح والصرف كرمت فما دررت نيلك عندنا ... بمن ولا خلفت وعدك بالخلف وما الهجر مني عن قلى غير أنها ... مجاراة أوغاد نفضت بها كفي فلم صرت في جدواك أسوة واحد ... وقد نبت في تفويف مدحك عن ألف؟ وإني لأستبقي ودادك للتي ... تلم وأرضى منك دون الذي يكفي وأسالك النصف احتجازًا وربما ... أبيت فلم أسمح لغيرك بالنصف وكم لك عندي من يد صامتية ... يقل لها شكري ويعيا بها وصفي فلا تجعل المعروف رقاً فإننا ... خلقنا نجوماً ليس يملكن بالعرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 * الوعد والتهدد قال البحتري: مالي يخوفني من ليس يعرفني ... بالناس والناس أحرى أن يخافوني إذا عقدت على قوم مشنعة ... فليكثروا القول في عيبي وتهجيني وقد برئت إلى العريض من فكر ... مبيرة ولسان غير مضمون ولست منبريًا بالجهل أجعله ... صناعة ما وجدت الحلم يكفيني إني وإن كنت مرهوبًا لعادية ... أرمي عدوي بها في الفرط والحين لذو وفاء لأهل الود مدخر ... عندي وغيب على الإخوان مأمون وقال: قعقعت للبخلاء أذعر جأشهم ... ونذيرة من نابل أن ينبضا وكفاك من حنش الصريم تهددا ... إن مد فضل لسانه أو نضنضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 وقال: أروم انتصارًا ثم يثني عزيمتي ... تقاي التي تعتاقني وتحرجي هما حجزا شغبي وكفَّا شكيمتي ... ولم أتوعر في وسيقة منهج ولم أسر في أعراض قوم أعزة ... سرى النار شبت في ألاء وعرفج وقد يُتقي قتل الحليم إذا رأى ... ضرورة مدلول على القتل محرج تهضمني من لو أشاء اهتضامه ... لأدركه تحت الخمول تولجي ومن عادتي والعجز من غير عادتي ... متى لا أرح من حضرة الذل أدلج وقال: ومن العجائب تهمتي لك بعدما ... كنت الصفي لديَّ والخلصانا وتوقعي منك الإساءة جاهدًا ... والعدل أن أتوقع الإحسانا وكما يسرك لين مسي راضيًا ... فكذاك فاخش خشونتي غضبانا وقال في الحارثي: أخاعلة سار الإخاء فأوضعا ... وأوشك باقي الود أن يتقطعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 بدأت وبادي الظلم أظلم فانتحى ... بك القول شأوًا رد منك وأسرعا وما أنا بالظمآن منك إلى التي ... أرى بين قطريها لجنبك مصرعا أغار على ما بيننا أن يناله ... لسان عدو لم يجد منك مطمعا وآنف للديان أن ترتمي به ... غضاب قوافي الشعر خمساً وأربعا وكم حفرة في غور نجران أشفقت ... ضلوعي على أصدائها أن تروعا ملكت عنان الهجر أن يبلغ المدى ... ونهنهت قول الهجر أن يتسرعا فإن تدعني للشر أسرع وإن تهب ... بصلحي فقد أبقيت للصلح موضعا وقال: مالي أرى القوم لا يخشون عاديتي ... وقد أشاد بها صبحي وإظلامي يتلو عقوقي عقوق الوالدين غدا ... عزًا ويكرم عرض الحر إ كرامي أما العداة فقد آلو على صغر ... وهم طرائد تسييري وإحكامي ولو هدوا لصواب الرأي أقنعهم ... من وابلي في غداة الشر إرهامي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 وقال: يود العدى أني سلكت سبيلهم ... وأين بناء المعليات من الهدم؟ وهل يمكن الأعداء وضع فضيلة ... وقد رفعت للناظرين مع النجم؟ وقال في إسماعيل بن شهاب: هل للندى عدل فيغدو منصفًا ... من فعل إسماعيله بن شهابه العارض الثجاج في أخلاقه ... والروضة الزهراء في آدابه أزرى به من غدوة بصديقه ... وعقوقه لأخيه ما أزرى به في كل يوم وقفة بفنائه ... تخزي الشريف وردة عن بابه إسمع لغضبان تثبت ساعة ... فبذاك قبل هجائه بعتابه تالله يسهر في مديحك ليلة ... متململًا وتنام دون ثوابه يقظان ينتخب الكلام كأنه ... جيش لديه يريد أن يلقى به فأتى به كالسيف رقرق صيقل ... ما بين قائم سيفه وذبابه وحجبته حتى توهم أنه ... هاج أتاك بشتمه وسبابه وإذا الفتى صحب التباعد واكتسى ... كبرًا علي فلست من أصحابه ولرب مغر لي بعرضك زادني ... غيظاً بجيئة قوله وذهابه لولا الصفاء وذمة أعطيتها ... حق الوفاء قضيت من آرابه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 وليس لأبي تمام تهديد ولا هجاء يعتد به، ومن تهديده قوله: أظن عندك أقواماً وأحسبهم ... لم يأتلوا في ما عدوا وما ركضوا لولا صيانة عرضي وانتظار غد ... والكظم حتم عليَّ الدهر مفترض لما فككت رقاب الشعر عن فكري ... ولا رقابهم إلا وهم حيض وأمثال هذا مما لم أكتبه لرداءته. والبحتري شديد التهديد والوعيد كما رأيت، فإذا هجا قصَّر، وأبو تمام في هجائه أشد تقصيرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 * الذم المجمل لغير مذكور قال أبو تمام: غاب والله أحمد فأصابتـ ... ـني له قطعة من الأحزان وتخلفت عنده في أناس ... ألبسوني صبرًا على الحدثان ما لنور الربيع في غير حسن ... ما لهم من تغير الألوان أنكرتهم نفسي وما ذلك الإنـ ... ـكار إلا من شدة العرفان كثرة الصفر يمنة وشمالًا ... أضعفت في نفاسة العقيان قوله: «قطعة من الأحزان» ضرورة من قلت حيلته في الألفاظ. وقد قال البحتري في معنى هذا البيت ما هو أجود وأحسن وألطف معنى، وذلك قوله: غرائب أخلاق هي الروض جاده ... ملث العزالى ذو رباب وهيدب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 وقد زادها إفراط حسن جوارحها ... خلائق أصفار من المجد خيب وحسن داري الكواكب أن ترى ... طوالع من داج من الليل غيهب وقال أبو تمام: أخو ثقة نأى فبقيت لما ... نأى غرضاً لإخوان السلام ذوي الهمم الهوامد والأكف الـ ... ـجوامد والمروات النيام يظل عليك أصفحهم حقودًا ... لرؤيا إن رآها في المنام ومن شر المياه إذا استمحيت ... أواجنها على طول المقام وقال البحتري: وخلفني الزمان على أناس ... وجوههم وأيديهم حديد لهم حلل حسن فهن بيض ... وأفعال سمجن فهن سود وأخلاق البغال فكل يوم ... يعن لبعضهم خلق جديد وأكثر ما لسائلهم لديهم ... إذا ما جاء قولهم تعود ووعد ليس يعرف من عبوس انـ ... ـقباضهم أوعد أم وعيد؟ أناس لو تأملهم لبيد ... بكى الخلف الذي يشكو لبيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 ألا ليت المقادير لم تقدر ... ولم تكن الأحاظي والجدود فأنظر أينا يضحي ويمسي ... له هذي المراكب والعبيد فلو كان الغنى حظاً كريماً ... لأخطأه النصارى واليهود ولكن الزمان زمان سوء ... سجال الأمر يفعل يفعل ما يريد فأسعده على قوم نحوس ... وأنحسه على قوم سعود وقال: سألت عن أصدقاء الصدق مؤتنفاً ... وقد ترى عدمي منهم وإقلالي أشيم منهم بروق الخلبات فهل ... شخص يبلغنا عن بارق الخال؟ والناس كالشجر البادي تفاوته ... وقد ترى بعد بين النبع والضال وقال: يا أحمد بن محمد نضب الندى ... من كف كل أخي ندى يا أحمد أشكوا إليك أناملًا ما تنطوي ... يبساً وأخلاقاً تقصفها اليد وأنا لبيد عند آخر دمعة ... يصف الصبابة والمكارم أربد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 الناس حولك روضة ما ترتعى ... ريا النبات ومنهل ما يورد جدة ولا جود وطالب بغية ... في الباخلين وبغية لا توجد تركوا العلا وهم يرون مكانها ... ودعا اللجين قلوبهم والعسجد فتماحكوا في البخل حتى خلته ... ديناً يدان به الإله ويعبد أرضيهم قولًا ولا يرضونني ... فعلًا وتلك قضية لا تقصد فأذم فيهم ما يذم وربما ... سامحتهم فحمدت مالا يحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 * الهجاء ليس للطائيين هجاء يعتد به إلا القليل، من ذلك قول البحتري: ومؤمر صارعته عن عرفه ... فوجدت قدس معممًا بعمائه جدة يذود البخل عن أطرافها ... كالبحر يدفع ملحه عن مائه أعطى القليل وذاك مبلغ قدره ... ثم استرد وذاك مبلغ رائه ما كان من أخذي غداة رددته ... في وجهه إذ كان من إعطائه وقد انتمى فانظر إلى أخلاقه ... صفحاً ولا تنظر إلى آبائه خطب المديح فقلت خل طريقه ... ليجوز عنك فلست من أكفائه! وللبحتري قصيدته المشهورة في ابن أبي قماش، سلك فيها ذلك المسلك وسبيلها أن تكتب ها هنا، وهي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 مرَّت على عزمها ولم تقف ... مبدية للشنان والشنف ركنت فيها إلى الهدايا ولم ... تحذر عليها حرائر التحف وقد رأت وجه من تراسله ... فانحرفت عنك شر منحرف وكان حقاً عليك أن تعرف الـ ... ـمكتوم من سر صدرها الكلف ألست بالسند هند ذا بصر ... إلا تفق حاسبيه تنتصف وقد بحثت العلوم أجمع واسـ ... ـتظهرت حفظاً مقالة السلف بما تعاطيت في الغيوب وما ... أوتيت من حكمة ومن لطف ما اقتص واليس في الفضاء وجا ... بان وما سيرا من النتف وما حكاه ذروثيوس وبطـ ... ـلميوس من واضح لهم وخفي فكيف أخطأت يا أخي ولم ... تنزع إلى ما سطرت في الصحف؟ هلا زجرت الطير العلى وتعـ ... * ـيفت المها أو نظرت في الكتف؟ حملتها والفراق محتشد ... لراكب منكما ومرتدف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 ورحتما والنحوس تخبر عن ... شأن من الرائحين مختلف أما أرتك النجوم أنكما ... في حالتي بائت ومنصرف؟ وما رأيت المريخ قد حاسد الـ ... ـزهرة في الحد منه والشرف تخبر في ذاك أن زائرة ... تشفي مزورًا من لاعج الدنف من أين أغفلت ذا وأنت على الـ ... تتقويم والزيج جد معتكف رذلت في هذه الصناعة أم ... أكديت أم رمتها مع الخرف؟ لم تخط باب الدهيلز منصرفاً ... إلا وخلخالها مع الشنف فأين حلم الفتى وذمته ... وأين قول العجوز لاتخف؟ ما أخون الناس للعهود وما ... أشد إقدامهم على الحلف! تصبوا إلى مثله إذا نظرت ... فيك إلى جيفة من الجيف يسرني أن تساء فيها وأن ... تفجع منها بالروضة الأنف قد خبروها قيام شيخك في الـ ... ـحمام فاستعبرت من الأسف وأعلموها بأن كنيته ... أبو قماش الحمام والكنف وخبروها بالدستبان وبالصـ ... ـن فكادت تشفي على التلف وقد تبينت ذاك في الكمد الـ ... ـبادي عليها والواكف الذرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 وزهدها في الدنو منك فما ... تعطيك إلا بالتعس والعنف أنت كما قد علمت مضطرب الـ ... ـهيئة والقد ظاهر الجلف والسن قد بينت فناءك في ... شدق على ما ضيعك منخسف وجه لعين القسمين يقطعه ... أنف طويل محدد الطرف ورتة تحت غنة قذرت ... من هالك الراء دامر الألف كأن في فيه لقمة عقلت ... لسانه فالتوى على جنف محرك رأسه توهمه ... قد قام من عطسة على شرف سماجة في العيون فاحشة ... خلفت في حملها أبا خلف تروم وصل المها وأنت كذا ... هذا لعمري من أسرف السرف! وقال يهجو يعقوب بن الفرج الجهبذ بحلب: تظن شجوني لم تعتلج ... وقد خلج البين من قد خلج أشارت بعينين مكحولتيـ ... ـن من السحر إذ ودعت والدعج عناق وداع أجال اعترا ... ض دمعي في دمعها فامتزج فهل وصل ساعتنا منسيء ... صدود شهور خلت أو حجج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 وما كان صدك إلا الدلا ... وإلا الملال وإلا الغنج فإن تك قد دخلت بيننا ... مهامه للآل فيها لجج فكم روضة بفناء الربيـ ... ـع يضاحكها البرق من كل فج تأيا قويق لتدويرها ... فنكب عن قصدها وانعرج إذا هزت الريح أغصانها ... تعانق نوارها وازدوج لقيناك فيها فخايلتها ... بلين التكفي وطيب الأرج سقى حلباً حلب مسبل ... من الغيث يهمي بها أو يثج وإن حال من دون حقي فلم ... يسلمه يعقوبها ابن الفرج أيتلف يعقوب مالي لديـ ... ـه ويعقوب متئد لم يهج! وإني ملي بأن لا يسر ... بما نال مني ولا يبتهج إذا شد عروة زناره ... على سلحة ضخمة وانتفج توهم أني لا أستطيـ ... ـع مساءة أغثر بادي الهوج ومن أين يكثر أنصاره ... فيأتي الأحج له فالأحج وزوجته قد عسا بظرها ... على كبرة وابنه قد علج؟ وألا تورع عما جنى ... علي الخبيث وألا حرج؟ أبا يوسف سمج ما أتيـ ... ـت وما يك مثلك يأتي السمج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 وشر المسيئين ذو نبوة ... إذا ليم فيها تمادى ولج هلم إلى الصدق نسري إليـ ... * ـه بحجتنا فيه أو ندلج ونعتمد الحق حتى يصح ... لنا مظلم الأمر أو ينبلج وفي موقف ما لنا بعده ... تنازع نجوى ولا معتلج فمن أبرأ الحكم فيه نجا ... ومن ألحج الحكم فيه لحج وإن لم يكن شاهد يرتضى ... وراؤك في الحكم مود مضج وأنت فلا حالف بالعتا ... ق ولا حالف في الطلاق الحرج فهل تتقيل جرم القسو ... س وتقطع من إلهم ما وشج؟ وتضرط في لحية الجاثليـ ... ـق إذا خار في سفر شعيا وعج وتزعم أن الذين ابتدوا ... علوم النصارى رعاع همج بأنك لم تتو مالي ولم ... تطلب علي عويض الحجج فإن كنت أدهنت أو خنت أو ... لهجت بظلمي فيمن لهج فخالفت مريم في دينها ... وفارقت ناموسها المنتهج وخرقت غفورها كافرًا ... بمن غزل الثوب أو من نسج وأعظمت ما أعظمته اليهو ... د تصلي لقبلتهم أو تحج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 ونكت عجوزك حتى ترد ... في رحمها داخلاً ما خرج وهدمت بيعة ما سرجس ... وأطفأت نيرانها والسرج وأوقدت ناقوسها والصليـ ... ـب تحت عشائك حتى نضج وبكرت تخرأ في المذبح الـ ... ـكبير وتلطخ تلك الدرج وزلت من الله في لعنة ... تقيم عليك فلا تنزعج وأير طماس إذا ما أشظ ... في صدع إمرأتك المنعرج يمين متى ما استحل امرؤ ... تجشمها عند قاض فلج وقال أبو تمام في عياش بن لهيعة: أعياش ارع أو لا ترع حقي ... وصل أو لا تصل أبداً وسيلي أمثلك يرتجى لولا تنائي ... أموري والتياثي في حويلي رجاء حل من عرصات قلبي ... محل البحل من قلب البخيل ورأى هز حسن الظن مني ... جرى ماءاه في عرضي وطولي فأجدى موقفي بنداك جدوى ... وقوف الصب بالطلل المحيل وأعكفت المنى في ذات صدري ... عكوف اللحظ في الخد الأسيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 وكنت أعز عزاً من قنوع ... فعوضه صفوح عن جهول فصرت أذل من معنى دقيق ... به فقر إلى ذهن جليل فما أدري عماي عن ارتيادي ... دهاني أم عماك عن الجميل؟ متى طابت جنى وزكت فروعٌ ... إذا كانت خبيثات الأصول ندبتك للجميل وأنت لغو ... ظلمتك لست من أهل الجميل رويدك إن لومك سوف يجلي ... لك الظلمات عن حزن طويل وهذا كله رديء إلا هذه الأبيات الأربعة الأخيره، والقصيدة أيضًا كلها رديئة، وقد ذكرت غلطه في قوله: وكنت أعز عزًا من قنوع في أغاليطه. ولولا أن هذا من مشهور هجائه، لألغيت ذكره مع غيره. ولأبي تمام قصيدته الطويلة التي أولها: «الدار ناطقة وليست تنطق» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 يهجو فيها رجلاً نال من بني عبد الكريم كلها رديئة، يقول فيها: أإلى بني عبد الكريم تشاوست ... عيناك ويبك خلف من تتفوق؟ قوم تراهم حين يطرق حادث ... يسمون للخطب الجليل فيطرق بيض إذا اسود الزمان توضحوا ... فيه فغودر وهو منهم أبلق هيهات غالك أن تنال مآثري ... إست بها سعة وباع ضيق وتنقل من معشر في معشر ... فكأن أمك أو أباك الزئبق أفعشت حتى عبتهم قل لي متى ... فرزنت سرعة ما أرى يا يبذق فهذا أجود ما في هذه القصيدة من الهجاء، وقد ترى كيف جعل الزمان أبلق وجاء بالزئبق والفرزان، وله أهاج يضحك من رداءتها. وله أرجوزة صالحة يقول فيها: وملك في كبره ونبله ... وسوقة في قوله وفعله بذلت مدحي فيه باغي بذله ... فجد حبل أملي من أصله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 من بعد ما استبعدني بمطله ... ثم اغتدى معتذرًا بجهله ذا عنق في المجد لم يحله ... يعجب من تعجبي من بخله يلحظني في جده وهزله ... لحظ الأسير حلقات كبله حتى كأني جئته بعزله ... يا واحدًا منفردًا بعدله ألبسته النعمى فلا تمله ... ما أضيع الجفن بغير نصله والشعر ما لم يك عند أهله وقال البحتري: لسانك أحلى من جنى الشهد موعدًا ... وكفك بالمعروف أضيق من قفل تمنى الذي يأتيك إذا انتهى ... إلى أمد ناولته طرف الحبل وقال: مدحت أبا الخشين للخير ضلة ... أؤمل منه فضل من ماله فضل مدحت امرأ لو كان بالغيب ما به ... لما بل وجه الأرض من مزنة وبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 لئيم الجدود والفعال فما له ... أب داخل في الأكرمين ولا فعل له همة لو فرق الله شملها ... على الناس لم يجمع لمكرمة شمل له حسب لو كان للشمس لم تنر ... وللماء لم يعذب وللنجم لم يعل وهذا أهجأ بيت سمعت به له على تقصير البحتري في الهجاء، والبحتري على كل حال أهجأ من أبي تمام. وقال أبو تمام يهجو عياش بن لهيعة: النار والعار والمكروه والعطب ... والقتل والصلب والمران والخشب أحلى وأعذب من سيب تجود به ... ولن تجود به يا كلب يا كلب! بني لهيعة ما بالي وبالكم ... وفي البلاد مناديح ومضطرب؟ لجاجة بي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجتكم في أنكم عرب! عياش مالك في أكرومة أرب ... ولا لأكرومة في ساقط أرب يا أكثر الناس وعداً حشوه خلف ... وأكثر الناس قولاً حشوه كذب ظللت تنتهب الدنيا وزخرفها ... وظل عرضك عرض السوء ينتهب قوله: «النار والعار» من أبياته المشهورة التي يضحك منها، وإنما أراد بقوله: «المران والخشب» أنه تمنى أن يضرب بهما، كأنه اختار ذلك على نائل الذي مدحه، ودعته الضرورة إلى أن جمع بين «المران والخشب»، وكان أحدهما يكفي من الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 والمران من الخشب الصلب الشديد، ومنه تنحت الزانات والرماح القصار، وله اهتزاز وتثن كالقنا، والضرب بهما وبالأرز والسلم- وهما أيضًا من الخشب الصلب- أشد من الضرب بغيرهما، وإنما ذهب إلى أن يطعن بالمران ويضرب بالخشب، ومن تمنى النار والقتل والصلب لا ينحط بعد هذا إلى الضرب بالخشب، وكان ينبغي أن يجعل مكان المران والخشب والتنكيل والسلب، أو الحرب أو غيرهما فإن الكلام كثير. وقد جمع هذا البيت من قبح الألفاظ، وقبح المعاني، وقبح الضرورة ما لا شيء أشنع منه وكأنه من كلام خالد الحداد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 صفحة فارغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 * الاعتذار قال أبو تمام يعتذر إلى ابن أبي دؤاد: أتاني عائر الأنباء تسري ... عقاربه بداهية نآد نثا خبر كأن القلب أمسى ... يجر به على شوك القتاد كأن الشمس جللها كسوف ... أو استترت برجل من جراد بأني نلت من مصر وخبت ... إليك شكيتي خبب الجواد وما ربع القطيعة لي بربع ... ولا وادي الأذى مني بواد وأين يجور عن قصد لساني ... وقلبي رائح برضاك غاد! ومما كانت الحكماء قالت ... لسان المرء من خدم الفؤاد وقدمًا كنت معسول الأماني ... ومأدوم القوافي بالسداد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 لقد جازيت بالإحسان سوءاً ... إذا وصبغت عرفك بالسواد وصرت أسوق عير اللؤم حتى ... أنخت الكفر في دار الجهاد وليست رغوتي من فوق مذق ... ولا جمري كمين في الرماد وغيري يأكل المعروف سحتاً ... وتشحب عنده بيض الأيادي تثبت إن قولاً كان زوراً ... أتى النعمان قبلك عن زياد إليك بعثت أبكار القوافي ... يليها سائق عجل وحادي تنصل ربها من غير جرم ... إليك سوى النصيحة والوداد ومن يأذن إلى الواشين تسلق ... مسامعه بألسنة حداد قوله: «تسري عقاربه»، ليس هذا موضع سرى العقارب، لأنه لا يقال: هذا خبر تسري عقاربه، ولا أتاني خبر سرت عقاربه إلي، لأن الأخبار الرديئة التي يوردها المورد ويبلغها المبلغ هي العقارب أنفسها، وإنما يقال: تسري عقارب زيد إلي، وذلك إذا كان شراً، وليس الخبر العائر الذي ذكره من الشر في شيء. وقوله: «صبغت عرفك بالسواد» مما عابه أبو العباس بن عمار وليس بخطأ، ولا هو حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 وقال يعتذر إلى موسى بن إبراهيم: أموسى بن إبراهيم دعوة خامس ... به ظمأ التثريب لا ظمأ الورد جليد على عتب الخطوات إذا التوت ... وليس على عتب الأخلاء بالجلد أتاني مع الركبان ظن ظننته ... لففت له رأسي حياء من المجد لقد نكب الغدر الوفاء بساحتي ... إذًا وسرحت الذم في مسرح الحمد وهتكت بالقول الخنا حرمة العلى ... وأسلكت حر الشعر في مسلك العبد نسيت إذًا كم من يد لك شاكلت ... يد القرب أعدت مستهامًا على البعد ومن زمن ألبستنيه كأنه ... إذا ذكرت أيامه زمن الورد وأنك أحكمت الذي بين فكرتي ... وبين القوافي من ذمام ومن عقد وكيف وما أخللت بعدك بالحجا ... وأنت فلم تخلل بمكرمة بعدي؟ أسربل هجر القول من لو هجوته ... إذًا لهجاني عنه معروفه عندي؟ كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي ومتى ما لمته لمته وحدي ولو لم يزعني عنك غيرك وازع ... لأعديتني بالحلم إن العلى تعدي أبى ذاك أني لست أعرف دائمًا ... على سؤدد حتى يدوم على العهد وإني رأيت الوشم في خلق الفتى ... هو الوشم لا ما كان في الشعر والجلد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 أرد يدي عن عرض حر ومنطقي ... وأملؤها من لبدة الأسد الورد فإن يك جرم عن أو تك هفوة ... على خطأ مني فعذري على عمد وهذا هو الاعتذار الذي يسل كل سخيمة، ويمحو كل خطيئة. وما سمعت في الاعتذار أجود ولا ألطف ولا أحلى من قول القتال الكلابي: جنيت وكنتم كهفي عليكم ... وقد تحنى اليمين على الشمال وإنما أخذ أبو تمام قوله: أسربل هجر القول من لو هجوته ... إذاً لهجاني عنه معروفه عندي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 من قول الخارجي الذي سامه قطري قتال الحجاج فامتنع عليه؛ لأن الحجاج من عليه. وقال: أأقاتل الحجاج في سلطانه ... بيد تقر بأنها مولاته إني إذًا لأخو الدناءة والذي ... عفت على إحسانه جهلاته ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته؟ وله في الاعتذار أشياء رديئة منها: شعبي وشعب عبيد الله ملتئم لم أكتبها لرداءتها. وقال البحتري: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 ولم أنسها عند الوداع ونثرها ... سوابق دمع أعجلت أن تنظما وقالت هل الفتح بن خاقان معقب ... رضى فيعود الشمل منا ملأما؟ خليلي كفا اللوم في فيض عبرة ... أبى الوجد إلا أن تفيض وتسجما ولا تعجبا من فجعة البين إنني ... وجدت الهوى طعمين شهداً وعلقما عذيري من الأيام رنقت مشربي ... ولقينني نحساً من الطير أشأما وأكسبني سخط امريء بت موهناً ... أرى سخطه ليلاً مع الليل مظلما تبلج عن بعض الرضا وانطوى على ... بقية عتب شارفت أن تصرما إذا قلت يوماً قد تجاوز حدها ... تلبث في أعقابها وتلوما وأصيد إن نازعته اللحظ رده ... كليلاً وإن راجعته القول جمجما ثناه العدى عني فأصبح معرضاً ... وأوهمه الواشون حتى توهما وقد كان سهلاً واضحاً فتوعرت ... رباه وطلقاً ضاحكاً فتجهما أمتخذ مني الإساءة محسن ... ومنتقم مني امرؤ كان منعما؟ ومكتسب في الملامة ماجد ... يرى الحمد غنماً والملامة مغرما يخوفني من سوء رأيك معشر ... ولا خوف إلا أن تجور وتظلما أعيذك أن أخشاك من غير حادث ... تبين أو جرم إليك تقدما ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما؟ ثناء كأن الروض منه منوراً ... ربى وكأن الوشي منه مسهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 ولو أنني وقرت شعري وقاره ... وأجللت مدحي فيك أن يتهضما لأكبرت أن أومي إليك بإصبع ... تضرع أو أدني لمعذرة فما وكان الذي يأتي به الدهر هيناً ... علي ولو كان الحمام المقدما ولكنني أعلى محلك أن أرى ... مدلًا وأستحييك أن أتعظما أعد نظرًا فيما تسخطت هل ترى ... مقالًا دنياً أو فعالًامذمما؟ رأيت العراق ناكرتني وأقسمت ... علي صروف الدهر أن أتشأما وكان رجائي ان أؤوب مملكاً ... فصار رجائي أن أؤوب مسلما وما مانع مما توهمت غير أن ... تذكر بعض الأنس أو تتندما وأكبر ظني أنك المرء لم تكن ... تحلل بالظن الذمام المحرما حياء فلم يذهب بي الغي مذهباً ... بعيدًا ولم أركب من الأمر معظما ولم أعرف الأمر الذي سؤتني له ... فأقتل نفسي حسرة وتندما ولو كان ما خبرته أو ظننته ... لما كان غروًا أن ألوم وتكرما أذكرك العهد الذي ليس سؤددًا ... تناسيه والود الصحيح المسلما وما حمل الركبان شرقًا ومغربًا ... وأنجد في أعلى البلاد وأتهما أقر بما لم أجنه متنصلًا ... إليك على أني إخالك ألوما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 لي الذنب معروفاً وإن كنت جاهلاً ... به النعمى علي وأنعما ومثلك إن أبدى الفعال أعاده ... وإن صنع المعروف زاد وتمما وهذا من إحسانه المعروف الذي فوق كل إحسان. وقال: أقول ليعقوب بن أحمد والندى ... يروم به العوصاء ليس ترام تكاليف فعل لو على الأرض ثقله ... شكا يذبل ما نابه وشمام لأظلم ما بيني وبينك مضحياً ... وللظلم بين الخلتين ظلام أأذكر أيام المصافاة بعدما ... تجرم عام بعدهن وعام ندمت على أمر مضى لم يشربه ... نصيح ولم يجمع قواه نظام وقد خبروا أن الندامة توبة ... يصلى بها أن تقتنى ويصام وإن جحودي سوء ظن بمنعم ... وعدي معاذيري عليه خصام وقد شملت بشراً لأوس صنيعة ... بما أمرت سعدى وورث لام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 فإن تمتثلها فالمكارم خطة ... لكم تابع في نهجها وإمام ولو شئتم أن تستشيروا استثرتم ... عجالًا ولكن الكرام كرام يكر علي اللوم فيكم ولابس ... من اللوم من لا يستفيق يلام يجرح أقوال الوشاة فريصتي ... وأكثر أقوال الوشاة سهام ترى ألسنًا أصمتن بالعي أن هفا ... بي اللب مصنوعًا لهن كلام لعل غيابات السخائم تنجلي ... ومعوج ما تخفي الصدور يقام ولما نبت بي الأرض عدت إليكم ... أمت بحبل الود وهو رمام وقد يُهتدى بالنجم يسفل سمته ... ويروى بماء الجفر وهو ذمام وما كل ما بلِّغتم صدق قائل ... وفي البعض إزراء عليَّ وذام ولا عذر إلا أن بدء إساءة ... لها من زيادات الوشاة تمام وهذا اعتذاره الذي برز فيه على كل اعتذار، وأوفى على كل إحسان. وله بعد هذا اعتذارات جياد إن أوردتها بعد هذا سقط فضلها وأظلم نورها، منها قوله في عبدون: من عطاء الإله بلَّغت نفسي ... صونها ثم من عطاء ابن عمي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 كلما قلت أيبس المحل عودي ... وليتني غمامة منه تهمي فله من مدائحي حكمه الأو ... في ولي من نواله الغمر حكمي كل مشهورة يؤلف فيها ... بين درية الكواكب نظمي أينما قام منشد لاح نجم ... متلال منها على إثر نجم وجهول رمى لديه مكاني ... قلت أقصر ما كل رام بمصم وإذا ما العريض والى أذاتي ... كان خرطومه خليقاً بوسمي في بني الحارث بن كعب بن عمرو ... سيد الناس بين عرب وعجم بأبي أنت عاتباً وقليل ... لك مني أبي فداء وأمي! لمتني أن رميت في غير مرمى ... وعزيز علي تضييع سهمي إن أكن خبت في سؤال بخيل ... فبكرهي ذاك السؤال ورغمي والذي حطني إلى أن بلغت الـ ... ـماء ما كان من ترفع همي وإبائي على مملك أرضي ... ما تولاه من عطائي وشكمي ثم حالت حال تكلفني قسـ ... ـمة حمدي بين الرجال وذمي وأرى أين موضع الجود منهم ... من مكاني وميز الناس عدمي فعلام التثريب واللؤم إذ علـ ... ـمك فيما أقوله مثل علمي؟! وكأن الإعراض عني قضاء ... فاصل عن ألية منك حتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 حين لا ملجأ سواك أرجيـ ... ـه تجهمتني ولست بجهم وإذا ما سخطت والمخ رار ... رق عن أن يطيق سخطك عظمي لا تجاوز مقدار سطوك إن لم ... تتطول بالصفح مقدار جرمي فاحترس من ضياع حلمك في الجفـ ... ـوة والإنقباض إن ضاع حلمي وقال: طاف الوشاة بها فأحدث ظلمة ... في جوه ووعورة في أرضه غضبان حمل إحنة لو حملت ... ثبج الصباح لثقلت من نهضه مهلًا فذاك أخوك ذو ألهيته ... عن لحظه وشغلته عن غمضه خزيان أكبر أن تظن خيانة ... في بسطه لصديقه أو قبضه ماذا توهم أن يقول وقوله ... في نفسه ولسانه في عرضه؟ أنبوت عنك بزعمهم ومتى نبا ... في حالة بعض امريء عن بعضه أنصلت من عود الحياء وبدئه ... وخرجت من طول الوفاء وعرضه المذحجية بيننا موصولة ... بنوافل الأدب الأصيل وفرضه وتردد للكأس أحدث حرمة ... أخرى وحقاً ثالثاً لم نقضه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 ومن نوادر الاعتذار قول البحتري لإسماعيل بن بلبل، وتدخل في باب الحجاب: لك الخير من مستبطيء في تأخري ... يرى أنني آثرت هجرته عمدا متى كنت يا خير الأكارم عائداً ... بلوم على ألا تراني فلم سعدا وما أصطفى لون الحداد ولا أرى ... لعيني حظاً في الرماد إذا اسودا لئن كنت نوراً ساطعاً فطريقنا ... إليك على ظلماء داجية جدا وقال فيه: وأظلمت حين لبست السو ... د ظلام الدجى لم يسر راكبه ولما وقفنا بباب الأمير ... وقد رفع الستر أو جانبه ظللنا نرجم فيك الظنون ... أحاجمه أنت أم حاجبه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 * باب فيما جاء عنهما في الرياض والأنوار والشراب ومعاطاة الندمان وما يتصل بذلك ويدخل في معناه قال أبو تمام: قد اتئب أربيت في الغلواء ومعرس للغيث تخفق بينه ... رايات كلِّ دجانة وطفاء نشرت حدائقه فصرن مآلفاً ... لطرائف الأنواء والأنداء فسقاه مسك الطل كافور الصبا ... وانحل فيه خيط كل سماء عني الربيع بروضه فكأنما ... أهدى إليه الوشي من صنعاء صبحته بسلافة صبحتها ... بسلافة الخلطاء والندماء بمدامة تغدو المنى لكؤوسها ... خولًا على السراء والضراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 597 راح إذا ما الراح كن مطيها ... كانت مطايا الشوق في الأحشاء عنبية ذهبية سبكت لها ... ذهب المعاني صاغة الشعراء صعبت وراض المزج سيء خلقها ... فتعلمت من حسن خلق الماء خرقاء تلعب بالعقول حبابها ... كتلعب الأفعال بالأسماء وضعيفة فإذا أصابت فرصة ... قتلت كذلك قدرة الضعفاء جهمية الأوصاف إلا أنهم ... قد لقبوها جوهر الأشياء وكأن بهجتها وبهجة كأسها ... نار ونور قيدا بوعاء أو درة بيضاء بكر أطبقت ... حبلاً على الياقوتة الحمراء وقوله: «نشرت حدائقه» أي: حييت، يقال: أنشر الله الموتى فنشروا أي: حيوا، وإنما أراد: أن هذه الحدائق حييت بالغيث الذي تقدم ذكره. وقوله: «فسقاه مسك الطل كافور الصبا» لأن الصبا ريح طيبة، عذبة تأتي بالمطر، وقد يكون معها ندى، وأضاف الكافور إليها لأنه أليق بالريح لبياضه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 وأضاف المسك إلى الطل لسواده، وأراد بالجميع طيب الرائحة. وقوله: «وانحل فيه خيط كل سماء» من قولهم: «انحلت عزاليها». وقوله: «جهمية الأوصاف» قد أكثر الناس في تعاطي تفسيره، وأقرب ما سمعته فيه أن «جهماً» كان يقول: إنه ليس شيء على الحقيقة غير الله تعالى، إذ كل شيء يبطل ويتلاشى غيره، وأن الأشياء كلها أعراض ألفها وخلقها. وأظن أبا تمام أراد أن الراح لرقتها عرض لا جسم، وهذا مذهب قريب. وقوله: «قد لقبوها جوهر الأشياء»، هو الذي لم أرهم يصححون له تفسيرًا إلا على الظن، لأنهم ما رأوا أحدًا لقبها هذا اللقب، وقد سمعت من يقول: إنما أراد قدمها، وإن من أسمائها «الخندريس»،و «الخندريس» القديمة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 ولعمري إنها قديمة، ولكن ليست جوهر الأشياء، ولا هي أول لها، وما زلت أسمع الشيوخ يقولون: إن هذا البيت من تخليطه ووساوسه، لأن الشعر إنما يستحسن إذا فهم وهذه الأشياء التي يأتي بها منغلقة، ليست على مذهب الأوائل ولا المتأخرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 وقوله: وكأن بهجتها وبهجة كأسها ... نار ونور قيدا بوعاء شبه الخمر بالنار والزجاج بالنور، وإنما قال: «قيدا بوعاء» لأن النار والنور لا يقومان بأنفسهما، فكأنهما جميعًا جمعا في إناء أمسكهما. وهذا معنى جيد، وهو مسبوق إليه. أو درة بيضاء بكر أطبقت ... حبلًا على ياقوتة حمراء ما زلت أسمعهم يستسخفون لفظه ويستهجنون قوله: «أطبقت حبلًا» وباقي الأبيات جيد، وليس له في شيء منها معنى مخترع، وإنما اتبع فيها كلها مذاهب الناس. وقال البحتري: أخذت ظهور الصالحية زينة ... عجباً من الصفراء والحمراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 نسج الربيع لربعها ديباجة ... من جوهر الأنوار بالأنواء بكت السماء بها رذاذ دموعها ... فغدت تبسم عن نجوم سماء في خلة خضراء نمنم وشيها ... حوك الربيع وحلة صفراء فاشرب على زهر الرياض يشوبه ... زهر الخدود وزهرة الصهباء من قهوة تنسي الهموم وتبعث الـ ... ـشوق الذي قد ضل في الأحشاء يخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء ولها نسيم كالرياض تنفست ... في أوجه الأرواح والأنداء وفواقع مثل الدموع ترددت ... في صحن خد الكاعب الحسناء يسقيكما رشأ يكاد يردها ... سكرى بفترة مقلة حوراء يسعى بها وبمثلها من طرفه ... عوداً وإبداء على الندماء وهذا كله لفظ بارع ونسج كثير الماء. وقد اجتهد أصحاب أبي تمام في إفساد قوله: يخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء وقالوا: لو مليء القدح دبساً أو لبناً أو نحو ذلك لخفي لون الزجاجة، وهذا باطل، وقد بينت فساده فيما تقدم وأوضحته. والمعنى ليس مما اخترعه البحتري بل إنما أخذه من قول علي بن جبلة. كأن يد النديم تدير منها ... شعاعاً لا تحيط عليه كاس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 أو من قول الآخر: إنما لقحتنا موسومة ... ضمنت حمراء ترمي بالزبد وإذا ما بزلت في كأسها ... فهي والكأس معًا شيء أحد وإنما اعتمد البحتري وهذان الشاعران أن يصفوا يصفوا رقة الخمر ورقة الإناء جميعاً، وإلى هذا ذهب أبو تمام في قوله «نار ونور قيدا بوعاء» فسلك طريقًا آخر، وما ذهب إليه هؤلاء أجود وأحسن، وهو شيء تراه مشاهدة. وقد أنشد ثعلب قول البحتري هذا في أماليه، وقال: إنه أخذ المعنى من قول الأعشى: تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطق وقال: إن هذا البيت أجود ما قيل في وصف الخمر. وقوله: «تنفست في أوجه الأرواح والأنداء». وإذا تنفست في أوجه الأرواح والأنداء وعقبت بها، حملتها وأشاعت روائحها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 وقوله: «وفواقع مثل الدموع ترددت» بيت بارع اللفظ حلو المعنى، وقد اجتهد أصحاب أبي تمام أيضاً في إفساده، وقالوا: الدموع لا تردد في الخد كما يتردد الحباب في الكأس، وإنما الدموع تجري وتتابع، وهذه معارضة لا تلزمه، لأن التردد قد يكون الجولان وقد يكون التتابع لأنك تقول: «تتابعت رسلي إليك وترددت، وتواترت كتبي وترددت» وقد يجري الحباب في الكأس إلى جهة واحدة كما يجري الدمع في الخد إلى جهة واحدة، ويقف الدمع في صحن الخد، كما تقف الحباب في صحن الكأس، وما تشبيه هو أليق ولا أحسن من تشبيه حمرة الخمر بحمرة الخد وحمرة الخد بحمرة الخمر، فإذا وصف الحباب فمن أليق التشبيه أن يشبه بالدمع وهذا بيت في غاية الحسن والصحة. وقوله: «يسقيكها رشأ يردها سكرى» مبالغة حسنة ومعنى في غاية الملاحة. ولست أفضل أحدهما على الآخر في هاتين القطعتين، بل أجعلهما متكافئين. وقال أبو تمام: وقفت بها اللذات في متنفس ... من الغيث يسقي روضة ثرى جعد وصفراء أحدقنا بها في حدائق ... تجود من الأثمار بالثعد والمعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 604 بقاعية تجري علينا كؤوسها ... فتبدي الذي نخفي وتخفي الذي نبدي وقال: أصب بحميًا كأسها مقتل العذل ... تكن عوضاً إن عنفوك من العذل وكأس كمعسول الأماني شربتها ... ولكنها أجلت وقد شربت عقلي إذا عوتبت بالماء كان اعتذارها ... لهيباً كحر النار في الحطب الجزل إذا هي دبت في الفتى خال جسمه ... لما دب فيه قرية من قرى النمل إذا ذاقها وهي الحياة رأيته ... يقطب تقطيب المقدم للقتل إذا اليد نالتها بوتر توقرت ... على ضغنها ثم استقادت من الرجل تصرع ساقيها بإنصاف شربها ... وصرعهم بالجور في صورة العدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 605 قوله: «مقتل العذل» و «إن عنفوك من العذل» ليس بجيد، وإن كان جائزاً. وقوله: «إذا هي دبت في الفتى خال جسمه». أراد قول الأخطل: تدب دبيباً في العظام كأنه ... دبيب نمال في نقا يتهلل فأخذ المعنى فأفسده برديء لفظه. وقوله: إذا اليد نالتها بوتر توقرت ... على ضغنها ثم استقادت من الرجل وهو الجيد من هذه الأبيات. وقد قال ديك الجن: تظل بأيدينا نتعتع روحها ... فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها وكانا في عصر واحد، وأصحاب البحتري يقولون: إن أبا تمام هو الأخذ من ديك الجن، وإن ديك الجن كان أتيه وأجن من أن يسرق من أبي تمام، وهذا عندي حكم على الغيب، ولم لا يكون أبو تمام أولى بالتيه من ديك الجن وأبعد من أن يسرق من أهل عصره، وفي الجملة إن بيته أجود من بيت ديك الجن، وإن كان لعجز بيت ديك الجن حلاوة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 606 وقال أبو تمام: أفيكم فتى حي فيخبرني عني ... بما شربت مشروبة الراح من ذهني؟ غدت وهي أولى من فؤادي بعزمتي ... ورحت بما في الدن أولى من الدن لقد تركتني كاسمها وحقيقتي ... مجاز وصبح من يقيني كالظن هي اختدعتني والغمام ولم أكن ... بأول ما أسلمت عقلي إلى الدجن إذا اشتعلت في الكأس والطاس نارها ... تقبلتها من راحتي يقق لدن هراق الصبا في وجنتيه ملاحة ... فتنت بها أيام يوسف في الحسن إذا نحن أومأنا إليه أدارها ... سلافًا كماء الجفن وهي من الجفن تورد روح المرء من كل وجهة ... وتدخل منه حيث شاءت بلا إذن ومسمعنا طفل الأنامل عنده ... لنا كل يوم من قرى العين والأذن لنا وتر منه إذا ما استحثه ... فصيح ولحن في أمان من اللحن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 607 وفي روضة بيتية صبغت لها ... جداولها نوارها صبغة العهن ظللت بها في جنة غاب نحسها ... تذكرنا لذاتها جنة العدن نعمنا بها في بيت أروع ماجد ... من القوم آب للدنية واللعن فتى شق من عود المحامد عوده ... كما اشتق مسموه له اسماً من الحسن وهذه أبيات منها جيد حلو، ومنها رديء المعنى واللفظ، قبيح النسج. فقوله: «وصبح من يقيني كالظن» رديء: من أجل قوله: «وصبح» كأنه أراد أن يقول: «صحيح من يقيني كالظن» فلم يستو له أن يقول: «صحيح»، فجعل مكانه «صبح»، أي: واضح يقيني ونيره كالظن. وقوله: «هي اختدعتني والغمام» بيت صحيح المعنى رديء اللفظ والنسج. وكذلك قوله: «إذا اشتعلت في الكاس والطاس» وقد كانت الكاس تكفي من ذكر الطاس، وإن كان هذا يسوغ، ومثله موجود في أشعار الناس. وقوله: «راحتي يقق لدن» يريد راحتي أبيض ناعم، وأبيض ناعم أجود وأحسن لفظاً من «يقق لدن» وأحلى في هذا الموضع. وقوله: «هي من الجفن» يريد الكرم، ويقول: هي من الكرم، أي ليست من التمر ولا غيره من الأشربة التي ليست خمراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 608 وقوله: «بيتية» يريد أنهم كانوا في دار لها بستان، لا في صحراء؛ لأنه قال: «نعمنا بها في بيت أروع ماجد». وقوله: «في صبغة العهن» يريد الشقائق، و «العهن» الصوف الأحمر. وقوله: «آب للدنية واللعن» أي: يأبى أن يأتي من الفعل ما يلعن من أجله. وقوله: «كما اشتق مسموه له اسمًا من الحسن» يريد أن اسمه حسن. وليس لأبي تمام في وصف الخمر ومعاطاة الندمان شيء غير ما ذكرته. والبحتري ملي وفي بهذا الباب وما يتصل به ويدخل في معناه، فمن ذلك قوله: رويدك إن شانك غير شاني وكم غلست مدلجاً بصحبي ... على متعصفر الناجود قان أغادي أرجوان الراح صرفًا ... على تفاح خد أرجواني إذا مالت يدي بالكأس ردت ... بكف خضيب أطراف البنان تأمل من خلال الشك فانظر ... بعينيك ما شربت ومن سقاني تجد شمس الضحى تدنو بشمس ... إلي من الرحيق الخسرواني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 609 سبوت الإصطباح معشقات ... وأحظاهن سبت المهرجان أتى يهدي الشتاء على اشتياق ... إليه وصيب الديم الدواني يحيني بنرجسه ويدني ... مكان الورد ورد الزعفران ومن أكرومة حث الندامى ... وإعمال المثالث والمثاني وليس له في هذه الأبيات اختراع، وإنما هي معاني الناس التي قد تداولوها حتى صارت كالمشتركة بينهم. وقال: أتراه يظنني أو يراني ... ناسيًا عهده الذي استرعاني؟ ونديم نبهته ودجى الليـ ... ـل وضوء النهار يعتلجان قم نبادر به الصيام فقد أقـ ... ـبل ذاك الهلال من شعبان بنت كرم يدنو بها مرهف القد ... غرير الصبا خضيب البنان أرجوانية تشبه في الكأ ... س بتفاح خده الأرجواني بات أشهى إلي من سنة النو ... م وأحلى من مفرحات الأماني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 610 وقال: أقام كل ملث الودق رجاس هل من سبيل إلى الظهران من حلب ... ونشوة بين ذاك الورد والآس إذ أقبل الراح والأيام مقبلة ... من أهيف خنث العطفين مياس أمد كفي لأخذ الكأس من رشأ ... وحاجتي كلها في حامل الكاس ببرد أنفاسه أشفي الغليل إذا ... دنا فقربها من حر أنفاسي وقال: بعمرك تدري أي شأني أعجب ألا ربما كأس سقاني سلافها ... رهيف التثني واضح الثغر أشنب إذا أخذت أطرافه من قنوئها ... رأيت اللجين بالمدامة يذهب كأن بعينيه الذي جاء حاملًا ... بكفيه من ناجودها حين يقطب لأسرع في عقلي الذي بت موهنًا ... أرى من قريب لا الذي بت أشرب لدى روضة جاد الربيع نباتها ... بغر الغوادي تستهل وتسكب إذا أصبح الحوذان من جنباتها ... تفتح وهمت الدنانير تضرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 611 وقال: أكان الصبا إلا خيالًا مسلمًا ... أقام كرجع الطرف ثم تصرما أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا ... من الحسن حتى هم أن يتكلما وقد نبه النوروز في غلس الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما يفتقه برد الندى فكأنه ... ينث حديثاً كان قبل مكتما ومن شجر رد الربيع لباسه ... عليه كما نشرت وشيًا منمنما أحل وأبدى للعيون بشاشة ... وكان قذى للعين إذ كان محرما ورق نسيم الريح حتى حسبتها ... تجيء بأنفاس الأحبة نعما فما يحبس الراح التي أنت خلها ... وما يمنع الأوتار أن تترنما!؟ وما زلت شمسًا للندامى إذا انتشوا ... وراحوا بدورًا يستحثون أنجما تكرمت من قبل الكؤوس عليهم ... فما اسطعن أن يحدثن قبل تكرما! وهذا المعنى الذي أبر البحتري فيه على كل محسن، لأن امرأ القيس قال: سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 612 وقال عنترة: وإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي وما زال من يتعصب على البحتري يجتهد في الطعن على إحسانه في هذا البيت، فإنهم قالوا في قوله: «تكرمت من قبل الكؤوس عليهم»: إن التكرم إنما هو أن يتكلف الكرم، ويتعاطاه وليس من أهله، وكان الأجود أن يقول «كرمت». وهذا غلط منهم قبيح، إنما التكارم هو أن يظهر الكرم وليس من أهله، وكذلك التحالم والتجاهل والتعاقل وما أشبه ذلك، فأما التكرم معناه: أنه جعل نفسه كريمًا، وأدخلها في الكرم، وذلك مثل تشجعت وتجلدت وتبصرت، ومثل هذا لا يكون الإنسان مذمومًا ولا معيبًا به، بل ممدوحًا، ويستعمل «كرم وتكرم» على وجه واحد، وكذلك شجع وتشجع، وخشع وتخشع. وقد قال عنترة: «وكما علمت شمائلي وتكرمي» وهذا ما لا ينكره من له علم بكلام العرب، وعلى أن البحتري قد بين هذا وجمع بين هذين الفعلين في بيت وفرق بينهما فقال: وأرى التكرم في الرجال تكارمًا ... ما لم يكن بمحاتد ومناصب وقال: عذيري من نأي غدًا وبعاد تدارك غي نشوة في لقائها ... ذممت لها حتى الصباح رشادي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 613 وما بلغ النوم المسامح لذة ... سرى أرقي في حينها وسهادي على باب قنسرين والليل لاطخ ... جوانبه من ظلمة بمداد كأن القصور البيض في جنباته ... خضبن مشيباً نازلًا بسواد كأن انخراق الجو غير لونه ... لبوس حديد أو لباس حداد كأن النجوم المستسرات في الدجى ... سكاك دلاص أو عيون جراد ولا قمر إلا حشاشة غائر ... كعين طماس رنقت لرقاد فبتنا وباتت تمزح الكأس بيننا ... بأبيض رقراق الرضاب براد ولم نقترق حتى بدا الديك هاتفاً ... وقام المنادي بالصلاة ينادي قوله: «تدارك غيي نشوة» كلام حلو عجب من العجب. وقوله: «وما بلغ النوم المسامح لذة ... سرى أرقي في حينها ............ » أي: ما بلغ النوم لذة ذهب أرقي في وقتها، والسرى: مسير الليل، يريد مضى أرقي في حينها، وهذا أيضاً معنى حسن لطيف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 614 وقد كرر في هذه الأبيات معنى واحدًا في ثلاثة أبيات متوالية، وهذا لم يكن من عادته ومذهبه، ولا عرفت له مثله، وذلك قوله: ........................... والليل لا طخ ... جوانبه من ظلمة بمداد وقوله: خضبن مشيباً نازلًا بسواد وقوله: لبوس حديد أو لباس حداد وكان في بيت واحد هذه الثلاثة الأبيات كفاية، ولكنه جاء بهذه الثلاثة المعاني لاختلافها. وقوله: كعين «طماس»، «فطماس» كان رجلاً صغير العين أخفشها، لا يكاد يقل جفنه وينظر إلا بشدة، وكان البحتري قد أولع بذكره في شعره، وقد ذكره في غير موضع. وما تؤتي «؟» هذه الأبيات من براعة وحسن معنى وفصاحة. وقال لعبد الله بن الحسين - وكان أهدى أليه نبيذًا -: خان عهدي معاودًا خون عهدي ليس برح الغرام ما بت تخفي ... إن برح الغرام ما بت تبدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 615 صب يسقي فكاد يصبغ ماجا ... ور من حمرتي مدام وخد وجنى الورد ثالث فسبيلي ... شم ورد طورًا وتقبيل ورد حسنت ليلة الثلاثاء وابيضـ ... ـت بمسودها يد الدهر عندي بات أرضى الأحباب عندي وعبد الـ ... ـله أرضى بني الحسين بن سعد سيد يصرع المكارم في السؤ ... دد بالساعد القوي الأشد قد أتتنا تلك الهدية والصهـ ... ـباء من خير ما تبرعت تهدي وتركنا لك المراكب من أحـ ... ـوى غريب في لونه وسمند وبني الروم بين أبيض بض ... مشرق لونه وآخر جعد واقتصرنا على التي فاجأتنا ... وردة عندما استشفت لورد لبست زرقة الزجاج فجاءت ... ذهبًا يستنير في لازورد ومن نادر شعر البحتري وفاخر كلامه قوله يخاطب أبا صالح بن عمار الحلبي في أبياته التي أولها: هذا كتابك فيه الجهل والعنف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 616 مالي وللراح تدعوني لأشربها ... ولي فؤاد بشيء غيرها كلف إن التزاور فيما بيننا خطر ... والأرض من وطأة البرذون تنخسف إذا اجتمعنا على يوم الشتاء فلي ... هم بما أنا لاق حين انصرف أللغدير إذا ضاق الطريق به ... أم للطريق المعمى حين ينعطف وقلت دجن يريق الماء ريقه ... من كل غادية أجفانها وطف وكيف يطرب للدجن المقيم إذا ... سحت سحائبه من بيته يكف لا أقرب الراح أو تجلو السماء لنا ... شمس الربيع وتبهى الروضة الأنف ويفتق الروض خضرًا من معصفرة ... فيكتسي نوره القاطول والنجف هناك تجميع شمل كان مفترقاً ... منا وتأليف رأي كان يختلف وقد قال أبو تمام في هذا المعنى إلا أن البحتري أبر عليه وزاد، وذلك قوله في آل مصعب: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 617 قولا لإبراهيم والفضل الذي ... سكنت مودته جنوب شغافي منع الزيارة والوصال سحائب ... شم الغوارب جأبة الأكناف ظلمت بني الحاج النزيع وأنصفت ... عرض البسيطة أيما إنصاف فأتت بمنفعة الرياض وضرها ... أهل المنازل ألسن الوصاف فجفوتكم وعلمت في أمثالها ... أن الوصول هو القطوع الجافي لما استقلت ثرة أخلاقها ... مملوءة الأرجاء والأكناف وعلمت ما يلقى المزور إذا همت ... من ممطر ذفر وطين خفاف شهدت لها الأنواء أجمع أنها ... من مزنة لكريمة الأطراف فكم اغتدت فيها السماء فأنعمت ... للأرض من تحف ومن ألطاف فكأنني بالروض قد أجلى لنا ... عن حلية من وشية أفواف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 618 وكانني بالشدقمية وسطه ... خضر اللهى والوظف والأخفاف إن الشتاء على شتامة وجهه ... لهو المفيد طلاقة المصطاف وقال البحتري: أناة أيها الفلك المدار ويوم بالمطيرة أمطرتنا ... سماء صوب وابلها عقار نزلنا منزل الحسن بن وهب ... وقد درست مغانيه القفار تلقانا الشتاء به وزرنا ... بنات اللهو إذ قرب المزار أقمنا أكلنا فيها استلاب ... هناك وشربنا فيها بدار تنازعنا المدامة وهي صرف ... وأعجلنا الطرائح وهي نار ولم يك ذاك سخفاً غير أني ... رأيت الشرب سخفهم الوقار رضينا من عقيد وابن حبر ... بصوت الأثل إذ متع النهار تزعزعه الشمال إذا توافى ... على أنفاسها قطر صغار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 619 غداة دجنة للغيث فيها ... خلال الروض حج واعتمار كأن الريح والمطر المناجي ... خواطرها عتاب واعتذار كأن مدار دجلة حيث جاءت ... بأجمعها هلال أو سوار ومن جيد شعره وبارع ألفاظه قوله في قصيدته: توهم ليلى وأظعانها سرى البرق يلمع في مزنة ... تمد إلى الأرض أشطانها فلا تسألا باستواء الزما ... ن وقد وافت الشمس ميزانها شبيبة لهو تلقيتها ... فسايرت بالراح ريعانها ولا أريحية حتى ترى ... طروب العشيات نشوانها وليست مداماً إذا أنت لم ... تواصل مع الشرب إدمانها وكم بالجزيرة من روضة ... تضاحك دجلة ثعبانها غرائب تخطف لحظ العيون ... وقد جلت الشمس ألوانها إذا غرد الطير فيها ثنت ... إليك الأغاني ألحانها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 620 تسير العمارات أيسارها ... ويعترض القصر أيمانها وتحمل دجلة حمل الجموح ... حتى تناطح أركانها كأن العذارى تمشي بها ... إذا هزت الريح أفنانها تعانق للقرب شجراؤها ... عناق الأحبة أسكانها فطوراً تقوم الصبا ... وطوراً تميل أغصانها جنوحاً تنقل أفياءها ... كما جرت الخيل أرسانها ومن جيد شعره في الخمر قوله: قد سقاني ولم يصرد أبو الغو ... ث على العسكرين شربة خلس من عقار تقولها وهي نجم ... ضوأ الليل أو مجاجة شمس وتراها إذا أجدت سروراً ... وارتياحاً للشارب المتحسي أفرغت في الزجاج من كل قلب ... فهي محبوبة إلى كل نفس قوله: «وهي نجم» من: وهى يهي: أي: ما ينفصل من النجم، يريد ضوء النجم عند انقضاضه، ومن يخالفه يقول: ليس ذلك الضوء من النجم، ولكن قد جرى على الألسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 621 وقد ذكر هذه اللفظة في موضع آخر من شعره فقال في وصف فرس أشقر: لو أوقد المصباح منه لسامحت ... بضيائه شية كوهي الكوكب وقوله: «أو مجاجة شمس» من نحو هذا، يريد ضوء الشمس، وضوؤها هو الذي تمجه على الأرض. وقوله: «أفرغت في الزجاج من كل قلب»، من معانيه التي يسألأ عنها، وإنما أراد «وتراها إذا أجدت» بضم التاء، أي: تحسبها أفرغت في الزجاج من كل قلب، أي: كأن القلوب كانت أوعيتها، فمن أجل ذلك صارت محبوبة إلى كل نفس. وقد قيل: إنما أراد أن الذي يسكبها في الإناء لا يسكبها بتكلف ولا على سبيل ضرورة، ولا عمل كسائر الأعمال التي لا لذة فيها لمن يعملها، لكن يسكبها وهو على أتم شهوة لذلك ومسرة به، والتذاذ له، فكأن قوله: «من كل قلب» أي يفرغها في كأسها من كل قلبه، فهذه كلمة مستعملة، ألا تراهم يقولون: ليس هذا من كل قلبك، في الشيء الذي يظن أن الإنسان قد أبطن غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 622 وهذا من نادر شعره ومشهور إحسانه ومعانيه. وقال أبو تمام وكتب بها إلى الحسن بن وهب يستهدي منه نبيذا: جعلت فداك عبد الله عندي ... بعقب البعد منه والبعاد له لمة من الكتاب بيض ... قضوا حق الزيادة والوداد وأحسب يومهم إن لم تجدهم ... مصادف دعوة منهم جماد فكم نوء من الصهباء سار ... وآخر منك بالمعروف غاد فهذا يستهل على غليلي ... وهذا يستهل على بلادي ويسقي ذا مذانب كل عرق ... ويترع ذا قرارة كل واد دعوتهم عليك وكنت ممن ... نعنيه على العقد الجياد قوله: «البعد والبعاد» جعل البعد منه في موضع هجره، وجعل البعاد الغيبة، وقوم يروونه: «بعقب الصد منه والبعاد» والذي قاله الرجل هو هذا، لأني كذا وجدته في الأصول العتق. وقوله: «فهذا يستهل على غليلي» أي: يروي عطشي «وهذا يستهل على بلادي» أي على مواطني ومحلي، وقوم يروونه «يستهل على تلادي» وذاك عندي خطأ، لأنه لا يؤدي إلى معنى، إلا أن يعلمنا أن معروف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 623 الممدوح انضاف إلى مال له تالد، وهذا يوجب ألا يكون معروف الممدوح وقع منه موقع حاجة كوقوع الشراب الذي بل غليله، ولأن يكون استهل على بلاده ومحله أولى، وليس هو أيضاً بالجيد ولا الحلو. وقال البحتري -وكتب بها إلى أحمد بن محمد بن شجاع يستهديه نبيذاً في آخر ليلة من شعبان-: لك الخير ما مقدار عفوي وما جهدي ... وآل حميد عند آخرهم عندي تتابعت الطاءان طوس وطيء ... فقل في خراسان وإن شئت في نجد أتوني بلا وعد وإن لم تجد لهم ... براحهم راحوا جميعاً على وعد ولم أر خلاً كالنبيذ إذا جفا ... جفاك له خلانه وذوو الود ومما دهى الفتيان أنهم غدوا ... بآخر شعبان على أول الورد غداً يحرم الماء القراح وتنتوي ... وجوه من اللذات مشجية الفقد أعنا على يوم يشيع لهونا ... إلى ليلة فيها له أجل مرد ولست أعد كم ليلة لك سامحت ... يدي ومجد منك شيد لي مجدي وما النعمة البيضاء في شركة الغنى ... بل النعمة البيضاء في شركة الحمد وهذا من جيد الشعر وحلو المعاني. قوله: «عند آخرهم عندي» أي: عن آخرهم، «وتنتوي وجوه»: هو من النية والنوى، أي: تبعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 624 وقوله: «لك الخير» أحسن من قول أبي تمام: «جعلت فداك». وقال البحتري يخاطب أبا صالح بن عمار الحلبي: أخي إنه أضعت به رشدي ... ولم أر هزلي في انصرافي ولا جدي تركتك لما استوقف الدجن ركبه ... علينا وطار القلب خوفاً من الرعد يجر على الغيث هداب مزنة ... وآخرها فيه وأولها عندي تعجل عن ميقاته فكأنه ... أبو صالح قد بت منه على وعد وظلت أقاسي حارثيك بعدما انـ ... ـصرفت فسلني عن معاشرة الجند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 625 له خلق جاسي النواحي كأنني ... أمارس منه هادي الأسد الورد وهذا من أحسن كلام وأحلى مذهب وقال يخاطب أبا نوح ويستهديه شراباً: قربت من الفعل الكريم يداكا ... ودنا على المتطلبين جداكا فاسلم أبا نوح لتشييد العلا ... وفداك من صرف الزمان عداكا إبي لأضمر للربيع محبة ... إذ كنت أعتد الربيع أخاكا وأراك بالعين التي لم تنصرف ... ألحاظها إلا أتى نعماكا ما للمدام تأخرت عن فتية ... عزموا الصبوح وأملوا جدواكا بكرت لهم سقيا السحاب وقصرت ... عنهم أوان تعلة سقياكا ما كان صوب المزن يطمع قبلها ... في أن يجيء نداه قبل نداك ولديك صهباء كأن نسيمها ... من طيب عرفك أو جميل نثاكا وكأن بشرك في شعاع كؤوسها ... لما توالت في الأكف دراكا تجلو برونقها العيون إذا أتت ... رسلاً ونشربها على ذكراكا يغني النديم عن الغناء حديثنا ... بمحاسن لك لم تكن لسواكا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 626 فقوله: «تجلو برونقها العيون» أي: تجلو أبصارنا كما يقال: النظر إلى كذا يجلو البصر. وقال: عدمت النغيل فما أدمره ... وأولى الصديق بأن يهجره إذا قلت قدمه كيسه ... عراه من النقص ما أخره دعانا إلى مجلس فاحش ... قبيح بذي اللب أن يحضره فجاء نبيذ له حامض ... يشق على الكبد المقفره إذا صب مسوده في الزجا ... ج فكأس النديم به محبره! تركت مشمس قطربل ... وجرعتنا دقل الدسكره ومالي أطعتك في شربه ... وما كنت أعهدني ذا شره وما يعتريني الذي يعتريـ ... ـك بحق السواد من الأبخره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 627 فلأياً عزمنا على الإنصرا ... ف وقد أوجب الوقت أن تحذره فقمنا على عجل والنجو ... ممولية قد هوت مدبره وكان الجواز على علة ... وكدنا نبيت في المقطره ولما نزلت أطل الخما ... ر بحد سماديره المسهره ولا تسألني عن حالة ... بليت بها صعبة منكره وليلة سوء أمرت علي ... كليلة شيخك في القوصره هذا البيت الأخير يدل على أنه النغيل بالنون. وقال أبو تمام: قد عرفنا دلائل المنع أو ما ... يشبه المنع في احتباس الرسول وافتضحنا عند الزبيب بما صح ... لديه من قبح وجه الشمول فاجأتنا كدراء لم تسي من تسـ ... ـنيم جريالها ولا سلسبيل بعقار لا نشرها نفحة المسـ ... ـك ولا خدها بخد أسيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 628 وكأن الأنامل اعتصرتها ... بعد كد من ماء وجه البخيل فهي نزر لو أنها من دموع الصـ ... ـب لم تشف من حر الغليل لا تهدى سبل العروق ولا تنـ ... ـسل من مفصل بغير دليل احتساباً بذلتها أم تصدقـ ... ـت بها رحمة على ابن السبيل قد كتبنا لك الأمان فما تسـ ... ـأل شيئاً عمر الزمان الطويل رب معط قد امتحنا نداه ... وعرفنا كثيره بالقليل فالبحتري اقتص ما جرى عليه، وقوله: «فكأس النديم به محبرة» معنى صالح. وذم أبي تمام لشرابه أجود وأبلغ، وغرضه فيه أحسن، وقول البحتري: «وكأس النديم به محبرة» نحو قول ابن الرومي: لو تراني وفي يدي قدح الدو ... شاب أبضرت بازيار الغراب وما قال أول ولا آخر في وصف الخمر والندمان كقول أبي نواس فإنه أبر فيه على من قبله، ولم يطمع في اللحاق به من بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 629 وقال البحتري في بعض بني حميد: خير يوميك في الهوى واقتباله نعمت كأسه بطيب فقلنا ... أعيت نشر خلة من خلاله إن فزعنا إليه في الراح أدتـ ... ـنا إليها طوعاً سيوب سجالة نتلقى المدام من جود كف ... يختطيها لنا إلى حر ماله فتركنا يمينه لجداه ... واستمحنا ناجوده من شماله وهذا ما لا مزيد عليه في الحسن والحلاوة والبراعة. وقال يمدح بعض بني مخلد ويطلب منه شراباً: أرى الله خص بني مخلد ... بأكرم مأثرة للعرب تضاف الخلافة في دورهم ... فتخبر عن سروهم بالعجب ملوك لهم عادة في القرى ... تورثها حسب عن حسب ترى الكأس صافية كاللجيـ ... ـن والخمر صافية كالذهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 630 وقال في علي بن يحيى الأرمني: أبلغ أبا حسن بآية جوده ... عندي ونعمته التي لا تجهل إني بلوت له خلالاً لم يرح ... في مثل أصغرها الغمام المسبل ماذا نقول فلم تزل ذا همة ... فصل تقول بها الجميل وتفعل في فتية بكروا علي تطرباً ... من أوجه شتى وفيهم دعبل وعليك سقياهم لنا إذ لم يكن ... في نوبة إلا عليك معول وأحق من وسع الندامى جوده ... بالراح من كانت له قطربل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 631 صفحة فارغة [632] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 632 * باب في وصف الغلمان واستهدائهم قال أبو تمام -وأهدى إليه الحسن بن وهب غلامًا- في قصيدته التي أولها: لمكاسر الحسن بن وهب أطيب قد جاءنا الرشأ الذي أهديته ... خرقاً ولو شئنا لقلنا المركب لدن البنان له لسان أعجم ... خرس معانيه ووجه معرب يرنو فيثلم في القلوب بطرفه ... ويعن للنظر الحرون فيصحب قد صرف الرانون خمرة خده ... وأظنها بالريق منه ستقطب حمد حبيت به وأجر حلقت ... من دونه عنقاء ليل مغرب خذه وإن لم ترتجع معروفه ... محض إذا ذكر الرجال مهذب وانفخ لنا من طيب خيمك نفحة ... إن كانت الأخلاق مما يوهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 633 وقال البحتري وأهدى إليه محمد بن علي القمي غلاماً، وكان البحتري يواصله فانقطع عنه، فكتب إليه محمد بن علي: هجرت كأن الوصل أعقب وحشة ... وما خلت وصلاً قبله يعقب الهجرا فقال البحتري مجيباً له: فتى مذحج عفواً فتى مذحج غفرا ... لمعتذر جاءت إساءته تترا ومن يهب النيل الذي سمحت به ... يداك بلا من فلن يمنع العذرا فإن قلت بي كبر فمثل الذي أرى ... على الناس من نعماك يملؤني كبرا مواهب لي منها الغنى فمتى التقى ... بساحتها حمد فلي حمدها طرا تضاف إلى مجدي وتجري إلى يدي ... فأملكها مالاً وأملكها فخرا أتاني قريض منك يحدوه نائل ... فأنطقني جوداً وأفحمني شعرا وأكسبني شغلاً عن الوصل شاغلاً ... تعاتبني فيه وتعتده هجرا فإن كنت مشغوفاً بقربي آنساً ... بشخصي فلم خولتني ذلك البدرا لئن كان إسعافي به منك قبلها ... وفاء لقد كان انفرادي به غدرا وما هو إلا درة لم أجد لها ... سوى جودك الأمسي من دونها بحرا حملت عليه في سبيل فتوة ... هي الثغر دون المجد أو تفضل الثغرا فأنت تصيب الحمد حيث تلألأت ... كواكبه إن أنت لم تصب الأجرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 634 وجدت نداك اليوم ألطف موقعاً ... وقد كان لي خلاً فأصبح لي صهرا فإن أنا لم أشكرك جاهداً ... فلا نلت نعمى بعدها توجب الشكرا أخذ معنى قوله: «فأنت تصيب الحمد حيث تلألأت ... كواكبه ................... » من قول أبي تمام: حمد حبيت به وأجر حلقت ... من دونه عنقاء ليل مغرب وبيت أبي تمام أجود. وقال البحتري يستهدي أبا إسحاق إبراهيم بن المدبر غلاماً: عمرت أبا إسحاق ما صلح العمر ... ولا انفك مزهواً بأيامك الدهر لنا كل يوم من عطائك نائل ... وعندك من تقريظنا أبداً نشر وأنت ندى نحلته حيث لا ندى ... وقطر يرجى جوده حيث لا قطر على أنني بعد الرضا متسخط ... ومستعتب من خطة سهلها وعر وقد أوحشتني ردة لم أكن لها ... بأهل ولا عندي بتأويلها خبر فكم جئت طوع الشوق من بعد غاية ... إلى غير مشتاق وكم ردني بشر وما باله يأبى دخولي وقد رأى ... خروجي من أبوابكم ويدي صفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 635 وقد أدرك الأقوام عندك سؤلهم ... وعمهم من سيب أحسانك الكثر فكيف ترى المحمول كرهاً على الصدى ... وقد صك رجليه بأمواجه البحر تأت لموتور بدا لك ضغنه ... فإن الحجاب عند ذي خر وتر وقد زعموا أن ليس يغتصب الفتى ... على عزمه إلا الهدية والسحر فإن كنت يوماً لا محالة مهدياً ... ففي المهرجان الوقت إن فاتك الفطر وإن تهد ميخائيل ترسل بتحفة ... تقضى لها العتبى ويغتفر الوزر غرير تراءاه العيون كأنما ... أضاء لها في عقب داجية فجر ولو يبتدي في بضع عشرة ليلة ... من الشهر ما شك امرؤ أنه البدر إذا انصرفت يوماً بعطفيه لفتة ... أو اعترضت من لحظه نظرة شزر رأيت هوى قلب بطيئاً نزوعه ... وحاجة نفس ليس عن مثلها صبر ومثلك أعطى مثله لم يضق به ... ذراعاً ولم يحرج به أو له صدر على أنه قد مر عمر لطيبه ... ومن أعظم الآفات في مثله العمر غداً تفسد الأيام منه ولم يكن ... بأول صافي الحسن غيره الدهر ويمنى بحضني لحية مدلهمة ... لخديه منها الويل إن ساقها قدر تجاف له عنه فإنك واجد ... به ثمناً يغليه في مدحك الشعر ولا تطلب العلات فيه وترتقي ... إلى حيل فيها لمعتذر عذر فقد يتغابى المرء في عظم ماله ... ومن تحت ثوبيه المغيرة أو عمرو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 636 ويخرق بالتبذير وهو مجرب ... فلا يتمارى القوم في أنه غمر ومن لم ير الإيثار لم يشتهر له ... فعال ولم يبعد لسؤدده ذكر فإن قلت نذر أو يمين تقدمت ... فأي جواد حل في ماله نذر أتعتده علقاً كريماً فإنما ... مرام كريم القوم أن يكرم الذخر وإن كنت تهواه وتأبى فراقه ... فقد كان وفر قبله فمضى وفر وألطف منه في الفؤاد محلة ... ثناء تبقيه القصائد أو شكر وهذا من إحسان أبي عبادة المشهور. وقال يخاطب أبا جعفر حميد ويستهديه غلاماً في قصيدة أولها: أبكاء في الدار بعد الدار قد مللناك يا غلام فغاد ... بسلام أو رائح أو سار سرقات مني خصوصاً فهلا ... من عدو أو صاحب أو جار أنا من ياسر ويسر وفتح ... لست من عامر ولا عمار لا أريد النظير يخرجه الشتـ ... ـم إلى الاحتجاج والإفتخار وإذا رعته بناحية السو ... ط على الذنب راعني بالفرار ما بأرض العراق يا قوم حر ... يفتديني من خدمة الأحرار هل جواد بأبيض من بني الأصـ ... ـفر ضخم الجدود محض النجار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 637 لم ترع قومه السرايا ولم يغـ ... ـزهم غير جحفل جرار أو خميس كأنما طرقوا منـ ... ـه بليل أو صبحوا بنهار في زهاه أبو سعيد على آ ... ثار خيل قد حاجزته بثار يتلظى كأنه لصفوف السـ ... ـبي في عسكريه ذو الأذعار فوق صعف الصغار إن وكل الأمـ ... ـر إليه ودون كيد الكبار رشأ تخبر القراطق منه ... عن كنار تضيء تحت الكنار «عن كنار» أي عن جسم يضيء كالنار «تحت الكنار»، أي تحت القباء الذي يلبسه على جسده، أراه بالرومية، وهو اسم للقباء معروف. لك من ثغره وخديه ما شئـ ... ـت من الأقحوان والجلنار أعجمي إلا عجالة لفظ ... عربي تفتح النوار وكأن الذكاء يبعث منه ... في سواد الأمور شعلة نار يا أبا جعفر وما أنت بالمد ... عو إلا لكل أمر كبار شمس شمس وبدر آل حميد ... يوم عد الشموس والأقمار وفتى طيء وشيخ بني الصا ... مت أهل الأحساب والأخطار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 638 لك من حاتم وأوس وزيد ... إرث أكرومة وإرث فخار سمح بين برمة أعشار ... تتكفا وجفنة أكسار وسيوف مطبوعة بالمنايا ... واقعات مواقع الأقدار تلك أفعالهم على أول الدهـ ... ـر وكانوا جداولاً من بحار أملي فيكم وحقي عليكم ... ورواحي إليكم وابتكاري واضطرابي في الناس حتى إذا عد ... ت إلى حاجة فأنتم قصاري ولعمري للجود للناس بالنا ... س سواه بالثوب والدينار وعزيز إلا لديك بهذا الـ ... فج أخذ الغلمان بالأشعار وهذه ألفاظ ما أظنك سمعت بمثلها، ولا مثل ألفاظها وسبكها وكثرة مائها ورونقها. وقال البحتري -وهي من مجونه النادر-: يا أبا جعفر غدونا حديثاً ... في سواجير منبج مستفيضا عظمت عذرتي إليك وطالت ... فاغفرن ذنبي الطويل العريضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 639 نك غلامي إذا اتخذت غلاما ... واعف إن المعروف كان قروضا قطع ابن الغلائلي وداداً ... كان من قبل وصله مفروضا بت أعطي منه غرائب حسن ... بات من منعها الوفاء مريضا كفلاً ناعماً وكشحاً لطيفا ... وقواماً لدنا وطرفاً غضيضا وغناء لمن أراد غناء ... وقريضاً لمن أراد قريضا من جواد سمح يجمش باللحـ ... ـظ ذكاء ويفهم التعريضا ومباح فما يحصنه السو ... ر ولو بات دونه معروضا وإذا ما أردت أن تمنع النا ... س ورود الفرات كنت بغيضا وقال أبو تمام يخاطب الحسن بن وهب: أبا علي لصرف الدهر والغير ... ولليالي وللأيام والعبر أذكرتني أمر داود وكنت فتى ... مصرف القلب في الأهواء والذكر أعندك الشمس قد راقت محاسنها ... وأنت مشتغل الأحشاء بالقمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 640 إن أنت لم تترك السير الحثيث إلى ... جآذر الروم أعنقنا إلى الخزر إن النفور له مني مقر هوى ... يحل مني محل السمع والبصر فرب أمنع منه جانباً وحمى ... قد بات ليلته مني على حذر سيرت فيه جنود العزم فانكشفت ... عنه غيابتها عن نيكة هدر سبحان من سبحته كل جارحة ... ما فيك من طمحان الأير والنظر أنت المقيم فما تسري رواحله ... وأيره أبداً منه على سفر وهذا أيضاً جيد حلو. وقال أبو تمام أيضاً: كشفتك الأيام يا إنسان ... لا تكن للذي أهنت الهوان إن تكن قد فضضت بعدي فليست ... بدعة أن يفلق الرمان نشرتك الكؤوس بعد عفاف ... كنت تطوى من تحته وتصان أيها السابق المسامح في الـ ... ـلذات والقصف أين ذاك الحران ما تحداك رائض لك إلا ... قلت بيني وبينك الميدان كيف أشقى بكم ويسعد غيري ... بهواكم حبي إذن كشخان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 641 وهذا من رديء شعره وبارده المشهور في هذا المعنى. ولأبي تمام في ذكر المردان وهجائهم وخروج اللحى والنتف ونحو هذه المعاني مقطوعات كثيرة رديئة ليس في ذكرها فائدة. ومما يدخل في هذا الباب ما قاله البحتري في غلامه نسيم فمن ذلك قوله فيه وقد باعه: قل للجنوب إذا غدوت فبلغي ... كبدي نسيماً من جناب نسيم أخدعت عنك وأنت بدر خادع ... لليل من ظلم له وغيوم كرم الزمان ولمت فيك ولا ترى ... عجباً سوى كرم الزمان ولومي وظلمت نفسي جاهداً في ظلمها ... فاسمع ندامة ظالم مظلوم قد زاد يوم البؤس بعدك أنه ... أفضى إلي بعقب يوم نعيم وأقمت في قلبي وشخصك سائر ... لا تبعدن من سائر ومقيم لا كان وجدي أين كان وأنت لي ... ملك وعهدي منك غير ذميم الآن أطمع في هواك وبيننا ... عين الرقيب وباب إبراهيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 642 وقال: دعا عبرتي تجري على الجور والقصد ... أظن نسيماً قارف الهجر من بعدي خلا ناطري من طيفه بعد شخصه ... فيا عجباً للدهر فقداً على فقد خليلي هل من نظرة توصلانها ... إلى وجنات ينتسبن إلى الورد وقد يكاد القلب ينقذ دونه ... إذا اهتز في قرب من العين أو بعد بنفسي حبيب نقلوه عن اسمه ... فبات غريباً في رخاء وفي سعد ويا حائلاً عن ذلك الاسم لا تحل ... وإن جهد الأعداء عن ذلك العهد كفى حزناً أنا على الوصل نلتقي ... فواقاً فتثنينا العيون إلى الصد فلو تمكن الشكوى لخبرك البكا ... حقيقة ما عندي وإن جل ما عندي هوى لا جميل في بثينة ناله ... بمثل ولا عمرو بن عجلان في هند غصبتك ممزوجاً بنفسي ولا أرى ... لهم زاجراً ينهى ولا حاكماً يعدي فوا أسفاً لو قاتل الأسف الجوى ... ولهفي لو أن اللهف في ظالم يجدي أبا الفضل في تسع وتسعين نعجة ... غنى لك عن ظبي بساحتنا فرد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 643 أتأخذه مني وقد أخذ الجوى ... مأخذه مما أسر وما أبدي وتخطو إليه صبوتي وصبابتي ... ولم يخطه بثي ولم يعده وجدي وقلت اسل عنه والجوانح حوله ... وكيف سلو ابن المفرغ عن برد وقال فيه: أنسيم هل للدهر وعد صادق ... مما يؤمله المحب الوامق مالي فقدتك في المنام ولم تزل ... عون المشوق إذا جفاه الشائق أمنعت أنت من الزيارة رقبة ... منهم فهل منع الخيال الطارق اليوم جاز بي الهوى مقداره ... في أهله وعلمت أني عاشق فليهنيء الحسن بن وهب أنه ... يلقى أحبته ونحن نفارق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 644 * باب في وصف الرياض والأنوار والسحائب والأمطار وذكر الأبنية قال أبو تمام في وصف الزهر: رقت حواشي الدهر فهي تمرمر ... وغدا الثرى في حليه يتكسر نزلت مقدمة المصيف حميدة ... ويد الشتاء جديدة لا تكفر لولا الذي غرس الشتاء بكفه ... لاقى المصيف هشائماً لا تثمر كم ليلة آسى البلاد بنفسه ... فيها ويوم وبله مثعنجر مطر تذوق الصحو منه وبعده ... صحو يكاد من الغضارة يمطر وندى إذا ادهنت به لمم الثرى ... خلت السحاب أتاه وهو معذر غيثان فالأنواء غيث ظاهر ... لك وجهه والصحو غيث مضمر أربيعنا في تسع عشرة حجة ... حقاً لهنك للربيع الأزهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 645 ما كانت الأيام تسلب بهجة ... لو أن حسن الأرض كان يعمر أو لاترى الأشياء إن هي غيرت ... سمجت وحسن الأرض حين تغير يا صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوه الأرض كيف تصور تريا نهاراً مشمساً قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر دنيا معاش للورى حتى إذا ... جلي الربيع فأنما هي منظر أضحت تصوغ بطونها لظهورها ... نوراً تكاد له القلوب تنور من كل زاهرة ترقرق بالندى ... فكأنها عين إليه تحدر تبدو فبحجبها الجميم كأنها ... عذراء تبدو تارة وتخفر حتى غدت وهداتها ونجادها ... فئتين في حلل الربيع تبخر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 646 مصفرة محمرة فكأنها ... عصب تيمن في الوغى وتمضر من فاقع غض النبات كأنه ... در يشقق قبل ثم يزعفر أو ساطع في حمرة فكأن ما ... يدنو إليه من الهواء معصفر صنع الذي لولا بدائع صنعه ... لم يلف أصفر بعد إذ هو أخضر قوله: «تذوق الصحو منه» أي: تتبين أنه يقلع ولا يدوم، وأن الصحو يأتي سريعاً في أثره، وقد صحف بعض من فسر شعر أبي تمام في هذه اللفظة فقال: «يروق الصحو منه» مكان «تذوق» وقال أخر: «تذوب الصخر منه». وقوله: «أو لا ترى الأشياء إن هي غيرت ... سمجت ................. » وقد فسرت معناه في جملة أبيات من شعره جعلت لتفسيرها جزءاً مفرداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 647 وقوله: «فكأنها عين إليه تحدر» مما يسألأ عنه أيضاً أن يكون قدم كناية العين فيها، وأراد بقوله: «من كل زاهرة» يعني النور، وقد ذكره في البيت الذي قبله، فلذلك نكر، فقال: «إليه» أي: فكأن عيناً تتحدر إلى كل زاهرة، يعني عين ماء، وكان وجه الكلام: فكأنه عين إليها، أي: فكأن الندى عين إلى الزاهرة، فقلب فقال: «فكأنها عين إليه»، ومثل هذا القلب لا يسوغ لمثله، وإلى واللام تعتقبان، قال الله تعالى: «بأن ربك أوحى لها» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 648 وقال في موضع آخر: «وأوحى ربك إلى النحل» فإن كان هذا يجوز في كل موضع، فلعله أراد: فكأنها عين، أي: فكأن الزاهرة عين للذي يتحدر. وهذه أبيات حسان، وتشبيهات وتمثيلات صحيحة، ولكن الصنعة وشدة التكلف ظاهران فيها، وليس لفظها، ولا نسجها بالحلو، والجيد النادر في هذا المعنى قول البحتري: مثالك من طيف الخيال المعاود سقى الغيث أكناف الحمى من محلة ... إلى الحقف من رمل النقا المتقاود ولا زال مخضر من الغيث يانع ... عليه بمحمر من اللون جاسد شقائق يحملن الندى فكأنه ... دموع التصابي في خدود الخرائد كأن يد الفتح بن خاقان أقبلت ... تليها بتلك البارقات الرواعد فمن لؤلؤ في الأقحوان مفصل ... على نكت مصفرة كالفرائد يذكرنا ريا الأحبة كلما ... تنفس في جنح من الليل بارد كأن جنى الحوذان في رونق الضحى ... دنانير تبر من توأم وفارد رباع تردت بالرياض مجودة ... بكل جديد الماء عذب الموارد إذا راوحتها مزنة بكرت لها ... شآبيب مجتاز عليها وقاصد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 649 قوله: «دموع التصابي» التصابي: أن يفعل ما يفعله الصبي وإن لم يكن صبياً من اللهو واللعب والغزل، فقول البحتري: «دموع التصابي» يريد دموع الدلال بدلاً وطلباً لشيء وتشوقاً إليه، لا دموع حزن وثكل ومصيبة، فتمم المعنى وحسنه وكمله بقوله: «دموع التصابي». والفرائد: جمع فريدة، وهي شذر يصاغ كالخرز من الذهب يفصل به اللؤلؤ في العقد. وقوله: «جديد الماء» يريد الغيث. وقال البحتري أيضاً، وليست من فحل كلامه: أدمع قد غرين بالهملان ابكيا هذه المغاني التي أخـ ... ـلقها بعد عهدها بالغواني أسعدا الغيث إذ بكاها وإن كا ... ن خلياً من كل ما تجدان جاد فيها بمائه واستجدت ... حللاً جمة من الألوان فهي تهتز بين إفرنده الأخـ ... ـضر حسناً ووشيه الأرجوان في سماء من خضرة الروض فيها ... أنجم من شقائق النعمان واصفرار من لونه وابيضاض ... كاجتماع اللجين والعقيان وتريك الأحباب يوم تلاق ... باعتناق الحوذان والأقحوان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 650 صاغ منه الربيع شكلاً لأخلا ... ق حسين ذي الجود والإحسان فكأن الأشجار تعلو رباها ... بنثير الياقوت والمرجان وكأن الصبا تردد فيها ... بنسيم الكافور والزعفران هذه أبيات كما تراها في لينها وخنوثتها وشدة تكلفها، ولكن تلك على كل حال أشف. وقال البحتري: أحرام أن ينجز الموعود ذهبت جدة الشتاء ووافا ... نا شبيهاً بك الربيع الجديد أفق مشرق وجو أضاءت ... في سنا نوره الليالي السود وكأن الحوذان والأقحوان الـ ... ـغض نظمان لؤلؤ وفريد قطرات من السحاب وروض ... نثرت وردها عليه الخدود وليال كسين من رقة الصيـ ... ـف فخيلن أنهن برود الرياح التي تهب نسيم ... والنجوم التي تطل سعود ودنا العيد وهو للناس حتى ... يتقضى وأنت للعيد عيد وهذا من حلو ألفاظه ونسجه، غير أنه أساء في قوله: «فخيلن أنهن برود»، لأن البرود لا توصف بالرقة، وإنما توصف بالمتانة والصفاقة، وإذا وصف الشيء ذو الألوان قيل: كأنه برد، لأن البرد قل ما يكون غزله من نسج لون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 651 واحد، وإنما يكون من ألوان، فإنما علق هذا من قول أبي تمام -الذي أخطأ كل الخطأ- يصف الحلم: رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه ... بكفيك ما ماريت في أنه برد وقد ذكرت هذا في أغاليطه، ولست أدري كيف ذهب مثله على البحتري مع جودة طبعه وكثرة مذاهبه. وقال أبو تمام: ألا صنع البين الذي هو صانع كأن السحاب الغر غيبن تحتها ... حبيباً فما ترقا لهن مدامع ربى شفعت ريح الصبا لرياضها ... إلى الغيث حتى جاد وهو هوامع فبشر الضحى غدواً لهن مضاحك ... وجنب الثرى ليلاً لهن مضاجع كساك من الأنوار أبيض ناصع ... وأصفر فاقع وأحمر ساطع والأبيات الثلاثة صالحة، وهذا البيت أتيت به من أجلها، لا طائل فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 652 وقال أيضاً يصف الربيع، وهي أرجوزة رديئة شديدة الاضطراب وجدت في كتاب أبي سعيد السكري هذا القدر: إن الربيع أثر الزمان لو كان ذا روح وذا جثمان لكان بساماً من الفتيان بوركت من وقت ومن أوان فالأرض نشوى من ثرى نشوان تختال في مفوف الألوان في زاهر كالحدق الرواني من ناضر وفاقع وقاني عجبت من ذي فكرة يقظان رأى جفون زهرة الأفنان فشك أن كل شيء فان ... كان الغرض في ترتيب الموازنة أن أبدأ بأنواع المناسب التي ذكراها في ابتداء قصائدهما قبل المدح، ولما ذكرت ما كان من وصفهما للخمر والرياض في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 653 القصائد وجب أن أذكر ما كان من الأشعار القائمة بأنفسها في غير قصائد المدح ليكون الباب باباً واحداً. ومن أليق الأشياء بوصف السحاب وصف الأمطار، وكان الأولى بالتأليف أن يكون قبل ذكر الرياض، وأنا الآن أجعل بابها في هذا الموضع، ليكون كل نوع مع شكله ونظيره. وقد مضى من ذكر السحائب والأمطار في باب «الدعاء للمنازل والربوع بالسقيا» ما مضى، وهذا الباب طريقه غير ذلك الطريق. قال أبو تمام: حماد من نوء له حماد في ناحرات الشهر لا الدآدي أطلق من ضيق ومن توادي فجاء يحدوها فنعم الحادي سارية مسمحة القياد مسودة مبيضة الأيادي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 654 سهادة نوامة بالوادي كثيرة التعريس بالوهاد نزالة عند رضى العباد قد جعلت للغيث بالمرصاد كأنه ضمائر الأغماد ثم برعد صخب الإرعاد يسلقها بألسن حداد لما سرت في حاجة العباد ولحق الأعجاز بالهوادي فاختلط السواد بالسواد أظفرت الثرى بما يغادي ورويت هاماته الصوادي كم قد جلت لمقتر عن زاد وعن رواء سنة جماد وجلبت من رزقه العتاد من القلاص الخور والجلاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 655 والمقربات الصفوة الجياد ومن حبير اليمنة الأبراد من أتحميات ومن وراد هدية من صمد جواد حتى تحل بالصعيد الثادي قوله: «حماد» أي: احمدوه من نوء، كما تقول للجماعة: نزال، أي: انزلوا، وكذلك تقول للواحد. وقوله: «في ناحرات الشهر» يريد الأيام التي هي أوائل الشهر التي نحرته، أي جاءت في نحره، و «الدآدي» الثلاثة الأيام التي هي أواخر الشهر. و «الثأد» مهموز هو الندى، فجعل «الثأد» في مكان «الثئد»، وخفف وأسقط الهمزة من أجل القافية. وقال أيضاً: لم أر عيراً جمة الدؤوب تواصل التهجير بالتأويب أبعد من أين ومن لغوب منها غداة الشارق المهضوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 656 نجائباً وليس م نجيب شبابة الأعناق بالعجوب كالليل أو كاللوب أو كالنوب منقادة لعارض غربيب كالشيعة التفت إلى النقيب أخذه بطاعة الجنوب ناقضة لمرر الخطوب تكف غرب الزمن العصيب محاءة للأزمة اللزوب محو استلام الركن للذنوب لما بدت للأرض من قريب تشوفت لوبله السكوب تشوف المريض للطبيب وطرب المحب للحبيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 657 وفرحة الأديب بالأديب وخيمت صادقة الشؤبوب وقام فيها الرعد كالخطيب وحنت الريح حنين النيب والشمس ذات شارق محجوب قد غربت من غير ما غروب والأرض في ردائها القشيب في زاهر من نبتها رطيب بعد اشهباب الثلج والضريب كالكهل بعد السن والتحنيب تبدل الشباب بالمشيب كم آنست من حاجر غريب وغلبت من الثرى المغلوب ونفست عن بارض مكروب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 658 وسكنت من نافر الجنوب وأقنعت من بلد رغيب تحفظ عهد الغيث بالمغيب لذيذة الريق مع الصبيب كأنها تهمي على القلوب وهذا كله جيد نادر لفظاً ومعنى، وهو من أحسانه المشهور. وقال أيضاً: الروض من بين مغبوق وصطبح ... من ريق مكتفلات بالثرى دلح دهم إذا ضحكت في أرضه طفقت ... عيون نوارها تبكي من الفرح وقال: أما ترى ما أصدق الأنواءا قد أفنت الحجرة واللأواء فلو عصرت الصخر صار ماءا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 659 من ليلة من وبلها ليلاءا إن هي عادت ثنية عداءا أصبحت الأرض بها سماءا وقال أيضاً: سارية لم تكتحل بغمض كدراء ذات هطلان محض موقرة من خلة وحمض تمضي وتبقي نعماً لا تمضي قضت بها السماء حق الأرض وهذا كله جيد لطيف المعنى. وقال: يا سهم للبرق الذي استطارا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 660 بات على رغم الدجى نهارا حتى إذا ما أنجد الأبصارا وبلاً جهاراً وندى سرارا آض لنا ماء وكان نارا وهذا أيضاً جيد نادر. وقال البحتري في صفة الغيث: ذات ارتجاز بحنين الرعد ... مجرورة الذيل صدوق الوعد مسفوحة الدمع بغير وجد ... لها نسيم كنسيم الورد ورنة مثل زئير الأسد ... ولمع برق كسيوف الهند جاءت بها ريح الصبا من نجد ... فانتثرت مثل انتثار العقد فراحت الأرض بعيش رغد ... من وشي أنوار الربا في برد كأنما غدراتها في الوهد ... يلعبن من حبابها بالنرد وهذا الذي أبر البحتري فيه على كل حسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 661 وقال أبو تمام -ويجب أن يكتب في أول الباب قبل الرجز-: ديمة سهلة القياد سكوب ... مستغيث بها الثرى المكروب لو سعت بقعة لإعظام نعمى ... لسعى نحوها المكان الجديب لذ شؤبوبها وطاب فلو تسـ ... ـطيع قامت فعانقتها القلوب فهي ماء يجري وماء يليه ... وسحاب تنشا وأخرى تصوب كشف الروض رأسه واستسر الـ ... ـمحل فيها كما استسر المريب وإذا الري بعد محل وجرحا ... ن لديها يبرين أو ملحوب أيها الغيث حي أهلاً بمغدا ... ك وعند السرى وحين تؤوب وهذه أيضاً معان حسنة وطريقة حلوة ذهب فيها إلى بعض ما ذهب إليه في الأرجوزة التي على الباء، وليس للبحتري في وصف السحاب غير هذه الأرجوزة التي ذكرتها، إلا أن يكون البيت والبيتان متفرقة في القصائد. ولست أفضل أحدهما على الآخر في هذا الباب، لأنهما جميعاً انتهيا إلى كل غاية وإحسان. ومما لم يقل فيه أبو تمام شيئاً وصف الأبنية والبرك، وقد قال البحتري في ذلك وأحسن كل الإحسان، وأتى فيه من ذكر الرياض والمياه بما وجب أن يوصل بهذه الأبيات التي تقدمت. قال البحتري: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 662 حلفت لها بالله يوم التفرق تلفت من أعلى دمشق ودوننا ... للبنان هضب كالغمام المعلق إلى الحيرة البيضاء والكرخ بعدما ... ذممت مقامي بين بصرى وجلق إلى معقلي عزي وداري إقامتي ... وقصد التفاتي بالهوى وتشوقي مقاصير ملك أقبلت بوجوهها ... على منظر من عرض دجلة مونق كأن الرياض الحو يكسين حولها ... أفانين من أفواف وشي منمق إذا الريح هزت نورهن تضوعت ... روائحه من فأر مسك مفتق كأن القباب البيض والشمس طلقة ... تضاحكها أنصاف بيض مفلق ومن شرفات في السماء كأنها ... قوادم بيضان الحمام المحلق وهذا من الحسن والصحة كما تراه. وقال أيضاً في مدح المعتز: لما كملت روية وعزيمة ... أعملت رأيك في ابتناء الكامل وغدوت من بين الملوك موفقاً ... منه لأيمن حلة ومنازل ذعر الحمام وقد ترنم فوقه ... من منظر خطر المزلة هائل رفعت لمنخرق الرياح سموكه ... وزهت عجائب حسنه المتخايل وكأن حيطان الزجاج بجوه ... لجج يمجن على جنوب سواحل وكأن تفويف الرخام إذا التقى ... تأليفه بالمنظر المتقابل حبك الغمام رصفن بين منمر ... ومسير ومقارب ومشاكل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 663 لبست من الذهب الصقيل سقوفه ... نوراً يضيء على الظلام الحافل فترى العيون يجلن في ذي رونق ... متلهب العالي أنيق السافل وكأنما نشرت على بستانه ... سيراء وشي اليمنة المتواصل أغنته دجلة أن تلاحق فيضها ... عن صوب منسجم الرباب الهاطل وتنفست فيه الصبا فتعطفت ... أشجاره من حيل وحوامل مشى العذارى الغيد رحن عشية ... من بين خالية اليدين وعاطل وقال في «الصبيح والمليح» قصري المتوكل: إنما العيش أن تكون الليالي ... مفضلات طولاً على الأيام قد صفا جانب الهواء ورقت ... لذة الماء في مزاج المدام واستتم الصبيح في خير وقت ... فهو مغنى أنس ودار مقام ناظر وجهة المليح فلو ينـ ... ـطق حياه معلناً بالسلام ألبسا بهجة وقابل ذا ذا ... ك فمن ضاحك ومن بسام كالمحبين لو أطاقا لقاء ... أفرطا في العناق والإلتزام تنفذ الريح جريها بين قطريـ ... يه فتكبو من ونية وسآم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 664 مستمد بجدول من عباب الـ ... ـماء كالأبيض الصقيل الحسام فإذا ما توسط البركة الخضـ ... ـراء ألقت عليه صبغ الرخام فتراه كأنه ماء بحر ... يخدع العين وهو ماء غمام والدواليب إذ يدرن ولا نا ... ضح يمشي بهن غير النعام بدع أنشئت لأولي عباد اللـ ... ـه بالركن والصفا والمقام إن خير القصور أصبح موهو ... باً بكره العدى لخير الأنام جاور الجعفري وانحاز شبدا ... ز إليه كالراغب المعتام حلل من منازل الملك كالأنـ ... ـجم يلمعن من سواد الظلام معجبات تعي الصفات فما تد ... رك إلا بالظن والأوهام فكأنا نحسها بالأماني ... أو نراها في طارق الأحلام غرف من بناء دين ودنيا ... يوجب الله فيه أجر الإمام شوقتنا إلى الجنان فزدنا ... في اجتناب الذنوب والآثام وقال يصف بركة المتوكل: ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات إذ لاحت مغانيها تحسبها أنها في فضل زينتها ... تعد واحدة والبحر ثانيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 665 ما بال دجلة كالغيرى تنافسها ... في الحسن طوراً وأطواراً تباهيها أما رأت كاليء الإسلام يكلؤها ... من أن تعاب وباني المجد يبنيها كأن جن سليمان الذين ولوا ... إبداعها وأدقوا في معانيها فلو تمر بها بلقيس عن عرض ... قالت هي الصرح تمثيلاً وتشبيهاً تنحط فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها إذا علتها الصبا أبدت لها حبكاً ... مثل الجواشن مصقولاً حواشيها فرونق الشمس أحياناً يضاحكها ... وريق الغيث أحياناً يباكيها إذا النجوم تراءت في جوانحها ... ليلاً حسبت سماء ركبت فيها لا يبلغ السمك المحصور غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها يعمن فيها بأسواط مجنحة ... كالطير تنقض في جو خوافيها لهن صحن رحيب في أسافلها ... إذا انحططن وبهو في أعاليها صور إلى صورة الدلفين يؤنسها ... منه وفاء بعينيه يناجيها تغني بساتينها القصوى برؤيتها ... عن السحائب منهلاً عزاليها كأنها حين لجت في تدفقها ... يد الخليفة لما سال واديها وزادها زينة من بعد زينتها ... أن اسمه يوم يدعى من أساميها محفوفة برياض لا تزال ترى ... ريش الطواويس تحكيه ويحكيها فهذا من مشهور إحسان البحتري. وإذ قد ذكرت الأبنية فمن الواجب أن أثبت في هذا الموضع قصيدته التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 666 على السين، التي يصف فيها إيوان كسرى، وهي التي أجمع الناس على استحسانها، والاعتراف بالفضل له فيها، وما زلت أسمع أهل العلم بالشعر يقولون أنهم لا يعرفون سينية أجود منها: صنت نفسي عما يدنس نفسي ... وترفعت عن جداً كل جبس وتماسكت حين زعزعني الدهـ ... ـر التماساً منه لتعسي ونكسي بلغ من صبابة العيش عندي ... طففتها الأيام تطفيف بخس وبعيد ما بين وارد رفه ... علل شربه ووارد خمس وكأن الزمان أصبح محمو ... لاً هواه مع الأخس الأخس واشترائي العراق خطة غبن ... بعد بيعي الشام بيعة وكس لا تزرني مزاولاً لاختباري ... عند هذي الجلى فتنكر مسي وقديماً عهدتني ذا هنات ... آبيات على الدنيات شمس ولقد رابني نبو ابن عمي ... بعد لين من جانبيه وأنس فإذا ما جفيت كنت حرياً ... أن أرى غير مصبح حيث أمسي حضرت رحلي الهموم فوجهـ ... ـت إلى أبيض المدائن عنسي أتسلي عن الحظوظ وآسى ... لمحل من آل ساسان درس ذكرتنيهم الخطوب التوالي ... ولقد تذكر الخطوب وتنسي وهم خافضون في ظل عال ... مشرف يحسر العيون ويخسي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 667 مغلق بابه على جبل القبـ ... ـق إلى دارتي خلاط ومكس حلل لم تكن كأطلال سعدى ... في قفار من البسابس ملس ومساع لولا المحاباة مني ... لم تطقها مسعاة عبس وعنس نقل الدهر عهدهن عن الجد ... ة حتى غدون أنضاء ليس وكأن الإيوان من عدم الأنـ ... ـس وإخلاله بنية رمس لو تراه علمت أن الليالي ... أحدثت فيه مأتماً بعد عرس وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس وإذا ما رأيت صورة أنطا ... كية ارتعت بين روم وفرس والمنايا مواثل وأنوشر ... وأن يزجي الصفوف تحت الدرفس وعراك الرجال بين يديه ... في خفوت منه وإغماض جرس من مشيح يهوي بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس تصف العين أنهم جد أحيا ... ء لهم بينهم إشارة خرس يعتلي فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس قد سقاني ولم يصرد ألو الغو ... ث على العسكرين شربة خلس من مدام تقولها وهي نجم ... ضوأ الليل أو مجاجة شمس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 668 وتراها إذا أجدت سروراً ... وارتياحاً للشارب المتحسي أفرغت في الزجاج من كل قلب ... فهي محبوبة إلى كل نفس فتوهمت أن كسرى أبر ويـ ... ـز معاطي والبلهبذ أنسي حلم مطبق على الشك عيني ... أم أمان غيرن ظني وحدسي وكأن الإيوان من عجب الصنـ ... ـعة جوب في جنب أرعن جلس يتظنى من الكآبة إذ يبـ ... ـدو لعيني مصبح أو ممسي مزعجاً بالفراق عن أنس إلف ... عز أو مرهفاً بتطليق عرس عكست حظه الليالي وبات الـ ... ـمشتري فيه وهو كوكب نحس فهو يبدي تجلداً وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرسي لم يعبه أن بز من بسط الديـ ... ـباج واستل من ستور الدمقس مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رءوس رضوى وقدس لابسات من البياض فما تبـ ... ـصر منها إلا سبائخ برس ليس يدرى أصنع إنس لجن ... سكنوه أم صنع جن لإنس غير أني أراه يشهد أن لم ... يك بانيه في الملوك بنكس وكأني أرى المراتب والقو ... م إذا ما بلغت آخر حسي وكأن الوفود ضاحين حسرى ... من وقوف خلف الزحام وحبس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 669 وكأن القيان وسط المقاصيـ ... ـر يرجعن بين حو ولعس وكأن اللقاء أول من أمـ ... ـس ووشك الفراق أول أمس وكأن الذي يريد اتباعاً ... طامع في لحاقهم صبح خمس عمرت للسرور دهراً فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي فلها أن أعينها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس ذاك عندي وليست الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنسي غير نعمى لأهلها عند أهلي ... غرسوا من زكائها خير غرس أيدوا ملكنا وشدو قواه ... بكماة تحت السيوف وحمس وأعانوا على كتائب أريا ... ط بطعن على النحور ودعس وأراني من بعد أكلف بالأشـ ... ـراف طراً من كل سنخ وأس قوله: «وهي نجم» يريد: سقوط نجم، من وهي الشيء يهي، إذا سقط وانحل، وإنما يعني ضوء النجم إذا انقض، وغيرنا يزعم أن تلك نار في الجو، وليست من النجم، وهذا ضد ما عليه العرب في كلامها ومعانيها، وخلاف الإسلام والقرآن، ونصب «وهي نجم» لأن قوله: «تقولها» بمعنى تظنها. وقوله: «أو مجاجة شمس» يعني ضوء الشمس وهو مجاجها على الحقيقة، لأنها تمجه على الأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 670 وقوله: «من وقوف الزحام وحبس» يعني: من وقوفهم وحبسهم، فالوقوف والحبس -ها هنا- مصدران وليسا جمعين لواقف وحبيس، لأن جمع حبيس: حبس بالضم، وقد جاء في قوافيه «حبس». وقوله: «أوشك الفراق أول أمس» يريد بأول أمس، أول نهار أمس، أي: كان اللقاء في مثل أول من أمس، أي: في اليوم الذي قبل أمس، والفراق في صدر يوم أمس، فلا يكون بينهما إلا الليلة بين اليومين، لأنه أراد التقريب بينهما، ولو أراد بأول من أمس ما أراده بأول أمس لم يكن في ذاك فائدة. وقوله: وكأن الذي يريد اتباعاً ... طامع في لحاقهم صبح خمس أي: لا يقدر على لحاقهم وأدراكهم إلا بعد خمس ليال، ضرب «خمس ليال» مثلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 671 * ذكر ما وصفا به قصائدهما قال أبو تمام: كشفت قناع الشعر عن حر وجهه ... وطيرته عن وكره وهو واقع بغر يراها من يراها بسمعه ... ويدنو إليها ذو الحجا وهو شاسع يود وداداً أن أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقاً إليها مسامع وهذا البيت من أحسانه المشهور المعروف. وقال: فدونكها لولا ليان نسيبها ... لظلت صلاب الصخر منها تصدع وقال: جلامد تخطوها الليالي وإن سرت ... لها موضحات في رؤوس الجلامد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 672 أي تخطوها الليالي ولا تؤثر فيها، «وإن سرت» يعني الليالي، «لها موضحات في رؤوس الجلامد» يريد تأثير الجلامد في الحجارة ولا تؤثر في القصيدة، والموضحات: جمع موضحة، وهي الشجة التي قد أبدت عن العظم. وقال: كل يوم نوع يقفيه نوع ... وعروض يتلوه قبل عروض وقواف قد ضج منها لما استعـ ... ـمل فيها المرفوع والمخفوض المديح الجزيل والشكر والكد ... ومر العتاب والتحريض وما كان ينبغي أن ينسب مرفوع القوافي ومخفوضها إلى الضجيج في مدح الممدوح، وإن كان مذهباً غير خطأ، والأجود هو المذهب الآخر، وذلك قوله: يهيجها بذكرك قرن فكر ... إذا حرنت فتسلس في القياد وقال البحتري: تطوع القوافي فيكم فكأنها ... تسيل إليكم من علو قصيدها وكم لي من محبوكة الوشي فيكم ... إذا أنشدت قام امرؤ يستعيدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 673 وقول أبي تمام: «قد ضج منها المرفوع والمخفوض» ليس بضد لهذا المعنى، لكنه خلاف له، ولأنه لم يرد بضجيج القوافي أنها تعسرت عليه، ولا حزنت، وإنما ذهب إلى أن الاستعمال كثر عليها فملت، وليست من الاستعارة الحلوة. وقال: «المديح الجزيل والشكر والكد»، فما وجه اقتران الكد بالشكر، وهي لفظة لا تليق بألفاظ البيت، وما أقرب معناها من معنى ضجيج القوافي. وقال أبو تمام: قد جاء من وصفك التفسير معتذراً ... بالعجز إن لم يغثني الله والجمل وقد لبست أمير المؤمنين بها ... حلياً نظاماه بيت سار أو مثل غريبة تونس الآداب وحشتها ... فما تحل على قوم فترتحل وقوله: «إن لم يغثني الله والجمل» هو كما يقول القائل: أنا أعجز عن شرح فضائل فلان، وما فيه على التعديد: هو أجود الناس وأدمث الناس، ونحو هذا مما جرت به العادة، وقوله: «والجمل» أي: هذه الجمل التي أجملتها ولكني أجمل لك القول، وأقصره، ولا أطيله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 674 وقال في تقصير شكره عن الواجب: فإن يك أربى عفو شكري على ندى ... أناس لقد أربى نداه على جهدي وقصر قولي عنه من بعد ما أرى ... أقول وأشجى أمة وأنا وحدي بغيت بشعري فاعتلاه بجده ... فلا يبغ في شعر له أحد بعدي والبحتري أبداً يسلك هذه الطريقة ولا يكاد يجعل نيل أحد ولا معروفه فوق شكره ومدحه، ولذلك قال: لأشكرنك إن الشكر نائله ... أبقى على حالة من نائل النشب وقال في الفتح بن خاقان: وإني لمحقوق بأن لا يطولني ... نداه إذا ما طلته بالقصائد يحكن له حوك البرود لزينة ... وينظمن من جدواه نظم القلائد وحسب أخي النعمى جزاء إذا امتطى ... سوائر من شعر على الدهر خالد وقال أبو تمام في هذا المعنى: إن القوافي والمساعي لم تزل ... مثل النظام إذا أصاب فريدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 675 هي جوهر نثر فإن ألفته ... بالنظم صار قلائداً وعقودا في كل معترك وكل مقامة ... يأخذن منه ذمة وعهودا فإذا القصائد لم تكن خفراءها ... لم ترض منها مشهداً مشهودا من أجل ذلك كانت العرب الألي ... يدعون هذا سؤدداً محدودا وتند عندهم العلى إلا على ... جعلت لها مرر القصيد قيودا قوله: «يأخذن منه ذمة وعهودا» يعني المساعي يأخذن من الشعر، «فإذا القصائد لم تكن خفراء المعالي» بأن تضمها وتنظمها «لم ترض منها مشهداً مشهودا» أراد أن يقول: لم يذكر منها مشهد، ولم يرو، ولم يتحدث به، فجعل مكان هذا «لم ترض»، وذلك أن الشعر يقيد المآثر، والحديث عنها منثوراً يقع فيه الزيادة والنقص، ثم ينسى، فهذا هو السؤدد المحدود الذي لم يتفق له من يقيده بالشعر، وقد أوضح هذا المعنى بالبيت الأخير، وكل حسن جميل. وقال البحتري: أيذهب هذا الدهر لم ير موضعي ... ولم يدر ما مقدار حلي ولا عقدي ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد ... يبيع ثمينات المكارم والحمد سوائر شعر جامع بدد العلى ... تعلقن من قبلي وأتعبن من بعدي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 676 يقدر فيها صانع متعمل ... لإحكامها تقدير داود في السرد خليلي لو في المرخ أقدح إذ أبى ... رجال مؤاتاتي إذاً لكبا زندي وما صادفتني كدية دون مدحهم ... فكيف أراني دون معروفهم أكدي أأضرب أكباد المطايا إليهم ... مطالبة مني وحاجاتهم عندي قوله: «سوائر شعر جامع بدد العلى» كما قال أبو تمام: «إلا على جعلت لها مرر القصيد قيودا» وقوله: «لو في المرخ .... » فالمرخ أكثر الشجر ناراً، إذا قدح يوري، وفي المثل: «في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار»، أي: استكثر من النار، يقول: لو قدحت فيه لكبا زندي، أي لم يور، يذم زمانه وتعذر الأشياء عليه فيه، وهذا من إحسانه المشهور في وصفه لشعره. وقال أبو تمام: كما علم المستشعرون بأنهم ... بطاء عن الشعر الذي أنا قارض كأني دينار ينادي ألا فتى ... يبارز إذ ناديت من ذا يعارض فلا تنكروا ذل القوافي فقد رأى ... محرمها أني له الدهر رائض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 677 وهذا مرعى ولا كالسعدان، والبيت الأوسط بيت الركاكة. وقال أيضاً: فإن أنا لم يحمدك عني صاغراً ... عدوك فاعلم أنني غير حامد بسياحة تنساق من غير سائق ... وتنقاد في الآفاق من غير قائد إذا شردت سلت سخيمة شانيء ... وردت عزوباً من قلوب شوارد أفادت صديقاً من عدو وغادرت ... أقارب دنياً من رجال أباعد محببة ما إن تزال ترى لها ... إلى كل أفق وافداً غير وافد ومحلفة لما ترد أذن سامع ... فتصدر إلا عن يمين وشاهد قوله: «فإن أنا لم أحمدك عني صاغراً عدوك»، يريد إنشاد العدو للقصيدة لحسنها، ونحو ذلك قول البحتري: ليواصلنك ركب شعر سائر ... يرويه فيك لحسنه الأعداء وقوله: «إذا شردت سلت سخيمة شانيء»، و «أفادت صديقاً من عدو»، يعني نفسه بهذا لا الممدوح، لأن جليل المدح يزيد على عداوة العدو وشناءة الشانيء وحسد الحاسد، وإنما يريد سلت سخيمة الشانيء إذا سمع إحساني، وصار العدو لي بذلك صديقاً، وصار الغريب كالقريب، وكالذي مني، وقد بين ذلك بقوله: «محببة». الجزء: 3 ¦ الصفحة: 678 ونحو هذا قول البحتري: مكرمة الأسباب فيها وسائل ... إلى غير ما يحبى بها وذرائع تنال منال الليل في كل وجهة ... وتبقى كما تبقى النجوم الطوالع وقوله: «تنال منال الليل في كل وجهة» أي في سيرها الآفاق، وهذا لا شيء أبلغ منه ولا ألطف، وأظنه أخطر بباله قول النابغة: فإنك كالليل الذي هو مدركي وقال في نحوه: بلغن الأرض لم يلغبن فيها ... وبعض الشعر يدركه اللغوب وقال في نحوه: تبيت أمام الريح منها طليعة ... وغدوتها شهر وروحتها شهر وقال أبو تمام: وسيارة في الأرض ليس بنازح ... على وخدها حزن سحيق ولا سهب تذر ذرور الشمس في كل بلدة ... وتمضي جموحاً ما يرد لها غرب قوله: «تذر ذرور الشمس» أحسن من كل ما مضى وأجود وألطف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 679 وقال: نظمت له شعراً من الشعر تنضب الـ ... ـبحور وما داناه من حليها عقد تسير مسير الريح مطرفاته ... وما السير منها لا العنيق ولا الوخد تروح وتغدو بل يراح ويغتدى ... بها وهي حيرى لا تروح ولا تغدو تقطع آفاق البلاد سوابقاً ... وما ابتل منها لا عذار ولا خد قوله: «تسير مسير الريح مطرفاته» يعني مطرفات الشعر، أي مستحدثاته. وقول البحتري: وقول البحتري: «تبيت أمام الريح منها طليعة» أبلغ من هذا، وقد جعل فروة بن حميضة الأسدي الريح طليعة، فقال يهجو عمارة بن عقيل: يخشى الرياح بأن تكون طليعة ... أو أن تحل به عقوبة ناذر وقول البحتري أوكد، لأنه جعل قصيدته طليعة أمام الريح. وقال أبو تمام: فما بال وجه الشعر أغبر قاتم ... وأنف العلى من عطلة الشعر راغم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 680 ثم قال بعد بيت واحد: فقد هز عطفيه القريض توقعاً ... لعدلك مذ ردت إليك المظالم والذي وجهه أغبر قاتم لا يهز عطفيه، لأن هز العطف لا يكون إلا من المرح والأشر، ولا تكون المناقضة إلا هكذا، وهذا كله إنما يجلبه الشر والاستقصاء لما يكفي منه البلغة. وقال في قصيدة يعتذر فيها إلى ابن أبي دؤاد: خذها مثقفة القوافي ربها ... لسوابغ النعماء غير كنود حذاء تملأ كل إذن حكمة ... وبلاغة وتدر كل وريد كالطعنة النجلاء من يد ثائر ... بأخيه أو كالضربة الأخدود كالدر والمرجان ألف نظمه ... بالشذر في عنق الفتاة الرود كشقيقة البرد المنمنم وشيه ... في أرض مهرة أو بلاد تزيد يعطى لها البشرى الكريم ويحتبى ... بردائها في المحفل المشهود بشرى الغني أبي البنات تتابعت ... بشراؤه بالفارس المولود كرقى الأساود والأراقم طالما ... نزعت حمات سخائم وحقود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 681 والاعتذارات لا تختم بتقريض الشعر، وأن يقول: «خذها» وخاصة هذا الطويل المستقصى المعاني، لأنه في ذلك يقرض اعتذاره لإعجابه به، وهذا قبيح ومجانب للعادات، والأحسن أن يختم الاعتذار بمثل ما ختم به اعتذاره إلى موسى بن إبراهيم، وهو قوله: فإن يك جرم عن أو تك هفوة ... على خطأ مني فعذري على عمد وهذا يصلح أن يقال بعد وقوع العذر والرضى، وكذلك قول البحتري خاتماً لاعتذاره إلى الفتح: ومثلك إن أبدى الفعال أعاده ... وإن صنع المعروف زاد وتمما وقوله: ولا عذر إلا أن بدء إساءة ... لها من زيادات الوشاة تمام ويختم الاعتذار قبل وقوع الصفح بمثل قول أبي تمام: ومن يأذن إلى الواشين تسلق ... مسامعه بألسنة حداد وبمثل قول البحتري: واحترس من ضياع حلمك في الجفـ ... ـوة والإنقباض إن ضاع حلمي ولولا الإطالة لذكرت من خواتم الشعر في الاعتذارات ما يؤكد هذا ويزيد في بيانه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 682 وقال أبو تمام: جاءتك من نظم اللسان قلادة ... سمطان فيها اللؤلؤ المكنون حذيت حذاء الحضرمية أرهفت ... وأجابها التخضير والتلسين إنسية وحشية كثرت بها ... حركات أهل الأرض وهي سكون ينبوعها خضل وحلي قريضها ... حلي الهدى ونسجها موضون أما المعاني فهي أبكار إذا ... فضت ولكن القوافي عون أحذاكما صنع الضمير يمده ... جفر إذا نضب الكلام معين ويسيء بالإحسان ظناً لا كمن ... هو بابنه وبشره مفتون وهذا كله جيد بالغ، ومن إحسانه المشهور، وأجود منه قوله: نفق المديح ببابه فكسوته ... عقداً من الياقوت غير مثقب أولى المديح بأن يكون مهذباً ... ما كان منه في أغر مهذب غربت خلائقه وأغرب واصف ... فيه فأحسن مغرب في مغرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 683 لما كرمت نطقت فيك بمنطق ... حق فلم آثم ولم أتحوب ومتى امتدحت سواك كنت متى يضق ... عني له صدق المقالة أكذب وقال البحتري: وما عدلت عنك القصائد معدلاً ... ولا تركت فضلاً لغيرك يحسب ينظم منها لؤلؤ في سلوكه ... ومن عجب تنظيم ما لا يثقب يسر افتناني معشراً ويسوءهم ... ويخلد ما افتن فيه وأسهب ولم يبق كر الدهر غير علائق ... من القول ترضي السامعين وتطرب قوله: «ومن عجب تنظيم ما لا يثقب»، وقول أبي تمام: «غير مثقب» معنى متداول. وقال أبو تمام: إذا أنشدت في القوم ظلت كأنها ... مسرة كبر أو تداخلها عجب مفصلة باللؤلؤ المنتقى لها ... من الشعر إلا أنه اللؤلؤ الرطب أراد: مفصلة باللؤلؤ من الشعر، أي بلؤلؤ الشعر، لا بلؤلؤ الصدف، ولم يرد المنتقى من الشعر، لأنه يكون مسروقاً من الشعر، وذلك عيب فاحش على الشاعر أن يعترف به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 684 وقوله: «إلا أنه اللؤلؤ الرطب» أي: محدث من اختراعه، ولم يكن سبق إليه. وقال البحتري: لأشكرنك إن الشكر نائله ... أبقى على حالة من نائل النشب بكل شاهدة للقوم غائبة ... عنهم جميعاً ولم يشهد ولم يغب مرصوفة باللآلي من نوادرها ... مسبوكة اللفظ والمعنى من الذهب ولم أحابك في مدح تكذبه ... بالفعل منك وبعض المدح من كذب قوله: «لم أحابك في مدح تكذبه»، وقول أبي تمام: «وإذا امتدحت سواك ... » معنى قد تداولته الشعراء أيضاً وأكثرت فيه. وقال أبو تمام: إليك أثرت من تحت التراقي ... قوافي تستدر بلا عصاب من القرطات في الآذان تبقى ... بقاء الوحي في الصم الصلاب عراض الجاه تجزع كل واد ... مكرمة وتفتح كل باب مضمنة كلال الركب تغني ... غناء الزاد عنهم والركاب إذا عارضتها في يوم فخر ... مسحت خدود سابقة عراب تصير بها وهاد القوم هضباً ... وأعلاماً وتثلم في الروابي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 685 قوله: «تستدر بلا عصاب» كما يفعل بالناقة عند الحلب، وهي العصوب، وإنما قيل لها ذلك، لأنها لا تدر حتى يعصب فخذاها. وقوله: «تصير بها وهاد القوم هضباً» يريد أحسابهم التي لا تذكر وقد نسيت يرفعها الشعر من الانخفاض إلى الارتفاع، وقوله: «وتثلم في الروابي» يعني من جزالة لفظها وصلابته، أو لعله ذهب إلى نحو قوله: «تجزع كل واد» أي تقطع وتشق، وإنما يقطع بها في السير. وقوله: «من القرطات في الآذان» يريد أن الآذان إذا سمعتها لم تنسها لحسنها، فتكون كأنها قرط في الآذان لا تفارقها، وقوله: «بقاء الوحي في الصم الصلاب» يريد الكتاب في الحجر، وهذا جار في عادات الناس أن يقولوا: مثل النقش في الحجر. وقول البحتري: «وتبقى كما تبقى النجوم الطوالع» من قولهم: ما طلع نجم، وما لاح كوكب، ونحو هذا. وقوله: «مسحت وجوه سابقة عراب» من قول تميم بن أبي بن مقبل يصف البيت من شعره: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 686 أغر غريباً يمسح الناس وجهه ... كما تمسح الأيدي الجواد المشهرا أي: هو من جنس ما يمسح الناس وجهه لحسنه، لا أن هناك له وجه يمسح. وقال البحتري: جئناك نحمل ألفاظاً مدبجة ... كأنما وشيها من يمنة اليمن تهدي القريض إلى رب القريض معاً ... كحامل العصب يهديه إلى عدن من كل زهراء كالنوار مشرقة ... أبقى من الزمن الباقي من الزمن قوله: «أبقى من الزمن الباقي من الزمن» من إغراقات أبي تمام، إلا أن هذا ليس بمستكره اللفظ ولا مما ينبو عنه القلب. وقال البحتري: تبلى الخطوب وأحداث الزمان ولا ... تبلى القوافي مثولاً والأعاريض وقال أبو تمام: فليلقينك حيث كنت قصائد ... فيها لأهل المكرمات مآرب فكأنما هي في السماع جنادل ... وكأنما هي في القلوب كواكب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 687 وإنما جعلها في السماع جنادل، وفي القلوب كواكب، ففرق بين السمع والقلب في التقسيم وحالهما واحدة، لأن الأشياء تتصور في القلوب ولا تتصور في الأسماع، فجعل جزالة اللفظ للأذن، وحسن المعاني للقلب. وقال: أما القوافي فقد حصنت غرتها ... فما يصاب دم منها ولا سلب منعت إلا من الأكفاء ناكحها ... وكان منك عليها العطف والحدب ولو عضلت عن الأكفاء أيمها ... ولم يكن لك في أطهارها أرب كانت بنات نصيب حين ضن بها ... عن الموالي ولم تحفل بها العرب قد فسر معنى البيت الأول بالثاني بقوله: «فما يصاب دم منها ولا سلب»، لأنه منع القصائد أن تقال إلا في كفء سيد رئيس، فما يصاب دم منها ولا سلب، لأنها إن قيلت في وضيع لئيم، فكأنها مما أصيب فذهب دمع وسلبه، وهذا محذو على قول ابن هرمة: كأن قصائدي لك فاصطنعني ... كرائم قد عطلن عن النكاح وقال: خذها مغربة في الأرض آنسة ... بكل فهم غريب حين تغترب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 688 من كل قافية فيها إذا اجتنيت ... من كل ما يشتهيه الهائم الوصب الجد والهزل في توشيع لحمتها ... والنبل والسخف والأشجان والطرب لا يستقي من جفير الكتب رونقها ... ولم تزل تستقي من بحرها الكتب حسيبة في صميم المدح منصبها ... إذ أكثر الشعر ملقى ما له حسب قوله: «الجد والهزل في توشيع لحمتها» بيت في غاية الحمق، ومن يمدح وزيراً فلم يضمن قصيدته الهزل والسخف؟، وإن كان هناك ما يدل على هذا فلم نبه عليه واعترف به؟، لعمري إن قوله فيها: وزير حق ووالي شطرة ورحا ... ديوان ملك وشيعي ومحتسب سخف يزيد على كل سخف. وقوله: إن القصائد يممتك شوارداً فتحرمت بنداك قبل تحرمي ما عرست حتى أتاك بفارس ... ريعانها والغزو قبل المغنم فجعلت قيمها الضمير ومكنت ... منه فصارت قيما للقيم خذها فما زالت على استقلالها ... مشغولة بمثقف ومقوم تدر الفتى من الرجاء وراءها ... وترود في كنف الرجاء القشعم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 689 زهراء أحلى في الفؤاد من المنى ... وألذ من ريق الأحبة في الفم وهذا البيت من إحسانه المشهور. وكان محمد بن الهيثم مقيماً بفارس، وأنفذ أبو تمام هذه القصيدة إليه، أظن ذاك قبل مقدمه عليه، فلذلك قال: «حتى أتاك بفارس ريعانها»، وريعان كل شيء أوله، وإنما أراد: حتى أتاك سابقها، أي: حتى أتتك سابقة، وقوله: «والغزو قبل المغنم» لأنه قصده إلى فارس، وقوله: «فجعلت قيمها الضمير» أراد أن يقول: فجعلت قلبك قيمها، يعني بالتأمل والتدبر، «ومكنت منه» بحسن معانيها «فصارت قيماً للقيم» أي على القيم، وهذا من إغراقه المكروه واستعاراته المتعسفة، وقوله: «بمثقف ومقوم» أي: بتثقيف وتقويم، وقوله: «تذر الفتى من الرجاء وراءها» يعني من الرجاء، أي: لا أرجو إلا السادة والعظماء. وقال أبو تمام: يا خاطباً مدحي إلي بجوده ... ولقد خطبت قليلة الخطاب خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب بكراً تورث في الحياة وتنثني ... في السلم وهي كثيرة الأسلاب ويزيدها مر الليالي جدة ... وتقادم الأيام حسن شباب قوله: «تورث في الحياة» أي تصير ميراثاً لولد الممدوح وأهله قبل وفاته، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 690 لأن افتخارهم بما فيها من مناقبه في حياته كفخرهم بها بعد وفاته، وقوله: «كثيرة الأسلاب» أي: يؤخذ من معانيها غصباً وسلباً وليس هناك حرب. وقال أبو تمام: إليك بعثت أبكار المعاني ... يليها سائق عجل وحادي جوائر عن ذنابى القوم حيرى ... هوادي بالجماجم والهوادي شداد الأسر سالمة النواحي ... من الإقواء فيها والسناد لها في الهاجس القدح المعلى ... وفي كتب القوافي والعماد منزهة عن السرق المورى ... مكرمة عن المعنى المعاد قوله: «جوائر عن ذنابى القوم» مثل قوله: «تذر الفتى من الرجاء وراءها». ولله در أبي عبادة إذ يقول: ويلؤم سائل البخلاء حرصاً ... وإسرافاً كما لؤم البخيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 691 «الإسراف» الطمع. وقول أبي تمام: «لها في الهاجس القدح المعلى»، والهاجس الفكر والخاطر، و «القدح»: السهم من سهام الميسر، و «المعلى»: أكثرها نصيباً، وهذا تمثيل مستقيم، إلا أن قوله: «في كتب القوافي والعماد» ركاكة منه، وأي فضل لقافية هذه القصيدة على سائر القوافي حتى يجعل لها القدح المعلى والعماد؟، إن كان أراد هذه الألف قبل الدال، فإنه لا يقال فيها «عماد»، وإنما يقال لها «الردف»، وأظنه أراد بالعماد إقامة الوزن، وذهب إلى العروض، يقال: عمد وعماد، كما يقال: جمل وجمال، أي: في كتب القوافي والعروض، وهذا اختلال قبيح وعي، وزيادة وصف لم يكن به إليه حاجة ولو أسقط البيت. وقال: تلك القوافي قد أتينك نزعاً ... تتجشم التهجير والتغليسا من كل شاردة تغادر بعدها ... حظ الرجال من القريض خسيسا وجديدة المعنى إذا معنى التي ... تشقى بها الأسماع كان لبيسا تلهو بعاجل حسنها وتعدها ... علقاً لأعجاز الزمان نفيسا من دوحة الكلم التي لم ينفكك ... وقفاً عليك رصينه محبوسا كالنجم إن سافرت كان مواكباً ... وإذا حططت الرحل كان جليسا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 692 ومعنى هذا البيت من معانيه اللطيفة المشهورة، قوله: «لأعجاز الزمان» أراد بالأعجاز أواخر الزمان، وهذا لفظ وإن كان معناه صحيحاً، فإنه لا يكاد يستعمل بأن يقال: إذا عجز الزمان كذا وكذا، وإنما يقال: إذا كان في آخر الزمان، وإنما قال: أعجاز الزمان، من أجل قوله: «تلهو بعاجل حسنها»، فأراد أن يطابق بين عاجل وآجل، فلم يستو له آجل الزمان، فجعل مكانه أعجاز الزمان، ولو قال: أغبار الزمان، وغبر الزمان: باقي الزمان، كان أحسن من أعجاز الزمان، لأن غابر الأيام لفظ مستعمل حسن، فإذا وقع في موقع المستعمل ما هو في معناه وليس بمستعمل في ذلك قبح وهجن، ولكن ليست لأبي تمام عناية باللفظ كعنايته بالمعاني، فهو إذا جاءه المعنى أورده بأي لفظ استوى له، والبحتري عنايته مصروفة إلى تخير الألفاظ كما يتخير المعاني وذلك قوله: بمنقوشة نقش الدنانير يبتغي ... لها اللفظ مختاراً كما ينتقى التبر وقوله: مرصوفة باللآلي من نوادرها ... مسبوكة اللفظ والمعنى من الذهب وقال أبو تمام: إليك أرحنا عازب الشعر بعدما ... تمهل في روض المعاني العجائب غرائب لاقت في فنائك أنسها ... من المجد فهي الآن غير غرائب ولو كان يفنى الشعر أفنته ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 693 ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب وهذا من أحسانه المعروف المشهور المذكور الذي لا يدفع، وإن كان مبنياً على قول أوس بن حجر: أقول بما صبت علي غمامتي ... ودهري في حبل العشيرة أحطب وبيت أبي تمام أجود لفظاً وسبكاً وتلخيصاً للمعنى، وهو أحق به. وقال أبو تمام: ووالله لا أنفك أهدي شوارداً ... إليك يحملن الثناء المنخلا تخال به برداً عليك محبراً ... وتحسبه عقداً عليك مفصلا ألذ من السلوى وأطيب نفحة ... من المسك مفتوقاً وأيسر محملا أخف على قلب وأثقل قيمة ... وأقصر في سمع الجليس وأطولا ويزهى له قوم ولم يمدحوا به ... إذا مثل الراوي به أو تمثلا وهذا أيضاً من جيد هذا الباب ومشهوره. وقال: سوف أكسوك ما يعفي عليك ... من ثناء كالبرد برد الصناع حسن هاتيك في العيون وهذي ... حسنها في القلوب والأسماع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 694 وقال: أرى الداليتين على جفاء ... لديك وكل واحدة نضار إذا ما شعر قوم كان ليلاً ... تبلجتا كما انشق النهار وهذا غاية في حسنه لفظاً ومعنى لو كان اقتصر عليه ولكنه شره إلى أن قال: فإن كانت قصائدهم جدوباً ... تلونتا كما ازدوج البهار أغرتهما وغيرهما محلى ... بجودك والقوافي قد تعار فقوله: «وإن كانت قصائدهم جدوباً» هو كقوله: «إذا ما شعر قوم كان ليلاً» يريد مظلمة من المعاني، مجدبة منها، وقوله: «تلونتا كما ازدوج البهار» هو معنى قوله: «تبلجتا كما انشق النهار»، وإنما يريد تبلجتا بالمعاني، وكذلك تلونتا، وهذا وإن كان توكيداً للأول، وكان سائغاً جائزاً، فهو منحط المعنى عن الأول انحطاطًا كثيراً، فكأنه إنما شانه ونقصه ولم يزده. وقال البحتري: ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما ثناء كأن الروض منه منوراً ... ضحى وكأن الوشي منه مسهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 695 وقال: أحسن أبا حسن بالشعر إذ جعلت ... عليك أنجمه بالمدح تنتثر فقد أتتك القوافي غب فائدة ... كما تفتح غب الوابل الزهر وهذا ما لا شيء أحسن منه ولا أصح منه. وقال في مثله: قد تلافى القريض جودك فارتـ ... ـث لقى مشفياً على الإنقراض نعم أبدت المصون المغطى ... منه تحت الجفون والإغماض كالغوادي أظهرن كل خفي ... مستسر في زاهرات الرياض وقال في نحوه: إن هذا القريض نبت من القو ... ل يزيد الفعال في إيناعه وهذا كله غاية في حسنه وصحته. وقال: هل يثرين في ابن نصر من تطوله ... قول على ألسن الراوين مقروض مثل الحلي جلته كف صائغه ... فيه خليطان تذهيب وتفضيض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 696 وأرسلت أفواف القوافي شوافعاً ... إليك وقد يجدي لديك رسولها زواهر نور ما يجف جنيها ... وأنجم ليل ما يخاف أفولها وقال: فله في مدائحي حكمه الأو ... في ولي في نواله الغمر حكمي كل مشهورة يؤلف منها ... بين درية الكواكب نظمي أينما قام منشد لاح نجم ... يتلالا منها على إثر نجم وقال: إليك القوافي نازعات قواصد ... يسير ضاحي وشيها وينمنم ومشرقة في النظم غر يزيدها ... بهاء وحسناً أنها لك تنظم ضوامن للحاجات إما شوافعاً ... مشفعة أو حاكمات تحكم وكأين غدت لي وهي شعر مسير ... وراحت علي وهي مال مسوم وهذا معنى في غاية الصحة والاستقامة والحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 697 وقال أبو تمام: لم تسق بعد الهوى ماء أقل قذى ... كماء قافية يسقيكه فهم من كل بيت يكاد الميت يفهمه ... حسناً ويعبده القرطاس والقلم يظل سالكه والفكر مالكه ... كأنه مستهام أو به لمم مالي ومالك مثل وهي منشدة ... إلا زهير وقد أصغى له هرم قوله: «كماء قافية يسقيكه فهم»، جعل للقافية ماء يسقى، وجعل فيه قذى إلا أن قذاة أقل قذى من كل ماء الهوى، وجعل للهوى أيضاً ماء قليل القذى، وهذه استعارة في غاية الركاكة والقبح والبعد من صواب الاستعارات، لأن الهوى بأن توصف بكثرة القذى أولى من أن توصف بقلته، وقال: «يسقيكه فهم» فحرك الهاء، وهو يريد فهم قائلها، ولم يرد القافية نفسها، وإنما أراد القصيدة. وقوله: «يظل سالكه» أي سالك الفهم الذي يسلك في المعنى، والفكر مالكه، «كأنه مستهام» يعني الفهم لكثرة تردده وتسكعه. وقوله: «من كل بيت يكاد الميت يفهمه»، فالأحياء ما فهمته فهلا عن الموتى؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 698 وقال أبو تمام في أبي المغيث: خذها فما نالها بضر ... موت جرير ولا العيث وكن كريماً تجد كريماً ... في شكره يا أبا المغيث حكى أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح أن أبا تمام أنشد أبا المغيث هذه القصيدة وعنده يوسف بن المغيرة القشيري وكان شاعراً عالماً أديباً فقال لأبي المغيث: قد هجاك بقوله: «كن كريماً» وهذا لا يقال لكريم، وإنما يقال للئيم، فهجا أبو تمام يوسف بن المغيرة فقال: أيوسف جئت بالعجب العجيب ... تركت الناس في أمر مريب أما لو أن جهلك كان علماً ... إذاً لنفذت في علم الغيوب سمعت بكل داهبة نآد ... ولم أسمع بزجاج أديب وغرض أبي تمام في هذا معروف، وإنما أراد: كن كريماً في أمري، ولكن ليس بجيد أن يقول في مدح رجل: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 699 بنان موسى إذا استهلت ... كانت ضروباً من الغيوث حيث الندى والسدى جميعاً ... وملجأ الخائف الكريث ثم يقول بعد ذلك: «وكن كريماً»، ولو قال: واعجل بجود تجد عجولاً ... بشكره ...................... كان أحسن وأجمل، وليس بمنكر أن يقول الشاعر للممدوح: «كن كريماً»، إذا كان ممن يقال لمثله، بعد ألا يكون قدم مدحاً فاخراً يكون هذا نقصاً له. وقال البحتري: أيغضب أن يعاتب بالقوافي ... وفيها المجد والشرف الحسيب وكم من آمل هجوي ليحظى ... بذكر منه يصعد أو يصوب فكيف بسير متنخلات ... تجوب من الفيافي ما تجوب ينافس سامع فيها أباه ... إذا جعلت بسؤدده تهيب فهذا ماوجدته لهما في وصف قصائدهما، فأما أبو تمام فقد مضى له عين نادر وجيد بالغ ورديء سقوط، وقد ذكرت جودة الجيد في موضعه ورداءة الرديء، فأما العين النادر فقوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 700 يود وداداً أن أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقاً إليها مسامع وقوله: كالنجم إن سافرت كان مواكباً ... وإذا حططت الرحل كان جليسا وقوله -وإن كان محذواً على قول أوس بن حجر-: ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب وقوله: زهراء أحلى في القلوب من المنى ... وألذ من ريق الأحبة في الفم وقوله: تداركه إن المكرمات أصابع ... وإن حلي الشعر فيها خواتم وأما البحتري فقد مضى له عين نادر وجيد بالغ ولم يمض له رديء، فأما العين فقوله: فقد أتتك القوافي غب فائدة ... كما تفتح غب الوابل الزهر وهذا معنى في غاية الحسن والحلاوة، والبيت أيضاً قائم بنفسه وغير محتاج إلى ما قبله. وقوله: كالغوادي أظهرن كل خفي ... مستسر في زاهرات الرياض وهذا محتاج إلى ما قبله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 701 وقوله: وكأين غدت لي وهي شعر مسير ... وراحت علي وهي مال مسوم فأقول في الموازنة بينهما: إن عيون شعر أبي تمام أجود من عيون شعر البحتري، وهما في جيدهما متساويان، وأطرح إساءات أبي تمام في هذا الباب فلا أعتد بها. وقد مدحت الأوائل أشعارهما ووصفتها، فقال كعب بن زهير: فمن للقوافي شابها من يحوكها ... إذا ما ثوى كعب وفوز جرول يقول فلا يعيى بشيء يقوله ... ومن قائليها من يسيء ويعمل يقومها حتى تلين متونها ... فيقصر عنها كل ما يتمثل كفيتك لا تلقى من الناس شاعراً ... تنخل منها مثل ما انتخل وقال تميم بن أبي بن مقبل: إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها قائلاً بعدي أطب وأشعرا وأكثر بيتاً شارداً ضربت به ... حزون جبال الشعر حتى تيسرا أغر غريباً يمسح الناس وجهه ... كما تمسح الأيدي الجواد المشهرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 702 وقال سويد بن كراع -جاهلي إسلامي-: أبيت بأبواب القوافي كأنما ... أصادي بها سرباً من الوحش نزعا أكالئها حتى أعرس بعد ما ... يكون سحيراً أو بعيد فأهجعا عواصي إلا ما جعلت وراءها ... عصا مربد تغشى نحوراً وأذرعا أهبت بغر الآبدات فراجعت ... طريقاً أملته القصائد مهيعا بعيدة شأو لا يكاد يردها ... لها طالب حتى يكل ويظلعا إذا خفت أن تروى علي رددتها ... وراء التراقي خشية أن تطلعا وجشمني خوف ابن عفان ردها ... فثقفتها حولاً جريداً ومربعا وقد كان في نفسي عليها زيادة ... فلم أر إلا أن أطيع وأسمعا وقال المسيب بن علس: فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع ترد المياه فلا تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 703 قوله: «وسماع» لأنهم كانوا يتغنون في النشيد. أخذ أبو تمام قوله: «فلأهدين مع الرياح قصيدة» فقال: تسير مسير الريح مطرفاته ... وما السير منها لا العنيق ولا الوخد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 704