الكتاب: الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بالسيف بين يدي الساعة المؤلف: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ) المحقق: عبد القادر الأرناؤوط الناشر: دار المأمون - دمشق الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1990م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الحكم الجديرة بالإذاعة ابن رجب الحنبلي الكتاب: الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بالسيف بين يدي الساعة المؤلف: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ) المحقق: عبد القادر الأرناؤوط الناشر: دار المأمون - دمشق الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1990م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] [مقدمة] بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 أخرج أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بعثت بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 فقوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالسيف " : يعني أن الله بعثه داعيا إلى توحيده بالسيف بعد دعائه بالحجة، فمن لم يستجب إلى التوحيد بالقرآن والحجة والبيان دعي بالسيف، قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره بالغيب ورسله إن الله قوي عزيز} . وفي الكتب السالفة وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يبعث بقضيب الأدب، وهو السيف. ووصى بعض أحبار اليهود عند موته باتباعه وقال: انه يسفك الدماء، ويسبي الذراري والنساء، فلا يمنعهم ذلك منه. وروي أن المسيح عليه السلام قال لبني إسرائيل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه يسل السيف فيدخلون فيه دينه طوعا وكرها ". وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف بعد الهجرة لما صار له دار وأتباع وقوة ومنعة، وقد كان يتهدد أعداءه بالسيف قبل الهجرة، وكان صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت وأشراف قريش قد اجتمعوا بالحِجر وقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل، قد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا. لقد صبرنا منه على أمر عظيم. فلما مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم غمزوه ببعض القول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فعرف ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم، وفعلوا ذلك به ثلاث مرات، فوقف وقال: " أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح ". فأخذت القوم كلمته، حتى ما فيهم رجل إلا وكأنما على رأسه طير واقع، وحتى أن أشدهم عليه قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما يجد من القول، حتى انه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً، فوالله ما كنت مجهولا. وقال محمد بن كعب: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا جهل يقول: إن محمداً يزعم أنكم ما بايعتموه عشتم ملوكا فإذا متم بعثتم بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 موتكم، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه الذبح، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون فيها، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله. فقال: " وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً، وإنه لآخذهم ". وقد أمر الله تعالى بالقتال في مواضع كثيرة، قال تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد} وقال: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منّاً بعد وإما فداء} ولهذا عوتبوا على أخذ الفداء منهم أول قتال قاتلوه يوم بدر ونزل قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض. تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} . وكانوا قد أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفداء من الأسارى وإطلاقهم. قال ابن عيينة: أرسل محمد صلى الله عليه وسلم بأربعة سيوف: سيف على المشركين من العرب حتى يسلموا، وسيف على المشركين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 غيرهم حتى يسلموا أو يسترقوا أو يقادوا بهم، وسيف على أهل القبلة من أهل البغي. وفيما ذكر نزاع بين العلماء. فإن منهم من يجيز المفاداة والاسترقاق في العرب وغيرهم، وكذلك يجيز أخذ الجزية بين الكفار جميعهم. والذي يظهر إن في القرآن أربعة سيوف: سيف على المشركين حتى يسلموا أو يؤسروا، فأما منّاً بعد وإما فداء، وسيف على المنافقين وهو سيف الزنادقة، وقد أمر الله بجهادهم والإغلاظ عليهم في سورة براءة وسورة التحريم وآخر سورة الأحزاب، وسيف على أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وسيف على أهل البغي، وهو المذكور في سورة الحجرات. ولم يسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 صلى الله عليه وسلم هذا السيف في حياته، وإنما سله علي رضي الله عنه في خلافته. وكان يقول: " أنا الذي علمت الناس قتال أهل القبلة ". وله صلى الله عليه وسلم سيوف أخر، منها: سيفه على أهل الردة وهو الذي قال فيه: " من بدل دينه فاقتلوه ". وقد سله أبو بكر الصديق رضي الله عنه من بعده في خلافته على من ارتد من قبائل العرب. ومنها سيفه على المارقين، وهم أهل البدع كالخوارج. وقد ثبت عنه الأمر بقتالهم مع اختلاف العلماء في كفرهم. وقد قاتلهم علي رضي الله عنه في خلافته مع قوله: " انهم ليسوا بكفار ". وقد روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال المارقين والناكثين والقاسطين. وقد حرق علي طائفة من الزنادقة، فصوب ابن عباس قتلهم، وأنكر تحريقهم بالنار. فقال علي: " ويح ابن عباس، لبحاث عن الهنات ". قوله صلى الله عليه وسلم: " بين يدي الساعة " : يعني أمامها، ومراده أنه بعث قدام الساعة قريباً منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم الحاشر، والعاقب كما صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: " أنا محمد وأحمد، والماحي، الذي يمحو الله بي الكفر، والحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، والعاقب الذي ليس بعدي نبي ". وقد جعل الله انشقاق القمر من علامات اقتراب الساعة كما يقول تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} وكان انشقاقه بمكة قبل الهجرة. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين " وأشار بإصبعيه؛ السبابة والوسطى، خرجاه في الصحيحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وخرج الإمام أحمد من حديث بريدة: " بعثت أنا والساعة جميعاً إن كادت لتسبقني ". وللترمذي: " بعثت في نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه لهذه - لإصبعيه السبابة والوسطى - ليس بينهما إصبع أخرى " والصحيح أنه يدل من ذلك على القرب من الساعة. وكان قتادة يشير إلى أن المراد بينه وبين الساعة كمقدار فضل السبابة على الوسطى، وقد قيل: إن بينهما من الفضل مقدار نصف سبع، وأخذ من هذا ان بقاء أمته ألف سنة، وهو سبع الدنيا. وقد رجح ذلك ابن الجوزي والسهيلي وقال: إن لم يصح فيه الحديث المرفوع فقد صح عن ابن عباس وغيره، وهو عند أهل الكتاب كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ومما يدل على أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة أنه أخبر عن خروج الدجال في حديث الجساسة. قوله صلى الله عليه وسلم: " حتى يعبد الله وحده لا شريك له " : هذا هو المقصود الأعظم من بعثته صلى الله عليه وسلم بل من بعثة الرسل من قبله كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} بل هذا هو المقصود من خلق الخلق وإيجادهم كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فما خلقهم إلا ليأمرهم بعبادته، وأخذ عليهم العهد لما استخرجهم من صلب آدم على ذلك كما قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى، شهدنا} الآية. وقد تكاثرت الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة في تفسير الآية أنه تعالى استنطقهم حينئذ، فأقروا كلهم بوحدانيته، وأشهدهم على أنفسهم وأشهد عليهم أباهم آدم والملائكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ثم انه تعالى انه هداهم في كل زمان بإرسال رسله وإنزال الكتب يذكرهم بالعهد الأول، ويجدد عليهم العهد والميثاق على أن يوحدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأشار في خطاب آدم وحواء عند هبوطهما من الجنة إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ، وفي سورة طه نحو هذا. فما وفى بنو آدم كلهم بهذا العهد المأخوذ عليهم، بل نقضه أكثرهم وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، فبعث الله الرسل تجدد ذلك العهد الأول، وتدعوا إلى تجديد الإقرار بالوحدانية. فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك نوح عليه السلام، فإن الشرك قد فشا في الأرض من بني آدم قبل نوح فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله وإلى عبادته وحده لا شريك له، كما ذكر سبحانه في سورة نوح عنه أنه قال لقومه: {اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وأخبر في موضع آخر عنه أنه قال لهم: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} فما استجاب له إلا قليل منهم وأكثرهم أصروا على الشرك {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} فلما أصروا على كفرهم أغرقهم الله ونجا نوح ومن آمن معه {وما آمن معه إلا قليل} . ثم إن الله تعالى بعث إبراهيم خليله عليه السلام فدعا إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وناظر على ذلك أحسن مناظرة، وأبطل شبه المشركين بالبراهين الواضحة، وكسر أصنام قومه حتى جعلهم جذاذاً فأرادوا تحريقه فأنجاه الله من النار وجعلها عليه برداً وسلاماً، ووهب الله له إسماعيل وإسحاق، فجعل عامة الأنبياء من ذرية إسحاق، فإن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من ذرية يعقوب، كيوسف وموسى وداود وسليمان عليهم السلام. وآخرهم المسيح بن مريم عليه السلام: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به، أن اعبدوا الله ربي وربكم} . ثم طبق الشرك الأرض بعد المسيح. فإن قومه الذين ادعوا اتباعه بالإيمان به أشركوا غاية الشرك فجعلوا المسيح هو الله أو ابن الله، وجعلوا أمه ثالث ثلاثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وأما اليهود فإنهم وإن تبرأوا من الشرك، فالشرك فيهم موجود، فإنه كان فيهم من عبد العجل في حياة موسى عليه السلام وقال فيه: انه الله، وان موسى نسي ربه وذهب يطلبه، ولا شرك أعظم من هذا. وطائفة قالوا: العزير ابن الله، وهذا من أعظم الشرك. وأكثرهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فأحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم، لأن من أطاع مخلوقاً في معصية الخالق واعتقد جواز طاعته أو وجوبها فقد أشرك بهذا الاعتبار، حيث جعل التحليل والتحريم لغير الله. وأما المجوس فشركهم ظاهر، فإنهم يقولون بإلهين قديمين: (أحدهما) : نور. (والآخر) : ظلمة. فالنور خالق الخير، والظلمة خالق الشر، وكانوا يعبدون النيران. وأما العرب والهند وغيرهم من الأمم فكانوا أظهر الناس شركا يعبدون الله، وآلهة كثيرة ويزعمون أنها تقرب إلى الله زلفى. فلما طبق الشرك أقطار الأرض، واستطار شرره في الآفاق من المشرق إلى المغرب بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنفية المحضة والتوحيد الخالص دين إبراهيم عليه السلام، وأمره أن يدعو الخلق كلهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فكان يدعو الناس سراً إلى ذلك نحواً من ثلاث سنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فاستجاب له طائفة من الناس، ثم أمر بإعلان الدعوة وإظهارها، وقيل له: {فاصدع بما تؤمر} فدعا إلى الله وإلى توحيده وعبادته وحده لا شريك له جهراً، وأعلن الدعوة، وذم الآلهة التي تعبد من دون الله، وذم من عبدها وأخبر أنه من أهل النار، فثار عليه المشركون، واجتهدوا في إيصال الأذى إليه وإلى اتباعه، وفي إطفاء نور الله الذي بعثه به، وهو لا يزداد إلا إعلانا بالدعوة وتصميما على إظهارها وإشهارها والنداء بها في مجامع الناس. وكان يخرج بنفسه في مواسم الحج إلى من يقدم إلى مكة من قبائل العرب فيعرض نفسه عليهم، ويدعوهم إلى التوحيد، وهم لا يستجيبون له، بل يردون عليه قوله ويسمعونه ما يكره، وربما نالوه بالأذى، وبقي عشر سنين على ذلك يقول: " من يمنعني حتى أؤدي رسالات ربي؟ ". وكان يشق أسواقهم بالمواسم وهم مزدحمون بها كسوق ذي المجاز، ينادي: " يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا " ووراءه أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 لهب يؤذيه ويرد عليه وينهى الناس عن اتباعه. واجتمع المشركون مرة عند عمه أبي طالب يشكونه إليه ويقولون: شتم آلهتنا وسفه أحلامنا وسب آباءنا، فمره فليكف عن آلهتنا. فقال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم: أجب فيما سألوه. فقال: " أنا أدعوهم إلى خير من ذلك: أن يتكلموا كلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم ". فقال أبو جهل " نعطيكها وعشر أمثالها، قال: " تقولون لا إله إلا الله ". فنفروا عنه ذلك وتفرقوا وهم يقولون: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب} وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه: " يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 قال صلى الله عليه وسلم: " لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما أوذي أحد، ولقد أتت علي ثلاثون - من بين يوم وليلة - ومالي طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ". وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما أوذي أحد في الله ما أوذيت ". كان العدو يجهد له نيل الأذى، والصديق يلوم على هذا الاحتمال إذا كان كذا، والمحبة تقول: حبذا هذا الشقاء إذا كان في رضى الحبيب والدعوة إلى التوحيد، حبذا. وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فليلمني اللوم ثم إن أبا طالب لما توفي وتوفيت بعده خديجة اشتد المشركون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 على رسول الله صلى الله عله وسلم حتى اضطروه إلى أن خرج من مكة إلى الطائف، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فلم يجيبوه وقابلوه بغاية الأذى وأمروه بالخروج من أرضهم، وأغروا به سفاءهم، فاصطفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أدموه، فخرج معه مولاه زيد بن حارثة فلم يمكنه دخول مكة إلا بجوار وطلب من جماعة من رؤساء قريش أن يجيروه حتى يدخل مكة فلم يفعلوا حتى أجاره المطعم بن عدي، فدخل في جواره، وعاد إلى ما كان عليه من الدعاء إلى توحيد الله وعبادته. وكان يقف بالموسم على القبائل فيقول لهم قبيلة قبيلة: " يا بني فلان إني رسول الله إليكم: يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً " وأبو لهب خلفة يقول: لا تطيعوه. وكان النبي صلى الله عله وسلم ينادي: " من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ " فلا يجيبه أحد حتى بعث له الأنصار بالمدينة فبايعوه. هذا كله وهو صابر على الدعوة إلى الله عز وجل على هذا الوجه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 راض بما يحصل له فيها من الأذى، منشرح الصدر بذلك، غير متضجر منه ولا جزع. كان إذا اشتكى أحد من أصحابه يقول: " إني عبد الله ولن يضيعني ". صرت لهم عبيداً ... وما للعبد أن يعترضا من لمريض لا يرى ... إلا الطبيب المُمرضا؟ وفي الصحيح عن عائشة قالت: قلت، يا رسول الله، هل مر عليك يوم أشد من يوم احد؟ فقال: " لقد لقيت من قومك ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بساحبة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك وما شئت، إن شئت أن أطبق الاخشبين عليهم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد اله وحده لا يشرك به شيئاً ". ما مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يعبد الله ولا يشرك به شيء، وما يبالي - إذا حصل ذلك - ما أصابه في الدعوة إليه، إذا وحد معبوده، حصل مقصوده، إذا عبد محبوبه، حصل مطلوبه، إذا ذكر ربه، رضي قلبه، وأما جسمه فما يبالي أصابه في سبيل ربه ما يؤلمه، أو يلائمه. إذا كان سركم ما قد بليت به ... فما لحرج إذا أرضاكم ألم وحسب سلطان الهوى أنه ... يولف فيه كل ما يؤلم وكان كلما آذاه الأعداء إذا دعاهم إلى مولاهم رجع إلى مولاه فتسلى بعلمه ونظره إليه وقربه منه، واشتغل بمناجاته، وذكره ودعائه وخدمته، فنسي كل ما أصابه من الألم من اجله، وقد أمره الله بذلك في القرآن في مواضع كثيرة نحو قوله تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} وقوله: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وقوله: {ولقد نعلك انك ليضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} . وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة لأن الصلاة صلة، وكان يقول: " وجعلت قرة عيني في الصلاة ". سروري من الدهر لقياكم ... ودار سلامي مغناكم وأنتم منتهى أملي ما حييت ... وما طاب عيشي لولاكم إذا ازدحمت في فؤادي الهموم ... أروح قلبي بذكراكم فلا تنسوا العهد فيما مضى ... فلسنا مدى الدهر ننساكم فلم يزل صلى الله عليه وسلم يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له حتى ظهر دين الله وأعلن ذكره وتوحيده في المشارق والمغارب، وصارت كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، وتوحيده هو الشائع، وصار الدين كله لله، والطاعة كلها لله، ودخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الناس في دين الله أفواجا. فجعل ذلك علامة اقتراب اجله وأمر حينئذ بالتهيؤ للقاء الله والنقلة إلى دار البقاء. وكان المعنى أن قد حصل المقصود من إرسالك، وظهر توحيدي في أقطار الأرض وزال منها ظلام الشرك، وحصلت عبادتي وحدي لا شريك لي، وصار الدين كله لي، فأنا أستدعيك إلى جواري لأجزيك أعظم الجزاء: {وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى} . وفي صفته صلى الله عليه وسلم في التوراة: " ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله وأفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا ". وكان صلى الله عليه وسلم إنما يقاتل على دخول الناس في التوحيد كما قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وكان إذا بعث سرية للغزو يوصي أميرهم بأن يدعو عدوه عند لقائهم إلى التوحيد، وكذلك أمر علي ابن أبي طالب حين بعثه لقتال أهل خيبر. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث بعثاً قال " تألفوا الناس وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت ولا مدر ولا وبر إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلى من أن تأتوني بنسائهم وأولادهم وتقتلوا رجالهم ". قوله صلى الله عليه وسلم: " وجعل رزقي تحت ظل رمحي " : إشارة إلى ان الله لم يبعثه بالسعي في طلب الدنيا، ولا بجمعها واكتنازها، ولا الاجتهاد في السعي في أسبابها وإنما بعثه داعيا إلى توحيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، ويستبيح دماءهم وأموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعدائه، فإن المال إنما خلقه الله لبني آدم ليستعينوا به على طاعته وعبادته، فمن استعان به على الكفر بالله والشرك به سلط الله عليه رسول واتباعه فانتزعوه منه وأعادوه إلى من هو أولى به من أهل عبادة الله وتوحيده وطاعته، ولهذا يسمى الفيء لرجوعه إلى من كان أحق به ولأجله خلق. وكان في القرآن المنسوخ: {إنما أنزلنا المال لاقام الصلاة وإيتاء الزكاة} . فأهل التوحيد والطاعة لله أحق بالمال من أهل الكفر به والشرك، فانتزع أموالهم، وجعل رزق رسوله من هذا المال لأنه أحل الأموال كما قال تعالى {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} وهذا مما خص الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته فإنه أحل لهم الغنائم. وقد قيل: ان الذي خصت بحله هذه الأمة هو الغنيمة المأخوذة بالقتال دون الفيء، والمأخوذ بغير قتال فإنه كان حلاً مباحاً لمن قبلنا وهو الذي جعل رزق رسوله منه، وإنما كان أحل من غيره لوجوده: (منها) انه انتزاع مال لا يستحقه لئلا يستعين به على معصية الله والشرك به، فإذا انتزعه ممن لا يستعين به على غير طاعته وتوحيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 والدعوة إلى عبادته كان ذلك أحب الأموال إلى الله وأطيب وجوده اكتسابها عنده. (ومنها) انه كان صلى الله عليه وسلم إنما كان يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر لا لأجل الغنيمة فيحصل له الرزق تبعا لعبادته وجهاده في الله، فلا يكون فرغ وقتا من أوقاته لطلب الرزق محضا، وإنما عبد الله في جميع أوقاته وحده فيها وأخلص له، فجعل الله له رزقه ميسراً في ضمن ذلك من غير أن يقصده ولا يسعى إليه. وجاء في حديث مرسل أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أنا رسول الرحمة، وأنا رسول الملحمة، إن الله بعثني بالجهاد ولم يبعثني بالزرع ". وخرج البغوي في معجمه حديثا مرسلا: " إن الله بعثني بالهدى ودين الحق ولم يجعلني زراعاً ولا تاجراً، ولا سخابا بالاسواق، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وإنما ذكر الرمح ولم يذكر السيف لئلا يقال: انه صلى الله عليه وسلم يرتزق من مال الغنيمة: إنما كان يرزق مما أفاءه الله عليه من خيبر. والفيء ما هرب أهله منه خوفا وتركوه، بخلاف الغنيمة فإنها مأخوذة بالقتال بالسيف، وذكر الرمح أقرب إلى حصول الفيء لأن الرمح يراه العدو من بعد فيهرب فيكون هرب العدو من ظل الرمح، والمأخوذة به هو مال الفيء، ومنه كان رزق النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الغنيمة فإنها تحصل من قتال السيف. والله تعالى أعلم. وقال عمر بن عبد العزيز: إن الله تعالى بعث محمداً هاديا ولم يبعثه جابيا، فكان صلى الله عليه وسلم شغله بطاعة الله والدعوة إلى التوحيد، وما يحصل في خلال ذلك من الأموال من الفيء والغنائم يحصل تبعاً لا قصداً أصلياً، ولهذا ذم من ترك الجهاد واشتغل عنه باكتساب الأموال. وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ذلك نزل قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} لما عزم الأنصار على ترك الجهاد والاشتغال بإصلاح أموالهم وأراضيهم. وفي الحديث الذي خرجه أبو داود وغيره: " إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه الله من رقابكم حتى تراجعوا دينكم " ولهذا كره الصحابة رضي الله عنهم الدخول في أرض الخراج للزراعة فإنها تشغل عن الجهاد. وقال مكحول: إن المسلمين لما قدموا الشام ذكر لهم زرع الحولة، فزرعوا فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فبعث إلى زرعهم وقد ابيض وأردك فحرقه بالنار، ثم كتب إليهم: إن الله جعل أرزاق هذه الأمة في أسنة رماحها، وتحت أزجتها، فإذا زرعوا كانوا كالناس. خرجه أسد بن موسى. وروي البيضاوي بإسناد له عن عمر انه كتب: من زرع زرعا واتبع أذناب البقر ورضي بذلك وأقر به جعلت عليه الجزية. وقيل لبعضهم لو اتخذت مزرعة للعيال؟ فقال: والله ما جئنا زراعين، ولكن جئنا لنقتل أهل الزرع ونأكل زرعهم. فأكمل حالات المؤمن أن يكون اشتغاله بطاعة الله والجهاد في سبيله، والدعوة إلى طاعته لا يطلب بذلك الدنيا، ويأخذ من مال الفيء قدر الكفاية، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ لأهله قوت سنة من مال الفيء ثم يقسم باقيه، وربما رأي محتاجا بعد ذلك فيقسم عليه قوت أهله بلا شيء. وكذلك من يشتغل بالعلم، لأنه أحد نوعي الجهاد فيكون اشتغاله بالعلم للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، فليأخذ من أموال الفيء أو الوقوف على العلم قدر الكفاية ليتقوى على جهاده، ولا ينبغي أن يأخذ أكثر من كفايته من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وقد نص أحمد على أن مال بيت المال كالخراج لا يؤخذ منه أكثر من الكفاية، فمال الوقف أضيق. ومن أشتغل بطاعة الله فقد تكفل الله برزقه، كما في حديث زيد بن ثابت المرفوع: " من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة ". خرجه الإمام أحمد وابن ماجة. وخرجه الترمذي من حديث انس موفوعا: " إن الله يقول: يا آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وخرج ابن ماجة من حديث ابن مسعود مرفوعا: " من جعل الهموم هما واحداً هم آخرته كفاه الله هم ديناه، من تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك ". وفي الآثار الإسرائيلية يقول الله: " يا دنيا اخدمي من خدمني، واتعبي من خدمك ". قوله صلى الله عليه وسلم: " وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري " : هذا يدل على أن العز الرفعة في الدنيا والآخرة بمتابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لامتثال متابعة أمر الله، قال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} وقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وقال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: " أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز ". قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، فالذلة والصغار يحصل بمخالفة أمر الله ورسوله. ومخالفة الرسول على قسمين: (أحدهما) مخالفة من لا يعتقد طاعة أمره كمخالفة الكفار، وأهل الكتاب الذين لا يرون طاعة الرسول، فهم تحت الذلة والصغار، ولهذا أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وعلى اليهود الذلة والمسكنة لأن كفرهم بالرسول كفر عناد. (والثاني) من اعتقد طاعته ثم يخالف أمره بالمعاصي التي يعتقد أنها معصية فله نصيب من الذلة والصغار، وقال الحسن: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله أن يذل إلا من عصاه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 كان الإمام أحمد يدعو: اللهم أعزنا بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية. وقال أبو العتاهية: ألا إنما التقوى هي العز والكرم ... وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم فأهل هذا النوع خالفوا الرسول من أجل داعي الشهوات. (والنوع الثاني) من خالف أمره من أجل الشبهات وهم أهل الأهواء والبدع، فكلهم لهم نصيب من الذلة والصغار بحسب مخالفتهم لأوامره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قال تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} . وأهل الأهواء والبدع كلهم مفترون على الله، وبدعتهم تتغلظ بحسب كثرة افترائهم عليه، وقد جعل الله من حرم ما أحله الله وحلل ما حرمه الله مفتريا عليه الكذب، فمن قال على الله ما لا يعلم فقد افترى عليه الكذب، ومن نسب إليه ما لا يجوز نسبته إليه من تمثيل أو تعطيل، أو كذب بأقداره فقد افترى على الله الكذب. وقد قال الله عز وجل {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} . وقال سفيان: الفتنة أن يطبع الله على قلوبهم. فلهذا تغلظت عقوبة المبتدع على عقوبة العاصي لأن المبتدع مفتر على الله مخالف لأمر رسوله لأجل هواه. فأما مخالفة بعض أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم خطأ من غير عمد، مع الاجتهاد على متابعته، فهذا يقع كثيراً من أعيان الأمة من علمائها وصلحائها، ولا إثم فيه، بل صاحبه إذا اجتهد فله أجر على اجتهاده، وخطأه موضوع عنه، ومع هذا فلا يمنع ذلك من علم أمر الرسول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 نصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين، ولا يمنع ذلك من عظمة من خالف أمره خطأ، وهب ان هذا المخالف عظيم له قدر وجلالة، وهو محبوب للمؤمنين إلا أن حق الرسول مقدم على حقه وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم الأمة، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ. ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العلماء على كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد - لا بغضاً له بل هو محبوب عندهم، معظم في نفوسهم - لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم، وأمره فوق كل أمر مخلوق. فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى ان يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفوراً له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه، بل يرضى بمخالفة أمره ومتابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ظهر أمره بخلافه. كما أوصى الشافعي: إذا صح الحديث في خلاف قوله؛ أن يتبع الحديث ويترك قوله. وكان يقول: " ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، وما ناظرت أحداً فباليت أظهر الحق على لسانه أو على لساني ". لأن تناظرهم كان لظهور أمر الله ورسوله لا لظهور نفوسهم والانتصار لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وكذلك المشايخ والعارفون كانوا يوصون بقبول الحق من كل من قال الحق؛ صغيراً كان أو كبيراً وينقادون لقوله. وقيل لحاتم الأصم: أنت رجل عيي لا تفصح، وما ناظرت أحداً إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك؟ قال: بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عن أن أقول له ما يسوءه. فذكر ذلك للإمام أحمد فقال: ما كان أعقله من رجل. وقد روي عن الإمام أحمد أنه قيل له: أن عبد الوهاب الوارق ينكر كذا وكذا، فقال: لا نزال بخير ما دام فينا من ينكر. ومن هذا الباب قول عمر لمن قال له اتق الله يا أمير المؤمنين فقال: " لا خير فيكم إن لم تقولها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم ". وردت عليه امرأة قولته فرجع إليها وقال: " رجل أخطأ وامرأة أصابت ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 فلا يزال الناس بخير ما كان فيهم الحق وتبيين أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم التي يخطئ من خالفها وإن معذوراً مجتهداً مغفوراً له، ولهذا مما خص الله به الأمة لحفظ دينها الذي بعث الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - أن لا تجتمع على ضلالة بخلاف الأمم السالفة. فههنا أمران (أحدهما) : أن من خالف أمر الرسول في شيء خطأ مع اجتهاده في طاعته ومتابعة أوامره فإنه مغفور له لا ينقص درجته بذلك، (والثاني) : أنه لا يمنعنا تعظيمه ومحبته من تبين مخالفة قوله لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيحة الأمة بتبيين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. ونفس ذلك الرجل المحبوب المعظم لو علم ان قوله مخالف لأمر الرسول فإنه يجب من يبين للأمة ذلك ويرشدهم إلى أمر الرسول، ويردهم عن قوله في نفسه، وهذه النكتة تخفى على كثير من الجهال لأسباب. وظنهم أن الرد على معظم من عالم وصالح تنقص به، وليس كذلك، وبسبب الغفلة عن ذلك تبدل دين أهل الكتاب فإنهم اتبعوا زلات علمائهم، وأعرضوا عما جاءت به أنبياءهم، حتى تبدل دينهم واتخذوا أحبارهم ورهبانهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أربابا من دون الله. فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم. فكان كلما كان فيهم رئيس كبير معظم مطاع عند الملوك قبل منه كل ما قال، وتحمل الملوك الناس على قوله. وليس فيهم من يرد قوله، ولا يبين مخالفته للدين. وهذه الأمة عصمها الله عن الاجتماع على ضلالة، فلا بد أن يكون فيها من يبين أمر الله ورسوله، ولو اجتهدت الملوك على جمع الأمة خلافه لم يتم لهم أمرهم. كما جرى مع المأمون والمعتصم والواثق، حيث اجتهدوا على إظهار القول بخلق القرآن وقتلوا الناس وضربوهم وحبسوهم على ذلك، وأجابهم العلماء تقية وخوفاً، فأقام الله إمام المسلمين في وقتهم أحمد بم حنبل، فرد باطلهم حتى اضمحل أمرهم، وصار الحق هو الظاهر في جميع بلاد الإسلام والسنة، ولم يكن الإمام أحمد يحابي أحداً في مخالفة شيء من أمر الرسول وإن دق. ولو عظم مخالفة في نفوس الخلق. فقد تكلم في بعض أعيان مشايخ العلم والدين لمسئلة أخطأها، فحمل أمره حتى لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مات لم يصل عليه إلا نحو أربعة أنفس، وكان كلما تكلم في أحد سقط، لأن كلامه تعظيم لأمر الله ورسوله لا هوى نفسه. ولقد كان بشر الحافي يقول لمن سأله عن مرضه: احمد الله إليكم، بي كذا وكذا. فقيل للإمام أحمد، وقالوا: هو يبدأ بالحمد قبل أن يصف مرضه، فقال أحمد: سلوه عمن أخذ هذا؟ - يعني إن كان هذا لم ينقل عن السلف فلا يقبل منه - فقال بشر: عندي فيه أثر، ثم روى بإسناده عن بعض السلف قال: " من بدأ بالحمد قبل الشكوى لم تكتب عليه شكوى ". فبلغ الإمام أحمد فقبل قوله. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ". فأمر الله ورسوله بالرد على من خالف أمر الله ورسوله، والرد على من خالف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أمر الله ورسوله لا يتلقى إلا عمن عرف ما جاء به الرسول وخبره خبرة تامة. قال بعض الأئمة: لا يؤخذ العلم إلا عمن عرف بالطلب. وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم نوعان: أمر ظاهر بعمل الجوارح، كالصلاة والصيام والحج والجهاد ونحو ذلك. وأمر باطن تقوم به القلوب، كالإيمان بالله ومعرفته ومحبته وخشيته وإجلاله وتعظيمه والرضا بقضائه والصبر على بلائه. فهذا كله لا يؤخذ إلا ممن عرف الكتاب والسنة، ومن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا، فمن تكلم على شيء من هذا مع جهله بما جاء على الرسول فهو داخل فيمن يفتري على الله الكذب، وفيمن يقول الله على ما لا يعلم، فإن كان مع ذلك لا يقبل الحق ممن ينكر عليه باطله لمعرفته ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل ينتقص به وقال: أنا وارث حال الرسول والعلماء وارثون علمه، فقد جمع هذا بين افتراء الكذب على الله، والتكذيب بالحق لما جاء به {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذّب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} فإن هذا متكبر على الحق والانقياد له، منقاد لهواه وجهله، ضال مضل، وإنما يرث حال الرسول من علم حاله، ثم اتبعه، فإن من لا علم له بحاله فمن اين يكون وارثه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ومثل هذا لم يكن ظهر في زمن السلف الصالح حتى يجاهدوا فيه حق الجهاد وإنما ظهر في زمن قل فيه العلم وكثر فيه الجهل، ومع هذا فلا بد أن يقيم الله من يبين للأمة ضلاله، وله نصيب من الذل والصغار بحسب مخالفته لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم. يا لله العجب، لو ادعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا - ولم يعرفه الناس بها، ولا شاهدوا عنده آلاتها - لكذبوه في دعواه ولم يأمنوه على أموالهم، ولم يمكنوه أن يعمل فيها ما يدعيه من تلك الصناعة، فكيف بمن يدعي معرفة أمر الرسول وما شوهد قط يكتب علم الرسول ولا يجالس أهله ولا يدارسه؟ فلله العجب كيف يقبل أهل العقل دعواه، ويحكمونه في أديانهم، يفسدها بدعواه الكاذبة؟ إن كنت تنوح يا حمام البان ... للبين، فأين شاهد الأحزان؟ أجفانك للدموع أم أجفاني ... لا يقبل مدع بلا برهان ومن أعظم ما حصل به الذل من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ترك ما كان عليه من جهاد أعداء الله فمن سلك سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم عز، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل. وقد سبق حديث: " إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه من رقابكم حتى تراجعوا دينكم ". ورأى النبي صلى الله عليه وسلم سكة الحرث فقال: " ما دخلت دار قوم إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 دخلها الذل ". فمن ترك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد مع قدرته واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة حصل له من الذل فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرمة؟ قوله صلى الله عليه وسلم: " ومن تشبه بقوم فهو منهم " : هذا يدل على أمرين: (أحدهما) التشبه بأهل الشر مثل أهل الكفر والفسوق والعصيان وقد وبخ الله من تشبه بهم في شيء من قبائحهم فقال تعالى: {فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم وخضتم كالذي خاضوا} . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالمشركين وأهل الكتاب، فنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعلل بأنه: " حينئذ يسجد لها الكفار ". فيصير السجود في ذلك الوقت تشبها في الصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الظاهرة،. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم: " غيروا الشيب ولا تشبهوا اليهود ". وقال صلى الله عليه وسلم: " خالفوا المشركين، اعفوا الشوارب واحفوا اللحى " وفي رواية: " جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في النعال مخالفة لأهل الكتاب. وروي عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: " ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود والنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالكف " خرجه الترمذي. ونهى عن التشبه بهم في أعيادهم وقال عبد الله بن عمر: " من أقام بأرض المشركين يصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر يوم القيامة معهم ". وقال الإمام أحمد: " أكره حلق القفا، وهو من فعل المجوس، ومن تشبه بهم فهو منهم. فالتشبه بالمشركين والمغضوب عليهم والضالين من أهل الكتاب منهي عنه ولا بد من وقوعه في هذه الأمة كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه " قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: " فمن؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 قال ابن عيينة: كان يقال من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى. ووجه هذا أن الله ذم علماء اليهود بأكل السحت، واكل الأموال بالباطل والصد عن سبيل الله، وبقتل النبيين بغير حق، وبقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، وبالتكبر عن الحق وتركه عمداً خوفاً من زوال المأكل والرياسات وبالحسد وبقسوة القلب، وبكتمان الحق، وتلبيس الحق بالباطل، وكل هذه الخصال توجد في علماء السوء من أهل البدع ونحوهم. ولهذا تشبهت الرافضة باليهود في نحو من سبعين خصلة. وأما النصارى فذمهم الله بالجهل والضلالة، وباللغو في الدين بغير الحق، ورفع المخلوق إلى درجة لا يستحقها، حتى يدعى فيه الإلهية. واتباع الكبراء في التحليل والتحريم. وكل هذا يجد في جهال المسلمين المنتسبين إلى العبادة من هذه الأمة. فمنهم من يعبد بالجهل بغير علم، بل يذم العلم وأهله، ومنهم من يغلو في بعض الشيوخ فيدعي فيه الحلول، ومن يدعي الحلول المطلق والاتحاد، ومنهم من يغلو فيمن يعتقده من الشيوخ كما يغلو النصارى في رهبانهم ويعتقدون ان لهم أن يغلو في الدين ما شاؤوا، وأن من رضي عنه غفر له، ولا يبالي بما عمل من عمل، وأن محبتهم لا يضر معها ذنب. وقد كان الشيوخ العارفون ينهون عن صحبة الأشرار، وأن ينقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 العبد عن الله بصحبته الأخيار، فمن صحب الأخيار بمجرد التعظيم لهم والغلو فيهم زائداً غلواً عن الحد وعلق قلبه بهم فقد انقطع عن الله بهم، وإنما المراد من صحبة الأخيار أن يوصلوا من صحبهم إلى الله ويسلكوا طريقه ويعلموه دينه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أهله وأصحابه على التمسك بالطاعة ويقول: " اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً " وقال لأهله: " إن أوليائي منكم المتقون يوم القيامة، لا يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم فتقولون: يا محمد. فأقول: قد بلغت ". ولما سأله ربيعة الأسلمي مرافقته في الجنة قال " فأعني على نفسك بكثرة السجود ". فإنما يراد من صحبة الأخيار إصلاح الأعمال والأحوال والاقتداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 بهم في ذلك، والانتقال من الغفلة إلى اليقظة، ومن البطالة إلى العمل، ومن التخليط إلى التكسب والقول والفعل إلى الورع، ومعرفة النفس وآفاتها واحتقارها، فأما من صحبهم وافتخر بصحبتهم وادعى بذلك الدعاوى العريضة وهو مصر على غفلته وكسله وبطالته فهو منقطع عن الله من حيث ظن الوصول إليه، كذلك المبالغة في تعظيم الشيوخ وتنزيلهم منزلة الأنبياء هو المنهي عنه. وقد كان عمر وغيره من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يكرهون أن يطلب الدعاء منهم ويقولون " أأنبياء نحن؟ " فدل على أن هذه المنزلة لا تنبغي إلا للأنبياء عليهم السلام، وكذلك التبرك بالآثار فإنما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم ببعض ولا يفعله التابعون مع الصحابة، مع علو قدرهم. فدل على أن هذا لا يفعل إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل التبرك بوضوئه وفضلاته وشعره وشرب فضل شرابه وطعامه. وفي الجملة فهذه الأشياء فتنة للمعظّم وللمعظّم لما يخشى عليه من الغلو المدخل في البدعة، وربما يترقى إلى نوع من الشرك. كل هذا إنما جاء من التشبه بأهل الكتاب والمشركين الذي نهيت عنه هذه الأمة. وفي الحديث الذي في السنن: " ان من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، والسلطان المقسط، وحامل القرآن غير الغالي فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 والجافي عنه ". فالغلو من صفات النصارى، والجفاء من صفات اليهود، والقصد هو المأمور به. وقد كان السلف الصالح ينهون عن تعظيمهم غاية النهي كأنس الثوري وأحمد. وكان أحمد يقول: من أنا حتى تجيئون إلى؟ اذهبوا اكتبوا الحديث، وكان إذا سئل عن شيء، يقول: سلوا العلماء. وإذا سئل عن شيء من الورع يقول: أنا لا يحل لي أن أتكلم في الورع، لو كان بشر حياً تكلم في هذا. وسئل مرة عن الإخلاص فقال: اذهب إلى الزهاد، إي شيء نحن تجيء إلينا؟ وجاء إليه رجل فمسح يده ثيابه ومسح بهما وجهه، فغضب الإمام أحمد وأنكر ذلك أشد الإنكار وقال: عمن أخذتم هذا الأمر؟ (الثاني) التشبه بأهل الخير والتقوى والإيمان والطاعة فهذا حسن مندوب إليه، ولهذا يشرع الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وآدابه وأخلاقه. وذلك مقتضى المحبة الصحيحة، فإن المرء مع من أحب، ولا بد من مشاركته في أصل عمله وان قصر المحب عن درجته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 قال الحسن لا تغتر بقولك: المرء مع من أحب، ان من أحب قوما اتبع آثارهم، ولن تلحق الأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتمسي وتصبح وأنت على مناهجهم، حريصاً أن تكون منهم، وتسلك سبيلهم، وتأخذ طريقتهم، وإن كنت مقصراً في العمل. فإن ملاك الأمر أم تكون على استقامة. أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء الردية يحبون أنبياءهم وليسوا معهم لأنهم خالفوهم في القول والعمل وسلكوا غير طريقهم فصار موردهم النار؟ نعوذ بالله من النار. كان يونس بن عبيد ينشد: فإنك من يعجبك لا تك مثله ... إذا أنت لم تصنع كما كان يصنع وجاء في الحديث: " ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ". فمن أحب أهل الخير وتشبه بهم جهده فإنه يلحق بهم كما في الحديث المشهور: " من حفظ أربعين حديثا حشر يوم القيامة في زمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 العلماء ". ومن أحب أهل الطاعة والذكر - على وجه السنة - وجالسهم يغفر له معهم وإن لم يكن منهم " فإنهم القوم لا يشقى جليسهم ". فأما التشبه بأهل الخير في الظاهر، والباطن لا يشبههم فهو بعيد منهم، وإنما القصد بالتشبيه أن يقال عن المتشبه بهم انه منهم وليس منهم من خصال النفاق كما قال بعض السلف: " استعيذوا بالله من خشوع النفاق ان يرى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع ". كان السلف يجتهدون في أعمال الخير ويعدون أنفسهم من المقصرين المذنبين، ونحن مع إساءتنا نعد أنفسنا من المحسنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 كان مالك بن دينار يقول: إذا ذكر الصالحون " أف، أف لي، وتوقف ". وقال أيوب: " إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل ". وقال يونس بن عبيد: " أعد مائة خصلة من خصال الخير ليس منها فيَّ واحدة ". وقال محمد بن واسع: " لو ان للذنوب رائحة لم يستطع أحد أن يجلس معي ". يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد، يا من يسمع ما يلين الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، يا من يرد قلبه عن التقوى، كيف ينفع الضرب البارد في حديد بارد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 يا نفس أنى تؤفكينَ؟ ... حتى متى لا ترعوينَ؟ حتى متى، لا تعقلينا ... وتسمعينا وتبصرينا؟ يا نفس إن لم تصلحي ... فتشبهي بالصالحينا آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسلمياً كثيراً إلى يوم الدين. وافق الفراغ من نسخه يوم الأربعاء لتسع مضت من ربيع الثاني من شهور سنة 1299 وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51