الكتاب: غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب المؤلف: شمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (المتوفى: 1188هـ) الناشر: مؤسسة قرطبة - مصر الطبعة: الثانية، 1414 هـ / 1993م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب السفاريني الكتاب: غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب المؤلف: شمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (المتوفى: 1188هـ) الناشر: مؤسسة قرطبة - مصر الطبعة: الثانية، 1414 هـ / 1993م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب]ـ المؤلف: شمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (المتوفى: 1188هـ) الناشر: مؤسسة قرطبة - مصر الطبعة: الثانية، 1414 هـ / 1993م عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] كتاب غذاء الألباب قصد به مؤلفه شرح منظومة الآداب نظم الإمام القدوة شمس الدين محمد بن عبد القوي المرداوي الحنبلي وهي منظومة جليلة القدر في الآداب الشرعية وقد شرحها المؤلف رحمه الله شرحا وسطا في عبارة سهلة واضحة. منهج المؤلف أن يبدأ بشرح ألفاظ المنظومة ثم بعد ذلك يتكلم عن موضوع الأبيات ويورد ما يناسب من الأحكام والأقوال ويسرد بعض الحكايات المتعلقة بالموضوع في أسلوب شائق وممتع. والكتاب عمدة في موضوع الآداب الشرعية وقد استمد المؤلف شرحه من مصادر متعددة أشار إليها في المقدمة. [ المقدمة ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ ثِقَتِي وَعَلَيْهِ تَوَكُّلِي الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَخَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْقُوَى وَالْجَوَارِحَ وَالْبَنَانَ، وَشَرَّفَهُ بِمَعْرِفَتِهِ، وَأَهَّلَهُ لِخِدْمَتِهِ، وَفَضَّلَهُ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَاخْتَصَّهُ بِالنَّهْيِ وَالْأَمْرِ، وَالْوِزْرِ وَالْأَجْرِ، وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، وَمَنَحَهُ الْحِلْمَ وَالْحَزْمَ، وَالْفِكْرَ وَالْفَهْمَ، وَالذِّكْرَ وَالْعِلْمَ، وَالتَّحَقُّقَ وَالْعِرْفَانَ، وَنَحَلَهُ الرِّضَى وَالْغَضَبَ، وَالتَّوَدُّدَ وَالْأَدَبَ، وَالتَّلَطُّفَ وَالْأَرَبَ، وَالرِّقَّةَ وَالْجَشْبَ، وَالرَّاحَةَ وَاللَّغْبَ، وَالتَّذَكُّرَ وَالنِّسْيَانَ. سُبْحَانَهُ مِنْ إلَهٍ خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَأَعْطَى وَمَنَعَ، وَخَفَضَ وَرَفَعَ، وَأَتَمَّ الدِّينَ، وَأَعْلَنَ الْبُرْهَانَ. حَدَّ الْحُدُودَ، وَعَمَّ بِالْفَضْلِ الْوُجُودَ، وَبَيَّنَ الْأَحْكَامَ مِنْ مُبَاحٍ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَمَكْرُوهٍ وَمَنْدُوبٍ، فَانْدَرَجَ فِيهَا الْأَدَبُ الْمَطْلُوبُ، فَفَضَّلَ هَذَا الدِّينَ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا ضِدَّ وَلَا نِدَّ، وَلَا وَزِيرَ وَلَا مُشِيرَ وَلَا أَعْوَانَ، بَلْ هُوَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الْمُنَزَّهُ عَنْ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، فَهُوَ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْحَكِيمُ الدَّيَّانُ. وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَشَهِيدُهُ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، خُلَاصَةُ الْأَكْوَانِ، وَسَيِّدُ وَلَدِ عَدْنَانَ، الَّذِي أَكْمَلَ خَلْقَهُ، وَعَظَّمَ خُلُقَهُ، وَوَضَعَ عَنْهُ وِزْرَهُ، وَرَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَأَدَّبَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، فَكَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، وَأَيَّدَهُ بِالْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَالْفَضْلِ وَالتَّفْضِيلِ، وَالْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ، وَالْحِكْمَةِ وَالتَّأْوِيلِ، وَالْحُسْنِ وَالْإِحْسَانِ. اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَشَرِّفْ وَعَظِّمْ وَبَجِّلْ وَكَرِّمْ، وَضَاعِفْ ذَلِكَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، الْمَنْعُوتِ فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ، بِأَعْظَمِ نَعْتٍ وَأَتَمِّ تَفْخِيمٍ، بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فَيَا لَهَا مِنْ مَزِيَّةٍ سَادَ بِهَا عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجَانِّ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَأَنْصَارِهِ وَأَحْزَابِهِ، وَأَصْهَارِهِ وَأَحْبَابِهِ، الْمُتَخَلِّقِينَ بِخُلُقِهِ، وَالْمُتَأَدِّبِينَ بِآدَابِهِ فِي السِّرِّ وَالْإِعْلَانِ. الَّذِينَ بَذَلُوا نُفُوسَهُمْ النَّفِيسَةَ فِي إظْهَارِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَجَاهَدُوا بِسُمْرِ الْقَنَا وَبِيضِ الظِّبَا مَنْ حَادَ عَنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَنَشَرُوا السُّنَّةَ وَالْكِتَابَ، وَأَظْهَرُوا الْفُرُوضَ وَالْآدَابَ، بِأَسْلَمِ قَلْبٍ وَأَفْصَحِ لِسَانٍ، وَعَلَى التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمُقَلِّدِيهِمْ، مَا نُقِلَتْ أَخْبَارُهُمْ، وَدُوِّنَتْ آثَارُهُمْ، وَكَرَّ الْجَدِيدَانِ، وَتَعَاقَبَ الْمَلَوَانِ. (أَمَّا بَعْدُ) فَقَدْ كَانَ سَأَلَنِي بَعْضُ الْإِخْوَانِ، وَالْأَحِبَّةِ وَالْأَخْدَانِ، مِمَّنْ لَهُ فِي الْعِلْمِ رَغْبَةٌ، وَلَدَيْهِ مِنْ خَوْفِ التَّقْصِيرِ رَهْبَةٌ، أَنْ أَشْرَحَ مَنْظُومَةَ الْآدَابِ، نَظْمَ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ الْأَوْحَدِ، وَالْقُدْوَةِ الْفَهَّامَةِ الْأَمْجَدِ، سِيبَوَيْهِ زَمَانِهِ، بَلْ قَسُّ عَصْرِهِ وَسَحْبَانُ أَوَانِهِ، وَمُخْجِلُ الدُّرِّ بِنَظْمِهِ وَالضُّحَى بِبَيَانِهِ، وَالْبَحْرِ بِفَيْضِ عِلْمِهِ وَالْمُزْنِ بِسَيْلِ بَنَانِهِ، الْإِمَامُ الْقُدْوَةُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الْمِرْدَاوِيُّ، الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ، الْحَنْبَلِيُّ الْأَثَرِيُّ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، شَرْحًا يَحُلُّ مَبَانِيهَا، وَيُظْهِرُ مَعَانِيهَا، وَيَكْشِفُ وُجُوهَ مُخَدَّرَاتِهَا، وَيُوَضِّحُ دَلَائِلَ أَبْيَاتِهَا، وَيَكُونُ لِأَبْنَاءِ زَمَانِنَا فِي مَعْرِفَةِ الْآدَابِ كَالْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى فِي الْفِقْهِ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ. فَتَعَلَّلْت بِأَنَّ خَاتِمَةَ الْمُحَقِّقِينَ الشَّيْخَ مُوسَى الْحَجَّاوِيَّ قَدْ شَرَحَهَا، وَقَبْلَهُ أَوْحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ الْمِرْدَاوِيُّ قَدْ أَوْضَحَهَا، فَمَنْ أَنَا حَتَّى أَتَجَرَّأَ عَلَى شَرْحِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ، وَأَدْخُلَ بَيْنَ الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ بِهَذِهِ الْبُلَالَةِ، وَمَنْ لِي بِاطِّلَاعِ الْمِرْدَاوِيِّ وَتَحْقِيقِ الْحَجَّاوِيِّ؟ وَهَلْ أَنَا حِينَئِذٍ إلَّا كَمَنْ ذَهَبَ إلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ (بُقْرَاطُ) وَ (جَالِينُوسُ) وَقَالَ أَنَا الطَّبِيبُ الْمُدَاوِي. فَقَالَ السَّائِلُ: أَمَّا شَرْحُ الْمِرْدَاوِيِّ فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ، وَأَمَّا شَرْحُ الْحَجَّاوِيِّ فَقَدْ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَحْكَامِ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ وَأَزْهَدَ، مَعَ حَذْفِهِ لِأَكْثَرِ أَبْيَاتِ الْمَنْظُومَةِ، أَوْ كَثِيرٍ مِنْهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَعَدَمِ الْغِنَى عَنْهَا. وَنَحْنُ نَقْتَرِحُ عَلَيْك بَسْطَ الْعِبَارَةِ فِي الْأَخْبَارِ، وَضَبْطَ الْإِشَارَةِ فِي الْآثَارِ، لِيَكُونَ مَنْ أَحْرَزَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْغَزِيرَةَ، مِنْ الصِّحَّةَ وَالْبَيَانِ، وَالتَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ عَلَى بَصِيرَةٍ، فَمَنَّيْت الَّذِي إلَى بِضَاعَتِي الْمُزْجَاةِ يَرْغَبُ، وَوَعَدْتُهُ بِذَلِكَ وَالْوَعْدُ عِنْدَ الْحُرِّ دَيْنٌ يُطْلَبُ، وَقُلْت لَا بُدَّ، مِنْ إسْعَافِ هَذَا السَّائِلِ، وَلَوْ بِالتَّطَفُّلِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ وَالرَّسَائِلِ، وَنَقْلِ الْأَخْبَارِ وَجَمْعِ الْمَسَائِلِ. فَإِنَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ نَقُولُ كَمَا نَقَلَ النَّاقِلُ: " لَمْ تَدَعْ الْأَوَائِلُ كَلِمَةً لِقَائِلٍ " وَالْمُظْهِرُ فِي زَمَانِنَا الْإِمَامَةَ وَالْعِلْمَ وَالْبَلَاغَةَ وَالْفَهْمَ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّدْرِ الْأَوَّلِ، مِثْلُ أَنْ يُحَاجِيَ سَحْبَانَ بَاقِلُ، ثُمَّ أَخَذْتُ فِي تَحْصِيلِ الْمَوَادِّ الْمُعِينَةِ، وَالْكُتُبِ الصَّحِيحَةِ الْمَتِينَةِ، وَبَعْدَ الْوَعْدِ بِمُدَّةٍ تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، شَرَعْت فِي الشَّرْحِ وَالتَّبْيِينِ. هَذَا مَعَ كَوْنِي فِي بَلْدَةٍ قَفْرٍ أَرْجَاؤُهَا مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ غُبْرًا، وَعُلَمَاؤُهَا مِنْ الْعُلُومِ فُقَرَا، وَالْفِتَنُ فِي ضَوَاحِيهَا تَتْرَى، وَعَزَّتْ الْمَوَادُّ فِي قُطْرِ تَأْلِيفِهَا، وَفَقَدَ الْخِلُّ الْمَوَادَّ فِي مَخَالِيفِهَا. غَيْرَ أَنَّ الْعَبْدَ إذا ابْتَهَلَ إلَى اللَّهِ، وَرَمَى نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَطَرَقَ بَابَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْمَعُونَةَ عَلَى شَيْءٍ سَهَّلَ أَسْبَابَهُ. فَقَدْ حَصَلَ لَدَيْنَا مِنْ الْمَادَّةِ الَّتِي لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ مُسَاعِدَةٌ عِدَّةُ أَسْفَارٍ، إذَا قَابَلَتْ لَيْلَ الْجَهْلِ انْقَشَعَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْأَنْوَارِ، مِثْلُ الْآدَابِ الْكُبْرَى لِابْنِ مُفْلِحٍ، وَمُخْتَصَرِهَا لِلْيُونِينِيِّ، وَشَرْحِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ لِلْحَجَّاوِيِّ، وَالْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَشُرُوحِهِمَا وَحَوَاشِيهِمَا، وَفُرُوعِ ابْنِ مُفْلِحٍ وَتَصْحِيحِهِ لِلْمَرْدَاوِيِّ، وَحَاشِيَتِهِ لِابْنِ قُنْدُسٍ، وَالْإِنْصَافِ لِلْمَرْدَاوِيِّ، وَالتَّنْقِيحِ لَهُ، وَحَاشِيَتِهِ لِلْحَجَّاوِيِّ، وَغَايَةِ الْمَطْلَبِ لِلْجِرَاعِيِّ، وَالشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَقْدِسِيِّ، وَالْمُحَرَّرِ لِلْمَجْدِ، وَعِدَّةٌ مِنْ كُتُبِ فِقْهِ الْمَذْهَبِ. وَمِنْ كُتُبِ الْآثَارِ: سِيرَةُ ابْنِ هِشَامٍ، وَسِيرَةُ الْحَلَبِيِّ، وَسِيرَةُ الشَّمْسِ لِلشَّامِيِّ، وَالْمَوَاهِبُ اللَّدُنِّيَّةُ، وَتَحْبِيرُ الْوَفَا لَنَا، وَزَادُ الْمَعَادِ فِي هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ، وَإِغَاثَةُ اللَّهْفَانِ، وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ، وَالرُّوحُ، وَحَادِي الْأَرْوَاحِ، وَشَرْحُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَالْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَأَعْلَامُ الْمُوَقِّعِينَ، وَالدَّاءُ وَالدَّوَاءُ، وَرَوْضَةُ الْمُحِبِّينَ، وَنُزْهَةُ الْمُشْتَاقِينَ، وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَتُحْفَةُ الْوَدُودِ، وَجَلَاءُ الْأَفْهَامِ، وَغَيْرُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ كُتُبِهِ. وَمِنْ كُتُبِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: التَّبْصِرَةُ، وَالْمَنْهَلُ الْمَوْرُودُ، وَمُنْتَخَبُ الْمُنْتَخَبِ، وَمَوَاسِمُ الْعُمْرِ، وَالْمَوْضُوعَاتُ، وَصَيْدُ الْخَاطِرِ، وَآدَابُ النِّسَاءِ. وَمِنْ كُتُبِ الْحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ: لَطَائِفُ الْمَعَارِفِ، وَشَرْحُ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ وَاخْتِيَارُ الْأَوْلَى، وَاسْتِنْشَاقُ نَسِيمِ الْأُنْسِ، وَالذُّلُّ وَالِانْكِسَارُ، وَغَيْرُهَا مِنْ كُتُبِهِ الْمُفِيدَةِ وَأَجْزَائِهِ الْعَدِيدَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَمِنْ كُتُبِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ: الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةُ، وَالرِّسَالَةُ الْحَمَوِيَّةُ وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ، وَرَفْعُ الْمَلَامِ عَنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْوَابِلُ الصَّيِّبُ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ، وَالسِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي إصْلَاحِ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ، وَقَوَاعِدُ وَرَسَائِلُ لَهُ يَكْثُرُ ذِكْرُهَا. وَمِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ: الْبَغَوِيّ، وَالثَّعْلَبِيُّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَالْجَلَالَيْنِ، وَالْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهَا. وَمِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ: الْقَامُوسُ، وَجَمْهَرَةُ ابْنِ دُرَيْدٍ، وَنِهَايَةُ ابْنِ الْأَثِيرِ، وَمَطَالِعُ الْأَنْوَارِ، وَغَرِيبُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَغَرِيبُ لُغَةِ الْإِقْنَاعِ، وَالْمُطْلِعُ. وَمِنْ الْكُتُبِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ لِلْحَافِظِ الْمُنْذِرِيِّ، وَتَنْبِيهُ الْغَافِلِينَ لِلسَّمَرْقَنْدِيِّ، وَالْجَامِعُ الصَّغِيرُ لِلْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ وَشُرُوحُهُ، وَالْهَيْئَةُ السَّنِيَّةُ فِي الْهَيْئَةِ السُّنِّيَّةِ لَهُ، وَالْأَوَائِلُ لَهُ، وَأَوَائِلُ عَلِيٍّ دَدَهْ، وَالتَّمْيِيزُ لِابْنِ الدَّيْبَعِ تِلْمِيذِ السَّخَاوِيِّ اخْتَصَرَهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ فِيمَا يَدُورُ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَتَسْهِيلُ السَّبِيلِ لِغَرْسِ الدِّينِ، وَمَوْضُوعَاتُ عَلِيٍّ الْقَارِيّ، وَمُسْنَدُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالصَّحِيحَيْنِ، وَبَقِيَّةُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ، وَفَضَائِلُ الْأَعْمَالِ لِلضِّيَاءِ الْمَقْدِسِيِّ، وَغَيْرُ مَا ذَكَرْنَا فَقَدْ جَمَعْتُهُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَثِمِائَةِ كِتَابٍ الَّتِي نَقَلْت مِنْهَا. وَبِحَسَبِ مَوَادِّ أَصْلِهَا تَزِيدُ عَلَى الْأُلُوفِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَسَمَّيْتُهُ (غِذَاءَ الْأَلْبَابِ، لِشَرْحِ مَنْظُومَةِ الْآدَابِ) وَصَدَّرْتُهُ بِمُقَدِّمَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ: (الْأَمْرُ الْأَوَّلُ) هَذِهِ الْقَصِيدَةُ مِنْ بَحْرِ الطَّوِيلِ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي، وَلَهُ عَرُوضٌ وَاحِدَةٌ مَقْبُوضَةٌ، وَالْقَبْضُ حَذْفُ خَامِسِ الْجُزْءِ، وَأَضْرُبُهُ ثَلَاثَةٌ: (الْأَوَّلُ) صَحِيحٌ وَبَيْتُهُ: أَبَا مُنْذِرٍ كَانَتْ غُرُورًا صَحِيفَتِي ... وَلَمْ أُعْطِكُمْ بِالطَّوْعِ مَالِي وَلَا عِرْضِي (الثَّانِي) مِثْلُهَا وَبَيْتُهُ: سَتُبْدِي لَك الْأَيَّامُ مَا كُنْت جَاهِلًا ... وَيَأْتِيك بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ (وَالثَّالِثُ) : مَحْذُوفٌ وَبَيْتُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَقِيمُوا بَنِي النُّعْمَانِ عَنَّا صُدُورَكُمْ ... وَإِلَّا تُقِيمُوا صَاغِرِينَ الرُّءُوسَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وَالْحَذْفُ هُوَ ذَهَابُ سَبَبٍ خَفِيفٍ كَمَا فِي الْبَيْتِ. وَأَجْزَاءُ الطَّوِيلِ ثَمَانِيَةٌ: (فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ) (فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ) . وَلْنُقَطِّعْ الْبَيْتَ الْأَوَّلَ مِنْ قَصِيدَةِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَضِيَ عَنْهُ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ نَظَائِرُهُ (بِحَمْدِ) فَعُولُ دَخَلَهُ الْقَبْضُ وَهُوَ حَذْفُ خَامِسِ الْجُزْءِ سَاكِنًا كَمَا هُنَا (كَ ذِي الْإِكْرَا) مَفَاعِيلُنْ (مِ مَا رُمْ) فَعُولُنْ (تَ أَبْتَدِي) مَفَاعِلُنْ بِحَذْفِ خَامِسِهِ سَاكِنًا لِأَنَّ عَرُوضَهُ لَا تَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ (كَثِيرًا) فَعُولُنْ (كَمَا تَرْضَى) مَفَاعِيلُنْ (بِغَيْرِ) فَعُولُ بِحَذْفِ سَاكِنِ السَّبَبِ الْخَفِيفِ وَهُوَ قَبْضٌ لِأَنَّهُ خَامِسُ الْجُزْءِ كَمَا عَلِمْت (تَحَدُّدِ) مَفَاعِلُنْ، وَالْحَرْفُ الْمُشَدَّدُ بِحَرْفَيْنِ، وَالْعَرُوضُ مُؤَنَّثَةٌ وَهِيَ آخِرُ الْمِصْرَاعِ الْأَوَّلِ، وَالضَّرْبُ مُذَكَّرٌ وَهُوَ آخِرُ الْمِصْرَاعِ الثَّانِي. وَأَمَّا الْقَافِيَةُ فَهِيَ مِنْ آخِرِ الْبَيْتِ إلَى أَوَّلِ مُتَحَرِّكٍ قَبْلَ سَاكِنٍ بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ بَعْضَ كَلِمَةٍ كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَحَمَّلْ هِيَ مِنْ الْحَاءِ إلَى الْيَاءِ، وَتَكُونُ كَلِمَةً كَقَوْلِهِ: فَفَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً ... عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مَحْمَلِي وَفِي مَنْظُومَةِ النَّاظِمِ آخِرُ الْبَيْتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ فِي جَمِيعِ الْقَصِيدَةِ وَالْمُتَحَرِّكُ الَّذِي قَبْلَ سَاكِنٍ هُوَ الدَّالُ الْمُهْمَلَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (الثَّانِي فِي ذِكْرِ تَرْجَمَةِ النَّاظِمِ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ بْنِ بَدْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمِنْدَسِيُّ الْمِرْدَاوِيُّ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِمَرْدَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ خَطِيبِ مَرْدَا وَعُثْمَانَ بْنِ خَطِيبِ الْقَرَافَةِ، وَابْنِ عَبْدِ الْهَادِي، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ خَلِيلٍ وَغَيْرِهِمْ. وَطَلَبَ وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ شَمْسِ الدِّينِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَبَرَعَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ، وَاشْتَغَلَ وَدَرَّسَ وَأَفْتَى وَصَنَّفَ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ: كَانَ حَسَنَ الدِّيَانَةِ، دَمِثَ الْأَخْلَاقِ، كَثِيرَ الْإِفَادَةِ، مُطَّرِحًا لِلتَّكْلِيفِ، وَلِيَ تَدْرِيسَ الصَّالِحِيَّةِ مُدَّةً، وَكَانَ يَحْضُرُ دَارَ الْحَدِيثِ وَيَشْتَغِلُ بِهَا وَبِالْجَبَلِ، يَعْنِي صَالِحِيَّةِ دِمَشْقَ. وَلَهُ حِكَايَاتٌ وَنَوَادِرُ، وَكَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 مِنْ مَحَاسِنِ الشُّيُوخِ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَجَلَسْت عِنْدَهُ وَسَمِعْت كَلَامَهُ وَلِي مِنْهُ إجَازَةٌ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي الطَّبَقَاتِ: دَرَّسَ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّالِحِيَّةِ بَعْدَ ابْنِ الْوَاسِطِيِّ، وَتَخَرَّجَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ، وَمِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ الْعَرَبِيَّةَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، وَلَهُ تَصَانِيفُ مِنْهَا فِي الْفِقْهِ الْقَصِيدَةُ الطَّوِيلَةُ الدَّالِيَّةُ وَكِتَابُ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ لَمْ يُتِمَّهُ، وَكِتَابُ الْفُرُوقِ، وَعَمِلَ طَبَقَاتٍ لِلْأَصْحَابِ، وَحَدَّثَ وَرَوَى عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ الْخَبَّازِ فِي مَشْيَخَتِهِ. قَالَ: وَتُوُفِّيَ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ. قَالَ الشَّيْخُ مُوسَى بْنُ أَحْمَدَ بْنُ مُوسَى بْنُ سَالِمٍ الْحَجَّاوِيُّ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ: وَلَمَّا نَظَمَ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْقَوِيِّ الْقَصِيدَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الْفِقْهِ أَتْبَعَهَا بِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ فِي الْآدَابِ اقْتِدَاءً بِطَرِيقَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ، كَابْنِ أَبِي مُوسَى، وَالْقَاضِي، وَابْنِ حَمْدَانَ فِي رِعَايَتِهِ، وَصَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ، وَغَيْرِهِمْ فِي إتْبَاعِ الْكِتَابِ بِخَاتِمَةٍ فِي الْآدَابِ، فَأَتْبَعَ كِتَابَهُ بِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ. قُلْت: وَمِمَّنْ سَلَكَ هَذَا الْأُسْلُوبَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ زَيْدٍ الْجِرَاعِيِّ فِي كِتَابِهِ غَايَةِ الْمَطْلَبِ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ فِي صَدْرِ آدَابِهِ الْكُبْرَى: وَقَدْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى يَعْنِي الْآدَابَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، كَأَبِي دَاوُد الْإِمَامِ السِّجِسْتَانِيِّ صَاحِبِ السُّنَنِ، وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي حَفْصٍ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَابْنِ عَقِيلٍ، وَغَيْرِهِمْ. قَالَ: وَصَنَّفَ فِي بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالدُّعَاءِ وَالطِّبِّ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَابْنُهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ انْتَهَى. الْكَلَامُ عَلَى الْبَسْمَلَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ سَاقِطَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّظْمِ، وَكَانَ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْمَنْظُومَةِ تَتِمَّةً لِلْقَصِيدَةِ الطَّوِيلَةِ، أَوْ أَنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَتَى بِهَا لَفْظًا أَوْ لَفْظًا وَخَطًّا كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 هُوَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَأَسْقَطَهَا بَعْضُ النُّسَّاخِ، وَنَحْنُ نَأْتِي بِهَا فَنَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّمَا بَدَأَ الْمُصَنِّفُونَ كُتُبَهُمْ بِالْبَسْمَلَةِ تَأَسِّيًا بِالْكِتَابِ الْقَدِيمِ، وَاقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ الْكَرِيمِ فِي مُكَاتَبَاتِهِ إلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَمَلًا بِحَدِيثِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ» أَيْ ذَاهِبُ الْبَرَكَةِ، رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ. فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ لِاسْتِعَانَةٍ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيرُهُ فِعْلًا خَاصًّا مُؤَخَّرًا أَوْلَى. أَمَّا كَوْنُهُ فِعْلًا؛ فَلِأَنَّ أَصْلَ الْعَمَلِ لِلْأَفْعَالِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ خَاصًّا فَلِأَنَّهُ أَنْسَبُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مُؤَخَّرًا لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِالْبَسْمَلَةِ حَقِيقَةً، وَالِاسْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ، أَوْ السِّمَةُ وَهِيَ الْعَلَامَةُ. وَاَللَّهُ عَلَمٌ لِلذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْكَمَالَاتِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ أَلِهَ كَعَلِمَ إذَا تَحَيَّرَ لَتَحَيُّرِ الْخَلْقِ فِي كُنْهِ ذَاتِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، وَقِيلَ مِنْ لَاهَ يَلِيهُ إذَا عَلَا، أَوْ مِنْ لَاهَ يَلُوهُ إذَا احْتَجَبَ. وَهُوَ عَرَبِيٌّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَزَعَمَ الْبَلْخِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ مُعَرَّبٌ فَقِيلَ عَرَبِيٌّ وَقِيلَ سُرْيَانِيٌّ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مُعَرَّبٌ سَاقِطٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وَهُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَدَمُ الْإِجَابَةِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ مَعَ الدُّعَاءِ بِهِ لِتَخَلُّفِ بَعْضِ شُرُوطِهِ الَّتِي مِنْ أَهَمِّهَا الْإِخْلَاصُ وَأَكْلُ الْحَلَالِ. وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَجَمَعَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الْحَيَّ الْقَيُّومَ. قَالَ فِي نُونِيَّتِهِ: اسْمُ الْإِلَهِ الْأَعْظَمِ اشْتَمَلَا عَلَى اسْ ... مِ الْحَيِّ وَالْقَيُّومِ مُقْتَرِنَانِ فَالْكُلُّ مَرْجِعُهَا إلَى الِاسْمَيْنِ يَدْ ... رِيّ ذَاكَ ذُو بَصَرٍ بِهَذَا الشَّانِ وَالرَّحْمَنُ صِفَةٌ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى كَثِيرِ الرَّحْمَةِ جِدًّا، ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الْبَالِغِ فِي الرَّحْمَةِ غَايَتَهَا وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالرَّحِيمُ ذُو الرَّحْمَةِ الْكَثِيرَةِ، فَالرَّحْمَنُ أَبْلَغُ مِنْهُ، وَأَتَى بِهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الرَّحْمَةِ وَإِنْ ذُكِرَ بَعْدَمَا دَلَّ عَلَى جَلَائِلِهَا الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مَقْصُودٌ أَيْضًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إلَيْهِ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ اللَّهُ عَلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأَنَّهُ اسْمُ ذَاتٍ فِي الْأَصْلِ، وَهُمَا اسْمَا صِفَةٍ فِي الْأَصْلِ، وَالذَّاتُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الصِّفَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وَإِنَّمَا قُدِّمَ الرَّحْمَنُ عَلَى الرَّحِيمِ لِأَنَّ الرَّحْمَنَ خَاصٌّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُقَالُ لِغَيْرِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ بَنِي حَنِيفَةَ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: رَحْمَانُ الْيَمَامَةِ، وَقَوْلُ شَاعِرِهِمْ وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْت رَحْمَانًا فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ، وَإِلَّا فَهُوَ كَاَللَّهِ خَاصٌّ بِاَللَّهِ لُغَةً وَشَرْعًا. قَالَ وَمِنْ ثَمَّ أُخِّرَ عَنْ اللَّهِ بِخِلَافِ الرَّحِيمِ فَلَيْسَ خَاصًّا بِهِ تَعَالَى بَلْ عَامٌّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ تَعَالَى لِمَنْ قَامَ بِهِ مَعْنَاهُ. وَاعْتُرِضَ بِمَا خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ الرَّحِيمُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَنْتَحِلَهُ، وَحَمَلَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ عَلَى الْمُعَرَّفِ بِأَلْ دُونَ الْمُنَكَّرِ وَالْمُضَافِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الرَّحِيمِ كَمَا أَشَرْنَا لِزِيَادَةِ بِنَائِهِ عَلَى الرَّحِيمِ وَزِيَادَةُ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى غَالِبًا كَمَا فِي قَطَعَ وَقَطَّعَ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَادَةُ تَقْدِيمُ غَيْرِ الْأَبْلَغِ لِيَرْتَقِيَ مِنْهُ إلَى الْأَبْلَغِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ عَالِمٌ نِحْرِيرٌ وَجَوَادٌ فَيَّاضٌ، فَالْجَوَابُ قَدْ قِيلَ إنَّ الرَّحِيمَ أَبْلَغُ، وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ خُصَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ، فَقِيلَ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَرَحِيمُ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ عَكْسُهُ، وَقِيلَ الرَّحْمَنُ أَمْدَحُ وَالرَّحِيمُ أَلْطَفُ. وَقِيلَ إنَّمَا خُولِفَتْ الْعَادَةُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ أَنْ يُرْدَفَ الرَّحْمَنُ الَّذِي تَنَاوَلَ جَلَائِلَ النِّعَمِ وَأُصُولِهَا بِالرَّحِيمِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لِتَنَاوُلِهِ مَا دَقَّ مِنْهَا وَلَطُفَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي: الْحَقُّ قَوْلُ الْأَعْلَمِ وَابْنِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّحْمَنَ لَيْسَ بِصِفَةٍ بَلْ عَلَمٍ. قَالَ وَبِهَذَا لَا يُتَّجَهُ السُّؤَالُ وَيَنْبَنِي عَلَى عَلَمِيَّتِهِ أَنَّهُ فِي الْبَسْمَلَةِ وَنَحْوِهَا بَدَلٌ لَا نَعْتٌ، وَأَنَّ الرَّحِيمَ بَعْدَهُ نَعْتٌ لَهُ لَا نَعْتٌ لِاسْمِ اللَّهِ، إذْ لَا يُقَدَّمُ الْبَدَلُ عَلَى النَّعْتِ. قَالَ وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّهُ غَيْرُ صِفَةٍ مَجِيئُهُ كَثِيرًا غَيْرَ تَابِعٍ نَحْوُ {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: 1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 2] {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] انْتَهَى. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَجِيئَهُ كَثِيرًا غَيْرَ تَابِعٍ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ إذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ وَإِبْقَاءُ صِفَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} [فاطر: 28] أَيْ نَوْعٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَاخْتِلَافِ السَّمَوَاتِ وَالْجِبَالِ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّهُ صِفَةٌ كَالرَّحِيمِ بِحَسَبِ الْأَصْلِ فَمُشْتَقَّانِ مِنْ رَحُمَ بِجَعْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 لَازِمًا بِنَقْلِهِ إلَى بَابِ فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ أَوْ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ إذْ هُمَا صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ وَهِيَ لَا تُشْتَقُّ مِنْ مُتَعَدٍّ. وَرَحْمَتُهُ تَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى تَقْتَضِي التَّفَضُّلَ وَالْإِنْعَامَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُهَا بِرِقَّةٍ فِي الْقَلْبِ تَقْتَضِي الْإِنْعَامَ كَمَا فِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا يَلِيقُ بِرَحْمَةِ الْمَخْلُوقِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْعِلْمُ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ الْمُتَّصِفَ بِهَا تَعَالَى لَيْسَتْ مِثْلَ الْحَقِيقَةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَخْلُوقِ، بَلْ نَفْسُ الْإِرَادَةِ الَّتِي يَرُدُّونَ الرَّحْمَةَ إلَيْهَا هِيَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ لِإِرَادَةِ الْمَخْلُوقِ، إذْ هِيَ مَيْلُ قَلْبِهِ إلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ، وَإِرَادَتُهُ تَعَالَى بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَكَذَا رَدُّ الزَّمَخْشَرِيِّ لَهَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى إلَى الْفِعْلِ بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ الِاخْتِيَارِيَّ إنَّمَا يَكُونُ لِجَلْبِ نَفْعٍ لِلْفَاعِلِ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ عَنْهُ، وَفِعْلُهُ تَعَالَى بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَمَا فَرُّوا إلَيْهِ فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ نَظِيرُ الَّذِي فَرُّوا مِنْهُ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى دَعْوَى الْمَجَازِ فِي رَحْمَتِهِ تَعَالَى، إذْ هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ نَفْيِهَا عَنْهُ وَضَعْفِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا فِيهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمَجَازِ، إذْ يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ لِمَنْ قَالَ زَيْدٌ أَسَدٌ لَيْسَ بِأَسَدٍ وَلَيْسَتْ جَرَاءَتُهُ كَجَرَاءَتِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصِّفَةَ تَارَةً تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، وَتَارَةً مِنْ حَيْثُ قِيَامُهَا بِهِ تَعَالَى، وَتَارَةً مِنْ حَيْثُ قِيَامُهَا بِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَلَيْسَتْ الِاعْتِبَارَاتُ الثَّلَاثَةُ مُتَمَاثِلَةً إذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ تَعَالَى شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَبْتَرُ» قَدْ رُوِيَ بِلَفْظِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» رَوَاهُ عِنْدَ الْبَغَوِيِّ «بِحَمْدِ اللَّهِ» ، وَالْكُلُّ بِلَفْظِ «أَقْطَعُ» وَفِي رِوَايَةٍ " أَجْذَمُ " وَفِي رِوَايَةٍ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ» أَيْضًا وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ» فَتَكُونُ الرِّوَايَاتُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِالْحَمْدِ لِلَّهِ، وَبِحَمْدِ اللَّهِ، وَبِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَقْطَعُ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ، وَأَبْتَرُ وَأَجْذَمُ. وَمَعْنَى " ذِي بَالٍ " أَيْ صَاحِبِ حَالٍ وَشَأْنٍ يُهْتَمُّ بِهِ شَرْعًا، فَيَخْرُجُ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ، وَمَعْنَى " الْأَبْتَرُ، وَالْأَقْطَعُ، وَالْأَجْذَمُ نَاقِصُ الْبَرَكَةِ، فَإِنَّ الْبَتْرَ قَطْعُ الذَّنَبِ، وَالْقَطْعُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَذْمُ قَطْعُ الْأَطْرَافِ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فَسَادُهَا وَلَكِنْ فِي الْمَعْنَوِيِّ نَاقِصُ الْبَرَكَةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَاقِصٌ. [الْكَلَامُ عَلَى الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ] وَلِمُلَاحَظَةِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رِوَايَةَ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ» بَدَأَ مَنْظُومَتَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ بِحَمْدِكَ ذِي الْإِكْرَامِ مَا رُمْت أَبْتَدِي ... كَثِيرًا كَمَا تَرْضَى بِغَيْرِ تَحَدُّدِ (بِحَمْدِك) أَيْ بِوَصْفِك الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ لُغَةً: هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ. وَالْحَمْدُ عُرْفًا فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الْحَامِدِ أَوْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الشُّكْرُ لُغَةً فَهُوَ: الْحَمْدُ الْعُرْفِيُّ، وَعُرْفًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ. فَبَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَالْعُرْفِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَيَجْتَمِعَانِ فِيمَا إذَا كَانَ بِاللِّسَانِ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ، وَيَتَفَرَّدُ اللُّغَوِيُّ فِيمَا إذَا كَانَ بِاللِّسَانِ لَا فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ، وَيَنْفَرِدُ الْعُرْفِيُّ بِصِدْقِهِ بِغَيْرِ اللِّسَانِ فِي مُقَابَلَةِ نِعَمِهِ. فَمَوْرِدُ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ أَعَمُّ وَهُوَ اللِّسَانُ وَالْأَرْكَانُ، وَمُتَعَلِّقُهُ أَخَصُّ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ، وَالْحَمْدُ اللُّغَوِيُّ عَكْسُهُ، وَالْحَمْدُ اللُّغَوِيُّ مَعَ الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ كَذَلِكَ، إذْ الشُّكْرُ اللُّغَوِيُّ هُوَ الْحَمْدُ الْعُرْفِيُّ كَمَا عُلِمَ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلِذَا جُعِلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ فِي أَوَّلِ الْمُصْحَفِ لِافْتِتَاحِهَا بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَتَضَمُّنِهَا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَنَقِيضُ الْحَمْدِ الذَّمُّ، وَنَقِيضُ الشُّكْرِ الْكُفْرُ. (ذِي) أَيْ صَاحِبِ (الْإِكْرَامِ) فَذِي بَدَلٌ مِنْ الْكَافِ فِي بِحَمْدِكَ، وَالْإِكْرَامِ مُضَافٌ إلَيْهِ أَيْ مُكْرِمِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِلُطْفِهِ وَمِنَّتِهِ. وَفِي الْقُرْآنِ {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (مَا) مَوْصُولٌ حَرْفِيٌّ (رُمْت) مِنْ الرَّوْمِ وَهُوَ الطَّلَبُ كَالْمَرَامِ (أَبْتَدِي) أَيْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 آتِي فِي ابْتِدَاءِ كَلَامِي، أَيْ رَوْمُ ابْتِدَائِي كَائِنٌ بِحَمْدِك، أَوْ مَوْصُولُ اسْمِي، أَيْ الَّذِي رُمْت ابْتِدَاءَهُ كَائِنٌ بِحَمْدِك. فَبِحَمْدِك مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَرَوْمُ ابْتِدَائِي مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، يُقَالُ ابْتَدَأَ الشَّيْءَ فَعَلَهُ ابْتِدَاءً كَأَبْدَاهُ وَابْتَدَاهُ، (كَثِيرًا) صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَبْتَدِي بِحَمْدِك حَمْدًا كَثِيرًا (كَمَا) أَيْ كَاَلَّذِي (تَرْضَاهُ) يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (بِغَيْرِ تَحَدُّدِ) بَلْ مُطْلَقٌ عَنْ التَّحْدِيدِ وَالتَّقْيِيدِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ وَلَوْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ جَلَّ شَأْنُهُ مَا أَدَّى عُشْرَ مِعْشَارِ مَا لَهُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ لِعَظِيمِ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ يَرْضَى مِنْ عِبَادِهِ بِالْيَسِيرِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ. (وَفِي) السُّنَنِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَطَسْت فَقُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْصَرَفَ فَقَالَ: مَنْ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ: مَنْ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: كَيْفَ قُلْت؟ قَالَ: قُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى. فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ ابْتَدَرَهَا بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مَلَكًا أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ «عَطَسَ شَابٌّ مِنْ الْأَنْصَارِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ حَتَّى يَرْضَى رَبُّنَا وَبَعْدَ مَا يَرْضَى مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ الْقَائِلُ الْكَلِمَةَ؟ فَسَكَتَ الشَّابُّ، ثُمَّ قَالَ مَنْ الْقَائِلُ الْكَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا قُلْتُهَا لَمْ أُرِدْ بِهَا إلَّا خَيْرًا. قَالَ: مَا تَنَاهَتْ دُونَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ جَلَّ ذِكْرُهُ» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَجُلٌ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ الْقَائِلُ؟ قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا أَرَدْت إلَّا خَيْرًا، فَقَالَ: لَقَدْ فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَلَمْ يَنْهَهَا شَيْءٌ دُونَ الْعَرْشِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فَائِدَةٌ) : ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَفْضَلَ صِيَغِ الْحَمْدِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ، وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، وَرُفِعَ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ شَمْسِ الدِّينِ ابْنِ الْقَيِّمِ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ فَأَنْكَرَ عَلَى قَائِلِهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي الصِّحَاحِ وَلَا السُّنَنِ وَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ وَلَا لَهُ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي نَصْرٍ التَّمَّارِ عَنْ سَيِّدِنَا آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ وَلَا يَدْرِي كَمْ بَيْنَ آدَمَ وَأَبِي نَصْرٍ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى. - قَالَ أَبُو نَصْرٍ: قَالَ آدَم يَا رَبِّ شَغَلْتَنِي بِكَسْبِ يَدِي فَعَلِّمْنِي شَيْئًا مِنْ مَجَامِعِ الْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ يَا آدَم إذَا أَصْبَحْت فَقُلْ ثَلَاثًا وَإِذَا أَمْسَيْت فَقُلْ ثَلَاثًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ فَذَلِكَ مَجَامِعُ الْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَهَذَا لَوْ رَوَاهُ أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ عَنْ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَا قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ لِانْقِطَاعِ الْحَدِيثِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ بِرِوَايَتِهِ لَهُ عَنْ آدَمَ؟ قَالَ: وَبَنَى عَلَى هَذَا بَعْضُ النَّاسِ مَسْأَلَةً فِقْهِيَّةً فَقَالَ: لَوْ حَلَفَ إنْسَانٌ لَيَحْمَدَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِمَجَامِعِ الْحَمْدِ وَأَجَلِّ الْمَحَامِدِ فَطَرِيقُهُ فِي بِرِّ يَمِينِهِ أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ. قَالَ: وَمَعْنَى يُوَافِي نِعَمَهُ أَيْ يُلَاقِيهَا فَتَحْصُلُ النِّعَمُ مَعَهُ. وَيُكَافِئُ مَهْمُوزٌ أَيْ يُسَاوِي مَزِيدَ نِعَمِهِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَقُومُ بِشُكْرِ مَا زَادَ مِنْ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ، ثُمَّ رَدَّ هَذَا بِمَا يَطُولُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَى رَبِّهِ وَلَوْ اجْتَهَدَ فِي الثَّنَاءِ طُولَ عُمْرِهِ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ دَاوُد " إلَهِي لَوْ أَنَّ لِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنِّي لِسَانَيْنِ يُسَبِّحَانِكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالدَّهْرَ كُلَّهُ مَا قَضَيْت حَقَّ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ ". وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: " لَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى دَاوُد {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أُطِيقُ شُكْرَك وَأَنْتَ الَّذِي تُنْعِمُ عَلَيَّ ثُمَّ تَرْزُقُنِي عَلَى النِّعْمَةِ الشُّكْرَ ثُمَّ تَزِيدُنِي نِعْمَةً بَعْدَ نِعْمَةٍ، فَالنِّعْمَةُ مِنْك يَا رَبِّ، فَكَيْفَ أُطِيقُ شُكْرَك؟ قَالَ الْآنَ عَرَفْتَنِي يَا دَاوُد " انْتَهَى. فَلَا يَطْمَعُ الْعَبْدُ فِي أَدَاءِ شُكْرِ أَقَلِّ نِعْمَةٍ إلَّا بِالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَصَلِّ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ وَآلِهِ ... وَأَصْحَابِهِ مِنْ كُلِّ هَادٍ وَمُهْتَدٍ (وَصَلِّ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَنِيعَ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ لِلْمُخَاطَبِ، وَتَكُونَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ احْمَدْ رَبَّك ذَا الْإِكْرَامِ وَصَلِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ وَصَلِّ يَا اللَّهُ فَإِنَّ (صَلِّ) فِعْلُ دُعَاءٍ. وَكُنْت رَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَا هَذَا صُورَتُهُ: بِحَمْدِك ذِي الْإِكْرَامِ مَا رُمْت أَبْتَدِي ... كَذَاكَ كَمَا تَرْضَى بِغَيْرِ تَحَدُّدِ أُصَلِّي إلَخْ. فَيَكُونُ الْمَعْنَى كَمَا أَنَّ رَوْمَ ابْتِدَائِي بِحَمْدِك كَذَاك أَيْ مِثْلُهُ كَمَا تَرْضَاهُ بِغَيْرِ تَحَدُّدٍ أُصَلِّي. وَبِغَيْرِ تَحَدُّدِ مُتَعَلِّقٌ بِأُصَلِّي، وَيَكُونُ شَطْرُ الْبَيْتِ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقًا بِالثَّانِي. مَعْنَى صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ، وَمِنْ الْآدَمِيِّينَ التَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ بِخَيْرٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: صَلَاةُ اللَّهِ رَحْمَتُهُ، وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ الدُّعَاءِ الرَّحْمَةُ، فَهُوَ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ رِقَّةٌ وَاسْتِدْعَاءٌ لِلرَّحْمَةِ مِنْ اللَّهِ. وَقِيلَ صَلَاةُ اللَّهِ مَغْفِرَتُهُ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ الضَّحَّاكِ أَيْضًا نَقَلَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ جَلَاءِ الْأَفْهَامِ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ، وَلَمْ يَرْضَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ كَوْنَ الصَّلَاةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثَنَاؤُهُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَيْهِ وَإِرَادَتُهُ لِرَفْعِ ذِكْرِهِ وَتَقْرِيبِهِ، وَكَذَلِكَ ثَنَاءُ مَلَائِكَتِهِ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: صَلَاةُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَلَائِكَتِهِ انْتَهَى. وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ وَالْآدَمِيِّينَ فَهِيَ سُؤَالُهُمْ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ، وَيَكُونُ تَسْمِيَةُ الْعَبْدِ مُصَلِّيًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ مِنْهُ فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا الثَّنَاءُ وَإِرَادَةُ الْإِكْرَامِ وَالتَّقْرِيبِ وَإِعْلَاءِ الْمَنْزِلَةِ وَالْإِنْعَامِ، فَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ الْعَبْدِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُرِيدُ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاَللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ يُرِيدُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلهُ بِرَسُولِهِ. وَأَطَالَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي تَفْسِيرِ الصَّلَاةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، غَيْرَ أَنَّ كَلَامَ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ - وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ) كَسَحَابٍ، وَالْأَنَامُ بِالْمَدِّ وَالْأَنِيمُ كَأَمِيرٍ: الْخَلْقُ، أَوْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، أَوْ جَمِيعُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرُ الْخَلَائِقِ تَفْصِيلًا وَجَمْلًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " مَا خَلَقَ خَلْقًا وَلَا بَرَأَهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". وَفِي أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ» . وَرَوَى الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا قَالَ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ» وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ. فَضْلُ الِابْتِدَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا أَتْبَعَ النَّاظِمُ (الْحَمْدَلَةَ) بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ أَبْتَرُ مَمْحُوقُ الْبَرَكَةِ» قَالَ فِي تَسْهِيلِ السَّبِيلِ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. قُلْت: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ عَدَمُ ضَعْفِهِ. قَالَ فِي كِتَابِهِ جَلَاءِ الْأَفْهَامِ (الْمَوْطِنُ الْأَرْبَعُونَ) . مِنْ مَوَاطِنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ كُلِّ ذِي بَالٍ فَإِنَّهُ يُبْتَدَأُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَذْكُرُ كَلَامَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. أَمَّا ابْتِدَاؤُهُ بِالْحَمْدِ؛ فَلِمَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «كُلُّ كَلَامٍ لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ فَيُبْدَأُ بِهِ وَبِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَهُوَ أَقْطَعُ مَمْحُوقٌ مِنْ كُلِّ بَرَكَةٍ» انْتَهَى. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» . وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ ذُكِرْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 عِنْدَهُ فَلْيُصَلِّ عَلَيَّ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ " مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ سَبْعِينَ صَلَاةً. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ذَهَبَ رُبْعُ اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُذْكُرُوا اللَّهَ اُذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ. قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي؟ قَالَ: مَا شِئْت. قُلْت: الرُّبْعَ؟ قَالَ: مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك. قُلْت: النِّصْفَ؟ قَالَ: مَا شِئْت وَإِنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. قُلْت: أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: إذَنْ تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ ذَنْبُك» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْهُ قَالَ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ جَعَلْت صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْك؟ قَالَ: إذَنْ يَكْفِيكَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَمَّك مِنْ دُنْيَاك وَآخِرَتِك» . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: قَوْلُهُ يَعْنِي أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ: أُكْثِرُ الصَّلَاةَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ صَلَاتِي، مَعْنَاهُ أُكْثِرُ الدُّعَاءَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ دُعَائِي. قَالَ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ: وَسُئِلَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَنْ تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: «كَانَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ دُعَاءٌ يَدْعُو بِهِ لِنَفْسِهِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَجْعَلُ لَهُ مِنْهُ رُبْعَهُ صَلَاةً عَلَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك، فَقَالَ لَهُ النِّصْفَ فَقَالَ إنْ زِدْت فَهُوَ خَيْرٌ لَك إلَى أَنْ قَالَ أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا أَيْ أَجْعَلُ دُعَائِي كُلَّهُ صَلَاةً عَلَيْك، قَالَ إذَنْ تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَك ذَنْبُك» ، لِأَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، وَمَنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ كَفَاهُ هَمَّهُ وَغَفَرَ لَهُ ذَنْبَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ " كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مَوْقُوفًا وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي قُرَّةَ الْأَسَدِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِهِ مَوْقُوفًا قَالَ إنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى نَبِيِّك مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مَطْلَبٌ: فِي مَرَاتِبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الدُّعَاءِ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ: الْمَوْطِنُ السَّابِعُ مِنْ مَوَاطِنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الدُّعَاءِ وَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: إحْدَاهَا أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَبَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ، الثَّانِيَةُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الدُّعَاءِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، الثَّالِثَةُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَيَجْعَلَ حَاجَتَهُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَهُمَا. أَمَّا دَلِيلُ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فَحَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: «اجْعَلُونِي فِي وَسَطِ الدُّعَاءِ وَفِي أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَقَالَ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ سَمِعْت أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ حَاجَتَهُ فَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلْيَسْأَلْ حَاجَتَهُ وَلْيَخْتِمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْبُولَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَكْرَمُ أَنْ يَرُدَّ مَا بَيْنَهُمَا. انْتَهَى. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ» قَالَ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ: رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أُسَيْدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 كَذَلِكَ، وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْعَلَّافُ عَنْ بِشْرِ بْنِ عُبَيْدٍ فَقَالَ عَنْ حَازِمِ بْنِ بَكْرٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلْ الصَّلَاةُ جَارِيَةً لَهُ مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ» وَذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي جِلَاءِ الْأَفْهَامِ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّعْفَرَانِيِّ قَالَ: سَمِعْت خَالِي الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي النَّوْمِ فَقَالَ يَا أَبَا عَلِيٍّ لَوْ رَأَيْت صَلَاتَنَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكُتُبِ كَيْفَ تَزْهُو بَيْنَ يَدَيْنَا؟ وَلِذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْحَدِيثِ فَائِدَةٌ إلَّا الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ اسْمُهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: رَأَيْت الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي النَّوْمِ فَقُلْت مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ فَقَالَ رَحِمَنِي وَغَفَرَ لِي وَزَفَّنِي إلَى الْجَنَّةِ كَمَا تُزَفُّ الْعَرُوسُ، وَنَثَرَ عَلَيَّ كَمَا يُنْثَرُ عَلَى الْعَرُوسِ، فَقُلْت بِمَاذَا بَلَغْت هَذِهِ الْحَالَةَ؟ فَقَالَ لِي قَائِلٌ: بِقَوْلِك فِي (كِتَابِ الرِّسَالَةِ) مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْت فَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ عَدَدَ مَا ذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ وَعَدَدَ مَا غَفَلَ عَنْ ذِكْرِهِ الْغَافِلُونَ فَلَمَّا أَصْبَحْت نَظَرْت إلَى الرِّسَالَةِ فَوَجَدْت الْأَمْرَ كَمَا رَأَيْت - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَذَكَرَ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ مِنْ هَذَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «جَاءَنِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ إنَّهُ مَنْ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ، فَقُلْت آمِينَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَمِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَنَّ جِبْرِيلَ عَرَضَ لِي فَقَالَ بَعُدَ مَنْ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك فَقُلْت آمِينَ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» . وَعَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قَالَ «الْبَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ فِي سَنَدِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ الصَّرْصَرِيِّ فِي ذَلِكَ: مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ إنْ ذُكِرَ اسْمُهُ ... فَهُوَ الْبَخِيلُ وَزِدْهُ وَصْفَ جَبَانِ وَإِذَا الْفَتَى فِي الْعُمْرِ صَلَّى مَرَّةً ... فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ وَالْبُلْدَانِ صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ عَشْرًا فَلْيَزِدْ ... عَبْدٌ وَلَا يَجْنَحْ إلَى نُقْصَانِ وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَلَاةٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا قَامُوا عَنْ أَنْتَنِ مِنْ جِيفَةٍ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ «إلَّا قَامُوا عَنْ أَنْتَنِ جِيفَةٍ» قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ: هَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَفَضْلُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَوَاطِنُهَا وَمُتَعَلِّقَاتُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمُخْتَصَرِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ لِيَكُونَ كَالْأُنْمُوذَجِ وَمَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ بَعْضُهُ. [مَعْنَى الْآلِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ] مَعْنَى الْآلِ (وَآلِهِ) أَيْ أَتْبَاعِهِ عَلَى دِينِهِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ: قَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقَالُ آلُ الرَّجُلِ لَهُ نَفْسِهِ، وَآلُهُ لِمَنْ تَبِعَهُ، وَآلُهُ لِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ. فَمِنْ الْأَوَّلِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا جَاءَهُ أَبُو أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» وقَوْله تَعَالَى {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ» فَآلُ إبْرَاهِيمَ هُوَ (إبْرَاهِيمُ) لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمَطْلُوبَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ الصَّلَاةُ عَلَى إبْرَاهِيمَ نَفْسِهِ، وَآلُهُ تَبَعٌ لَهُ فِيهَا. وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ وَقَالُوا لَا يَكُونُ الْآلُ إلَّا الْأَتْبَاعُ وَالْأَقَارِبُ، وَقَالُوا وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُرَادُ بِهَا الْأَقَارِبُ. ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْآلُ إنْ أُفْرِدَ دَخَلَ فِيهِ الْمُضَافُ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] وَأَمَّا إنْ ذُكِرَ الرَّجُلُ ثُمَّ ذُكِرَ آلُهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وَاخْتُلِفَ فِي آلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ، فَقِيلَ: هُمْ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ، وَفِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ خَاصَّةً، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ الَّذِي لَا يُفْتَى بِغَيْرِهِ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَمَنْ فَوْقَهُمْ إلَى غَالِبٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِمْ بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو نَوْفَلٍ وَمَنْ فَوْقَهُمْ إلَى بَنِي غَالِبٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَشْهَبَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ آلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمْ ذُرِّيَّتُهُ وَأَزْوَاجُهُ خَاصَّةً، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ آلَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتْبَاعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَأَقْدَمُ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. قُلْت: وَغَالِبُ عُلَمَائِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ خَاصَّةً. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ آلَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمْ الْأَتْقِيَاءُ مِنْ أُمَّتِهِ، حَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالرَّاغِبُ وَجَمَاعَةٌ. اشْتِقَاقُ كَلِمَةِ آلِ وَهَلْ أَصْلُهُ أَهْلُ ثُمَّ قُلِبَتْ الْهَاءُ هَمْزَةً فَقِيلَ أَأْلٌ ثُمَّ سُهِّلَتْ عَلَى قِيَاسِ أَمْثَالِهَا فَقِيلَ آلُ بِدَلِيلِ تَصْغِيرِهِ عَلَى أُهَيْلٍ؟ أَوْ أَوْلٌ مِنْ آلَ يَئُولُ إذَا رَجَعَ، فَآلُ الرَّجُلِ هُمْ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَيُضَافُونَ، وَيَئُولُهُمْ أَيْ يَسُوسُهُمْ فَيَكُونُ مَآلُهُمْ إلَيْهِ. ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ تَرْجِيحُ الثَّانِي. وَفِي الْقَامُوسِ: آلُهُ أَهْلُ الرَّجُلِ وَأَتْبَاعُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا فِيهِ شَرَفٌ غَالِبًا، فَلَا يُقَالُ آلُ الْإِسْكَافِ كَمَا يُقَالُ أَهْلُهُ. قَالَ وَأَصْلُهُ أَهْلُ أُبْدِلَتْ الْهَاءُ هَمْزَةً فَصَارَتْ أَأْلٌ تَوَالَتْ هَمْزَتَانِ فَأُبْدِلَتْ الثَّانِيَةُ أَلِفًا تَصْغِيرُهُ أُوَيْلٌ وَأُهَيْلٍ. انْتَهَى. قَالَ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ: قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي: وَالْتَزَمَتْ الْعَرَبُ إضَافَتَهُ فَلَا يُسْتَعْمَلُ مُفْرَدًا إلَّا نَادِرًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: نَحْنُ آلُ اللَّهِ فِي بَلْدَتِنَا ... لَمْ نَزَلْ آلًا عَلَى عَهْدِ إرَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وَالْتَزَمُوا أَيْضًا إضَافَتَهُ إلَى الظَّاهِرِ فَلَا يُضَافُ إلَى مُضْمَرٍ إلَّا قَلِيلًا. وَعِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ إضَافَتُهُ إلَى الْمُضْمَرِ لَحْنٌ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَالصَّحِيحُ لَيْسَ بِلَحْنٍ بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ. قَالَ تِلْمِيذُهُ فِي كِتَابِهِ الْمُطْلِعِ: وَالصَّوَابُ جَوَازُ إضَافَتِهِ إلَى الْمُضْمَرِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَنَا الْفَارِسُ الْحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي ... وَآلِي فَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي الْفِيلِ وَأَصْحَابِهِ: وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيـ ... ـبِ وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَك فَأَضَافَهُ إلَى الْيَاءِ وَالْكَافِ. وَزَعَمَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنَّهُ لَا يُضَافُ إلَّا إلَى عَلَمِ مَنْ يَعْقِلُ. وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ خِلَافُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ: نَجَوْت وَلَمْ يَمْنُنْ عَلَيْك طَلَاقَهُ ... سِوَى زَيْدِ التَّقْرِيبِ مِنْ آلِ أَعْوَجَا وَأَعْوَجُ عَلَمُ فَرَسٍ. وَإِنَّمَا أَتْبَعَ النَّاظِمُ الْآلُ لِرَسُولِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ لِمَا تَضَافَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَصَحَّتْ الْآثَارُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ» إلَى مَا لَا نُحْصِيهِ عَدًّا إلَّا بِالْإِطَالَةِ. (وَأَصْحَابِهِ) جَمْعِ صَاحِبٍ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: وَلَمْ يُجْمَعْ فَاعِلٌ عَلَى فَعَالَةٍ إلَّا هَذَا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: صَحِبَهُ كَسَمِعَهُ صَحَابَةً وَيُكْسَرُ، وَصُحْبَةً: عَاشَرَهُ وَهُمْ أَصْحَابٌ وَأَصَاحِيبُ وَصُحْبَانٌ وَصِحَابٌ وَصَحَابَةٌ وَصِحَابَةٌ وَصَحْبٌ وَاسْتَصْحَبَهُ دَعَاهُ إلَى الصُّحْبَةِ وَلَازَمَهُ. وَالصَّحَابِيُّ مَنْ اجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ لَحْظَةً وَإِنْ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ مُؤْمِنًا وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ تَخَلَّلَهُ رِدَّةٌ. مَطْلَبٌ: الصُّحْبَةُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ وَقَسَّمَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الصُّحْبَةَ إلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: الْأُولَى: مَنْ كَثُرَتْ مُخَالَطَتُهُ وَمُعَاشَرَتُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا إلَّا بِهَا، فَيُقَالُ هَذَا صَاحِبُ فُلَانٍ وَخَادِمُ فُلَانٍ لِمَنْ تَكَرَّرَتْ خِدْمَتُهُ لَا لِمَنْ خَدَمَهُ مَرَّةً أَوْ سَاعَةً أَوْ يَوْمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الثَّانِيَةُ: مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤْمِنًا وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَحِبَهُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْتَهِ إلَى الِاشْتِهَارِ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ يُعْرَفُ. الثَّانِيَةُ: مَنْ رَآهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُؤْيَةً وَلَمْ يُجَالِسْهُ وَلَمْ يُمَاشِهِ فَهَذَا أَلْحَقُوهُ بِالصُّحْبَةِ إلْحَاقًا وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةُ الصُّحْبَةِ لَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ صُحْبَةٌ إلْحَاقِيَّةٌ حُكْمِيَّةٌ لِشَرَفِ قَدْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي انْطِبَاعِ طَلْعَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ بِرُؤْيَتِهِ إيَّاهُمْ أَوْ رُؤْيَتِهِمْ إيَّاهُ مُؤْمِنِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ رُتَبُهُمْ. - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - (مِنْ كُلِّ) صَحَابِيٍّ (هَادٍ) لِغَيْرِهِ أَيْ مُرْشِدٍ وَدَالٍ، وَمِنْ كُلِّ (مُهْتَدِي) فِي نَفْسِهِ. يُقَالُ هَدَاهُ هُدًى وَهَدْيًا وَهِدَايَةً وَهِدْيَةً بِكَسْرِهِمَا أَرْشَدَهُ فَهَدَى وَاهْتَدَى. وَهَدَاهُ اللَّهُ الطَّرِيقَ دَلَّهُ. وَالْهُدَى بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ الرَّشَادُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. مَطْلَبٌ: الْهِدَايَةُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ بَدَائِعُ الْفَوَائِدِ: الْهِدَايَةُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الْهِدَايَةُ الْعَامَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] أَيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ الَّتِي لَا يَشْتَبِهُ فِيهَا بِغَيْرِهِ، وَأَعْطَى كُلَّ عُضْوٍ شَكْلَهُ وَهَيْئَتَهُ، وَأَعْطَى كُلَّ مَوْجُودٌ خَلْقَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ ثُمَّ هُدَاهُ لِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ. قَالَ وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ تَعُمُّ الْحَيَوَانَ الْمُتَحَرِّكَ بِإِرَادَتِهِ إلَى جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ. قَالَ وَلِلْجَمَادِ أَيْضًا هِدَايَةٌ تَلِيقُ بِهِ، كَمَا أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْحَيَوَانِ هِدَايَةً تَلِيقُ بِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا وَصُوَرُهَا، وَكَذَلِكَ لِكُلِّ عُضْوٍ هِدَايَةٌ تَلِيقُ بِهِ، فَهُدَى الرِّجْلَيْنِ لِلْمَشْيِ، وَاللِّسَانِ لِلْكَلَامِ، وَالْعَيْنِ لِكَشْفِ الْمَرْئِيَّاتِ، وَهَلُمَّ جَرًّا. وَكَذَلِكَ هَدَى الزَّوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ إلَى الِازْدِوَاجِ وَالتَّنَاسُلِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ، وَالْوَلَدِ إلَى الْتِقَامِ الثَّدْيِ عِنْدَ وَضْعِهِ، وَمَرَاتِبُ هِدَايَتِهِ سُبْحَانَهُ لَا يُحْصِيهَا إلَّا هُوَ. الثَّانِي: هِدَايَةُ الْبَيَانِ وَالدَّلَالَةِ وَالتَّعْرِيفِ لِنَجْدَيْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَطَرِيقَيْ النَّجَاةِ وَالْهَلَاكِ. وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْهُدَى التَّامَّ فَإِنَّهَا سَبَبٌ وَشَرْطٌ لَا مُوجِبٌ، وَلِهَذَا يَنْتَفِي الْهُدَى مَعَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ وَأَرْشَدْنَاهُمْ وَدَلَلْنَاهُمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . الثَّالِثُ: هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ وَالْإِلْهَامِ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلِاهْتِدَاءِ فَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93] وَفِي قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ» وَفِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] فَنَفَى عَنْهُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ وَأَثْبَتَ لَهُ هِدَايَةَ الدَّعْوَةِ وَالْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] . (الرَّابِعُ) : غَايَةُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ وَهِيَ الْهِدَايَةُ إلَى الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ إذَا سِيقَ أَهْلُهُمَا إلَيْهِمَا. قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9] وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] وَقَالَ فِي حَقِّ أَهْلِ النَّارِ {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ - مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 22 - 23] . انْتَهَى كَلَامُ الْبَيْضَاوِيِّ فِي الْهِدَايَةِ وَفِي الْبَيْضَاوِيِّ: الْهِدَايَةُ دَلَالَةٌ بِلُطْفٍ، وَلِذَلِكَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَقَوْلُهُ {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] عَلَى التَّهَكُّمِ. ثُمَّ قَالَ: وَهِدَايَةُ اللَّهِ تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا لَا يُحْصِيهَا عَدٌّ، لَكِنَّهَا تَنْحَصِرُ فِي أَجْنَاسٍ مُتَرَتِّبَةٍ: الْأَوَّلُ إفَاضَةُ الْقُوَى الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْمُؤْمِنُ الِاهْتِدَاءَ إلَى مَصَالِحِهِ كَالْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ وَالْمَشَاعِرِ الظَّاهِرَةِ. وَالثَّانِي نَصْبُ الدَّلَائِلِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ حَيْثُ قَالَ {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] وَقَالَ {فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] . وَالثَّالِثُ: الْهِدَايَةُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِيَّاهَا عَنَى بِقَوْلِهِ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] وَقَوْلِهِ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] . وَالرَّابِعُ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى قُلُوبِهِمْ السَّرَائِرَ وَيُرِيَهُمْ الْأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ بِالْوَحْيِ أَوْ الْإِلْهَامِ وَالْمَنَامَاتِ الصَّادِقَةِ، وَهَذَا قِسْمٌ يَخْتَصُّ بِنَيْلِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ، وَإِيَّاهُ عَنَى بِقَوْلِهِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وَقَوْلِهِ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] انْتَهَى. فَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هُدَاةٌ مَهْدِيُّونَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْت أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَتْ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَرْفُوعًا «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَسَانِيدُهُ ضَعِيفَةٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» وَالنَّصِيفُ أَحَدُ اللُّغَاتِ الْأَرْبَعِ فِي النِّصْفِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ نِصْفٌ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا وَنَصِيفٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَزِيَادَةِ الْيَاءِ وَالْمَعْنَى لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ ثَوَابُهُ فِي ذَلِكَ نَفَقَةَ أَصْحَابِي مُدًّا وَلَا نِصْفَ مَدٍّ لِأَنَّ إنْفَاقَهُمْ كَانَ فِي نُصْرَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِمَايَتِهِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَهُ، فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَفْضَلِيَّتَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا، وَأَنَّ فَضِيلَةَ نَفَقَتِهِمْ عَلَى نَفَقَةِ غَيْرِهِمْ بِاعْتِبَارِ فَضِيلَةِ ذَوَاتِهِمْ، وَفَضْلُ الصَّحَابَةِ مَشْهُورٌ، وَسَعْيُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَذْلُهُمْ أَنْفُسَهُمْ النَّفِيسَةَ مَأْثُورٌ، وَصِدْقُهُمْ وَمُوَاسَاتُهُمْ وَحُسْنُ صُحْبَتِهِمْ لَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَشْكُورٌ. مَطْلَبٌ: عَدَدُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ. (فَائِدَةٌ) : ذَكَرَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ شَيْخُ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزِيدُونَ عَلَى الْمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ فِي شَرْحِ الزَّهْرِ الْبَسَّامِ: هَذَا عَلَى الْأَصَحِّ فِي النَّقْلِ عَنْهُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فِي ذَيْلِهِ كِتَابَ الصَّحَابَةِ. وَرَوَى أَنَّهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعَ مِنْهُ، وَاسْتَبْعَدَهُ الْبِرْمَاوِيُّ. قُلْت: جَزَمَ بِهَذَا الْعَدَدِ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي الْخَصَائِصِ الصُّغْرَى. وَأَشَارَ إلَيْهِ شَيْخُنَا الشِّهَابُ الْمَنِينِيُّ فِي نَظْمِهَا بِقَوْلِهِ: وَصَحْبُهُ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ ... بَعْدَ النَّبِيِّينَ بِلَا اشْتِبَاهِ هُمْ كَالنُّجُومِ كُلُّهُمْ مُجْتَهِدُ ... يَا وَيْلَ أَقْوَامٍ بِهِمْ لَمْ يَهْتَدُوا وَالْفَضْلُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَرَاتِبُ ... وَعَدُّهُمْ لِلْأَنْبِيَا يُقَارِبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 مَطْلَبٌ: هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ اسْتِقْلَالًا أَمْ لَا؟ (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَلْ تَجُوزُ اسْتِقْلَالًا أَمْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي جَلَاءِ الْأَفْهَامِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، فَهَذَا يَجُوزُ وَيَكُونُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاخِلًا فِي آلِهِ فَالْإِفْرَادُ عَنْهُ وَقَعَ فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْمَعْنَى. (الثَّانِي) أَنْ يُفْرِدَ وَاحِدًا بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَوْ حَسَنٍ أَوْ أَبِي بَكْرٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ، قَالَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ مَنْ مَضَى، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَا تَنْبَغِي الصَّلَاةُ إلَّا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ يُدْعَى لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَهَذَا مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ النَّاسِ قَدْ الْتَمَسُوا الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَإِنَّ مِنْ الْقُصَّاصِ قَدْ أَحْدَثُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَى خُلَفَائِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ عَدْلَ صَلَاتِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا جَاءَ كِتَابِي فَمُرْهُمْ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُمْ عَلَى النَّبِيِّينَ وَدُعَاؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً) وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَلَهُمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَنَّهُ مَنْعُ تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ أَوْ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى وَلَيْسَ، بِمَكْرُوهٍ، حَكَاهَا النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ اسْتِقْلَالًا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو حُسَيْنٍ الْفَرَّاءُ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا فِي رُءُوسِ مَسَائِلِهِ: وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَحَصِيفٌ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَضَى عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَقَدْ سُئِلَ أَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك؟ قَالَ الْقَاضِي: وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ كَانَ يَأْتِيهِ بِالصَّدَقَةِ وَاخْتَارَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْجَوَازَ مَا لَمْ يَتَّخِذْهُ شِعَارًا أَوْ يَخُصَّ بِهِ وَاحِدًا إذَا ذُكِرَ دُونَ غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ، كَفِعْلِ الرَّافِضَةِ مَعَ عَلِيٍّ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَيُكْرَهُ، وَلَوْ قِيلَ حِينَئِذٍ بِالتَّحْرِيمِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الثَّانِي: هَلْ السَّلَامُ كَالصَّلَاةِ خِلَافًا وَمَذْهَبًا أَوْ لَيْسَ إلَّا الْإِبَاحَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ أَمَّا مَذْهَبُنَا فَقَدْ عَلِمْت جَوَازَهُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِقْلَالًا بِالْأَوْلَى. وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَكَرِهَهُ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فَمَنَعَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فَقَالُوا السَّلَامُ يُشْرَعُ فِي حَقِّ كُلِّ مُؤْمِنٍ حَيٍّ وَمَيِّتٍ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ، فَإِنَّك تَقُولُ بَلِّغْ فُلَانًا مِنِّي السَّلَامَ، وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا يَقُولُ الْمُصَلِّي السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. الثَّالِثُ: الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالْمَلَائِكَةِ جَائِزَةٌ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ، وَعَلَى الْفَارُوقِ مُمَصَّرِ الْأَمْصَارِ، وَعَلَى عُثْمَانَ ذِي النُّورَيْنِ الَّذِي بَايَعَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْيَسَارِ، وَعَلَى عَلِيٍّ الْكَرَّارِ، وَعَلَى السِّبْطَيْنِ خُلَاصَةِ الْأَنْوَارِ، وَعَلَى الْعَمَّيْنِ لَا سِيَّمَا أَسَدُ اللَّهِ مَنْ فَرَّجَ الْكَرْبَ عَنْ وَجْهِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ. مَطْلَبٌ: اخْتِصَاصُ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ بِ " كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ". (الرَّابِعُ) : ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَدْ غَلَبَ فِي عِبَارَةِ كَثِيرٍ مِنْ النُّسَّاخِ لِلْكُتُبِ أَنْ يُفْرَدَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ دُونِ الصَّحَابَةِ أَوْ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ، وَالشَّيْخَانِ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ انْتَهَى. قُلْت: قَدْ ذَاعَ ذَلِكَ وَشَاعَ وَمَلَأ الطُّرُوسَ وَالْأَسْمَاعَ. قَالَ الْأَشْيَاخُ: وَإِنَّمَا خُصَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِأَنَّهُ مَا سَجَدَ إلَى صَنَمٍ قَطُّ وَهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ بِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَبَعْدُ فَإِنِّي سَوْفَ أَنْظِمُ جُمْلَةً ... مِنْ الْأَدَبِ الْمَأْثُورِ عَنْ خَيْرِ مُرْشِدِ (وَبَعْدُ) الْوَاوُ نَائِبَةٌ عَنْ أَمَّا، وَأَمَّا نَائِبَةٌ عَنْ مَهْمَا. وَبَعْدُ كَلِمَةٌ يُؤْتَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 بِهَا عِنْدَ إرَادَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى غَيْرِهِ، أَيْ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَيُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُهَا فِي خُطَبِهِ وَمُكَاتَبَاتِهِ إلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، مِثْلُ كِتَابِهِ إلَى قَيْصَرَ عَظِيمِ الرُّومِ، وَكِسْرَى عَظِيمِ الْفُرْسِ، وَالْمُقَوْقَسِ صَاحِبِ مِصْرَ، وَغَيْرِهِمْ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْقَاضِي عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ عَلَاءُ الدِّينِ الْمِرْدَاوِيُّ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ أَنَّهُ نَقَلَ إتْيَانَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمَّا بَعْدُ فِي خُطَبِهِ وَنَحْوِهَا خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ صَحَابِيًّا. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ، وَرُبَّمَا اُسْتُعْمِلَتْ ظَرْفَ مَكَان. وَتُقْطَعُ عَنْ الْإِضَافَةِ فَتُبْنَى إذَا نَوَى مَعْنَى الْمُضَافِ إلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] وَإِذَا قُطِعَتْ عَنْ الْإِضَافَةِ رَأْسًا أُعْرِبَتْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَسَاغَ لِي الشَّرَابُ وَكُنْت قَبْلًا ... أَكَادُ أَغَصُّ بِالْمَاءِ الْفُرَاتِ فَإِنَّ بَعْدُ كَقَبْلُ، وَإِنْ ذَكَرَ الْمُضَافَ إلَيْهِ أُعْرِبَتْ كَمَا إذَا حَذَفَ وَنَوَى ثُبُوتَ لَفْظِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَمِنْ قَبْلِ نَادَى كُلُّ مَوْلَى قَرَابَةً ... فَمَا عَطَفَتْ مَوْلَى عَلَيْهِ الْعَوَاطِفُ بِجَرِّ قَبْلِ لِأَنَّهُ نَوَى ثُبُوتَ لَفْظِهِ ذَلِكَ. مَطْلَبٌ: أَوَّلُ مَنْ نَطَقَ بِأَمَّا بَعْدُ وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ نَطَقَ بِهَا، فَقِيلَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهَا فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُد. وَقِيلَ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَقِيلَ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ. وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ. وَقِيلَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ. وَقِيلَ سَحْبَانُ بْنُ وَائِلٍ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ. وَنَظَمَ ذَلِكَ الشَّمْسُ الْمَيْدَانِيُّ فَقَالَ: جَرَى الْخُلْفُ أَمَّا بَعْدُ مَنْ كَانَ بَادِئًا ... بِهَا عَدَّ أَقْوَالًا وَدَاوُد أَقْرَبُ وَيَعْقُوبُ أَيُّوبُ الصَّبُورُ وَآدَمُ ... وَقُسٌّ وَسَحْبَانُ وَكَعْبٌ وَيَعْرُبُ [مطلب: النَّاس فِي الْأَدَب عَلَى طَبَقَات] (فَإِنِّي) الْفَاءُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ مَهْمَا النَّائِبَةِ عَنْهَا أَمَّا، النَّائِبَةِ عَنْهَا الْوَاوُ (سَوْفَ) حَرْفُ تَنْفِيسٍ وَاسْتِقْبَالٍ (أَنْظِمُ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مِنْ النَّظْمِ وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 التَّأْلِيفُ وَضْمُ الشَّيْءِ إلَى آخَرَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَنَظَمَ اللُّؤْلُؤَ يَنْظِمُهُ نَظْمًا وَنِظَامًا وَنَظَمَهُ أَلَّفَهُ وَجَمَعَهُ فِي سِلْكٍ فَانْتَظَمَ وَتَنَظَّمَ، وَالنِّظَامُ كُلُّ خَيْطٍ يُنْظَمُ بِهِ لُؤْلُؤٌ وَنَحْوُهُ انْتَهَى. وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: وَآيَاتٌ تَتَابَعُ كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ. قَالَ النَّظَّامُ: الْعِقْدُ مِنْ الْجَوْهَرِ وَالْخَرَزِ وَنَحْوِهِمَا وَسِلْكُهُ خَيْطُهُ. (جُمْلَةً) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ جَمَاعَةَ الشَّيْءِ أَيْ طَرَفًا صَالِحًا. (مِنْ الْأَدَبِ) وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الظُّرْفُ وَحُسْنُ التَّنَاوُلِ. يُقَالُ أَدَبٌ كَحَسَنٍ فَهُوَ أَدِيبٌ وَجَمْعُهُ أُدَبَاءُ، وَأَدَّبَهُ عَلَّمَهُ فَتَأَدَّبَ، قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. وَفِي الْمُطْلِعِ: الْأَدَبُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالدَّالِ مَصْدَرُ أَدِبَ الرَّجُلُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَضَمِّهَا لُغَةٌ إذَا صَارَ أَدِيبًا فِي خُلُقٍ أَوْ عِلْمٍ. وَالْخُلُقُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ صُورَةُ الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةُ، وَبِفَتْحِ الْخَاءِ صُورَتُهُ الظَّاهِرَةُ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: الْأَدَبُ اسْتِعْمَالُ مَا يُحْمَدُ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَنَّهُ الْأَخْذُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَقِيلَ الْوُقُوفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ، وَقِيلَ هُوَ تَعْظِيمُ مَنْ فَوْقِك وَالرِّفْقُ بِمَنْ دُونِكَ انْتَهَى. مَطْلَبٌ: النَّاسُ فِي الْأَدَبِ عَلَى طَبَقَاتٍ وَقَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ: النَّاسُ عَلَى طَبَقَاتٍ: أَهْلُ الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الدِّينِ، وَأَهْلُ الْخُصُوصِ. فَأَدَبُ أَهْلِ الدُّنْيَا الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ، وَتَحْصِيلُ الْعُلُومِ، وَأَخْبَارُ الْمُلُوكِ، وَأَشْعَارُ الْعَرَبِ. وَأَدَبُ أَهْلِ الدِّينِ مَعَ الْعِلْمِ رِيَاضَةُ النَّفْسِ، وَتَأْدِيبُ الْجَوَارِحِ، وَتَهْذِيبُ الطِّبَاعِ، وَحِفْظُ الْحُدُودِ، وَتَرْكُ الشَّهَوَاتِ، وَتَجَنُّبُ الشُّبُهَاتِ. وَأَدَبُ أَهْلِ الْخُصُوصِ حِفْظُ الْقُلُوبِ وَرِعَايَةُ الْأَسْرَارِ، وَاسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْأَدَبُ دُعَاءُ النَّاسِ إلَى الطَّعَامِ، وَالْمَأْدُبَةُ الطَّعَامُ لِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْآدِبُ بِالْمَدِّ الدَّاعِي. وَاشْتِقَاقُ الْأَدَبِ مِنْ ذَلِكَ كَأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ أُجْمِعَ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ «الْقُرْآنُ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» يَعْنِي مَدْعَاتَهُ، شَبَّهَ الْقُرْآنَ بِصَنِيعٍ صَنَعَهُ النَّاسُ لَهُمْ فِيهِ خَيْرٌ وَمَنَافِعُ، وَفِي الْعُرْفِ: مَا دَعَا الْخَلْقَ إلَى الْمَحَامِدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَتَهْذِيبِهَا. (الْمَأْثُورُ) أَيْ الْمَنْقُولُ وَالْمَرْوِيُّ، يُقَالُ حَدِيثٌ مَأْثُورٌ أَيْ يَأْثُرُهُ بِمَعْنَى يَنْقُلُهُ عَدْلٌ عَنْ مِثْلِهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ (عَنْ خَيْرِ) أَيْ أَفْضَلِ وَأَكْرَمِ (مُرْشِدِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ اسْمِ فَاعِلٍ مِنْ أَرْشَدَ، يُقَالُ رَشَدَ كَنَصَرَ وَفَرِحَ رُشْدًا وَرَشَدًا وَرَشَادًا اهْتَدَى كَاسْتَرْشَدَ، وَاسْتَرْشَدَهُ طَلَبَهُ، وَالرَّشَدَى كَجَمَزَى اسْمٌ مِنْهُ، وَأَرْشَدَهُ اللَّهُ هَدَاهُ، وَالرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ. وَالرَّشِيدُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى أَيْ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ وَاَلَّذِي حَسُنَ تَقْدِيرُهُ فِيمَا قَدَّرَ، وَالْمُرَادُ بِالْمُرْشِدِ هُنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ خَيْرُ مَنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَهَدَى إلَى سَوَاءِ سَبِيلِهِ بِقَالِهِ وَحَالِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّمَ الْآدَابِ وَحُسْنِ السَّمْتِ وَالْقَصْدَ وَالْحَيَاءَ وَالسِّيرَةِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا وَعُرْفًا. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» . وَقَالَ النَّخَعِيُّ: كَانُوا إذَا أَتَوْا الرَّجُلَ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ نَظَرُوا إلَى سَمْتِهِ وَصَلَاتِهِ وَإِلَى حَالِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ عَنْهُ. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَأَدَّبُوا ثُمَّ تَعَلَّمُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اُطْلُبْ الْأَدَبَ فَإِنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْعَقْلِ، وَدَلِيلٌ عَلَى الْمُرُوءَةِ مُؤْنِسٌ فِي الْوَحْدَةِ، وَصَاحِبٌ فِي الْغُرْبَةِ، وَمَالٌ عِنْدَ الْقِلَّةِ. رَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيّ فِي مُنْتَخَبِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ: أَدَبُ الْعِلْمِ أَكْثَرُ مِنْ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ بِنَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يُزَيِّنْ عِلْمَهُ بِالْأَدَبِ. ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ. وَيُرْوَى عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: طَلَبْت الْعِلْمَ فَأَصَبْت مِنْهُ شَيْئًا، وَطَلَبْت الْأَدَبَ فَإِذَا أَهْلُهُ قَدْ بَادُوا. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَا أَدَبَ إلَّا بِعَقْلٍ، وَلَا عَقْلَ إلَّا بِأَدَبٍ. وَكَانَ يُقَالُ: الْعَوْنُ لِمَنْ لَا عَوْنَ لَهُ الْأَدَبُ. وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: الْأَدَبُ نُورُ الْعَقْلِ كَمَا أَنَّ النَّارَ نُورُ الْبَصَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 مَطْلَبٌ: مَثَلُ الْإِيمَانِ كَبَلْدَةٍ لَهَا خَمْسُ حُصُونٍ وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِهِ: يُقَالُ مَثَلُ الْإِيمَانِ كَمَثَلِ بَلْدَةٍ لَهَا خَمْسُ حُصُونٍ:، الْأَوَّلُ مِنْ ذَهَبٍ، وَالثَّانِي مِنْ فِضَّةٍ، وَالثَّالِثُ مِنْ حَدِيدٍ، وَالرَّابِعُ مِنْ آجُرٍّ، وَالْخَامِسُ مِنْ لَبِنٍ، فَمَا زَالَ أَهْلُ الْحِصْنِ مُتَعَاهِدِينَ حِصْنَ اللَّبِنِ لَا يَطْمَعُ الْعَدُوُّ فِي الثَّانِي، فَإِذَا أَهْمَلُوا ذَلِكَ طَمِعُوا فِي الْحِصْنِ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثِ حَتَّى تَخْرَبَ الْحُصُونُ كُلُّهَا، فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ فِي خَمْسِ حُصُونٍ الْيَقِينُ، ثُمَّ الْإِخْلَاصُ، ثُمَّ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، ثُمَّ السُّنَنُ، ثُمَّ حِفْظُ الْآدَابِ، فَمَا دَامَ يَحْفَظُ الْآدَابَ وَيَتَعَاهَدُهَا فَالشَّيْطَانُ لَا يَطْمَعُ فِيهِ، وَإِذَا تَرَكَ الْآدَابَ طَمِعَ الشَّيْطَانُ فِي السُّنَنِ، ثُمَّ فِي الْفَرَائِضِ، ثُمَّ فِي الْإِخْلَاصِ، ثُمَّ فِي الْيَقِينِ. مِنْ السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ أَوْ مِنْ كِتَابِ مَنْ ... تَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِ الْغُوَاةِ وَجُحَّدِ وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ عُلَمَائِنَا ... أَئِمَّةِ أَهْلِ السِّلْمِ مِنْ كُلِّ أَمْجَدِ (مِنْ السُّنَّةِ) وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ الْحَسَنَةُ، وَفِي الْعُرْفِ مَا أُضِيفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلٍ كَقَوْلِهِ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» أَوْ فِعْلٍ «كَلُبْسِهِ الْمِغْفَرَ» ، «وَمُظَاهَرَتِهِ بَيْنَ دِرْعَيْنِ» ، «وَلُبْسِهِ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَالْعِمَامَةَ» ، أَوْ تَقْرِيرٍ كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إلَيْنَا، أَوْ فِي حَيَاتِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْنَا؛ أَوْ صِفَةٍ كَمَا فِي أَوْصَافِهِ وَحِلْيَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَوْنِهِ كَحْلَ الْعَيْنَيْنِ، أَزَجَّ الْحَاجِبِينَ "، ضَخْمَ الْكَرَادِيسِ. (الْغَرَّاءِ) أَيْ الْبَيْضَاءِ الشَّرِيفَةِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَغَرُّ الْأَبْيَضُ، وَرَجُلٌ أَغَرُّ أَيْ شَرِيفٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْغُرَّةُ بَيَاضٌ فِي الْجَبْهَةِ، وَفَرَسٌ أَغَرُّ وَغَرَّاءُ، وَالْأَغَرُّ الْأَبْيَضُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَالْكَرِيمُ الْأَفْعَالِ الْوَاضِحَةِ وَالشَّرِيفُ. انْتَهَى وَفِي الْحَدِيثِ: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى بَيْضَاءَ نَقِيَّةٍ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا» وَفِيهِ «غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ» يُرِيدُ بَيَاضَ وُجُوهِهِمْ بِنُورِ الْوُضُوءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي صَوْمِ الْأَيَّامِ الْغُرِّ أَيْ الْبِيضِ اللَّيَالِي بِالْقَمَرِ، وَهِيَ ثَالِثَ عَشَرَ، وَرَابِعَ عَشَرَ، وَخَامِسَ عَشَرَ، كَمَا فِي النِّهَايَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أَوْ) مَنْقُولٌ وَمَأْثُورٌ (مِنْ كِتَابِ مَنْ) أَيْ الَّذِي أَوْ رَبٍّ (تَقَدَّسَ) أَيْ تَنَزَّهَ وَتَعَالَى وَتَطَهَّرَ وَتَبَارَكَ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: التَّقْدِيسُ التَّطْهِيرُ وَمِنْهُ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَفِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الْقُدُّوسُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ الطَّاهِرُ الْمُنَزَّهُ عَنْ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: كُلُّ فَعُولٍ مَفْتُوحٌ غَيْرَ قُدُّوسٍ وَسُبُّوحٍ وَذُرُّوحٍ وَفُرُّوجٍ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ وَقَدْ تُفْتَحُ الْقَافُ وَلَيْسَ بِالْكَثِيرِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَيُفْتَحَانِ يَعْنِي قُدُّوسٌ وَسُبُّوحٌ. (عَنْ قَوْلِ) النَّصَارَى وَأَضْرَابِهِمْ مِمَّنْ قَالَ بِالتَّثْلِيثِ أَوْ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ كَوْنِ لَهُ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ (الْغُوَاةِ) جَمْعِ غَاوٍ وَهُمْ الضُّلَّالُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى» يُقَالُ غَوَى يُغْوِي غَيًّا وَغَوَايَةً فَهُوَ غَاوٍ، أَيْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَالْغَيُّ الضَّلَالُ وَالِانْهِمَاكُ فِي الْبَاطِلِ. وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالْغَيِّ فِي النَّظْمِ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ أَوْ مَرْيَمَ زَوْجَتُهُ أَوْ هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ مَقَالَتِهِمْ (وَ) تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ الرَّبُّ أَيْضًا عَنْ قَوْلِ (جُحَّدِ) جَمْعِ جَاحِدٍ أَيْ مُنْكِرٍ مَعَ عِلْمِهِ، يُقَالُ جَحَدَهُ حَقَّهُ كَمَنَعَهُ جَحْدًا وَجُحُودًا أَنْكَرَهُ مَعَ عِلْمِهِ. قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. يَعْنِي تَعَالَى الرَّبُّ وَتَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِ مُنْكِرِي الرُّبُوبِيَّةِ أَوْ وُجُودِهِ تَعَالَى، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْقُرْآنُ أَوْ صَحَّ بِهَا الْأَثَرُ، أَوْ أَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا وَرَدَ، أَوْ شَبَّهَهُ سُبْحَانَهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] بَلْ الْوَاجِبُ الْإِثْبَاتُ بِلَا تَمْثِيلٍ، وَالتَّنْزِيهُ بِلَا تَعْطِيلٍ، فَالْمُشَبِّهُ يَعْبُدُ صَنَمًا، وَالْمُعَطِّلُ يَعْبُدُ عَدَمًا، وَالْمُسْلِمُ يَعْبُدُ رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ نَظْمَهُ مُسْتَنَدُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ. وَالثَّانِي السُّنَّةُ الْغَرَّاءُ (وَ) الْمَأْثُورُ. الثَّالِثُ مَا نَظَمَهُ (مِنْ قَوْلِ) أَيْ مَقَالِ (أَهْلِ الْفَضْلِ) ضِدِّ النَّقْصِ، يُقَالُ فَضَلَ كَنَصَرَ وَعَلِمَ، وَأَمَّا فَضِلَ كَعَلِمَ يَفْضُلُ كَيَنْصُرُ فَمُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ (مِنْ عُلَمَائِنَا) مَعْشَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمَا دُونَهُ مِمَّنْ دَأَبَ فِي تَهْذِيبِ مَذْهَبِهِ وَاسْتَخْرَجَ الْأَقْوَالَ وَاسْتَنْبَطَ الْأَوْجُهَ، فَإِنَّ التَّخْرِيجَ فِي اصْطِلَاحِ فُقَهَائِنَا: نَقْلُ حُكْمِ مَسْأَلَةٍ إلَى مَا يُشْبِهُهَا وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ، وَالْوَجْهُ اسْتِنْبَاطُ الْحُكْمِ مِنْ مَفْهُومِ كَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْفُضَلَاءَ مِنْ عُلَمَاءِ مَذْهَبِنَا بِقَوْلِهِ (أَئِمَّةِ) جَمْعِ إمَامٍ وَهُوَ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ اشْتَهَرَ بِالْإِمَامَةِ فَصَارَ يُقْتَدَى بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا، وَذَلِكَ أَنْ تُقْرَأَ أَئِمَّةِ بِالْجَرِّ صِفَةً لِمَنْ قَبْلَهُ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ أَيْ هُمْ أَئِمَّةُ (أَهْلِ السِّلْمِ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا، وَيُؤَنَّثُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، أَيْ الصُّلْحِ، وَأَرَادَ أَهْلَ الطَّاعَةِ وَالصَّلَاحِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالْأَمْنَ مِنْ فَرْثِ أَهْلِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَذَمَّ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ (مِنْ كُلِّ) إمَامٍ (أَمْجَدِ) . مِنْ غَيْرِهِ وَالْمَجْدُ الشَّرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْ الشَّرَفُ الْوَاسِعُ، يُقَالُ مَاجِدٌ مِفْضَالٌ كَثِيرُ الْخَيْرِ. وَفِي كَلَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَّا نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ فَأَنْجَادٌ أَمْجَادٌ أَيْ أَشْرَافٌ كِرَامٌ جَمْعُ مَجِيدٍ أَوْ مَاجِدٍ كَأَشْهَادٍ فِي شَهِيدٍ أَوْ شَاهِدٍ، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ. كَأَنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَالَ) إنَّ مَا فِي مَنْظُومَتِي مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقَاوِيلِ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فَلَيْسَ مَا فِيهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِي بَلْ هُوَ مَأْثُورٌ وَمَشْهُورٌ وَإِنَّمَا لِي مِنْ ذَلِكَ النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ وَالضَّمُّ وَالتَّصْرِيفُ لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُهُ وَيَظْهَرَ تَدَاوُلُهُ. لَعَلَّ إلَهَ الْعَرْشِ يَنْفَعُنَا بِهَا وَيُنْزِلُنَا ... فِي الْحَشْرِ فِي خَيْرِ مَقْعَدِ (لَعَلَّ) هُوَ حَرْفٌ يَصْلُحُ لِلتَّرَجِّي وَطَلَبِ الْمَحْبُوبِ الْمُسْتَقْرَبُ حُصُولُهُ (إلَهَ) أَيْ رَبَّ (الْعَرْشِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَمِنْهُ لَفْظُ الْجَلَالَةِ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عِشْرِينَ قَوْلًا أَصَحُّهَا عَلَمٌ غَيْرُ مُشْتَقٍّ، يُقَالُ إلَهٌ كَفِعَالٍ بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ وَكُلُّ مَا اُتُّخِذَ مَعْبُودًا إلَهٌ عِنْدَ مُتَّخِذِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ إلَهٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا إلَهَ مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلَّا اللَّهُ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، الْمُفْتَقِرُ إلَيْهِ كُلُّ مَا عَدَاهُ، وَالْعَرْشُ جِسْمٌ عَظِيمٌ وَهُوَ سَقْفُ الْجَنَّةِ فَهُوَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَفَوْقَ الْجَنَّةِ، وَضَوْءُ الْجَنَّةِ مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ فِي الْعَرْشِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَرْشَ ثُمَّ خَلَقَ الْكُرْسِيَّ مِنْ نُورٍ يَتَلَأْلَأُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وَقِيلَ أَوَّلُ مَا خُلِقَ الْمَاءُ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بَعْدَ نُورِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِضَافَتُهُ إلَى الْإِلَهِ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» إضَافَةُ مَزِيدِ تَعْظِيمٍ وَتَفْخِيمٍ، وَإِلَّا فَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا دُونَ ذَلِكَ مَا فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَتَحْتَ الْأَرْضِ (يَنْفَعُنَا) يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَهُ وَإِخْوَانَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا أَهْلُ مَذْهَبِهِ، فَتَكُونُ الْكَلِمَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، أَوْ أَرَادَ نَفْسَهُ فَتَكُونُ (نَا) لِلتَّعْظِيمِ، وَالْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِقَالِهِ وَحَالِهِ وَالنَّفْعُ ضِدُّ الضُّرِّ، وَالِاسْمُ الْمَنْفَعَةُ. وَالنَّفْعُ بِهَا يَكُونُ بِالْعَمَلِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا وَيَكُونُ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ مِنْ أَجْلِ مَنْ قَرَأَهَا وَانْتَفَعَ بِهَا، فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، أَوْ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَقَدْ أَوْصَلَ السُّيُوطِيّ مَنْ يَجْرِي عَمَلُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى عَشْرٍ، وَزَادَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْبَاقِي الْأَثَرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ عَلَيْهَا ثَلَاثَةً، وَنَظَمَهَا السُّيُوطِيّ فِي أَبْيَاتٍ فَغَيَّرَ بَعْضَهَا شَيْخُ مَشَايِخِنَا وَزَادَ الْأَخِيرَيْنِ فَقَالَ: إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ جَاءَ يَجْرِي ... عَلَيْهِ الْأَجْرُ عَدَّ ثَلَاثَ عَشْرَ عُلُومٌ بَثَّهَا وَدُعَاءُ نَجْلٍ ... وَغَرْسُ النَّخْلِ وَالصَّدَقَاتُ تَجْرِي وِرَاثَةُ مُصْحَفٍ وَرِبَاطُ ثَغْرٍ ... وَحَفْرُ الْبِئْرِ أَوْ إجْرَاءُ نَهْرِ وَتَعْلِيمٌ لِقُرْآنٍ كَرِيمٍ ... شَهِيدٌ فِي الْقِتَالِ لِأَجَلِ بِرِّ كَذَا مَنْ سَنَّ صَالِحَةً لِيُقْفَى ... فَخُذْهَا مِنْ أَحَادِيثَ بِشِعْرِ وَقَدْ ذَكَرْت فِي كِتَابِي الْقَوْلِ الْعَلِيِّ فِي شَرْحِ أَثَرِ الْإِمَامِ عَلِيٍّ مِنْ فَضْلِ الْعِلْمِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ مَا يَكْفِي وَيَشْفِي (بِهَا) أَيْ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي يَنْظِمُهَا مِنْ الْأَدَبِ الْمَأْثُورِ، وَلَعَلَّ إلَهَ الْعَرْشِ (يُنْزِلُنَا) مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ سِيَّمَا الْمُعْتَنَيْنَ بِهَذِهِ الْآدَابِ الْمَأْثُورَةِ قِرَاءَةً وَكِتَابَةً وَحِفْظًا وَإِقْرَاءً وَغَيْرَ ذَلِكَ (فِي) يَوْمِ (الْحَشْرِ) أَيْ الْجَمْعِ. وَيَعْنِي حَشْرَ الْخَلَائِقِ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَى الْمَوْقِفِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَمَا بَدَأَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مِيلٍ، وَيَشْتَدُّ الزِّحَامُ، وَتَشْخَصُ الْأَبْصَارُ، وَتَذْهَلُ كُلُّ وَالِدَةٍ عَنْ وَلَدِهَا، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] فَفِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُتَحَقِّقَةِ الْوُقُوعِ لَا مَحَالَةَ تَظْهَرُ الْمَزَايَا وَتَعْظُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الرَّزَايَا، فَطَلَبَ النَّاظِمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَإِخْوَانُهُ (فِي خَيْرِ مَقْعَدِ) أَيْ مَكَانِ الْقُعُودِ سَالِمِينَ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَشِدَّةِ الْحِسَابِ، مُنْتَظِرِينَ الْإِذْنَ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَفَتْحِ الْأَبْوَابِ، فَقَدْ رَوَى حَرْبٌ فِي مَسَائِلِهِ وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِ إمَامِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَجْمَعُ اللَّهُ تَعَالَى الْعُلَمَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ إلَّا لِعِلْمِي بِكُمْ وَلَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ لِأُعَذِّبَكُمْ، اذْهَبُوا فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ» . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا فَلَهُ شَوَاهِدُ حِسَانٌ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُد قَالَ: إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعُلَمَاءَ عَنْ الْحِسَابِ فَيَقُولُ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ عَلَى مَا فِيكُمْ إنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي فِيكُمْ إلَّا لِخَيْرٍ أَرَدْتُهُ بِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَزَادَ غَيْرُهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ يَحْبِسُ الْعُلَمَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي زُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ وَيَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ثُمَّ يَدْعُو الْعُلَمَاءَ فَيَقُولُ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إنِّي لَمْ أَضَعْ حِكْمَتِي فِيكُمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمْ، قَدْ عَلِمْت أَنَّكُمْ تَخْلِطُونَ مِنْ الْمَعَاصِي مَا يَخْلِطُ غَيْرُكُمْ فَسَتَرْتهَا عَلَيْكُمْ وَغَفَرْتهَا لَكُمْ، وَإِنَّمَا كُنْت أُعْبَدُ بِفُتْيَاكُمْ وَتَعْلِيمِكُمْ عِبَادِي اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ثُمَّ قَالَ لَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ اللَّهُ وَلَا مَانِعَ لَمَا أَعْطَى اللَّهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْمَعْنَى بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ مَرْفُوعٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تُوضَعُ حَسَنَاتُ الرَّجُلِ فِي كِفَّةٍ وَسَيِّئَاتُهُ فِي كِفَّةٍ فَتَسِيلُ سَيِّئَاتُهُ، فَإِذَا أَيِسَ وَظَنَّ أَنَّهَا النَّارُ جَاءَ شَيْءٌ مِثْلُ السَّحَابِ حَتَّى يَقَعَ مَعَ حَسَنَاتِهِ فَتَسِيلَ حَسَنَاتُهُ، قَالَ فَيُقَالُ لَهُ أَتَعْرِفُ هَذَا مِنْ عَمَلِك؟ فَيَقُولُ لَا، فَيُقَالُ هَذَا مَا عَلَّمْت النَّاسَ مِنْ الْخَيْرِ فَعُمِلَ بِهِ مَنْ بَعْدَك. [مَطْلَبٌ: مَرَاتِبُ الْعِلْمِ] أَلَا مَنْ لَهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ رَغْبَةٌ ... لِيَصْغَ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ مُتَرَصِّدٍ (أَلَا) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّمَنِّي كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَا عُمُرٌ وَلَّى مُسْتَطَاعٌ رُجُوعُهُ ... فَيَرْأَبَ مَا أَثْأَتْ يَدُ الْغَفَلَاتِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَرْضِ وَالتَّحْضِيضِ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ يُوسُفُ بْنُ هِشَامٍ النَّحْوِيُّ الْحَنْبَلِيُّ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ: وَمَعْنَى الْعَرْضِ وَالتَّحْضِيضِ طَلَبُ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّ الْعَرْضَ طَلَبٌ بِلِينٍ، وَالتَّحْضِيضَ طَلَبٌ بِحَثٍّ. وَتَخْتَصُّ أَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 هَذِهِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ نَحْوُ {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] ؟ وَمِنْهُ عِنْدَ الْخَلِيلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا رَجُلًا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا ... يَدُلُّ عَلَى مُحَصِّلَةٍ تَبِيتُ وَالتَّقْدِيرُ: أَلَا تُرُونِي رَجُلًا هَذِهِ صِفَتُهُ، فَحُذِفَ الْفِعْلُ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى، وَهَكَذَا فِي كَلَامِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَالْمَعْنَى أَلَا يُوجَدُ (مَنْ) أَيْ إنْسَانٌ أَوْ الَّذِي (لَهُ فِي) اسْتِمَاعِ (الْعِلْمِ) وَطَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ، وَهُوَ صِفَةٌ يُمَيَّزُ الْمُتَّصِفُ بِهَا تَمَيُّزًا جَازِمًا مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ. مَطْلَبٌ: مَرَاتِبُ الْعِلْمِ ثَلَاثٌ. وَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: (عِلْمُ الْيَقِينِ) وَهُوَ انْكِشَافُ الْمَعْلُومِ لِلْقَلْبِ بِحَيْثُ يُشَاهِدُهُ وَلَا يَشُكُّ فِيهِ كَانْكِشَافِ الْمَرْئِيِّ لِلْبَصَرِ. ثُمَّ يَلِيهَا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ مَرْتَبَةُ (عَيْنِ الْيَقِينِ) وَنِسْبَتُهَا إلَى الْعَيْنِ كَنِسْبَةِ الْأُولَى لِلْقَلْبِ، ثُمَّ تَلِيهَا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ، وَهِيَ (حَقُّ الْيَقِينِ) وَهِيَ مُبَاشَرَةُ الْمَعْلُومِ وَإِدْرَاكُهُ الْإِدْرَاكَ التَّامَّ. فَالْأُولَى كَعِلْمِكَ أَنَّ فِي هَذَا الْوَادِي مَاءٌ، وَالثَّانِيَةُ كَرُؤْيَتِهِ، وَالثَّالِثَةُ كَالشُّرْبِ مِنْهُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ حَارِثَةَ «أَصْبَحَتْ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِك؟ قَالَ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنْ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فَأَسْهَرْت لَيْلِي وَأَظْمَأْت نَهَارِي وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرَفْت فَالْزَمْ عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ» ذَكَرَهُ ابْنُ رَجَبٍ فِي اسْتِنْشَاقِ نَسِيمِ الْأُنْسِ وَقَالَ ضَعِيفٌ، وَالْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ مُحْتَجًّا بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) فِي حِفْظِ آدَابِ (الدِّينِ) وَالتَّخَلُّقِ بِهَا (رَغْبَةٌ) أَيْ إرَادَةٌ وَطَلَبٌ يُقَالُ رَغِبَ فِيهِ كَسَمِعَ رَغْبًا وَيُضَمُّ وَرَغْبَةً أَرَادَهُ كَارْتَغَبَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَرَغِبَ عَنْهُ لَمْ يُرِدْهُ، وَرَغِبَ إلَيْهِ ابْتَهَلَ إلَيْهِ أَوْ هُوَ الضَّرَاعَةُ وَالْمَسْأَلَةُ. وَالدِّينُ لُغَةً الْجَزَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَمَاسَة: وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَانِ ... دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا وَالِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ وَالْحِسَابُ وَالْعَادَةُ وَالْعَمَلُ وَالْحُكْمُ وَالْحَالُ وَالْخُلُقُ وَالطَّاعَةُ وَالْقَهْرُ وَالْمِلَّةُ وَالشَّرِيعَةُ وَالْوَرَعُ وَالسِّيَاسَةُ وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ يَطُولُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ذِكْرُهَا، وَفِي الْعُرْفِ وَضْعٌ إلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ الْمَحْمُودَةِ بِاخْتِيَارِهَا إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهَا بِالذَّاتِ مِنْ أَمْرَيْ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَذَلِكَ الْوَضْعُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ طَرِيقًا مُوَصِّلًا إلَى النَّجَاةِ يُسَمَّى شَرِيعَةً، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقَةُ لِلْمَاءِ. وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُجْتَمَعًا عَلَيْهِ يُسَمَّى مِلَّةً، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْجَمَاعَةُ، وَبِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُنْقَادًا إلَيْهِ يُسَمَّى دِينًا (لِيَصْغَ) اللَّامُ لِلْأَمْرِ، وَيَصْغَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعِلَّةِ، يُقَالُ أَصْغَى اسْتَمَعَ، وَإِلَيْهِ مَالَ بِسَمْعِهِ، وَأَصْغَى الْإِنَاءَ أَمَالَهُ، وَصَغَى يَصْغُو وَيُصْغِي صَغْوًا، وَصَغَى يُصْغِي صَغًا وَصَغْيًا مَالَ أَوْ مَالَ حَنَكُهُ (بِقَلْبٍ) مُتَعَلِّقٌ بِيَصْغَى، وَالْقَلْبُ الشَّكْلُ الصَّنَوْبَرِيُّ فِي الْجَوْفِ، وَالْمُرَادُ الْعَقْلُ وَاللُّبُّ، مِنْ إطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِّ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ مَمْلُوءَةٌ مِنْ ذَلِكَ (حَاضِرٍ) مُتَيَقِّظِ غَيْرِ غَائِبٍ، فَإِنَّ مَنْ أَلْقَى سَمْعَهُ وَغَابَ قَلْبُهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا يُلْقَى إلَيْهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ: " يَا كُمَيْلُ، الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ حَاضِرًا وَعَى مَا يُلْقَى إلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأُمَّتِهِ. وَقَوْلِ الْمَلَكِ لَهُ اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ وَوَعَى قَلْبُك» . وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَقْلُ عَقْلًا لِعَقْلِهِ مَا يُلْقَى إلَيْهِ، وَمِنْهُ عَقَلَ الْبَعِيرَ وَالدَّابَّةَ، وَلِأَنَّهُ يَعْقِلُهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْغَيِّ وَالْهَلَاكِ، وَلِذَا سُمِّيَ حِجْرًا أَيْضًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ كَمَا يَمْنَعُ الْحِجْرُ مَا حَوَاهُ. فَعَقْلُ الشَّيْءِ أَخَصُّ مِنْ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْقِلُ مَا عَلِمَهُ فَلَا يَدَعُهُ يَذْهَبُ. وَلِلْإِدْرَاكِ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَأَوَّلُهَا الشُّعُورُ فَالْفَهْمُ فَالْمَعْرِفَةُ فَالْعِلْمُ ثُمَّ الْعَقْلُ. (مُتَرَصِّدِ) أَيْ مُتَرَقِّبٍ حَافِظٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: رَصَدَهُ رَصْدًا وَرَصَدًا رَقَبَهُ كَتَرَصَّدَهُ، فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ حَاضِرًا مُتَرَقِّبًا مَا يُلْقَى إلَيْهِ مُتَهَيِّئًا مُسْتَعِدًّا كَانَ أَقْرَبَ لِانْتِفَاعِهِ وَضَبْطِهِ لِمَا يُبْدِيهِ إلَيْهِ الشَّيْخُ، بِخِلَافِ شَارِدِ الْقَلْبِ ذَاهِلِ اللُّبِّ فَلَا عِنْدَهُ اسْتِعْدَادَ، لِأَنَّهُ فِي وَادٍ وَقَلْبُهُ فِي وَادٍ. مَطْلَبٌ: مَرَاتِبُ التَّعَلُّمِ سِتَّةٌ، وَحِرْمَانُ الْعِلْمِ بِسِتَّةٍ وَاعْلَمْ أَنَّ لِلتَّعَلُّمِ سِتَّ مَرَاتِبَ: أَوَّلُهَا حُسْنُ السُّؤَالِ: ثَانِيهَا حُسْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ. ثَالِثُهَا حُسْنُ الْفَهْمِ. رَابِعُهَا الْحِفْظُ، خَامِسُهَا التَّعْلِيمُ سَادِسُهَا وَهِيَ الثَّمَرَةُ الْعَمَلُ بِهِ وَمُرَاعَاةُ حُدُودِهِ. وَحِرْمَانُ الْعِلْمِ يَكُونُ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) : تَرْكُ السُّؤَالِ. (الثَّانِي) : سُوءُ الْإِنْصَاتِ وَعَدَمُ إلْقَاءِ السَّمْعِ. (الثَّالِثُ) : سُوءُ الْفَهْمِ. (الرَّابِعُ) : عَدَمُ الْحِفْظِ. (الْخَامِسُ) : عَدَمُ نَشْرِهِ وَتَعْلِيمِهِ، فَمَنْ خَزَّنَ عِلْمَهُ وَلَمْ يَنْشُرْهُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِنِسْيَانِهِ جَزَاءً وِفَاقًا. (السَّادِسُ) : عَدَمُ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ يُوجِبُ تَذَكُّرَهُ وَتَدَبُّرَهُ وَمُرَاعَاتَهُ وَالنَّظَرَ فِيهِ، فَإِذَا أَهْمَلَ الْعَمَلَ بِهِ نَسِيَهُ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُنَّا نَسْتَعِينُ عَلَى حِفْظِ الْعِلْمِ بِالْعَمَلِ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ، فَمَا اسْتَدَرَّ الْعِلْمُ وَاسْتُجْلِبَ بِمِثْلِ الْعَمَلِ بِهِ. فَإِنْ قُلْت: قَوْلُ النَّاظِمِ لِيَصْغَ إنْ كَانَ مِنْ صَغَى بِمَعْنَى مَالَ بِقَلْبِهِ فَهَذَا ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْغَى بِمَعْنَى اسْتَمَعَ فَكَيْفَ يَكُونُ الِاسْتِمَاعُ بِالْقَلْبِ مَعَ أَنَّ السَّمْعَ وَالِاسْتِمَاعَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأُذُنِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ إلْقَاءَ السَّمْعِ، وَالْإِلْقَاءَ الَّذِي هُوَ قَصْدُ الِاسْتِمَاعِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ. وَأَيْضًا فَبَيْنَ الْأُذُنِ وَالْقَلْبِ تَمَامُ الِارْتِبَاطِ، فَالْعِلْمُ يَدْخُلُ مِنْ الْأُذُنِ إلَى الْقَلْبِ، فَهِيَ بَابُهُ وَالرَّسُولُ الْمُوصِلُ إلَيْهِ الْعِلْمَ، كَمَا أَنَّ اللِّسَانَ رَسُولُهُ الْمُؤَدِّي عَنْهُ. وَمَنْ عَرَفَ ارْتِبَاطَ الْجَوَارِحِ بِالْقَلْبِ عَلِمَ أَنَّ الْأُذُنَ أَحَقُّهَا بِالِارْتِبَاطِ مِنْ جِهَةِ الْإِيصَالِ إلَى الْقَلْبِ بِهِ، فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالُ لِلْقَلْبِ اسْتَمَعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: النَّصِيحَةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا: وَيَقْبَلُ نُصْحًا مِنْ شَفِيقٍ عَلَى الْوَرَى ... حَرِيصٍ عَلَى زَجْرِ الْأَنَامِ عَنْ الرَّدَى (وَيُقْبَلُ) قَبُولَ طَاعَةٍ وَإِذْعَانٍ وَانْقِيَادٍ وَعِرْفَانٍ (نُصْحًا) مَفْعُولُ يُقْبَلُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إرَادَةِ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: النَّصِيحَةُ تَشْمَلُ خِصَالَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانَ وَالْإِحْسَانَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ ثَلَاثًا، قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَامَّتِهِمْ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ عَنْ أَبِي دَاوُد صَاحِبِ السُّنَنِ أَنَّ حَدِيثَ النَّصِيحَةِ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا الْفِقْهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: هَذَا حَدِيثٌ لَهُ شَأْنٌ. ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ أَنَّهُ أَحَدُ أَرْبَاعِ الدِّينِ. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُمْسِ وَيُصْبِحْ نَاصِحًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِإِمَامِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَحَبُّ مَا تَعَبَّدَنِي بِهِ عَبْدِي إلَيَّ النُّصْحُ لِي» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «بَايَعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «حَقُّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتٌّ، فَذَكَرَ مِنْهَا: وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ» . قَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ هِيَ إرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ قَالَ: وَأَصْلُ النُّصْحِ فِي اللُّغَةِ الْخُلُوصُ، يُقَالُ نَصَحْت الْعَسَلَ إذَا خَلَّصْته مِنْ الشَّمْعِ. فَمَعْنَى النَّصِيحَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ فِي وَحْدَانِيِّتِهِ وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ فِي عِبَادَتِهِ. وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ الْإِيمَانُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ. وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ وَبَذْلُ الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ إرْشَادُهُ لَهُمْ إلَى مَصَالِحِهِمْ. انْتَهَى. فَالنَّاظِمُ بَذَلَ النُّصْحَ لِمَنْ يَقْبَلُهُ خُرُوجًا مِنْ عُهْدَةِ الْكِتْمَانِ. مَطْلَبٌ: النَّصِيحَةُ لِلَّهِ فَرْضٌ وَنَافِلَةٌ قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَقَدْ حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرُّوذِيُّ فِي كِتَابِ تَعْظِيمِ قَدْرِ الصَّلَاةِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ فَسَّرَ حَدِيثَ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّصِيحَةَ عِنَايَةُ الْقَلْبِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَهِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فَرْضٌ وَهِيَ لِلَّهِ شِدَّةُ الْعِنَايَةِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 النَّاصِحِ بِاتِّبَاعِ مَحَبَّةِ اللَّهِ فِي أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ وَمُجَانَبَةِ مَا حَرَّمَ، وَالثَّانِي نَفْلٌ وَهِيَ إيثَارُ مَحَبَّتِهِ عَلَى مَحَبَّةِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَعْرِضَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ لِرَبِّهِ فَيَبْدَأُ بِمَا كَانَ لِرَبِّهِ وَيُؤَخِّرُ مَا كَانَ لِنَفْسِهِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ تَفْسِيرِ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ الْفَرْضُ مِنْهُ وَالنَّافِلَةُ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْ النَّصِيحَةِ مُجَانَبَةُ نَهْيِهِ وَإِقَامَةُ فَرْضِهِ بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ مَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْإِقَامَةِ لِفَرْضِهِ لِآفَةٍ حَلَّتْ بِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ عَزَمَ عَلَى أَدَاءِ مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ مَتَى زَالَتْ الْعِلَّةُ الْمَانِعَةُ لَهُ قَالَ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91]- إلَى قَوْلِهِ - {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فَسَمَّاهُمْ مُحْسِنِينَ لِنُصْحِهِمْ لِلَّهِ بِقُلُوبِهِمْ لَمَّا مُنِعُوا مِنْ الْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمْ وَقَدْ تُرْفَعُ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا عَنْ الْعَبْدِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ وَلَا تُرْفَعُ عَنْهُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ. فَلَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يُمْكِنُهُ عَمَلُ شَيْءٍ مِنْ جَوَارِحِهِ مِنْ لِسَانٍ وَلَا غَيْرِهِ غَيْرَ أَنَّ عَقْلَهُ ثَابِتٌ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ النُّصْحُ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى ذُنُوبِهِ وَأَنْ يَنْوِي إذَا صَحَّ أَنْ يَقُومَ بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَجْتَنِبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ وَإِلَّا كَانَ غَيْرَ نَاصِحٍ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ. وَكَذَلِكَ النُّصْحُ لِرَسُولِهِ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَى النَّاسِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَمِنْ النُّصْحِ الْوَاجِبِ أَنْ لَا يَرْضَى بِمَعْصِيَةِ الْعَاصِي وَيُحِبَّ طَاعَةَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قُلْت: وَلَوْ كَانَ هُوَ الْعَاصِي يَجِبُ عَلَيْهِ كَرَاهِيَةُ الْمَعْصِيَةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ (يَجِبُ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ الْكَأْسُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الْجُلَّاسِ) إلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ فَبِأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَيُشْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَيَرْحَمَ صَغِيرَهُمْ، وَيُوَقِّرَ كَبِيرَهُمْ، وَيَحْزَنَ لِحُزْنِهِمْ، وَيَفْرَحَ لِفَرَحِهِمْ، وَإِنْ ضَرَّهُ ذَلِكَ فِي دُنْيَاهُ كَرُخَصِ أَسْعَارِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَوَاتُ رِبْحِ مَا يَبِيعُ مِنْ تِجَارَةٍ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا يَضُرُّهُمْ عَامَّةً، وَيَجِبُ صَلَاحُهُمْ وَأُلْفَتُهُمْ وَدَوَامُ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، وَنُصْرَتُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ. وَدَفْعُ كُلِّ أَذًى وَمَكْرُوهٍ عَنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ تَتَضَمَّنُ قِيَامَ النَّاصِحِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ بِوُجُوهِ الْخَيْرِ إرَادَةً وَفِعْلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 مَطْلَبٌ: بَيَانُ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ فَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ تَوْحِيدُهُ وَوَصْفُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا يُضَادُّهَا وَيُخَالِفُهَا وَيَجْتَنِبُ مَعَاصِيَهُ، وَيَقُومُ بِطَاعَتِهِ وَمَحَابِّهِ بِوَصْفِ الْإِخْلَاصِ وَالْحُبِّ فِيهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ، وَجِهَادُ مَنْ كَفَرَ بِهِ وَمَا ضَاهَى ذَلِكَ، وَالدُّعَاءُ إلَى ذَلِكَ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ. وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ الْإِيمَانُ بِهِ، وَتَعْظِيمُهُ وَتَنْزِيهُهُ، وَتِلَاوَتُهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَالْوُقُوفُ مَعَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَتَفَهُّمُ عُلُومِهِ وَأَمْثَالِهِ وَتَدَبُّرُ آيَاتِهِ، وَالدُّعَاءُ إلَيْهِ، وَذَبُّ تَحْرِيفِ الضَّالِّينَ وَطَعْنِ الْمُلْحِدِينَ عَنْهُ. وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَتَوْقِيرُهُ وَتَبْجِيلُهُ، وَالتَّمَسُّكُ بِطَاعَتِهِ، وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ، وَاسْتِنْشَارُهُ عُلُومَهَا وَنَشْرُهَا، وَمُعَادَاةُ مَنْ عَادَاهُ وَعَادَاهَا، وَمُوَالَاةُ مَنْ وَالَاهُمَا، وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِهِ، وَمَحَبَّةُ آلِهِ وَصَحَابَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَتَذْكِيرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ فِي رِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَمُجَانَبَةُ الْوُثُوبِ عَلَيْهِمْ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِالتَّوْفِيقِ. وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ إرْشَادُهُمْ إلَى مَصَالِحِهِمْ، وَتَعْلِيمُهُمْ أُمُورَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَسَتْرُ عَوْرَاتِهِمْ، وَسَدُّ خَلَّاتِهِمْ، وَسَدُّ رَوْعَاتِهِمْ، وَمُجَانَبَةُ الْغِشِّ وَالْحَسَدِ لَهُمْ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَمِنْ أَنْوَاعِ نُصْحِهِمْ تَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَرَدُّ مَنْ زَاغَ مِنْهُمْ عَنْ الْحَقِّ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ بِالتَّلَطُّفِ فِي رَدِّهِمْ إلَى الْحَقِّ، وَالرِّفْقِ بِهِمْ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَحَبَّةً لِإِزَالَةِ فَسَادِهِمْ وَلَوْ بِحُصُولِ ضَرَرٍ لَهُ فِي دُنْيَاهُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ: وَدِدْت أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ أَطَاعُوا اللَّهَ وَأَنَّ لَحْمِي قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي عَمِلْت فِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَعَمِلْتُمْ بِهِ فَكُلَّمَا عَمِلْت فِيكُمْ بِسُنَّةٍ وَقَعَ مِنِّي عُضْوٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ شَيْءٍ مِنْهَا خُرُوجَ نَفْسِي. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنْ شِئْتُمْ لَأُقْسِمَنَّ لَكُمْ بِاَللَّهِ أَنَّ أَحَبَّ عِبَادِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إلَى عِبَادِهِ وَيُحَبِّبُونَ عِبَادَ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ بِالنَّصِيحَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ فِي قَوْلِ بَكْرٍ الْمُزَنِيّ: مَا فَاقَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ كَانَ فِي قَلْبِهِ. قَالَ الَّذِي كَانَ فِي قَلْبِهِ الْحُبُّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّصِيحَةُ فِي خَلْقِهِ. وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ بِلَفْظِ «مَا فَضَلَ أَبُو بَكْرٍ بِفَضْلِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ» ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ مَرْفُوعًا، وَهُوَ عِنْدَ الْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ فِي النَّوَادِرِ مِنْ كَلَامِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ. وَفِي لَفْظٍ: مَا فَاتَكُمْ أَوْ فَضَلَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثِيرِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مَرْفُوعًا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا مَنْ أَدْرَكَ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَإِنَّمَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا بِسَخَاءِ الْأَنْفُسِ وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ وَالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: كَانَ يُقَالُ: أَنْصَحُ النَّاسِ لَك مَنْ خَافَ اللَّهَ فِيك. فَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَأَمْثَالِهَا بَذَلَ النَّاظِمُ نُصْحَهُ عَلَى قَبُولِهِ بِمَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِهِ مِنْ كَوْنِ النُّصْحِ صَادِرًا (مِنْ) أَخٍ (شَفِيقٍ) مُتَعَلِّقٌ بِنُصْحًا أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِيَقْبَلُ، أَيْ يَقْبَلُ مِنْ شَفِيقٍ، وَالشَّفِيقُ ذُو الشَّفَقَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْوَرَى كَفَتًى الْخَلْقُ (حَرِيصٍ عَلَى زَجْرِ) أَيْ مَنْعِ (الْأَنَامِ) كَسَحَابٍ وَبِالْمَدِّ وَالْأَنِيمُ كَأَمِيرٍ الْخَلْقُ أَوْ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ أَوْ جَمِيعُ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَمَا تَقَدَّمَ (عَنْ) الْفِعْلِ (الرَّدِي) مُتَعَلِّقٌ بِزَجْرِ وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ الرَّدِي الْحَرَامُ أَوْ مَا يَعُمُّ الْمَكْرُوهَ فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ هُوَ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ لَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ، وَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِ. وَكُلُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] . مَطْلَبٌ: يُرَادُ لِلْعَالِمِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ وَلِذَا قِيلَ: يُرَادُ لِلْعَالِمِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: الْخَشْيَةُ، وَالنَّصِيحَةُ، وَالشَّفَقَةُ، وَالِاحْتِمَالُ، وَالصَّبْرُ، وَالْحِلْمُ، وَالتَّوَاضُعُ، وَالْعِفَّةُ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَالدَّوَامُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْكُتُبِ، وَتَرْكُ الْحِجَابِ. بَلْ يَكُونُ بَابُهُ لِلشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ. وَلِذَا قِيلَ: إذَا مُنِعَ الْعِلْمُ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ الْخَاصَّةُ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّاظِمَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالشَّفِيقِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مَادَّةُ كَلَامِهِ وَأُسُّ نِظَامِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فَعِنْدِي مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ أَمَانَةٌ ... سَأَبْذُلُهَا جَهْدِي فَأَهْدِي وَأَهْتَدِي (فَعِنْدِي) مُسْتَقِرٌّ وَثَابِتٌ (مِمَّا) أَيْ مِنْ الْآدَابِ الثَّابِتَةِ (فِي الْحَدِيثِ) الْوَارِدِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَقْوَالِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ وَصِفَتِهِ (أَمَانَةٌ) يَجِبُ عَلَيَّ حِفْظُهَا وَالْقِيَامُ بِأَوَدِهَا وَمُرَاعَاتِهَا إلَى أَنْ أَبْذُلَهَا لِأَهْلِهَا وَأَنْشُرَهَا فِي مَحَلِّهَا فَأَدْخُلَ فِي دَعَوْته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَ امْرِئٍ سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» . الْحَدِيثُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَلِذَا قَالَ (سَأَبْذُلُهَا) أَيْ أُعْطِيهَا وَأَجُودُ بِهَا وَأَنْشُرُهَا وَأَجْتَهِدُ فِي بَذْلِهَا (جَهْدِي) وَطَاقَتِي وَأُفْرِغُ فِي ذَلِكَ وُسْعِي وَقُوَّتِي (فَأَهْدِي) أَيْ أُرْشِدُ ضَالًّا وَأُعَلِّمُ جَاهِلًا وَأَدُلُّ تَائِهًا فَأَفُوزُ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ وَالثَّوَابِ الْجَسِيمِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَشَرَفِ مَنْزِلَةِ أَهْلِهِ، بِحَيْثُ إذَا اهْتَدَى رَجُلٌ وَاحِدٌ بِالْعَالِمِ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهِيَ جِيَادُهَا وَأَشْرَفُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ يَهْتَدِي كُلَّ يَوْمٍ بِهِ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ؟ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» . فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ إلَى الْهُدَى بِدَعْوَتِهِ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ اهْتَدَى بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَسَبِّبُ إلَى الضَّلَالَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ ضَلَّ بِهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَذَلَ وُسْعَهُ وَقُدْرَتَهُ فِي هِدَايَةِ النَّاسِ، وَالثَّانِي بَذَلَ قُدْرَتَهُ فِي ضَلَالَتِهِمْ، فَنَزَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْزِلَةَ الْفَاعِلِ التَّامِّ. (وَأَهْتَدِي) أَنَا فِي نَفْسِي بِسَبَبِ بَذْلِي لِلْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ كَمَا قَالَهُ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَالْعَالِمُ كُلَّمَا بَذَلَ عِلْمَهُ لِلنَّاسِ وَأَنْفَقَ مِنْهُ تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُهُ وَازْدَادَ كَثْرَةً وَقُوَّةً وَظُهُورًا فَيَكْسِبُ بِتَعْلِيمِهِ حِفْظَ مَا عَلِمَهُ وَيَحْصُلُ لَهُ عِلْمُ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ. وَرُبَّمَا تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مَكْشُوفَةٍ وَلَا خَارِجَةٍ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَعَلَّمَهَا اتَّضَحَتْ لَهُ وَأَضَاءَتْ وَانْفَتَحَ لَهُ مِنْهَا عُلُومٌ أُخَرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَكَمَا عَلَّمَ الْخَلْقَ وَهَدَاهُمْ مِنْ جَهَالَتِهِمْ جَازَاهُ اللَّهُ بِأَنْ عَلَّمَهُ وَهَدَاهُ مِنْ جَهَالَتِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: «وَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِي: أَنْفِقْ، أُنْفِقْ عَلَيْك» . مَطْلَبٌ: لِزَكَاةِ الْعِلْمِ طَرِيقَتَانِ وَاعْلَمْ أَنَّ لِزَكَاةِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَعْلِيمُهُ لِلْعَالِمِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُنَمِّي عِلْمَهُ بِذَلِكَ وَيُزَكِّيهِ. وَالثَّانِي: الْعَمَلُ بِهِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ أَيْضًا يُنَمِّيهِ وَيُكَثِّرُهُ، وَيَفْتَحُ لِصَاحِبِهِ أَبْوَابَهُ وَخَبَايَاهُ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ» قَالَ سُلُوكُ الطَّرِيقِ لِالْتِمَاسِ الْعِلْمِ يَدْخُلُ فِيهِ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْمَشْيُ بِالْأَقْدَامِ إلَى مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى حُصُولِ الْعِلْمِ، مِثْلُ حِفْظِهِ وَدِرَاسَتِهِ وَمُذَاكَرَتِهِ وَمُطَالَعَتِهِ وَكِتَابَتِهِ وَالتَّفَهُّمِ لَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الطَّرِيقِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْعِلْمِ. وَقَوْلُهُ «سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ» قَدْ يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُسَهِّلُ لَهُ الْعِلْمَ الَّذِي طَلَبَهُ وَسَلَكَ طَرِيقَهُ وَيُيَسِّرُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ طَرِيقٌ مُوصِلٌ إلَى الْجَنَّةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ. فَهَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيْهِ. وَقَدْ يُرَادُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ إذَا قَصَدَ بِطَلَبِهِ وَجْهَ اللَّهِ الِانْتِفَاعَ بِهِ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِ وَلِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ. وَقَدْ يُيَسِّرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ عُلُومًا أُخَرَ يَنْتَفِعُ بِهَا وَتَكُونُ مُوصِلَةً إلَى الْجَنَّةِ كَمَا قِيلَ: مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وَكَمَا قِيلَ: ثَوَابُ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] وقَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] . وَقَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا تَسْهِيلُ طَرِيقِ الْجَنَّةِ الْحِسِّيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الصِّرَاطُ وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَهْوَالِ فَيُيَسِّرُ ذَلِكَ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فَإِنَّ الْعِلْمَ يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ إلَيْهِ، فَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَنْهُ وَصَلَ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الْجَنَّةِ مِنْ أَقْرَبِ الطُّرُقِ وَأَسْهَلِهَا فَسَهُلَتْ عَلَيْهِ الطُّرُقُ الْمُوصِلَةُ إلَى الْجَنَّةِ كُلُّهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ قَوْلِ الْحَافِظِ كَمَا قِيلَ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ إلَخْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدِيثٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى لِلْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ مُفْلِحٍ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ ذَكَرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ وَرَّثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ عَقِبَ ذَلِكَ: ذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَوَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُ النَّاظِمِ سَأَبْذُلُهَا جَهْدِي يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ سَأَبْذُلُ الْأَمَانَةَ جَهْدِي كَمَا قَدَّمْنَا، وَجَهْدِي مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَعْمُولٌ أَوْ عَامِلٌ مَحْذُوفٌ أَيْ بَالِغًا فِي بَذْلِهَا جَهْدِي. وَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ أَنَّهُ أَرَادَ سَأَبْذُلُ لَهَا أَيْ لِلْأَمَانَةِ فِي الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ وَوَضْعِهَا فِي مَوَاضِعِهَا جَهْدِي. فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْجَهْدُ فِي بَذْلِهَا، وَعَلَى الثَّانِي الْجَهْدُ مَفْعُولًا ثَانِيًا وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ. وَبَذَلَ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ بَلْ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَالْجَهْدُ الطَّاقَةُ وَيُضَمُّ وَالْمَشَقَّةُ، وَاجْهَدْ جَهْدَك اُبْلُغْ غَايَتَك. وَجَهَدَ كَمَنَعَ جَدَّ كَاجْتَهَدَ. وَأَفَادَ كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعِلْمَ عِنْدَ الْعَالِمِ وَدِيعَةٌ وَمِثْلُ كَلَامِهِ مَا فِي دِيبَاجَةِ الْإِرْشَادِ لِلْإِمَامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى. أَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ عَلَى رِعَايَةِ وَدَائِعِهِ وَحِفْظِ شَرَائِعِهِ. وَقَدْ عُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّ الْوَدِيعَةَ يَجِبُ عَلَى الْمُودَعِ حِفْظُهَا. وَمِنْ جُمْلَةِ حِفْظِ الْعِلْمِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ عِنْدَ حَامِلِهِ أَنْ يَمْتَثِلَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ الْعِلْمَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَأَمَرَهُمْ بِبَذْلِهِ لِلنَّاسِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ فَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة: 174] الْآيَةَ. وَقَالَ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ «مَا مِنْ رَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا فَيَكْتُمَهُ إلَّا أَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَلْجُومًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «نَاصِحُوا فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ خِيَانَةَ أَحَدِكُمْ فِي عِلْمِهِ أَشَدُّ مِنْ خِيَانَتِهِ فِي مَالِهِ وَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُكُمْ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْبَقَّالَ وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ فِيهِ خِلَافٌ وَقَالَ فِي بَابِ ذِكْرِ الرُّوَاةِ: سَعِيدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ أَبُو سَعْدٍ الْبَقَّالُ قَالَ الْفَلَّاسُ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: صَدُوقٌ مُدَلِّسٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمَانَةَ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي أَوْ التَّفْرِيطِ، وَالتَّعَدِّي فِي الْعِلْمِ يَشْمَلُ كِتْمَانَهُ عَنْ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ فَيُلْجِمُهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ، وَيَشْمَلُ أَنْ يَتَّخِذَهُ سُلَّمًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَنَاوُلِ الدُّنْيَا وَشَبَكَةً يَصْطَادُ بِهَا حُطَامَهَا، وَيَشْمَلُ عَدَمَ الْإِخْلَاصِ فِيهِ. أَمَّا كِتْمَانُهُ فَقَدْ ذَكَرْنَا دَلِيلَهُ. وَأَمَّا اتِّخَاذُهُ آلَةً يَصْطَادُ بِهَا الدُّنْيَا فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالدِّينِ وَالرِّفْعَةِ أَوْ الرِّفْعَةِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْبَيْهَقِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالتَّيْسِيرِ بِالسَّنَاءِ وَالدِّينِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الْبِلَادِ وَالنَّصْرِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ تَزَيَّنَ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا وَلَا يَطْلُبُهَا لُعِنَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وَرُوِيَ فِي الْكَبِيرِ عَنْ الْجَارُودِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْفَعُهُ «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ طُمِسَ وَجْهُهُ وَمُحِقَ ذِكْرُهُ، وَأُثْبِتَ اسْمُهُ فِي النَّارِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنْ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَبِي تَغْتَرُّونَ، أَمْ عَلَيَّ تَجْتَرِئُونَ، إنِّي حَلَفْت لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ حَيْرَانَ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مُخْتَصِرًا مِنْهُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِلَّهِ، وَمَا شَيْءٌ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . وَسُئِلَ الْحَسَنُ مَا عُقُوبَةُ الْعَالِمِ؟ قَالَ مَوْتُ الْقَلْبِ، قِيلَ وَمَا مَوْتُ الْقَلْبِ؟ قَالَ طَلَبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: خُذْ مِنْ عُلُومِي وَلَا تَنْظُرْ إلَى عَمَلِي ... وَاقْصِدْ بِذَلِكَ وَجْهَ الْوَاحِدِ الْبَارِي وَإِنْ مَرَرْت بِأَشْجَارٍ لَهَا ثَمَرٌ ... فَاجْنِ الثِّمَارَ وَخَلِّ الْعُودَ لِلنَّارِ فَالْمُرَادُ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلْأَخْذِ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي الْعَمَلِ وَإِلَّا كَانَ مَرْدُودًا عَلَى قَائِلِهِ، كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ: وَلَمَّا حَجَّ سَالِمٌ الْخَوَّاصُ لَقِيَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي السُّوقِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ كَوْنَهُ فِي السُّوقِ فَأَنْشَدَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: خُذْ مِنْ عُلُومِي وَإِنْ قَصَّرْت فِي عَمَلِي ... يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلَا يَضْرُرْك تَقْصِيرِي فَلَعَلَّ مُرَادَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِذَلِكَ هَضْمُ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ اُشْتُهِرَ فَضْلُهُ وَحَسُنَ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. أَخَذَ عَنْهُ الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَكْثَرُ ثُلَاثِيَّاتِ الْمُسْنَدِ عَنْهُ عَنْ ابْنِ دِينَارٍ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ الْجُرْجَانِيِّ لِنَفْسِهِ: يَقُولُونَ لِي فِيك انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا ... رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُو هَانَ عِنْدَهُمْ ... وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْت قَدْ أَرَى ... وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي ... لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْت لَكِنْ لِأُخْدَمَا أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَذَلُّوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: أَرْسَلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ إلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْحُضُورَ إلَيْهِ لِأَجْلِ مَسْأَلَةٍ وَقَعَتْ لَهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ حَمَّادٌ إنَّا أَدْرَكْنَا الْعُلَمَاءَ وَهُمْ لَا يَأْتُونَ أَحَدًا فَإِنْ وَقَعَتْ لَك مَسْأَلَةٌ فَأْتِنَا فَسَلْنَا عَمَّا بَدَا لَك. قَالَ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ. وَفِيهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ جَاءَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مَا لِي إذَا نَظَرْت إلَيْك امْتَلَأْت رُعْبًا؟ فَقَالَ حَمَّادٌ: سَمِعْت ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ يَقُولُ سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ الْعَالِمَ إذَا أَرَادَ بِعِلْمِهِ وَجْهَ اللَّهِ هَابَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُكَثِّرَ بِهِ الْكُنُوزَ هَابَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» . وَأَمَّا عَدَمُ الْإِخْلَاصِ فِيهِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَة عَلَيْهِ رَجُلٌ اُسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمُهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ مَا عَمِلْت فِيهَا؟ قَالَ قَاتَلْت فِيك حَتَّى اُسْتُشْهِدْت، قَالَ كَذَبْت، وَلَكِنَّك قَاتَلْت حَتَّى يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ فَمَا عَمِلْت فِيهَا؟ قَالَ تَعَلَّمْت الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْت فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ كَذَبْت، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْت الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْت الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْت فِيهَا؟ قَالَ مَا تَرَكْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلَّا أَنْفَقْت فِيهَا لَك، قَالَ كَذَبْت، وَلَكِنَّك فَعَلْت لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» وَلَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا الْحَدِيثُ بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ} [هود: 15 - 16] . وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَجَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَفْظُ حَدِيثِ جَابِرٍ «لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الرِّيَاءِ إلَّا تَسْمِيَتُهُ بِالشِّرْكِ لَكَفَى. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَمَّا التَّفْرِيطُ فِي الْعِلْمِ فَيَشْمَلُ الْكَذِبَ فِيهِ، وَعَدَمَ الْعَمَلِ بِهِ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ، وَعَدَمَ صِيَانَةِ نَامُوسِهِ فِيهِ. فَأَمَّا الْكَذِبُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 144] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» هَذَا رُوِيَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ الْكَاذِبِينَ» . وَأَمَّا عَدَمُ الْعَمَلِ بِهِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 يَقُولُ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ - فَتَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا شَأْنُك أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ كُنْت آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الشَّرِّ وَآتِيهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَرَرْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِأَقْوَامٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ خُطَبَاءُ أُمَّتِك الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الزَّبَانِيَةُ أَسْرَعُ إلَى فَسَقَةِ الْقُرَّاءِ مِنْهُمْ إلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَيَقُولُونَ يُبْدَأُ بِنَا قَبْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ؟ فَيُقَالُ لَهُمْ لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَقَالَ غَرِيبٌ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ غَرَابَتِهِ شَوَاهِدُ. وَعَنْ صُهَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَمَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ ضَرَّهُ جَهْلُهُ. اقْرَأْ الْقُرْآنَ مَا نَهَاك فَإِنْ لَمْ يَنْهَك فَلَسْت تَقْرَؤُهُ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَفِيهِ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَثَّقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَالْعِجْلِيُّ وَالنَّسَوِيُّ، وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا، وَاحْتَجَّ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَجَرَّحَهُ آخَرُونَ. وَأَمَّا تَعْلِيمُ الْعِلْمِ لِغَيْرِ أَهْلِهِ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ هَهُنَا عِلْمًا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْت لَهُ حَمَلَةً. وَقَدْ أَنْهَيْت عَلَيْهِ الْكَلَامَ فِي كِتَابِي الْقَوْلِ الْعَلِيِّ لِشَرْحِ أَثَرِ الْإِمَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فُنُونِهِ: حَرَامٌ عَلَى عَالِمٍ قَوِيِّ الْجَوْهَرِ أَدْرَكَ بِجَوْهَرِيَّتِهِ وَصَفَاءِ خَاطِرِهِ عِلْمًا أَطَاقَهُ فَحَمَلَهُ أَنْ يُرَشِّحَ بِهِ إلَى ضَعِيفٍ لَا يَحْمِلُهُ وَلَا يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّهُ يُفْسِدُهُ. وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْعَقْلِ لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخَرَّجَهُ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ زِيَادٍ الْعَتَكِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أُمِرْنَا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ» . وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ: قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَاكَمَدَاهُ مِنْ مَخَافَةِ الْأَغْيَارِ. وَاحَسْرَتَاه مِنْ أَجْلِ اسْتِمَاعِ ذِي جَهَالَةٍ لِلْحَقِّ وَالْإِنْكَارِ. وَاَللَّهِ مَا زَالَ خَوَاصُّ عِبَادِ اللَّهِ يَتَطَلَّبُونَ لِنُزُوحِهِمْ بِمُنَاجَاتِهِمْ رُءُوسَ الْجِبَالِ وَالْبَرَارِيِّ وَالْقِفَارِ، لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ الْمُنْكِرِينَ لِشَأْنِهِمْ مِنْ الْأَغْمَارِ. وَقَالَ شُعْبَةُ: أَتَانِي الْأَعْمَشُ وَأَنَا أُحَدِّثُ قَوْمًا فَقَالَ وَيْحَك تُعَلِّقُ اللُّؤْلُؤَ فِي أَعْنَاقِ الْخَنَازِيرِ؟ قَالَ مُهَنَّا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ؟ قَالَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَ مَنْ لَا يَسْتَأْهِلُ. وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لِلْحِكْمَةِ أَهْلٌ فَإِنْ وَضَعْتهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا ضُيِّعَتْ، وَإِنْ مَنَعْتهَا مِنْ أَهْلِهَا ضُيِّعَتْ. كُنْ كَالطَّبِيبِ يَضَعُ الدَّوَاءَ حَيْثُ يَنْبَغِي. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا تَطْرَحْ اللُّؤْلُؤَ إلَى الْخِنْزِيرِ فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَصْنَعُ بِاللُّؤْلُؤِ شَيْئًا، وَلَا تُعْطِ الْحِكْمَةَ مَنْ لَا يُرِيدُهَا فَإِنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنْ اللُّؤْلُؤِ، وَمَنْ لَا يُرِيدُهَا شَرٌّ مِنْ الْخِنْزِيرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: ذُلٌّ وَإِهَانَةٌ لِلْعِلْمِ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ يُضَيِّعُهُ. وَمِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَأَنْثُرُ دُرًّا بَيْنَ سَارِحَةِ النَّعَمْ ... أَأَنْظِمُ مَنْثُورًا لِرَاعِيَةِ الْغَنَمْ إلَى أَنْ قَالَ: فَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فَعَلَى الْعَالِمِ كَتْمُ عِلْمِهِ عَمَّنْ لَا يَقُومُ بِنَامُوسِهِ، أَوْ مَنْ يَتَّخِذُهُ سُلَّمًا لِتَنَاوُلِ مَا لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ، أَوْ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ مَحَامِلِهِ، وَآخِرُ مَنْ رَأَيْنَا مِنْ الْأَئِمَّةِ مَنْ يَتَحَرَّجُ مِنْ سَمَاعِ مَنْ لَا يَصْلُحُ شَيْخُنَا الْإِمَامُ النَّقِيُّ الْهُمَامُ التَّقِيُّ عَبْدُ الْقَادِرِ التَّغْلِبِيُّ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ أَنْ يُقْرِئَ جَمَاعَةً الْمَحْكَمَةَ وَالْحُكَّامَ، فَقُلْت لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ إنَّ هَؤُلَاءِ يَتَّخِذُونَ الْعِلْمَ وَسِيلَةً لِاصْطِيَادِ الدُّنْيَا، وَيَتَعَلَّمُونَ مَسَائِلَ الْخِلَافِ لِيَحْكُمُوا فِيهَا بِالتَّشَهِّي. أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ تَتَبَّعَ الْأَقْوَالَ الضَّعِيفَةَ وَمَسَائِلَ الِاخْتِلَافِ وَحَكَمَ فِيهَا بِالتَّشَهِّي فَهُوَ مُضِلٌّ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ زَنْدَقَةٌ كَمَا فِي طَبَقَاتِ الْعُلَيْمِيِّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلْمَ كَالسَّيْفِ إنْ أَعْطَيْته لِتَقِيٍّ قَاتَلَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ أَلْقَيْته لِشَقِيٍّ قَطَعَ بِهِ الطَّرِيقَ وَأَضَرَّ عِبَادَ اللَّهِ. وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . وَأَمَّا عَدَمُ صِيَانَةِ نَامُوسِ الْعِلْمِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ لِلْإِمَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ الرَّعَاعَ وَالْغَوْغَاءَ فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَقَبِلَ عُمَرُ مَشُورَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ لَا يُودَعَ الْعِلْمُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَلَا يُحَدِّثَ لِقَلِيلِ الْفَهْمِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ فَهْمُهُ، وَالرَّعَاعُ السَّفِلَةُ، وَالْغَوْغَاءُ نَحْوُ ذَلِكَ. وَأَصْلُ الْغَوْغَاءِ صِغَارُ الْجَرَادِ. وَفِي تَارِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَدِمْت عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِمَكَّةَ فَوَجَدْته مَرِيضًا شَارِبًا دَوَاءً، فَقُلْت لَهُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ أَشْيَاءَ، قَالَ فَقُلْ. فَقُلْت أَخْبِرْنِي مَنْ النَّاسُ؟ قَالَ الْفُقَهَاءُ، قُلْت قُلْت فَمَنْ الْمُلُوكُ؟ قَالَ الزُّهَّادُ، قُلْت فَمَنْ الْأَشْرَافُ؟ قَالَ الْأَتْقِيَاءُ؟ قُلْت فَمَنْ الْغَوْغَاءُ؟ قَالَ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْأَحَادِيثَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَأَكَّلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ. قُلْت فَمَنْ السَّفِلَةُ؟ قَالَ الظَّلَمَةُ. وَلَوْ أَخَذْنَا نَتَكَلَّمُ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِ الْعِلْمِ لَطَالَ الْكِتَابُ وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى الْإِطْنَابِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ غَزِيرَ الْفَوَائِدِ كَبِيرَ الْفَرَائِدِ كَثِيرَ الْعَوَائِدِ غَيْرُ أَنَّ أَبْنَاءَ الزَّمَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 لَا يَأْلَفُونَ التَّطْوِيلَ، وَقَدْ تَرَكَهُ النَّاسُ مُنْذُ أَزْمَانٍ. ثُمَّ أَخَذَ النَّاظِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَقَاصِدِهِ فَقَالَ: أَلَا كُلُّ مَنْ رَامَ السَّلَامَةَ فَلْيَصُنْ ... جَوَارِحَهُ عَنْ مَا نَهَى اللَّهُ يَهْتَدِي (أَلَا) حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ وَيَأْتِي عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: لِلتَّنْبِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] وَتُفِيدُ التَّحْقِيقَ لِتَرَكُّبِهَا مِنْ الْهَمْزَةِ وَلَا. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ إذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ أَفَادَتْ التَّحْقِيقَ، وَتَأْتِي لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَا ارْعِوَاءَ لِمَنْ وَلَّتْ شَبِيبَتُهُ ... وَآذَنَتْ بِمَشِيبٍ بَعْدَهُ هَرَمٌ وَلِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ النَّفْيِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَا اصْطِبَارَ لِسَلْمَى أَمْ لَهَا جَلَدٌ ... إذَا أُلَاقِي الَّذِي لَاقَاهُ أَمْثَالِي وَلِلْعَرْضِ وَالتَّحْضِيضِ وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُمَا، وَمَعْنَاهُمَا هُنَا التَّحْقِيقُ (كُلُّ مَنْ) أَيُّ إنْسَانٍ (رَامَ) قَصَدَ وَطَلَبَ (السَّلَامَةَ) أَيْ الْبَرَاءَةَ مِنْ الْعُيُوبِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَهِيَ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْجَوَامِعِ، فَإِنَّ مَنْ سَلِمَ نَجَا، فَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ الْعَافِيَةِ. وَلِذَا يَكُونُ كَلَامُ الرُّسُلِ عِنْدَ مُرُورِ النَّاسِ عَلَى الصِّرَاطِ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: وَقَائِلَةٍ مَالِي أَرَاك مُجَانِبًا ... أُمُورًا وَفِيهَا لِلتِّجَارَةِ مَرْبَحٌ فَقُلْت لَهَا كُفِّي مَلَامَك وَاسْمَعِي ... فَنَحْنُ أُنَاسٌ بِالسَّلَامَةِ نَفْرَحُ (فَلْيَصُنْ) أَيْ فَلْيَحْفَظْ، يُقَالُ صُنْتُهُ أَيْ حَفِظْته فِي صِوَانَةٍ صَوْنًا وَصِيَانًا وَصِيَانَةً فَهُوَ مَصُونٌ، وَالصُّوَانُ بِضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا، وَالصِّيَانَةُ بِالْكَسْرِ مَعَ الْيَاءِ لُغَةً هُوَ مَا يُصَانُ فِيهِ الشَّيْءُ كَمَا فِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ لِمُؤَلِّفِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (جَوَارِحَهُ) جَمْعُ جَارِحَةٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَكْتَسِبُ وَتَتَصَرَّفُ (عَنْ مَا) أَيْ عَنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي (نَهَى اللَّهُ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا نَهْيًا مُؤَكَّدًا جَازِمًا مُقْتَضِيًا لِلْوَعِيدِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ لَيْسَ مَعَهُ جَزْمٌ فَنَهْيُ كَرَاهَةٍ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَصَوْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الْإِنْسَانِ جَوَارِحَهُ وَقَلْبَهُ عَنْ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ وَعَنْ الثَّانِي مُسْتَحَبٌّ كَمَا يَأْتِي. فَمَنْ صَانَهَا عَنْ الْأَشْيَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فَإِنَّهُ يَهْتَدِي لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالطَّرِيقِ السَّالِكِ الْقَوِيمِ الْهِدَايَةِ التَّامَّةِ، وَيَفُوزُ بِالنَّجَاةِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْ الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ، وَيَكُونُ لَهُ فِي مَيْدَانِ الصَّالِحِينَ مَجَالٌ. وَمَفْهُومُ نِظَامِهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَصُنْ جَوَارِحَهُ عَنْ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ يَكُونُ عَنْ السَّلَامَةِ بِمَعْزِلٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ وَلَمْ يُرَاقِبْهُ فِيمَ نَهَى وَأَمَرَ. وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ بِتَقْوَاهُ، فَالتَّقْوَى وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] وَقَالَ تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُطَاعُ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرُ فَلَا يَنْسَى، وَيُشْكَرُ فَلَا يُكْفَرُ، وَخَرَّجَهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَشُكْرُهُ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ. وَمَعْنَى ذِكْرِهِ فَلَا يُنْسَى ذِكْرُ الْعَبْدِ بِقَلْبِهِ لِأَوَامِرِ اللَّهِ فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ فَيَمْتَثِلُهَا، وَلِنَوَاهِيهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَيَجْتَنِبُهَا. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْقُدْوَةُ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ الْعَارِفُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَاسِطِيُّ الَّذِي قَالَ فِي حَقِّهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إنَّهُ جُنَيْدُ وَقْتِهِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْمُعْتَبَرِينَ، فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي كَتَبَهَا لِجَمَاعَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ يَحُثُّهُمْ عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَيُعَظِّمُهُ فِي نُفُوسِهِمْ وَيَذْكُرُ لَهُمْ مِنْ حَقِّهِ مَا يَجِبُ. قَالَ فِي أَوَّلِ الرِّسَالَةِ: وَأَبْدَأُ مِنْ ذَلِكَ بِأَنِّي أُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْنَا وَإِلَى الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِنَا كَمَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَائِلًا وَمُوَصِّيًا {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] وَقَدْ عَلِمْتُمْ تَفَاصِيلَ التَّقْوَى عَلَى الْجَوَارِحِ وَالْقُلُوبِ بِحَسَبِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِ. وَيَنْبَغِي لَنَا جَمِيعًا أَنْ لَا نَقْنَعَ مِنْ الْأَعْمَالِ بِصُوَرِهَا حَتَّى نُطَالِبَ قُلُوبَنَا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى بِحَقَائِقِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ لَنَا هِمَّةٌ عُلْوِيَّةٌ تَتَرَامَى إلَى أَوْطَانِ الْقُرْبِ وَنَفَحَاتِ الْمَحْبُوبِيَّةِ وَالْحُبِّ، فَالسَّعِيدُ مَنْ حَظِيَ مِنْ ذَلِكَ بِنَصِيبٍ وَكَانَ سَيِّدُهُ وَمَوْلَاهُ مِنْهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْوَالِ قَرِيبًا، إلَى أَنْ قَالَ: وَلْيَكُنْ لَنَا جَمِيعًا مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سَاعَةٌ نَخْلُو فِيهَا بِرَبِّنَا جَلَّ اسْمُهُ، وَتَعَالَى قُدْسُهُ، نَجْمَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ هُمُومَنَا، وَنَطْرَحُ أَشْغَالَ الدُّنْيَا عَنْ قُلُوبِنَا، فَنَزْهَدُ فِيمَا سِوَى اللَّهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَبِذَلِكَ يَعْرِفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الْإِنْسَانُ مَعَ رَبِّهِ. فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعَ رَبِّهِ حَالٌ تَحَرَّكَتْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ عَزَائِمُهُ، وَابْتَهَجَتْ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ سَرَائِرُهُ، وَطَالَتْ إلَى الْعُلَا زَفَرَاتُهُ وَكَوَامِنُهُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ أُنْمُوذَجٌ لِحَالَةِ الْعَبْدِ فِي قَبْرِهِ حِينَ خُلُوِّهِ عَنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، فَمَنْ لَمْ يَخْلُ قَلْبُهُ لِلَّهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَمَا احْتَوَشَتْهُ مِنْ الْهُمُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ ذَوَاتُ الْآصَارِ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ثَمَّ رَابِطَةٌ عُلْوِيَّةٌ، وَلَا نَصِيبٌ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَلَا الْمَحْبُوبِيَّةِ، فَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَرْضَى مِنْهَا إلَّا بِنَصِيبٍ مِنْ قُرْبِ رَبِّهِ وَأُنْسِهِ. فَإِذَا خَلَصْت لِلَّهِ تِلْكَ السَّاعَةُ أَمْكَنَ إيقَاعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى نَمَطِهَا مِنْ الْحُضُورِ وَالْخَشْيَةِ وَالْهَيْبَةِ لِلرَّبِّ الْعَظِيمِ فِي السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَبْخَلَ عَلَى أَنْفُسِنَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً بِسَاعَةٍ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ نَعْبُدُهُ فِيهَا حَقَّ عِبَادَتِهِ، ثُمَّ نَجْتَهِدُ عَلَى إيقَاعِ الصَّلَوَاتِ عَلَى ذَلِكَ النَّهْجِ. وَقَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ فِي غَيْرِ الرِّسَالَةِ: وَيُحَاسِبُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي حَرَكَاتِ جَوَارِحِهِ السَّبْعِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَغِيبَ، وَمِنْ غُرُوبِهَا إلَى أَنْ تَطْلُعَ، وَهِيَ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا. وَأَصْلُ الْجَمِيعِ الْقَلْبُ بِشَهَادَةِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. فَإِصْلَاحُ حَرَكَاتِ الْعَبْدِ بِجَوَارِحِهِ وَاجْتِنَابِهِ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَاتِّقَائِهِ لِلشُّبُهَاتِ بِحَسَبِ صَلَاحِ حَرَكَةِ قَلْبِهِ، فَإِنْ كَانَ قَلْبُهُ سَلِيمًا لَيْسَ فِيهِ إلَّا مَحَبَّةُ رَبِّهِ وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ، وَخَشْيَتُهُ وَخَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِيمَا يَكْرَهُهُ، صَلَحَتْ حَرَكَاتُ جَوَارِحِهِ كُلُّهَا، وَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا وَتَوَقِّي الْمُشْتَبِهَاتِ، حَذَرًا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَحَصَلَتْ لَهُ السَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ، وَالْعَافِيَةُ مِنْ كُلِّ الْهَلَكَاتِ. وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ فَاسِدًا قَدْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ اتِّبَاعُ هَوَاهُ، وَطَلَبُ مَا يُحِبُّهُ وَلَوْ كَرِهَهُ مَوْلَاهُ، فَسَدَتْ حَرَكَاتُ الْجَوَارِحِ، وَانْبَعَثَ إلَى كُلِّ الْمَعَاصِي وَالْقَبَائِحِ. وَلِذَا يُقَالُ الْقَلْبُ مَلِكُ الْأَعْضَاءِ وَهِيَ جُنُودُهُ الطَّائِعَةُ، وَحَرَكَتُهَا كُلُّهَا لِحَرَكَتِهِ تَابِعَةٌ. فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ صَالِحًا كَانَتْ الْجُنُودُ صَالِحَةً، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا كَانَتْ جُنُودُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْفَاضِحَةِ. وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إلَّا الْقَلْبُ السَّلِيمُ. وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ فِي دُعَائِهِ «وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا» فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ سِوَى مَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ الْحَكِيمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَفِي مُسْنَدِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ طَيَّبَ اللَّهُ مَثْوَاهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ - عَلَيْهِ رَحْمَةُ رَبِّهِ -: الْمُرَادُ بِاسْتِقَامَةِ إيمَانِهِ اسْتِقَامَةُ أَعْمَالِ جَوَارِحِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ، فَإِنَّ أَعْمَالَهَا لَا تَسْتَقِيمُ إلَّا بِاسْتِقَامَةِ قَلْبِهِ. وَمَعْنَى اسْتِقَامَةِ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ مُمْتَلِئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَحُبِّهِ، وَحُبِّ طَاعَتِهِ، وَكَرَاهَةِ مَعْصِيَتِهِ وَغَضَبِهِ. قَالَ الْحَسَنُ لِرَجُلٍ: دَاوِ قَلْبَك فَإِنَّ حَاجَةَ اللَّهِ إلَى الْعِبَادِ صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ، يَعْنِي أَنَّ مَطْلُوبَ الرَّبِّ مِنْ الْعِبَادِ، صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ مِنْ الْمِحَنِ وَالْفَسَادِ، وَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ، حَتَّى تَسْتَقِرَّ فِيهَا مَعْرِفَةُ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَتَمْتَلِئَ مِنْ خَوْفِهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَمَهَابَتِهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ حَتَّى تُفَرِّدَ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ. وَرَوَى اللَّيْثُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام: 80] لَا تُحِبُّوا غَيْرِي. وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ» وَأَدْنَاهُ أَنْ يُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْجَوْرِ، وَأَنْ يُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعَدْلِ وَهَلْ الدِّينُ إلَّا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ. قَالَ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَبُغْضَ مَا يُحِبُّهُ مُتَابَعَةٌ لِلْهَوَى وَالْمُوَالَاةُ عَلَى ذَلِكَ وَالْمُعَادَاةُ عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ حَرَكَاتِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ إذَا كَانَتْ لِلَّهِ فَقَدْ كَمُلَ إيمَانُ الْعَبْدِ بِذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَيَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِ حَرَكَاتِ الْقَلْبِ صَلَاحُ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ، فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا لَيْسَ فِيهِ إلَّا إرَادَةُ اللَّهِ وَإِرَادَةُ مَا يُرِيدُهُ لَمْ تَنْبَعِثْ الْجَوَارِحُ إلَّا فِيمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، فَسَارَعَتْ إلَى مَا فِيهِ رِضَاهُ وَكَفَّتْ عَمَّا يَكْرَهُهُ. قَالَ الْحَسَنُ مَا ضَرَبْت بِبَصَرِي وَلَا نَطَقْت بِلِسَانِي وَلَا بَطَشْت بِيَدِي وَلَا نَهَضْت عَلَى قَدَمِي حَتَّى أَنْظُرَ عَلَى طَاعَةٍ أَوْ عَلَى مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 تَقَدَّمْت، وَإِنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً تَأَخَّرْت. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ الْبَلْخِيُّ: مَا خَطَوْت مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً خُطْوَةً لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ لِدَاوُدَ الطَّائِيِّ: لَوْ تَنَحَّيْت مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ، فَقَالَ هَذِهِ خَطًّا لَا أَدْرِي كَيْفَ تُكْتَبُ. فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَمَّا صَلَحَتْ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إرَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ صَلَحَتْ جَوَارِحُهُمْ فَلَمْ تَتَحَرَّكْ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا فِيهِ رِضَاهُ. [مَطْلَب: الْقُلُوبُ ثَلَاثَةٌ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُلُوبَ ثَلَاثَةٌ: قَلْبٌ خَالٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَجَمِيعِ الْخَيْرِ فَذَلِكَ قَلْبٌ مُظْلِمٌ قَدْ اسْتَرَاحَ الشَّيْطَانُ مِنْ إلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ اتَّخَذَهُ بَيْتًا وَوَطَنًا وَتَحَكَّمَ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ، وَتَمَكَّنَ مِنْهُ غَايَةَ التَّمَكُّنِ. الثَّانِي: قَدْ اسْتَنَارَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَأَوْقَدَ فِيهِ مِصْبَاحَهُ، لَكِنْ عَلَيْهِ ظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ وَعَوَاصِفُ الْأَهْوِيَةِ، فَلِلشَّيْطَانِ هُنَاكَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ، وَمُجَاوَلَاتٌ وَمَطَامِعُ، فَالْحَرْبُ دُوَلٌ وَسِجَالٌ. وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُ هَذَا الصِّنْفِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْقَاتُ غَلَبَتِهِ لِعَدُوِّهِ أَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْقَاتُ غَلَبَةِ عَدُوِّهِ لَهُ أَكْثَرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ تَارَةً وَتَارَةً. الثَّالِثُ: قَلْبٌ مَحْشُوٌّ بِالْإِيمَانِ، قَدْ اسْتَنَارَ بِنُورِ الْإِيمَانِ، وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ حُجُبُ الشَّهَوَاتِ، وَأَقْلَعَتْ عَنْهُ تِلْكَ الظُّلُمَاتُ، فَلِنُورِهِ فِي صَدْرِهِ إشْرَاقٌ، وَإِيقَادٌ لَوْ دَنَا مِنْهُ الْوَسْوَاسُ لَأَدْرَكَهُ الِاحْتِرَاقُ، فَهُوَ كَالسَّمَاءِ الْمَحْرُوسَةِ بِالنُّجُومِ، فَلَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ وَلَا هُجُومٌ، وَلَيْسَتْ السَّمَاءُ بِأَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّتِي حَرَسَهَا بِالنُّجُومِ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ. فَكَمَا أَنَّ السَّمَاءَ مُتَعَبَّدُ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ وَمُسْتَقَرُّ الْوَحْيِ السَّدِيدِ، فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ مُسْتَقَرُّ التَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَمَعْرِفَةِ الْمَجِيدِ، فَهُوَ حَرِيٌّ أَنْ يُحْرَسَ وَيُحْفَظَ وَيُبْعَدَ عَنْهُ الشَّيْطَانُ وَيُدْحَضَ، قَدْ امْتَلَأَ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ. فَأَيُّ شَيْطَانٍ يَجْتَرِئُ عَلَى هَذَا الْقَلْبِ، وَإِنْ أَرَادَ سَرِقَةَ شَيْءٍ مِنْهُ رَشَقَتْهُ الْحَرَسُ بِنَبْلِ الْيَقِينِ، وَسِهَامِ الدُّعَاءِ، وَمَنْجَنِيقِ الِالْتِجَاءِ، وَسُيُوفِ الْمَحَبَّةِ وَالْقُرْبِ، وَرُبَّمَا ظَفِرَ مِنْهُ بِخَطْفَةٍ يَخْطَفُهَا أَوْ شُبْهَةٍ يَقْذِفُهَا عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ الْعَبْدِ وَغَيْرَةٍ فِيهِ فَيُشَبِّهُ لَهُ وَتَكُونُ لَهُ عَلَيْهِ الْكَرَّةُ، لِأَنَّهُ بَشَرٌ، وَأَحْكَامُ الْبَشَرِيَّةِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ. فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: لَسْت أَسْكُنُ الْبُيُوتَ وَلَا تَسَعُنِي، وَأَيُّ شَيْءٍ يَسَعُنِي وَأَيُّ بَيْتٍ يَسَعُنِي وَالسَّمَوَاتُ حَشْوُ كُرْسِيٍّ، وَلَكِنْ أَنَا فِي قَلْبِ الْوَادِعِ التَّارِكِ لِكُلِّ شَيْءٍ سِوَايَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا مَعْنَى الْأَثَرِ الْآخَرِ «مَا وَسِعَتْنِي سَمَوَاتِي وَلَا أَرْضِي وَوَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ» . وَقَالَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ الْوَاسِطِيُّ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ: إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا أَقَامَ فِي قَلْبِهِ شَاهِدًا مِنْ ذِكْرِ الْآخِرَةِ يُرِيهِ فَنَاءَ الدُّنْيَا وَزَوَالَهَا، وَبَقَاءَ الْآخِرَةِ وَدَوَامَهَا، فَيَزْهَدُ فِي الْفَانِي وَيَرْغَبُ فِي الْبَاقِي، فَيَبْدَأُ بِالسَّيْرِ وَالسُّلُوكِ فِي طَرِيقِ الْآخِرَةِ. وَأَوَّلُ السَّيْرِ فِيهَا تَصْحِيحُ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْمُحَاسَبَةِ وَرِعَايَةِ الْجَوَارِحِ السَّبْعَةِ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ وَإِلَخْ، وَكَفِّهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَحَارِمِ وَالْمَكَارِهِ وَالْفُضُولِ. هَذَا أَحَدُ شَطْرَيْ الدِّينِ، وَيَبْقَى الشَّطْرُ الْآخَرُ وَهُوَ الْقِيَامُ بِالْأَوَامِرِ، فَتَحْقِيقُ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَنَاهِي مِنْ قَلْبِهِ وَقَالِبِهِ أَمَّا الْقَالِبُ فَلَا يَعْصِي اللَّهَ بِجَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ، وَمَتَى زَلَّ أَوْ أَخْطَأَ تَابَ. وَأَمَّا الْقَلْبُ فَيُنَقَّى مِنْهُ الْمُوبِقَاتُ الْمُهْلِكَاتُ مِثْلُ الرِّيَاءِ وَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْبُغْضِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَرَدِّ الْحَقِّ وَاسْتِثْقَالِهِ وَالِازْدِرَاءِ بِالْخَلْقِ وَمَقْتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي مُقَابَلَةِ الْكَبَائِرِ الْقَالَبِيَّةِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالْقَذْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ كَبَائِرُ ظَاهِرَةٌ وَتِلْكَ كَبَائِرُ بَاطِنَةٌ. قَالَ فَمَنْ انْطَوَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْكَبَائِرِ الْبَاطِنِيَّةِ وَلَمْ يَتُبْ حَبِطَ عَمَلُهُ بِدَلِيلِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» وَجَاءَ أَنَّ «الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» . وَجَاءَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا فَأَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكْته وَشِرْكَهُ» . وَقَالَ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] فَمَتَى تَنَقَّى الْقَلْبُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ وَالرَّذَائِلِ طَهُرَ وَسَكَنَتْ فِيهِ الرَّحْمَةُ فِي مَكَانِ الْبُغْضِ، وَالتَّوَاضُعُ فِي مُقَابَلَةِ الْكِبْرِ، وَالنَّصِيحَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْغِشِّ، وَالْإِخْلَاصُ فِي مُقَابَلَةِ الرِّيَاءِ، وَرُؤْيَةُ الْمِنَّةِ فِي مُقَابَلَةِ الْعُجْبِ وَرُؤْيَةِ النَّفْسِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ تَزْكُو الْأَعْمَالُ وَتَصْعَدُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَيَطْهُرُ الْقَلْبُ، وَيَبْقَى مَحَلًّا لِنَظَرِ الْحَقِّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَمَعُونَتِهِ. فَهَذَا أَحَدُ شَطْرَيْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الدِّينِ، وَهُوَ رِعَايَةُ الْجَوَارِحِ السَّبْعَةِ عَنْ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ، وَإِنَّمَا تَصْلُحُ وَتَطْهُرُ بِرِعَايَةِ الْقَلْبِ وَطَهَارَتِهِ مِنْ الْمُوبِقَاتِ وَالْجَرَائِمِ وَمَعْنَى الْمُوبِقَاتِ الْمُهْلِكَاتُ. مَطْلَبٌ: الْمُوبِقَاتُ السَّبْعُ : أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ الْآفَاتِ كَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ أَنَّ مَنْ طَلَبَ السَّلَامَةَ فَعَلَيْهِ بِحِفْظِ جَوَارِحِهِ السَّبْعِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ بَدَأَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِذِكْرِ آفَاتِ أَسْرَعِهَا حَرَكَةً وَهُوَ اللِّسَانُ فَقَالَ: يَكُبُّ الْفَتَى فِي النَّارِ حَصْدُ لِسَانِهِ ... وَإِرْسَالُ طَرْفِ الْمَرْءِ أَنْكَى فَقَيِّدِ (يَكُبُّ) أَيْ يَقْلِبُ وَيَصْرَعُ، يُقَالُ كَبَّهُ صَرَعَهُ كَأَكَبَّهُ وَكَبْكَبَهُ فَأُكِبَّ، وَهُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ (الْفَتَى) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْفَتَى الشَّابُّ وَالسَّخِيُّ الْكَرِيمُ جَمْعُهُ فِتْيَانُ وَفُتُوَّةٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا يَكُبُّ الْإِنْسَانَ (فِي النَّارِ) الْمَعْهُودَةُ الْمَعْلُومَةُ وَهِيَ نَارُ جَهَنَّمَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، الَّتِي مَنْ دَخَلَهَا خَسِرَ خَسَارَةً عَظِيمَةً وَخَابَتْ مِنْهُ الصَّفْقَةُ وَالتِّجَارَةُ، وَهِيَ إحْدَى الْعَظِيمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يُنْسَيَا. أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ لَا تَنْسَوْا الْعَظِيمَتَيْنِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ ثُمَّ بَكَى حَتَّى جَرَى أَوْ بَلَّ دُمُوعُهُ جَانِبَيْ لِحْيَتِهِ ثُمَّ قَالَ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِنْ الْآخِرَةِ لَمَشَيْتُمْ إلَى الصَّعِيدِ وَلَحَثَيْتُمْ عَلَى رُءُوسِكُمْ التُّرَابَ» . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] فَقَالَ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، وَأَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ لَا يُطْفَأُ لَهَبُهَا» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْأَصْبَهَانِيُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُؤْتَى بِالنَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «نَارُكُمْ هَذِهِ مَا يُوقِدُ بَنُو آدَمَ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، قَالُوا وَاَللَّهِ إنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، قَالَ إنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَزَادُوا فِيهِ «وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ» . وَصِفَاتُ النَّارِ وَأَوْدِيَتِهَا وَجِبَالِهَا وَآبَارِهَا وَحَيَّاتِهَا وَعَقَارِبِهَا وَشَرَرِهَا وَزَقُّومِهَا وَزَمْهَرِيرِهَا وَسَائِرِ مَا فِيهَا مِنْ الَّذِي ذَكَرَهُ لَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَوَّنَهُ الْعُلَمَاءُ مَعْلُومٌ مُفَرَّدٌ فِي كُتُبٍ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ شَافِيًا وَقِسْمًا وَافِيًا فِي كِتَابِنَا (الْبُحُورِ الزَّاخِرَةِ فِي عُلُومِ الْآخِرَةِ) وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلُ الْمِقْدَارِ، اشْتَمَلَ عَلَى الْمَوْتِ وَالْبَرْزَخِ وَالْمَحْشَرِ وَالْمَوْقِفِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَفِيهِ مِنْ نَفَائِسِ الْعُلُومِ، وَجَوَاهِرِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ، دُرَرٌ فَاخِرَةٌ، وَمِنْ ثَمَّ سَمَّيْنَاهُ بِالْبُحُورِ الزَّاخِرَةِ، فَإِنَّهُ اسْمٌ يُوَافِقُ مُسَمَّاهُ، وَلَفْظُهُ يُطَابِقُ مَعْنَاهُ. وَقَدْ أَلَّفَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ كِتَابَهُ حَادِي الْأَرْوَاحِ، إلَى مَنَازِلِ الْأَفْرَاحِ، وَأَلَّفَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ تِلْمِيذُهُ كِتَابَهُ (صِفَةُ النَّارِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ دَارِ الْبَوَارِ) وَجُلُّ مَقَاصِدِ كِتَابِي الْبُحُورِ فِي الْبَابَيْنِ مِنْ الْكِتَابَيْنِ. وَالنَّارُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَأَفْخَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَلَكِنْ ذَكَرْنَا هَذَا لِيُحْذَرَ وَأَكْثَرُ مَا يَكُبُّ الْإِنْسَانَ فِيهَا عَلَى وَجْهِهِ وَمَنْخِرَيْهِ (حَصْدُ لِسَانِهِ) بِمَعْنَى مَحْصُودِهِ، شَبَّهَ مَا يُمْسِكُهُ مِنْ الْكَلَامِ الْحَرَامِ كَالْكُفْرِ وَالْقَذْفِ بِحَصَادِ الزَّرْعِ اسْتِعَارَةً تَحْقِيقِيَّةً بَعْدَ تَشْبِيهِ الْأَلْسِنَةِ بِحَصَادِ الزَّرْعِ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً، وَأَشَارَ النَّاظِمُ بِهَذَا إلَى حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ، قَالَ لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ. ثُمَّ قَالَ أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُك بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْت بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ. ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْت بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ كُفَّ عَلَيْك هَذَا، قُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ ثَكِلَتْك أُمُّك، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ ثُمَّ قَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَفَّ اللِّسَانِ وَضَبْطَهُ وَحَبْسَهُ هُوَ أَصْلُ الْخَيْرِ كُلِّهِ وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ فَقَدْ مَلَكَ أَمْرَهُ وَأَحْكَمَهُ وَضَبَطَهُ. وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي يُسْرٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ أَمْسِكْ هَذَا وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ ثَكِلَتْك أُمُّك هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» وَقَالَ إسْنَادٌ حَسَنٌ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَالْمُرَادُ بِحَصَائِدِ الْأَلْسِنَةِ جَزَاءُ الْكَلَامِ الْمُحَرَّمِ وَعُقُوبَاتُهُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَزْرَعُ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَحْصُدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا زَرَعَ، فَمَنْ زَرَعَ خَيْرًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ حَصَدَ الْكَرَامَةَ وَمَنْ زَرَعَ شَرًّا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ حَصَدَ النَّدَامَةَ. وَظَاهِرُ حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ بِهِ النَّاسُ النَّارَ النُّطْقُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النُّطْقِ يَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ قَرِينُ الشِّرْكِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ الَّتِي عَدَلَتْ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ وَالْقَذْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، كَالْكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي الْقَوْلِيَّةِ، وَكَذَا الْفِعْلِيَّةُ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ قَوْلٍ يَقْتَرِنُ بِهَا يَكُونُ مُعِينًا عَلَيْهَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الْأَجْوَفَانِ الْفَمُ وَالْفَرْجُ» رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» . وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَأَبِي يَعْلَى وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا «مَنْ حَفِظَ مَا بَيْنَ فَقْمَيْهِ وَفَرْجَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَالْفَقْمَانِ هُمَا اللَّحْيَانِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ» . وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِلَفْظِ «مَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ» . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ عَنْهُ مَرْفُوعًا «لَا يَبْلُغُ الْمُؤْمِنُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَخْزُنَ مِنْ لِسَانِهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» . وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْوَدَ بْنِ أَصْرَمَ الْمُحَارِبِيَّ قَالَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ هَلْ تَمْلِكُ لِسَانَك؟ قُلْت مَا أَمْلِكُ إذَا لَمْ أَمْلِكْ لِسَانِي، قَالَ فَهَلْ تَمْلِكُ يَدَك؟ قُلْت مَا أَمْلِكُ إذَا لَمْ أَمْلِكْ يَدِي، قَالَ فَلَا تَقُلْ بِلِسَانِك إلَّا مَعْرُوفًا، وَلَا تَبْسُطْ يَدَك إلَّا إلَى خَيْرٍ» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا «إنَّك لَنْ تَزَالَ سَالِمًا مَا سَكَتَّ، فَإِذَا تَكَلَّمْت كُتِبَ لَك أَوْ عَلَيْك» . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «مَنْ صَمَتَ نَجَا» . وَخَرَّجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ الرَّجُلَ لَيَدْنُو مِنْ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ فَيَتَبَاعَدُ مِنْهَا أَبْعَدَ مِنْ صَنْعَاءَ» . وَخَرَّجَ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ مَرْفُوعًا «إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» . وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَلَامُ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . إذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا، وَفَهِمْت مَضْمُونَ مَا حَرَّرْنَا، تَيَقَّنْت عِظَمَ شَأْنِ اللِّسَانِ. وَمَا يَعُودُ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ. وَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى آفَاتِ اللِّسَانِ وَشُئُونِهِ فِي مَقَامَاتٍ. مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ (الْمَقَامُ الْأَوَّلُ) فِي ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنْهَا الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَمَعْنَى الَّذِي لَا يَعْنِيهِ لَا تَتَعَلَّقُ عِنَايَتُهُ بِهِ وَلَا يَكُونُ مِنْ مَقْصَدِهِ وَمَطْلُوبِهِ. وَالْعِنَايَةُ شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ عَنَاهُ يَعْنِيهِ اهْتَمَّ بِهِ وَطَلَبَهُ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَتْرُكُ مَا لَا عِنَايَةَ لَهُ وَلَا إرَادَةَ بِحُكْمِ الْهَوَى وَطَلَبِ النَّفْسِ بَلْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْإِسْلَامِ وَلِذَا جَعَلَهُ مِنْ حُسْنِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا حَسُنَ إسْلَامُ الْمَرْءِ تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ، وَكَذَا يَنْدُبُ إلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبَاتِ. فَالْمُرَادُ بِتَرْكِهِ مَا لَا يَعْنِي مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُشْتَبِهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَفُضُولِ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، فَإِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 هَذَا كُلَّهُ لَا يَعْنِي الْمُسْلِمَ إذَا كَمُلَ إسْلَامُهُ وَبَلَغَ دَرَجَةَ الْإِحْسَانِ، وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَرَاهُ فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ بِقَلْبِهِ، أَوْ عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِ اللَّهِ مِنْهُ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ فَقَدْ أَحْسَنَ إسْلَامَهُ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ اللَّهِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ قِلَّةَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ» . وَأَخْرَجَ الْخَرَائِطِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي مُطَاعٌ فِي قَوْمِي فَمَا آمُرُهُمْ؟ قَالَ لَهُ مُرْهُمْ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَقِلَّةِ الْكَلَامِ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِمْ» . وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كَانَ فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ، سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنْ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ» . وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاعِنًا إلَّا لِثَلَاثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ، أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ. وَمَنْ حَسَبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ. وَكَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَجُلٌ يَعْنِي أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَلَا تَدْرِي فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يُغْنِيهِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ الصَّحَابِيَّ قُتِلَ شَهِيدًا» . وَأَخْرَجَ الْعُقَيْلِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَكْثَرُ النَّاسِ ذُنُوبًا أَكْثَرُهُمْ كَلَامًا فِيمَا لَا يَعْنِيهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ دَخَلُوا عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي مَرَضِهِ وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ تَهَلُّلِ وَجْهِهِ، فَقَالَ مَا مِنْ عَمَلٍ أَوْثَقُ عِنْدِي مِنْ خَصْلَتَيْنِ، كُنْتُ لَا أَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَكَانَ قَلْبِي سَلِيمًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْ عَلَامَةِ إعْرَاضِ اللَّهِ عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ شُغْلَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ. وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: مَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ حُرِمَ الصِّدْقَ. وَقَالَ مَعْرُوفٌ: كَلَامُ الْعَبْدِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ خِذْلَانٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَرَّ رَجُلٌ بِلُقْمَانَ الْحَكِيمِ وَالنَّاسُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْت عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ؟ قَالَ بَلَى، قَالَ الَّذِي كُنْت تَرْعَى عِنْدَ جَبَلِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ بَلَى، قَالَ فَمَا بَلَغَ بِك مَا أَرَى؟ قَالَ صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَطُولُ السُّكُوتِ عَمَّا لَا يَعْنِينِي. وَمِنْهَا كَثْرَةُ الْكَلَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ. وَقَدْ قَالَ النَّخَعِيُّ: يَهْلِكُ النَّاسُ فِي فُضُولِ الْكَلَامِ وَالْمَالِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «لَا تُكْثِرْ الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تُقَسِّي الْقَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» . وَقَالَ عُمَرُ: مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ. وَخَرَّجَهُ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَكَانَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَأْخُذُ بِلِسَانِهِ وَيَقُولُ: هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ. فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَك، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ: هَذَا أَوْرَدَنِي شَرَّ الْمَوَارِدِ. إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْجَسَدِ إلَّا يَشْكُو ذَرَبَ اللِّسَانِ عَلَى حِدَّتِهِ» . وَذَرَبُ اللِّسَانِ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ جَمِيعًا هُوَ حِدَّتُهُ وَشَرُّهُ وَفُحْشُهُ. وَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ: رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَخَذَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ يَقُولُ وَيْحَك قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ أَوْ اُسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ، وَإِلَّا فَاعْلَمْ أَنَّك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 سَتَنْدَمُ. قَالَ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ لِمَ تَقُولُ هَذَا؟ قَالَ إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ - أُرَاهُ قَالَ - لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ أَشَدَّ حَنَقًا أَوْ غَيْظًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْهُ عَلَى لِسَانِهِ إلَّا قَالَ بِهِ خَيْرًا أَوْ أَمْلَى بِهِ خَيْرًا. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجُ إلَى طُولِ سَجْنٍ مِنْ لِسَانٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اللِّسَانُ أَمِيرُ الْبَدَنِ إذَا جَنَى عَلَى الْأَعْضَاءِ شَيْئًا جَنَتْ، وَإِذَا عَفَّ عَفَّتْ. وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: إنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ فِضَّةٍ فَإِنَّ الصَّمْتَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَوْ كَانَ الْكَلَامُ بِطَاعَةِ اللَّهِ مِنْ فِضَّةٍ فَإِنَّ الصَّمْتَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ ذَهَبٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا ذَرٍّ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا أَدُلُّك عَلَى خَصْلَتَيْنِ هُمَا خَفِيفَتَانِ عَلَى الظَّهْرِ وَأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ غَيْرِهِمَا؟ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ عَلَيْك بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَطُولِ الصَّمْتِ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَمِلَ الْخَلَائِقُ بِمِثْلِهَا» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْلَمَ فَلْيَلْزَمْ الصَّمْتَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ: وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَوْ كُنْتُمْ تَشْتَرُونَ الْكَاغَدَ لِلْحَفَظَةِ لَمَسَكْتُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْكَلَامِ. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: لِمَ لَزِمَتْ السُّكُوتَ؟ قَالَ: إنِّي لَمْ أَنْدَمْ عَلَى السُّكُوتِ قَطُّ، وَقَدْ نَدِمْت عَلَى الْكَلَامِ مِرَارًا. وَفِيمَا قِيلَ: جَرْحُ اللِّسَانِ كَجَرْحِ الْيَدِ. وَقِيلَ: اللِّسَانُ كَلْبٌ عَقُورٌ، إنْ خُلِّيَ عَنْهُ عَقَرَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَنْشَدَ بِلِسَانِهِ: يَمُوتُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ مِنْ لِسَانِهِ ... وَلَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بِرَأْسِهِ ... وَعَثْرَتُهُ بِالرِّجْلِ تَبْرَى عَلَى مَهْلِ وَمِمَّا قِيلَ: قَدْ أَفْلَحَ السَّاكِتُ الصَّمُوتُ ... كَلَامُهُ قَدْ يُعَدُّ قُوتُ مَا كُلُّ نُطْقٍ لَهُ جَوَابٌ ... جَوَابُ مَا تَكْرَهُ السُّكُوتُ وَأَعْجَبُ الْأَمْرِ مِنْ ظَلُومٍ ... مُسْتَيْقِنٍ أَنَّهُ يَمُوتْ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: عَجِبْتُ لِإِدْلَالِ الْغَبِيِّ بِنَفْسِهِ ... وَصَمْتِ الَّذِي قَدْ كَانَ بِالْعِلْمِ أَعْلَمَا وَفِي الصَّمْتِ سَتْرٌ لِلْغَبِيِّ وَإِنَّمَا ... صَحِيفَةُ لُبِّ الْمَرْءِ أَنْ يَتَكَلَّمَا قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: كَانَ الْإِمَامُ مَالِكٌ يَعِيبُ كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَيَقُولُ: لَا يُوجَدُ إلَّا فِي النِّسَاءِ وَالضُّعَفَاءِ. وَفِي خَبَرٍ مَأْثُورٍ: الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي ثَلَاثٍ: السُّكُوتِ وَالْكَلَامِ وَالنَّظَرِ، فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ سُكُوتُهُ فِكْرَةً، وَكَلَامُهُ حِكْمَةً، وَنَظَرُهُ عِبْرَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا الْكَذِبُ، وَهُوَ مِنْ الْآفَاتِ الْعِظَامِ وَالذُّنُوبِ الْجِسَامِ، وَالْبَذَاذَةِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَقَوْلِ الْفُجُورِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي مَحَالِّهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَمِنْهَا الْقَذْفُ، وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُوبِقَاتِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ ذَكَرَ امْرَأً بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ لِيَعِيبَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَاذِ مَا قَالَ فِيهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» . (الْمَقَامُ الثَّانِي) فِي بَعْضِ شُئُونِ مَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. مِنْهَا الشَّهَادَتَانِ، وَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وَأَذْكَارُ الصَّلَوَاتِ، وَأَذْكَارُ الْحَجِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وَالْأَذَانُ، وَأَدَاءُ الشَّهَادَاتِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْحُقُوقِ، وَالْعِتْقُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْعُلُومِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَدَارُهَا عَلَى خَمْسَةِ أَحْكَامٍ: الْوَاجِبِ، وَالْمَنْدُوبِ، وَالْمُبَاحِ، وَالْمَكْرُوهِ، وَالْحَرَامِ، وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى تَرْكِ مَحْظُورٍ وَفِعْلِ مَأْمُورٍ، وَذَلِكَ إمَّا قَوْلٌ وَإِمَّا عَمَلٌ، وَالنِّيَّةُ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ، فَرَجَعَتْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ إلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَجَمِيعُ الْأَقْوَالِ مُتَعَلِّقَةٌ أَحْكَامُهَا بِاللِّسَانِ، وَقَلَّ أَنْ يَخْلُوَ فِعْلٌ عَنْ قَوْلٍ، فَاللِّسَانُ مِنْ أَعْظَمِ جَوَارِحِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ: قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ احْفَظْ لِسَانَك أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ... لَا يَلْدَغَنَّكَ إنَّهُ ثُعْبَانُ كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ صَرِيعِ لِسَانِهِ ... كَانَتْ تَهَابُ لِقَاءَهُ الشُّجْعَانُ وَلَمَّا طُلِبَ مِنْ لُقْمَانَ أَوْ غَيْرِهِ أَطْيَبُ مَا فِي الْحَيَوَانِ أَتَى بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، ثُمَّ طُلِبَ مِنْهُ أَخْبَثُ مَا فِيهِ فَأَتَى بِهِمَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ هُمَا أَطْيَبَا الْحَيَوَانِ إذَا طَابَا، وَأَخْبَثُهُ إذَا خَبُثَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: هَلْ الْكَلَامُ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ أَمْ الْعَكْسُ؟ (الْمَقَامُ الثَّالِثُ) : فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِمَا ذَكَرْنَا. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَلْ الْكَلَامُ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ أَمْ عَكْسُهُ أَفْضَلُ؟ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْكَلَامَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّحْلِيَةِ، وَالسُّكُوتُ مِنْ التَّخْلِيَةِ، وَالتَّحْلِيَةُ أَفْضَلُ، وَلِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حَصَلَ لَهُ مَا حَصَلَ لِلسَّاكِتِ وَزِيَادَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ غَايَةَ مَا يَحْصُلُ لِلسَّاكِتِ السَّلَامَةُ وَهِيَ حَاصِلَةٌ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْخَيْرِ مَعَ ثَوَابِ الْخَيْرِ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: تَذَاكَرُوا عِنْدَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَيُّمَا أَفْضَلُ الصَّمْتُ أَوْ النُّطْقُ؟ فَقَالَ قَوْمٌ الصَّمْتُ أَفْضَلُ، فَقَالَ الْأَحْنَفُ النُّطْقُ أَفْضَلُ، لِأَنَّ فَضْلَ الصَّمْتِ لَا يَعْدُو صَاحِبَهُ، وَالْمَنْطِقُ الْحَسَنُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الصَّامِتُ عَلَى عِلْمٍ كَالْمُتَكَلِّمِ عَلَى عِلْمٍ، فَقَالَ عُمَرُ: إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى عِلْمٍ، أَفْضَلَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَالًا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِلنَّاسِ وَهَذَا صَمْتُهُ لِنَفْسِهِ. قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَيْفَ بِفِتْنَةِ الْمَنْطِقِ، فَبَكَى عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ بُكَاءً شَدِيدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 قَالَ الْحَافِظُ: وَلَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا فَرَقَّ النَّاسُ وَبَكَوْا، فَقَطَعَ خُطْبَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ لَوْ أَتْمَمْت كَلَامَك رَجَوْنَا أَنْ يَنْفَعَ اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ الْقَوْلَ فِتْنَةٌ، وَالْفِعْلُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِ مِنْ الْقَوْلِ. قَالَ الْحَافِظُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَكُنْت مِنْ مُدَّةٍ قَدْ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَنَامِ وَسَمِعْته يَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَظُنُّ أَنِّي فَاوَضْتُهُ فِيهَا وَفَهِمْت مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْخَيْرِ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ وَأَظُنُّ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ ذِكْرُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ الصَّمْتُ مَنَامُ الْعَقْلِ وَالْمَنْطِقُ يَقَظَتُهُ، وَلَا يَتِمُّ حَالٌ إلَّا بِحَالٍ، يَعْنِي لَا بُدَّ مِنْ الصَّمْتِ وَالْكَلَامِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ وَكَانَ أَحَدَ الْحُكَمَاءِ يَقُولُ: إذَا كَانَ الْمَرْءُ يُحَدِّثُ فِي مَجْلِسٍ فَأَعْجَبَهُ الْحَدِيثُ فَلْيَسْكُتْ، وَإِذَا كَانَ سَاكِتًا فَأَعْجَبَهُ السُّكُوتُ فَلْيُحَدِّثْ. قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا حَسَنٌ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ سُكُوتُهُ وَحَدِيثُهُ بِمُخَالَفَةِ هَوَاهُ وَإِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَدِيرًا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إيَّاهُ وَتَسْدِيدِهِ فِي نُطْقِهِ وَسُكُوتِهِ، لِأَنَّ كَلَامَهُ وَسُكُوتَهُ يَكُونُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ «عَلَامَةُ الطُّهْرِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُ الْعَبْدِ عِنْدِي مُعَلَّقًا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْسَنِي عَلَى حَالٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَنَنْت عَلَيْهِ بِالِاشْتِغَالِ بِي لَا يَنْسَانِي، فَإِذَا نَسِيَنِي حَرَّكْت قَلْبَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِي وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ لِي، فَذَلِكَ الَّذِي يَأْتِيهِ الْمَعُونَةُ مِنْ عِنْدِي» رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْجُنَيْدِ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ: وَبِكُلِّ حَالٍ فَالْتِزَامُ الصَّمْتِ وَاعْتِقَادُهُ قُرْبَةً إمَّا مُطْلَقًا أَوْ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ كَالْحَجِّ وَالِاعْتِكَافِ وَالصِّيَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ صِيَامِ الصَّمْتِ» . وَخَرَّجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّمْتِ فِي الْعُكُوفِ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِامْرَأَةٍ حَجَّتْ مُصْمِتَةً: إنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ آبَائِهِ أَنَّهُ قَالَ: صَوْمُ الصَّمْتِ حَرَامٌ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: أَيُّ الْجَارِحَتَيْنِ أَفْضَلُ اللِّسَانُ أَمْ الْعَيْنَانِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَيُّ الْجَارِحَتَيْنِ أَفْضَلُ اللِّسَانُ أَمْ الْعَيْنَانِ؟ لَا شَكَّ أَنَّ أَشْرَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مَحَلُّ الْعِلْمِ مِنْهُ وَهُوَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَلَمَّا كَانَ الْقَلْبُ هُوَ مَحَلُّ الْعِلْمِ، وَالسَّمْعُ رَسُولُهُ الَّذِي يَأْتِي بِهِ، وَالْعَيْنُ طَلِيعَتُهُ، كَانَ مَلِكًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ يَأْمُرُهَا فَتَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، وَيَصْرِفُهَا فَتَنْقَادُ لَهُ طَائِعَةً بِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ دُونَهَا، فَلِذَلِكَ كَانَ مَلِكَهَا وَالْمُطَاعَ فِيهَا. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: اللِّسَانُ أَحَدُ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تُرْجُمَانُ مَلِكِ الْأَعْضَاءِ يُبَيِّنُ عَنْهُ وَيُبَلِّغُ عَنْ مَقَاصِدِهِ وَمُرَادَاتِهِ، فَجَعَلَهُ سُبْحَانَهُ تُرْجُمَانًا لِمَلِكِ الْأَعْضَاءِ الَّذِي هُوَ الْقَلْبُ مُبَيِّنًا عَنْهُ، كَمَا جَعَلَ الْأُذُنَ رَسُولًا مُؤَدِّيًا مُبَلِّغًا إلَيْهِ، فَهِيَ رَسُولُهُ وَبَرِيدُهُ الَّذِي يُؤَدِّي إلَيْهِ الْأَخْبَارَ، وَاللِّسَانُ رَسُولُهُ وَبَرِيدُهُ الَّذِي يُؤَدِّي عَنْهُ مَا يُرِيدُ. وَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ جُعِلَ هَذَا الرَّسُولُ مَصُونًا، مَحْفُوظًا مَسْتُورًا غَيْرَ بَارِزٍ مَكْشُوفٍ كَالْأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَالْأَنْفِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَعْضَاءَ لَمَّا كَانَتْ تُؤَدِّي مِنْ الْخَارِجِ إلَيْهِ جُعِلَتْ بَارِزَةً ظَاهِرَةً، وَلَمَّا كَانَ اللِّسَانُ مُؤَدِّيًا مِنْهُ إلَى الْخَارِجِ جُعِلَ مَسْتُورًا مَصُونًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي إخْرَاجِهِ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ خَارِجٍ إلَى الْقَلْبِ. قَالَ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ بَعْدَ الْقَلْبِ، وَمَنْزِلَتُهُ مِنْهُ مَنْزِلَةُ تَرْجُمَانِهِ وَوَزِيرِهِ، ضُرِبَ عَلَيْهِ سُرَادِقٌ يَسْتُرُهُ وَيَصُونُهُ، وَجُعِلَ فِي ذَلِكَ السُّرَادِقِ كَالْقَلْبِ فِي الصَّدْرِ. فَعُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ بَعْدَ الْقَلْبِ اللِّسَانُ، وَهُوَ كَذَلِكَ. مَطْلَبٌ هَلْ السَّمْعُ أَفْضَلُ أَمْ الْبَصَرُ ؟ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَمَّا كَانَ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنْ الْإِدْرَاكِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ كَانَا فِي أَشْرَفِ جُزْءٍ مِنْ الْإِنْسَانِ وَهُوَ وَجْهُهُ. وَاخْتُلِفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ: السَّمْعُ أَفْضَلُ مِنْ الْبَصَرِ. قَالُوا لِأَنَّهُ بِهِ تُنَالُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَحْصُلُ بِمُتَابَعَةِ الرُّسُلِ وَقَبُولِ رِسَالَاتِهِمْ، وَبِالسَّمْعِ عُرِفَ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ لَا سَمْعَ لَهُ لَا يَعْلَمُ مَا جَاءُوا بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّمْعَ يُدْرَكُ بِهِ أَجَلُّ شَيْءٍ وَأَفْضَلُهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَى الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَأَيْضًا إنَّمَا تُنَالُ الْعُلُومُ بِالتَّفَاهُمِ وَالتَّخَاطُبِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّمْعِ، وَمُدْرَكُ السَّمْعِ أَعَمُّ مِنْ مُدْرَكِ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُ يُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَالشَّاهِدَ وَالْغَائِبَ، وَالْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُدْرِكُ بَعْضَ الْمُشَاهَدَاتِ، وَالسَّمْعُ يَسْمَعُ كُلَّ عِلْمٍ، فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ. وَلَوْ فَرَضْنَا شَخْصَيْنِ أَحَدُهُمَا يَسْمَعُ كَلَامَ الرَّسُولِ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ، وَالْآخَرُ بَصِيرٌ يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ لِصَمَمِهِ هَلْ كَانَا سَوَاءً؟ وَأَيْضًا فَفَاقِدُ الْبَصَرِ إنَّمَا يَفْقِدُ إدْرَاكَ بَعْضِ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُشَاهَدَةِ وَيُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهَا بِالصِّفَةِ وَلَوْ تَقْرِيبًا بِخِلَافِ فَاقِدِ السَّمْعِ، فَإِنَّ الَّذِي فَاتَهُ مِنْ الْعِلْمِ لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكُفَّارَ بِعَدَمِ السَّمْعِ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ ذَمِّهِ لَهُمْ بِعَدَمِ الْبَصَرِ، بَلْ إنَّمَا يَذُمُّهُمْ بِعَدَمِ الْبَصَرِ تَبَعًا لِعَدَمِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ. وَأَيْضًا الَّذِي يُورِدُهُ السَّمْعُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ الْعُلُومِ لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ كَلَالٌ وَلَا سَآمَةٌ وَلَا تَعَبٌ مَعَ كَثْرَتِهِ وَعِظَمِهِ، بِخِلَافِ الَّذِي يُورِدُهُ الْبَصَرُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ الْكَلَالُ وَالضَّعْفُ وَالنَّقْصُ، وَرُبَّمَا خَشِيَ صَاحِبُهُ عَلَى ذَهَابِهِ مَعَ قِلَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى السَّمْعِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ قُتَيْبَةَ: بَلْ الْبَصَرُ أَفْضَلُ، فَإِنَّ أَعْلَى النَّعِيمِ لَذَّةً وَأَفْضَلَهُ مَنْزِلَةً النَّظَرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي دَارِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا إنَّمَا يُنَالُ بِالْبَصَرِ، وَهَذِهِ وَحْدَهَا كَافِيَةٌ فِي تَفْضِيلِهِ. قَالُوا وَهُوَ مُقَدِّمَةُ الْقَلْبِ وَطَلِيعَتُهُ وَرَائِدُهُ، فَمَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ أَقْرَبُ مِنْ مَنْزِلَةِ السَّمْعِ، وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يُقْرَنُ بَيْنَهُمَا فِي الذِّكْرِ كَقَوْلِهِ {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] فَالِاعْتِبَارُ بِالْقَلْبِ وَالْبَصَرُ بِالْعَيْنِ. وَقَوْلُهُ {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] وَلَمْ يَقُلْ وَأَسْمَاعَهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وَقَالَ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْوَصْلَةِ وَالِارْتِبَاطِ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ. وَلَمَّا كَانَ الْقَلْبُ أَشْرَفَ الْأَعْضَاءِ كَانَ أَشَدَّهَا ارْتِبَاطًا بِهِ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَأْمَنُهُ الْقَلْبُ عَلَى مَا لَا يَأْمَنُ السَّمْعَ عَلَيْهِ، بَلْ إذَا ارْتَابَ مِنْ جِهَةٍ عَرَضَ مَا يَأْتِيهِ بِهِ عَلَى الْبَصَرِ لِيُزَكِّيَهُ أَوْ يَرُدَّهُ، فَالْبَصَرُ حَاكِمٌ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ. قَالُوا: وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مَرْفُوعًا «لَيْسَ الْمُخْبَرُ كَالْمُعَايِنِ» وَلِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى بِأَنَّ قَوْمَهُ اُفْتُتِنُوا مِنْ بَعْدِهِ وَعَبَدُوا الْعِجْلَ فَلَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ مَا لَحِقَهُ عِنْدَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ وَمُعَايَنَتِهِ مِنْ إلْقَاءِ الْأَلْوَاحِ وَكَسْرِهَا لِقُوَّةِ الْمُعَايَنَةِ عَلَى الْخَبَرِ. وَهَذَا إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ سَأَلَ رَبَّهُ يُرِيهِ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِخَبَرِ اللَّهِ لَهُ، وَلَكِنْ طَلَبَ أَفْضَلَ الْمَنَازِلِ وَهِيَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ. قَالُوا: وَلِلْيَقِينِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ، أَوَّلُهَا السَّمْعُ، وَثَانِيهَا الْعَيْنُ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعَيْنِ الْيَقِينِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى وَأَكْمَلُ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا. قَالُوا: وَأَيْضًا فَالْبَصَرُ يُؤَدِّي إلَى الْقَلْبِ وَيُؤَدِّي عَنْهُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ مِرْآةُ الْقَلْبِ يَظْهَرُ فِيهَا مَا يُحِبُّهُ مِنْ الْبُغْضِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ، وَالسُّرُورِ وَالْحُزْنِ، وَأَمَّا الْأُذُنُ فَلَا تُؤَدِّي عَنْ الْقَلْبِ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا مَرْتَبَتُهَا الْإِيصَالُ إلَيْهِ حَسْبُ، فَالْعَيْنُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِهِ. قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهُ خَاصِّيَّةٌ فَضَلَ بِهَا الْآخَرَ، فَالْمُدْرَكُ بِالسَّمْعِ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَالْمُدْرَكُ بِالْبَصَرِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ. فَالسَّمْعُ لَهُ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ، وَالْبَصَرُ لَهُ الظُّهُورُ وَالتَّمَامُ وَكَمَالُ الْإِدْرَاكِ. وَأَمَّا نَعِيمُ الْجَنَّةِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا النَّظَرُ إلَى اللَّهِ. وَالثَّانِي: سَمَاعُ خِطَابِهِ وَكَلَامِهِ كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ بْنُ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي السُّنَّةِ وَغَيْرِهِ: كَأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ إذَا سَمِعُوهُ مِنْ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَلَامَهُ عَلَيْهِمْ وَخِطَابَهُ لَهُمْ وَمُحَاضَرَتَهُ إيَّاهُمْ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ قَطُّ، وَلَا يَكُونُ أَطْيَبَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا. وَلِهَذَا يَذْكُرُ سُبْحَانَهُ فِي وَعِيدِ أَعْدَائِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ كَمَا يَذْكُرُ أَصْحَابُهُ عَنْهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ، فَكَلَامُهُ وَرُؤْيَتُهُ أَعْلَى نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: وَاخْتَلَفَ النُّظَّارُ فِي الضَّرِيرِ وَالْأَطْرَشِ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إلَى الْكَمَالِ وَأَقَلُّ اخْتِلَالًا لِأُمُورِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَيُّ الصِّفَتَيْنِ أَكْمَلُ، صِفَةِ السَّمْعِ أَوْ صِفَةِ الْبَصَرِ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَا قَدَّمْنَا وَأَنَّهُ أَيُّ الصِّفَتَيْنِ كَانَ أَكْمَلَ فَالضَّرَرُ بِعَدَمِهَا أَقْوَى. ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ يُقَالَ: عَادِمُ الْبَصَرِ أَشَدُّهُمَا ضَرَرًا، وَأَسْلَمُهُمَا دِينًا وَأَحْمَدُهُمَا عَاقِبَةً. وَعَادِمُ السَّمْعِ أَقَلُّهُمَا ضَرَرًا فِي دُنْيَاهُ، وَأَجْهَلُهُمَا بِدِينِهِ، وَأَسْوَأُ عَاقِبَةً، فَإِنَّهُ إذَا عَدِمَ السَّمْعَ عَدِمَ الْمَوَاعِظَ وَالنَّصَائِحَ، وَانْسَدَّتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَانْفَتَحَ لَهُ طُرُقُ الشَّهَوَاتِ الَّتِي يُدْرِكُهَا الْبَصَرُ، وَلَا يَنَالُهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَكُفُّهُ عَنْهَا. فَضَرَرُهُ فِي دِينِهِ أَكْثَرُ، وَضَرَرُ الْأَعْمَى فِي دُنْيَاهُ أَكْثَرُ. وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَطْرَشُ، وَكَانَ فِيهِمْ جَمَاعَةٌ أَضِرَّاءُ، وَقَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ بِالطَّرَشِ، وَيَبْتَلِي كَثِيرًا مِنْهُمْ بِالْعَمَى. فَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَضَرَّةُ الطَّرَشِ فِي الدِّينِ، وَمَضَرَّةُ الْعَمَى فِي الدُّنْيَا، وَالْمُعَافَى مَنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْهُمَا وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَجَعَلَهُ الْوَارِثَ مِنْهُ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَلْبَ أَفْضَلُ الْجَوَارِحِ، إذْ هُوَ الْمَلِكُ، ثُمَّ اللِّسَانَ، ثُمَّ السَّمْعَ لِسَعَةِ إدْرَاكِهِ، ثُمَّ الْبَصَرُ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَخِيرَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلَا خِلَافَ فِيهِمَا فِيمَا عَلِمْنَا. وَلِذَا يُلْحَقُ مَنْ عَدِمَ الْبَيَانَيْنِ بَيَانَ اللِّسَانِ وَبَيَانَ الْجِنَانِ بِالْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، بَلْ هِيَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْهُ، وَإِنْ عَدِمَ بَيَانَ اللِّسَانِ وَحْدَهُ عَدِمِ خَاصِّيَّةَ الْإِنْسَانِ وَهِيَ النُّطْقُ وَاشْتَدَّتْ الْمُؤْنَةُ بِهِ وَعَلَيْهِ، وَعَظُمَتْ حَسْرَتُهُ فَطَالَ تَأَسُّفُهُ عَلَى رَدِّ الْجَوَابِ وَرَجْعِ الْخِطَابِ، فَهُوَ كَالْمُقْعَدِ الَّذِي يَرَى مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَلَا تَمْتَدُّ يَدُهُ إلَيْهِ. فَجَلَّ شَأْنُ اللَّهِ كَمْ لَهُ مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى عِبَادِهِ سَابِغَةٍ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى وَالْمَنَافِعِ، فَحِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ بَالِغَةٌ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ شَرِيفَةٌ قَلَّ أَنْ تَعْثُرَ عَلَيْهَا فِي كِتَابٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَطْلَبٌ هَلْ الْمَلَكَانِ يَكْتُبَانِ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُهُ الْإِنْسَانُ (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) هَلْ الْمَلَكَانِ الْكَرِيمَانِ الْكَاتِبَانِ يَكْتُبَانِ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ، أَوْ لَا يَكْتُبَانِ إلَّا مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، حَتَّى أَنَّهُ لَيَكْتُبُ قَوْلَ أَكَلْت وَشَرِبْت وَذَهَبْت وَجِئْت، حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ عَرَضَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ فَأُقِرَّ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ وَأُلْغِيَ سَائِرُهُ، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَقَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَاَلَّذِي عَنْ شِمَالِهِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَفِي الصَّحِيحِ «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ وَالْمَلَكُ عَنْ يَمِينِهِ» . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا «أَنَّ عَنْ يَمِينِهِ كَاتِبَ الْحَسَنَاتِ» . وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: رَكِبَ رَجُلٌ حِمَارًا فَعَثَرَ بِهِ، فَقَالَ تَعِسَ الْحِمَارُ، فَقَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ مَا هِيَ حَسَنَةٌ أَكْتُبُهَا، وَقَالَ صَاحِبُ الْيَسَارِ مَا هِيَ سَيِّئَةٌ فَأَكْتُبُهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ مَا تَرَكَ صَاحِبُ الْيَمِينِ مِنْ شَيْءٍ فَاكْتُبْهُ، فَأَثْبَتَ فِي السَّيِّئَاتِ تَعِسَ الْحِمَارُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ فَهُوَ سَيِّئَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ بَعْضَ السَّيِّئَاتِ قَدْ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَقَعُ مُكَفَّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ زَمَانَهَا قَدْ خَسِرَهُ صَاحِبُهَا حَيْثُ ذَهَبَ بَاطِلًا، فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ حَسْرَةٌ فِي الْقِيَامَةِ وَأَسَفٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَوْعُ عُقُوبَةٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَإِرْسَالُ) أَيْ إطْلَاقُ وَتَسْلِيطُ (طَرْفِ) أَيْ عَيْنِ (الْمَرْءِ) بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ: الْإِنْسَانُ أَوْ الرَّجُلُ وَلَا جَمْعَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمَا قِيلَ إنَّهُ جَمْعُ مُرْءُونَ فَشَاذٌّ، وَالْأُنْثَى مَرْأَةٌ وَيُقَالُ مَرَةٌ وَالِامْرَأَةُ. وَفِي امْرِئٍ مَعَ أَلِفِ الْوَصْلِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ فَتْحُ الرَّاءِ دَائِمًا وَضَمُّهَا دَائِمًا وَإِعْرَابُهَا دَائِمًا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ. قَالَ وَنَقُول هَذَا امْرُؤٌ وَمَرْوٌ وَرَأَيْت امْرَأً وَمَرْءًا وَمَرَرْت بِامْرِئٍ مُعْرَبًا مِنْ مَكَانَيْنِ انْتَهَى. وَالطَّرْفُ لَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ أَوْ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْبَصَرِ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَقِيلَ أَطْرَافٌ، وَالْمُرَادُ إطْلَاقُ بَصَرِ الْإِنْسَانِ بِالنَّظَرِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أَنْكَى) أَيْ أَشَدُّ نِكَايَةً. قَالَ فِي الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ: نَكَيْت فِي الْعَدُوِّ نِكَايَةً إذَا قَتَلَ فِيهِمْ وَجَرَحَ. يَعْنِي أَنَّ إرْسَالَ الطَّرْفِ أَشَدُّ نِكَايَةً مِنْ حَصْدِ اللِّسَانِ، فَيَكُبُّ صَاحِبَهُ فِي قَعْرِ النِّيرَانِ، إنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ إلَيْهِ مِنْ الْجَوَارِي وَالْغِلْمَانِ. وَلِذَا قَالَ (فَقَيِّدِ) أَيْ احْبِسْهُ وَلَا تُرْسِلْهُ وَتَتْرُكْهُ مُهْمَلًا فَإِنَّهُ يُورِدُك مَوَارِدَ الْعَطَبِ، وَيَتْرُكُ بِهِ الْوَصَبَ وَالنَّصَبَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ اللِّسَانِ وَأَتْبَعَهُ بِالْبَصَرِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الْقَلْبِ كَمَا أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَعَاصِي إنَّمَا تَتَوَلَّدُ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ وَإِرْسَالِ النَّظَرِ وَهُمَا أَوْسَعُ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ جَارِحَتَهُمَا لَا تُمْلَآنِ بِخِلَافِ الْبَطْنِ فَإِنَّهُ مَتَى امْتَلَأَ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِي الطَّعَامِ إرَادَةٌ. وَأَمَّا الْعَيْنُ وَاللِّسَانُ فَلَوْ تُرِكَا لَمْ يَفْتُرَا مِنْ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ أَبَدًا، كَمَا قِيلَ: أَرْبَعٌ لَا تَشْبَعُ مِنْ أَرْبَعٍ: عَيْنٌ مِنْ نَظَرٍ، وَأُذُنٌ مَنْ خَبَرٍ، وَأَرْضٌ مِنْ مَطَرٍ، وَأُنْثَى مِنْ ذَكَرٍ. وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: عَالِمٌ مِنْ أَثَرٍ. ثُمَّ إنَّ فُضُولَ النَّظَرِ هُوَ أَصْلُ الْبَلَاءِ لِأَنَّهُ رَسُولُ الْفَرْجِ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَطَرْفُ الْفَتَى يَا صَاحِ رَائِدُ فَرْجِهِ ... وَمُتْعِبُهُ فَاغْضُضْهُ مَا اسْطَعْتَ تَهْتَدِ (وَطَرْفُ الْفَتَى) أَيْ بَصَرُهُ وَنَظَرُهُ (يَا صَاحِ) مُرَخَّمُ صَاحِبٍ وَتَرْخِيمُهُ شَاذٌّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَلَمٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ نِدَاؤُهُ وَاسْتَفَاضَ تَدَاوُلُهُ سَاغَ تَرْخِيمُهُ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَنْفَكُّ فِي سَفَرِهِ وَإِقَامَتِهِ مِنْ صَاحِبٍ يُعِينُهُ فَيُنَادِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ (رَائِدُ) أَيْ رَسُولُ (فَرْجِهِ) أَيْ فَرْجِ الْفَتَى وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الرَّوْدِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرَّائِدُ الْمُرْسَلُ فِي طَلَبِ الْكَلَإِ. انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ «الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ الْبِشَارَةِ الْعُظْمَى فِي أَنَّ حَظَّ الْمُؤْمِنِ مِنْ النَّارِ الْحُمَّى. وَالْفَرْجُ الْعَوْرَةُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ: وَالْفَرْجُ مِنْ الْإِنْسَانِ يُطْلَقُ عَلَى الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِجٌ أَيْ مُنْفَتِحٌ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ عُرْفًا فِي الْقُبُلِ (وَ) طَرْفُ الْفَتَى (مُتْعِبُهُ) أَيْ سَبَبُ تَعَبِهِ وَسَلْبِهِ الِاسْتِرَاحَةَ مَتَى أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَغْضُضْهُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ (فَاغْضُضْهُ) أَيْ اخْفِضْهُ وَاحْتَمِلْ الْمَكْرُوهَ مِنْهُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: غَضَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 طَرْفَهُ أَيْ كَسَرَهُ وَأَطْرَقَ وَلَمْ يَفْتَحْ عَيْنَهُ. وَفِي قَصِيدَةِ كَعْبٍ وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا ... إلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ مَطْلَبٌ فِي غَضِّ الطَّرْفِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ هِشَامٍ فِي شَرْحِهِ لِقَصِيدَةِ كَعْبٍ: غَضُّ الطَّرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ التَّحْدِيقِ وَاسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، فَتَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي الطَّرْفِ كَسْرًا وَفُتُورًا خِلْقِيَّيْنِ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي كَلَامِ كَعْبٍ، وَتَارَةً يَكُونُ لِقَصْدِ الْكَفِّ عَنْ التَّأَمُّلِ حَيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْمُرَادُ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ، فَإِنَّ مُرَادَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَاغْضُضْ طَرْفَك امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ (مَا اسْطَعْتَ) أَيْ مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِكَ، يُقَالُ اسْتَطَاعَ وَاسْطَاعَ بِحَذْفِ التَّاءِ تَخْفِيفًا لِأَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَهَا مَعَ الطَّاءِ وَيَكْرَهُونَ إدْغَامَ التَّاءِ فِيهَا فَتُحَرَّكُ السِّينُ وَهِيَ لَا تُحَرَّكُ أَبَدًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ {فَمَا اسْتَطَاعُوا} [يس: 67] بِالْإِدْغَامِ فَجَمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ. وَبَعْضُ الْعَرَبِ تَقُولُ اسْتَاعَ يَسْتِيعُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إسْطَاعَ يَسْطِيعُ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى أَطَاعَ يُطِيعُ وَمَعْنَى ذَلِكَ طَاقَ (تَهْتَدِ) أَيْ تَرْشُدُ بِغَضِّ طَرْفِك لِامْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّك وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّك، وَتَسْلَمُ مِنْ غَائِلَةِ النَّظَرِ وَتَعَبِهِ وَجُرْمِهِ وَوَصَبِهِ. أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا فِي قَلْبِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ يَنْظُرُ إلَى امْرَأَةٍ أَوَّلَ رَمْقَةٍ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ إنَّمَا أَرَادَ إنْ صَحَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَيَصْرِفَ بَصَرَهُ عَنْهَا تَوَرُّعًا. وَرَوَى الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنًا خَرَجَ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَبَا حَبِيبٍ الْعَبْقَرِيَّ وَيُقَالُ لَهُ الْغَنَوِيُّ فَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ لَا تَرَى أَعْيُنُهُمْ النَّارَ: عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ كَفَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَاعْتَرَضَهُ الْمُنْذِرِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ، اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إذَا اُؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «يَا عَلِيُّ إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا، فَلَا تُتْبِعُ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْأُخْرَى» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ» وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ «إنَّك ذُو قَرْنَيْهَا» أَيْ ذُو قَرْنَيْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ شَجَّتَانِ فِي قَرْنَيْ رَأْسِهِ أَحَدُهُمَا مِنْ ابْنِ مُلْجِمٍ لَعَنَهُ اللَّهُ وَالْأُخْرَى مِنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ. قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّبْصِرَةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا: وَفِي الضَّمِيرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ تَقَدَّمَ لَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] يَعْنِي الشَّمْسَ. الثَّانِي عَنْ الْجَنَّةِ. وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ بِذِي الْقَرْنَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ إنْ قُلْنَا أَنَّ الْكِنَايَةَ عَنْ الْأُمَّةِ فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَتَيْنِ، الْأُولَى ضَرَبَهُ إيَّاهَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ، الثَّانِيَةُ ابْنُ مُلْجِمٍ، كَمَا ضُرِبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ ضَرْبَةً بَعْدَ ضَرْبَةٍ. وَإِنْ قُلْنَا الْكِنَايَةُ عَنْ الْجَنَّةِ فَقَرْنَاهَا جَانِبَاهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّك ذُو قَرْنَيْ الْجَنَّةِ أَيْ ذُو طَرَفَيْهَا وَمَلِكُهَا الْمُمَكَّنُ فِيهَا الَّذِي يَسْلُكُ جَمِيعَ نَوَاحِيهَا كَمَا سَلَكَ الْإِسْكَنْدَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 جَمِيعَ نَوَاحِي الْأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي كِتَابِي الْجَوَابِ الْمُحَرَّرِ فِي الْكَشْفِ عَنْ الْخَضِرِ وَالْإِسْكَنْدَرِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ» إلَخْ رُبَّمَا تَحَايَلَ أَحَدٌ جَوَازَ الْقَصْدِ لِلْأُولَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْأُولَى الَّتِي لَمْ يَقْصِدْهَا. وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النَّظْرَةِ الْفَجْأَةِ قَالَ اصْرِفْ نَظَرَك» قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ يَحْضُرْهَا الْقَلْبُ، وَلَا يَتَأَمَّلُ بِهَا الْمَحَاسِنَ، وَلَا يَقَعُ الِالْتِذَاذُ بِهَا، فَمَتَى اسْتَدَامَهَا مِقْدَارَ حُضُورِ الذِّهْنِ كَانَتْ كَالثَّانِيَةِ فِي الْإِثْمِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد «وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ، وَالْفَمُ يَزْنِي فَزِنَاهُ الْقُبَلُ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْفَرْجُ يَزْنِي» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «الْإِثْمُ حَوَّازُ الْقُلُوبِ وَمَا مِنْ نَظْرَةٍ إلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهَا مَطْمَعٌ» وَمَعْنَى حَوَّازُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَهُوَ مَا يَحُوزُهَا وَيَغْلِبُ عَلَيْهَا حَتَّى تَرْتَكِبَ مَا لَا يَحْسُنُ، وَقِيلَ بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ جَمْعُ حَازَّةٍ وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي تَحُزُّ فِي الْقُلُوبِ وَتَحُكُّ وَتُؤَثِّرُ وَتَتَخَالَجُ فِي الْقُلُوبِ فَتَكُونُ مَعَاصِيَ، وَهَذَا أَشْهَرُ. وَمِنْهُ «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَتَغُضُّنَّ أَبْصَارَكُمْ، وَلَتَحْفَظُنَّ فُرُوجَكُمْ، أَوْ لَيَكْسِفَنَّ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ صَبَاحٍ إلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ وَيْلٌ لِلرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ، وَوَيْلٌ لِلنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ» . وَفِي التَّبْصِرَةِ: كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: النَّظْرَةُ تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ وَكَفَى بِهَا خَطِيئَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ أَطْلَقَ طَرْفَهُ كَثُرَ أَسَفُهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ: أَمَّا اللَّحَظَاتُ فَهِيَ رَائِدَةُ الشَّهْوَةِ وَرَسُولُهَا، وَحِفْظُهَا أَصْلُ حِفْظِ الْفَرْجِ، فَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ أَوْرَدَهُ مَوَارِدَ الْهَلَكَاتِ. وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَجَالِسُنَا مَا لَنَا مِنْهَا بُدٌّ، قَالَ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ. قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ» . وَقَدْ نَظَمَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ آدَابَ الْجُلُوسِ عَلَى الطَّرِيقِ فِي قَوْلِهِ: جَمَعْت آدَابَ مَنْ رَامَ الْجُلُوسَ عَلَى الطَّ ... رِيقِ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْخَلْقِ إنْسَانَا أَفْشِ السَّلَامَ وَأَحْسِنْ فِي الْكَلَامِ وَشَ ... مِّتْ عَاطِسًا وَسَلَامًا زَادَ إحْسَانَا فِي الْحَمْلِ عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ وَأَغِثْ ... لَهْفَانَ وَارْشِدْ سَبِيلًا وَاهْدِ حَيْرَانَا بِالْعُرْفِ مُرْ وَانْهَ عَنْ نُكْرٍ وَكُفَّ أَذًى ... وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْرَ مَوْلَانَا وَزَادَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْبَاقِي الْحَنْبَلِيُّ وَالِدُ أَبِي الْمَوَاهِبِ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ بَيْتًا وَهُوَ: وَالصُّمَّ وَالْعُمْيَ أَبْلِغْ ثُمَّ دُلَّ عَلَى الْ ... حَاجَاتِ وَالْأَغْبِيَا كُنْ صَاحِ فَطَّانَا قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ: وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ، فَإِنَّ النَّظْرَةَ تُولِدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُولِدُ الْخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُولِدُ الْفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُولِدُ الشَّهْوَةُ إرَادَةً، ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً فَيَقَعُ الْفِعْلُ وَلَا بُدَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ. وَفِي هَذَا قِيلَ: الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ الطَّرْفِ أَيْسَرُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمٍ بَعْدَهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنْ النَّظَرِ ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ كَمْ نَظْرَةً فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا ... فَتْكَ السِّهَامِ بِلَا قَوْسٍ وَلَا وَتَرِ وَالْعَبْدُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا ... فِي أَعْيُنِ الْغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى خَطَرِ يَسُرُّ نَاظِرَهُ مَا ضَرَّ خَاطِرَهُ ... لَا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ: فُضُولُ النَّظَرِ أَصْلُ الْبَلَاءِ لِأَنَّهُ رَسُولُ الْفَرْجِ، أَعْنِي الْآفَةَ الْعُظْمَى وَالْبَلِيَّةَ الْكُبْرَى، وَالزِّنَا إنَّمَا يَكُونُ سَبَبُهُ فِي الْغَالِبِ النَّظَرَ، فَإِنَّهُ يَدْعُو إلَى الِاسْتِحْسَانِ وَوُقُوعِ صُورَةِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ فِي الْقَلْبِ وَالْفِكْرَةِ، فَهَذِهِ الْفِتْنَةُ مِنْ فُضُولِ النَّظَرِ، وَهُوَ مِنْ الْأَبْوَابِ الَّتِي تُفْتَحُ لِلشَّيْطَانِ عَلَى ابْنِ آدَمَ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ الصَّرْصَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ: وَغُضَّ عَنْ الْمَحَارِمِ مِنْك طَرْفًا ... طَمُوحًا يَفْتِنُ الرَّجُلَ اللَّبِيبَا فَخَائِنَةُ الْعُيُونِ كَأُسْدِ غَابٍ ... إذَا مَا أُهْمِلَتْ وَثَبَتْ وُثُوبَا وَمَنْ يَغْضُضْ فُضُولَ الطَّرْفِ عَنْهَا ... يَجِدْ فِي قَلْبِهِ رَوْحًا وَطِيبَا وَمِنْ آفَاتِ النَّظَرِ أَنَّك تَرَى مَا لَا قُدْرَةَ لَك عَلَيْهِ، وَلَا صَبْرَ لَك عَنْهُ، وَكَفَى بِهَذَا فِتْنَةً كَمَا قِيلَ: وَكُنْت مَتَى أَرْسَلْت طَرْفَك رَائِدًا ... لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ رَأَيْت الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ ... عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ لِنَفْسِهِ: مَلَّ السَّلَامَةَ فَاغْتَدَتْ لَحَظَاتُهُ ... وَقْفًا عَلَى طَلَلٍ يُظَنُّ جَمِيلَا مَا زَالَ يُتْبِعُ إثْرَهُ لَحَظَاتَهُ ... حَتَّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلَا وَلَهُ قَصِيدَةٌ ذَكَرَهَا بِرُمَّتِهَا فِي بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ: يَا رَامِيًا بِسِهَامِ اللَّحْظِ مُجْتَهِدًا ... أَنْتَ الْقَتِيلُ بِمَا تَرْمِي فَلَا تُصِبْ وَبَاعِثُ الطَّرْفِ تَرْتَادُ الشِّفَاءَ لَهُ ... تَوَقَّهُ إنَّهُ يَرْتَدُّ بِالْعَطَبِ تَرْجُو الشِّفَاءَ بِأَحْدَاقٍ بِهَا مَرَضٌ ... فَهَلْ سَمِعْت بِبُرْءٍ جَاءَ مِنْ عَطَبِ وَمُفْنِيًا نَفْسَهُ فِي إثْرِ أَقْبَحِهِمْ ... وَصْفًا لِلَطْخِ جَمَالٍ فِيهِ مُكْتَسَبِ وَوَاهِبًا عُمْرَهُ مِنْ مِثْلِ ذَا سَفَهًا ... لَوْ كُنْت تَعْرِفُ قَدْرَ الْعُمْرِ لَمْ تَهَبْ وَبَائِعًا طِيبَ عَيْشٍ مَا لَهُ خَطَرٌ ... بِطَيْفِ عَيْشٍ مِنْ الْأَيَّامِ مُنْتَهَبِ غُبِنْت وَاَللَّهِ غَبْنًا فَاحِشًا فَلَو اسْ ... تَرْجَعْتَ ذَا الْعِقْدَ لَمْ تُغْبَنْ وَلَمْ تَخِبْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 إلَى أَنْ قَالَ: شَابَ الصِّبَا وَالتَّصَابِي لَمْ يَشِبْ سَفَهًا ... وَضَاعَ وَقْتُك بَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَشَمْسُ عُمْرِك قَدْ حَانَ الْغُرُوبُ لَهَا ... وَالْغَيُّ فِي الْأُفْقِ الشَّرْقِيِّ لَمْ يَغِبْ وَمِمَّا أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ: مَا زِلْت تُتْبِعُ نَظْرَةً فِي نَظْرَةٍ ... فِي إثْرِ كُلِّ مَلِيحَةٍ وَمَلِيحِ وَتَظُنُّ ذَاكَ دَوَاءَ جُرْحِك وَهُوَ فِي التّ ... تَحْقِيقِ تَجْرِيحٌ عَلَى تَجْرِيحِ فَذَبَحْت طَرْفَك بِاللِّحَاظِ وَبِالْبُكَا ... فَالْقَلْبُ مِنْك ذَبِيحٌ ابْنُ ذَبِيحِ مَطْلَبٌ: فِي فَوَائِدِ غَضِّ الْبَصَرِ فَإِذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا لَك، وَتَحَقَّقْت عِظَمَ مَا جَمَعْنَاهُ، وَفَخَامَةَ قَدْرِ مَا نَالَك، فَلْنَذْكُرْ الْكَلَامَ عَلَى فَوَائِدِ غَضِّ الطَّرْفِ، وَآفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَنَكَبَاتِهِ فِي مَقَامَاتٍ: (الْمَقَامُ الْأَوَّلُ) فِي فَوَائِدِ غَضِّ الْبَصَرِ (إحْدَاهَا) تَخْلِيصُ الْقَلْبِ مِنْ الْحَسْرَةِ فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ نَظَرَهُ دَامَتْ حَسْرَتُهُ، فَأَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْقَلْبِ إرْسَالُ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُ يُرِيهِ مَا لَا سَبِيلَ إلَى وُصُولِهِ وَلَا صَبْرَ لَهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ غَايَةُ الْأَلَمِ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ: تَزَوَّدَ مِنْهَا نَظْرَةً لَمْ تَدَعْ لَهُ ... فُؤَادًا وَلَمْ يَشْعُرْ بِمَا قَدْ تَزَوَّدَا فَلَمْ أَرَ مَقْتُولًا وَلَمْ أَرَ قَاتِلًا ... بِغَيْرِ سِلَاحِ مِثْلَهَا حِينَ أَقْصِدَا وَقَالَ آخَرُ: وَمَنْ كَانَ يُؤْتَى مِنْ عَدُوٍّ وَحَاسِدٍ ... فَإِنِّي مِنْ عَيْنِي أُتِيت وَمِنْ قَلْبِي هُمَا اعْتَوَرَانِي نَظْرَةً ثُمَّ فِكْرَةً ... فَمَا أَبْقَيَا لِي مِنْ رُقَادٍ وَلَا لُبِّ وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: مُتَيَّمٌ يَرْعَى نُجُومَ الدُّجَى ... يَبْكِي عَلَيْهِ رَحْمَةً عَاذِلُهْ عَيْنِي أَشَاطَتْ بِدَمِي فِي الْهَوَى ... فَابْكُوا قَتِيلًا بَعْضُهُ قَاتِلُهْ وَلِابْنِ الْقَيِّمِ: أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَسْرِقْ مَلَاحِظَهُ ... فَسَارِقُ اللَّحْظِ لَا يَنْجُو مِنْ الدَّرَكِ نَصَبْت طَرْفِي لَهُ لَمَّا بَدَا شَرَكًا ... فَكَانَ قَلْبِي أَوْلَى مِنْهُ بِالشَّرَكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الثَّانِيَةُ) : أَنَّ غَضَّ الطَّرْفِ يُورِثُ الْقَلْبَ نُورًا وَإِشْرَاقًا يَظْهَرُ فِي الْعَيْنِ وَفِي الْوَجْهِ وَفِي الْجَوَارِحِ، كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ الْبَصَرِ يُورِثُ ذَلِكَ ظُلْمَةً وَكَآبَةً. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ. وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ فِي قَوْلِهِ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35] عَقِبَ قَوْلِهِ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ «النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ» وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ «فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ نُورًا» . (الثَّالِثَةُ) أَنَّهُ يُورَثُ صِحَّةَ الْفِرَاسَةِ فَإِنَّهَا مِنْ النُّورِ وَثَمَرَاتِهِ، فَإِذَا اسْتَنَارَ الْقَلْبُ صَحَّتْ الْفِرَاسَةُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ تَظْهَرُ فِيهَا الْمَعْلُومَاتُ كَمَا هِيَ، وَالنَّظَرُ بِمَنْزِلَةِ التَّنَفُّسِ فِيهَا، فَإِذَا أَطْلَقَ الْعَبْدُ نَظَرَهُ تَنَفَّسَتْ الصُّعَدَاءَ فِي مِرْآةِ قَلْبِهِ فَطَمَسَتْ نُورَهَا كَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: مِرْآةُ قَلْبِك لَا تُرِيك صَلَاحَهُ ... وَالنَّفْسُ فِيهَا دَائِمًا تَتَنَفَّسُ وَقَالَ شُجَاعٌ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَأَكَلَ مِنْ الْحَلَالِ، لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ. وَكَانَ شُجَاعًا لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْزِي الْعَبْدَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ عَوَّضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إطْلَاقَ نُورِ بَصِيرَتِهِ، فَلَمَّا حَبَسَ بَصَرَهُ لَهُ تَعَالَى، أَطْلَقَ لَهُ بَصِيرَتَهُ جَزَاءً وِفَاقًا. (الرَّابِعَةُ) أَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُ طُرُقَ الْعِلْمِ وَأَبْوَابَهُ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ أَسْبَابَهُ وَذَلِكَ سَبَبُ نُورِ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَنَارَ ظَهَرَتْ فِيهِ حَقَائِقُ الْمَعْلُومَاتِ، وَانْكَشَفَ لَهُ بِسُرْعَةٍ، وَنَفَذَ مِنْ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ. وَمَنْ أَرْسَلَ بَصَرَهُ تَكَدَّرَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ، وَأَظْلَمَ، وَانْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الْعِلْمِ وَأُحْجِمَ. (الْخَامِسَةُ) أَنَّهُ يُورِثُ قُوَّةَ الْقَلْبِ وَثَبَاتَهُ وَشَجَاعَتَهُ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانَ الْبَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ. وَفِي أَثَرٍ أَنَّ الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ، وَلِذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبِعِ لِهَوَاهُ مِنْ ذُلِّ الْقَلْبِ وَضَعْفِهِ وَمَهَانَةِ النَّفْسِ وَحَقَارَتِهَا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِمُؤْثِرٍ هَوَاهُ عَلَى رِضَاهُ، بِخِلَافِ مَنْ آثَرَ رِضَا مَوْلَاهُ عَلَى هَوَاهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزِّ الطَّاعَةِ وَحِصْنِ التَّقْوَى، بِخِلَافِ أَهْلِ الْمَعَاصِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَالْأَهْوَاءِ. قَالَ الْحَسَنُ: إنَّهُمْ وَإِنْ هَمْلَجْت بِهِمْ الْبِغَالُ، وَطَقْطَقْت بِهِمْ الْبَرَاذِينُ، فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَفِي قُلُوبِهِمْ، أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ فِي أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ، وَمَنْ عَصَاهُ عَادَاهُ فِيمَا عَصَاهُ فِيهِ. وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: إنَّهُ لَا يُذَلُّ مِنْ وَالَيْت، وَلَا يُعَزُّ مَنْ عَادَيْت. (السَّادِسَةُ) أَنَّهُ يُورِثُ الْقَلْبَ سُرُورًا وَفَرْحَةً أَعْظَمَ مِنْ الِالْتِذَاذِ بِالنَّظَرِ، وَذَلِكَ لِقَهْرِهِ عَدُوَّهُ وَقَمْعِهِ شَهْوَتَهُ وَنُصْرَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَفَّ لَذَّتَهُ وَحَبَسَ شَهْوَتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِيهِمَا مَضَرَّةُ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، أَعَاضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَسَرَّةً وَلَذَّةً أَكْمَلَ مِنْهُمَا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاَللَّهِ لَلَذَّةُ الْعِفَّةِ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الذَّنْبِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ إذَا خَالَفَتْ هَوَاهَا أَعْقَبَهَا ذَلِكَ فَرَحًا وَسُرُورًا وَلَذَّةً أَكْمَلَ مِنْ لَذَّةِ مُوَافَقَةِ الْهَوَى بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا. وَهُنَا يَمْتَازُ الْعَقْلُ مِنْ الْهَوَى. (السَّابِعَةُ) أَنَّهُ يُخَلِّصُ الْقَلْبَ مِنْ أَسْرِ الشَّهْوَةِ، فَلَا أَسْرَ أَشَدُّ مِنْ أَسْرِ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى، قَدْ سَلَبَ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ، وَعَزَّ عَلَيْهِ الدَّوَاءُ، فَهُوَ كَمَا قِيلَ: كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا ... حِيَاضَ الرَّدَى وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ (الثَّامِنَةُ) أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، فَإِنَّ النَّظَرَ بَابُ الشَّهْوَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى مُوَاقَعَةِ الْفِعْلِ، وَتَحْرِيمُ الرَّبِّ تَعَالَى وَشَرْعُهُ حِجَابٌ مَانِعٌ مِنْ الْوُصُولِ، فَمَتَى هَتَكَ الْحِجَابُ تَجَرَّأَ عَلَى الْمَحْظُورِ، وَلَمْ تَقِفْ نَفْسُهُ مِنْهُ عِنْدَ غَايَةٍ، لِأَنَّ النَّفْسَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تَقْنَعُ بِغَايَةٍ تَقِفُ عِنْدَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ لَذَّتَهُ فِي الشَّيْءِ الْجَدِيدِ. فَصَاحِبُ الطَّارِفِ لَا يُقْنِعُهُ التَّلِيدُ، وَإِنْ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ مَنْظَرًا أَوْ أَطْيَبَ مَخْبَرًا. فَغَضُّ الْبَصَرِ يَسُدُّ عَنْهُ هَذَا الْبَابَ، الَّذِي عَجَزَتْ الْمُلُوكُ عَنْ اسْتِيفَاءِ أَغْرَاضِهِمْ فِيهِ، وَفِيهِ غَضَبُ رَبِّ الْأَرْبَابِ. (التَّاسِعَةُ) أَنَّهُ يُقَوِّي عَقْلَهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيَزِيدُهُ، فَإِرْسَالُ الْبَصَرِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ قِلَّةٍ فِي الْعَقْلِ، وَطَيْشٍ فِي اللُّبِّ، وَخَوَرٍ فِي الْقَلْبِ، وَعَدَمِ مُلَاحَظَةٍ لِلْعَوَاقِبِ، فَإِنَّ خَاصَّةَ الْعَقْلِ مُلَاحَظَةُ الْعَوَاقِبِ، وَمُرْسِلُ الطَّرْفِ لَوْ عَلِمَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُ طَرْفِهِ عَلَيْهِ لَمَا أَطْلَقَ بَصَرَهُ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ سَبَبًا ... حَتَّى يُفَكِّرَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الْعَاشِرَةُ) أَنَّهُ يُخَلِّصُ الْقَلْبَ مِنْ سَكْرَةِ الشَّهْوَةِ وَرَقْدَةِ الْغَفْلَةِ، فَإِنَّ إطْلَاقَ الْبَصَرِ يُوجِبُ اسْتِحْكَامَ الْغَفْلَةِ عَنْ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيُوقِعُ فِي سَكْرَةِ الْعِشْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي عُشَّاقِ الصُّوَرِ {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] فَالنَّظْرَةُ كَأْسٌ مِنْ خَمْرٍ، وَالْعِشْقُ سُكْرُ ذَلِكَ الشَّرَابِ. وَآفَاتُ الْعِشْقِ تَكَادُ تُقَارِبُ الشِّرْكَ، فَإِنَّ الْعِشْقَ يَتَعَبَّدُ الْقَلْبَ الَّذِي هُوَ بَيْتُ الرَّبِّ لِلْمَعْشُوقِ. وَفَوَائِدُ غَضِّ الْبَصَرِ وَآفَاتِ إطْلَاقِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ. وَقَدْ عَلِمْت الْفَوَائِدَ وَالْآفَاتِ فِي ضِمْنِهَا، فَمَا مِنْ فَائِدَةٍ إلَّا تَرْكُهَا آفَةٌ وَمَفْسَدَةٌ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى الْمَمْلُوكَةِ؟ قَالَ أَخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ، كَمْ نَظْرَةٍ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا الْبَلَابِلَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الشَّيْطَانُ مِنْ الرَّجُلِ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي بَصَرِهِ وَقَلْبِهِ وَذَكَرِهِ، وَهُوَ مِنْ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي بَصَرِهَا وَقَلْبِهَا وَعَجُزِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الْمَقَامُ الثَّانِي) فِي بَعْضِ عُقُوبَاتِ مَنْ أَطْلَقَ نَظَرَهُ فِي الدُّنْيَا مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهَ بِهِ خَيْرًا لِيَزْجُرَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ بِإِرْسَالِ ذَلِكَ. رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَهُ رَجُلٌ يَتَشَلْشَلُ دَمًا، فَقَالَ لَهُ مَالَكَ؟ قَالَ مَرَّتْ بِي امْرَأَةٌ فَنَظَرَتْ إلَيْهَا فَلَمْ أَزَلْ أُتْبِعُهَا بَصَرِي فَاسْتَقْبَلَنِي جِدَارٌ فَضَرَبَنِي فَصَنَعَ بِي مَا تَرَى، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ» . وَرَوَى الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيِّ قَالَ: رَأَيْت فِي الطَّوَافِ رَجُلًا بِفَرْدِ عَيْنٍ وَهُوَ يَقُولُ فِي طَوَافِهِ أَعُوذُ بِك مِنْك، فَقُلْت لَهُ مَا هَذَا الدُّعَاءُ؟ فَقَالَ: إنِّي مُجَاوِرٌ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً فَنَظَرْت إلَى شَخْصٍ يَوْمًا فَاسْتَحْسَنْته فَإِذَا بِلَطْمَةٍ وَقَعَتْ عَلَى عَيْنِي فَسَالَتْ عَلَى خَدِّي فَقُلْت آهٍ فَوَقَعَتْ أُخْرَى وَقَائِلٌ يَقُولُ لَوْ زِدْت لَزِدْنَاك. وَرُوِيَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ أَبِي الْأَذَانِ قَالَ: كُنْت مَعَ أُسْتَاذِي أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ فَمَرَّ حَدَثٌ فَنَظَرْت إلَيْهِ، فَرَآنِي أُسْتَاذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أَنْظُرُ إلَيْهِ، فَقَالَ يَا بُنَيَّ لَتَجِدَنَّ غِبَّهَا وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، فَبَقِيت عِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَا أُرَاعِي ذَلِكَ الْغِبَّ، فَنِمْت لَيْلَةً وَأَنَا مُتَفَكِّرٌ فِيهِ فَأَصْبَحْتُ وَقَدْ نَسِيت الْقُرْآنَ كُلَّهُ. وَفِي تَارِيخِ مَكَّةَ لِلْأَزْرَقِيِّ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ نَصْرٍ الدَّقَّاقُ الْكَبِيرُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: جَاوَرْت بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ فَكُنْت أَشْتَهِي اللَّبَنَ، فَغَلَبَتْنِي نَفْسِي فَخَرَجْت إلَى عُسْفَانَ وَاسْتَضَفْت حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَنَظَرْت إلَى جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ بِعَيْنِي الْيُمْنَى فَأَخَذَتْ بِقَلْبِي، فَقُلْت لَهَا قَدْ أَخَذَ كُلُّكَ بِكُلِّي فَمَالِي لِغَيْرِك مَطْمَعٌ، قَالَتْ تُفْتَحُ بِكَ الدَّوَايَ الْغَالِبَةُ، لَوْ كُنْت صَادِقًا لَذَهَبَتْ عَنْك شَهْوَةُ اللَّبَنِ، قَالَ: فَقُلِعَتْ عَيْنِي الْيُمْنَى الَّتِي نَظَرْت بِهَا إلَيْهَا، فَقَالَتْ مِثْلُك مَنْ نَظَرَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَرَجَعْت إلَى مَكَّةَ وَطُفْت أُسْبُوعًا ثُمَّ نِمْت فَرَأَيْت فِي مَنَامِي يُوسُفَ الصِّدِّيقَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَقُلْت يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَيْك لِسَلَامَتِك مِنْ زُلَيْخَا، فَقَالَ لِي يَا مُبَارَكُ بَلْ أَنْتَ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَيْك بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعُسْفَا، ثُمَّ تَلَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فَصِحْت مِنْ طِيبِ تِلَاوَتِهِ وَرَخَامَةِ صَوْتِهِ وَانْتَبَهْت وَإِذَا بِعَيْنِي الْمَقْلُوعَةِ صَحِيحَةٌ. وَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الْكَتَّانِيِّ قَالَ: رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا فِي الْمَنَامِ فَقُلْت مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ عَرَضَ عَلَيَّ سَيِّئَاتِي فَقَالَ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا، فَقُلْت نَعَمْ، قَالَ وَفَعَلْت كَذَا وَكَذَا، فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أُقِرَّ، فَقُلْت: فَمَا كَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ؟ قَالَ مَرَّ بِي غُلَامٌ حَسَنُ الْوَجْهِ فَنَظَرْت إلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّرَّادِ أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ: غَفَرَ لِي كُلَّ ذَنْبٍ أَقْرَرْت بِهِ إلَّا ذَنْبًا وَاحِدًا اسْتَحْيَيْت أَنْ أُقِرَّ بِهِ، فَأَوْقَفَنِي فِي الْعَرَقِ حَتَّى سَقَطَ لَحْمُ وَجْهِي، قِيلَ مَا الذَّنْبُ؟ قَالَ: نَظَرْت إلَى شَخْصٍ جَمِيلٍ. وَقَدْ أَنْهَيْت الْكَلَامَ بِمَا لَعَلَّ فِيهِ كِفَايَةً فِي هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِي قَرْعِ السِّيَاطِ فِي قَمْعِ أَهْلِ اللِّوَاطِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي نِكَاتٍ لَطِيفَةٍ وَأَخْبَارٍ ظَرِيفَةٍ (الْمَقَامُ الثَّالِثُ) فِي نِكَاتٍ لَطِيفَةٍ، وَأَخْبَارٍ ظَرِيفَةٍ، تَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 مِنْهَا مَا حَكَاهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ قَالَ: وَقَعَتْ مَسْأَلَةُ مَا تَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي رَجُلٍ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَعَلِقَ حُبُّهَا بِقَلْبِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَقَالَتْ لَهُ نَفْسُهُ هَذَا كُلُّهُ مِنْ أَوَّلِ نَظْرَةٍ، فَلَوْ أَعَدْت النَّظَرَ إلَيْهَا لَرَأَيْتهَا دُونَ مَا فِي نَفْسِك فَسَلَوْت عَنْهَا، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَعَمُّدُ النَّظَرِ ثَانِيًا لِهَذَا الْمَعْنَى؟ قَالَ: فَكَانَ الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَجُوزُ هَذَا لِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِغَضِّ الْبَصَرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ الْقَلْبِ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى الْعَبْدِ. (الثَّانِي) : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ فَأَمَرَ بِمُدَاوَاتِهِ بِصَرْفِ الْبَصَرِ لَا بِتَكْرَارِ النَّظَرِ. (الثَّالِثُ) : أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ لَهُ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَهُ الثَّانِيَةُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ دَاؤُهُ مِمَّا لَهُ وَدَوَاؤُهُ مِمَّا لَيْسَ لَهُ. (الرَّابِعُ) : أَنَّ الظَّاهِرَ قُوَّةُ الْأَمْرِ بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ لَا نَقْصُهُ وَالتَّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا رَآهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَا تَحْسُنُ الْمُخَاطَرَةُ بِالْإِعَادَةِ. (الْخَامِسُ) : رُبَّمَا رَأَى فَوْقَ الَّذِي فِي نَفْسِهِ فَزَادَ عَذَابُهُ. (السَّادِسُ) : أَنَّ إبْلِيسَ عِنْدَ قَصْدِهِ لِلنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ يَقُومُ فِي رِكَابِهِ فَيُزَيِّنُ لَهُ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ لِتَتِمَّ الْبَلِيَّةُ. (السَّابِعُ) : أَنَّهُ لَا يُعَانُ عَلَى بَلِيَّةٍ إذَا أَعْرَضَ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَتَدَاوَى بِمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ جَدِيرٌ أَنْ تَتَخَلَّفَ عَنْهُ الْمَعُونَةُ. (الثَّامِنُ) : أَنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَةَ أَشَدُّ سُمًّا فَكَيْفَ يَتَدَاوَى مِنْ السُّمِّ بِالسُّمِّ. (التَّاسِعُ) : أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ فِي مَقَامِ مُعَامَلَةِ الْحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَرْكِ مَحْبُوبِهِ كَمَا زَعَمَ، وَهُوَ يُرِيدُ بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالَ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرْضِيًا تَرَكَهُ، فَإِذًا يَكُونُ تَرْكُهُ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ غَرَضَهُ لَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَيْنَ مُعَامَلَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَرْكِهِ الْمَحْبُوبَ لِأَجْلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الْعَاشِرُ) : يَتَبَيَّنُ بِضَرْبِ مَثَلٍ مُطَابِقٍ لِلْحَالِ، وَهُوَ أَنَّك إذَا رَكِبْت فَرَسًا جَدِيدًا فَمَالَتْ بِك إلَى طَرِيقٍ ضَيِّقٍ لَا يُنْفِذُ وَلَا يُمَكِّنُهَا تَسْتَدِيرُ فِيهِ لِلْخُرُوجِ، فَإِذَا هَمَّتْ بِالدُّخُولِ فِيهِ فَاكْبَحْهَا لِئَلَّا تَدْخُلَ، فَإِنْ دَخَلَتْ خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ فَصِحْ بِهَا وَرُدَّهَا إلَى وَرَاءٍ عَاجِلًا قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ دُخُولُهَا، فَإِنْ رَدَدْتهَا إلَى وَرَائِهَا سَهُلَ الْأَمْرُ وَإِنْ تَوَانَيْت حَتَّى وَلَجَتْهُ وَسُقْتهَا دَاخِلًا ثُمَّ قُمْت تَجْذِبُهَا بِذَنَبِهَا عَسُرَ عَلَيْك أَوْ تَعَذَّرَ خُرُوجُهَا، فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ طَرِيقَ تَخْلِيصِهَا سَوْقُهَا إلَى دَاخِلٍ. وَكَذَلِكَ النَّظْرَةُ إذَا أَثَّرَتْ فِي الْقَلْبِ فَإِنْ عَجَّلَ الْحَازِمُ وَحَسَمَ الْمَادَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا سَهُلَ عِلَاجُهُ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ وَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَ الصُّورَةِ وَنَقَلَهَا إلَى قَلْبٍ فَارِغٍ فَنَقَشَهَا فِيهِ تَمَكَّنَتْ الْمَحَبَّةُ. وَكُلَّمَا تَوَاصَلَتْ النَّظَرَاتُ كَانَتْ كَالْمَاءِ يَسْقِي الشَّجَرَةَ، فَلَا تَزَالُ شَجَرَةُ الْحُبِّ تُنَمَّى حَتَّى يَفْسُدَ الْقَلْبُ وَيُعْرِضَ عَنْ الْفِكْرِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، فَيَخْرُجَ بِصَاحِبِهِ إلَى الْمِحَنِ وَيُوجِبَ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورَاتِ وَالْفِتَنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ رُفِعَتْ لِلْإِمَامِ أَبِي الْخَطَّابِ بْنِ أَحْمَدَ الْكَلْوَذَانِيِّ مِنْ أَكَابِرِ أَئِمَّتِنَا رُقْعَةٌ فِيهَا: قُلْ لِأَبِي الْخَطَّابِ نَجْمِ الْهُدَى ... وَقُدْوَةِ الْعَالَمِ فِي عَصْرِهِ لَا زِلْت فِي فَتْوَاك مُسْتَأْمَنًا ... مِنْ خُدَعِ الشَّيْطَانِ أَوْ مَكْرِهِ مَاذَا تَرَى فِي رَشَإٍ أَغْيَدَ ... حَازَ اللَّمَا وَالدُّرَّ فِي ثَغْرِهِ لَمْ يَحْكِ بَدْرَ التِّمِّ فِي حُسْنِهِ ... حَتَّى حَكَى الزُّنْبُورَ فِي خَصْرِهِ فَهَلْ يُجِيزُ الشَّرْعُ تَقْبِيلَهُ ... لِمُسْتَهَامٍ خَافَ مِنْ وِزْرِهِ أَمْ هَلْ عَلَى الْمُشْتَاقِ فِي ضَمِّهِ ... مِنْ غَيْرِ إدْنَاءٍ إلَى صَدْرِهِ إثْمٌ إذَا مَا لَمْ يَكُنْ مُضْمِرًا ... غَيْرَ الَّذِي قُدِّمَ مِنْ ذِكْرِهِ فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ الْأَدِيبُ الَّذِي ... قَدْ فَاقَ أَهْلَ الْعَصْرِ فِي شِعْرِهِ تَسْأَلُ عَنْ تَقْبِيلِ بَدْرِ الدُّجَى ... وَعَطْفِ زَنْدَيْك عَلَى نَحْرِهِ هَلْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْلِيلِهِ ... لِمُسْتَهَامٍ خَافَ مِنْ وِزْرِهِ مَنْ قَارَفَ الْفِتْنَةَ ثُمَّ ادَّعَى الْ ... عِصْمَةَ قَدْ نَافَقَ فِي أَمْرِهِ هَلْ فِتْنَةُ الْمَرْءِ سِوَى الضَّمِّ وَالَتَّ ... قُبَيْل لِلْحِبِّ عَلَى ثَغْرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَهَلْ دَوَاعِي ذَلِكَ الْمُشْتَهَى ... إلَّا عِنَاقُ الْبَدْرِ فِي خِدْرِهِ وَبَذْلُهُ ذَاكَ لِمُشْتَاقِهِ ... يُزْرِي عَلَى هَارُوتَ فِي سِحْرِهِ وَلَا يُجِيزُ الشَّرْعُ أَسْبَابَ مَا ... يُوَرِّطُ الْمُسْلِمَ فِي حَظْرِهِ فَانْجُ وَدَعْ عَنْك صُدَاعَ الْهَوَى ... عَسَاك أَنْ تَسْلَمَ مِنْ شَرِّهِ هَذَا جَوَابُ الْكَلْوَذَانِيِّ قَدْ ... جَاءَ يَرْجُو اللَّهَ فِي أَجْرِهِ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ بَعْدَ إيرَادِهِ لِمَا ذَكَرْنَا: فَهَذَا جَوَابُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَا، يَعْنِي مِنْ عَدَمِ إبَاحَةِ النَّظَرِ لِلْمَحْبُوبِ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ النَّظَرَ رُبَّمَا يُذْهِبُ مَا الْتَاعَ بِهِ فُؤَادُهُ الْمَحْجُوبُ. فَإِنَّ احْتِمَالَ مَفْسَدَةِ أَلَمِ الْحُبِّ مَعَ غَضِّ الْبَصَرِ وَعَدَمِ تَقْبِيلِهِ وَضَمِّهِ أَقَلُّ مِنْ مَفْسَدَةِ النَّظَرِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ أَعْنِي مَفْسَدَةَ النَّظَرِ وَنَحْوِهِ تَجُرُّ إلَى هَلَاكِ الْقَلْبِ وَفَسَادِ الدِّينِ، وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ سَقَمُ الْجَسَدِ أَوْ الْمَوْتُ تَفَادِيًا عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْحَرَامِ. فَأَيْنَ إحْدَى الْمَفْسَدَتَيْنِ مِنْ الْأُخْرَى؟ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ وَنَحْوَهُ لَا يَمْنَعُ السَّقَمَ وَالْمَوْتَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْحُبِّ بَلْ يَزِيدُ الْحُبُّ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي: فَمَا صَبَابَةُ مُشْتَاقٍ عَلَى أَمَلٍ ... مِنْ الْوِصَالِ كَمُشْتَاقٍ بِلَا أَمَلِ وَفِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّ أَبَا الْخَطَّابِ سُئِلَ أَيْضًا بِمَا لَفْظُهُ: قُلْ لِلْإِمَامِ أَبِي الْخَطَّابِ مَسْأَلَةً ... جَاءَتْ إلَيْك وَمَا خَلْقٌ سِوَاك لَهَا مَاذَا عَلَى رَجُلٍ رَامَ الصَّلَاةَ فَمُذْ ... لَاحَتْ لِنَاظِرِهِ ذَاتُ الْجَمَالِ لَهَا فَأَجَابَهُ تَحْتَ سُؤَالِهِ: قُلْ لِلْأَدِيبِ الَّذِي وَافَى بِمَسْأَلَةٍ ... سَرَّتْ فُؤَادِي لَمَّا أَنْ أَصَخْت لَهَا إنَّ الَّذِي فَتَنَتْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ ... خَرِيدَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ فَانْثَنَى وَلَهَا إنْ تَابَ ثُمَّ قَضَى عَنْهُ عِبَادَتَهُ ... فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَغْشَى مَنْ عَصَى وَلَهَا وَمِنْهَا أَنَّ مُحَمَّدًا أَبَا بَكْرِ بْنَ دَاوُد الظَّاهِرِيَّ الْعَالِمَ الْمَشْهُورَ فِي فَنِّ الْعُلُومِ مِنْ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْأَدَبِ وَلَهُ قَوْلٌ فِي الْفِقْهِ. قَالَ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ: هُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ الْتَقَى هُوَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ فِي مَجْلِسِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، فَتَنَاظَرَا فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْإِيلَاءِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنْتَ بِأَنْ تَقُولَ مَنْ دَامَتْ لَحَظَاتُهُ كَثُرَتْ حَسَرَاتُهُ أَحْذَقُ مِنْك بِالْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ: أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي ... وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقْلِ الْهَوَى مَا لَوْ أَنَّهُ ... يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الْأَصَمِّ تَهَدَّمَا وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجِمِ خَاطِرِي ... فَلَوْلَا اخْتِلَاسِي وُدَّهُ لَتَكَلَّمَا رَأَيْتُ الْهَوَى دَعْوَى مِنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... فَلَسْت أَرَى وُدًّا صَحِيحًا مُسَلَّمَا فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ بِمَ تَفْخَرُ عَلَيَّ وَلَوْ شِئْت لَقُلْت: وَمُطَاعِمٌ كَالشَّهْدِ فِي ثَغَمَاتِهِ ... قَدْ بِتُّ أَمْنَعُهُ لَذِيذَ سِنَاتِهِ صَبًّا بِهِ وَبِحُسْنِهِ وَحَدِيثِهِ ... وَأُنَزِّهُ اللَّحَظَاتِ فِي وَجَنَاتِهِ حَتَّى إذَا مَا الصُّبْحُ لَاحَ عَمُودُهُ ... وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْفَظُ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ مَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يُقِيمَ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ، فَقَالَ سُرَيْجٌ: يَلْزَمُنِي فِي هَذَا مَا يَلْزَمُك فِي قَوْلِك: أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي ... وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا فَضَحِكَ الْوَزِيرُ وَقَالَ لَقَدْ جَمَعْتُمَا لُطْفًا وَظَرْفًا. وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ أَنَّ ابْنَ دَاوُد هَذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ فُتْيَا مَضْمُونُهَا: يَا ابْنَ دَاوُد يَا فَقِيهَ الْعِرَاقِ ... أَفْتِنَا فِي فَوَاتِكِ الْأَحْدَاقِ هَلْ عَلَيْهَا بِمَا أَتَتْ مِنْ جُنَاحٍ ... أَمْ حَلَالٌ لَهَا دَمُ الْعُشَّاقِ فَكَتَبَ الْجَوَابَ بِخَطِّهِ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ: عِنْدِي جَوَابُ مَسَائِلِ الْعُشَّاقِ ... فَاسْمَعْهُ مِنْ قَرِحِ الْحَشَا مُشْتَاقِ لَمَّا سَأَلْتَ عَنْ الْهَوَى هَيَّجْتنِي ... وَأَرَقْت دَمْعًا لَمْ يَكُنْ بِمُرَاقِ إنْ كَانَ مَعْشُوقٌ يُعَذِّبُ عَاشِقًا ... كَانَ الْمُعَذَّبُ أَنْعَمَ الْعُشَّاقِ قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ مَنَازِلِ الْأَحْبَابِ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنُ فَهْدٍ صَاحِبُ الْإِنْشَاءِ، وَقُلْت فِي جَوَابِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى وَزْنِهِمَا مُجِيبًا لِلسَّائِلِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 قُلْ لِمَنْ جَاءَ سَائِلًا عَنْ لِحَاظٍ ... هُنَّ يَلْعَبْنَ فِي دَمِ الْعُشَّاقِ مَا عَلَى السَّيْفِ فِي الْوَرَى مِنْ جُنَاحٍ ... إنْ ثُنِيَ الْحَدُّ عَنْ دَمٍ مِهْرَاقٍ وَسُيُوفُ اللِّحَاظِ أَوْلَى بِأَنْ نَصْفَحَ ... عَمَّا جَنَتْ عَلَى الْعُشَّاقِ إنَّمَا كُلُّ مَنْ قَتَلْنَ شَهِيدٌ ... وَلِهَذَا يَفْنَى ضَنًا وَهُوَ بَاقٍ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ رَوْضَةُ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةُ الْمُشْتَاقِينَ عَنْ الْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ. قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْأَشْرَافِ أَنَّهُ اجْتَازَ بِمَقْبَرَةٍ وَإِذَا بِجَارِيَةٍ حَسْنَاءَ كَأَنَّهَا الْبَدْرُ أَوْ أَسْنَى وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ سُودٌ، فَنَظَرَ إلَيْهَا فَعَلَقَتْ بِقَلْبِهِ فَكَتَبَ إلَيْهَا: قَدْ كُنْت أَحْسَبَ أَنَّ الشَّمْسَ وَاحِدَةٌ ... وَالْبَدْرَ فِي نَظَرِي بِالْحُسْنِ مَوْصُوفٌ حَتَّى رَأَيْتُك فِي أَثْوَابِ ثَاكِلَةٍ ... سُودٍ وَصَدْغُك فَوْقَ الْخَدِّ مَعْطُوفٌ فَرُحْت وَالْقَلْبُ مِنِّي هَائِمٌ دَنِفٌ ... وَالْكَبِدُ حَرَّى وَدَمْعُ الْعَيْنِ مَذْرُوفٌ رُدِّي الْجَوَابَ فَفِيهِ الشُّكْرُ وَاغْتَنِمِي ... وَصْلَ الْمُحِبِّ الَّذِي بِالْحُبِّ مَشْغُوفٌ وَرَمَى بِالرُّقْعَةِ إلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتْهَا كَتَبَتْ: إنْ كُنْت ذَا حَسَبٍ ذَاكَ وَذَا نَسَبٍ ... إنَّ الشَّرِيفَ بِغَضِّ الطَّرْفِ مَعْرُوفٌ إنَّ الزُّنَاةَ أُنَاسٌ لَا خَلَاقَ لَهُمْ ... فَاعْلَمْ بِأَنَّك يَوْمَ الدِّينِ مَوْقُوفٌ وَاقْطَعْ رَجَاك لَحَاكَ اللَّهُ مِنْ رَجُلٍ ... فَإِنَّ قَلْبِي عَنْ الْفَحْشَاءِ مَصْرُوفٌ فَلَمَّا قَرَأَ الرُّقْعَةَ زَجَرَ نَفْسَهُ وَقَالَ: أَلَيْسَ امْرَأَةٌ تَكُونُ أَشْجَعَ مِنْك، ثُمَّ تَابَ وَلَبِسَ مِدْرَعَةً مِنْ الصُّوفِ وَالْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَّوَافِ وَإِذَا بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ عَلَيْهَا جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، فَقَالَتْ لَهُ مَا أَلْيَقَ هَذَا بِالشَّرِيفِ هَلْ لَك فِي الْمُبَاحِ؟ فَقَالَ قَدْ كُنْت أَرُومُ هَذَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ اللَّهَ وَأُحِبَّهُ. وَالْآنَ فَقَدْ شَغَلَنِي حُبُّهُ عَنْ حُبِّ غَيْرِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: أَحْسَنْت، ثُمَّ طَافَتْ وَأَنْشَدَتْ: فَطُفْنَا فَلَاحَتْ فِي الطَّوَافِ لَوَائِحٌ ... غَنِينَا بِهَا عَنْ كُلِّ مَرْأًى وَمِسْمَعِ وَفِيهِ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: وَلَّيْنَا عَلَى بِلَادِ مِصْرَ رَجُلًا، فَوَجَدَ عَلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ، فَأَشْرَفَتْ عَلَيْهِ ابْنَةُ الْوَالِي فَهَوِيَتْهُ فَكَتَبَتْ إلَيْهِ: أَيُّهَا الزَّانِي بِعَيْنَيْ ... هـ وَفِي الطَّرْفِ الْحُتُوفُ إنْ تُرِدْ وَصْلًا فَقَدْ ... أَمْكَنَك الظَّبْيُ الْأَلُوفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فَأَجَابَهَا الْفَتَى: إنْ تَرَيْنِي زَانِيَ الْعَيْنَيْنِ فَالْفَرْجُ عَفِيفُ ... لَيْسَ إلَّا النَّظَرُ الْفَاتِرُ وَالشِّعْرُ الظَّرِيفُ فَكَتَبَتْ إلَيْهِ: قَدْ أَرَدْنَاك فَأَلْفَيْنَاك إنْسَانًا عَفِيفًا ... فَتَأَبَّيْت فَلَا زِلْت لِقَيْدَيْك حَلِيفًا فَكَتَبَ إلَيْهَا مَا تَأَبَّيْت لِأَنِّي كُنْت لِلظَّبْيِ عَيُوفًا ... غَيْرَ أَنِّي خِفْت رَبًّا كَانَ بِي بَرًّا لَطِيفًا فَذَاعَ الشِّعْرُ، وَبَلَغَتْ الْقِصَّةُ الْوَالِيَ، فَدَعَا بِهِ فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ عَادَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ أَوْ بِعَيْنِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: يَنْقَسِمُ النَّظَرُ إلَى أَقْسَامٍ (تَنْبِيهٌ) : النَّظَرُ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَهُوَ جُلُّ الْمَقْصُودِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَالنَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى جَمِيعِهَا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَأْكُلُ مَعَ مُطَلَّقَتِهِ، هُوَ أَجْنَبِيٌّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا فَكَيْفَ يَأْكُلُ مَعَهَا يَنْظُرُ إلَى كَفِّهَا، لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَى مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ، وَيُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِمَا مَعَ الْكَرَاهَةِ إذَا أَمِنَ الْفِتْنَةَ، وَكَانَ نَظَرُهُ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ انْتَهَى وَفِي الْفُرُوعِ: أَنَّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي رِوَايَةٌ ذَكَرَهَا شَيْخُنَا يَعْنِي الْإِمَامَ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ وَالْمَذْهَبُ لَا، يَعْنِي لَا يُبَاحُ وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ: ظُفْرُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ عَنْ قَوْلِ الْقَاضِي إنَّهُ لَا يَسَعُ النَّاسَ غَيْرُهُ خُصُوصًا الْجِيرَانَ، وَحُرِّمَ نَظَرٌ لِشَهْوَةٍ أَوْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ لِشَهْوَةٍ كَفَرَ إجْمَاعًا وَيَحْرُمُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إلَى كُلِّ أَحَدٍ سِوَى الزَّوْجَيْنِ وَأَمَتِهِ غَيْرِ الْمُزَوَّجَةِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَجْنَبِيَّةُ، وَالْأَمْرَدُ وَاَلَّذِي لَهُ لِحْيَةٌ، وَأَمَةُ غَيْرِهِ، وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ، وَالْعَجُوزُ، وَالْبَرْزَةُ، وَاَلَّذِي يَنْظُرُ إلَيْهَا عِنْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَاَلَّتِي يَخْطُبُهَا. وَكَذَا نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ إذَا كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ وَفِي الْغَايَةِ كَغَيْرِهَا وَحُرِّمَ نَظَرٌ لِدَابَّةٍ يَشْتَهِيهَا، وَخَلْوَةٌ بِهَا، كَقِرْدٍ تَشْتَهِيهِ الْمَرْأَةُ وَمَعْنَى الشَّهْوَةِ التَّلَذُّذُ بِالنَّظَرِ كَمَا فِي الْإِنْصَافِ. (الثَّانِي) مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ النَّظَرُ إلَى امْرَأَةٍ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إجَابَتُهُ قَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يَدْعُوهُ إلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ قَالَ فَخَطَبْت امْرَأَةً فَكُنْت أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْت مِنْهَا مَا دَعَانِي إلَى نِكَاحِهَا فَتَزَوَّجْتُهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَقَطْ وَفِي الْإِقْنَاعِ: يُسَنُّ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: يُبَاحُ لِوُرُودِهِ بَعْدَ الْحَظْرِ لِمَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إجَابَتُهُ النَّظَرُ وَيُكَرِّرُهُ وَيَتَأَمَّلُ الْمَحَاسِنَ وَلَوْ بِلَا إذْنٍ، قَالَ وَلَعَلَّهُ أَيْ عَدَمَ الْإِذْنِ أَوْلَى إنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ إلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا كَوَجْهٍ وَرَقَبَةٍ وَيَدٍ وَقَدَمٍ انْتَهَى وَالْمُرَادُ بِلَا خَلْوَةٍ وَإِلَّا حُرِّمَ وَكَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا. (الثَّالِثُ) : مُبَاحٌ كَنَظْرَةِ الْفَجْأَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ بِلَا قَصْدٍ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَصْدٍ حُرِّمَتْ كَالثَّانِيَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ بِلَا قَصْدٍ فَلَا تَحْرُمُ إذًا لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَنَظَرُ كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِ صَاحِبِهِ، وَكَذَا لَمْسُهُ حَتَّى الْفَرْجَ، وَكَذَا حُكْمُ مَنْ لَهَا دُونَ سَبْعِ سِنِينَ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ يُكْرَهُ النَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ فَقَطْ لِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «مَا رَأَيْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا رَآهُ مِنِّي» قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ آدَابِ النِّسَاءِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ الظَّرِبِ. وَكَانَ مِنْ حُكَمَاءِ الْعَرَبِ أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: مُرِي بِنْتَك أَنْ تُكْثِرَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الْمَاءِ وَلَا طِيبَ أَطْيَبُ مِنْ الْمَاءِ، وَلَا تُكْثِرَ مُضَاجَعَةَ زَوْجِهَا فَإِنَّ الْجَسَدَ إذَا مَلَّ مَلَّ الْقَلْبُ وَلْتُخَبَّأْ سَوْأَتُهَا مِنْهُ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قُلْت وَهَذَا عَيْنُ الصَّوَابِ، فَإِنَّ الْفَرْجَ غَيْرُ مُسْتَحْسِنِ الصُّورَةِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى بَعْضِ الْعُيُوبِ يَقْدَحُ فِي الْمَحَبَّةِ، فَيَنْبَغِي لَهُمَا جَمِيعًا الْحَذَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا تَرَى الْأَكَابِرَ يَنَامُونَ مُنْفَرِدِينَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ النَّوْمَ يَتَجَدَّدُ فِيهِ مَا لَا يَصْلُحُ انْتَهَى. قُلْت: لَوْ قِيلَ إنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَمَقَاصِدِهِمْ وَاسْتِحْسَانِهِمْ لَكَانَ صَوَابًا لَا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْخَارِجِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَنَظَرُ السَّيِّدِ جَمِيعَ بَدَنِ أَمَتِهِ الْمُبَاحَةِ كَنَظَرِهِ إلَى زَوْجَتِهِ بِخِلَافِ الْمُزَوَّجَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ وَمَا لَا تَحِلُّ مُطْلَقًا كَالْمَجُوسِيَّةِ، فَلَا يَنْظُرُ مِنْهَا إلَّا لِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ وَلِلطَّبِيبِ نَظَرُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ حَتَّى الْفَرْجَ وَمِثْلُهُ مَنْ يَلِي خِدْمَةَ مَرِيضٍ وَلَوْ أُنْثَى فِي وُضُوءٍ وَاسْتِنْجَاءٍ. وَمِنْ الْمُبَاحِ نَظَرُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الَّذِي لَا شَهْوَةَ لَهُ مَا فَوْقَ سُرَّةِ الْمَرْأَةِ وَتَحْتَ رُكْبَتِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَا شَهْوَةٍ فَهُوَ كَذِي مَحْرَمٍ فَيَنْظُرُ مَا يَظْهَرُ غَالِبًا مِنْ وَجْهٍ وَرَقَبَةٍ وَيَدٍ وَقَدَمٍ وَرَأْسٍ وَسَاقٍ وَمِنْهُ النَّظَرُ إلَى الْعَجُوزِ وَالْبَرْزَةِ وَالْقَبِيحَةِ الْمَنْظَرِ فَيَنْظُرُ مِنْهَا إلَى غَيْرِ عَوْرَةِ صَلَاةٍ، وَكَذَا مِنْ الْأَمَةِ، وَالْمُرَادُ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ مُبَاحٍ لِحُرْمَتِهَا، إلَّا نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مَعَ أَنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ وَذَلِكَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُ نَظَرُ الْعَبْدِ إلَى سَيِّدَتِهِ إذَا كَانَ كُلُّهُ رَقِيقًا لَهَا فَيَنْظُرُ مِنْهَا كَذِي مَحْرَمٍ، وَكَذَا نَظَرُ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ كَعِنِّينٍ وَكَبِيرٍ لَا خَصِيٍّ وَمَجْبُوبٍ إلَى أَجْنَبِيَّةٍ فَيَحْرُمُ كَالْفَحْلِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنْ يَنْظُرَ الْعَبْدُ إلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ. وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى الْأَمْرَدِ فَلَا يَحْرُمُ إلَّا مَعَ شَهْوَةٍ أَوْ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ كَرَّرَ النَّظَرَ إلَى الْأَمْرَدِ وَنَحْوِهِ وَقَالَ لَا أَنْظُرُ لِشَهْوَةٍ كَذِبَ فِي دَعْوَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَالَ الشَّيْخُ أَيْضًا تَحْرُمُ خَلْوَةٌ بِأَمْرَدَ حَسَنٍ وَمُضَاجَعَتُهُ كَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَوْ لِمَصَالِحِ التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ، وَمَنْ عُرِفَ بِمَحَبَّتِهِمْ مُنِعَ مِنْ تَعْلِيمِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وَمِنْ الْمُبَاحِ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ مَا دُونَ الرُّكْبَةِ وَفَوْقَ السُّرَّةِ، وَكَذَا رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مَعَ رَجُلٍ، فَإِنَّهَا تَنْظُرُ مِنْهُ غَيْرَ مَا بَيْنَ سُرَّةٍ وَرُكْبَةٍ وَعَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ آدَابِ النِّسَاءِ: وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْعِشْقِ إطْلَاقُ الْبَصَرِ، وَكَمَا يُخَافُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ ذَلِكَ يُخَافُ عَلَى الْمَرْأَةِ، قَالَ: وَقَدْ ذَهَبَ دِينُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ بِإِطْلَاقِ الْبَصَرِ وَمَا جَلَبَهُ، فَلْيُحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ. انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ مُوسَى الْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآدَابِ: وَجَدْت فِي ظَهْرِ وَرَقَةٍ فِي كِتَابٍ أَبْيَاتًا مَنْظُومَةً كَأَنَّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ جَوَابُ سُؤَالِ رَجُلٍ كَانَ يُعَلِّمُ أَوْلَادًا مُرْدًا فَخَافَ أَنْ تَمِيلَ نَفْسُهُ إلَيْهِمْ أَوْ كَادَتْ تَمِيلُ، هَذَا مَا وَجَدْت: أَيَا سَائِلًا بِاَللَّهِ إنْ كُنْت ذَا تُقًى ... وَتَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ فَإِيَّاكَ وَالْأَحْدَاثَ لَا تَقْرَبَنَّهُمْ ... وَلَا تُرْسِلَنَّ الطَّرْفَ فِيهِمْ عَلَى عَمْدٍ وَإِرْسَالُ طَرْفٍ مِنْك لَا تَحْقِرَنَّهُ ... فَفِي ضِمْنِهِ سَهْمٌ يَفُوقُ عَلَى الْهِنْدِ فَإِنَّك إنْ أَرْسَلْت طَرْفَك رِئْدًا ... تُمَتِّعُهُ يَا صَاحِ بِالنَّاعِمِ الْخَدِّ تَبُوءُ بِإِثْمٍ ثُمَّ تُسْلَبُ أَنْعُمًا ... ثَلَاثًا بِهِنَّ اللَّهُ يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ حَلَاوَةُ إيمَانٍ وَنُورُ فِرَاسَةٍ ... وَثَالِثُهَا إيمَانُ ذِي الْقُوَّةِ الْجَلْدِ فَمَا بَعْدَ ذَا الْخُسْرَانِ رِبْحٌ فَخَلِّهِمْ ... يُعَلِّمُهُمْ ذُو عِفَّةٍ حَسَنُ الْقَصْدِ وَنَاظِمُهَا يُسَمَّى ابْنَ جَمَالٍ أَحْمَدَ ... هُوَ الْحَنْبَلِيُّ بِالشُّكْرِ يَخْتِمُ وَالْحَمْدِ (تَنْبِيهٌ ثَانٍ) : قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي كِتَابِهِ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31] : لَمَّا كَانَ غَضُّ الْبَصَرِ أَصْلًا لِحِفْظِ الْفَرْجِ بَدَأَ بِذِكْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُهُ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ فَيُبَاحُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَيَحْرُمُ إذَا خِيفَ مِنْهُ الْفَسَادُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ مَصْلَحَةٌ أَرْجَحُ مِنْ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ لَمْ يَأْمُرْ سُبْحَانَهُ بِغَضِّهِ مُطْلَقًا، بَلْ أَمَرَ بِالْغَضِّ مِنْهُ. وَأَمَّا حِفْظُ الْفَرْجِ فَوَاجِبٌ بِكُلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 حَالٍ لَا يُبَاحُ إلَّا لِحَقِّهِ، فَلِذَلِكَ عَمَّ الْأَمْرُ بِحِفْظِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْعَيْنَ مِرْآةَ الْقَلْبِ، فَإِذَا غَضَّ الْعَبْدُ بَصَرَهُ غَضَّ الْقَلْبُ شَهْوَتَهُ وَإِرَادَتَهُ، وَإِذَا أَطْلَقَ بَصَرَهُ أَطْلَقَ الْقَلْبُ شَهْوَتَهُ. انْتَهَى. فَاَللَّهَ اللَّهَ فِي غَضِّ بَصَرِك لِيَسْلَمَ لَك دِينُك وَآخِرَتُك، وَأَمَّا مَا يُرَوِّجُهُ الشُّعَرَاءُ الْفُسَّاقُ، وَيَنْسُبُونَهُ لِلْأَئِمَّةِ مِنْ تَزَخْرُفِ الْأَشْعَارِ فَبَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُحَقِّقِ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ، وَالدَّاءِ وَالدَّوَاءِ وَغَيْرِهِمَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا يُنْسَبُ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُونَ لَا تَنْظُرْ وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ ... أَلَا كُلُّ ذِي عَيْنَيْنِ لَا شَكَّ نَاظِرُ وَلَيْسَ اكْتِحَالُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ رِيبَةً ... إذَا عَفَّ فِيمَا بَيْنَ ذَاكَ الضَّمَائِرِ وَأَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ رِجَالٌ فِي رُقْعَةٍ: سَلْ الْمُفْتِيَ الْمَكِّيَّ هَلْ فِي تَزَاوُرٍ ... بِنَظْرَةِ مُشْتَاقِ الْفُؤَادِ جُنَاحٌ فَأَجَابَهُ الشَّافِعِيُّ: مَعَاذَ إلَهِ الْعَرْشِ أَنْ يُذْهِبَ التُّقَى ... تَلَاصُقُ أَكْبَادٍ بِهِنَّ جِرَاحٌ وَأَنَّهُ سُئِلَ أَيْضًا بِمَا لَفْظُهُ: أَقُولُ لِمُفْتِي خَيْفِ مَكَّةَ وَالصَّفَا ... لَك الْخَيْرُ هَلْ فِي وَصْلِهِنَّ حَرَامُ وَهَلْ فِي صُمُوتِ الْحَجْلِ مَهْضُومَةَ الْحَشَا ... عَذَابُ الثَّنَايَا أَنْ لَثَمْتَ حَرَامُ فَوَقَعَ الشَّافِعِيُّ مِنْهَا مَا لَفْظُهُ: فَقَالَ لِي الْمُفْتِي وَفَاضَتْ دُمُوعُهُ ... عَلَى الْخَدِّ مِنْ عَيْنٍ وَهُنَّ تَوَامٌّ أَلَا لَيْتَنِي قَبَّلْت تِلْكَ عَشِيَّةً ... بِبَطْنِ مِنًى وَالْمُحْرِمُونَ قِيَامُ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا مَا زَوَّرُوهُ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِ كُلِّ أَحَدٍ بِجُمُودِهِ مَعَ النَّصِّ فَقَالُوا: سَأَلْت إمَامَ النَّاسِ نَجْلَ بْنَ حَنْبَلٍ ... عَنْ الضَّمِّ وَالتَّقْبِيلِ هَلْ فِيهِ مِنْ بَاسِ فَقَالَ إذَا حَلَّ الْغَرَامُ فَوَاجِبٌ ... لِأَنَّك قَدْ أَحْيَيْت عَبْدًا مِنْ النَّاسِ وَمَا زَوَّرُوهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ: كَتَبْنَا إلَى النُّعْمَانِ يَوْمًا رِسَالَةً ... نُسَائِلُهُ عَنْ لَثْمِ حِبٍّ مُمَنَّعٍ فَقَالَ لَنَا لَا إثْمَ فِيهِ وَإِنَّهُ ... شَهِيٌّ إذَا كَانَتْ لِعَشْرٍ وَأَرْبَعٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وَعَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -: إنَّا سَأَلْنَا مَالِكًا وَقَرِيبَهُ ... لَيْثَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ لِثَامِ الْوَامِقِ أَيَجُوزُ قَالَا وَاَلَّذِي خَلَقَ الْوَرَى ... مَا حَرَّمَ الرَّحْمَنُ قُبْلَةَ عَاشِقٍ فَكُلُّ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ التُّرَّهَاتِ وَالتَّهَوُّرَاتِ كَذِبٌ وَزُورٌ، مِنْ تَخْلِيقِ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ، وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُ النَّاقِلِ، وَاطَّلَعَ عَلَى جُلِّ الْمَسَائِلِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ فَسَادَ جَمِيعِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا وَمِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَسَادُهُ أَظْهَرَ مِنْ فَسَادِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، فَإِنِّي ذَكَرْته خَوْفًا مِنْ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ مِمَّنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِصَحِيحِ الْأَقَاوِيلِ وَسَقِيمِهَا مِنْ الطُّلَّابِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِطَرِيقِ الصَّوَابِ، لَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ. وَيَحْرُمُ بُهُتٌ وَاغْتِيَابٌ نَمِيمَةٌ ... وَإِفْشَاءُ سِرٍّ ثُمَّ لَعْنٌ مُقَيَّدِ (وَيَحْرُمُ) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (بُهُتٌ) أَيْ بُهُتُ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: بَهَتَهُ كَمَنَعَهُ بَهْتًا وَبَهَتًا وَبُهْتَانًا، قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ وَالْبَهِيتَةُ الْبَاطِلُ الَّذِي يُتَحَيَّرُ مِنْ بُطْلَانِهِ، وَالْكَذِبُ كَالْبُهُتِ بِالضَّمِّ. انْتَهَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112] وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ قِيلَ أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ: قَوْلُهُ فَقَدْ بَهَتَّهُ بِتَخْفِيفِ الْهَاءِ وَمَنْ شَدَّدَهَا فَقَدْ أَخْطَأَ، وَمَعْنَاهُ قُلْت فِيهِ الْبُهْتَانَ وَهُوَ الْبَاطِلُ، وَقِيلَ قُلْت فِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ مَا حَيَّرْته بِهِ، يُقَالُ بَهَتَ فُلَانٌ فُلَانًا فَبُهِتَ أَيْ تَحَيَّرَ فِي كَذِبِهِ، وَقِيلَ بَهَتَهُ وَاجَهَهُ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَفِي حَدِيثِ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ» بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ مُوَاجِهُونَ بِالْبَاطِلِ إنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي يَبْهَتُونِي أَيْ قَابَلُونِي وَوَاجَهُونِي مِنْ الْبَاطِلِ بِمَا يُحَيِّرُنِي. مَطْلَبٌ: فِي ذَمِّ الْغِيبَةِ وَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (اغْتِيَابٌ) لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: غَابَهُ ذَكَرَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ السُّوءِ كَاغْتَابَهُ، وَالْغِيبَةُ فَعِلَةٌ مِنْهُ وَفِي النِّهَايَةِ: قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْغِيبَةِ وَهُوَ أَنْ تَذْكُرَ الْإِنْسَانَ فِي غِيبَتِهِ بِسُوءٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ، فَإِذَا ذَكَرْته بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ الْبُهُتُ وَالْبُهْتَانُ قَالَ تَعَالَى {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا هَلْ بَلَّغْت. » وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ» . وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا مِثْلُ إتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ» . وَفِي كِتَابِ ذَمِّ الْغِيبَةِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَنَّ الدِّرْهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَطِيئَةِ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا الرَّجُلُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ» . وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «إنَّ الرِّبَا نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَهْوَنُهُنَّ بَابًا مِنْ الرِّبَا مِثْلُ مَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَدِرْهَمُ رِبَا أَشَدُّ مِنْ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً وَأَشَدُّ الرِّبَا وَأَرْبَى الرِّبَا وَأَخْبَثُ الرِّبَا انْتِهَاكُ عِرْضِ الْمُسْلِمِ وَانْتِهَاكُ حُرْمَتِهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مِنْ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ» وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي دَاوُد بِلَفْظِ «إنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْ الْكَبَائِرِ السَّبَّتَانِ بِالسَّبَّةِ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِلَفْظِ «الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا وَأَيْسَرُهَا كَنِكَاحِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ» . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَالْحُوبُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الْإِثْمُ وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِنَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَظَرَ فِي النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ، قَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَرَأَى رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ جِدًّا قَالَ مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَذَا عَاقِرُ النَّاقَةِ. » وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْشِمُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» وَفِي حَدِيثِ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ الْمُقْرَائِيِّ قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ ثُمَّ مَرَرْت عَلَى نِسَاءٍ وَرِجَالٍ مُعَلَّقِينَ بِثَدْيِهِنَّ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ هَؤُلَاءِ اللَّمَّازُونَ وَالْهَمَّازُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] » رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةٍ ثُمَّ رَوَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: الْهَمْزُ بِالْعَيْنِ وَالشَّدْقِ وَالْيَدِ، وَاللَّمْزُ بِاللِّسَانِ قَالَ وَبَلَغَنِي عَنْ اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ: الْهُمَزَةُ الَّذِي يَعِيبُك فِي وَجْهِك، وَاللُّمَزَةُ الَّذِي يَعِيبُك بِالْغَيْبِ وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَرُوَاةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارْتَفَعَتْ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ، هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «بَيْنَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ آخِذٌ بِيَدَيَّ وَرَجُلٌ عَنْ يَسَارِهِ فَإِذَا نَحْنُ بِقَبْرَيْنِ أَمَامَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَبَكَى، فَأَيُّكُمْ يَأْتِينَا بِجَرِيدَةٍ، فَاسْتَبَقْنَا فَسَبَقْته فَأَتَيْته بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا نِصْفَيْنِ فَأَلْقَى عَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً وَعَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً، قَالَ إنَّهُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِمَا مَا كَانَتَا رَطْبَتَيْنِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ إلَّا فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ عَهِدَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَتَى عَلَى قَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ فَقَالَ إنَّ هَذَا كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فَوَضَعَهَا عَلَى قَبْرِهِ وَقَالَ لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ مَا دَامَتْ هَذِهِ رَطْبَةً» . وَأَخْرَجَ الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ يَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يَعْضِدُ الرَّاعِي الشَّجَرَةَ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَنَهْبُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَة الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» وَرَوَى الْحَاكِمُ نَحْوَهُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَدْغَةُ الْخَبَالِ هِيَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ. كَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا مَرْفُوعًا وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ. وَالْخَبَالُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ. مَطْلَبٌ: مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ» وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِلَفْظِ «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ التَّوْبِيخِ بِلَفْظِ «مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] » . وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ فِي التَّوْبِيخِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ أَدْرَكَهُ إثْمُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَرَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ بِلَفْظِ «مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَاسْتَطَاعَ نُصْرَتَهُ فَنَصَرَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: الْغِيبَةُ مَرْعَى اللِّئَامِ. وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ: لَا يَذْكُرُ فِي النَّاسِ مَا يَكْرَهُونَهُ إلَّا سَفَلَةٌ لَا دِينَ لَهُ. مَطْلَبٌ: هَلْ يَجُوزُ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ إذَا كَانَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ قَدْ لَا يَكُونُ غِيبَةً مُحَرَّمَةً، كَأَنْ يَكُونَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِلَقَبِهِ كَالْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَشِ. وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَجُلٍ يُعْرَفُ بِلَقَبِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهِ، فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْأَعْمَشُ إنَّمَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ هَكَذَا، فَسَهَّلَ فِي مِثْلِ هَذَا إذَا كَانَ قَدْ [شُهِرَ. وَقَالَ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ: يَجُوزُ ذِكْرُ الرَّاوِي بِلَقَبِهِ وَصِفَتِهِ وَنَسَبِهِ الَّذِي يَكْرَهُهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ تَعْرِيفَهُ لَا تَنْقِيصَهُ لِلْحَاجَةِ كَمَا يَجُوزُ الْجَرْحُ لِلْحَاجَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَمْتَازُ الْجَرْحُ بِالْوُجُوبِ فَإِنَّهُ مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: الْهِجْرَانُ الْجَائِزُ هَجْرُ ذَوِيَ الْبِدَعِ، أَوْ مُجَاهِرٍ بِالْكَبَائِرِ وَلَا يَصِلُ إلَى عُقُوبَتِهِ وَلَا يَقْدَمُ عَلَى مَوْعِظَتِهِ أَوْ لَا يَقْبَلُهَا، وَلَا غِيبَةَ فِي هَذَيْنِ فِي ذِكْرِ حَالِهِمَا. قَالَ فِي الْفُصُولِ: لِيَحْذَرْ مِنْهُ أَوْ يَكْسِرْهُ عَنْ الْفِسْقِ، وَلَا يَقْصِدْ بِهِ الْإِزْرَاءَ عَلَى الْمَذْكُورِ وَالطَّعْنَ فِيهِ وَلَا فِيمَا يُشَاوَرُ فِيهِ مِنْ النِّكَاحِ أَوْ الْمُخَاطَبَةِ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الرَّجُلِ يَسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَخْطُبُ إلَيْهِ فَيَسْأَلُ عَنْهُ فَيَكُونُ رَجُلَ سُوءٍ فَيُخْبِرُهُ مِثْلَ مَا «أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ لِفَاطِمَةَ: مُعَاوِيَةُ عَائِلٌ، وَأَبُو جَهْمٍ عَصَاهُ عَلَى عَاتِقِهِ» ، يَكُونُ غِيبَةٌ إنْ أَخْبَرَهُ؟ قَالَ: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ يُخْبِرُهُ بِمَا فِيهِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَلَكِنْ يَقُولُ مَا أَرْضَاهُ لَك وَنَحْوَ هَذَا أَحْسَنُ. وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ مَعْنَى الْغِيبَةِ يَعْنِي فِي النَّصِيحَةِ، قَالَ إذَا لَمْ تُرِدْ عَيْبَ الرَّجُلِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي حَرْبٌ سَمِعْت أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ فَلَيْسَتْ لَهُ غِيبَةٌ. وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ: مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ فِيهِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: الْأَشْهَرُ عَنْهُ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْلِنِ وَغَيْرِهِ. وَظَاهِرُ الْفُصُولِ وَالْمُسْتَوْعِبِ أَنَّ مَنْ جَازَ هَجْرُهُ جَازَتْ غِيبَتُهُ. قَالَ وَمُرَادُهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَنْ لَا فَلَا. وَقَدْ احْتَجَّ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ عَلَى غِيبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ «بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» . مَطْلَبٌ: هَلْ يَجُوزُ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ لِمَصْلَحَةٍ؟ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي التَّحْرِيرِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النُّصْحِ وَالتَّعْبِيرِ: اعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُ إنَّمَا يَكُونُ مُحَرَّمًا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالتَّنْقِيصِ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَاصَّةٌ لِبَعْضِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَحْصِيلَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ. قَالَ وَقَدْ قَرَّرَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ هَذَا فِي كُتُبِهِمْ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَذَكَرُوا الْفَرْقَ بَيْنَ جَرْحِ الرُّوَاةِ وَالْغِيبَةِ، وَرَدُّوا عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَتَّسِعُ عِلْمُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّعْنِ فِي رُوَاةِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَنْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ، وَبَيْنَ تَبَيُّنِ خَطَأِ مَنْ أَخْطَأَ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَوْ تَمَسَّكَ مِنْهُمَا بِمَا لَا يُتَمَسَّكُ بِهِ لِيَحْذَرْ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيمَا أَخْطَأَ بِهِ. قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَيْضًا. قُلْت: وَقَدْ مَرَّ قَرِيبًا عَنْ صَاحِبِ الْآدَابِ أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ، لَكِنَّ مُرَادَ الْحَافِظِ بِالْجَوَازِ مَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَلِهَذَا تَجِدُ كُتُبَهُمْ الْمُصَنَّفَةَ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ التَّفْسِيرِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُمْتَلِئَةً مِنْ الْمُنَاظَرَاتِ وَرَدِّ أَقْوَالِ مَنْ تَضْعُفُ أَقْوَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا أَدَّعِي أَنَّ فِيهِ طَعْنًا عَلَى مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَلَا ذَمًّا وَلَا تَنْقِيصًا. قَالَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ يَفْحُشُ فِي الْكَلَامِ يُسِيءُ الْأَدَبَ فِي الْعِبَارَةِ فَيُنْكِرُ عَلَيْهِ إفْحَاشَهُ وَإِسَاءَتَهُ دُونَ أَصْلِ رَدِّهِ، قَالَ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُلَمَاءَ الدِّينِ كُلَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى قَصْدِ إظْهَارِ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَكُلُّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الْإِحَاطَةَ بِالْعِلْمِ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ شُذُوذِ شَيْءٍ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ مَرْتَبَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا ادَّعَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، فَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ الْمُجْمَعِ عَلَى عِلْمِهِمْ وَفَضْلِهِمْ يَقْبَلُونَ الْحَقَّ مِمَّنْ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَيُوصُونَ أَتْبَاعَهُمْ وَأَصْحَابَهُمْ بِقَبُولِ الْحَقِّ إذَا ظَهَرَ فِي غَيْرِ قَوْلِهِمْ، كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا خَطَبَ وَنَهَى عَنْ الْمُغَالَاةِ فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ وَرَدَّتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ وَقَالَ امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ. وَذَكَرَ مِنْ هَذَا أَشْيَاءَ نَفِيسَةً جِدًّا ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ هَذَا يَعْنِي النَّظَرَ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَصْلَحَةِ أَنْ يُقَالَ لِلرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ مَا يَكْرَهُهُ طَبْعُهُ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ فَهُوَ حَسَنٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لِبَعْضٍ: لَا حَتَّى تَقُولَ فِي وَجْهِي مَا أَكْرَهُ، فَإِذَا أَخْبَرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ بِعَيْبِهِ لِيَجْتَنِبَهُ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا، وَيَحِقُّ لِمَنْ أُخْبِرَ بِعَيْبِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقْبَلَ النُّصْحَ وَيَرْجِعَ عَمَّا أُخْبِرَ بِهِ مِنْ عُيُوبِهِ أَوْ يَعْتَذِرَ مِنْهَا إنْ كَانَ لَهُ مِنْهَا عُذْرٌ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّوْبِيخِ وَالتَّعْيِيرِ فَهُوَ قَبِيحٌ مَذْمُومٌ. وَقِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ أَتُحِبُّ أَنْ يُخْبِرَك أَحَدٌ بِعُيُوبِك؟ فَقَالَ إنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُوَبِّخَنِي فَلَا. فَالتَّعْيِيرُ وَالتَّوْبِيخُ بِالذَّنْبِ مَذْمُومٌ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» قَالَ الْحَافِظُ: وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ صَاحِبُهُ. قَالَ: الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيَفْضَحُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ: اجْتَهِدْ أَنْ تَسْتُرَ الْعُصَاةَ فَإِنَّ ظُهُورَ عَوْرَاتِهِمْ وَهْنٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَحَقُّ شَيْءٍ بِالسَّتْرِ الْعَوْرَةُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيك فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَك» وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ «الْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَيَّرَ رَجُلًا بِرَضَاعِ كَلْبَةٍ لَرَضَعَهَا» . وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ يُقَالُ: مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَبْتَلِيَهُ اللَّهُ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» قَالَ الْحَافِظُ إسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ. انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَدْحَ لَا يَكُونُ غِيبَةً مُحَرَّمَةً فِي مَوَاضِعَ. إمَّا لِكَوْنِ الْمَقْدُوحِ فِيهِ مُبْتَدِعًا أَوْ فَاسِقًا مُعْلِنًا. أَوْ فِي الْمَشُورَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، أَوْ كَوْنُ مَا يَكْرَهُهُ صَارَ لَهُ لَقَبًا كَالْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَشِ، أَوْ ذَكَرَ ضَعْفَهُ وَكَذِبَهُ فِي الْجُرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِأَجْلِ حِفْظِ السُّنَنِ، أَوْ مَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا رَفَعَهُ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُفَصَّلًا. وَنَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: الْقَدْحُ لَيْسَ بِغِيبَةٍ فِي سِتَّةٍ ... مُتَظَلِّمٍ وَمُعَرِّفٍ وَمُحَذِّرٍ وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا وَمُسْتَفْتٍ وَمَنْ ... طَلَبَ الْإِعَانَةَ فِي إزَالَةِ مُنْكَرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ النَّمِيمَةِ وَمَا وَرَدَ فِي ذَمِّهَا وَتَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (نَمِيمَةٌ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: النَّمِيمَةُ نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْمٍ إلَى قَوْمٍ عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ وَالشَّرِّ، وَقَدْ نَمَّ الْحَدِيثَ يَنُمُّهُ نَمًّا فَهُوَ نَمَّامٌ، وَالِاسْمُ النَّمِيمَةُ. وَنَمَّ الْحَدِيثُ إذَا ظَهَرَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: النَّمُّ التَّوْرِيشُ وَالْإِغْرَاءُ، وَرَفْعُ الْحَدِيثِ إشَاعَةً وَإِفْسَادًا وَتَزْيِينُ الْكَلَامِ بِالْكَذِبِ، يَنِمُّ وَيَنُمُّ فَهُوَ نَمُومٌ وَنَمَّامٌ وَمِنَمٌّ كَمِجَنٍّ. وَالنَّمِيمَةُ الِاسْمُ وَصَوْتُ الْكِتَابَةِ وَالْكِتَابَةُ وَوَسْوَاسُ هَمْسِ الْكَلَامِ. وَنَمَّ الْمِسْكُ سَطَعَ. وَالنَّمَّامُ نَبْتٌ طَيِّبٌ مُدِرٌّ مُخْرِجٌ لِلْجَنِينِ الْمَيِّتِ وَالدُّودِ وَيَقْتُلُ الْقَمْلَ وَخَاصِّيَّتُهُ النَّفْعُ مِنْ لَسْعِ الزَّنَابِيرِ شُرْبًا مِثْقَالًا بِسَكَنْجَبِينَ. انْتَهَى. وَيُسَمَّى النَّمَّامُ قَتَّاتًا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: رَجُلٌ قَتَّاتٌ وَقَتُوتٌ وَقَتَّنِي نَمَّامٌ. أَوْ يَسْتَمِعُ أَحَادِيثَ النَّاسِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ سَوَاءٌ نَمَّهَا أَوْ لَمْ يَنِمَّهَا. وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: لَامَ الْعَذُولَ وَفِي الْحَشَا لَوْعَاتِي ... وَهُوَ الظَّلُومُ لَنَا الْغَشُومُ الْعَاتِي يَا وَيْحَهُ مَا يَعْذُرُ الصَّبَّ الَّذِي ... يَبْكِي مَدَى الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ أَوْ مَا يَرِقُّ عَلَى رَقِيقٍ فِي الْهَوَى ... قَدْ صَارَمَ الْأَفْرَاحَ وَاللَّذَّاتِ عَافَ الْمَنَامَ وَقَامَ فِي غَسَقِ الدُّجَى ... يَشْكُو الْغَرَامَ لِعَالِمِ الذَّرَّاتِ أَهْوَى بِهِ دَاءُ الْهَوَى فَتَرَاهُ فِي ... حَالَاتِهِ مُتَغَيِّرَ الْحَالَاتِ أَحْفَى هَوَاهُ عَنْ الْأَنَامِ لَعَلَّهُ ... يَخْفَى فَبَانَ لِدَمْعِهِ الْقَتَّاتُ يَعْنِي النَّمَّامَ. وَسَمَّى الدَّمْعَ نَمَّامًا لِأَنَّهُ يَنِمُّ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُظْهِرُ مِنْ حَالِهِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «قَتَّاتٌ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ: الْقَتَّاتُ وَالنَّمَّامُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقِيلَ النَّمَّامُ الَّذِي يَكُونُ مَعَ جَمَاعَةٍ يَتَحَدَّثُونَ حَدِيثًا فَيَنِمُّ عَلَيْهِمْ، وَالْقَتَّاتُ الَّذِي يَتَسَمَّعُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ثُمَّ يَنِمُّ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِيهِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» هُوَ النَّمَّامُ، يُقَالُ قَتَّ الْحَدِيثَ يَقُتُّهُ إذَا زَوَّرَهُ وَهَيَّأَهُ وَسَوَّاهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْمُنْذِرِيِّ وَزَادَ: وَالْعَسَّاسُ الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الْأَخْبَارِ ثُمَّ يَنُمُّهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، قَالَ فَكَانَ النَّاسُ يَمْشُونَ خَلْفَهُ، قَالَ فَلَمَّا سَمِعَ صَوْتَ النِّعَالِ وَقَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ فَجَلَسَ حَتَّى قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ لِئَلَّا يَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ، فَلَمَّا مَرَّ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ إذَا بِقَبْرَيْنِ قَدْ دَفَنُوا فِيهِمَا رَجُلَيْنِ، قَالَ فَوَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَنْ دَفَنْتُمْ هَهُنَا الْيَوْمَ؟ قَالُوا فُلَانٌ وَفُلَانٌ، قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَتَنَزَّهُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا ثُمَّ جَعَلَهَا عَلَى الْقَبْرِ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ لِمَ فَعَلْت هَذَا؟ قَالَ لِيُخَفِّفْنَ عَنْهُمَا. قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَتَّى مَتَى هُمَا يُعَذَّبَانِ؟ قَالَ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، وَلَوْلَا تَمَزُّعُ قُلُوبِكُمْ وَتَزَيُّدُكُمْ فِي الْحَدِيثِ لَسَمِعْتُمْ مَا أَسْمَعُ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «النَّمِيمَةُ وَالشَّتِيمَةُ وَالْحَمِيَّةُ فِي النَّارِ» وَفِي لَفْظٍ «أَنَّ النَّمِيمَةَ وَالْحِقْدَ فِي النَّارِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُسْلِمٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كُنَّا نَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَرَرْنَا عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَامَ فَقُمْنَا مَعَهُ، فَجَعَلَ لَوْنَهُ يَتَغَيَّرُ حَتَّى رَعَدَكُمْ قَمِيصُهُ، فَقُلْنَا مَا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟ فَقُلْنَا وَمَا ذَاكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ هَذَانِ رَجُلَانِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ، قُلْنَا فِيمَ ذَاكَ؟ قَالَ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَكَانَ الْآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ. فَدَعَا بِجَرِيدَتَيْنِ مِنْ جَرَائِدِ النَّخْلِ فَجَعَلَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. قُلْنَا وَهَلْ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا دَامَا رَطْبَتَيْنِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: قَوْلُهُ «فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ» أَيْ هَيِّنٍ عِنْدَهُمَا وَفِي ظَنِّهِمَا لَا أَنَّهُ هَيِّنٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ» قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى. أَوْ يُقَالُ: أَرَادَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ هَيِّنٌ تَرْكُهُ وَالتَّحَرُّزُ مِنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الرُّوحِ: «قَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، يَمْشِي أَحَدُهُمَا بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَتْرُكُ الْآخَرُ الِاسْتِبْرَاءَ مِنْ الْبَوْلِ» ، فَهَذَا تَرَكَ الطَّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ. وَذَلِكَ ارْتَكَبَ السَّبَبَ الْمُوقِعَ لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا. قَالَ وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمُوقِعَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ أَعْظَمُ عَذَابًا. كَمَا أَنَّ فِي تَرْكِ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ الْبَوْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ الَّتِي الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ الْبَوْلِ بَعْضُ وَاجِبَاتِهَا وَشُرُوطِهَا فَهُوَ أَشَدُّ عَذَابًا. انْتَهَى. وَقَدْ أَبْدَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ نُكْتَةَ ذَلِكَ وَهِيَ مِمَّا يُكْتَبُ بِالذَّهَبِ عَلَى صَفَحَاتِ الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَقْضِي فِيهِ الْحَقُّ جَلَّ جَلَالُهُ الصَّلَاةُ وَالدِّمَاءُ. وَالطَّهَارَةُ أَقْوَى شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَمُقَدِّمَتُهَا، فَإِذَا لَمْ يَتَنَزَّهْ مِنْ الْبَوْلِ وَلَمْ يَسْتَبْرِئْ مِنْهُ فَقَدْ فَرَّطَ فِي شَرْطِ الصَّلَاةِ. وَسَبَبُ وُقُوعِ النَّاسِ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ وَإِرَاقَتِهَا بِغَيْرِ حَقِّ الْعَدَاوَةُ، وَمُقَدِّمَتُهَا النَّمِيمَةُ، فَإِنَّهَا سَبَبُ الْعَدَاوَةِ، وَعَذَابُ الْقَبْرِ مُقَدِّمَةُ عَذَابِ النَّارِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمُقَدِّمَاتِ أَوَّلًا. فَانْظُرْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ وَتَأَمَّلْهَا تَجِدْهَا فِي غَايَةِ الْمُطَابَقَةِ جَزَاءً وِفَاقًا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ مَرْفُوعًا «لَيْسَ مِنِّي ذُو حَسَدٍ وَلَا نَمِيمَةٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا أَنَا مِنْهُ. ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] » . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «تَجِدُونَ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ» وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ «إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ» . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَهَذَا لِأَنَّهُ نِفَاقٌ وَخِدَاعٌ وَكَذِبٌ وَتَحَيُّلٌ عَلَى اطِّلَاعِهِ عَلَى أَسْرَارِ الطَّائِفَتَيْنِ، لِأَنَّهُ يَأْتِي كُلَّ طَائِفَةٍ بِمَا يُرْضِيهَا وَيُظْهِرُ أَنَّهُ مَعَهَا، وَهِيَ مُدَاهَنَةٌ مُحَرَّمَةٌ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: قَالَ تَعَالَى {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] أَيْ مَقْطُوعَةٌ مُمَالَةٌ إلَى الْحَائِطِ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا هِيَ ثَابِتَةٌ، إنَّمَا كَانُوا يَسْتَنِدُونَ إلَى مَنْ يَنْصُرُهُمْ وَإِلَى مَا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4] لِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4] لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الشَّرِّ بِالْمُخَالَطَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه: يَا رَبِّ إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ فِي مَا لَيْسَ فِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ يَا مُوسَى لَمْ أَجْعَلْ ذَلِكَ لِنَفْسِي فَكَيْفَ لَك. وَقَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا يُحْزِنُك قَوْلُ النَّاسِ فِيك، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كَانَتْ حَسَنَةً لَمْ تَعْمَلْهَا، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا كَانَتْ سَيِّئَةً عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ شِعْرًا: لِي حِيلَةٌ فِيمَنْ يَنُمُّ ... وَلَيْسَ فِي الْكَذَّابِ حِيلَهْ مَنْ كَانَ يَخْلُقُ مَا يَقُو ... لُ فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَهْ مَطْلَبٌ: هَلْ يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْغِيبَةِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُغْتَابِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِحْلَالِ (تَنْبِيهٌ) : لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فِي غَيْرِ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ. انْتَهَى، يَعْنِي سِوَى مَا قَدَّمْنَا، وَهَلْ هُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ أَوْ مِنْ الصَّغَائِرِ، الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ عَنْ النَّاظِمِ: وَقَدْ قِيلَ صُغْرَى غِيبَةٌ وَنَمِيمَةٌ ... وَكِلْتَاهُمَا كُبْرَى عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ فَتَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُمَا وَاسْتِحْلَالُ مَنْ اغْتَابَهُ أَوْ بَهَتَهُ أَوْ جَبَهَهُ بِأَنْ وَاجَهَهُ بِمَا يَكْرَهُ أَوْ نَمَّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ فِتْنَةٌ فَيَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ وَلِلْمُغْتَابِ بِأَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ لَنَا وَلَهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ: يَذْكُرُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ» ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ وَقَالَ فِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُمَا هَلْ يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْغِيبَةِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُغْتَابِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ وَتَحَلُّلِهِ. قَالَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْلَامِهِ بَلْ يَكْفِيهِ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَذِكْرُهُ بِمَحَاسِنِ مَا فِيهِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي اغْتَابَهُ فِيهَا. وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ. قَالَ وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ جَعَلُوا الْغِيبَةَ كَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ يَنْتَفِعُ الْمَظْلُومُ بِعَوْدِ نَظِيرِ مَظْلِمَتِهِ إلَيْهِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا. وَأَمَّا فِي الْغِيبَةِ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِإِعْلَامِهِ إلَّا عَكْسُ مَقْصِدِ الشَّارِعِ، فَإِنَّهُ يُوغِرُ صَدْرَهُ وَيُؤْذِيهِ إذَا سَمِعَ مَا رُمِيَ بِهِ، وَلَعَلَّهُ يُهَيِّجُ عَدَاوَتَهُ وَلَا يَصْفُو لَهُ أَبَدًا. وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَالشَّارِعُ الْحَكِيمُ لَا يُبِيحُهُ وَلَا يُجِيزُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَهُ وَيَأْمُرَ بِهِ. وَمَدَارُ الشَّرِيعَةِ عَلَى تَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا لَا عَلَى تَحْصِيلِهَا وَتَكْمِيلِهَا. انْتَهَى. وَهُوَ كَمَا تَرَى فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (تَتِمَّةٌ) ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْغِيبَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الدِّينِ لَا فِي الْخِلْقَةِ وَالْحَسَبِ، وَأَنَّ قَوْمًا قَالُوا عَكْسَ هَذَا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، لَكِنَّ قَيْدَ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَوَّلِ إذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَيْبِ، وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الْكَبَائِرِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَفِي الْفُصُولِ وَالْمُسْتَوْعِبِ: أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ مِنْ الصَّغَائِرِ. انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ فِي الْإِقْنَاعِ. . (فَرْعٌ) : الْغِيبَةُ لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ فِقْهًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَيَتَعَاهَدُ صَوْمَهُ بِصَوْنِ لِسَانِهِ مِنْ نَحْوِ غِيبَةٍ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. وَمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِ «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْجَهْلَ وَالْعَمَلَ بِهِ» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إنَّمَا الصِّيَامُ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحَيْهِمَا. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلَّا السَّهَرُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِهِمَا. وَحَدِيثُ «الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَامَتَا وَأَنَّهُمَا قَدْ كَادَتَا أَنْ تَمُوتَا مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولُهُمَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهُمَا وَاَللَّهِ قَدْ مَاتَتَا أَوْ كَادَتَا أَنْ تَمُوتَا. قَالَ اُدْعُهُمَا. قَالَ فَجَاءَتَا. قَالَ فَجِيءَ. بِقَدَحٍ أَوْ عُسٍّ قَدَحٌ عَظِيمٌ وَهُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَيْنِ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا قِيئِي فَقَاءَتْ قَيْحًا وَدَمًا وَصَدِيدًا وَلَحْمًا حَتَّى مَلَأَتْ نِصْفَ الْقَدَحِ، ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى قِيئِي فَقَاءَتْ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ وَصَدِيدٍ وَلَحْمٍ عَبِيطٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى مَلَأَتْ الْقَدَحَ، ثُمَّ قَالَ إنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمَا وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، جَلَسَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى فَجَعَلَتَا تَأْكُلَانِ مِنْ لُحُومِ النَّاسِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُمْ - فَمَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ. قَالَا فِي الْفُرُوعِ: وَلَا يُفْطِرُ بِالْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا، نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ اتِّفَاقًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ كَانَتْ الْغِيبَةُ تُفْطِرُ مَا كَانَ لَنَا صَوْمٌ. وَذَكَرَهُ الْمُوَفَّقُ إجْمَاعًا، لِأَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وَظَاهِرُهُ صِحَّتُهُ إلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ. ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ، يَعْنِي الْإِمَامَ الْمَجْدَ. قَالَ وَالنَّهْيُ عَنْ قَوْلِ الزُّورِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالْغِيبَةِ لِيَسْلَمَ مِنْ نَقْصِ الْأَجْرِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَمُرَادُهُ أَنَّهُ قَدْ يَكْثُرُ فَيَزِيدُ عَلَى أَجْرِ الصَّوْمِ، وَقَدْ يَقِلُّ وَقَدْ يَتَسَاوَيَانِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ. وَأَسْقَطَ أَبُو الْفَرَجِ ثَوَابَهُ بِالْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا. قَالَ فِي الْفُرُوعِ، وَمُرَادُهُ مَا سَبَقَ وَإِلَّا فَضَعِيفٌ. وَاخْتَارَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ يُفْطِرُ بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ. وَالْمُعْتَمَدُ خِلَافُ مَا زَعَمَ، مَعَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . مَطْلَبٌ: فِي حُرْمَةِ إفْشَاءِ السِّرِّ وَذِكْرِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (إفْشَاءُ) أَيْ نَشْرُ وَإِذَاعَةُ سِرٍّ، وَهُوَ مَا يُكْتَمُ كَالسَّرِيرَةِ وَجَمْعُهُ أَسْرَارٌ وَسَرَائِرُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: فَشَا خَبَرُهُ فَشْوًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وَفُشُوًّا وَفُشِيًّا انْتَشَرَ وَأَفْشَاهُ نَشَرَهُ. وَلَعَلَّهُ يَحْرُمُ حَيْثُ أُمِرَ بِكَتْمِهِ أَوْ دَلَّتْهُ قَرِينَةٌ عَلَى كِتْمَانِهِ أَوْ مَا كَانَ يُكْتَمُ عَادَةً. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ. «الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٍ حَرَامٍ، أَوْ اقْتِطَاعِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَأُخْرِجَ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا حَدَّثَ رَجُلٌ رَجُلًا بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهُوَ أَمَانَةٌ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: «مَنْ سَمِعَ مِنْ رَجُلٍ حَدِيثًا لَا يَشْتَهِي أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْتِمْهُ» . وَأَخْرَجَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مَا خَطَبَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا قَالَ لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ» قَالَ فِي الْفُرُوعِ: حُرِّمَ فِي أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ. وَفِي الرِّعَايَةِ يَحْرُمُ إفْشَاءُ السِّرِّ الْمُضِرِّ. انْتَهَى. وَفِي التَّنْزِيلِ {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} [الإسراء: 34] . وَلَمَّا عَرَضَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنْتَه حَفْصَةَ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ قَالَ لَهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلَّك وَجَدْت عَلَيَّ حِينَ عَرَضْت عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إلَيْك شَيْئًا، فَقَالَ نَعَمْ، فَقَالَ إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ أَرْجِعَ إلَيْك فِيمَا عَرَضْت عَلَيَّ إلَّا أَنِّي كُنْت عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ فَأَبْطَأْت عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْت قَالَتْ مَا حَبَسَك؟ قُلْت بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ، قَالَتْ مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْت إنَّهَا سِرٌّ قَالَتْ لَا تُخْبِرْنَ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا. قَالَ أَنَسٌ: وَاَللَّهِ لَوْ حَدَّثْت بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُك بِهِ يَا ثَابِتُ» . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَسَرَّ إلَى أَخِيهِ سِرًّا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُفْشِيَهُ عَلَيْهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِيكَ، يَعْنِي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا: لَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا تَغْتَابَنَّ أَحَدًا، وَلَا يَطَّلِعَنَّ مِنْك عَلَى كِذْبَةٍ. وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: ثَلَاثَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهَا: شُرْبُ السُّمِّ لِلتَّجْرِبَةِ، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ إلَى الْقَرَابَةِ وَالْحَاسِدِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً، وَرُكُوبُ الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ غِنًى. وَيُرْوَى: أَصْبَرُ النَّاسِ مَنْ لَا يُفْشِي سِرَّهُ إلَى صَدِيقِهِ مَخَافَةَ التَّقَلُّبِ يَوْمًا مَا. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْقُلُوبُ أَوْعِيَةُ الْأَسْرَارِ، وَالشِّفَاهُ أَقْفَالُهَا، وَالْأَلْسُنُ مَفَاتِيحُهَا، فَلْيَحْفَظْ كُلٌّ مِنْكُمْ مَفَاتِيحَ سِرِّهِ. وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: إنَّ سِرَّك مِنْ دَمِك، فَانْظُرْ أَيْنَ تُرِيقُهُ. وَكَانَ يُقَالُ: أَكْثَرُ مَا يَتِمُّ تَدْبِيرُ الْكِتْمَانِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ ... وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِيِّ وَقَالَ آخَرُ: فَلَا تُخْبِرْ بِسِرِّك كُلُّ سِرٍّ ... إذَا مَا جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ فَاشٍ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّمَا السِّرُّ مَا أَسْرَرْته فِي نَفْسِك لَمْ تُبْدِهِ إلَى أَحَدٍ. قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا اسْتَوْدَعْت رَجُلًا سِرًّا فَأَفْشَاهُ فَلُمْته لِأَنِّي كُنْت بِهِ أَضْيَقُ صَدْرًا حَيْثُ اسْتَوْدَعْته إيَّاهُ. وَإِلَى ذَا ذَهَبَ الْقَائِلُ: إذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ ... وَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ " وَقَالَ آخَرُ: إذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ ... فَصَدْرُ الَّذِي يَسْتَوْدِعُ السِّرَّ أَضْيَقُ وَقَالَ آخَرُ: إذَا مَا ضَاقَ صَدْرُك عَنْ حَدِيثٍ ... فَأَفْشَتْهُ الرِّجَالُ فَمَنْ تَلُومُ إذَا عَاتَبْت مَنْ أَفْشَى حَدِيثِي ... وَسِرِّي عِنْدَهُ فَأَنَا الظَّلُومُ فَإِنِّي حِينَ أَسْأَمُ حَمْلَ سِرِّي ... وَقَدْ ضَمَّنْته صَدْرِي مَشُومُ وَلَسْت مُحَدِّثًا سِرِّي خَلِيلًا ... وَلَا عُرْسِي إذَا خَطَرَتْ هُمُومُ وَأَطْوِي السِّرَّ دُونَ النَّاسِ إنِّي ... لِمَا اُسْتُوْدِعْت مِنْ سِرٍّ كَتُومُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ أَضْجَرَهُ كَتْمُ الْأَسْرَارِ وَأَنَّهَا تَغْلِي فِي قَلْبِهِ غَلَيَانَ النَّارِ، مَا ذَاعَ وَشَاعَ فِي النَّثْرِ وَالْأَشْعَارِ، فَمِنْهُ: وَلَا أَكْتُمُ الْأَسْرَارَ لَكِنْ أَبُثُّهَا ... وَلَا أَدَعُ الْأَسْرَارَ تَقْتُلُنِي غَمَّا وَإِنَّ سَخِيفَ الرَّأْيِ مَنْ بَاتَ لَيْلَهُ ... حَزِينًا بِكِتْمَانٍ كَأَنَّ بِهِ حُمَّى وَفِي بَثِّك الْأَسْرَارَ لِلْقَلْبِ رَاحَةٌ ... وَتَكْشِفُ بِالْإِفْشَاءِ عَنْ قَلْبِك الْهَمَّا وَقَالَ آخَرُ: وَلَا أَكْتُمُ الْأَسْرَارَ لَكِنْ أُذِيعُهَا ... وَلَا أَدَعُ الْأَسْرَارَ تَغْلِي عَلَى قَلْبِي وَإِنَّ ضَعِيفَ الْقَلْبِ مَنْ بَاتَ لَيْلَهُ ... تُقَلِّبُهُ الْأَسْرَارُ جَنْبًا عَلَى جَنْبِ وَقَدْ قِيلَ: لَا تُطْلِعُوا النِّسَاءَ عَلَى سِرِّكُمْ يَصْلُحُ لَكُمْ أَمْرُكُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَلَى الْعَاقِلِ كِتْمَانَ السِّرِّ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ. وَقَالَ آخَرُ: لَا تُودِعَن وَلَا الْجَمَادَ سَرِيرَةً ... فَمِنْ الْجَوَامِدِ مَا يُشِيرُ وَيَنْطِقُ وَإِذَا الْمُحَكُّ أَذَاعَ سِرَّ أَخٍ لَهُ ... وَهُوَ الْجَمَادُ فَمَنْ بِهِ يَسْتَوْثِقُ مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ التَّحَدُّثِ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِمَا صَارَ بَيْنَهُمَا (فَرْعٌ) : يُكْرَهُ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ التَّحَدُّثُ بِمَا صَارَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لِضَرَّتِهَا، جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَحَرَّمَهُ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ الْكَبِيرُ وَلِيُّ اللَّهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لِأَنَّهُ مِنْ السِّرِّ، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ حَرَامٌ، وَذَكَرَهُ فِي الْإِقْنَاعِ، وَكَذَا حَرَّمَهُ الْأَدَمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَهُوَ أَظْهَرُ. انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ قُعُودٌ عِنْدَهُ فَقَالَ لَعَلَّ رَجُلًا يَقُولُ مَا فَعَلَ بِأَهْلِهِ، وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا، فَأَرَمَّ الْقَوْمُ أَيْ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ سَكَتُوا مِنْ خَوْفٍ وَنَحْوِهِ، فَقُلْت أَيْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ وَإِنَّهُنَّ لِيَفْعَلْنَ. قَالَ لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ مِثْلُ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ أَحَدُهُمَا سِرَّ صَاحِبِهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» . وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْهُ مَرْفُوعًا «أَلَا عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَخْلُوَ بِأَهْلِهِ يُغْلِقَ بَابًا ثُمَّ يُرْخِيَ سِتْرًا ثُمَّ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، ثُمَّ إذَا خَرَجَ حَدَّثَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. أَلَا عَسَى إحْدَاكُنَّ أَنْ تُغْلِقَ بَابَهَا وَتُرْخِيَ سِتْرَهَا، فَإِذَا قَضَتْ حَاجَتَهَا حَدَّثَتْ صَوَاحِبَهَا. فَقَالَتْ امْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُنَّ لِيَفْعَلْنَ وَإِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ. قَالَ فَلَا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَرَكَهَا» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «السِّبَاعُ حَرَامٌ» قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: يَعْنِي بِهِ الَّذِي يَفْتَخِرُ بِالْجِمَاعِ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقٍ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَقَدْ صَحَّحَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: السِّبَاعُ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي حُرْمَةِ اللَّعْنِ لِمُعَيَّنٍ وَمَا وَرَدَ فِيهِ (ثُمَّ) هِيَ حَرْفُ عَطْفٍ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَالتَّرَاخِيَ، وَكَأَنَّهُ عَطَفَ بِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا لِشِدَّةِ حُرْمَةِ اللَّعْنِ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ بَوْنٌ فِي الْحُرْمَةِ، فَيَحْرُمُ إفْشَاءُ (لَعْنٍ) وَأَصْلُهُ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ الْخَلْقِ السَّبُّ وَالدُّعَاءُ كَمَا فِي النِّهَايَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: لَعَنَهُ كَمَنَعَهُ طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ فَهُوَ لَعِينٌ وَمَلْعُونٌ وَالْجَمْعُ مَلَاعِينُ وَالِاسْمُ اللِّعَانُ وَاللِّعَانِيَةُ، وَاللُّعْنَةُ بِالضَّمِّ مَنْ يَلْعَنُهُ النَّاسُ، وَكَهُمَزَةٍ الْكَثِيرُ اللَّعْنِ لَهُمْ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ: لَعَنَهُ لَعْنًا مِنْ بَابِ نَفَعَ طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ أَوْ سَبَّهُ فَهُوَ لَعِينٌ وَمَلْعُونٌ، وَالْمَرْأَةُ لَعِينٌ وَالْفَاعِلُ لَعَّانٌ، وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ هِيَ كُلُّ مَنْ ذَاقَهَا كَرِهَهَا وَلَعَنَهَا، يَعْنِي شَجَرَةَ الزَّقُّومِ الَّتِي تَنْبُتُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، جَعَلَهَا جَلَّ شَأْنُهُ فِتْنَةً لِلْكَافِرِينَ، فَقَالُوا النَّارُ تُحْرِقُ الشَّجَرَ فَكَيْفَ تُنْبِتُهُ؟ (مُقَيَّدٌ) أَيْ لِمُعَيَّنٍ فَيَحْرُمُ لَعْنُ الْإِنْسَانِ بِعَيْنِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أَوْ دَابَّةٍ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ عُمُومًا فَلَا يَحْرُمُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ. قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ، الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ بِلَفْظِ «لَا يَجْتَمِعُ أَنْ يَكُونُوا لَعَّانِينَ صِدِّيقِينَ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَلْعَنُ بَعْضَ رَقِيقِهِ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ وَقَالَ لَعَّانِينَ وَصِدِّيقِينَ كَلًّا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. فَعَتَقَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَئِذٍ بَعْضَ رَقِيقِهِ، قَالَ ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَا أَعُودُ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ «لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ لَعَّانًا» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا إذَا رَأَيْنَا الرَّجُلَ يَلْعَنُ أَخَاهُ رَأَيْنَا أَنْ قَدْ أَتَى بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْعَبْدَ إذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتْ اللَّعْنَةُ إلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إلَى الَّذِي لُعِنَ، فَإِنْ كَانَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إلَى قَائِلِهَا» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ، مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «اللَّعْنَةُ إذَا وُجِّهَتْ إلَى مَنْ وُجِّهَتْ إلَيْهِ، فَإِنْ أَصَابَتْ عَلَيْهِ سَبِيلًا أَوْ وَجَدَتْ فِيهِ مَسْلَكًا وَإِلَّا قَالَتْ يَا رَبِّ وُجِّهَتْ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فُلَانٍ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مَسْلَكًا وَلَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ سَبِيلًا، فَيُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْت» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ. لَهَا أَحَدٌ» . وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَارَ رَجُلٌ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَعَنَ بَعِيرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسِرْ مَعَنَا عَلَى بَعِيرٍ مَلْعُونٍ» . وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لَعْنِ الدِّيكِ فَقَالَ لَا تَلْعَنْهُ وَلَا تَسُبَّهُ فَإِنَّهُ يَدْعُو إلَى الصَّلَاةِ» . وَقَالَ أَنَسٌ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَدَغَتْ رَجُلًا بُرْغُوثٌ فَلَعَنَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا نَبَّهَتْ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِلصَّلَاةِ» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ. . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَقَالَ لَا تَلْعَنْ الرِّيحَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ» . (فَائِدَةٌ) : قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو الْقَاسِمِ الْيَافِعِيُّ فِي شَرْحِ مُسْنَدِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُرْوَى «أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَقْرَ فَقَالَ لَعَلَّك تَسُبُّ الرِّيحَ» انْتَهَى. فَأَفْهَمَ أَنَّ سَبَّ الرِّيحِ يُورِثُ الْفَقْرَ مَعَ مَا أَفَادَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بِرُجُوعِ اللَّعْنَةِ عَلَى قَائِلِهَا، وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ انْتِفَاءُ الْحُرْمَةِ بِلَعْنِ غَيْرِ الْمُقَيَّدِ مِنْ فِرَقِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْفُسُوقِ وَالْوَبَالِ لِصَرِيحِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ. قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى» فَيَجُوزُ لَعْنُ الْكُفَّارِ عَامًّا. وَهَلْ يَجُوزُ لَعْنُ كَافِرٍ مُعَيَّنٍ؟ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 رِوَايَتَيْنِ، وَظَاهِرُ النَّظْمِ الْمَنْعُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَعْنُ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ جَائِزٌ، وَأَمَّا لَعْنُهُ الْمُعَيَّنُ فَالْأَوْلَى تَرْكُهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتُوبَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُؤْخَذُ الْحَدِيثُ عَنْ يَزِيدَ؟ فَقَالَ لَا وَلَا كَرَامَةَ، أَوَ لَيْسَ هُوَ فَعَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ. وَقِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إنَّا نُحِبُّ يَزِيدَ، فَقَالَ وَهَلْ يُحِبُّ يَزِيدَ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَقِيلَ لَهُ أَوَلَا تَلْعَنُهُ؟ فَقَالَ مَا رَأَيْت أَبَاك يَلْعَنُ أَحَدًا وَفِي رِوَايَةٍ مَتَى رَأَيْت أَبَاك لَعَّانًا؟ وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي لَعْنَةِ يَزِيدَ: أَجَازَهَا الْعُلَمَاءُ الْوَرِعُونَ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْمُغِيثِ الْحَرْبِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، ذَكَرَهُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِسْقُهُ، وَكَلَامُ عَبْدِ الْمُغِيثِ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَفِيهِ نَوْعُ انْتِصَارٍ ضَعِيفٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُلْعَنُ الْفَاسِقُ الْمُعَيَّنُ. وَشَنَّعَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ اسْتِجَازَةَ ذَمِّ الْمَذْمُومِ وَلَعْنِ الْمَلْعُونِ كَيَزِيدَ. قَالَ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي حَقِّ يَزِيدَ مَا يَزِيدُ عَلَى اللَّعْنَةِ، وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحٍ: وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ، إنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ قَالَ وَصَنَّفَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ كِتَابًا فِي بَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ وَذَكَرَ فِيهِمْ يَزِيدَ، قَالَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَعْنُ مَنْ فَعَلَ مَا لَا يُقَارِبُ مِعْشَارَ عُشْرِ مَا فَعَلَ يَزِيدُ، وَذَكَرَ الْفِعْلَ الْعَامَّ كَالْوَامِصَةِ وَأَمْثَالِهِ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي طَالِبٍ سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَمَّنْ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَا أَتَكَلَّمُ فِي هَذَا، الْإِمْسَاكُ أَحَبُّ إلَيَّ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى اشْتِغَالِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ عَنْ لَعْنِ غَيْرِهِ، وَالْأَوْلَى عَلَى جَوَازِ اللَّعْنَةِ كَمَا قُلْنَا فِي تَقْدِيمِ جَوَازِ التَّسْبِيحِ عَلَى لَعْنَةِ إبْلِيسَ، وَسَلَّمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ تَرْكَ اللَّعْنِ أَوْلَى. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْت رَحْمَةً» قَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ لَعَنَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ يَسْتَحِقُّ اللَّعْنَ. وَقَالَ مُسَدَّدٌ: قَالَتْ الْوَاقِفِيَّةُ الْمَلْعُونَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ الْمَلْعُونَةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَقَالَ: عَلَى الْجَهْمِيَّةِ لَعْنَةُ اللَّهِ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَلْعَنُ الْحَجَّاجَ. وَأَحْمَدُ يَقُولُ الْحَجَّاجُ رَجُلُ سُوءٍ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ فِي هَذَا عَنْ أَحْمَدَ لَعْنَةُ مُعَيَّنٍ لَكِنَّ قَوْلَ الْحَسَنِ نَعَمْ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَيْضًا: لَمْ أَرَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَعَنَ مُعَيَّنًا إلَّا لَعْنَةُ نَوْعٍ أَوْ دُعَاءٍ عَلَى مُعَيَّنٍ بِالْعَذَابِ أَوْ سَبٍّ لَهُ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى لِابْنِ مُفْلِحٍ ذَكَرَ الْقَاضِي مَا نَقَلَهُ مِنْ خَطِّ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ أَسْنَدَهُ إلَى صَالِحِ بْنِ أَحْمَدَ، قُلْت لِأَبِي إنَّ قَوْمًا يَنْسُبُونَا إلَى تَوَالِي يَزِيدَ، فَقَالَ يَا بُنَيَّ وَهَلْ يَتَوَلَّى يَزِيدَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ؟ (فَقُلْت) وَلِمَ لَا تَلْعَنُهُ؟ فَقَالَ وَمَتَى رَأَيْتنِي أَلْعَنُ شَيْئًا لِمَ لَا تَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ، فَقُلْت وَأَيْنَ لَعَنَ اللَّهُ يَزِيدَ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَرَأَ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] فَهَلْ يَكُونُ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ أَعْظَمُ مِنْ الْقَتْلِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إنْ صَحَّتْ فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي مَعْنَى عِلَّةِ لَعْنِ يَزِيدَ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الدَّلَالَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اسْتِلْزَامِ الْمُطْلَقِ لِلْمُعَيَّنِ. انْتَهَى. (قُلْت) أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحُفَّاظِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ يُجِيزُونَ لَعْنَةَ يَزِيدَ اللَّعِينِ، كَيْفَ لَا وَهُوَ الَّذِي فَعَلَ الْمُعْضِلَاتِ، وَهَتَكَ سِتْرَ الْمُخَدَّرَاتِ، وَانْتَهَكَ حُرْمَةَ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَآذَى سِبْطَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَيٌّ وَمَيِّتٌ، مَعَ مُجَاهَرَتِهِ بِشُرْبِ الْخُمُورِ وَالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ. ذَكَرُوا فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّهُ كَانَ مُجَاهِرًا بِالشَّرَابِ مُتَهَتِّكًا فِيهِ،. وَلَهُ فِي وَصْفِهِ بَدَائِعُ وَغَرَائِبُ وَنَهَاهُ وَالِدُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ، فَأَنْشَدَ يَزِيدُ يُخَاطِبُهُ، وَنَسَبَهَا الْأَصْمَعِيُّ إلَى غَيْرِهِ: أَمِنْ شَرْبَةٍ مِنْ مَاءِ كَرْمٍ شَرِبْتهَا ... غَضِبَتْ عَلَيَّ الْآنَ طَابَ لِي السُّكْرُ سَأَشْرَبُ فَاغْضَبْ لَا رَضِيت كِلَاهُمَا ... حَبِيبٌ إلَى قَلْبِي عُقُوقُك وَالْخَمْرُ وَهُوَ الْقَائِلُ مِنْ قَصِيدَةٍ: وَشِمْسَةُ كَرْمٍ بُرْجُهَا قَعْرُ دَنِّهَا ... فَمَطْلَعُهَا السَّاقِي وَمَغْرِبُهَا فَمِي مُدَامٌ كَتِبْرٍ فِي إنَاءٍ كَفِضَّةٍ ... وَسَاقٍ كَبَدْرٍ مَعْ نَدَامَى كَأَنْجُمِ إذَا نَزَلَتْ مِنْ دَنِّهَا فِي زُجَاجَةٍ ... حَكَتْ نَفَرًا بَيْنَ الْحَطِيمِ وَزَمْزَمِ نُشِيرُ إلَيْهَا بِالْبَنَانِ كَأَنَّمَا ... نُشِيرُ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ الْمُحَرَّمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 إلَى أَنْ يَقُولَ: فَإِنْ حُرِّمَتْ يَوْمًا عَلَى دِينِ أَحْمَدَ ... فَخُذْهَا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ بْنِ مَرْيَمَ وَلَهُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ كَثِيرٌ جِدًّا. وَفِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ الْوَافِي بِالْوَفَيَاتِ أَنَّ إِلْكِيَا الْهَرَّاسَ سُئِلَ عَنْ لَعْنِ يَزِيدَ فَقَالَ: فِيهِ لِأَحْمَدَ قَوْلَانِ تَلْوِيحٌ وَتَصْرِيحٌ، وَلِمَالِكٍ قَوْلَانِ تَلْوِيحٌ وَتَصْرِيحٌ، وَلَنَا قَوْلٌ وَاحِدٌ التَّصْرِيحُ دُونَ التَّلْوِيحِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ اللَّاعِبُ بِالرَّنْدِ، وَالْمُتَصَيِّدُ بِالْفَهْدِ وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَذَكَرَ مِنْ شَعْرِهِ أَشْيَاءَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ سَبَى أَهْلَ الْبَيْتِ لِمَا وَرَدَ مِنْ الْعِرَاقِ عَلَى يَزِيدَ خَرَجَ فَلَقِيَ الْأَطْفَالَ وَالنِّسَاءَ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ وَالرُّءُوسُ عَلَى أَسِنَّةِ الرِّمَاحِ، وَقَدْ أَشْرَفُوا عَلَى ثَنِيَّةِ الْعِقَابِ، فَلَمَّا رَآهُمْ الْخَبِيثُ أَنْشَأَ يَقُولُ: لَمَّا بَدَتْ تِلْكَ الْحُمُولُ وَأَشْرَفَتْ ... تِلْكَ الرُّءُوسُ عَلَى شَفَا جَيْرُونِ نَعَبَ الْغُرَابُ فَقُلْت قُلْ أَوْ لَا تَقُلْ ... فَقَدْ اقْتَضَيْت مِنْ الرَّسُولِ دُيُونِي يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ قَتَلَ بِمَنْ قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ عُتْبَةَ جَدَّهُ أَبُو أُمِّهِ وَخَالَهُ وَغَيْرَهُمَا. قُلْت: أَنَا لَا أَشُكُّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْكَلَامِ خَارِجٌ مِنْ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ، ثُمَّ إنَّ الْخَبِيثَ لَمَّا أُتِيَ بِرَأْسِ سَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَنَاوَلَهُ بِقَضِيبٍ فَكَشَفَ عَنْ ثَنَايَاهُ وَهِيَ أَبْيَضُ مِنْ الْبَرَدِ، فَقَالَ عَلَيْهِ غَضَبُ الْمُتَعَالِ: نَفْلِقُ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةً ... عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا وَقَالَ أَيْضًا لَمَّا فَعَلَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا فَعَلَ وَجَاءَهُ رَسُولُهُ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تَفْعَلُهَا إلَّا الْكُفَّارَ. فَتَمَثَّلَ بِقَوْلِ ابْنِ الزِّبَعْرَى: لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ عَلِمُوا ... جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلِّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِلَعْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَوَّحَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّظْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَتِمَّةٌ) أَلْحَقَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ بِيَزِيدَ، فَخُبْثُهُ كَخُبْثِهِ أَوْ يَزِيدُ. وَفِي فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ: حَلَفَ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنَّ الْحَجَّاجَ فِي النَّارِ، فَسَأَلَ فَقِيهًا، فَقَالَ الْفَقِيهُ أَمْسِكْ زَوْجَتَك فَإِنَّ الْحَجَّاجَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ أَفْعَالِهِ فِي النَّارِ فَلَا يَضُرُّك الزِّنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْفُحْشِ وَذِكْرِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ: وَفُحْشٌ وَمَكْرٌ وَالْبَذَاءُ خَدِيعَةٌ ... وَسُخْرِيَةٌ وَالْهَزْوُ وَالْكَذِبُ قَيِّدْ (وَ) يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (فُحْشٌ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَأَصْلُهُ كُلُّ مَا اشْتَدَّ قُبْحُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي كَمَا فِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ. «وَلَمَّا قَالَتْ عَائِشَةُ لِلْيَهُودِ مَا قَالَتْ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَاحُشَ» أَرَادَ بِالْفُحْشِ التَّعَدِّيَ فِي الْقَوْلِ وَالْجَوَابِ لَا الْفُحْشَ الَّذِي هُوَ مِنْ قَذْعِ الْكَلَامِ وَرَدِيِّهِ. وَالتَّفَاحُشُ تَفَاعُلٌ مِنْهُ وَقَدْ يَكُونُ الْفُحْشُ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ وَالْكَثْرَةِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَقَالَ إنْ لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا فَلَا بَأْسَ. وَفِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: الْفُحْشُ كُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ مِقْدَارِهِ حَتَّى يُسْتَقْبَحَ وَيُذَمَّ، وَيَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالصِّفَةِ، يُقَالُ طَوِيلٌ فَاحِشُ الطُّولِ إذَا أَفْرَطَ فِي طُولِهِ، لَكِنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْقَوْلِ أَكْثَرُ. وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْفُحْشِ الْكَلَامُ الْقَبِيحُ. فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا عَائِشَةُ لَوْ كَانَ الْحَيَاءُ رَجُلًا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَوْ كَانَ الْفُحْشُ رَجُلًا كَانَ رَجُلَ سُوءٍ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ، وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ يَهُودًا أَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَيْكُمْ السَّامُ وَلَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. قَالَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْك بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا «اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَلَيْكُمْ السَّامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ. قَالَتْ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ قَدْ قُلْت وَعَلَيْكُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُّ. فَقَالَ يَا عَائِشَةُ لَا تَكُونِي فَاحِشَةً، فَقَالَ مَا سَمِعْت مَا قَالُوا؟ فَقَالَ أَوَلَيْسَ قَدْ رَدَدْت عَلَيْهِمْ الَّذِي قَالُوا، قُلْت وَعَلَيْكُمْ» وَفِي لَفْظٍ: «مَهْ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ} [المجادلة: 8] الْآيَةَ» . الذَّامُّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ الذَّمُّ، وَرُوِيَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ الدَّائِمُ، وَالسَّامُ الْمَوْتُ. وَفِي رِوَايَةٍ «إنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ الِانْتِصَارُ مِنْ الظَّالِمِ وَالِانْتِصَارُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ مِمَّنْ يُؤْذِيهِمْ. انْتَهَى. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ فَاحِشٌ. وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْفَاحِشَةِ فِي الزِّنَا وَاللُّوَاطَةِ وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [النَّهْي عَنْ الْمَكْر] وَيَحْرُمُ أَيْضًا (مَكْرٌ) وَهُوَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَالنِّهَايَةِ وَغَيْرِهِمَا الْخِدَاعُ. قَالَ فِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ: مَكَرَ مَكْرًا مِنْ بَابِ قَتَلَ خَدَعَ فَهُوَ مَاكِرٌ، وَأَمْكَرَ بِالْأَلِفِ لُغَةٌ. وَفِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ اُمْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ بِي» مَكْرُ اللَّهِ إيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ دُونَ أَوْلِيَائِهِ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَاتِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ. وَالْمَعْنَى أَلْحِقْ مَكْرَك بِأَعْدَائِي لَا بِي. قَالَ وَأَصْلُ الْمَكْرِ الْخِدَاعُ، يُقَالُ مَكَرَ يَمْكُرُ مَكْرًا. انْتَهَى. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ كَغَيْرِهِ: وَمَكَرُوا أَيْ الَّذِينَ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ هُنَّ الْيَهُودُ وَكَّلُوا عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ غِيلَةً، وَمَكَرَ اللَّهُ حِينَ رَفَعَ عِيسَى وَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى مَنْ قَصَدَ اغْتِيَالَهُ حَتَّى قُتِلَ. . قَالَ وَالْمَكْرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي الْأَصْلِ حِيلَةٌ يَجْلُبُ بِهَا غَيْرَهُ إلَى مَضَرَّةٍ لَا يُسْنَدُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وَالِازْدِوَاجِ. وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ أَيْ أَقْوَاهُمْ مَكْرًا وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى إيصَالِ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ الْكَرْمِيُّ فِي كِتَابِهِ أَقَاوِيلِ الثِّقَاتِ: قَالَ وَمِنْ الْمُتَشَابِهِ الِاسْتِهْزَاءُ وَالْمَكْرُ فِي قَوْلِهِ {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] فَمَذْهَبُ السَّلَفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فِي هَذَا وَنَحْوِهِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَطَّلِعُ لَهَا عَلَى مَاهِيَّةِ وَإِنَّمَا تَمُرُّ كَمَا جَاءَتْ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنْ يَصِفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ وَلَا تَمْثِيلُهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَقَالَ الْمُؤَوِّلُونَ: الْمَكْرُ فِي الْأَصْلِ حِيلَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَضَرَّةِ الْغَيْرِ، وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ إسْنَادُهُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ. انْتَهَى. أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ الْكِنْدِيِّ عَنْ فَرْقَدٍ السِّنْجِيِّ عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا أَوْ مَكَرَ بِهِ» إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ خَبَّبَ - بِمُعْجَمَةٍ فَمُوَحَّدَتَيْنِ تَحْتِيَّتَيْنِ - زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ فَلَيْسَ مِنَّا» وَمَعْنَى خَبَّبَ أَيْ أَفْسَدَ وَخَدَعَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي صِرْمَةَ «مَنْ ضَارَّ ضَرَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَيَحْرُمُ أَيْضًا (الْبَذَاءُ) قَالَ فِي الْمَشَارِقِ: بَذَا يَبْذُو بَذًا فَحُشَ فِي الْقَوْلِ. . مَطْلَبٌ: فِي النَّهْيِ عَنْ الْفُحْشِ. أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ فِي الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ» . وَقَالَ «الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: الْعَيُّ قِلَّةُ الْكَلَامِ، وَالْبَذَاءُ هُوَ الْفُحْشُ فِي الْكَلَامِ، وَالْبَيَانُ هُوَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْخُطَبَاءِ الَّذِينَ يَخْطُبُونَ فَيَتَوَسَّعُونَ فِي الْكَلَامِ وَيَتَفَصَّحُونَ فِيهِ مِنْ مَدْحِ النَّاسِ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ «الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُمَا يُقَرِّبَانِ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدَانِ مِنْ النَّارِ، وَالْفُحْشُ وَالْبَذَاءُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُمَا يُقَرِّبَانِ مِنْ النَّارِ وَيُبَاعِدَانِ مِنْ الْجَنَّةِ» فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِأَبِي أُمَامَةَ إنَّا لَنَقُولُ فِي الشِّعْرِ الْعَيُّ مِنْ الْحُمْقِ، فَقَالَ إنِّي أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَتُجِيبُنِي بِشَعْرِك الْمُنْتِنِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِاخْتِصَارٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ قُرَّةَ بْنِ إيَاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذُكِرَ عِنْدَهُ الْحَيَاءُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَيَاءُ مِنْ الدِّينِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ الْحَيَاءَ وَالْعَفَافَ وَالْعَيَّ عَنْ اللِّسَانِ لَا عَنْ الْقَلْبِ وَالْعِفَّةُ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ وَيَنْقُصْنَ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْقُصْنَ مِنْ الدُّنْيَا، وَإِنَّ الشُّحَّ وَالْعَجْزَ وَالْبَذَاءَ مِنْ النِّفَاقِ وَإِنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا وَيَنْقُصْنَ مِنْ الْآخِرَةِ وَمَا يَنْقُصْنَ مِنْ الْآخِرَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَزِدْنَ مِنْ الدُّنْيَا» . وَيَحْرُمُ أَيْضًا (خَدِيعَةٌ) أَيْ إرَادَةُ الْمَكْرُوهِ بِالْمُسْلِمِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: خَدَعَهُ كَمَنَعَهُ خَدْعًا وَيُكْسَرُ خَتَلَهُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَكْرُوهَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ كَاخْتَدَعَهُ فَانْخَدَعَ وَالِاسْمُ الْخَدِيعَةُ، وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ مُثَلَّثَةٌ وَكَهُمَزَةٍ. قَالَ فِي الْمَشَارِقِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَات لِلصَّحِيحَيْنِ وَضَبَطَهَا الْأَصِيلِيُّ خُدْعَةٌ بِالضَّمِّ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ لُغَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفَتْحِ وَبِهِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى يُونُسُ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ وَوَجْهًا ثَالِثًا خُدَعَةٌ بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ، وَلُغَةً رَابِعَةً بِفَتْحِهِمَا. فَالْخَدْعَةُ يَعْنِي بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى أَنَّ أَمْرَهَا يَنْقَضِي بِخُدْعَةٍ وَاحِدَةٍ يَخْدَعُ بِهَا الْمَخْدُوعَ فَتَزَلُّ قَدَمُهُ وَلَا يَجِدُ لَهَا تَلَافِيًا وَلَا إقَالَةً، فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ. وَمَنْ ضَمَّ الْخَاءَ وَسَكَّنَ الدَّالَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَخْدَعُ يَعْنِي أَهْلَهَا وَمُبَاشِرِيهَا. وَمَنْ ضَمَّ الْخَاءَ وَفَتَحَ الدَّالَ نَسَبَ الْفِعْلَ إلَيْهَا أَيْ تَخْدَعُ هِيَ مَنْ اطْمَأَنَّ إلَيْهَا وَأَنَّ أَهْلَهَا يُخْدَعُونَ فِيهَا. وَمَنْ فَتَحَهُمَا جَمِيعًا كَانَ جَمْعُ خَادِعٍ يَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُطْمَأَنُّ إلَيْهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ أَهْلُ الْحَرْبِ خُدْعَةٌ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ. قَالَ وَأَصْلُ الْخُدَعِ إظْهَارُ أَمْرٍ وَإِضْمَارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 خِلَافِهِ، وَيُقَالُ خُدِعَ الطَّرِيقُ فَسَدَ فَكَأَنَّ الْخِدَاعَ يُفْسِدُ تَدْبِيرَ الْمَخْدُوعِ وَيُقِيلُ رَأْيَهُ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ: خَدَعَهُ يَخْدَعُهُ خُدْعًا وَخِدْعًا أَيْضًا بِالْكَسْرِ مِثْلَ سَحَرَهُ سِحْرًا أَيْ خَتَلَهُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَكْرُوهَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ وَالِاسْمُ الْخَدِيعَةُ انْتَهَى. قُلْت: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ أَهْلِ الْغَرِيبِ بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّهَا تُرْوَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ، وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْقَامُوسِ وَالْمَشَارِقِ بِضَمِّ مَا أَهْمَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى مَا ذَكَرَهُ أَنَّهَا خَمْسُ لُغَاتٍ فَإِنَّ الْقَامُوسَ قَالَ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ مُثَلَّثَةٌ وَكَهُمَزَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَهُ مُثَلَّثَةُ الْخَاءِ مَعَ سُكُونِ الدَّالِ، وَقَوْلُهُ كَهُمَزَةٍ أَيْ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَأَهْمَلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ مِنْ فَتْحِ الْخَاءِ وَالدَّالِ مَعًا. وَأَهْمَلَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ فَتْحَ الْخَاءِ وَسُكُونَ الدَّالِ لَكِنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى صَاحِبِ الْقَامُوسِ، لِأَنَّ مَنْ رَوَاهُ خَدَعَةً بِفَتْحِهِمَا فَهُوَ جَمْعُ خَادِعٍ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمَشَارِقِ إهْمَالُ لُغَةِ الْفَتْحِ مَعَ السُّكُونِ فَاحْفَظْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِيمَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْخُدْعَةِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْخُدْعُ أَنْ تُوهِمَ غَيْرَك خِلَافَ مَا تُخْفِيهِ مِنْ الْمَكْرُوهِ لِتُنْزِلَهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ خَدَعَ الضَّبُّ إذَا تَوَارَى فِي جُحْرِهِ، وَضَبٌّ خَادِعٌ وَخَدِعٌ إذَا أَوْهَمَ الْحَارِسَ إقْبَالَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ وَأَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ الْمَخْدَعُ لِلْخِزَانَةِ وَالْأَخْدَعَانِ لِعِرْقَيْنِ خَفِيفَيْنِ فِي الْعُنُقِ. فَالْمُخَادَعَةُ تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. وَخِدَاعُهُمْ مَعَ اللَّهِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا خَدِيعَتَهُ، بَلْ الْمُرَادُ إمَّا مُخَادَعَةُ رَسُولِهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ عَلَى أَنَّ مُعَامَلَةَ الرَّسُولِ مُعَامَلَةُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَلِيفَتُهُ كَمَا قَالَ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] وَأَمَّا أَنَّ صُورَةَ صُنْعِهِمْ مَعَ اللَّهِ مِنْ إظْهَارِ الْإِيمَانِ وَاسْتِبْطَانِ الْكُفْرِ وَصُنْعَ اللَّهِ مَعَهُمْ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عِنْدَهُ أَخْبَثُ الْكُفَّارِ وَأَهْلُ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ، وَامْتِثَالَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمْرَ اللَّهِ فِي إخْفَاءِ حَالِهِمْ وَإِجْرَاءَ. حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ مُجَازَاةً لَهُمْ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ صُورَةَ صُنْعِ الْمُخَادِعِينَ. وَفِي الْقَامُوسِ: وَإِذَا خَادَعُوا الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ خَادَعُوا اللَّهَ. وَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ: وَالْمُخَادَعَةُ هُنَا مِنْ وَاحِدٍ كَعَاقَبْتُ اللِّصَّ وَذِكْرُ اللَّهِ فِيهَا تَحْسِينٌ. انْتَهَى. الْخَدِيعَةُ لَا تَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ، إذْ هِيَ تُنَافِي النُّصْحَ وَسَلَامَةَ الصُّدُورِ وَالْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ، وَتُنْبِتُ الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ وَالْغِلَّ وَالْحَسَدَ وَالْحِقْدَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ كُلُّ مَحْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ. قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَحْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ بُدَلَاءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِكَثْرَةِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ لَكِنْ دَخَلُوهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَسَخَاوَةِ الْأَنْفُسِ وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ» . . مَطْلَبٌ: فِي السُّخْرِيَةِ وَالْهُزُوِ وَمَا وَرَدَ فِيهِمَا (وَ) يَحْرُمُ (سُخْرِيَةٌ وَالْهُزُوُ) وَهُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْهُزُوُ السُّخْرِيَةُ وَفِي الْحَدِيثِ «أَتَسْخَرُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ» ؟ أَيْ أَتَهْزَأُ بِي. وَفِي الْقَامُوسِ هَزَأَ مِنْهُ وَبِهِ كَمَنَعَ وَسَمِعَ هُزْءًا وَهُزُءًا وَمَهْزُأَةً سَخِرَ كَتَهَزَّأَ وَاسْتَهْزَأَ، وَرَجُلٌ هُزْأَةٌ بِالضَّمِّ يُهْزَأُ مِنْهُ وَكَهُمَزَةٍ يَهْزَأُ بِالنَّاسِ. وَقَالَ سَخِرَ مِنْهُ وَبِهِ كَفَرِحَ سَخَرًا وَسُخْرًا وَسُخْرَةً هَزِئَ كَاسْتَخَرَ وَالِاسْمُ السُّخْرِيَةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] قَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي وَفْدِ تَمِيمٍ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِفُقَرَاءِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلِ عَمَّارٍ وَخَبَّابٍ وَبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَسَلْمَانَ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ رَثَاثَةِ حَالِهِمْ. وَالْقَوْمُ وَإِنْ كَانَ اسْمًا يَجْمَعُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ، فَمِنْ ثَمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات: 11] وَقَدْ رَوَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أَنَسٌ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات: 11] نَزَلَتْ فِي صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ لَهَا النِّسَاءُ يَهُودِيَّةٌ بِنْتُ يَهُودِيَّيْنِ. وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالنَّاسِ يُفْتَحُ لِأَحَدِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلُمَّ فَيَجِيءُ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ فَإِذَا جَاءَ أُغْلِقَ دُونَهُ فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ لَيُفْتَحُ لَهُ الْبَابُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلُمَّ فَمَا يَأْتِيهِ مِنْ الْإِيَاسِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا. وَفِي هَذَا وَعْظٌ لِمَنْ اتَّعَظَ وَإِيقَاظٌ لِمَنْ تَيَقَّظَ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ فِي أَقَاوِيلِ الثِّقَاتِ: الِاسْتِهْزَاءُ مِنْ بَابِ الْعَبَثِ وَالسُّخْرِيَةِ فَمَعْنَى يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يَعْنِي يُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ فِي اللَّفْظِ لِيَزْدَوِجَ الْكَلَامُ كَ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وَالْمَعْنَى يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَهْزِئِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَاسْتِدْرَاجِهِمْ بِالْإِمْهَالِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيُرْوَى أَنَّهُ يُفْتَحُ لِأَحَدِهِمْ بَابُ الْجَنَّةِ فَيُسْرِعُ نَحْوَهُ فَإِذَا سَارَ إلَيْهِ سُدَّ دُونَهُ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ آخَرُ فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ سُدَّ دُونَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ السَّلَفِ فَلَا يُؤَوِّلُونَ وَلَا يُكَيِّفُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ لَا كَمَا يَخْطِرُ فِي أَوْهَامِ الْبَشَرِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (تَنْبِيهٌ) : الْمُسْتَهْزِئُ بِغَيْرِهِ يَرَى فَضْلَ نَفْسِهِ بِعَيْنِ الرِّضَى عَنْهَا، وَيَرَى نَقْصَ غَيْرِهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، إذْ لَوْ لَمْ يَحْتَقِرْ غَيْرَهُ لَمَا سَخِرَ مِنْهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَهُنَا، التَّقْوَى هَهُنَا، التَّقْوَى هَهُنَا، وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِ النَّوَوِيَّةِ: الْمُتَكَبِّرُ يَنْظُرُ إلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ الْكَمَالِ وَإِلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ النَّقْصِ فَيَحْتَقِرُهُمْ وَيَزْدَرِيهِمْ وَلَا يَرَاهُمْ أَهْلًا لَأَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِهِمْ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الْحَقَّ إذَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» يَعْنِي يَكْفِيهِ مِنْ الشَّرِّ احْتِقَارُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْقِرُ أَخَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الْمُسْلِمَ لِتَكَبُّرِهِ عَلَيْهِ، وَالْكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الشَّرِّ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا، فَقَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ - أَيْ دَفْعُهُ وَرَدُّهُ - وَغَمْطُ النَّاسِ» أَيْ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا عِنْدَ الْحَاكِمِ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ: مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا سَمِعْتُمْ الرَّجُلَ يَقُولُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ» قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعْته بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا قَالَ يَعْنِي بِنَصْبِ الْكَافِ مِنْ أَهْلَكَهُمْ وَرَفْعِهَا. وَفَسَّرَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ إذَا قَالَ ذَلِكَ مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ مُزْدَرِيًا بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَشَدُّ هَلَاكًا مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي سَرَائِرَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ. انْتَهَى. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَإِذَا كَانَتْ التَّقْوَى فِي الْقُلُوبِ فَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَكَثِيرٌ مَنْ يَكُونُ لَهُ صُورَةٌ حَسَنَةٌ أَوْ مَالٌ أَوْ جَاهٌ أَوْ رِيَاسَةٌ فِي الدُّنْيَا وَيَكُونُ قَلْبُهُ خَرَابًا مِنْ التَّقْوَى، وَيَكُونُ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَلْبُهُ مَمْلُوءًا مِنْ التَّقْوَى فَيَكُونُ أَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ وُقُوعًا. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِسِبَابٍ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَنْتُمْ وَلَدُ آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَئُوهُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ فَضْلٌ عَلَى أَحَدٍ إلَّا بِالدِّينِ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ «لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إلَّا بِالدِّينِ، أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ، حَسْبُ الرَّجُلَ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا بَذِيًّا بَخِيلًا» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ «لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إلَّا بِدِينٍ أَوْ تَقْوَى، وَكَفَى بِالرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ بَذِيًّا فَاحِشًا بَخِيلًا» قَوْلُهُ طُفُّ الصَّاعِ بِالْإِضَافَةِ أَيْ قَرِيبٌ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ اُنْظُرْ فَإِنَّكَ لَسْت بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ إلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ بِتَقْوَى» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَنْ يُجْهَلُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ. أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلَّا بِالتَّقْوَى. إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. أَلَا هَلْ بَلَّغْت؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْمَحْفُوظُ الْمَوْقُوفُ «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ مُنَادِيًا يُنَادِي أَلَا إنِّي جَعَلْت نَسَبًا وَجَعَلْتُمْ نَسَبًا، فَجَعَلْت أَكْرَمَكُمْ أَتْقَاكُمْ، فَأَبَيْتُمْ إلَّا أَنْ تَقُولُوا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ خَيْرٌ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ، أَيْنَ الْمُتَّقُونَ» . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِرِجَالٍ إنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ النَّتِنَ بِأَنْفِهَا» . وَفِي رِوَايَةٍ «أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلِ يَدْفَعُ الْخَرْءَ بِأَنْفِهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخَرْءَ بِأَنْفِهِ» قَوْلُهُ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ هِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَكْسُورَةً وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ أَيْضًا هِيَ الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالنَّخْوَةُ، وَالْجُعَلَانِ جَمْعُ جُعَلٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ دُوَيْبَّةٌ أَرْضِيَّةٌ. قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: الْجُعَلُ كَصُرَدٍ وَرُطَبٍ جَمْعُهُ جُعَلَانِ وَيُقَالُ لَهُ أَبُو جِعْرَانَ وَهُوَ دُوَيْبَّةٌ مَعْرُوفَةٌ تُسَمَّى الزُّعْقُوقُ وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الْخُنْفُسَاءِ شَدِيدُ السَّوَادِ فِي بَطْنِهِ لَوْنُ حُمْرَةٍ لِلذَّكَرِ قَرْنَانِ يُوجَدُ كَثِيرًا فِي مَرَاحِ الْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَمَوَاضِعُ الرَّوْثِ يَتَوَلَّدُ غَالِبًا مِنْ أَخْثَاءِ الْبَقَرِ، وَمِنْ شَأْنِهِ جَمْعُ النَّجَاسَةِ وَادِّخَارُهَا وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْ رِيحِ الْوَرْدِ وَرِيحِ الطِّيبِ، فَإِذَا أُعِيدَ إلَى الرَّوْثِ عَاشَ. وَفِي كَلَامِ شَيْخِنَا الشَّيْخِ عَبْدِ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيِّ: وَمِنْ أَيْنَ لِلْجُعْلَانِ تَعْبَثُ فِي الْوَرْدِ وَفِي لَامِيَّةِ ابْنِ الْوَرْدِيِّ: أَيُّهَا الْعَائِبُ قَوْلِي عَبَثًا ... إنَّ طِيبَ الْوَرْدِ مُؤْذٍ بِالْجُعَلِ وَفِي كَلَامِ الْمُتَنَبِّي: كَمَا تَضُرُّ رِيَاحُ الْوَرْدِ بِالْجُعَلِ وَلَهُ جَنَاحَانِ لَا يَكَادُ أَنْ يُرَيَانِ إلَّا إذَا طَارَ، وَلَهُ سِتَّةُ أَرْجُلٍ وَسَنَامٌ مُرْتَفِعٌ جِدًّا، وَهُوَ يَمْشِي الْقَهْقَرَى إلَى خَلْفِهِ وَهُوَ مَعَ هَذِهِ الْمِشْيَةِ يَهْتَدِي إلَى بَيْتِهِ وَيُسَمَّى الْكَبَرْتَكَ. وَإِذَا أَرَادَ الطَّيَرَانَ تَنَفَّسَ فَيَظْهَرُ جَنَاحَاهُ. وَمِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَحْرُسُ النِّيَامَ، فَمَنْ قَامَ مِنْهُمْ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ تَبِعَهُ مِنْ شَهْوَتِهِ لِلْغَائِطِ لِأَنَّهُ قُوتُهُ. وَقَوْلُهُ يُدَهْدِهُ أَيْ يُدَحْرَجُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ. وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ وَالشُّعَبِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «لَا تَفْخَرُوا بِآبَائِكُمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَا يُدَحْرِجُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْ آبَائِكُمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ» . وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ افْتَخَرَ عَلَى إخْوَانِهِ وَاحْتَقَرَ أَحَدًا مِنْ أَقْرَانِهِ وَأَخْدَانِهِ أَوْ سَخِرَ أَوْ اسْتَهْزَأَ بِأَحَدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ وَالْوِزْرِ الْمُبِينِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَجُوزُ احْتِقَارُهُ لِأَنَّهُ مُهَانٌ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ لِعَدَمِ انْقِيَادِهِ لِلْإِيمَانِ، فَهُوَ لِكِبْرِهِ عَنْ الْإِيمَانِ مُحْتَقَرٌ وَمُجْرِمٌ {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) يُحَرِّمُ (الْكَذِبَ) لَا مُطْلَقًا بَلْ (قَيَّدَ) تَحْرِيمَهُ مَطْلَبٌ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ» بِغَيْرِ خِدَاعٍ الْكَافِرِينَ بِحَرْبِهِمْ ... وَلِلْعِرْسِ أَوْ إصْلَاحِ أَهْلِ التَّنَكُّدِ (بِغَيْرِ) أَحَدِ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ (خِدَاعِ الْكَافِرِ) وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْخِدَاعَ إرَادَةُ الْمَكْرُوهِ بِالْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» وَالْكَافِرِينَ جَمْعُ كَافِرٍ مِنْ الْكُفْرِ وَهُوَ ضِدُّ الْإِيمَانِ وَبِفَتْحٍ كَالْكَفُورِ وَالْكُفْرَان بِضَمِّهِمَا وَكَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ وَبِهَا كَفُورًا وَكُفْرَانًا جَحَدَهَا وَسَتَرَهَا (بِحَرْبِهِمْ) أَيْ فِي أَمْرِ حَرْبِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى خِذْلَانِهِمْ وَفَشَلِهِمْ. (وَ) الْمَوْضِعُ الثَّانِي إذَا كَانَ لِغَيْرِ (الْعِرْسِ) يَعْنِي وَهِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْعِرْسُ بِالْكَسْرِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ وَرَجُلُهَا جَمْعُهُ أَعْرَاسٌ. وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (أَوْ) يَكُونُ الْكَذِبُ لِغَيْرِ (إصْلَاحِ) ذَاتِ بَيْنِ (أَهْلِ التَّنَكُّدِ) بِمَا يُذْهِبُ وَغْرَ صُدُورِهِمْ وَيَجْمَعُ شَمْلَهُمْ وَيَضُمُّ جَمَاعَتَهُمْ وَيُزِيلُ فُرْقَهُمْ. وَالْإِصْلَاحُ ضِدُّ الْإِفْسَادِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الصَّلَاحُ ضِدُّ الْفَسَادِ، وَأَصْلَحَهُ ضِدُّ أَفْسَدَهُ، وَالتَّنَكُّدُ التَّعَاسُرُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: تَنَاكَدَا تَعَاسَرَا. وَنَاكَدَهُ عَاسَرَهُ، وَأَصْلُ النَّكِدِ الشِّدَّةُ وَالْعُسْرَةُ، يُقَالُ نَكِدَ كَفَرِحَ، وَرَجُلٌ نَكَدٌ شُومٌ، وَقَوْمٌ أَنْكَادٌ وَمَنَاكِيدُ. وَأَمَّا قَوْلُ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ بَانَتْ سُعَادُ: قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ، فَالْمُرَادُ بِالنَّكَدِ فِي كَلَامِهِ اللَّاتِي لَا يَعِيشُ لَهُنَّ وَلَدٌ، الْوَاحِدَةُ نُكْدَى كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ هِشَامٍ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: الرَّجُلُ يَكْذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ، وَالرَّجُلُ يَكْذِبُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا، وَالرَّجُلُ يَكْذِبُ لِلْمَرْأَةِ لِيُرْضِيَهَا بِذَاكَ» قَالَ الْإِمَامُ بْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَحْرُمُ الْكَذِبُ لِغَيْرِ إصْلَاحٍ وَحَرْبٍ وَزَوْجَةٍ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْكَذِبِ فَهُوَ مُبَاحٌ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ وَاجِبٌ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَهُوَ مُرَادُ الْأَصْحَابِ. وَمُرَادُهُمْ هُنَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْكَذِبُ إذَا كَانَ فِيهِ عِصْمَةُ مُسْلِمٍ مِنْ الْقَتْلِ. وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ يَحْرُمُ أَيْضًا لَكِنْ يَسْلُكُ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هُوَ حَسَنٌ حَيْثُ جَازَ لَا إثْمَ لِي فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ: يَجُوزُ كَذِبُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرَ ذَلِكَ الْغَيْرِ إذَا كَانَ يَتَوَصَّلُ بِالْكَذِبِ إلَى حَقِّهِ، كَمَا كَذَبَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ مِنْ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةً لَحِقَتْ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ، وَأَمَّا مَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 نَالَ مَنْ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْحُزْنِ فَمَفْسَدَةٌ يَسِيرَةٌ فِي جَنْبِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالْكَذِبِ، لَا سِيَّمَا تَكْمِيلُ الْفَرَحِ وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ بَعْدَ هَذَا الْكَذِبِ، وَكَانَ الْكَذِبُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ. قَالَ وَنَظِيرُ هَذَا الْإِمَامُ وَالْحَاكِمُ يُوهِمُ الْخَصْمَ خِلَافَ الْحَقِّ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ. كَمَا أَوْهَمَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِشَقِّ الْوَلَدِ نِصْفَيْنِ حَتَّى يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ أُمِّهِ. انْتَهَى. وَقِصَّةُ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ كَمَا ذَكَرَهَا الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ وَابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ وَأَهْلِ السَّيْرِ وَالْمَغَازِي وَذَكَرْتهَا فِي كِتَابِي تَحْبِيرِ الْوَفَا فِي سِيرَةِ الْمُصْطَفَى، قَالَ فِي الْهَدْيِ: وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السُّلَمِيُّ قَدْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ فَتْحَ خَيْبَرَ وَكَانَتْ تَحْتَهُ شَيْبَةُ أُخْتُ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ قَصِيٍّ. أَيْ وَهُوَ أَبُو نَصْرٍ الَّذِي نَفَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سَمِعَ أُمَّ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ تَقُولُ الْأَبْيَاتَ الَّتِي مِنْهَا: هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا ... أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمًا لِلْحَجَّاجِ: يَا ابْنَ الْمُتَحَبِّبَةِ، يُعَيِّرُهُ بِذَلِكَ، قَالَ فِي الْهَدْيِ: وَكَانَ الْحَجَّاجُ مُكْثِرًا مِنْ الْمَالِ فَكَانَتْ لَهُ مَعَادِنُ أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ، «فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خَيْبَرَ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ إنَّ لِي ذَهَبًا عِنْدَ امْرَأَتِي، وَإِنْ تَعْلَمْ هِيَ وَأَهْلُهَا بِإِسْلَامِي فَلَا مَالَ لِي، فَأْذَنْ لِي فَلْأُسْرِعْ السَّيْرَ وَأَسْبِقُ الْخَبَرَ، وَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بُدَّ لِي أَنْ أَقُولَ، أَيْ أَذْكُرَ مَا هُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، فَأَذِنَ لَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ قُلْ قَالَ الْحَجَّاجُ فَخَرَجْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى الْحَرَمِ فَإِذَا رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْمَعُونَ الْأَخْبَارَ، قَالُوا حَجَّاجٌ وَاَللَّهِ عِنْدَهُ الْخَبَرُ، وَلَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا، فَقَالُوا يَا حَجَّاجُ إنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْقَاطِعَ يَعْنُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ، فَقُلْت عِنْدِي مِنْ الْخَبَرِ مَا يَسُرُّكُمْ، فَاجْتَمِعُوا عَلَيَّ يَقُولُونَ إيهِ يَا حَجَّاجُ؟ فَقُلْت لَمْ يَلْقَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ غَيْرَ أَهْلِ خَيْبَرَ فَهُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهَا قَطُّ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ قَتْلًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَأُسِرَ مُحَمَّدٌ، وَقَالُوا لَا نَقْتُلُهُ حَتَّى نَبْعَثَ بِهِ إلَى مَكَّةَ فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فَصَاحُوا وَقَالُوا لِأَهْلِ مَكَّةَ قَدْ جَاءَكُمْ الْخَبَرُ، هَذَا مُحَمَّدٌ إنَّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ يَقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ فَيُقْتَلُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ قَالَ حَجَّاجٌ وَقُلْت لَهُمْ أَعِينُونِي عَلَى غُرَمَائِي، فَجَمَعُوا لَهُ مَالَهُ بِأَحْسَنِ مَا يَكُونُ. قَالَ فِي الْهَدْيِ: فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَخْفِي عَلَيَّ وَاجْمَعِي مَا كَانَ لِي عِنْدَك مِنْ مَالِي فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ اُسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أُسِرَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ قَدْ أَقْسَمُوا لَنَبْعَثَنَّ بِهِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ لَنَقْتُلَنَّهُ بِقَتْلَاهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي بَنِي قُرَيْظَةَ. وَفَشَا ذَلِكَ فِي مَكَّةَ وَاشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَلَغَ مِنْهُمْ، وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ، وَبَلَغَ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَلَبَةُ النَّاسِ وَإِظْهَارُهُمْ السُّرُورَ. فَأَرَادَ أَنْ يَقُومَ وَيَخْرُج فَانْخَزَلَ ظَهْرُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ فَدَعَا ابْنًا لَهُ يُقَالُ لَهُ قُثَمُ وَكَانَ يُشْبِهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِ أَعْدَاءُ اللَّهِ: قُثَمُ شَبِيهُ ذِي الْأَنْفِ الْأَشَمِّ ... فَمَتَى ذِي النِّعَمِ يُرْغِمُ مَنْ رَغَمَ وَحُشِرَ إلَى بَابِ دَارِهِ رِجَالٌ كَثِيرُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ الْمُظْهِرُ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَمِنْهُمْ الشَّامِتُ وَالْمُعَزِّي، وَمِنْهُمْ مَنْ بِهِ مِثْلُ الْمَوْتِ مِنْ الْحُزْنِ وَالْبَلَاءِ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ رَجَزَ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتَجَلُّدَهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنْ قَدْ أَتَاهُ مَا لَمْ يَأْتِهِمْ ثُمَّ أَرْسَلَ الْعَبَّاسُ غُلَامًا لَهُ إلَى الْحَجَّاجِ وَقَالَ لَهُ اُخْلُ بِهِ وَقُلْ لَهُ وَيْلَك مَا جِئْت بِهِ وَمَا تَقُولُ، فَاَلَّذِي وَعَدَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا جِئْت بِهِ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْغُلَامُ قَالَ لَهُ أَقْرِئْ أَبَا الْفَضْلِ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ لِيُخِلَّ بِي فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ حَتَّى آتِيَهُ، فَإِنَّ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْعَبْدُ بَابَ الدَّارِ فَقَالَ أَبْشِرْ أَبَا الْفَضْلِ، فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرَحًا كَأَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ بَلَاءٌ قَطُّ حِينَ جَاءَهُ. فَأَتَى الْغُلَامُ وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الْحَجَّاجِ فَأَعْتَقَهُ» . وَفِي سِيرَةِ الشَّامِيِّ أَنَّهُ اعْتَنَقَهُ وَأَعْتَقَهُ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِاَلَّذِي قَالَ قَالَ الْعَبَّاسُ لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ عَشْرِ رِقَابٍ وَأَنَّ الْغُلَامَ اسْمُهُ أَبُو زَبِيبَةَ. قَالَ وَلَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي الْإِصَابَةِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الْهَدْيِ: قَالَ أَخْبِرْنِي، قَالَ يَقُولُ لَك الْحَجَّاجُ اُخْلُ بِهِ فِي بَعْضِ بُيُوتِك حَتَّى يَأْتِيَكُمْ ظُهْرًا، فَلَمَّا جَاءَ الْحَجَّاجُ وَاخْتَلَى بِهِ أَخَذَ عَلَيْهِ لَتَكْتُمَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 خَبَرِي. وَفِي سِيرَةِ الشَّامِيِّ فَنَاشَدَهُ اللَّهَ لِتَكْتُمَ عَنِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُقَالُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَوَاثَقَهُ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ قَدْ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ وَغَنَم أَمْوَالَهُمْ وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ لِنَفْسِهِ وَأَعْرَسَ بِهَا، وَلَقَدْ أَسْلَمْت وَلَكِنْ جِئْت لِمَالِي أَرَدْت أَنْ أَجْمَعَهُ وَأَذْهَبُ بِهِ، وَإِنِّي اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقُولَ فَأَذِنَ لِي، فَأَخِفَّ عَلَيَّ ثَلَاثًا ثُمَّ اُذْكُرْ مَا شِئْت. قَالَ فَجَمَعْت لَهُ امْرَأَتُهُ مَتَاعَهُ ثُمَّ انْشَمَرَ رَاجِعًا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ مَا فَعَلَ زَوْجُك؟ قَالَتْ ذَهَبَ، وَقَالَتْ لَا يُحْزِنُك اللَّهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَك، فَقَالَ أَجَلٌ لَا يُحْزِنُنِي اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ اللَّهِ إلَّا مَا أُحِبُّ، فَتَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى رَسُولِهِ خَيْبَرَ وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَك فِي زَوْجِك حَاجَةٌ فَالْحَقِي بِهِ. قَالَتْ: أَظُنُّك وَاَللَّهِ صَادِقًا. قَالَ فَإِنِّي وَاَللَّهِ صَادِقُ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا أَقُولُ. قَالَتْ فَمَنْ أَخْبَرَك بِهَذَا؟ قَالَ الَّذِي أَخْبَرَك بِمَا أَخْبَرَك ثُمَّ ذَهَبَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَبِسَ حُلَّةً لَهُ وَتَخَلَّقْ أَيْ تَطَيَّبَ وَأَخَذَ عَصَاهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى الْكَعْبَةَ فَطَافَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا وَاَللَّهِ التَّجَلُّدُ لِحَرِّ الْمُصِيبَةِ. قَالَ كَلًّا وَاَلَّذِي حَلَفْتُمْ بِهِ، لَقَدْ افْتَتَحَ مُحَمَّدٌ خَيْبَرَ وَتَرَكَ عَرُوسًا عَلَى بِنْتِ مُلْكِهِمْ، يَعْنِي صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، وَأَحْرَزَ أَمْوَالَهُمْ وَمَا فِيهَا فَأَصْبَحَتْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ. قَالُوا مَنْ جَاءَك بِهَذَا الْخَبَرِ؟ قَالَ الَّذِي جَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا فَأَخَذَ مَالَهُ وَانْطَلَقَ لِيَلْحَقَ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابه فَيَكُون مَعَهُ. قَالُوا يَا لِعِبَادِ اللَّهِ انْفَلَتَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ عَلِمْنَا لَكَانَ لَنَا وَلَهُ شَأْن. قَالَ فِي الْهَدْيِ: وَلَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أَكْتُمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا لِحَاجَةٍ. قَالَ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ كَآبَةٍ وَجَزَعٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَوَاضِعِهِمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى الْعَبَّاسِ فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ فَأَشْرَقَتْ وُجُوهُ الْمُسْلِمِينَ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ كَمَا أَوْهَمَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ. هَذِهِ الْقِصَّةُ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ بْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ارْتَفَعَتَا إلَى نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ادَّعَتَا وَلَدًا مَعَهُمَا، فَحَكَمَ بِهِ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْكُبْرَى، فَقَالَ سُلَيْمَانُ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَسَمَحَتْ الْكُبْرَى بِذَلِكَ، وَقَالَتْ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ رَحِمَك اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى. قَالَ فِي الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ: فَأَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، فَاسْتَدَلَّ بِرِضَى الْكُبْرَى بِذَلِكَ وَأَنَّهَا قَصَدَتْ الِاسْتِرْوَاحَ إلَى التَّأَسِّي بِمُسَاوَاةِ الصُّغْرَى فِي فَقْدِ وَلَدِهَا، وَشَفَقَةُ الصُّغْرَى عَلَيْهِ وَامْتِنَاعُهَا مِنْ الرِّضَا بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ أُمُّهُ. وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ هُوَ مَا قَامَ بِقَلْبِهَا مِنْ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ فِي قَلْبِ الْأُمِّ. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: هَلْ الْمُرَادُ بِمَا أُبِيحَ بِهِ الْكَذِبُ التَّوْرِيَةُ أَوْ مُطْلَقًا؟ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَذِبَ مَذْمُومٌ، وَفَاعِلُهُ مِنْ الْخَيْرِ مَحْرُومٌ. وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا هَلْ الْكَذِبُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُرَادُ بِهِ التَّوْرِيَةُ أَوْ مُطْلَقًا. فَرِوَايَةُ حَنْبَلٍ عَنْ الْإِمَامِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ ابْتِدَاءً. وَرِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ تَدُلُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّ الْإِطْلَاقَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى. وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ قَالَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يُنْمِي خَيْرًا» زَادَ مُسْلِمٌ قَالَتْ وَلَمْ أَسْمَعْهُ «يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا إلَّا فِي ثَلَاثٍ» ، يَعْنِي الْحَرْبَ، وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ وَحَدِيثَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا. وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا، وَذَكَرَهُ. وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ: «مَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا «كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ: رَجُلٌ كَذَبَ لِامْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ فِي خَدِيعَةِ حَرْبٍ، أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا» وَفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 رِوَايَةٍ «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ» وَهِيَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. وَفِي أُخْرَى لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ هُوَ أَنْ يُظْهِرَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً. وَيَتَحَدَّثَ بِمَا يُقَوِّي أَصْحَابَهُ وَيَكِيدُ بِهِ عَدُوَّهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» وَكَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا. . وَالْكَذِبُ لِلزَّوْجَةِ هُوَ أَنْ يَعِدَهَا وَيُمَنِّيَهَا وَيُظْهِرَ لَهَا مِنْ الْمَحَبَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي نَفْسِهِ لِيَسْتَدِيمَ بِذَلِكَ صُحْبَتَهَا وَيُصْلِحَ بِهِ خُلُقَهَا. قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ إبَاحَةُ كَذِبِ الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ دُونَ كَذِبِهَا لَهُ. قَالَ وَالظَّاهِرُ إبَاحَتُهُ لَهُمَا لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَجْنَبِيَّيْنِ فَجَوَازُهُ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَعْلِهَا أَفْضَلُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا فِي عَهْدِ عُمَرَ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: نَشَدْتُك بِاَللَّهِ هَلْ تُحِبِّينِي؟ فَقَالَتْ أَمَا إذَا نَشَدَتْنِي بِاَللَّهِ فَلَا، فَخَرَجَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَأَرْسَلَ إلَيْهَا فَقَالَ أَنْتِ الَّتِي تَقُولِينَ لِزَوْجِك لَا أُحِبُّك، فَقَالَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَشَدَنِي بِاَللَّهِ أَفَأَكْذِبُهُ؟ قَالَ نَعَمْ فَأَكْذِبِيهِ، لَيْسَ كُلُّ الْبُيُوتِ تُبْنَى عَلَى الْحُبِّ. وَلَكِنَّ النَّاسَ يَتَعَاشَرُونَ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ. وَالْكَذِبُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ قَبِيلَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ هُوَ أَنْ يُنْمِيَ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَى صَاحِبِهِ خَيْرًا وَيُبَلِّغَهُ جَمِيلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ مِنْهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ الْإِصْلَاحَ، أَوْ كَانَ سَمِعَ مِنْهُ كَلَامًا قَبِيحًا فَبَدَّلَهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ، إذْ لَوْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ لَزَادَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا وَنَشَأَتْ الْعَدَاوَةُ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ بِالْكَذَّابِ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ خَيْرًا أَوْ الْبَوَائِنِ خَيْرًا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. (تَنْبِيهٌ) : ظَاهِرُ كَلَامِ إمَامِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصْحَابِ جَوَازُ الْكَذِبِ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ كَافِرَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ، وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ فِي الْخَبَرِ إرْسَالٌ وَفِيهِ شَهْرٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ. ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، وَعَلَى كُلٍّ فَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلصُّلْحِ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ هُوَ مَفْهُومُ اسْمٍ وَفِيهِ خِلَافٌ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، ثُمَّ حَطَّ كَلَامَهُ بَعْدَ الْإِطَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ بَيْنَ كَافِرَيْنِ أَوْ كُفَّارٍ وَجَوَازُهُ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ. وَقَالَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ، وَغَيْرِ مُدَارَاةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 إصْلَاحٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ دَفْعُ مَظْلِمَةٍ، مُرَادُهُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَكَذِبِهِ لِسَتْرِ مَالِ غَيْرِهِ عَنْ ظَالِمٍ، وَإِنْكَارِهِ الْمَعْصِيَةَ لِلسَّتْرِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يُجَاهِرْ الْغَيْرُ بِهَا، بَلْ يَلْزَمُهُ السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِلَّا كَانَ مُجَاهِرًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ كَقِصَّةِ مَاعِزٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالسَّتْرُ أَوْلَى وَيَتُوبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى دَفْعِ الْمَضَرَّاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ الْإِمَامِ الْحَافِظُ بْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ ضَابِطَ إبَاحَةِ الْكَذِبِ أَنَّ كُلَّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ إلَّا بِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ وَاجِبًا فَهُوَ وَاجِبٌ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ. فَإِذَا اخْتَفَى مُسْلِمٌ مِنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ فَلَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ رَأَيْت فُلَانًا فَإِنَّهُ لَا يُخْبِرُ بِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. وَلَوْ احْتَاجَ لِلْحَلِفِ فِي إنْجَاءِ مَعْصُومٍ مَنْ هَلَكَةٍ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ لِأَنَّ إنْجَاءَ الْمَعْصُومِ وَاجِبٌ، كَفِعْلِ سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ خَرَجْنَا نُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْت أَنَّهُ أَخِي، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «صَدَقْت الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» وَلَكِنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يَنْبَغِي لَهُ الْعُدُولُ إلَى الْمَعَارِيضِ مَا أَمْكَنَ لِئَلَّا تَعْتَادَ نَفْسُهُ الْكَذِبَ. مَطْلَبٌ: يَنْبَغِي الْعُدُولُ لِلْمَعَارِيضِ مَا أَمْكَنَ وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً مِنْ الْكَذِبِ» أَيْ فُسْحَةً وَسِعَةً يَعْنِي فِيهَا مَا يَسْتَغْنِي بِهِ الرَّجُلُ عَنْ الِاضْطِرَارِ إلَى الْكَذِبِ، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِلَفْظِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ، كَقَوْلِهِ هَذَا أَخِي وَعَنَى فِي الدِّينِ، وَبِالسَّقْفِ وَعَنَى السَّمَاءَ، وَبِالْفِرَاشِ الْأَرْضَ، وَبِالْوَتَدِ الْجَبَلَ، وَبِاللِّبَاسِ اللَّيْلَ، وَبِالنِّسَاءِ الْأَقَارِبَ وَبِالْبَارِيَةِ السِّكِّينَ الَّتِي تَبْرِي الْقَلَمَ، وَلَا بَأْسَ بِتَعَلُّمِهَا وَتَتَبُّعِهَا. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ الْإِمَامُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِمَا أَعْلَمُ مِنْ الْمَعَارِيضِ مِثْلَ أَهْلِي وَمَالِي. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَهُمْ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إذَا خَشَوْا مِنْ شَيْءٍ يَرُدُّونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 (تَنْبِيهٌ) : خَبَرُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْمَعَارِيضِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي مُحْتَجًّا بِهِ فَظَاهِرُهُ الثُّبُوتُ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: هُوَ ثَابِتٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. قَالَ: وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَعَارِيضِ بِإِسْنَادَيْنِ ضَعِيفَيْنِ. وَقَالَ فِي الْآدَابِ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: الْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْكَذِبَ يَجُوزُ حَيْثُ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَقْصُودٍ وَاجِبٍ إلَّا بِهِ وَجَبَ. وَحَيْثُ جَازَ فَالْأَوْلَى اسْتِعْمَالُ الْمَعَارِيضِ. وَأَمَّا الْحَلِفُ فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا حَنِثَ وَلَوْ أُوِّلَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَمِينُك عَلَى مَا يَصْدُقُك بِهِ صَاحِبُك» وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا كَاَلَّذِي يَسْتَحْلِفُهُ ظَالِمٌ عَلَى شَيْءٍ لَوْ صَدَّقَهُ لَظَلَمَهُ أَوْ ظَلَمَ غَيْرَهُ أَوْ نَالَ مُسْلِمًا مِنْهُ ضَرَرًا فَهُنَا لَهُ تَأْوِيلُهُ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَا مَظْلُومًا وَلَوْ بِلَا حَاجَةٍ. وَيُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ مَعَ قُرْبِ الِاحْتِمَالِ وَتَوَسُّطِهِ لَا مَعَ بُعْدِهِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ. وَحَيْثُ حَلَفَ كَاذِبًا وَلَمْ يُؤَوِّلْ حَنِثَ وَلَوْ مَظْلُومًا. وَلَوْ اسْتَحْلَفَهُ ظَالِمٌ مَا لِفُلَانٍ عِنْدَك وَدِيعَةٌ وَكَانَ لَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَإِنَّهُ يَعْنِي بِمَا الَّذِي، أَوْ يَنْوِي غَيْرَ الْوَدِيعَةِ، أَوْ غَيَّرَ مَكَانَهَا، أَوْ يُسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ أَثِمَ وَهُوَ دُونَ إثْمِ إقْرَارِهِ بِهَا، وَيُكَفِّرُ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي تَعْرِيفِ الْكَذِبِ (تَتِمَّةٌ) فِي بَعْضِ مَثَالِبِ الْكَذِبِ وَتَعْرِيفِهِ. أَمَّا تَعْرِيفُهُ فَقَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ، نَعَمْ التَّعَمُّدُ شَرْطٌ لِكَوْنِهِ إثْمًا كَمَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَقَالَ إنَّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَحَكَاهُ عَنْهُ فِي الْآدَابِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ بَلْ قَالَ فَلَعَلَّ ظَاهِرَهُ لَا يُحَرَّمُ لِعَدَمِ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَلَمْ يَذْكُرْ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» فَظَاهِرُهَا يَأْثَمُ مَعَ عَدَمِ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ لَكِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ يَسْمَعُ الْكَذِبَ وَالصِّدْقَ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ: هِيَ الَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 يَحْلِفُ بِهَا كَاذِبًا عَالِمًا بِكَذِبِهِ. قَالَ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْأُصُولِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ الَّذِي بَلَغَ التَّوَاتُرَ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» فَقَيَّدَهُ بِالْعَمْدِ. قِيلَ هُوَ دُعَاءٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَيْ بَوَّأَهُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ هُوَ خَبَرٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «يَلِجُ النَّارَ» . وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ شَرْطُ الْكَذِبِ الْعَمْدِيَّةُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا: يُعْتَبَرُ لِلصِّدْقِ الِاعْتِقَادُ وَإِلَّا فَهُوَ كَاذِبٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إنْ طَابَقَ الْحُكْمَ الْخَارِجِيَّ فَصِدْقٌ وَإِلَّا فَكَذِبٌ. ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أَخْبَرَ الْمَرْءُ عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ يَعْلَمُهُ أَوْ يَظُنُّهُ جَازَ، وَإِنْ عَلِمَ عَدَمَهُ أَوْ ظَنَّهُ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إنْ شَكَّ فِيهِ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِلْإِخْبَارِ، وَسَوَاءٌ طَابَقَ الْخَارِجَ مَعَ الظَّنِّ أَوْ الشَّكِّ أَوْ لَا، وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي كَمَا فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ. قَالَ لِأَنَّهَا تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ إجْمَاعًا، وَمَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِيهِ فَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَمَا يَظُنُّهُ حَقًّا فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَذَكَرَ فِي الْأَخِيرَيْنِ رِوَايَةً قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَوْ شَكَّ وَحَلَفَ عَلَى خِلَافِ مَا يَظُنُّهُ فَطَابَقَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ صَادِقٌ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إقْدَامُهُ عَلَى الْيَمِينِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي مَثَالِبِ الْكَذِبِ. وَأَمَّا مَثَالِبُ الْكَذِبِ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ. فَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ: اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إذَا اُؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «تَقَبَّلُوا لِي سِتًّا أَتَقَبَّلُ لَكُمْ الْجَنَّةَ: إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ، وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ، غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ سَيِّدِنَا الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - قَالَ: حَفِظْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ، وَالْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ مَعَ الْبِرِّ وَهُمَا فِي الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ وَهُمَا فِي النَّارِ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ فَيُنْكَتُ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ فَيُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْكَاذِبِينَ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ مَرْفُوعًا «أَلَا إنَّ الْكَذِبَ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ. وَالنَّمِيمَةَ عَذَابُ الْقَبْرِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَيْت اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، قَالَ الَّذِي رَأَيْته يَشُقُّ شِدْقَيْهِ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ الْكِذْبَةَ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ» زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ لَهُ «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحَةِ وَالْمِرَاءِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا» . وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ الْمِزَاحَ وَالْكَذِبَ، وَيَدَعَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ سَمِعْت الْأَعْمَشَ قَالَ حَدَّثْت عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» . وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلَّةٍ غَيْرِ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ» . وَصَحَّ عَنْ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ مَرْفُوعًا «الْكَذِبُ يُجَانِبُ الْإِيمَانَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاك حَدِيثًا هُوَ لَك مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ كَاذِبٌ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ شَيْخِهِ عُمَرَ بْنِ هَارُونَ وَفِيهِ خِلَافٌ وَبَقِيَّةُ رُوَاتِهِ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الصَّمْتِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ الْمَلَكُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَاللَّفْظُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «مَا كَانَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 خُلُقٍ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْكَذِبِ، مَا اطَّلَعَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَيَخْرُجُ مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ تَوْبَةً» . وَلَفْظُ الْحَاكِمِ «مَا كَانَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْكَذِبِ. وَمَا جَرَّبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَحَدٍ وَإِنْ قَلَّ فَيَخْرُجُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُجَدِّدَ لَهُ تَوْبَةً» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» . وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الشَّيْخُ الزَّانِي، وَالْإِمَامُ الْكَذَّابُ، وَالْعَائِلُ الْمَزْهُوُّ» الْعَائِلُ هُوَ الْفَقِيرُ، وَالْمَزْهُوُّ هُوَ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِهِ الْمُتَكَبِّرُ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ «إثْمًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ «بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ فِي الْآدَابِ: فَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ، فَلَا يَفْعَلُ لِيَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَ، فَيَكُونُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ كَذِبًا. وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَعْنَاهُ الزَّجْرُ عَنْ التَّحْدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِي الْعَادَةِ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لِإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ. قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: مَنْ خَافَ الْكَذِبَ أَقَلَّ الْمَوَاعِيدَ. وَقَالُوا: أَمْرَانِ لَا يَسْلَمَانِ مِنْ الْكَذِبِ: كَثْرَةُ الْمَوَاعِيدِ، وَشِدَّةُ الِاعْتِذَارِ. وَقَالَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ: طَافَ ابْنُ عُمَرَ سَبْعًا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا أَسْرَعَ مَا طُفْت وَصَلَّيْت يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ابْنُ عُمَرَ: أَنْتُمْ أَكْثَرُ مِنَّا طَوَافًا وَصِيَامًا وَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، نَحْنُ نَلْتَزِمُ صِدْقَ الْحَدِيثِ وَأَدَاءَ الْأَمَانَةِ وَإِنْجَازَ الْوَعْدِ. وَأَنْشَدَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: أَصْدِقْ حَدِيثَك إنَّ فِي الصِّدْقِ ... الْخَلَاصَ مِنْ الْكَذِبِ وَقَالَ آخَرُ: وَدَعْ الْكَذُوبَ لِسَانُهُ ... خَيْرٌ مِنْ الْكَذِبِ الْخَرَسُ وَقَالَ آخَرُ: مَا أَقْبَحَ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ صَاحِبُهُ ... وَأَحْسَنَ الصِّدْقَ عِنْدَ اللَّهِ وَالنَّاسِ وَقَالَ آخَرُ: الصِّدْقُ أَوْلَى مَا بِهِ ... دَانَ الْفَتَى فَاجْعَلْهُ دَيْنًا وَدَعْ النِّفَاقَ فَمَا ... رَأَيْت مُنَافِقًا إلَّا مُهِينًا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا تَسْتَقِيمُ أَمَانَةُ رَجُلٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لِسَانُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ عُرِفَ بِالصِّدْقِ جَازَ كَذِبُهُ، وَمَنْ عُرِفَ بِالْكَذِبِ لَمْ يَجُزْ صِدْقُهُ. وَقَالُوا: الصِّدْقُ عِزٌّ، وَالْكَذِبُ خُضُوعٌ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ احْذَرْ الْكَذِبَ فَإِنَّهُ شَهِيٌّ كَلَحْمِ الْعُصْفُورِ، مَنْ أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَصْبِرْ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (خَاتِمَةٌ) الْكَذِبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَرَامٌ إلَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنَّهُ مِنْ الصَّغَائِرِ فِي الْمُعْتَمَدِ، مَا لَمْ يَكُنْ كَذِبًا عَلَى اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ رَمَى بِفِتْنَةٍ فَكَبِيرَةٍ. وَقَدْ أَوْضَحْت ذَلِكَ فِي كِتَابِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ الْكَبَائِرِ إيضَاحًا تَامًّا. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [مَطْلَبُ: الزَّمَّارِ مُؤَذِّنُ الشَّيْطَانِ] وَيَحْرُمُ مِزْمَارٌ وَشَبَّابَةٌ وَمَا ... يُضَاهِيهِمَا مِنْ آلَةِ اللَّهْوِ وَالرَّدِي (وَيَحْرُمُ) لِثُبُوتِ النَّهْيِ الصَّرِيحِ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ (مِزْمَارٌ) وَهُوَ مَا يُزَمَّرُ بِهِ، يُقَالُ زَمَرَ يَزْمِرُ وَيُزَمِّرُ زَمْرًا وَزَمِيرًا وَزَمَّرَ تَزْمِيرًا غَنَّى فِي الْقَصَبِ، وَهِيَ زَامِرَةٌ وَهُوَ زَمَّارٌ وَزَامِرٌ قَلِيلٌ، وَفِعْلُهُمَا الزَّمَّارَةُ كَالْكِتَابَةِ، وَمَزَامِيرُ دَاوُد مَا كَانَ يَتَغَنَّى بِهِ مِنْ الزَّبُورِ وَضُرُوبِ الدُّعَاءِ، وَجَمْعُ مِزْمَارٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وَمَزْمُورٍ وَالزَّمَّارَةُ كَجَبَّانَةٍ مَا يُزَمِّرُ بِهِ كَالْمِزْمَارِ، وَالْمِزْمَارُ مُؤَذِّنُ الشَّيْطَانِ وَصَوْتُهُ. مَطْلَبٌ: الْمِزْمَارُ مُؤَذِّنُ الشَّيْطَانِ فَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ لَمَّا أُهْبِطَ إبْلِيسُ قَالَ رَبِّ لَعَنَتْنِي فَمَا عَمَلِي؟ قَالَ السِّحْرُ، قَالَ فَمَا قُرْآنِي؟ قَالَ الشِّعْرُ، قَالَ فَمَا كِتَابِي؟ قَالَ الْوَشْمُ، قَالَ فَمَا طَعَامِي؟ قَالَ كُلُّ مَيْتَةٍ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ فَمَا شَرَابِي؟ قَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ، قَالَ فَأَيْنَ مَسْكَنِي؟ قَالَ الْأَسْوَاقُ، قَالَ فَمَا صَوْتِي؟ قَالَ الْمَزَامِيرُ. قَالَ فَمَا مَصَائِدِي؟ قَالَ النِّسَاءُ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: الْمَعْرُوفُ فِي هَذَا وَقْفُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ مَصَائِدِ الشَّيْطَانِ وَحِيَلِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا ابْنُ زعر عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ إبْلِيسَ لَمَّا أُنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ قَالَ يَا رَبِّ أَنْزَلْتنِي إلَى الْأَرْضِ وَجَعَلْتنِي رَجِيمًا فَاجْعَلْ لِي بَيْتًا، قَالَ الْحَمَّامُ، قَالَ فَاجْعَلْ لِي مَجْلِسًا، قَالَ الْأَسْوَاقُ وَمَجَامِعُ الطُّرُقِ. قَالَ فَاجْعَلْ لِي طَعَامًا، قَالَ كُلُّ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ فَاجْعَلْ لِي شَرَابًا، قَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ، قَالَ فَاجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا، قَالَ الْمِزْمَارُ، قَالَ اجْعَلْ لِي قُرْآنًا، قَالَ الشِّعْرُ، قَالَ اجْعَلْ لِي كِتَابًا، قَالَ الْوَشْمُ، قَالَ اجْعَلْ لِي حَدِيثًا، قَالَ الْكَذِبُ، قَالَ اجْعَلْ لِي رُسُلًا، قَالَ الْكَهَنَةُ، قَالَ اجْعَلْ لِي مَصَائِدَ، قَالَ النِّسَاءُ» . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَشَوَاهِدُ هَذَا الْأَثَرِ كَثِيرَةٌ، فَكُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهُ لَهَا شَاهِدٌ مِنْ السُّنَّةِ أَوْ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَوْنُ الْمِزْمَارِ مُؤَذِّنَهُ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّ الْغِنَاءَ قُرْآنُهُ، وَالرَّقْصَ وَالتَّصْفِيقَ اللَّذَيْنِ هُمَا الْمُكَاءُ وَالتَّصَدِّيَةُ صَلَاتُهُ، فَلَا بُدَّ لِهَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْ مُؤَذِّنٍ وَإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ، فَالْمُؤَذِّنُ الْمِزْمَارُ، وَالْإِمَامُ الْمُغَنِّي، وَالْمَأْمُومُ الْحَاضِرُونَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إلَى النَّخْلِ، فَإِذَا ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: تَبْكِي وَأَنْتَ تَنْهَى النَّاسَ؟ فَقَالَ إنِّي لَمْ أَنْهَ عَنْ الْبُكَاءِ وَإِنَّمَا نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ، صَوْتٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ، وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةٍ. وَهَذَا هُوَ رَحْمَةٌ، وَمَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ. لَوْلَا أَنَّهُ أَمْرٌ حَقٌّ وَوَعْدٌ صِدْقٌ وَأَنَّ آخِرَنَا سَيَلْحَقُ أَوَّلَنَا لَحَزِنَّا عَلَيْك أَشَدَّ مِنْ هَذَا، وَإِنَّا بِك لَمَحْزُونُونَ. تَبْكِي الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ دَعْهُمَا، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزَتْهُمَا فَخَرَجَتَا» وَلَمْ يُنْكِرْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ الْغِنَاءِ مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ وَإِنَّمَا أَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُمَا جَارِيَتَانِ غَيْرُ مُكَلَّفَتَيْنِ يُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ الْأَعْرَابِ فِي الَّذِي قِيلَ فِي يَوْمِ حَرْبِ بُعَاثٍ مِنْ الشُّجَاعَةِ وَالْحَرْبِ، وَكَانَ الْيَوْمُ يَوْمَ عِيدٍ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكَبَارَاتِ» يَعْنِي الْبَرَابِطَ وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْثَانَ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. (وَ) يَحْرُمُ أَيْضًا (شَبَّابَةٌ) وَهِيَ الْيَرَاعُ مِنْ جُمْلَةِ آلَاتِ اللَّهْوِ (وَ) يَحْرُمُ أَيْضًا (مَا) أَيْ الَّذِي (يُضَاهِيهِمَا) أَيْ يُشَابِهُهُمَا وَيُمَاثِلُهُمَا مِنْ آلَاتِ اللَّهْوِ، يُقَالُ ضَاهَاهُ شَاكَلَهُ. وَنَبَّهَ النَّاظِمُ بِتَحْرِيمِ الْأَخَفِّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَشَدِّ مِنْ بَابِ أَوْلَى. قَالَ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: إذَا كَانَ الزَّمْرُ الَّذِي هُوَ أَخَفُّ آلَاتِ اللَّهْوِ حَرَامًا فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ كَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ. قَالَ وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْعِلْمِ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ. وَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْفُسَّاقِ وَشَارِبِي الْخُمُورِ. وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَرِيحَةٌ بِتَحْرِيمِ الْمِزْمَارِ وَالشَّبَّابَةِ وَنَحْوِهِمَا (مِنْ) كُلِّ آلَةُ اللَّهْوِ وَ) آلَةِ الْفِعْلِ (الرَّدِي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 يَعْنِي الْحَرَامَ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَتَحْرُمُ كُلُّ مَلْهَاةٍ سِوَى الدُّفِّ كَمِزْمَارٍ وَطُنْبُورٍ وَرَبَابٍ وَجُنْكٍ. قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّرْغِيبِ: سَوَاءٌ اُسْتُعْمِلَ لِحُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ. وَسَأَلَهُ ابْنُ الْحَكَمِ عَنْ النَّفْخِ فِي الْقَصَبَةِ كَالزَّمَّارَةِ قَالَ أَكْرَهُهُ. وَنَصَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى كَسْرِ آلَاتِ اللَّهْوِ كَالطُّنْبُورِ وَغَيْرِهِ إذَا رَآهَا مَكْشُوفَةً وَأَمْكَنَهُ كَسْرُهَا. وَيَأْتِي فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَالْمَذْهَبُ تَحْرِيمُ آلَاتِ اللَّهْوِ إسْمَاعًا وَاسْتِمَاعًا وَصَنْعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ النَّاظِمُ: مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ الْمُطْرِبِ كَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ: وَلَوْ لَمْ يُقَارِنْهَا غِنَاءٌ جَمِيعُهَا ... فَمِنْهَا ذَوُو الْأَوْتَارِ دُونَ تَقَيُّدٍ (وَلَوْ لَمْ يُقَارِنْهَا) أَيْ آلَاتِ اللَّهْوِ (غِنَاءٌ) بِالْمَدِّ كَكِسَاءٍ مَا طَرِبَهُ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَالْأَلْحَانِ فَتَحْرُمُ (جَمِيعُهَا) وَلَوْ مُفْرَدَةٌ أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُفْرَدَةٌ بِنَفْسِهَا، قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي رَوْضِهِ: الْقِسْمُ الثَّانِي أَنَّهُ يُغَنِّي بِبَعْضِ آلَاتِ الْغِنَاءِ بِمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ شَارِبِي الْخُمُورِ وَهُوَ مُطْرِبٌ كَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالصَّنْجِ وَسَائِرِ الْمَعَازِفِ وَالْأَوْتَارِ يَحْرُمُ اسْتِمَاعُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ. قَالَ وَفِي الْيَرَاعِ وَجْهَانِ صَحَّحَ الْبَغَوِيّ التَّحْرِيمَ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الْغَزَالِيِّ الْجَوَازَ، قَالَ وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُ الْيَرَاعِ وَهُوَ الشَّبَّابَةُ. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّوْلَعِيُّ كِتَابًا فِي تَحْرِيمِ الْيَرَاعِ. وَقَدْ حَكَى أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ السَّمَاعِ الَّذِي جَمَعَ الدُّفَّ وَالشَّبَّابَةَ. فَقَالَ فِي فَتَاوِيهِ: وَأَمَّا إبَاحَةُ هَذَا السَّمَاعِ تَحْلِيلُهُ فَلْيُعْلَمْ أَنَّ الدُّفَّ وَالشَّبَّابَةَ وَالْغِنَاءَ إذَا اجْتَمَعَتْ فَاجْتِمَاعُ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ أَنَّهُ أَبَاحَ هَذَا السَّمَاعَ. وَالْخِلَافُ الْمَنْقُولُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا نُقِلَ فِي الشَّبَّابَةِ مُفْرَدَةً وَالدُّفِّ مُفْرَدًا. قَالَ فَمَنْ لَا يُحَصِّلُ أَوْ لَا يَتَأَمَّلُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ خِلَافًا بَيْنَ الشَّافِعِينَ فِي هَذَا السَّمَاعِ الْجَامِعِ هَذِهِ الْمَلَاهِيَ، وَذَلِكَ وَهْمٌ بَيِّنٌ مِنْ الصَّائِرِ إلَيْهِ تُنَادِي عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ خِلَافٍ يُسْتَرْوَحُ إلَيْهِ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَمَنْ يَتَتَبَّعُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَوْ أَخَذَ بِالرُّخَصِ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ تَزَنْدَقَ أَوْ كَادَ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَالْغَايَةِ حُرْمَةَ كُلِّ مُلْهَاةٍ سِوَى الدُّفِّ كَمِزْمَارٍ وَطُنْبُورٍ وَرَبَابٍ وَجُنْكٍ وَنَايٍ وَمِعْزَفَةٍ وَجِفَانَةٍ وَعُودٍ وَزَمَّارَةِ الرَّاعِي وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ اُسْتُعْمِلَتْ لِحُزْنٍ أَوْ لِمُرُورٍ، وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (فَمِنْهَا) أَيْ مِنْ آلَاتِ اللَّهْوِ يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِهَا وَأَقْسَامِهَا (ذَوُو) أَيْ أَصْحَابُ (الْأَوْتَارِ) جَمْعُ وَتَرٍ بِالتَّحْرِيكِ شَرَعَةُ الْقَوْسِ وَمُعَلَّقُهَا وَيُصْنَعُ لِلْعُودِ وَنَحْوِهِ فَكُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ (دُونَ تَقَيُّدٍ) أَيْ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ لِنَوْعٍ مِنْهَا بَلْ جَمِيعُهَا مُحَرَّمَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَأَمَّا الطَّبْلُ فَكَرِهَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِغَيْرِ حَرْبٍ، وَاسْتَحَبَّهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْحَرْبِ وَقَالَ لِتَنْهِيضِ طِبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ وَكَشْفِ صُدُورِ الْأَعْدَاءِ. قَالَ وَلَيْسَ عَبَثًا فَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ الرِّيَاحَ وَالرُّعُودَ قَبْلَ الْغُيُوثِ، وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ لِلْبَعْثِ. وَشُرِعَ ضَرْبُ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ، وَفِي الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ، حَكَاهُ عَنْهُ فِي الْفُرُوعِ وَالْإِنْصَافِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى لِلْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَكْرَهُ الطَّبْلَ وَهُوَ الْكُوبَةُ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ: الطَّبْلُ لَيْسَ فِيهِ رُخْصَةٌ وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهَا فِيمَنْ أَتْلَفَ آلَةَ لَهْوٍ: الدُّفُّ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي النِّكَاحِ لِأَمْرِ الشَّارِعِ بِخِلَافِ الْعُودِ وَالطَّبْلِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهُ وَالتَّلَهِّي بِهِ بِحَالٍ. وَفِي الْإِنْصَافِ فِي تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ وَجْهَانِ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ. وَقَدَمَ فِي، الرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ الْكَرَاهَةَ. وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: لَا يُكْرَهُ إلَّا مَعَ تَصْفِيقٍ أَوْ غِنَاءٍ أَوْ رَقْصٍ وَنَحْوِهِ. وَجَزَمَ ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ بِالتَّحْرِيمِ. انْتَهَى. قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: قَوْلُهُ وَفِي الْقَضِيبِ وَجْهَانِ انْتَهَى. يَعْنِي هَلْ يَحْرُمُ اللَّعِبُ بِالْقَضِيبِ أَمْ لَا، أَحَدُهُمَا لَا يَحْرُمُ بَلْ يُكْرَهُ، وَبِهِ قَطَعَ فِي آدَابِ الْمُسْتَوْعِبِ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي يَحْرُمُ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَفِي غُنْيَةِ سَيِّدِنَا الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: يُكْرَهُ تَخْرِيقُ الثِّيَابِ لِلْمُتَوَاجِدِ عِنْدَ السَّمَاعِ، وَيَجُوزُ سَمَاعُ الْقَوْلِ بِالْقَضِيبِ وَيُكْرَهُ الرَّقْصُ. انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْقَاضِيَ عَلَاءَ الدِّينِ صَوَّبَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ التَّحْرِيمَ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ) : كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ التَّغْبِيرَ وَنَهَى عَنْ اسْتِمَاعِهِ وَقَالَ بِدْعَةٌ وَمُحْدَثٌ. وَنَقَلَ أَبُو دَاوُد لَا يُعْجِبُنِي. وَنَقَلَ يُوسُفُ لَا يَسْتَمِعُهُ، قِيلَ هُوَ بِدْعَةٌ؟ قَالَ حَسْبُك. وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ مَنَعَ إطْلَاقَ اسْمِ الْبِدْعَةِ عَلَيْهِ وَمِنْ تَحْرِيمِهِ لِأَنَّهُ شِعْرٌ مُلَحَّنٌ كَالْحُدَاءِ وَالْحَدْوِ لِلْإِبِلِ وَنَحْوِهِ. الْحَدْوُ سَوْقُ الْإِبِلِ وَالْغِنَاءُ لَهَا. وَقَدْ حَدَوْت الْإِبِلَ حَدْوًا وَاحِدًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ إذَا سَاقَهَا وَزَجَرَهَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَفِيهِ أَيْضًا الْمُغَبِّرُونَ قَوْمٌ يُغَبِّرُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ يُهَلِّلُونَ وَيُرَدِّدُونَ الصَّوْتَ بِالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا، سُمُّوا بِهَا لِأَنَّهُمْ يُرَغِّبُونَ النَّاسَ فِي الْغَابِرَةِ أَيْ الْبَاقِيَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ الصَّغَانِيُّ فِي كِتَابِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ: الْمُغَبِّرَةُ قَوْمٌ يُغَبِّرُونَ وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِدُعَاءٍ وَتَضَرُّعٍ كَمَا قَالَ: عِبَادُك الْمُغَبِّرَةُ رُشَّ عَلَيْنَا الْمَغْفِرَةُ. وَقَدْ سَمَّوْا مَا يُطْرِبُونَ فِيهِ مِنْ الشِّعْرِ تَغْبِيرًا لِأَنَّهُمْ إذَا تَنَاشَدُوهُ بِالْأَلْحَانِ طَرِبُوا فَرَقَصُوا وَأَهْزَجُوا فَسُمُّوا الْمُغَبِّرَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: التَّغْبِيرُ تَهْلِيلٌ أَوْ تَرْدِيدُ صَوْتٍ يُرَدَّدُ بِقِرَاءَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَرَى الزَّنَادِقَةَ وَضَعُوا هَذَا التَّغْبِيرَ لِيَصُدُّوا النَّاسَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مُغَبِّرِينَ لِتَزْهِيدِهِمْ النَّاسَ فِي الْفَانِيَةِ وَهِيَ الدُّنْيَا وَتَرْغِيبِهِمْ إيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ الْغَابِرَةُ الْبَاقِيَةُ. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي حَظْرِ الْغِنَاءِ وَإِبَاحَتِهِ: وَحَظْرُ الْغِنَاءِ الْأَكْثَرُونَ قَضَوْا بِهِ ... وَعَنْ أَبَوَيْ بَكْرٍ إمَامٍ وَمُقْتَدِ (وَحَظْرُ) أَيْ مُنِعَ (الْغِنَاءُ) بِالْمَدِّ (الْأَكْثَرُونَ) مِنْ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَمُرَادُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا (قَضَوْا) أَيْ حَكَمُوا (بِهِ) أَيْ بِحَظْرِهِ وَحُرْمَتِهِ لِأَنَّهُ يُنْبِتُ فِي الْقَلْبِ النِّفَاقَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: سَأَلْت أَبِي عَنْ الْغِنَاءِ فَقَالَ الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ، وَقَالَ لَا يُعْجِبُنِي. ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَسَمِعْت أَبِي يَقُولُ سَمِعْت يَحْيَى الْقَطَّانَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ رُخْصَةٍ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ، وَقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ، وَأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ لَكَانَ فَاسِقًا. وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: لَوْ أَخَذْت بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ وَزَلَّةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيك الشَّرُّ كُلُّهُ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: قَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: خَلَفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَتْهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي التَّغْبِيرِ وَتَعْلِيلِهِ لَهُ أَنَّهُ يَصُدُّ عَنْ الْقُرْآنِ وَهُوَ شِعْرٌ مُزْهِدٌ فِي الدُّنْيَا يُغْنِي بِهِ مُغَنٍّ وَيَضْرِبُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ بِقَضِيبٍ عَلَى نِطْعٍ أَوْ حَجَرَةٍ عَلَى تَوْقِيعِ غِنَاءٍ، فَلَيْتَ شِعْرِي مَا يَقُولُ فِي سَمَاعِ التَّغْبِيرِ عِنْدَهُ كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ - قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى كُلِّ مَفْسَدَةٍ وَجَمَعَ كُلَّ مُحَرَّمٍ. فَاَللَّهُ بَيَّنَ دِينَهُ، وَبَيَّنَ كُلَّ مُتَعَلِّمٍ مَفْتُونٍ، وَعَابِدٍ جَاهِلٍ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ يُقَالُ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ، وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ. وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ كَعْبٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ، وَالذِّكْرُ يُنْبِتُ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ. قَالَ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: وَهُوَ صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ ذَمِّ الْمَلَاهِي وَلَفْظُهُ بَعْدَ سِيَاقِ السَّنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ» وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: السَّمَاعُ يُورِثُ النِّفَاقَ فِي قَوْمٍ، وَالْخَنَا فِي قَوْمٍ، وَالْكَذِبَ فِي قَوْمٍ، وَالْفُجُورَ فِي قَوْمٍ، وَالرُّعُونَةَ فِي قَوْمٍ، وَأَكْثَرُ مَا يُورِثُ عِشْقَ الصُّوَرِ وَاسْتِحْسَانَ الْفَوَاحِشِ، وَإِدْمَانُهُ يُثْقِلُ الْقُرْآنَ عَلَى الْقَلْبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وَيُكْرِهُهُ إلَى اسْتِمَاعِهِ بِالْخَاصَّةِ، وَهَذَا عَيْنُ النِّفَاقِ بِالِاتِّفَاقِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغِنَاءَ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَ قُرْآنِ الرَّحْمَنِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ أَبَدًا، وَلِهَذَا كَانَ الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ. وَأَيْضًا أَسَاسُ النِّفَاقِ أَنْ يُخَالِفَ الظَّاهِرُ الْبَاطِنَ، وَهَذَا الْمُسْتَمِعُ الْغِنَاءَ لَا يَخْلُو أَنْ يَنْتَهِك الْمَحَارِمَ فَيَكُونُ فَاجِرًا أَوْ يُظْهِرُ النُّسُكَ وَالْعِبَادَةَ فَيَكُونُ مُنَافِقًا فَإِنَّهُ مَتَى أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَقَلْبُهُ يَغْلِي بِالشَّهَوَاتِ وَيَلْذَعُ بِنَغَمَاتِ الْآلَاتِ وَمَحَبَّةِ مَا يَكْرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَصْوَاتِ الْمَعَازِفِ وَمَا يَدْعُو إلَيْهِ الْغِنَاءُ وَبَهِيجُهُ مِنْ قَلْبِهِ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نِفَاقًا، فَإِنَّ هَذَا مَحْضُ النِّفَاقِ. وَقَدْ كَتَبَ الْإِمَامُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمُؤَدِّبِ وَلَدِهِ: لِيَكُنْ أَوَّلُ مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَدَبِك بُغْضَ الْمَلَاهِي الَّتِي بَدْوُهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَعَاقِبَتُهَا سَخَطُ الرَّحْمَنِ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ الثِّقَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ صَوْتَ الْمَعَازِفِ وَاسْتِمَاعَ الْأَغَانِي وَاللَّهَجَ بِهَا يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَنْبُتُ الْعُشْبُ عَلَى الْمَاءِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِهِمَا: قَالَ جَمَاعَةٌ: يَحْرُمُ الْغِنَاءُ. قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّاظِمُ. قَالَ الْإِمَام أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي وَقَالَ فِي الْوَصِيِّ يَبِيعُ أَمَةَ الصَّبِيِّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُغَنِّيَةٍ وَعَلَى أَنَّهَا لَا تَقْرَأُ بِالْأَلْحَانِ. (وَعَنْ) الْإِمَامَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ (أَبَوَيْ بَكْرٍ إمَامٍ) بَدَلٌ مِنْ أَبَوَيْ بَكْرٍ وَأَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ الْأَوْحَدَ وَالْهُمَامَ الْأَمْجَدَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ هَارُونَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ، لَهُ التَّصَانِيفُ الدَّائِرَةُ، وَالْكُتُبُ السَّائِرَةُ، وَالنَّظَرُ النَّاقِدُ، وَالْخَاطِرُ الْوَاقِدُ، فَمِنْ تَصَانِيفِهِ الْجَامِعُ الَّذِي دَارَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ حَتَّى جَمَعَهُ، وَالْعِلَلِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْعِلْمِ، وَالطَّبَقَاتِ، وَتَفْسِيرِ الْغَرِيبِ، وَالْأَدَبِ، وَأَخْلَاقِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِ ذَلِكَ. سَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ عَرَفَةَ وَسَعْدَانَ بْنَ نَصْرٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَوْفٍ الْحِمْصِيَّ وَطَبَقَتَهُمْ، وَصَحِبَ أَبَا بَكْرٍ الْمَرُّوذِيَّ إلَى أَنْ مَاتَ، وَسَمِعَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ -، مِنْهُمْ غَيْرُ الْمَرُّوذِيِّ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَالْمَيْمُونِيُّ، وَبَدْرٌ الْمَغَازِلِيُّ، وَأَبُو يَحْيَى النَّاقِدُ، وَحَنْبَلٌ، وَحَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، سَمِعَ مِنْهُمْ مَسَائِلَ الْأَمَامِ أَحْمَدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وَرَحَلَ إلَى أَقَاصِي الْبِلَادِ فِي جَمْعِهَا وَسَمَاعِهَا مِمَّنْ سَمِعَهَا مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمِمَّنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ سَمِعَهَا مِنْهُ، شَهِدَ لَهُ شُيُوخُ الْمَذْهَبِ بِالْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ، حَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الصَّيْرَفِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ بِجَامِعِ الْمَهْدِيِّ. تُوُفِّيَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ إحْدَى عَشَرَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدُفِنَ إلَى جَنْبِ قَبْرِ الْمَرُّوذِيِّ عِنْدَ رِجْلَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (وَمُقْتَدِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى إمَامٍ أَيْ تَابِعٍ وَمُقَلِّدٍ وَحَذَا حَذْوَ مَتْبُوعِهِ، وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَزْدَادَ بْنِ مَعْرُوفٍ الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ الْخَلَّالِ، حَدَّثَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُوسَى بْنِ هَارُونَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْوَصِيفِيِّ، وَأَبِي خَلِيفَةَ الْفَضْلِ بْنِ الْحُبَابِ الْبَصْرِيِّ، وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخِرَقِيِّ، وَأَبِي قَاسِمٍ الْبَغَوِيِّ، وَآخَرِينَ، وَأَخَذَ عَنْهُ عَالَمٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ ابْنُ شَاقِلَا، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ التَّمِيمِيِّ، وَأَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ، وَالْعُكْبَرِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ. كَانَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ أَحَدَ أَهْلِ الْفَهْمِ مَوْثُوقًا بِهِ فِي الْعِلْمِ، مُتَّسِعَ الرِّوَايَةِ، مَتِينَ الدِّرَايَةِ، مَشْهُورًا بِالدِّيَانَةِ، مَوْصُوفًا بِالْأَمَانَةِ، مَذْكُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ، لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ فِي الْعُلُومِ الْمُخْتَلِفَاتِ، كَالشَّافِي، وَالْمُقْنِعِ، وَتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَالْخِلَافِ مَعَ الشَّافِعِيِّ، وَكِتَابِ الْقَوْلَيْنِ، وَزَادِ الْمُسَافِرِ وَالتَّنْبِيهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَوَصَفَهُ بِالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ وَالْبَرَاعَةِ، وَكَانَ لَهُ قَدَمٌ رَاسِخٌ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ. رُوِيَ أَنَّ رَافِضِيًّا سَأَلَهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ بَلْ هُوَ عَلِيٌّ، فَهَمَّ بِهِ الْأَصْحَابُ، فَقَالَ دَعُوهُ، ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ مَا بَعْدَهَا {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 34] {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35] وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُصَدِّقُ مِمَّنْ لَهُ سَيِّئَاتٌ سَبَقَتْ، وَعَلَى قَوْلِك أَيُّهَا السَّائِلُ لَمْ يَكُنْ لِعَلِيٍّ سَيِّئَاتٌ، فَقَطَعَهُ. وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ حَسَنٌ إنَّمَا يَعْقِلُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَاللِّسَانِ. فَدَلَّ عَلَى عِلْمِهِ وَحِلْمِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَابِلْ السَّائِلَ عَلَى جَفَائِهِ وَعَدَلَ إلَى الْعِلْمِ، وَهَذَا دَأْبُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ. تُوُفِّيَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا عِنْدَكُمْ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ فِي عِلَّتِهِ، فَقِيلَ لَهُ يُعَافِيك اللَّهُ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ فَقَالَ سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ الْخَلَّالَ سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ الْمَرُّوذِيَّ يَقُولُ: عَاشَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ثَمَانِيًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَمَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَدُفِنَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَعَاشَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ ثَمَانِيًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَمَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَدُفِنَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَأَنَا عِنْدَكُمْ إلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلِي ثَمَانٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَاتَ وَدُفِنَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ، وَنَظِيرُهُ سَيِّدُ الْعَالَمِ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَعُمَرُ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَعَلِيٌّ عَاشَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ الِاتِّفَاقِ. فَهَذَانِ الْإِمَامَانِ اللَّذَانِ هُمَا الْخَلَّالُ وَغُلَامُهُ يُرْوَى عَنْهُمَا. قَالَ النَّاظِمُ: إبَاحَتُهُ لَا كُرْهُهُ وَأَبَاحَهُ ... إمَامُ أَبُو يَعْلَى مَعَ الْكُرْهِ فَانْشُدْ (إبَاحَتُهُ) أَيْ الْغِنَاءِ (لَا كُرْهُهُ) أَيْ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَقِيلَ يُبَاحُ الْغِنَاءُ وَالنَّوْحُ، اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكَذَا اسْتِمَاعُهُ. وَقَدْ نَقَلَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَلَانِسِيُّ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ عَنْ الصُّوفِيَّةِ: لَا أَعْلَمُ أَقْوَامًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ، قِيلَ إنَّهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَيَتَوَاجَدُونَ، قَالَ دَعُوهُمْ يَفْرَحُونَ مَعَ اللَّهِ سَاعَةً، قِيلَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْشَى عَلَيْهِ، فَقَالَ {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ فِي الْفُرُوعِ. قَالَ وَلَعَلَّ مُرَادَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ سَمَاعُ الْقُرْآنِ، وَعُذْرُهُمْ الْوَارِدُ كَمَا عَذَرَ يَحْيَى الْقَطَّانُ فِي الْغَشْيِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي آدَابِ الْقُرْآنِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيِّ، وَقَدْ سَمِعَ عِنْدَهُ كَلَامَ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَرَأَى أَصْحَابَهُ: مَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْت مِثْلَهُمْ وَلَا سَمِعْت فِي عِلْمِ الْحَقَائِقِ مِثْلَ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ وَلَا أَرَى لَك صُحْبَتَهُمْ، وَقَدْ نَهَى عَنْ كِتَابَةِ كَلَامِ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْقَاصِّ بِهِ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ لِئَلَّا يَلْهُوَ بِهِ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا غَيْرُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا زَوَّجَتْ يَتِيمَةً رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ عَائِشَةُ فِيمَنْ أَهْدَاهَا إلَى زَوْجِهَا، قَالَ فَلَمَّا رَجَعْنَا قَالَ لَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قُلْتُمْ يَا عَائِشَةُ؟ فَقَالَتْ سَلَّمْنَا وَدَعَوْنَا الْبَرَكَةَ ثُمَّ انْصَرَفْنَا، قَالَ: إنَّ الْأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ أَلَا قُلْتُمْ يَا عَائِشَةُ أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ، فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ. زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَلَوْلَا الذَّهَبُ الْأَحْمَرُ، لَمَا حَلَّتْ بِوَادِيكُمْ، وَلَوْلَا الْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ لَمَا سُرَّتْ عَذَارِيكُمْ» وَذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا. وَذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ فِي الرِّسَالَةِ. وَذَكَرَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ رَجُلًا أَنْشَدَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ شِعْرًا: أَقْبَلَتْ فَلَاحَ لَهَا ... عَارِضَانِ كَالسَّبَجِ أَدْبَرَتْ فَقُلْت لَهَا ... وَالْفُؤَادُ فِي وَهَجِ هَلْ عَلَيَّ وَيْحُكُمْ ... إنْ عَشِقْت مِنْ حَرَجٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لَا حَرَجَ» كَذَا قَالَ. قُلْت ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَلَفْظُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَقَدْ رَشَّ فِنَاءَ أُطْمِهِ وَجَلَسَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِمَاطَيْنِ وَجَارِيَةٌ لَهُ يُقَالُ لَهَا سِيرِينَ مَعَهَا مِزْهَرُهَا تَخْتَلِفُ بِهِ بَيْنَ الْقَوْمِ وَهِيَ تُغَنِّيهِمْ، فَلَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ، انْتَهَى إلَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ فِي غِنَاهَا: هَلْ عَلَيَّ وَيْحَكُمْ ... إنْ زَهَوْت مِنْ حَرَجٍ فَتَبَسَّمَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَا حَرَجَ إنْ شَاءَ اللَّهُ» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَتَفَرَّدَ بِهِ أَبُو أُوَيْسٍ عَنْ حُسَيْنٍ وَكِلَاهُمَا مَتْرُوكٌ وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ بِالْوَضْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِأَنَّ الْغِنَاءَ إنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَصْوَاتِ الْحَسَنَةِ وَالنَّغَمَاتِ الْمُطْرِبَةِ يَصْدُرُ عَنْهَا كَلَامٌ مَوْزُونٌ مَفْهُومٌ. فَالْوَصْفُ الْأَعَمُّ فِيهِ إنَّمَا هُوَ الصَّوْتُ الْحَسَنُ وَالنَّغْمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَهُوَ مَقْسُومٌ إلَى قِسْمَيْنِ: مَفْهُومٌ كَالْأَشْعَارِ. وَغَيْرُ مَفْهُومٍ كَأَصْوَاتِ الْجَمَادَاتِ وَهِيَ الْمَزَامِيرُ كَالشَّبَّابَةِ وَالْأَوْتَارِ، وَالثَّانِي لَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُعْتَمَدِ، وَالْأَوَّلُ لَا تَظْهَرُ حُرْمَتُهُ لِأَنَّهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ بِشِعْرٍ مَوْزُونٍ مَفْهُومٍ، وَقَدْ صَحَّتْ الْأَخْبَارُ وَتَوَاتَرَتْ الْآثَارُ، بِإِنْشَادِ الْأَشْعَارِ، بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وَأَبَاحَهُ) أَيْ الْغِنَاءَ (الْإِمَامُ) الْمُتْقِنُ وَالْهُمَامُ الْمُتَفَنِّنُ، أَوْحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ وَقُدْوَةُ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، حَامِلُ لِوَاءِ الْمَذْهَبِ وَمُقَرِّبُ الْمَأْرَبِ الْإِمَامُ أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَّاءِ الْقَاضِي السَّعِيدُ، عَلَّامَةُ زَمَانِهِ، وَفَرِيدُ عَصْرِهِ وَأَوَانِهِ، وَنَسِيجُ وَحْدِهِ، وَوَحِيدُ دَهْرِهِ، صَاحِبُ الْمَعَالِي وَالْمَفَاخِرِ ذُو الْقَدَمِ الرَّاسِخِ، وَالْبَحْرِ الزَّاخِرِ، وَأَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ يَتْبَعُونَ وَلِتَصَانِيفِهِ يُدَرِّسُونَ، وَبِأَقْوَالِهِ يَقْتَدُونَ، وَكَانَتْ دَوْلَتُهُ مَبْسُوطَةً، وَأَحْوَالُهُ مَضْبُوطَةً، وَعُلَمَاءُ الْمَذَاهِبِ يَجْتَمِعُونَ إلَيْهِ، وَيُعَوِّلُونَ فِي جَمِيعِ شُؤُونِهِمْ عَلَيْهِ، وَلِمَقَالَتِهِ يَسْتَمِعُونَ، وَبِحُسْنِ عِبَارَتِهِ يَنْتَفِعُونَ، وَقَدْ عُلِمَ لَهُ مِنْ الْحَالِ، مَا يُغْنِي عَنْ الْمَقَالِ، وَلَا سِيَّمَا مَذْهَبُ إمَامِنَا الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَمَا صَحَّ لَدَيْهِ مِنْهُ، مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِالْقُرْآنِ وَعُلُومِهِ، وَالْحَدِيثِ وَمَنْطُوقِهِ وَمَفْهُومِهِ، وَتَحَلِّيهِ بِالْوَرَعِ وَالصِّيَانَةِ، وَالتَّعَفُّفِ وَالدِّيَانَةِ، وَالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَةِ وَالتَّذَلُّلِ وَالضَّرَاعَةِ. صَحِبَ ابْنَ حَامِدٍ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ابْنُ حَامِدٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ وَبَرَعَ فِي ذَلِكَ. وُلِدَ الْقَاضِي السَّعِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ تَاسِعَةَ عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ. وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمِنْ أَصْحَابِهِ أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ. وَوَلَدُ صَاحِبِ التَّرْجَمَةِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ وَجُمُوعٌ. فَأَبَاحَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْغِنَاءَ وَاسْتِمَاعَهُ (مَعَ الْكُرْهِ) أَيْ مَعَ الْكَرَاهَةِ (فَانْشُدْ) لِلْغِنَاءِ وَلَا تَقُلْ هُوَ حَرَامٌ عَلَى رَأْيِ هَذَا الْإِمَامِ بَلْ غَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهَا: وَيُكْرَهُ الْغِنَاءُ وَاسْتِمَاعُهُ بِلَا آلَةِ لَهْوٍ وَيَحْرُمُ مَعَهَا قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَيُكْرَهُ سَمَاعُ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ بِلَا آلَةِ لَهْوٍ، وَيَحْرُمُ مَعَهَا، وَقِيلَ وَبِدُونِهَا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ. وَقِيلَ يُبَاحُ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُنْكَرٌ آخَرُ وَإِنْ دَاوَمَهُ أَوْ اتَّخَذَهُ صِنَاعَةً يَقْصِدُ لَهُ، أَوْ اتَّخَذَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً مُغَنِّيَيْنِ يَجْمَعُ عَلَيْهِمَا النَّاسَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ. فَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ الْإِبَاحَةُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَقِيلَ يَحْرُمُ، وَقِيلَ يُبَاحُ بِلَا كَرَاهَةٍ. قَالَ النَّاظِمُ: مَطْلَبٌ: فِي الْغِنَاءِ الْيَسِيرِ لِمَنْ يَسْتَتِرُ فِي بَيْتِهِ: فَمَنْ يَسْتَتِرْ فِي بَيْتِهِ لِسَمَاعِهِ الْغِنَاءَ ... وَلَمْ يُكْثِرْ وَلَمْ يُتَزَيَّدْ وَغَنَّى يَسِيرًا فِي خَفَاءٍ لِنَفْسِهِ ... فَلَا بَأْسَ وَاقْبَلْ إنْ يُرَجِّعْ وَيُنْشِدْ (فَ) عَلَى الْمَذْهَبِ (مَنْ يَسْتَتِرْ) . مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ (فِي بَيْتِهِ) أَوْ غَيْرِ بَيْتِهِ لِأَجْلِ (سَمَاعِهِ) أَيْ الْمُسْتَتِرِ (الْغِنَاءَ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ مَمْدُودًا (وَلَمْ يُكْثِرْ) مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَزَيَّدْ مِنْهُ (وَ) لَمْ يَقْتَرِنْ بِآلَةِ لَهْوٍ وَلَمْ يَكُنْ الْمُغَنِّي امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً لِحُرْمَةِ التَّلَذُّذِ بِصَوْتِهَا بَلْ (غَنَّى) غِنَاءً (يَسِيرًا) غَيْرَ كَثِيرٍ، فَإِنْ أَكْثَرَ مِنْهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ كَمَا مَرَّ، لِأَنَّهُ سَفَهٌ وَدَنَاءَةٌ يُسْقِطُ الْمُرُوءَةَ كَمَا فِي الْإِنْصَافِ. وَأَمَّا إنْ غَنَّى يَسِيرًا (فِي) حَالِ (خَفَاءٍ لِنَفْسِهِ) قُلْت أَوْ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ صِنَاعَةً وَلَمْ يُدَاوِمْهُ عَلَى مَا مَرَّ (فَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا حُرْمَةَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مَوْزُونٌ بِنَغْمَةٍ طَيِّبَةٍ فَلَا تَظْهَرُ الْحُرْمَةُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى قَالَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلنَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ: أَسْمِعْنِي بَعْضَ مَا عَفَا اللَّهُ لَك عَنْهُ مِنْ هُنَيْهَاتِكَ، فَأَسْمَعَهُ كَلِمَةً لَهُ يَعْنِي قَصِيدَةً فَقَالَ لَهُ وَإِنَّك لَقَائِلُهَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَطَالَ مَا غَنَّيْت بِهَا خَلْفَ جِمَالِ الْخَطَّابِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: أَتَيْت بَابَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَمِعْته يُغَنِّي بالركبانية: فَكَيْفَ ثَوَائِي بِالْمَدِينَةِ بَيْنَمَا ... قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرِ وَكَانَ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ مِنْ أَخِصَّاءِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ فَلَمَّا اسْتَأْذَنْت عَلَيْهِ قَالَ أَسَمِعْت مَا قُلْت؟ قُلْت نَعَمْ، قَالَ إذَا خَلَوْنَا قُلْنَا مَا يَقُولُهُ النَّاسُ فِي بُيُوتِهِمْ. وَهَلْ اسْتِحْسَانُ الشِّعْرِ إلَّا لِكَوْنِهِ مَوْزُونًا مُتَنَاسِبًا مَمْدُودَ الصَّوْتِ وَالدَّنْدَنَةِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ فَرْقٌ بَيْنَ الْمَنْظُومِ وَالْمَنْثُورِ. وَقَدْ سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْغِنَاءَ وَكَانَ يُعْجِبُهُ. فَهَذَا خُلَاصَةُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : جَزَمَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ بِحُرْمَةِ الْغِنَاءِ، وَقَالَ إنَّهُ مِنْ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ وَمَصَائِدِهِ الَّتِي كَادَ بِهَا مَنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَصَادَ بِهَا قُلُوبَ الْجَاهِلِينَ وَالْمُبْطِلِينَ، وَقَالَ إنَّهُ الْمُكَاءُ وَالتَّصَدِّيَةُ. وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ حَيْثُ اقْتَرَنَ بِآلَةِ لَهْوٍ مُحَرَّمَةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مِنْ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ الْغِنَاءُ بِالْآلَاتِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تَصُدُّ الْقُلُوبَ عَنْ الْقُرْآنِ، وَتَجْعَلُهَا عَاكِفَةً عَلَى الْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ، فَهُوَ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ، وَالْحِجَابُ الْكَثِيفُ عَنْ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ رُقْيَةُ اللِّوَاطِ وَالزِّنَا. وَبِهِ يَنَالُ الْعَاشِقُ الْفَاسِقُ غَايَةَ الْمُنَى، فَلَوْ رَأَيْتهمْ عِنْدَ ذَيَّاكِ السَّمَاعِ وَقَدْ خَشَعَتْ مِنْهُمْ الْأَصْوَاتُ، وَهَدَأَتْ مِنْهُمْ الْحَرَكَاتُ، وَعَكَفَتْ قُلُوبُهُمْ بِكُلِّيَّتِهَا عَلَيْهِ، وَانْصَبَّتْ انْصِبَابَةً وَاحِدَةً إلَيْهِ، لَرَأَيْت أَمْرًا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الْجُلُودُ، وَيَتَعَدَّى الشَّرَائِعَ وَالْحُدُودَ. فَلِغَيْرِ اللَّهِ بَلْ لِلشَّيْطَانِ قُلُوبٌ هُنَاكَ تُمَزَّقُ، وَأَثْوَابٌ تُشَقَّقُ، وَأَمْوَالٌ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ تُنْفَقُ، حَتَّى إذَا عَمِلَ السُّكْرُ فِيهِمْ عَمَلَهُ، وَبَلَغَ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ أَمَلَهُ، وَاسْتَفَزَّهُمْ بِصَوْتِهِ وَحِيَلِهِ، وَأَجْلَبَ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ، وَخَزَ فِي صُدُورِهِمْ وَخْزًا. وَأَزَّهُمْ إلَى ضَرْبِ الْأَرْضِ بِالْأَقْدَامِ أَزًّا. فَطَوْرًا يَجْعَلُهُمْ كَالْحَمِيرِ حَوْلَ الْمَدَارِ، وَتَارَةً كَالذُّبَابِ يَرْقُصُ وَسَطَ الدَّارِ. فَيَا شَمَاتَةَ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ بِاَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ خَوَاصُّ الْأَنَامِ، قَضَوْا حَيَاتَهُمْ لَذَّةً وَطَرَبًا، وَاتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا. مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ اسْتِمَاعِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. فَلَوْ سَمِعَ أَحَدُهُمْ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لَمَا حَرَّكَ لَهُ سَاكِنًا، وَلَا أَزْعَجَ لَهُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، وَلَا أَثَارَ فِيهِمْ وَجْدًا، وَلَا قَدَحَ فِيهِمْ مِنْ لَوَاعِجِ الشَّوْقِ إلَى اللَّهِ زَنْدًا، حَتَّى إذَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ قُرْآنُ الشَّيْطَانِ، وَوَلَجَ مَزْمُورُهُ أَسْمَاعَهُمْ، فُجِّرَتْ يَنَابِيعُ الْوَجْدِ مِنْ قُلُوبِهِمْ عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَجَرَتْ، وَعَلَى أَقْدَامِهِمْ فَرَقَصَتْ، وَعَلَى أَيْدِيهِمْ فَصَفَّقَتْ، وَعَلَى بَقِيَّةِ أَعْضَائِهِمْ فَاهْتَزَّتْ وَطَرِبَتْ، وَعَلَى أَنْفَاسِهِمْ فَتَصَاعَدَتْ، وَعَلَى زَفَرَاتِهِمْ فَتَزَايَدَتْ. فَيَا أَيُّهَا الْفَاتِنُ الْمَفْتُونُ، الْبَائِعُ حَظَّهُ مِنْ اللَّهِ بِصَفْقَةِ خَاسِرٍ مَغْبُونٍ، هَلَّا كَانَ هَذَا الِامْتِحَانُ، عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهَذِهِ الْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ، عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَلَكِنْ كُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إلَى مَا يُنَاسِبُهُ، وَيَمِيلُ إلَى مَا يُشَاكِلُهُ وَيُقَارِبُهُ، وَالْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ قَدْرًا وَشَرْعًا، وَالشَّكْلُ سَبَبُ الْمَيْلِ عَقْلًا وَطَبْعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فَمِنْ أَيْنَ هَذَا الْإِخَاءُ وَالنَّسَبُ، لَوْلَا الْعَلَقُ مِنْ الشَّيْطَانِ بِأَقْوَى سَبَبٍ؟ وَمِنْ أَيْنَ هَذِهِ الْمُصَالَحَةُ الَّتِي أَوْقَعَتْ فِي عَقْدِ الْإِيمَانِ وَعَهْدِ الرَّحْمَنِ خَلَلًا {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50] وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ: تُلِيَ الْكِتَابُ فَأَطْرَقُوا لَا خِيفَةً ... لَكِنَّهُ إطْرَاقُ سَاهٍ لَاهِي وَأَتَى الْغِنَاءُ فَكَالْحَمِيرِ تَنَاهَقُوا ... وَاَللَّهِ مَا رَقَصُوا لِأَجْلِ اللَّهِ دُفٌّ وَمِزْمَارٌ وَنَغْمَةُ شَادِنٍ ... فَمَتَى رَأَيْت عِبَادَةً بِمَلَاهِي ثَقُلَ الْكِتَابُ عَلَيْهِمُو لَمَّا رَأَوْا ... تَقْيِيدَهُ بِأَوَامِر وَنَوَاهِي سَمِعُوا لَهُ رَعْدًا وَبَرْقًا إذْ حَوَى ... زَجْرًا وَتَخْوِيفًا بِفِعْلِ مُبَاهِي وَرَأَوْهُ أَعْظَمَ قَاطِعٍ لِلنَّفْسِ عَنْ ... شَهَوَاتِهَا يَا وَيْحَهَا الْمُتَنَاهِي وَأَتَى السَّمَاعُ مُوَافِقًا أَغْرَاضَهَا ... فَلِأَجْلِ ذَاكَ غَدَا عَظِيمَ الْجَاهِ أَيْنَ الْمُسَاعِدُ لِلْهَوَى مِنْ قَاطِعٍ ... أَسْبَابَهُ عِنْدَ الْجَهُولِ السَّاهِي إنْ لَمْ يَكُنْ خَمْرَ الْجُسُومِ فَإِنَّهُ ... خَمْرُ الْعُقُولِ مُمَاثِلٌ وَمُضَاهِي فَانْظُرْ إلَى النَّشْوَانِ عِنْدَ شَرَابِهِ ... وَانْظُرْ إلَى النِّسْوَانِ عِنْدَ مَلَاهِي وَانْظُرْ إلَى تَمْزِيقِ ذَا أَثْوَابَهُ ... مِنْ بَعْدِ تَمْزِيقِ الْفُؤَادِ اللَّاهِي وَاحْكُمْ بِأَيِّ الْخَمْرَتَيْنِ أَحَقُّ ... بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّأْثِيمِ عِنْدَ اللَّهِ وَقَالَ آخَرُ: بَرِئْنَا إلَى اللَّهِ مِنْ مَعْشَرٍ ... بِهِمْ مَرَضٌ مِنْ سَمَاعِ الْغِنَا فَكَمْ قُلْت يَا قَوْمُ أَنْتُمْ عَلَى ... شَفَا جُرُفٍ مَا بِهِ مِنْ بِنَا شَفَا جُرُفٍ تَحْتَهُ هُوَّةٌ ... إلَى دَرَكٍ كَمْ بِهِ مِنْ عَنَا وَتَكْرَارُ ذَا النُّصْحِ مِنَّا لَهُمْ ... لِنُعْذَرَ فِيهِمْ إلَى رَبِّنَا فَلَمَّا اسْتَهَانُوا بِتَنْبِيهِنَا ... رَجَعْنَا إلَى اللَّهِ فِي أَمْرِنَا فَعِشْنَا عَلَى سُنَّةِ الْمُصْطَفَى ... وَمَاتُوا عَلَى تِنّ تَنَا تِنْ تِنَا وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِهِ تَحْرِيمِ السَّمَاعِ: قَدْ بَلَغَنَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ، اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ وَاسْتَغْوَى عُقُولَهُمْ فِي حُبِّ الْأَغَانِي وَاللَّهْوِ وَسَمَاعِ الطَّقْطَقَةِ وَالتَّغْبِيرِ، فَاعْتَقَدَتْهُ مِنْ الدِّينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ إلَى اللَّهِ، وَجَاهَرَتْ بِهِ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَاقَّتْ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ وَخَالَفَتْ الْفُقَهَاءَ وَالْعُلَمَاءَ وَحَمَلَةَ الدِّينِ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] قَالَ فَرَأَيْت أَنْ أُوَضِّحَ الْحَقَّ وَأَكْشِفَ عَنْ شُبَهِ أَهْلِ الْبَاطِلِ بِالْحُجَجِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ. قَالَ وَأَبْدَأُ بِذِكْرِ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ تَدُورُ الْفُتْيَا عَلَيْهِمْ فِي أَقَاصِي الْأَرْضِ وَدَانِيهَا، حَتَّى تَعْلَمَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنَّهَا قَدْ خَالَفَتْ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِدْعَتِهَا وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. ثُمَّ قَالَ:. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ حُكْمِ الْغِنَاءِ وَاسْتِمَاعِهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْغِنَاءِ وَعَنْ اسْتِمَاعِهِ، وَقَالَ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَجَدَهَا مُغَنِّيَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ. وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا يُرَخِّصُ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ الْغِنَاءِ، فَقَالَ إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الْغِنَاءَ وَيَجْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ سُفْيَانُ وَحَمَّادٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمْ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ الْمَذَاهِبِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ أَغْلَظُ الْأَقْوَالِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُهُ بِتَحْرِيمِ سَمَاعِ الْمَلَاهِي كُلِّهَا كَالْمِزْمَارِ وَالدُّفِّ حَتَّى الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ، وَصَرَّحُوا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ تُوجِبُ الْفِسْقَ وَتُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا: إنَّ السَّمَاعَ فِسْقٌ وَالتَّلَذُّذَ بِهِ كُفْرٌ، هَذَا لَفْظُهُمْ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ قَالُوا وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ لَا يَسْمَعَهُ إذَا مَرَّ بِهِ أَوْ كَانَ فِي جِوَارِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي دَارٍ يُسْمَعُ مِنْهَا صَوْتُ الْمَعَازِفِ وَالْمَلَاهِي: اُدْخُلْ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إذْنٍ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ إقَامَةِ الْفُرُوضِ. وَأَمَّا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ: إنَّ الْغِنَاءَ لَهْوٌ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ وَالْمُحَالَ، مَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَصَرَّحَ أَصْحَابُهُ الْعَارِفُونَ بِمَذْهَبِهِ بِتَحْرِيمِهِ، وَأَنْكَرُوا مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ حِلَّهُ كَالْقَاضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي التَّنْبِيهِ: وَلَا تَصِحُّ يَعْنِي الْإِجَارَةَ عَلَى مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ كَالْغِنَاءِ وَالزَّمْرِ وَحَمْلِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا. وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الْإِمَامِ النَّوَوِيِّ وَابْنِ الصَّلَاحِ وَكَلَامُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّغْبِيرِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ. وَقَدْ نَصَّ فِي أَيْتَامٍ وَرِثُوا جَارِيَةً مُغَنِّيَةً فَأَرَادُوا بَيْعَهَا، فَقَالَ لَا تُبَاعُ إلَّا عَلَى أَنَّهَا سَاذَجَةٌ، فَقَالُوا إذَا بِيعَتْ مُغَنِّيَةً سَاوَتْ عِشْرِينَ أَلْفًا أَوْ نَحْوَهَا، وَإِذَا بِيعَتْ سَاذَجَةً لَا تُسَاوِي أَلْفَيْنِ، فَقَالَ لَا تُبَاعُ إلَّا عَلَى أَنَّهَا سَاذَجَةٌ، فَلَوْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ الْغِنَاءِ مُبَاحَةً لَمَا فَوَّتَ هَذَا الْمَالَ عَلَى الْأَيْتَامِ. (الثَّانِي) : مَحِلُّ الْخِلَافِ إنْ لَمْ يَكُنْ السَّمَاعُ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ أَوْ أَمْرَدَ فَأَمَّا سَمَاعُهُ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ فَمِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَشَدِّهَا إفْسَادًا لِلدِّينِ. قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ إذَا جَمَعَ النَّاسَ لِسَمَاعِهَا فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَغَلَّظَ الْقَوْلَ فِيهِ وَقَالَ هُوَ دِيَاثَةٌ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ دَيُّوثًا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَإِنَّمَا جُعِلَ صَاحِبُهَا سَفِيهًا لِأَنَّهُ دَعَا النَّاسَ إلَى الْبَاطِلِ، وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إلَى الْبَاطِلِ كَانَ سَفِيهًا فَاسِقًا. قَالَ وَأَمَّا الْعُودُ وَالطُّنْبُورُ وَسَائِرُ الْمَلَاهِي فَحَرَامٌ وَمُسْتَمِعُهُ فَاسِقٌ، وَاتِّبَاعُ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْ اتِّبَاعِ رَجُلَيْنِ مَطْعُونٌ عَلَيْهِمَا. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ يُرِيدُ بِهِمَا (إبْرَاهِيمَ بْنَ سَعِيدٍ (وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ) فَإِنَّهُ قَالَ وَمَا خَالَفَ فِي الْغِنَاءِ إلَّا رَجُلَانِ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ، فَإِنَّ السَّاجِيَّ حَكَى عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا، وَالثَّانِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ الْعَنْبَرِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ وَهُوَ مَطْعُونٌ فِيهِ. انْتَهَى. . [مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ أَقْوَالِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ فِي السَّمَاعِ إلَى الْغِنَاءِ] مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ أَقْوَالِ السَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ فِي السَّمَاعِ (الثَّالِثُ) : أَبَاحَتْ السَّمَاعَ الصُّوفِيَّةُ وَأَتَوْا عَلَى إبَاحَتِهِ بِأَدِلَّةٍ غَيْرِ وَفِيَّةٍ. فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْقُرُبَاتِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا، وَلَمْ يَرْفَعُوا لِمُخَالِفِيهِمْ فِي ذَلِكَ أَسًا، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَانِعِهِ أَصْلًا وَفَرْعًا، وَجَعَلُوهُ أَنَّهُ خَالَفَ الْأَصْلَ حَقِيقَةً وَشَرْعًا قَالُوا وَيَلْزَمُ مَنْ حَظَّرَ الْغِنَاءَ تَخْطِئَةُ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، وَتَفْسِيقُ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، إذْ لَا خِلَافَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 أَنَّهُمْ سَمِعُوا الْغِنَاءَ وَتَوَاجَدُوا، وَأَفْضَى بِهِمْ إلَى الصُّرَاخِ وَالْغَشْيِ وَالصَّفْقِ وَعَرْبَدُوا. وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ تَفْصِيلًا حَسَنًا بِحَسَبِ الْعَقْلِ، لَوْ سَاعَدَهُ الْقِيَاسُ وَالنَّقْلُ، فَقَالَ مَنْ صَحَّ فَهْمُهُ، وَحَسُنَ قَصْدُهُ، وَصَقَلَتْ الرِّيَاضَةُ مِرْآةَ قَلْبِهِ، وَجَلَتْ نَسَمَاتُ الْعَزِيمَةِ فَضَاءَ سِرِّهِ، فَصَفَا مِنْ تَصَاعُدِ أَكْدَارِ أَرْضِ طَبْعِهِ، وَبُخَارِ بَشَرِيَّتِهِ، وَخَيَلَانِ وَسْوَاسِهِ، وَعَرِيَ مِنْ حُضُوضُ الشَّهَوَاتِ، وَتَطَهَّرَ مِنْ دَنَسِ الشُّبُهَاتِ، فَلَا نَقُولُ: إنَّ سَمَاعَهُ حَرَامٌ، وَفِعْلَهُ ذَلِكَ خَطَأٌ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: مَنْ طَعَنَ فِي السَّمَاعِ فَقَدْ طَعَنَ فِي سَبْعِينَ صِدِّيقًا وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ السَّمَاعِ فَقَالَ ظَاهِرُهُ فِتْنَةٌ وَبَاطِنُهُ عِبْرَةٌ، فَمَنْ عَرَفَ الْإِشَارَةَ حَلَّ لَهُ السَّمَاعُ وَإِلَّا فَقَدْ اسْتَدْعَى الْفِتْنَةَ وَتَعَرَّضَ لِلْبَلِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّمَاعَ مُهَيِّجٌ مَا فِي الْقُلُوبِ مُحَرِّكٌ مَا فِيهَا، فَلَمَّا كَانَتْ قُلُوبُ الْقَوْمِ مَعْمُورَةً بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَافِيَةً مِنْ كَدَرِ الشَّهَوَاتِ، مُحْتَرِقَةً بِحُبِّ اللَّهِ لَيْسَ فِيهَا سِوَاهُ، فَالشَّوْقُ وَالْوَجْدُ وَالْهَيَجَانُ وَالْقَلَقُ كَامِنٌ فِي قُلُوبِهِمْ كُمُونَ النَّارِ فِي الزِّنَادِ، فَلَا تَظْهَرُ إلَّا بِمُصَادَفَةِ مَا يُشَاكِلُهَا. فَمُرَادُ الْقَوْمِ فِيمَا يَسْمَعُونَ إنَّمَا هُوَ مُصَادِفٌ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَيَسْتَثِيرُهُ بِصَدْمَةِ طُرُوقِهِ وَقُوَّةِ سُلْطَانِهِ، فَتَعْجَزُ الْقُلُوبُ عَنْ الثُّبُوتِ عَنْ اصْطِدَامِهِ، فَتَبْعَثُ الْجَوَارِحَ بِالْحَرَكَاتِ وَالصَّرَخَاتِ وَالصَّعَقَاتِ لِثَوَرَانِ مَا فِي الْقُلُوبِ، لَا أَنَّهُ يُحْدِثُ فِيهَا شَيْئًا. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: السَّمَاعُ لَا يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ شَيْئًا وَإِنَّمَا هُوَ مُهَيِّجٌ مَا فِيهِ فَتَرَاهُمْ يَهِيجُونَ مِنْ وَجْدِهِمْ، وَيَنْطِقُونَ مِنْ حَيْثُ قَصْدُهُمْ، وَيَتَوَاجَدُونَ مِنْ حَيْثُ كَامِنَاتُ سَرَائِرِهِمْ، لَا مِنْ حَيْثُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَمُرَادُ الْقَائِلِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ الْفَهْمَ سَبَقَ إلَى مَا يَتَخَيَّلُهُ الذِّهْنُ. وَشَاهِدُ ذَلِكَ كَمَا حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَكْمَانَ الصُّوفِيَّ سَمِعَ رَجُلًا يَطُوفُ وَيُنَادِي (يَا سَعْتَرْبِرِّي) فَسَقَطَ وَغُشِيَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْته وَهُوَ يَقُولُ اسْعَ تَرَ بِرِّي، أَلَا تَرَى أَنَّ حَرَكَةَ وَجْدِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِيهِ مِنْ وَقْتِهِ لَا مِنْ حَيْثُ قَوْلُ الْقَائِلِ وَلَا قَصْدُهُ كَمَا رَوَى بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّهُ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: الْخِيَارُ عَشْرَةٌ بِحَبَّةٍ، فَغَلَبَهُ الْوَجْدُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إذَا كَانَ الْخِيَارُ عَشْرَةٌ بِحَبَّةٍ فَمَا قِيمَةُ الْأَشْرَارِ فَالْمُحْتَرِقُ بِحُبِّ اللَّهِ لَا تَمْنَعُهُ الْأَلْفَاظُ الْكَثِيفَةُ، عَنْ فَهْمِ الْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ، فَلَمْ يَكُنْ وَاقِفًا مَعَ نَغْمَةٍ وَلَا مُشَاهَدَةِ صُورَةٍ. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ السَّمَاعَ يَرْجِعُ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 رِقَّةِ الْمَعْنَى وَطِيبِ النَّغْمَةِ فَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ السَّمَاعِ. قَالُوا وَإِنَّمَا السَّمَاعُ حَقِيقَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَلَطِيفَةٌ رُوحَانِيَّةٌ، تَسْرِي مِنْ السَّمِيعِ الْمُسْمَعِ إلَى الْأَسْرَارِ، بِلَطَائِف التُّحَفِ وَالْأَنْوَارِ، فَتَمْحَقُ مِنْ الْقَلْبِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَيَبْقَى فِيهِ مَا لَمْ يَزُلْ، فَهُوَ سَمَاعُ حَقٍّ بِحَقٍّ مِنْ حَقٍّ. قَالُوا وَأَمَّا الْحَالُ الَّذِي يَلْحَقُ الْمُتَوَاجِدَ، فَمِنْ ضَعْفِ حَالِهِ عَنْ تَحَمُّلِ الْوَارِدِ، وَذَلِكَ لِازْدِحَامِ أَنْوَارِ الطَّائِفِ فِي دُخُولِ بَابِ الْقَلْبِ، فَيَلْحَقُهُ دَهْشٌ فَيَبْعَثُ بِجَوَارِحِهِ، وَيَسْتَرِيحُ إلَى الصَّعْقَةِ وَالصَّرْخَةِ وَالشَّهْقَةِ. وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْبِدَايَاتِ، وَأَمَّا أَهْلُ النِّهَايَاتِ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ السُّكُونُ وَالثُّبُوتُ لِانْشِرَاحِ صُدُورِهِمْ، وَاتِّسَاعِ سَرَائِرِهِمْ الْوَارِدِ عَلَيْهِمْ، فَهُمْ فِي سُكُونِهِمْ مُتَحَرِّكُونَ، وَفِي ثُبُوتِهِمْ مُتَقَلْقِلُونَ، كَمَا قِيلَ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا لَنَا لَا نَرَاك تَتَحَرَّك عِنْدَ السَّمَاعِ؟ فَقَالَ {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88] وَيُحْكَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ السَّمَاعِ وَلِأَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الرَّجُلُ سَاكِنًا قَبْلَ السَّمَاعِ، فَإِذَا سَمِعَ اضْطَرَبَ وَتَحَرَّكَ؟ فَقَالَ: السَّمَاعُ خِطَابُ الرُّوحِ مِنْ الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ حِينَ قَالَ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] فَسُمِعَ حِينَ سُمِعَ لَا حَدَّ وَلَا رَسْمَ وَلَا صِفَةَ إلَّا الْمَعْنَى الَّذِي سُمِعَ حِينَ سُمِعَ، فَبَقِيَتْ حَلَاوَةُ ذَلِكَ السَّمَاعِ فِيهِمْ، فَلَمَّا أَخْرَجَهُمْ وَرَدَّهُمْ إلَى الدُّنْيَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَإِذَا سَمِعُوا نَغْمَةً طَيِّبَةً وَقَوْلًا حَسَنًا طَارَتْ هِمَمُهُمْ إلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ، فَسَمِعُوا مِنْ الْأَهْلِ، وَأَشَارُوا إلَى الْأَصْلِ. قَالُوا فَالْعَارِفُ هُوَ الَّذِي سَمِعَ مِنْ اللَّهِ، وَمَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ كَيْفَ يَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ، وَمَنْ لَا يَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ فَالْبَهِيمَةُ خَيْرٌ مِنْهُ {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] . وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ: مَنْ ادَّعَى السَّمَاعَ فَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ صَوْتِ الطُّيُورِ وَصَرِيرِ الْبَابِ وَتَصْفِيقِ الرِّيَاحِ فَهُوَ مُدَّعٍ، فَالْعَارِفُ يَسْمَعُ لَطِيفَ الْإِشَارَةِ، مِنْ كَثِيفِ الْعِبَارَةِ. وَدَخَلَ يَوْمًا أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ وَوَاحِدٌ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنْ بِئْرٍ عَلَيْهِ بَكْرَةٌ فَتَوَاجَدَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ إنَّهَا تَقُولُ اللَّهَ اللَّهَ. قَالُوا: وَسَمِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَوْتَ نَاقُوسٍ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا لَا، قَالَ إنَّهُ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 حَقًّا حَقًّا. إنَّ الْمَوْلَى صَمَدِيٌّ يَبْقَى يَا أَهْلَ الدُّنْيَا إنَّ الدُّنْيَا قَدْ غَرَّتْنَا وَاسْتَهْوَتْنَا وَاسْتَغْوَتْنَا. يَا ابْنَ الدُّنْيَا مَهْلًا مَهْلًا. يَا ابْنَ الدُّنْيَا تَفْنَى الدُّنْيَا قَرْنًا قَرْنًا. مَا مِنْ يَوْمٍ يَمْضِي عَنَّا إلَّا يُهْوِي مِنَّا رُكْنًا. قَالُوا: وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مَارٌّ عَلَى دُكَّانِ قَطَّانٍ لِأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ قَوْسَهُ مَا يَقُولُ؟ قَالُوا لَا، قَالَ إنَّهُ يَقُولُ: لَوْ عِشْت عُمْرَ نُوحٍ وَضِعْفَ ضِعْفَ ضِعْفَ ذَاكَ أَلَسْت بَعْدَهَا تَفِ تَفِ تَفِ. قَالَ فِي حَلِّ الرُّمُوزِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَ السَّمَاعُ، وَسَمِعَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَكَابِرِ وَالْمَشَايِخِ وَالتَّابِعِينَ وَمِنْ الصَّحَابَةِ، فَنُقِلَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ. قَالَ وَجَاءَ عَنْهُ آثَارٌ فِي إبَاحَةِ السَّمَاعِ وَجَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَتِهِ مِنْ السَّلَفِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ أَجْمَعَ يُبِيحُونَ الْغِنَاءَ، كَذَا قَالَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُلَقَّبِ بِالْقَسِّ وَكَانَ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي الْعِبَادَةِ أَنَّهُ مَرَّ يَوْمًا بِسَلَّامَةَ وَهِيَ تُغَنِّي فَقَامَ يَسْمَعُ غِنَاءَهَا فَرَآهُ مَوْلَاهَا فَقَالَ لَهُ هَلْ لَك أَنْ تَدْخُلَ وَتَسْمَعَ؟ فَأَبَى وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَخَلَ فَغَنَّتْهُ فَأَعْجَبَتْهُ، وَلَمْ يَزَلْ يَسْمَعُهَا وَيُلَاحِظُهَا النَّظَرَ حَتَّى شُغِفَ بِهَا، فَلَمَّا شَعَرَتْ لِلَحْظِهِ إيَّاهَا، غَنَّتْهُ: رُبَّ رَسُولَيْنِ لَنَا بَلَّغَا ... رِسَالَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَحَا الطَّرْفَ وَالظَّرْفَ بَعَثْنَاهُمَا ... فَقَضَيَا حَاجًا وَمَا صَرَّحَا قَالَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ وَكَادَ يَهْلَكُ، فَقَالَتْ لَهُ وَاَللَّهِ إنِّي أُحِبُّك، قَالَ أَنَا وَاَللَّهِ أُحِبُّك. قَالَتْ وَأُحِبُّ أَنْ أَضَعَ فَمِي عَلَى فَمِك، قَالَ وَأَنَا وَاَللَّهِ فَمَا يَمْنَعُك مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَاقَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَك عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمَا سَمِعْت قَوْله تَعَالَى {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] فَنَهَضَ وَعَادَ إلَى طَرِيقَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَأَنْشَأَ يَقُولُ: قَدْ كُنْت أَعْذِلُ فِي السَّفَاهَةِ أَهْلَهَا ... فَأَعْجَبُ لِمَا تَأْتِي بِهِ الْأَيَّامُ فَالْيَوْمَ أَعْذُرُهُمْ وَأَعْلَمُ أَنَّمَا ... سُبُلُ الضَّلَالَةِ وَالْهُدَى أَقْسَامُ وَحَاصِلُ مَا عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ عَلَى مَا فِي حَلِّ الرُّمُوزِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِمْ أَنَّ السَّمَاعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، مِنْهُ مَا هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ، وَهُوَ لِأَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ الشَّبَابِ وَمَنْ، غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ شَهْوَتُهُمْ، وَمَلَكَهُمْ حُبُّ الدُّنْيَا، وَتَكَدَّرَتْ بَوَاطِنُهُمْ، وَفَسَدَتْ مَقَاصِدُهُمْ فَلَا يُحَرِّكُ السَّمَاعُ مِنْهُمْ إلَّا مَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا وَتَكَدُّرُ أَحْوَالِنَا وَفَسَادُ أَعْمَالِنَا. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ الْجُنَيْدِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ أَنَّهُ تَرَكَ السَّمَاعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَقِيلَ لَهُ كُنْت تَسْمَعُ أَفَلَا تَسْمَعُ؟ قَالَ مَعَ مَنْ؟ فَقِيلَ لَهُ أَنْتَ تَسْمَعُ لِنَفْسِك، فَقَالَ مِمَّنْ، فَالسَّمَاعُ لَا يُحْسَنُ إلَّا بِأَهْلِهِ وَمَعَ أَهْلِهِ وَمِنْ أَهْلِهِ، فَإِذَا انْعَدَمَ أَهْلُهُ وَانْدَرَسَ مَحَلُّهُ فَيَجِبُ عَلَى الْعَارِفِ تَرْكُهُ. وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَهُوَ لِمَنْ لَا حَظَّ لَهُ مِنْهُ إلَّا التَّلَذُّذَ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ وَاسْتِدْعَاءِ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ، أَوْ يَتَذَكَّرُ بِهِ غَائِبًا أَوْ مَيِّتًا فَيُثِيرُ حُزْنُهُ فَيُتَرَوَّحُ بِمَا يَسْمَعُهُ. وَمِنْهُ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ وَهُوَ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّوْقُ إلَيْهِ، فَلَا يُحَرِّكُ السَّمَاعُ مِنْهُ إلَّا الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةَ كَمَا مَرَّ. وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ سَمِعَ فَظَهَرَتْ عَلَيْهِ صِفَاتُ نَفْسِهِ وَذَكَرَ لَهَا حُظُوظَ دُنْيَاهُ وَاسْتَثَارَ بِسَمَاعِهِ وَسَاوِسَ هَوَاهُ، فَالسَّمَاعُ عَلَيْهِ حَرَامٌ مَحْضٌ. وَمَنْ سَمِعَ فَظَهَرَ لَهُ ذِكْرُ رَبِّهِ، وَخَوْفُهُ مِنْ ذَنْبِهِ، وَتَذَكَّرَ آخِرَتَهُ، فَأَنْتَجَ لَهُ ذَلِكَ الذِّكْرُ شَوْقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْهُ وَرَجَاءً لِوَعْدِهِ وَحَذَرًا مِنْ وَعِيدِهِ، فَسَمَاعُهُ ذِكْرٌ مِنْ الْأَذْكَارِ عِنْدَهُمْ. هَذَا حَاصِلُ مَقَالَاتِهِمْ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ، وَمَعْنَى إشَارَاتِهِمْ وَإِنْ تَشَعَّبَتْ. وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ مَنْظُورٍ إلَيْهِ، وَلَا مُلْتَفَتٌ لَهُ، وَلَا مُعَوَّلٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ يَعْنِي الصُّوفِيَّةَ مُخَالِفَةٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْغِنَاءَ دِينًا وَطَاعَةً، وَرَأَتْ إعْلَانَهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ وَسَائِرِ الْبِقَاعِ الْمُشَرَّفَةِ وَالْمَشَاهِدِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَشْرَفِ الْبِضَاعَةِ قَالَ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ رَأَى هَذَا الرَّأْيَ. وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أَلَا قُلْ لَهُمْ قَوْلَ عَبْدٍ نَصُوحٍ ... وَحَقُّ النَّصِيحَةِ أَنْ تُسْتَمَعْ مَتَى عَلِمَ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ ... بِأَنَّ الْغِنَا سُنَّةٌ تُتَّبَعْ وَأَنْ يَأْكُلَ الْمَرْءُ أَكْلَ الْحِمَارِ ... وَيَرْقُصَ فِي الْجَمْعِ حَتَّى يَقَعْ وَقَالُوا سَكِرْنَا بِحُبِّ الْإِلَهِ ... وَمَا أَسْكَرَ الْقَوْمَ إلَّا الْفَضَعْ كَذَاك الْبَهَائِمُ إنْ أُشْبِعَتْ ... يُرَقِّصُهَا رَبُّهَا وَالشِّبَعْ وَيُسْكِرُهُ النَّايُ ثُمَّ الْغِنَا ... وَيس لَوْ تُلِيَتْ مَا انْصَدَعْ فَيَا لِلْعُقُولِ وَيَا لِلنُّهَى ... أَلَا مُنْكِرٌ مِنْكُمُو لِلْبِدَعْ تُهَانُ مَسَاجِدُنَا بِالسَّمَاعِ ... وَتُكْرَمُ عَنْ مِثْلِ ذَاكَ الْبِيَعُ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا السَّمَاعُ الشَّيْطَانِيُّ الْمُضَادُّ لِلسَّمَاعِ الرَّحْمَانِيِّ لَهُ فِي الشَّرْعِ بِضْعَةَ عَشَرَ اسْمًا: اللَّهْوُ، وَاللَّغْوُ، وَالْوِزْرُ، وَالْمُكَاءُ، وَالتَّصْدِيَةُ وَرُقْيَةُ الزِّنَا، وَقُرْآنُ الشَّيْطَانِ، وَمُنْبِتُ النِّفَاقِ فِي الْقَلْبِ، وَالصَّوْتُ الْأَحْمَقُ، وَالصَّوْتُ الْفَاجِرُ، وَصَوْتُ الشَّيْطَانِ، وَمَزْمُورُ الشَّيْطَانِ، وَالسُّمُودُ. أَسْمَاؤُهُ دَلَّتْ عَلَى أَوْصَافِهِ تَبًّا لِذِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَوْصَافِ ثُمَّ ذَكَرَ أَدِلَّتَهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَالِاسْمُ اللَّهْوُ وَلَهْوُ الْحَدِيثِ. قَالَ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الْآيَةَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَهْوِ الْحَدِيثِ الْغِنَاءُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي الصَّهْبَاءِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ تُغَنِّيه لَيْلًا وَنَهَارًا، قَالَ وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ وَاخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا. قَالَ أَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ لَهْوَ الْحَدِيثِ هَاهُنَا هُوَ الْغِنَاءُ لِأَنَّهُ يُلْهِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: وَيَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَنْ اخْتَارَ اللَّهْوَ وَالْغِنَاءَ وَالْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ عَلَى الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ قَدْ وَرَدَ بِالشِّرَاءِ فَلَفْظُ الشِّرَاءِ يُذْكَرُ فِي الِاسْتِبْدَالِ وَالِاخْتِيَارِ. قَالَ وَبِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْ الضَّلَالَةِ أَنْ يَخْتَارَ حَدِيثَ الْبَاطِلِ عَلَى حَدِيثِ الْحَقِّ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْغِنَاءِ. ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بِإِعْلَانِ الْغِنَاءِ. قَالَ وَأَمَّا غِنَاءُ الْقَيْنَاتِ فَذَلِكَ أَشَدُّ مَا فِي الْبَابِ لِكَثْرَةِ الْوَعِيدِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَهُوَ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ اسْتَمَعَ إلَى قَيْنَةٍ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الْآنُكُ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ الرَّصَاصُ الْمُذَابُ. وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُ لَهْوِ الْحَدِيثِ بِالْغِنَاءِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ فَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَتِهِنَّ فَهُنَّ وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ» فِي مِثْلِ هَذَا نَزَلَتْ الْآيَةُ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مَدَارُهُ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْقَاسِمِ فَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ ثِقَةٌ وَالْقَاسِمُ ثِقَةٌ وَعَلِيٌّ ضَعِيفٌ، إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ شَوَاهِدُ وَمُتَابَعَاتٌ مَعَ مَا اعْتَضَدَ بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَالتَّابِعِينَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ هُوَ الْغِنَاءُ يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَعْنِي لَهْوَ الْحَدِيثِ وَصَحَّ ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ الْغِنَاءُ. قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: لِيَعْلَمَ طَالِبُ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: هُوَ عِنْدَنَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. قَالَ فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَظَرٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ تَفْسِيرِ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَهُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ كِتَابِهِ، فَعَلَيْهِمْ نَزَلَ وَهُمْ أَوْلَى مَنْ خُوطِبَ بِهِ مِنْ الْأُمَّةِ، وَقَدْ شَاهَدُوا تَفْسِيرَهُ مِنْ الرَّسُولِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَهُمْ الْعَرَبُ الْفُصَحَاءُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا وُجِدَ إلَيْهِ سَبِيلٌ. وَلَا نُعَارِضُ بَيْنَ تَفْسِيرِ لَهْوِ الْحَدِيثِ بِالْغِنَاءِ وَتَفْسِيرِهَا بِأَخْبَارِ الْأَعَاجِمِ وَمُلُوكِهَا وَمُلُوكِ الرُّومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ يُحَدِّثُ بِهِ أَهْلَ مَكَّةَ يَشْغَلُهُمْ عَنْ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا لَهْوٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغِنَاءَ أَشَدُّ لَهْوًا مِنْ أَخْبَارِ الْمُلُوكِ وَأَعْظَمُ ضَرَرًا، فَإِنَّهُ رُقْيَةُ الزِّنَا، وَشَرَكُ الشَّيْطَانِ، وَخَمْرَةُ الْعُقُولِ، وَيَصُدُّ عَنْ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ لِشِدَّةِ مَيْلِ النُّفُوسِ إلَيْهِ وَرَغْبَتِهَا فِيهِ. وَقَالَ فِي اسْمِ الزُّورِ وَاللَّغْوِ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: الزُّورُ هَهُنَا الْغِنَاءُ. وَقَالَهُ اللَّيْثُ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَطَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ الْكَلَامَ عَلَى أَسْمَائِهِ إطَالَةً تَمْنَعُ اسْتِقْصَاءَ مَا قَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَنْشَدَ لِنَفْسِهِ: فَدَعْ صَاحِبَ الْمِزْمَارِ وَالدُّفِّ وَالْغِنَا ... وَمَا اخْتَارَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ مَذْهَبَا وَدَعْهُ يَعِشْ فِي غَيِّهِ وَضَلَالِهِ ... عَلَى مَا نَشَا يَحْيَى وَيُبْعَثُ أَشْيَبَا وَفِي بَيْنِنَا يَوْمَ الْمَعَادِ نَجَاتُهُ ... إلَى الْجَنَّةِ الْحَمْرَاءِ يُدْعَى مُقَرَّبَا سَيَعْلَمُ يَوْمَ الْعَرْضِ أَيَّ بِضَاعَةٍ ... أَضَاعَ وَعِنْدَ الْوَزْنِ مَا خَفَّ أَوْ رَبَا وَيَعْلَمُ مَا قَدْ كَانَ فِيهِ حَيَاتُهُ ... إذَا حُصِّلَتْ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا هَبَا دَعَاهُ الْهُدَى وَالْغَيُّ مَنْ ذَا يُجِيبُهُ ... فَقَالَ لِدَاعِي الْغَيِّ أَهْلًا وَمَرْحَبَا وَأَعْرَضَ عَنْ دَاعِي الْهُدَى قَائِلًا لَهُ ... هَوَايَ إلَى صَوْتِ الْمَعَازِفِ قَدْ صَبَا يَرَاعٌ وَدُفٌّ بِالصُّنُوجِ وَشَادِنٌ ... وَصَوْتُ مُغَنٍّ صَوْتُهُ يَقْنِصُ الظِّبَا إذَا مَا تَغَنَّى فَالظِّبَاءُ مُجِيبَةٌ ... إلَى أَنْ يَرَاهَا حَوْلَهُ تُشْبِهُ الدَّبَا فَمَا شِئْت مِنْ صَيْدٍ بِغَيْرِ تَطَارُدٍ ... وَوَصْلِ حَبِيبٍ كَانَ بِالْهَجْرِ عُذِّبَا فَيَا آمِرًا بِالرُّشْدِ لَوْ كُنْت حَاضِرًا ... لَكَانَ إلَى الْمَنْهِيِّ عِنْدَك أَقْرَبَا مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ تَحْرِيمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّرِيحِ لِآلَاتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ (الرَّابِعُ) : فِي بَيَانِ تَحْرِيمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّرِيحِ لِآلَاتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ، وَسِيَاقُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ. مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَا حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مُحْتَجًّا بِهِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَلَمْ يَصْنَعْ مَنْ قَدَحَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ شَيْئًا كَابْنِ حَزْمٍ نُصْرَةً لِمَذْهَبِهِ الْبَاطِلِ فِي إبَاحَةِ الْمَلَاهِي، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَصِلْ سَنَدَهُ بِهِ وَإِنَّمَا قَالَ بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ حَدَّثَنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ وَاَللَّهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فَذَكَرَهُ. وَجَوَابُ هَذَا الْوَهْمِ مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ لَقِيَ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ وَسَمِعَ مِنْهُ، فَقَوْلُهُ قَالَ هِشَامٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَنْ هِشَامٍ قَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّةِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ: وَإِنْ يَكُنْ أَوَّلَ الْإِسْنَادِ حَذْفٌ ... مَعَ صِيغَةِ الْجَزْمِ فَتَعْلِيقًا عُرِفَ وَلَوْ إلَى آخِرِهِ أَمَّا الَّذِي ... لِشَيْخِهِ عَزَا يُقَالُ فَكَذَا عَنْعَنَةٌ كَخَبَرِ الْمَعَازِفِ ... لَا تُصْغِ لِابْنِ حَزْمٍ الْمُخَالِفِ قَالَ فِي شَرْحِهِ: قَوْلُهُ كَخَبَرِ الْمَعَازِفِ هُوَ مِثَالٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالتَّحْدِيثِ أَوْ الْإِخْبَارِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَقَوْلِهِ قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ إلَى آخِرِهِ. قَالَ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حُكْمُهُ الِاتِّصَالُ لِأَنَّ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَحَدَّثَ عَنْهُ بِأَحَادِيثَ، وَخَالَفَ ابْنُ حَزْمٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ فِي الْمُحَلَّى هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لَمْ يَتَّصِلْ مَا بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَصَدَقَةَ ابْنُ خَالِدٍ، قَالَ وَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ أَبَدًا، قَالَ وَكُلُّ مَا فِيهِ فَمَوْضُوعٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَا الْتِفَاتَ إلَيْهِ فِي رَدِّهِ ذَلِكَ. قَالَ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. قَالَ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَعْرُوفُ الِاتِّصَالِ بِشَرْطِ الصَّحِيحِ. قَالَ وَالْبُخَارِيُّ قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْحَدِيثِ مَعْرُوفًا مِنْ جِهَةِ الثِّقَاتِ عَنْ الشَّخْصِ الَّذِي عَلَّقَهُ عَنْهُ أَوْ لِكَوْنِهِ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ مُتَّصِلًا أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَصْحَبُهَا خَلَلُ الِانْقِطَاعِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: وَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ مِنْ طُرُقٍ، مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي الْمُسْتَخْرَجِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ وَهُوَ ابْنُ سُفْيَانَ النَّسَوِيُّ الْإِمَامُ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ، عَمَّارٍ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ فَكَذَا عَنْعَنَةٌ أَيْ أَمَّا مَا عَزَاهُ الْبُخَارِيُّ إلَى بَعْضِ شُيُوخِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ كَقَوْلِهِ قَالَ فُلَانٌ وَزَادَ فُلَانٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَ التَّعْلِيقِ عَنْ شُيُوخِ شُيُوخِهِ وَمَنْ فَوْقَهُمْ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِسْنَادِ الْمُعَنْعَنِ وَحُكْمُ الْمُعَنْعَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الِاتِّصَالُ بِشَرْطِ ثُبُوتِ اللُّقِيِّ وَالسَّلَامَةِ مِنْ التَّدْلِيسِ، وَاللُّقِيُّ فِي شُيُوخِهِ مَعْرُوفٌ، وَالْبُخَارِيُّ سَالِمٌ مِنْ التَّدْلِيسِ فَلَهُ حُكْمُ الِاتِّصَالِ، هَكَذَا جَزَمَ بِهِ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ مِثْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ. (الْوَجْهُ الثَّانِي) : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ لَمْ يَسْتَجِزْ الْجَزْمَ بِهِ عَنْهُ إلَّا وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَ بِهِ، وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَكُونُ لِكَثْرَةِ مَنْ رَوَاهُ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ وَشُهْرَتِهِ، فَالْبُخَارِيُّ أَبْعَدُ خَلْقِ اللَّهِ مِنْ التَّدْلِيسِ كَمَا فِي إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ. (الثَّالِثُ) : لَوْ ضَرَبْنَا عَنْ هَذَا كُلِّهِ صَفْحًا فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ عِنْدَ غَيْرِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي كِتَابِهِ الصَّحِيحِ مُسْنَدًا فَقَالَ أَبُو عَامِرٍ وَلَمْ يَشُكَّ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّ الْمَعَازِفَ هِيَ آلَاتُ اللَّهْوِ كُلُّهَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ حَلَالًا لَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى اسْتِحْلَالِهَا وَقَرْنِهَا بِاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ وَالْخَزِّ، وَرُوِيَ " الْحِرِّ "، فَعَلَى رِوَايَةِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ فَهُوَ اسْتِحْلَالُ الْفُرُوجِ الْحَرَامِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْحَرِيرِ غَيْرَ الَّذِي صَحَّ عَنْ الصَّحَابَةِ لُبْسُهُ إذْ الْخَزُّ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مِنْ حَرِيرٍ وَالثَّانِي مِنْ صُوفٍ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالْوَجْهَيْنِ وَفِي الْبَابِ مِنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُنَابِطٍ وَالْفَارِّ بْنِ رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ اسْتَقْصَاهَا الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ بِالْأَسَانِيدِ، وَبَيَّنَ حَالَهَا بِأَتَمِّ بَيَانٍ وَأَكْمَلِ تَسْدِيدٍ. فَمِمَّا ذَكَرَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَكُونُ فِي أُمَّتِي خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَمَسْخٌ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى؟ قَالَ: إذَا ظَهَرَتْ الْمَعَازِفُ وَالْغِنَاءُ، وَاسْتُحِلَّ الْخَمْرُ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «يَكُونُ فِي أُمَّتِي قَذْفٌ وَخَسْفٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَتَى ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إذَا ظَهَرَتْ الْمُغَنِّيَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْمِزْرَ وَالْكُوبَةَ وَالْقِنِّينَ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى أُمَّتِي الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْمِزْرَ وَالْكُوبَةَ وَالْغُبَيْرَاءَ» . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِلَفْظِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْكُوبَةُ الطَّبْلُ، قَالَهُ سُفْيَانُ، وَقِيلَ الْبَرْبَطُ، وَالْقِنِّينُ هُوَ الطُّنْبُورُ بِالْحَبَشِيَّةِ، وَالتَّغْبِيرُ الضَّرْبُ بِهِ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَقْبَلُ) مِنْ شَخْصٍ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ (إنْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ، وَيَرْجِعُ فِعْلُ الشَّرْطِ، وَيُنْشِدُ مَعْطُوفٌ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَأَقْبَلُ (يَرْجِعُ) فِي قَوْلِهِ كَمَا تَرْجِعُ الْأَعْرَابُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: التَّرْجِيعُ تَرْدِيدُ الصَّوْتِ فِي الْحَلْقِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَفِي الْأَذَانِ ذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ جَهْرًا بَعْدَ إخْفَائِهِمَا (وَ) أَقْبَلُ مِنْهُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ أَنْ (يُنْشِدَ) شِعْرًا. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ الْحُدَاءِ الَّذِي تُسَاقُ بِهِ الْإِبِلُ وَنَشِيدِ الْأَعْرَابِ: كَمَا تُنْشِدُ الْأَعْرَابُ أَوْ يَحُدَّ قَوْلَهُ ... وَمَنْ يَتْلُ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمُمَجَّدِ (كَمَا تُنْشِدُ الْأَعْرَابُ) فِي مَحَافِلِهِمْ وَخَلَوَاتِهِمْ وَمَجَامِعِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ وَحُرُوبِهِمْ وَفَرَحِهِمْ وَسُرُورِهِمْ، يُقَالُ نَشَدَ الشِّعْرَ أَيْ قَرَأَهُ، وَنَشَدَ بِهِمْ هَجَاهُمْ، وَتَنَاشَدُوا الشِّعْرَ نَشَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَالنِّشْدَةُ بِالْكَسْرِ الصَّوْتُ، وَالنَّشِيدُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَالشِّعْرُ الْمُتَنَاشَدُ كَالْأُنْشُودَةِ وَالْجَمْعُ أَنَاشِيدُ، وَاسْتَنْشَدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الشِّعْرَ طَلَبَ إنْشَادَهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (أَوْ) أَيْ وَأَقْبَلُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنْ (يَحُدَّ) الْحَادِي (قَوْلَهُ) أَيْ مَقُولَهُ فِي الْحُدَاءِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ: وَيُبَاحُ الْحُدَاءُ الَّذِي تُسَاقُ بِهِ الْإِبِلُ وَنَشِيدُ الْأَعْرَابِ، وَفِي الْإِنْصَافِ: وَقِيلَ الْحُدَاءُ وَنَشِيدُ الْأَعْرَابِ كَالْغِنَاءِ فِي ذَلِكَ، وَقِيلَ يُبَاحُ. انْتَهَى. قُلْت: الْمَذْهَبُ الْإِبَاحَةُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِمَا تَظَافَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْآثَارُ، مِنْ إنْشَادِ الْأَشْعَارِ، وَالْحُدَاءِ فِي الْأَسْفَارِ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى إبَاحَةِ الْحُدَاءِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى إبَاحَةِ الْحُدَاءِ. قَالَ وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ إشْعَارٌ بِنَقْلِ خِلَافٍ فِيهِ وَمَانِعُهُ مَحْجُوجٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ وَيَلْتَحِقُ بِالْحُدَاءِ غِنَاءُ الْحُجَّاجِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى التَّشَوُّقِ إلَى الْحَجِّ بِذِكْرِ الْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَشَاهِدِ وَنَظِيرُهُ مَا يُحَرِّضُ أَهْلَ الْجِهَادِ عَلَى الْقِتَالِ، وَمِنْهُ غِنَاءُ الْمَرْأَةِ لِتَسْكِينِ الْوَلَدِ فِي الْمَهْدِ. انْتَهَى. وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُحْدَى لَهُ فِي السَّفَرِ، وَأَنَّ أَنْجَشَةَ كَانَ يَحْدُو بِالنِّسَاءِ، وَالْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ يَحْدُو بِالرِّجَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أَنْجَشَةُ كَيْفَ سَوْقُك بِالْقَوَارِيرِ» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ يَزِيدَ عَنْ سَلَمَةَ يَعْنِي ابْنَ الْأَكْوَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا فَنَزَلَ يَحْدُو قَالَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَاغْفِرْ فِدَاءً لَك مَا اقْتَفَيْنَا ... وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا وَأَلْقِيَنَّ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... إنَّا إذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ هَذَا الْحَادِي؟ قَالُوا ابْنُ الْأَكْوَعِ، قَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ، قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ وَجَبَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْلَا أَمْتَعْتنَا بِهِ فَأُصِيبَ» الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْإِبِلُ تَزِيدُ فِي نَشَاطِهَا وَقُوَّتِهَا بِالْحُدَاءِ، فَتَرْفَعُ آذَانَهَا وَتَلْتَفِتُ يُمْنَاهَا وَيُسْرَاهَا وَتَنْتَحِبُ فِي مَشْيِهَا. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْأَوَائِلِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الْحُدَاءَ غُلَامٌ لِمُضَرِ بْنِ نَزَارٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُضَرَ فَسَمِعَ صَوْتَ حَادٍ يَحْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِيلُوا بِنَا إلَيْهِ فَقَالَ مِمَّنْ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا مِنْ مُضَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَتَدْرُونَ مَتَى كَانَ الْحُدَاءُ؟ فَقَالُوا بِأَبِينَا وَأُمِّنَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى كَانَ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أَبَاكُمْ مُضَرَ خَرَجَ فِي طَلَبِ مَالٍ لَهُ فَوَجَدَ غُلَامَهُ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ إبِلُهُ فَضَرَبَهُ بِالْعَصَا أَيْ عَلَى يَدِهِ، فَأَوْجَعَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، فَعَدَا الْغُلَامُ فِي الْوَادِي وَهُوَ يَصِيحُ وَايَدَاهُ وَايَدَاهُ، فَسَمِعَتْ الْإِبِلُ صَوْتَهُ فَعَطَفَتْ عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَتْ، فَقَالَ مُضَرُ لَوْ اُشْتُقَّ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مِثْلُ هَذَا لَكَانَ كَلَامًا تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْإِبِلُ، فَاشْتُقَّ الْحُدَاءُ مِنْ ذَلِكَ» . وَكَانَ سَلَّامٌ الْحَادِي مِنْ الْعَرَبِ فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحُدَائِهِ، فَقَالَ يَوْمًا لِلْمَنْصُورِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُرْ الْجَمَّالِينَ بِأَنْ يُظْمِئُوا الْإِبِلَ ثُمَّ يُورِدُوهَا الْمَاءَ فَإِنِّي آخِذٌ فِي الْحُدَاءِ فَتَرْفَعُ رُءُوسَهَا وَتَتْرُكُ الشُّرْبَ فَفَعَلُوا، فَجَرَى مَا الْتَزَمَ وَحَدَا لَهَا بِقَوْلِهِ: أَلَا يَا بَانَةَ الْوَادِي ... بِشَاطِئِ نَهْرِ بَغْدَادِ شَجَانِي فِيك صِيَاحٌ ... طَرُوبٌ فَوْقَ مَيَّادِ يُذَكِّرُنِي تَرَنُّمُهُ ... تَرَنُّمَ رَنَّةِ الشَّادِي إذَا اسْوَدَّتْ مَثَالِثُهَا ... فَلَا تَذْكُرُ أَخَا الْهَادِي وَإِنْ جَاءَتْ بِنَغْمَتِهَا ... نَسِينَا نَغْمَةَ الْحَادِي أَخَا الْهَادِي: " إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ أَخُو الرَّشِيدِ عَمُّ الْمَأْمُونِ ". قَالَ أَصْحَابُ الْأَوَائِلِ: وَأَوَّلُ مَنْ اشْتَهَرَ بِالْحُدَاءِ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ الْحَادِي، يُضْرَبُ الْمِثْلُ بِهِ، وَكَانَ يُهْلِكُ الْإِبِلَ بِحُسْنِ صَوْتِهِ. كَانَ يَحْدُو فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَوَرَدَ فِي الْخَبَرِ فِي أَوَائِلِ الْحُدَاءِ عَنْ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ قَوْمًا فِيهِمْ حَادٍ يَحْدُو فَقَالَ: مِمَّنْ الْقَوْمُ؟ قَالُوا مِنْ مُضَرَ فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وَأَنَا بْنُ مُضَرَ، قَالُوا أَيُّ الْعَرَبِ حَدَا أَوَّلًا، فَذَكَرَ نَحْوَ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَّا أَنَّهُ ذَهَبَ الْغُلَامُ وَهُوَ يَقُولُ وَايَدَاهُ وَايَدَاهُ هنييا هنييا، فَتَحَرَّكَتْ الْإِبِلُ لِذَلِكَ فَسَارَتْ وَنَشِطَتْ فَفَتَحَ النَّاسُ الْحُدَاءَ» . فَوَائِدُ فِي أَوَّلِ مَنْ وَضَعَ عِلْمَ الْمُوسِيقَى وَالْعُودِ لِلْغِنَاءِ وَأَوَّلِ مَنْ غَنَّى فِي الْعَرَبِ (فَوَائِدُ) : (الْأُولَى) أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ عِلْمَ الْمُوسِيقَى وَأُصُولِ الْأَلْحَانِ فِيثَاغُورثَ الْهَرْمَسُ، أَدْرَكَهُ بِقُوَّةِ الذِّهْنِ وَحَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ، فَاسْتَمَعَ الْأَصْوَاتَ وَرَتَّبَ الْأَلْحَانَ الثَّمَانِيَةَ بِحَسَبِ الْأَدْوَارِ الْفَلَكِيَّةِ وَأَصْوَاتِهَا كَمَا فِي تَارِيخِ الْحُكَمَاءِ. (الثَّانِيَةُ) أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْعُودَ لِلْغِنَاءِ لَامِكُ بْنُ قَانِيَانَ، بَكَى بِهِ عَلَى وَالِدِهِ. وَيُقَالُ إنَّ صَانِعَ الْعُودِ بَطْلَيْمُوسُ الْحَكِيمُ صَاحِبُ الْمُوسِيقَى كَمَا فِي بَهْجَةِ التَّوَارِيخِ، وَهَذَا أَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (الثَّالِثَةُ) أَوَّلُ مَنْ غَنَّى فِي الْعَرَبِ قَيْنَتَانِ لِعَادٍ يُقَالُ لَهُمَا الْجَرَادَتَانِ، هَكَذَا فِي أَوَائِلِ عَلِيٍّ دَدَهْ وَالْمُسْتَطْرِفِ وَغَيْرِهِمَا، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَرَادَتَيْنِ كَانَتَا بِمَكَّةَ، وَأَنَّ وَفْدَ عَادٍ لَمَّا ذَهَبُوا لِمَكَّةَ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَسْقُوا فِي الْحَرَمِ كَانَتْ الْجَرَادَتَانِ تُغْنِيَاهُمْ وَكَانَ سَيِّدُهُمَا أَمَرَهُمَا أَنْ يُغْنِيَاهُمْ بِهَذَا الشِّعْرِ: أَلَا يَا قِيلَ وَيْحُك قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللَّهَ يَسْقِينَا غَمَامًا فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إنَّ عَادًا ... قَدْ أَمْسَوْا مَا يُبَيِّنُونَ الْكَلَامَا وَأَوَّلُ مَنْ غَنَّى فِي الْإِسْلَامِ الْغِنَاءَ الرَّقِيقَ طُوَيْسٌ، وَكَانَ اسْمُهُ طَاوُوسٌ، وَلَمَّا تَخَنَّثَ صَغَّرُوهُ وَضُرِبَ بِهِ الْمِثْلُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بِالشَّآمَةِ، فَقِيلَ أَشْأَمُ مِنْ طُوَيْسٍ وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ الرَّحِيمِ كَمَا فِي أَوَائِلِ السُّيُوطِيِّ. قَالَ السُّيُوطِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَوَائِلِهِ: وَأَوَّلُ مَنْ تَغَنَّى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إبْلِيسُ، ثُمَّ زَمْزَمَ بَعْدَ الْغِنَاءِ، ثُمَّ جَرَى ثُمَّ صَاحَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: فِي تِلَاوَةِ آيَاتِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ مُلَحَّنَةً. (وَمَنْ يَتْلُ آيَاتِ الْكِتَابِ) الْمَجِيدِ (الْمُمَجَّدِ) حَالَ كَوْنِهَا مُلَحَّنَةً فِي كُرْهِهِ الْقَاضِي اتَّبِعْ ... وَفَصَّلَ قَوْمٌ فِيهِ تَفْصِيلَ مُرْشَدِ (مُلَحَّنَةً) بِأَنْ يُرَاعَى فِيهَا الْأَلْحَانُ وَقَانُونُ الْمُوسِيقَى (فِي كُرْهِهِ) أَيْ فِي كَرَاهَةِ هَذِهِ التِّلَاوَةِ (الْقَاضِي أَبَا يَعْلَى بْنَ الْفَرَّاءِ (اتَّبِعْ) قَالَ فِي الْفُرُوعِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ وَقَالَ بِدْعَةٌ لَا يُسْمَعُ كُلُّ شَيْءٍ مُحْدَثٍ لَا يُعْجِبُنِي إلَّا أَنْ يَكُونَ طَبْعَ الرَّجُلِ كَأَبِي مُوسَى. وَنَقَلَ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ أَوْ يُحْسِنُهُ بِلَا تَكَلُّفٍ (وَفَصَّلَ قَوْمٌ فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ يَعْنِي قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ (تَفْصِيلَ) شَخْصٍ (مُرْشَدِ) اسْمُ مَفْعُولٍ أَيْ مُوَفَّقٍ لِلرُّشْدِ وَالتَّسْدِيدِ، أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ مُرْشِدٍ لِغَيْرِهِ فَقَالُوا: إذَا حَرَكَاتُ اللَّفْظِ بُدِّلْنَ أَحْرُفًا ... بِإِشْبَاعِهِ حَرِّمْ لِذَاكَ وَشَدِّدْ (إذَا حَرَكَاتُ اللَّفْظِ) فِي الْقِرَاءَةِ (بُدِّلْنَ أَحْرُفًا) بِأَنْ تَوَلَّدَ مِنْ الْفَتْحَةِ أَلِفًا وَمِنْ الضَّمَّةِ وَاوًا وَمِنْ الْكَسْرَةِ يَاءً (بِ) سَبَبِ (إشْبَاعِهِ) أَيْ إشْبَاعِ اللَّفْظِ الْقَارِئِ (حَرِّمْ) أَيْ اعْتَقِدْ حُرْمَتَهُ (لِ) أَجْلِ (ذَاكَ) أَيْ إبْدَالِ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا (وَشَدِّدْ) فِي النَّهْيِ عَنْهُ وَالتَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ أَحْرُفٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَالَ جَمَاعَةٌ: إنْ غَيَّرْت يَعْنِي قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ النَّظْمَ حَرُمَتْ فِي الْأَصَحِّ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ فِي الْكَرَاهَةِ. وَفِي الْوَسِيلَةِ يَحْرُمُ نَصَّ عَلَيْهِ وَعَنْهُ يُكْرَهُ، وَقِيلَ لَا وَلَمْ يُفَرِّقْ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ وَقَالَ هِيَ بِدْعَةٌ، فَإِنْ حَصَلَ مَعَهَا تَغْيِيرُ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَجَعْلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا حَرُمَ. وَقَالَ الشَّيْخُ: التَّلْحِينُ الَّذِي يُشْبِهُ الْغِنَاءَ مَكْرُوهٌ وَلَا يُكْرَهُ التَّرْجِيعُ وَتَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ. قَالَ فِي الشَّرْحِ: بَلْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَيَأْتِي فِي آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا فَلَا بَأْسَ قَدْ تَلَا ... الرَّسُولُ بِتَرْجِيعٍ وَصَوْتٍ لَهُ نَدِي (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا) أَيْ تَغْيِيرُ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَجَعْلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا بِأَنْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ (فَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا حُرْمَةَ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ وَظَاهِرُ كَلَامِ النَّاظِمِ لَا كَرَاهَةَ خِلَافًا لِلْقَاضِي، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ (قَدْ تَلَا الرَّسُولُ) الْأَمْجَدُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 بِتَرْجِيعٍ) أَيْ تَرْدِيدٍ (وَصَوْتٍ لَهُ) أَيْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (نَدِي) بِكَسْرِ الدَّالِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ لِضَرُورَةِ الْوَزْنِ أَيْ حَسَنٍ وَرَطْبٍ فَلَا كَرَاهَةَ مَعَ ثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الرِّقَّةِ وَإِثَارَةِ الْخَشْيَةِ وَإِقْبَالِ النُّفُوسِ عَلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْفَتَاوَى الطَّرَابُلُسِيَّةِ: وَنُقِلَ عَنْهُ فِي تَسْهِيلِ السَّبِيلِ فِي بَابِ تَحْرِيمِ تَلْحِينِ الْقُرْآنِ وَالتَّغَنِّي بِهِ: لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ، يَعْنِي فِي النَّهْيِ عَنْ التَّلْحِينِ وَالتَّغَنِّي بِهِ، بَلْ وَرَدَ خِلَافُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ وَيُرْجِعُ فِيهَا» قَالَ الرَّاوِي وَالتَّرْجِيعُ (آآ آ) قُلْت وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ. «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ فَرَجَعَ فِي قِرَاءَتِهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «لَقَدْ أُوتِيت مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد» وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «لَقَدْ رَأَيْتنِي وَأَنَا أَسْمَعُ لِقِرَاءَتِك الْبَارِحَةَ» وَأَقُولُ: أَمَّا تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ، وَأَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ مَشْهُورَةٌ بِذَلِكَ فِي غَايَةِ الشُّهْرَةِ، وَدَلَائِلُ هَذَا مِنْ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَحَدِيثِ «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» وَحَدِيثُ «لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا» وَحَدِيثُ «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَمَعْنَى أَذِنَ اسْتَمَعَ كَمَا يَأْتِي بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا فِي آدَابِ الْقُرْآنِ، وَحَدِيثِ «لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثِ «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ أَيْ مَنْ لَمْ يُحَسِّنْ صَوْتَهُ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وَعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ: مَرَّ بِنَا أَبُو لُبَابَةَ فَأَتْبَعْنَاهُ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ فَدَخَلْنَاهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» قَالَ فَقُلْت لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَ الصَّوْتِ؟ قَالَ يُحَسِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالْمَرْفُوعُ مِنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ بِالْعِشَاءِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَمَا سَمِعْت أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ» . فَالْعُلَمَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَتَرْتِيلِهَا مَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ بِالتَّمْطِيطِ فَإِنْ أَفْرَطَ حَتَّى زَادَ حَرْفًا أَوْ أَخْفَاهُ حَرُمَ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ فَهِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ حَيْثُ خَلَتْ عَنْ التَّمْطِيطِ وَإِبْدَالِ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا. فَالْمَذْهَبُ الْكَرَاهَةُ تَنْزِيهًا. وَظَاهِرُ كَلَامِ النَّاظِمِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ. وَقَدْ يُقَالُ التَّمْطِيطُ الْمُتَكَلَّفُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى التَّعَسُّفِ وَالتَّشَدُّقِ وَتَلَوُّقِ الْفَمِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْهُ حُرُوفٌ لِإِخْرَاجِ الْقِرَاءَةِ عَنْ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ وَالْقَانُونِ الْعَرَبِيِّ إلَى التَّعَوُّجِ وَالتَّشَدُّقِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] وَمَتَى خَلَتْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا كَرَاهَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي (التِّبْيَانِ) عَدَمُ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ لَا تَمْطِيطَ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ حُرُوفٌ لِأَنَّهُ قَالَ إنْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّحْنُ عَنْ لَفْظِهِ وَقَرَأَهُ عَلَى تَرْتِيلِهِ كَانَ أَيْ التَّلْحِينُ مُبَاحًا. وَقَالَ قَبْلَ هَذَا: وَأَمَّا الْقُرْآنُ بِالْأَلْحَانِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَوَاضِعَ أَكْرَهُهَا، وَقَالَ فِي مَوَاضِعَ لَا أَكْرَهُهَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنَّ أَفْرَطَ فِي التَّمْطِيطِ فَجَاوَزَ الْحَدَّ فَهُوَ الَّذِي كَرِهَهُ وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَكْرَهْهُ. ثُمَّ نُقِلَ عَنْ صَاحِبِ الْحَاوِي مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ: الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ إنْ أَخْرَجَتْ لَفْظَ الْقُرْآنِ عَنْ صِيغَتِهِ بِإِدْخَالِ حَرَكَاتٍ فِيهِ أَوْ إخْرَاجِ حَرَكَاتٍ عَنْهُ أَوْ قَصَرَ مَمْدُودًا أَوْ مَدَّ مَقْصُورًا، وَتَمْطِيطٍ يَخْفَى بِهِ بَعْضُ اللَّفْظِ وَيَلْتَبِسُ الْمَعْنَى فَهُوَ حَرَامٌ يَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ وَيَأْثَمُ بِهِ الْمُسْتَمِعُ، لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ نَهْجِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الْقَوِيمِ إلَى الِاعْوِجَاجِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] قَالَ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّحْنُ عَنْ لَفْظِهِ وَقَرَأَهُ عَلَى تَرْتِيلِهِ كَانَ مُبَاحًا كَمَا مَرَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ الشِّعْرِ الْمُبَاحِ: وَلَا بَأْسَ بِالشِّعْرِ الْمُبَاحِ وَحِفْظِهِ ... وَصَنْعَتِهِ مَنْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْتَدِي (لَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ (بِ) إنْشَادِ (الشِّعْرِ) وَهُوَ كَلَامٌ مُقَفًّى مَوْزُونٌ (الْمُبَاحِ) الَّذِي سَلِمَ مِنْ هِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ وَصْفِ خَمْرَةٍ أَوْ أَمْرَدَ وَكَذَا امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: الشِّعْرُ كَالْكَلَامِ سَأَلَهُ أَبُو مَنْصُورٍ، أَيْ سَأَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يُكْرَهُ مِنْهُ يَعْنِي الشِّعْرَ؟ قَالَ الْهِجَاءُ وَالرَّقِيقُ الَّذِي يُشَبِّبُ بِالنِّسَاءِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ الْجَاهِلِيُّ فَمَا أَنْفَعَهُ. وَسَأَلَهُ عَنْ الْخَبَرِ «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» فَتَلَكَّأَ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ النَّضْرِ: لَمْ تَمْتَلِئْ أَجْوَافُنَا لِأَنَّ فِيهَا الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ، وَهَذَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا، فَاسْتُحْسِنَ ذَلِكَ. وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدٍ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَظْهَرُ. قَالَ وَإِنْ أَفْرَطَ شَاعِرٌ بِالْمُدْحَةِ بِإِعْطَائِهِ وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ، أَوْ شَبَّبَ بِمَدْحِ خَمْرٍ أَوْ بِمُرْدٍ وَفِيهِ احْتِمَالٌ، أَوْ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَسَقَ لَا إنْ شَبَّبَ بِامْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: الشِّعْرُ كَالْكَلَامِ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَلَا بَأْسَ بِاسْتِمَاعِ الشِّعْرِ الْمُبَاحِ، وَلَا بَأْسَ بِ (حِفْظِهِ) أَيْ الشِّعْرِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (وَ) لَا بَأْسَ بِ (صَنْعَتِهِ) أَيْ إنْشَائِهِ وَنَظْمِهِ وَاِتِّخَاذِهِ صَنْعَةً وَالِاشْتِغَالِ بِهِ حَيْثُ لَمْ يَلِهِ عَنْ وَاجِبٍ (مَنْ رَدَّ ذَلِكَ) أَيْ إبَاحَةَ الشِّعْرِ إنْشَادًا وَاسْتِمَاعًا وَحِفْظًا وَأَنْشَأَ (يَعْتَدِي) بِرَدِّهِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ لِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ لَا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ بَلْ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ لَا رَدِّهِ. فَقَدْ سَمِعَ الْمُخْتَارُ شِعْرَ صِحَابِهِ ... وَتَشْبِيبَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ خُرَّدِ (فَقَدْ سَمِعَ الْمُخْتَارُ) . مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَالصَّفْوَةِ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ نَبِيُّنَا أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (شِعْرَ صِحَابِهِ) - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - (وَ) سَمِعَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - (تَشْبِيبَهُمْ) بِالنِّسَاءِ (مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ خُرَّدِ) جَمْعُ خَرِيدَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْخُفُورُ، الطَّوِيلَةُ السُّكُوتِ، الْخَافِضَةُ الصَّوْتِ، الْمُسْتَتِرَةُ وَقِيلَ الْبِكْرُ الَّتِي لَمْ تُمْسَسْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ هِشَامٍ فِي صَدْرِ شَرْحِ بَانَتْ سُعَادُ: التَّشْبِيبُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ جِنْسٌ يَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: ذِكْرُ مَا فِي الْمَحْبُوبِ مِنْ الصِّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَحُمْرَةِ الْخَدِّ وَرَشَاقَةِ الْقَدِّ وَكَالْجَلَالَةِ وَالْخَفَرِ. وَالثَّانِي: ذِكْرُ مَا فِي الْمُحِبِّ مِنْ الصِّفَاتِ أَيْضًا كَالنُّحُولِ وَالذُّبُولِ وَالْحُزْنِ وَالشَّغَفِ. وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ هَجْرٍ وَوَصْلٍ وَشَكْوَى وَاعْتِذَارٍ وَوَفَاءٍ وَإِخْلَافٍ. (وَالرَّابِعُ) : مَا يَتَعَلَّقُ أَمْرُهُمَا بِسَبَبِهَا كَالْوُشَاةِ وَالرُّقَبَاءِ وَيُسَمَّى النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ تَشْبِيبًا أَيْضًا. وَفِي قَوْلِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَقَدْ سَمِعَ الْمُخْتَارُ شِعْرَ صِحَابِهِ وَتَشْبِيبَهُمْ، إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ حُرْمَةِ التَّشْبِيبِ. وَلَمَّا خَشِيَ تَوَهُّمَ إطْلَاقِ الْإِبَاحَةِ دَفَعَ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ خُرَّدِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَتَشَبَّبُ بِمُعَيَّنَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَاسْتِمَاعِهِ. مَطْلَبٌ: فِي سَمَاعِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِعْرَ أَصْحَابِهِ وَتَشْبِيبَهُمْ فَمِمَّا سَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ شِعْرِ أَصْحَابِهِ وَتَشْبِيبَهُمْ قَصِيدَةُ (كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّتِي مَدَحَ بِهَا سَيِّدَ الْكَائِنَاتِ سَيِّدَنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ أَنْشَدَهَا بِحَضْرَتِهِ الشَّرِيفَةِ وَبِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَهُوَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنُ أَبِي سُلْمَى بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَاسْمُ أَبِي سُلْمَى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي رِيَاحٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ وَحَاءٌ مُهْمَلَةٌ آخِرَ الْحُرُوفِ أَحَدُ بَنِي مُزَيْنَةَ، كَانَ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ هُوَ وَأَبُوهُ، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُقَدِّمُ عَلَى أَبِيهِ أَحَدًا فِي الشِّعْرِ وَيَقُولُ أَشْعَرُ النَّاسِ الَّذِي يَقُولُ وَمَنْ، وَمَنْ، وَمَنْ، يُشِيرُ إلَى قَوْلِهِ فِي مُعَلَّقَتِهِ الْمَشْهُورَةِ: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنُلْنَهُ ... لَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمْ وَمَنْ يَكُ ذَا مَالٍ فَيَبْخَلْ بِمَالِهِ ... عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمْ مَنْ لَا يَزَلْ يَسْتَحْمِدُ النَّاسَ نَفْسَهُ ... وَلَا يُغْنِهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ يَنْدَمْ وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبُ عَدُوًّا صَدِيقَهُ ... وَمَنْ لَا يُكْرِمْ نَفْسَهُ لَا يُكْرَمْ وَمَنْ لَا يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلَاحِهِ ... يُهْدَمْ وَمَنْ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ يُظْلَمْ مَنْ لَا يُصَانِعُ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ ... يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوطَأْ بِمَنْسِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الْمَنْسِمِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ طَرَفُ خُفِّ الْبَعِيرِ. وَالْقَصِيدَةُ الَّتِي مَدَحَ كَعْبٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا وَأَنْشَدَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِحُضُورِ أَصْحَابِهِ هِيَ قَوْلُهُ: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ وَسَبَبُ إنْشَائِهِ لَهَا وَإِنْشَادِهِ إيَّاهَا بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِ الْعَالَمِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ بَشَّارِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَأَبُو الْبَرَكَاتِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْأَنْبَارِيُّ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ، أَنَّ كَعْبًا وَبُجَيْرًا بَنِي زَهْمٍ خَرَجَا إلَى (أَبْرَقِ الْعَزَّافِ) وَهُوَ رَمْلٌ لِبَنِي سَعْدٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ زَرُودَ كَمَا فِي الصِّحَاحِ، فَقَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ: اُثْبُتْ فِي هَذَا الْغَنَمِ حَتَّى آتِيَ هَذَا الرَّجُلَ يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْمَعَ كَلَامَهُ وَأَعْرِفَ مَا عِنْدَهُ، فَأَقَامَ كَعْبٌ وَمَضَى بُجَيْرٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعَ كَلَامَهُ فَآمَنَ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ زُهَيْرًا فِيمَا زَعَمُوا كَانَ يُجَالِسُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَسَمِعَ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدْ آنَ مَبْعَثُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَى زُهَيْرٌ فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ قَدْ مُدَّ سَبَبٌ مِنْ السَّمَاءِ وَأَنَّهُ مَدَّ يَدَهُ لِيَتَنَاوَلَهُ فَفَاتَهُ، فَأَوَّلَهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَأَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ، فَأَخْبَرَ بَنِيهِ بِذَلِكَ وَأَوْصَاهُمْ إنْ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسْلِمُوا. وَلَمَّا اتَّصَلَ خَبَرُ إسْلَامِ بُجَيْرٍ بِأَخِيهِ كَعْبٍ أَغْضَبَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَا بَلِّغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَك فِيمَا قُلْت وَيْحُك هَلْ لَكَا سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً ... فَانْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا فَفَارَقْت أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتَّبَعْته ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَيْبُ عِزِّك دَلَّكَا عَلَى مَذْهَبٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تَعْرِفْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْت بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ إمَّا عَثَرْت لَعًا لَكَا وَأَرْسَلَ بِهَا إلَى بُجَيْرٍ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهَا أَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا سَمِعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَوْلَهُ سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ قَالَ مَأْمُونٌ وَاَللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَأْمُونَ وَلَمَّا سَمِعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قَوْلَهُ عَلَى مَذْهَبٍ وَيُرْوَى عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا الْبَيْتَ، قَالَ أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ. ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ مَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْصِرَافِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الطَّائِفِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ بُجَيْرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ: مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَك فِي الَّتِي ... تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهُوَ أَحْزَمُ لَدَى يَوْمٍ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ ... مِنْ النَّاسِ إلَّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ ... وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيَّ مُحَرَّمُ وَكَتَبَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَهْدَرَ دَمَك، وَأَنَّهُ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكَّةَ مِمَّنْ كَانُوا يَهْجُونَهُ وَيُؤْذُونَهُ، وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ كَابْنِ الزِّبَعْرَى وَهُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ قَدْ هَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَمَا أَحْسَبُك نَاجِيًا فَإِنْ كَانَ لَك فِي نَفْسِك حَاجَةٌ فَطِرْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ مَنْ أَتَاهُ تَائِبًا وَلَا يُطَالِبُهُ بِمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا بَلَغَ كَعْبًا الْكِتَابُ أَتَى إلَى مُزَيْنَةَ لِتُجِيرَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْ عَدُوِّهِ فَقَالُوا هُوَ مَقْتُولٌ، فَقَالَ الْقَصِيدَةَ يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَذْكُرُ خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ، فَأَتَى بِهِ إلَى الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُمْ إلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ. وَعَرَفَ كَعْبٌ رَسُولَ اللَّهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَ لَهُ النَّاسُ وَكَانَ مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ، أَصْحَابِهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الْمَائِدَةِ مِنْ الْقَوْمِ يَتَحَلَّقُونَ حَوْلَهُ حَلْقَةً ثُمَّ حَلْقَةً، فَيُقْبِلُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيُحَدِّثُهُمْ ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيُحَدِّثُهُمْ، فَقَامَ كَعْبٌ إلَيْهِ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْك تَائِبًا مُسْلِمًا فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إنْ أَنَا جِئْتُك بِهِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ الَّذِي يَقُولُ مَا يَقُولُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْتَنْشِدُهُ الشِّعْرَ، فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً، فَقَالَ كَعْبٌ لَمْ أَقُلْ هَكَذَا إنَّمَا قُلْت: سَقَاك أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ، وَانْهَلَكَ الْمَأْمُونُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُونٌ وَاَللَّهِ. وَوَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي وَعَدُوَّ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَقَالَ دَعْهُ عَنْك فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا نَازِعًا. فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيِّ لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلِذَلِكَ يَقُولُ: إذَا عَرَدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ يَعْرِضُ بِهِمْ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَى قَوْلِهِ: إنَّ الرَّسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ الْهِنْدِ مَسْلُولُ رَمَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَيْهِ بِبُرْدَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ بَذَلَ لَهُ فِيهَا عَشَرَةَ آلَافٍ، فَقَالَ مَا كُنْت لِأُوثِرَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدًا. فَلَمَّا مَاتَ كَعْبٌ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إلَى وَرَثَتِهِ بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ. قَالَ وَهِيَ الْبُرْدَةُ الَّتِي عِنْدَ السَّلَاطِينِ إلَى الْيَوْمِ. انْتَهَى. قُلْت: قَدْ ذَهَبَتْ الْبُرْدَة الْمَذْكُورَةُ لَمَّا اسْتَوْلَى التَّتَارُ عَلَى بَغْدَادَ وَمُقَدِّمُهُمْ (هُولَاكُو) نَهَارَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ فَقَدْ وَضَعَ هُولَاكُو الْبُرْدَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي طَبَقٍ نُحَاسٍ وَكَذَا الْقَضِيبُ فَأَحْرَقَهُمَا وَذَرَّ رَمَادَهُمَا فِي دِجْلَةَ، وَقَتَلَ الْخَلِيفَةَ وَوَلَدَهُ، وَقُتِلَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ بَقِيَّةُ أَوْلَادِ الْخَلِيفَةِ، وَأُسِرَتْ بَنَاتُهُ وَمِنْ بَنَاتِ بَيْتِ الْخِلَافَةِ وَالْأَكَابِرِ مَا يُقَارِبُ أَلْفَ بِكْرٍ، وَبَلَغَ الْقَتْلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَثَلَثِمِائَةِ أَلْفِ نَسَمَةً كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي التَّوَارِيخِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَحَصَلَ مِنْ إنْشَادِ قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعْطَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْبُرْدَةَ عِدَّةُ سُنَنٍ: إبَاحَةُ إنْشَادِ الشِّعْرِ وَاسْتِمَاعِهِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْإِعْطَاءِ عَلَيْهِ، وَسَمَاعِ التَّشْبِيبِ، فَإِنَّهُ فِي قَصِيدَةِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَحْبُوبَتَهُ وَمَا أَصَابَ قَلْبَهُ عِنْدَ ظَعْنِهَا ثُمَّ وَصَفَ مَحَاسِنَهَا وَشَبَّهَهَا بِالظَّبْيِ، ثُمَّ ذَكَرَ ثَغْرَهَا وَرِيقَهَا وَشَبَّهَهُ بِخَمْرٍ مَمْزُوجَةٍ بِالْمَاءِ، ثُمَّ إنَّهُ اسْتَطْرَدَ مِنْ هَذَا إلَى وَصْفِ ذَلِكَ الْمَاءِ ثُمَّ مِنْ هَذَا إلَى وَصْفِ الْأَبْطَحِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَاءُ، ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ إلَى ذِكْرِ صِفَاتِهَا فَوَصَفَهَا بِالصَّدِّ، وَإِخْلَافِ الْوَعْدِ، وَالتَّلَوُّنِ فِي الْوُدِّ، وَعَدَمِ التَّمَسُّكِ بِالْعَهْدِ، وَضَرَبَ لَهَا عُرْقُوبًا مَثَلًا، ثُمَّ لَامَ نَفْسَهُ عَلَى التَّعَلُّقِ بِمَوَاعِيدِهَا ثُمَّ أَشَارَ إلَى بُعْدِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَأَنَّهُ لَا يُبَلِّغُهُ إلَيْهَا إلَّا نَاقَةٌ مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وَكَيْتَ. وَأَطَالَ فِي وَصْفِ تِلْكَ النَّاقَةِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّهُ اسْتَطْرَدَ مِنْ ذَلِكَ إلَى ذِكْرِ الْوَاشِينَ وَأَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ بِجَانِبَيْ نَاقَتِهِ وَيُحَذِّرُونَهُ الْقَتْلَ، وَأَنَّ أَصْدِقَاءَهُ رَفَضُوهُ وَقَطَعُوا حَبْلَ مَوَدَّتِهِ، وَأَنَّهُ أَظْهَرَ لَهُمْ الْجَلَدَ وَاسْتَسْلَمَ لِلْقَدَرِ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْمَوْتَ مَصِيرُ كُلِّ ابْنِ أُنْثَى ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ مَدْحُ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى الِاعْتِذَارِ إلَيْهِ وَطَلَبِ الْعَفْوِ مِنْهُ وَالتَّبَرِّي مِمَّا قِيلَ عَنْهُ، وَذَكَرَ شِدَّةَ خَوْفِهِ مِنْ سَطْوَتِهِ وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ مَهَابَتِهِ، ثُمَّ إلَى مَدْحِ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. هَذَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْجِدِهِ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَهُ وَهُوَ مُلْقٍ بِسَمْعِهِ إلَيْهِ وَمُقْبِلٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَهَلْ يَسُوغُ إنْكَارُ إنْشَاءِ الشِّعْرِ وَاسْتِمَاعُهُ وَإِنْشَادُ التَّشْبِيبِ وَاصْطِنَاعُهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَأَمْثَالِ أَمْثَالِهَا مِمَّا هُوَ مَأْلُوفٌ وَمَعْرُوفٌ؟ وَهَلْ يَرُدُّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، إلَّا مُعْتَدٍ غَدَّارٌ، أَوْ جَاهِلٌ بِالْآثَارِ، عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَالسَّلَفِ الْأَخْيَارِ؟ هَذَا مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ اسْتِمَاعِهِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَحَافِلِ وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْعَارِ فِي أُولَئِكَ الْجَحَافِلِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَلَمْ يَكُ فِي عَصْرٍ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ ... وَكَيْفَ وَفِيهِ حِكْمَةٌ فَارْوِ وَاسْنِدِ (وَلَمْ يَكُ فِي عَصْرٍ) مِنْ الْأَعْصَارِ مِنْ عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى تَدَاوُلِ الْأَعْصَارِ (لِذَلِكَ) أَيْ لِاسْتِمَاعِ الشِّعْرِ وَالتَّشْبِيبِ وَالْمَدْحِ وَالنَّسِيبِ (مُنْكِرٌ) يُعْتَدُّ بِإِنْكَارِهِ، وَلَا رَادِعٌ يُقْتَدَى بِرَدْعِهِ وَازْوِرَارِهِ. وَمَنْ كَرِهَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ يُهَيِّجُ الطِّبَاعَ لِرِقَّتِهِ لَا لِحُرْمَةِ ذَاتِهِ (وَكَيْفَ) يَسُوغُ الْإِنْكَارُ عَلَى إسْمَاعِ وَانِشَادِ الْأَشْعَارِ (وَفِيهِ) أَيْ الشِّعْرِ (حِكْمَةٌ) وَهِيَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْجَهْلِ. وَقِيلَ الْحِكْمَةُ الْإِصَابَةُ. وَفِي الْقَامُوسِ الْحِكْمَةُ بِالْكَسْرِ الْعَدْلُ وَالْعِلْمُ وَالْحِلْمُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْقُرْآنُ وَالْإِنْجِيلُ، وَأَحْكَمَهُ أَتْقَنَهُ. مَطْلَبٌ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً وَأَشَارَ النَّاظِمُ بِهَذَا إلَى مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَأَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا، وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا» قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي دُرَّةِ الْغَوَّاصِ: مَعْنَاهُ إنَّ مِنْ الْحَدِيثِ مَا يَسْتَثْقِلُ السَّامِعُ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَيَسْتَشِقُّ الْإِنْصَاتَ إلَيْهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» وَيُرْوَى لَحُكْمَا كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ، أَبِي دَاوُد. قَالَ فِي الْمَطَالِعِ: أَيْ مَا يَمْنَعُ الْجَهْلَ وَقِيلَ الْحِكْمَةُ الْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ نُبُوَّةٍ. وَقِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَقِيلَ الْحِكْمَةُ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمُ بِهِ. وَقِيلَ الْخَشْيَةُ. وَقِيلَ الْفَهْمُ عَنْ اللَّهِ وَهَذَا كُلُّهُ يَصِحُّ فِي تَفْسِيرِ «الْحِكْمَةِ يَمَانِيَّةً» يَعْنِي قَوْلَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ» وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ» وَلَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ «الْفِقْهُ يَمَانٍ» . وَقَدْ قِيلَ الْحِكْمَةُ النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ هَذَا كُلُّهُ فِي قَوْله تَعَالَى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ فِي الْمَطَالِعِ: وَقَدْ قِيلَ الْحِكْمَةُ إشَارَةُ الْعَقْلِ، وَالْحَكِيمُ مَنْ قِبَلِهَا وَقَالَ بِهَا وَعَمِلَ وَلَمْ يُخَالِفْهَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَهُوَ الْحَكِيمُ وَهُوَ الْحَاكِمُ وَهُوَ الْمُحَكَّمُ، وَأُمُورُهَا كُلُّهَا مُحْكَمَةٌ لِأَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ إشَارَةِ الْعَقْلِ وَتَدْبِيرِهِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ الْمُصِيبُ الَّذِي لَا يُخْطِئُ مَا دَامَ مَحْفُوظًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ تَخْلُفْهُ آفَةٌ وَلَا حَلَّ بِهِ نَقْصٌ. انْتَهَى كَلَامُ الْمَطَالِعِ. وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد حُكْمًا بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِاللَّامِ لَحُكْمًا، وَجَوَّزَ فِي حُكْمًا كَسْرَ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحَ الْكَافِ جَمْعُ حِكْمَةٍ. انْتَهَى. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْحِكْمَةُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ بِأَفْضَلِ الْعُلُومِ. قَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَإِنَّمَا أَكَّدَ بِإِنَّ وَاللَّامِ رَدًّا عَلَى مَنْ أَطْلَقَ كَرَاهَةَ الشِّعْرِ، فَأَشَارَ إلَى أَنَّ حَسَنَهُ حَسَنٌ وَقَبِيحَهُ قَبِيحٌ، وَكُلُّ كَلَامٍ ذِي وَجْهَيْنِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ. وَأَمَّا خَبَرُ «الشِّعْرُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ» وَخَبَرُ «أَنَّهُ جُعِلَ لَهُ كَالْقُرْآنِ» فَوَاهِيَانِ. انْتَهَى وَعَلَى فَرْضِ ثُبُوتِ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِهِ الشِّعْرُ الْمُحَرَّمُ فِي الْمُرْدِ أَوْ فِي مُحَرَّمَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ فِي هِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وَقِيلَ مَعْنَى كَوْنِ الشِّعْرِ الْمُحَرَّمِ حُكْمًا فِي مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ أَنَّ الشَّاعِرَ قَدْ يَنْطِقُ بِالْأَمْرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَيَقَعُ كَمَا قَالَ: كَقَوْلِ حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُخَاطِبُ قُرَيْشًا فِي قَصِيدَةٍ لَهُ قَبْلَ فُتُوحِ مَكَّةَ: عُدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءٌ تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ ... يَلْطِمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ. وَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءَ يَلْطِمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِالْخُمُرِ وَذَلِكَ يَوْمَ الْفَتْحِ تَبَسَّمَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ قَالَ حَسَّانُ؟ فَأَنْشَدَهُ مَا تَقَدَّمَ (فَارْوِ) الشِّعْرَ وَاحْفَظْهُ وَاسْتَمِعْهُ وَأَنْشِدْهُ (وَاسْنِدِ) أَبَاحَةُ ذَلِكَ عَنْ، النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَوْ فَارْوِ حَدِيثَ «إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» وَأَسْنِدْهُ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ لَا مُقَدِّحَ فِيهِ، فَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ كُلِّ إمَامٍ وَفَقِيهٍ. وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْك مَا يُرَوِّجُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الشِّعْرِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَى مَدْحِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْكَذِبِ وَالتَّهَافُتِ، فَإِذَا خَلَا الشِّعْرُ عَنْ التَّشْبِيبِ بِالْمُرْدَانِ أَوْ بِمُعَيَّنَةٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ بِنَحْوِ خَمْرَةٍ فَلَا حُرْمَةَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ رَدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَمَعَك مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ؟ قُلْت نَعَمْ، فَأَنْشَدْته بَيْتًا فَقَالَ هِيهِ. لَأَنْشَدْته بَيْتًا، فَقَالَ هِيهِ، حَتَّى أَنْشَدْته مِائَةَ قَافِيَةٍ. قَالَ فِي شَرْحِ الْمُقْنِعِ: لَيْسَ لَنَا فِي إبَاحَةِ الشِّعْرِ اخْتِلَافٌ قَدْ قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ وَتَعَرُّفِ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّسَبِ وَالتَّارِيخِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ، وَيُقَالُ الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ تَعَالَى {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] . وَفِي الْحَدِيثِ «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يُرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَقَالَ مَعْنَى (يَرِيهِ) يَأْكُلُ جَوْفَهُ يُقَالُ وَرَاهَ يَرِيهِ قَالَ الشَّاعِرُ: وَرَاهُنَّ رَبِّي مِثْلَ مَا قَدْ وَرَيْنَنِي ... وَأَحْمَى عَلَى أَكْبَادِهِنَّ الْمَكَاوِيَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فَأَجَابَ عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَنْ أَسْرَفَ وَكَذَبَ بِدَلِيلِ وَصْفِهِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَجَابَ عَنْ الْحَدِيثِ بِنَحْوِ مَا قَدَّمْنَا. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقٍ مُرْسَلَةٍ قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَهُمْ يَبْكُونَ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّا شُعَرَاءُ، فَقَالَ: اقْرَءُوا مَا بَعْدَهَا، إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنْتُمْ، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أَنْتُمْ» قَالَ السُّهَيْلِيُّ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الثَّلَاثَةِ وَإِنَّمَا وَرَدَتْ بِالْإِبْهَامِ لِيَدْخُلَ مَعَهُمْ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ مَعَ الثَّلَاثَةِ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ بِغَيْرِ إسْنَادٍ. انْتَهَى. وَقِيلَ: أَوْفَدَ زِيَادٌ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ: أَقْرَأْت الْقُرْآنَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ أَفَرَضْت الْفَرَائِضَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ رَوَيْت الشِّعْرَ؟ قَالَ لَا، فَكَتَبَ إلَى زِيَادٍ بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي ابْنِك فَأَرْوِهِ الشِّعْرَ فَقَدْ وَجَدْته كَامِلًا، وَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: ارْوُوا الشِّعْرَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَيُنَقِّي مَسَاوِيهَا، وَتَعَلَّمُوا الْأَنْسَابَ فَرُبَّ رَحِمٍ مَجْهُولَةٍ قَدْ وُصِلَتْ بِعِرْفَانِ النَّسَبِ، وَتَعَلَّمُوا مِنْ النُّجُومِ مَا يَدُلُّكُمْ عَلَى سَبِيلِكُمْ. وَقَالَ أَبُو زِيَادٍ: مَا رَأَيْت أَرْوَى لِلشِّعْرِ مِنْ عُرْوَةَ، فَقُلْت لَهُ: مَا أَرْوَاك لِلشِّعْرِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ وَمَا رِوَايَتِي مَعَ رِوَايَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، مَا كَانَ يَنْزِلُ بِهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْشَدَتْ شِعْرًا. وَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ: مَا كَلَّمْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَ بِشِعْرٍ وَلَا فَرِيضَةٍ مِنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: رَحِمَ اللَّهُ لَبِيدًا إنِّي لَأَرْوِي لَهُ أَلْفَ بَيْتٍ وَإِنَّهُ أَقَلُّ مَا أَرْوِي لِغَيْرِهِ. وَسَمِعَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ مِنْ قَوْلِ الْحُطَيْئَةِ: مَنْ يَفْعَلْ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمُ جَوَازِيَهُ ... لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فَقَالَ إنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ حَرْفٌ بِحَرْفٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ يَفْعَلْ الْخَيْرَ يَجِدْهُ عِنْدِي وَلَا يَذْهَبُ الْخَيْرُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضَائِلِ الشِّعْرِ وَالشُّعَرَاءِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ جُنْدٍ يُجَنِّدُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَكَفَى، يَدُلُّ عَلَيْهِ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهِ لَشِعْرُك عَلَيْهِمْ أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ السِّهَامِ فِي غَلَسِ الظَّلَامِ وَتَحْفَظُ بَيْتِي فِيهِمْ، فَقَالَ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينِ، ثُمَّ أَخْرَجَ لِسَانَهُ فَضَرَبَ بِهِ أَرْنَبَةَ أَنْفِهِ وَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ لَيَتَخَيَّلُ لِي أَنَّهُ لَوْ وَضَعْته عَلَى حَجَرٍ لَفَلَقَهُ أَوْ عَلَى شَعْرٍ لَحَلَقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى حَسَّانًا بِرُوحِ الْقُدُسِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِحَسَّانَ: لَقَدْ شَكَرَ اللَّهُ قَوْلَك: جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا ... فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ كَذَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، قُلْت: هَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَجَابَ بِهِ ابْنَ الزِّبَعْرَى عَبْدَ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَصِيدَةُ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ قَوْلُهُ: حَتَّى الدِّيَارُ مَحَا مَعَارِفَ رَسْمِهَا ... طُولُ الْبِلَى وَتَرَاوُحُ الْأَحْقَابِ فَكَأَنَّمَا كَتَبَ الْيَهُودُ رَسْمَهَا ... إلَّا الْكَنِيفَ وَمَعْقِدَ الْأَطْنَابِ قَفْرًا كَأَنَّك لَمْ تَكُنْ تَلْهُو بِهَا ... فِي نِعْمَةٍ بِأَوَانِسِ أَتْرَابِ فَاتْرُكْ تَذَكُّرَ مَا مَضَى مِنْ عِيشَةٍ ... وَمَحَلَّةٍ خَلَقِ الْمُقَامِ يَبَابِ وَاذْكُرْ بَلَاءَ مَعَاشِرٍ وَاشْكُرْهُمُو ... سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ مِنْ الْأَنْصَابِ أَنْصَابِ مَكَّةَ عَامِدِينَ لِيَثْرِبَ ... فِي ذِي غَيَاطِلَ جَحْفَلٍ جَبْجَابِ يَدَعُ الْحُزُونَ مِنْهَاجًا مَعْلُومَةً ... فِي كُلِّ نَشْرٍ ظَاهِرٍ وَشِعَابِ فِيهَا الْجِيَادُ شَوَازِبٌ مَجْنُوبَةٌ ... قُبُّ الْبُطُونِ لَوَاحِقُ الْأَقْرَابِ مِنْ كُلِّ سَلْهَبَةٍ وَأَجْرَدَ سَلْهَبِ ... كَالسَّيِّدِ بَادَرَ غَفْلَةَ الرُّقَّابِ جَيْشُ عُيَيْنَةُ قَاصِدٌ بِلِوَائِهِ ... فِيهِ وَصَخْرٌ قَائِدُ الْأَحْزَابِ قَرْمَانُ كَالْبَدْرَيْنِ أَصْبَحَ فِيهِمَا ... غَيْثُ الْفَقِيرِ وَمَعْقِلُ الْهَرَّابِ حَتَّى إذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَدَوْا ... لِلْمَوْتِ كُلَّ مُجَرَّبٍ قَضَّابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 شَهْرًا وَعَشْرًا قَاهِرِينَ مُحَمَّدًا ... وَصِحَابُهُ فِي الْحَرْبِ خَيْرُ صِحَابِ نَادَوْا بِرِحْلَتِهِمْ صَبِيحَةَ قُلْتُمُو ... كِدْنَا نَكُونُ بِهَا مَعَ الْخُيَّابِ لَوْلَا الْخَنَادِقُ غَادَرُوا مِنْ جَمْعِهِمْ ... قَتْلَى لِطَيْرٍ سَاغِبٍ وَذِئَابِ فَأَجَابَهُ أَوَّلًا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: هَلْ رَسْمُ دَارِسَةِ الْمُقَامِ ... يَبَابُ مُتَكَلِّمٌ لِمُحَاوِرٍ بِجَوَابِ قَفْرٌ عَفَا رَهَمَ السَّحَابُ رُسُومَهُ ... وَهُبُوبُ كُلِّ مُطِلَّةٍ مِرْبَابِ وَلَقَدْ رَأَيْت بِهَا الْحُلُولَ يَزِينُهُمْ ... بِيضُ الْوُجُوهِ ثَوَاقِبُ الْأَحْسَابِ فَدَعِ الدِّيَارَ وَذِكْرَ كُلِّ خَرِيدَةٍ ... بَيْضَاءَ آنِسَةِ الْحَدِيثِ كَعَابِ وَاشْكُ الْهُمُومَ إلَى الْإِلَهِ وَمَا تَرَى ... مِنْ مَعْشَرٍ ظَلَمُوا الرَّسُولَ غِضَابِ سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهِ وَأَلَّبُوا ... أَهْلَ الْقُرَى وَبَوَادِيَ الْأَعْرَابِ جَيْشٌ عُيَيْنَةَ وَابْنِ حَرْبٍ فِيهِمُو ... مُتَخَمِّطُونَ بِحَلْبَةِ الْأَحْزَابِ حَتَّى إذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَجُوا ... قَتْلَ الرَّسُولِ وَمَغْنَمَ الْأَسْلَابِ وَغَدَوْا عَلَيْنَا قَادِرِينَ بِأَيْدِهِمْ ... رُدُّوا بِغَيْظِهِمُو عَلَى الْأَعْقَابِ بِهُبُوبِ مُعْصِفَةٍ تُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ ... وَجُنُودِ رَبِّك سَيِّدِ الْأَرْبَابِ فَكَفَى الْإِلَهُ الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَهُمْ ... وَأَثَابَهُمْ فِي الْأَجْرِ خَيْرَ ثَوَابِ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا فَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ ... تَنْزِيلُ نَصْرِ مَلِيكِنَا الْوَهَّابِ وَأَقَرَّ عَيْنَ مُحَمَّدٍ وَصِحَابِهِ ... وَأَذَلَّ كُلَّ مُكَذِّبٍ مُرْتَابِ عَاتِي الْفُؤَادِ مُوَقَّعٍ ذِي رِيبَةٍ ... فِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِطَاهِرِ الْأَثْوَابِ عَلِقَ الشَّقَاءُ بِقَلْبِهِ فَفُؤَادُهُ ... فِي الْكُفْرِ آخِرُ هَذِهِ الْأَحْقَابِ وَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَانِيًا فَقَالَ: أَبْقَى لَنَا حَدَثُ الْحُرُوبِ بَقِيَّةً ... مِنْ خَيْرِ نِحْلَةِ رَبِّنَا الْوَهَّابِ بَيْضَاءَ مُشْرِفَةَ الذُّرَى وَمَعَاطِنًا ... جُمِّ الْجُذُوعِ غَزِيرَةِ الْأَحْلَابِ كَاللَّوْبِ يُبْذَلُ جَمُّهَا وَحَفِيلُهَا ... لِلْجَارِ وَابْنِ الْعَمِّ وَالْمُنْتَابِ وَتَرَائِغًا مِثْلَ السَّرَاحِ نَمَا بِهَا ... عَلَفُ الشَّعِيرِ وَجِزَّةُ الْمِقْضَابِ عَرِيَ الشَّوَى مِنْهَا وَأَرْدَفَ نَحْضُهَا ... جُرْدَ الْمُتُونِ وَسَائِرَ الْآرَابِ قَوْدًا تُرَاحُ إلَى الصِّيَاحِ إذَا غَدَتْ ... فِعْلَ الضِّرَاءِ تُرَاحُ لِلْكَلَّابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وَتَحُوطُ سَائِمَةَ الدِّيَارِ وَتَارَةً ... تُرْدِي الْعِدَا وَتَئُوبُ بِالْأَسْلَابِ حُوشُ الْوُحُوشِ مَطَارَةٌ عِنْدَ الْوَغَى ... عُبْسُ اللِّقَاءِ مُبِينَةَ الْأَنْجَابِ عُلِفَتْ عَلَى دَعَةٍ فَصَارَتْ بُدَّنًا ... دُخْسُ الْبَضِيعِ خَفِيفَةَ الْأَقْصَابِ يَغْدُونَ بِالزَّعْفِ الْمُضَاعَفِ شَكُّهُ ... وَبِمُتْرِصَاتٍ فِي الثِّقَافِ صِبَابِ وَصَوَارِمٍ نَزَعَ الصَّيَاقِلُ عَلْبَهَا ... وَبِكُلِّ أَرْوَعَ مَاجِدِ الْأَنْسَابِ يَصِلُ الْيَمِينَ بِمَارِنٍ مُتَقَارِبٍ ... وُكِلَتْ وَقِيعَتُهُ إلَى خَبَّابِ وَأَغَرَّ أَزْرَقَ فِي الْقَنَاةِ كَأَنَّهُ ... فِي طُخْيَةِ الظَّلْمَاءِ ضَوْءُ شِهَابٍ وَكَتِيبَةٍ يَنْفِي الْقِرَانُ قَتِيرَهَا ... وَتَرُدُّ حَدَّ قَوَاحِزِ النُّشَّابِ جَأْوَى مُلَمْلَمَةٍ كَأَنَّ رِمَاحَهَا ... فِي كُلِّ مَجْمَعَةٍ صَرِيمَةُ غَابٍ تَأْوِي إلَى ظِلِّ اللِّوَاءِ كَأَنَّهُ ... فِي صَعْدَةِ الْخُطَى فَيْءُ عُقَابِ أَعْيَتْ أَبَا كَرِبٍ وَأَعْيَتْ تُبَّعًا ... وَأَبَتْ بَسَالَتُهَا عَلَى الْأَعْرَابِ وَمَوَاعِظ مِنْ رَبِّنَا نُهْدَى بِهَا ... بِلِسَانِ أَزْهَرَ طَيِّبِ الْأَثْوَابِ عُرِضَتْ عَلَيْنَا فَاشْتَهَيْنَا ذِكْرَهَا ... مِنْ بَعْدِ مَا عُرِضَتْ عَلَى الْأَحْزَابِ حِكَمًا يَرَاهَا الْمُجْرِمُونَ بِزَعْمِهِمْ ... حَرَجًا وَيَفْهَمُهَا ذَوُو الْأَلْبَابِ جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا ... فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا ... فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ شَكَرَك اللَّهُ يَا كَعْبُ عَلَى قَوْلِك هَذَا قَالَ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ فِي سِيرَتِهِ: سَخِينَةُ لَقَبٌ لِقُرَيْشٍ. قَالَ فِي الرَّوْضِ: ذَكَرُوا أَنَّ قُصَيًّا كَانَ إذَا ذَبَحَتْ قُرَيْشٌ ذَبِيحَةً أَوْ نَحَرَتْ نَحِيرَةً بِمَكَّةَ أَتَى بِعَجُزِهَا فَصَنَعَ مِنْهُ خَزِيرَةً وَهِيَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ بِوَزْنِ جَزِيرَةٍ وَهِيَ لَحْمٌ يُطْبَخُ يَسِيرًا فَيُطْعِمُهُ النَّاسَ، فَسُمِّيَتْ قُرَيْشٌ بِهَا سَخِينَةَ. وَقِيلَ إنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إذَا أَسْنَتُوا أَكَلُوا الْعِلْهِزَ وَهُوَ الْوَبَرُ وَالدَّمُ، وَتَأْكُلُ قُرَيْشٌ الْخَزِيرَةَ وَاللَّفِيفَةَ، فَنَفِسَتْ عَلَيْهِمْ الْعَرَبُ بِذَلِكَ فَلَقَّبُوهُمْ سَخِينَةَ. قَالَ وَلَمْ تَكُنْ قُرَيْشٌ تَكْرَهُ هَذَا اللَّقَبَ وَلَوْ كَرِهَتْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 لَمَا اسْتَجَازَ كَعْبٌ أَنْ يَذْكُرَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ، وَلَتَرَكَهُ أَدَبًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ كَانَ قُرَشِيًّا. وَلَقَدْ اسْتَنْشَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مَا قَالَهُ الْهَوْزَنِيُّ فِي قُرَيْشٍ: يَا شِدَّةً مَا شَدَدْنَا غَيْرَ كَاذِبَةٍ ... عَلَى سَخِينَةَ لَوْلَا اللَّيْلُ وَالْحَرَمُ فَقَالَ: مَا زَادَ هَذَا عَلَى أَنْ اسْتَثْنَى. وَلَمْ يَكْرَهْ سَمَاعَ التَّلْقِيبِ لِسَخِينَةٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّقَبَ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا عِنْدَهُمْ، وَلَا كَانَ فِيهِ تَعْيِيرٌ لَهُمْ بِشَيْءٍ يُكْرَهُ. قَالَ فِي الزَّهْرِ: وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ فِي مَوْضِعَيْنِ: الْأَوَّلُ: كُلُّ مَنْ، تَعَرَّضَ لِنَسَبٍ أَوْ تَارِيخٍ وَشِبْهِهِمَا فِيمَا رَأَيْت يَزْعُمُونَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُعَابُ بِأَكْلِ السَّخِينَةِ. هَذَا الْكَلْبِيُّ وَالْبَلَاذُرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْمَدَائِنِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ وَابْنُ دُرَيْدٍ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمَنْ لَا يُحْصَى قَالُوا ذَلِكَ. الثَّانِي: قَوْلُهُ وَلَوْ كَرِهَهُ إلَخْ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ يُحْتَمَلُ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ أَوْ سَمِعَهُ وَأَنْكَرَهُ وَلَمْ يَبْلُغْنَا نَحْنُ ذَلِكَ قَالَ الشَّامِيُّ: وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ لَيْسَا بِشَيْءٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَعْبٍ لَمَّا قَالَ جَاءَتْ سَخِينَةُ الْبَيْتَ شَكَرَك اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَوْلِك هَذَا يَا كَعْبُ رَوَاهُ ابْنُ هِشَامٍ أَوْ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ نِكَايَتَهُمْ فَأَغْضَى عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي بَيْنَهُمْ كَانَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُ السُّهَيْلِيِّ وَلَقَدْ اسْتَنْشَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ إلَخْ فِيهِ نَظَرٌ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَرْزُبَانِيَّ ذَكَرَ هَذَا الشِّعْرَ لِخِرَاشِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَلَيْسَ مِنْ هَوَازِنَ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، وَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ تَنَازَعَ إلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فِي الْعَرَافَةِ، فَنَظَرَ إلَى فَتًى فِيهِمْ شِعْشَاعٍ فَقَالَ يَا فَتَى قَدْ وَلَّيْتُك الْعَرَافَةَ، فَقَامُوا وَهُمْ يَقُولُونَ قَدْ أَفْلَحَ ابْنُ خِرَاشٍ، فَسَمِعَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ فَقَالَ كَلًّا وَاَللَّهِ لَا يَهْجُونَا أَبُوك فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِقَوْلِهِ: يَا شِدَّةً مَا شَدَدْنَا غَيْرَ كَاذِبَةٍ، إلَخْ وَنُسَوِّدُك فِي الْإِسْلَامِ، فَوَلَّاهَا غَيْرَهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ هَذَا اللَّقَبَ وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَسَخِينَةٌ كَسَفِينَةٍ طَعَامٌ رَقِيقٌ يُتَّخَذُ مِنْ دَقِيقٍ، وَلَقَبٌ لِقُرَيْشٍ لِاِتِّخَاذِهَا إيَّاهُ وَكَانَتْ تُعَيَّرُ بِهِ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 مَطْلَبٌ: فِي وُفُودِ بَنِي تَمِيمٍ وَفِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ وَابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُمْ فِي وُفُودِ بَنِي تَمِيمٍ إلَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، وَالزِّبْرِقَانُ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ. وَرَبَاحُ بْنُ الْحَارِثِ، وَغَيْرُهُمْ فِي وَفْدٍ عَظِيمٍ يُقَالُ كَانُوا سَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ أَوْ تِسْعِينَ رَجُلًا، «وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ. وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَكَانَا شَهِدَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتْحَ مَكَّةَ وَحُنَيْنًا وَالطَّائِفَ. فَلَمَّا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ قَدِمَا مَعَهُمْ، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَدْ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالظُّهْرِ وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَجَّلَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ وَاسْتَبْطَئُوهُ، فَنَادَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَرَاءِ حُجُرَاتِهِ بِصَوْتٍ جَافٍ: يَا مُحَمَّدُ اُخْرُجْ إلَيْنَا، يَا مُحَمَّدُ اُخْرُجْ إلَيْنَا، يَا مُحَمَّدُ اُخْرُجْ إلَيْنَا، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَآذَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صِيَاحِهِمْ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، وَإِنَّ شَتْمَنَا شَيْنٌ، نَحْنُ أَكْرَمُ الْعَرَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَبْتُمْ بَلْ مِدْحَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الزَّيْنُ وَشَتْمُهُ الشَّيْنُ، وَأَكْرَمُ مِنْكُمْ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيّ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ الْبَرَاءُ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الْأَقْرَعُ إنَّهُ هُوَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اُخْرُجْ إلَيْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ حَمْدِي لَزَيْنٌ وَإِنَّ ذَمِّي لَشَيْنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . انْتَهَى. فَقَالُوا إنَّا أَتَيْنَاك لِنُفَاخِرَك فَأْذَنْ لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا، قَالَ قَدْ أَذِنْت لِخَطِيبِكُمْ فَلْيَقُلْ، فَقَامَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْفَضْلُ وَهُوَ أَهْلُهُ، الَّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَوَهَبَ لَنَا أَمْوَالًا عِظَامًا نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ، وَجَعَلَنَا أَعَزَّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرَهُمْ عَدَدًا وَأَيْسَرَهُمْ عُدَّةً، فَمَنْ مِثْلُنَا فِي النَّاسِ، أَلَسْنَا رُءُوسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 النَّاسِ وَأُولِي فَضْلِهِمْ، فَمَنْ فَاخَرَنَا فَلْيَعْدُدْ مِثْلَ مَا أَعْدَدْنَا، وَإِنَّا لَوْ شِئْنَا أَكْثَرْنَا وَلَكِنَّا نَحْيَا مِنْ الْإِكْثَارِ فِيمَا أَعْطَانَا وَإِنَّا نَقُولُ هَذَا لَأَنْ تَأْتُوا بِمِثْلِ قَوْلِنَا وَأَمْرٍ أَفْضَلَ مِنْ أَمْرِنَا، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: قُمْ فَأَجِبْ الرَّجُلَ فِي خُطْبَتِهِ، فَقَامَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ، قَضَى فِيهِنَّ أَمْرَهُ، وَسِعَ كُرْسِيَّهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَكُ شَيْءٌ قَطُّ إلَّا مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا وَاصْطَفَى مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولًا، أَكْرَمَهُ نَسَبًا، وَأَصْدَقَهُ حَدِيثًا، وَأَفْضَلَهُ حَسَبًا، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ، وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ خِيرَةَ اللَّهِ مِنْ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَآمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ، أَكْرَمَ النَّاسِ أَحْسَابًا وَأَحْسَنَ النَّاسِ وُجُوهًا، وَخَيْرَ النَّاسِ فِعَالًا، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ الْخَلْقِ إجَابَةً وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ تَعَالَى حِينَ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْنُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَوُزَرَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُنِعَ مَالَهُ وَدَمَهُ، وَمَنْ كَفَرَ جَاهَدْنَاهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى لِي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالسَّلَامُ. فَقَامَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ فَقَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ: يَا فُلَانُ قُمْ فَقُلْ أَبْيَاتًا يُذْكَرُ فِيهَا فَضْلُك وَفَضْلُ قَوْمِك. فَقَالَ: نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيٌّ يُعَادِلُنَا ... نَحْنُ الرُّءُوسُ وَفِينَا يُقْسَمُ الرُّبْعُ وَكَمْ قَسَرْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمُو ... عِنْدَ النِّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزِّ يُتَّبَعُ وَنُطْعِمُ النَّاسَ عِنْدَ الْمَحَلِّ كُلَّهُمُو ... مِنْ السَّدِيفِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ الْقَزَعُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَنَحْنُ يُطْعَمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مَطْعَمُنَا ... مِنْ الشِّوَاءِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ الْقَزَعُ بِمَا تَرَى النَّاسَ تَأْتِينَا سُرَاتُهُمُو ... مِنْ كُلِّ أَرْضٍ هَوِيًّا ثُمَّ نَصْطَنِعُ فَنَنْحَرُ الْكَوْمَ عَبْطًا فِي أَرُومَتِنَا ... لِلنَّازِلِينَ إذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا فَلَا تَرَانَا إلَى حَيٍّ نُفَاخِرُهُمْ ... إلَّا اسْتَقَادُوا فَكَانُوا الرَّأْسَ يُقْتَطَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِي ذَاكَ نَعْرِفُهُ ... فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالْأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ إنَّا أَبَيْنَا وَلَمْ يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ... إنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: مِنَّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ غَائِبًا، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حَسَّانُ: جَاءَنِي رَسُولُهُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ إنَّمَا دَعَانِي لِأُجِيبَ شَاعِرَ بَنِي تَمِيمٍ، فَخَرَجْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَقُولُ: مَنَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ إذْ حَلَّ وَسْطَنَا ... عَلَى أَنْفِ رَاضٍ مِنْ مَعَدٍّ وَرَاغِمِ مَنَعْنَاهُ لَمَّا حَلَّ بَيْنَ بُيُوتِنَا ... بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَظَالِمِ بِبَيْتِ حَرِيدٍ عِزُّهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ الْجَوْلَانِ وَسَطَ الْأَعَاجِمِ هَلْ الْمَجْدُ إلَّا السُّؤْدُدُ الْعُودُ وَالنَّدَى ... وَجَاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ شِعْرِهِ الزِّبْرِقَانُ. وَفِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَسَّانُ: فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَامَ شَاعِرُ الْقَوْمِ فَقَالَ مَا قَالَ: عَرَضْت فِي قَوْلِهِ، وَقُلْت عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ الزِّبْرِقَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قُمْ يَا حَسَّانُ فَأَجِبْ الرَّجُلَ فَقَالَ حَسَّانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتَهُمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ يَرْضَى بِهِمْ كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَكُلُّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمْ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا سَجِيَّةٌ تِلْكَ فِيهِمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إنَّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ إنْ كَانَ فِي النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمْ ... فَكُلُّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ لَا يَرْفَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفُّهُمْ ... عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا إنْ سَابَقُوا النَّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمْ ... أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدَى مَنَعُوا أَعِفَّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفَّتُهُمْ ... لَا يَطْمَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمْ طَمَعُ لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمْ ... وَلَا يَمَسُّهُمْ مِنْ مَطْمَعٍ طَبْعُ إذَا نَصَبْنَا لِحَيٍّ لَمْ نَدِبَّ لَهُمْ ... كَمَا يَدِبُّ إلَى الْوَحْشِيَّةِ الذَّرَعُ وَنَسْمُو إذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ... إذَا الزَّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا لَا يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوَّهُمُو ... وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خَوْرٌ وَلَا هَلَعُ كَأَنَّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنَعُ ... أُسْدٌ بِحَلْبَةٍ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ خُذْ مِنْهُمُو مَا أَتَوْا عَفْوًا إذَا غَضِبُوا ... وَلَا يَكُنْ هَمُّك الْأَمْرَ الَّذِي مَنَعُوا فَإِنَّ فِي حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ ... شَرًّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السُّمُّ وَالسَّلَعُ أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللَّهِ شِيعَتُهُمْ ... إذَا تَفَاوَتَتْ الْأَهْوَاءُ وَالشِّيَعُ أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِي قَلْبٌ يُوَازِرُهُ ... فِيمَا أُحِبُّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنِعُ فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمُو ... إنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ الْقَوْلِ أَوْ سَمِعُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ «أَنَّ الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ لَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ قَالَ: أَتَيْنَاك كَيْمَا يَعْلَمُ النَّاسُ فَضْلَنَا ... إذَا اخْتَلَفُوا عِنْدَ احْتِضَارِ الْمَوَاسِمِ بِأَنَّا فُرُوعُ النَّاسِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ ... وَأَنْ لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ وَأَنَّا نَذُودُ الْمُعْلِمِينَ إذَا انْتَخُوا ... وَنَضْرِبُ رَأْسَ الْأَصِيدِ الْمُتَفَاقِمِ فَإِنَّ لَنَا الْمِرْبَاعَ فِي كُلِّ غَارَةٍ ... تُغِيرُ بِنَجْدٍ أَوْ بِأَرْضِ الْأَعَاجِمِ فَقَامَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَجَابَهُ بِقَوْلِهِ: هَلْ الْمَجْدُ إلَّا السُّؤْدُدُ الْعُودُ وَالنَّدَى ... وَجَاهُ مُلُوكٍ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ نَصَرْنَا وَآوَيْنَا النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... عَلَى أَنْفِ رَاضٍ مِنْ مَعْدٍ وَرَاغِمِ بِحَيٍّ حَرِيدٍ أَصْلُهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ الْجَوْلَانِ وَسَطِ الْأَعَاجِمِ نَصَرْنَاهُ لَمَّا حَلَّ وَسْطَ دِيَارِنَا ... بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَظَالِمِ جَعَلْنَا بَنِينَا دُونَهُ وَبَنَاتِنَا ... وَطِبْنَا لَهُ نَفْسًا بِفَيْءِ الْمَغَانِمِ وَنَحْنُ ضَرَبْنَا النَّاسَ حَتَّى تَتَابَعُوا ... عَلَى دِينِهِ بِالْمُرْهَفَاتِ الصَّوَارِمِ وَنَحْنُ وَلَدْنَا مِنْ قُرَيْشٍ عَظِيمَهَا ... وَلَدنَا نَبِيَّ الْخَيْرِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إنَّ فَخْرَكُمْ ... يَعُودُ وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُمْ ... لَنَا خَوَلٌ مَا بَيْنَ ظِئْرٍ وَخَادِمِ فَإِنْ كُنْتُمُو جِئْتُمْ لِحَقْنِ دِمَائِكُمْ ... وَأَمْوَالِكُمْ أَنْ تَقْسِمُوا فِي الْمَقَاسِمِ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَأَسْلِمُوا ... وَلَا تَلْبَسُوا زِيًّا كَزِيِّ الْأَعَاجِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فَلَمَّا فَرَغَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: وَأَبِي إنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمُؤْتًى لَهُ، لَخَطِيبُهُ أَخَطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَلَأَصْوَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا فَلَمَّا فَرَغَ الْقَوْمُ أَسْلَمُوا، وَجَوَّزَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ» . فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَقَرَّ الشِّعْرَ وَأَمَرَ بِهِ. فَهَلْ بَعْدَ هَذَا يَسُوغُ إنْكَارٌ؟ وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي (مُثِيرِ الْعَزْمِ السَّاكِنِ إلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ) بَابُ ذِكْرِ الشُّعَرَاءِ بِسُوقِ عُكَاظٍ وَتَنَاشُدُهُمْ الْأَشْعَارَ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كَانَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ تُضْرَبُ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ أَدْمٍ بِسُوقِ عُكَاظٍ فَتَأْتِيهِ الشُّعَرَاءُ فَتَعْرِضُ عَلَيْهِ أَشْعَارَهَا فَأَوَّلُ مَنْ أَنْشَدَهُ الْأَعْشَى، ثُمَّ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، ثُمَّ أَنْشَدَتْهُ الشُّعَرَاءُ، ثُمَّ أَنْشَدَتْهُ الْخَنْسَاءُ أَبْيَاتَهَا الَّتِي تَقُولُ فِيهَا: وَإِنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَوْلَا أَنَّ أَبَا بَصِيرٍ أَنْشَدَنِي آنِفًا لَقُلْت إنَّك أَشْعَرُ أَهْلِ زَمَانِك مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَقَامَ حَسَّانُ فَقَالَ لَأَنَا وَاَللَّهِ أَشْعَرُ مِنْهَا وَمِنْك وَمِنْ أَبِيك، فَقَالَ لَهُ النَّابِغَةُ حَيْثُ تَقُولُ مَاذَا؟ فَقَالَ حَيْثُ أَقُولُ: لَنَا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةِ دَمًا وَلَدْنَا بَنِي الْعَنْقَاءِ وَابْنَيْ مُحَرِّقٍ ... فَأَكْرِمْ بِنَا خَالًا وَأَكْرِمْ بِنَا ابْنَ مَا فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ إنَّك قُلْت لَنَا الْجَفَنَاتُ فَقَلَّلْتَ عَدَدَك، وَقُلْت يَلْمَعْنَ بِالضُّحَى وَلَوْ قُلْت فِي الدُّجَى لَكَانَ أَفْخَرَ، لِأَنَّ الضِّيفَانَ يَكْثُرُونَ بِاللَّيْلِ، وَقَلَّلْت عَدَدَ أَسْيَافِك وَقُلْت يَقْطُرْنَ وَلَوْ قُلْت يَجْرِينَ لَكَانَ أَكْثَرَ لِلدَّمِ، وَفَخَرْت بِمَنْ وَلَدْته، وَلَمْ تَفْخَرْ بِمَنْ وَلَدَك، فَانْظُرْ مَزِيدَ اعْتِنَائِهِمْ بِالشِّعْرِ، وَشِدَّةَ التَّنْقِيبِ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَالِمٍ فِي صَدْرِ شَرْحِ قَصِيدَةِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي عُمَرَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمَالِكِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْحَاجِبِ فِي عِلْمَيْ الْعُرُوضِ وَالْقَوَافِي: وَبَعْدُ، فَالشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ، وَتُرْجُمَانُ الْأَدَبِ، مُدِحَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمَ وَأَثَابَ عَلَيْهِ، وَأَدْنَى مَادِحِيهِ، وَأَمَرَ بِمُنَاضَلَةِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمُعَارَضَتِهِمْ وَهَجْوِهِمْ مُقَابَلَةً لِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 تَعَرَّضُوا إلَيْهِ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَهَجْوِهِمْ، وَقَالَ فِي حَقِّ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إنَّ حَسَّانَ مُؤَيَّدٌ فِي شِعْرِهِ بِرُوحِ الْقُدْسِ» ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَا يَنْظِمَانِ الشِّعْرَ. وَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَشْعَرَ الْجَمَاعَةِ، وَرُوِيَ لَهُ شِعْرٌ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ رَوَى الْجَمَاعَةُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إنَّ رُوحَ الْقُدْسِ مَعَك مَا دُمْت تُنَافِحُ عَنْ نَبِيِّهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدْسِ» وَقَدْ جَرَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَّةُ أَبْيَاتٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَظْمِ شَيْءٍ مِنْ الشِّعْرِ لِمَنْعِهِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» وَكَقَوْلِهِ: «مَا أَنْت إلَّا أُصْبُعٌ دَمِيَتْ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيت» وَكَقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ فَارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ» وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يُنْكِرُ فَضْلَ الشِّعْرِ إلَّا جَامِدُ الْقَرِيحَةِ بِلَا مُحَالٍ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْأَفْضَالِ. [تَنْبِيه: أَوَّلَ مَنْ نَطَقَ بِالشِّعْرِ] (تَنْبِيهٌ) قِيلَ وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ نَطَقَ بِالشِّعْرِ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرِ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ لَمَّا قَتَلَ قَابِيلُ أَخَاهُ هَابِيلَ بَكَى آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَجَزِعَ وَأَسِفَ عَلَى فَقْدِهِ، وَرَثَاهُ بِشِعْرٍ يُعْزَى إلَيْهِ، وَهُوَ هَذَا الشِّعْرُ فَقَالَ: تَغَيَّرَتْ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... وَوَجْهُ الْأَرْضِ مُغْبَرٌ قَبِيحُ تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الصُّبَيْحِ وَبُدِّلَ أَهْلُهَا أَثْلًا وَخَمْطًا ... بِجَنَّاتٍ مِنْ الْفِرْدَوْسِ فِيحِ وَجَاوَرَنَا عَدُوًّا لَيْسَ يُنْسَى ... لَعَيْنٌ مَا يَمُوتُ فَنَسْتَرِيحُ قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ أَخَاهُ ... فَوَا أَسَفًا عَلَى الْوَجْهِ الْمَلِيحِ فَمَا لِي لَا أَجُودُ بِسَكْبِ دَمْعِي ... وَهَابِيلُ تَضَمَّنَهُ الضَّرِيحُ أَرَى طُولَ الْحَيَاةِ عَلَيَّ غَمًّا ... وَمَا أَنَا فِي حَيَاتِي مُسْتَرِيحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قُلْت: لَا يُخْفَى مَا فِي هَذَا الشِّعْرِ مِنْ الْأَقْوَى وَهُوَ يُخَالِفُ الْقَافِيَةَ فِي الْإِعْرَابِ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَرْفُوعٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَجْرُورٌ، وَقَدْ أَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ نِسْبَةَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَالَ إنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الشِّعْرِ كَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَنُسِبَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ أَوَّلُ شِعْرٍ قِيلَ فِي الْعَرَبِ، وَأَنَّهَا وُجِدَتْ مَكْتُوبَةً فِي حَجَرٍ فِي الْيَمَنِ وَلَمْ يُسَمِّ لِي قَائِلَهَا، وَهِيَ هَذِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ سِيرُوا إنَّ قَصْدَكُمُو ... أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لَا تَسِيرُونَا حُثُّوا الْمَطِيَّ وَأَرْخُوا مِنْ أَزِمَّتِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَضُّوا مَا تُقَضُّونَا كُنَّا أُنَاسًا كَمَا كُنْتُمْ فَغَيَّرَنَا ... دَهْرٌ فَأَنْتُمْ كَمَا كُنَّا تَكُونُونَا وَنَسَبَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ إلَى عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْأَكْبَرِ وَهُوَ صَاحِبُ الْأَبْيَاتِ الَّتِي أَوَّلُهَا قَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ بِلًى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَزَالَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ وَكُنَّا وُلَاةَ الْبَيْتِ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... نَطُوفُ بِذَاكَ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ وَنَحْنُ وُلِينَا الْبَيْتَ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... بِعِزٍّ فَمَا يُخْطِئُ لَدَيْنَا الْمُكَاثِرُ مَلَكْنَا فَعَزَزْنَا فَأَعْظِمْ بِمُلْكِنَا ... فَلَيْسَ لِحَيٍّ غَيْرُنَا ثَمَّ فَاخِرُ الْقَصِيدَةَ بِطُولِهَا. وَفِي الْأَوَائِلِ: أَوَّلُ مَنْ قَصَّدَ الْقَصَائِدَ وَذَكَرَ الْوَقَائِعَ امْرُؤُ الْقَيْسِ. وَلَمْ يَكُنْ لِأَوَائِل الْعَرَبِ إلَّا أَبْيَاتًا يَقُولُهَا الرَّجُلُ فِي حَاجَتِهِ وَتَعْزِيَتِهِ وَتَارِيخِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ قَرْنٍ قُصِّدَتْ فِيهِ الْقَصَائِدُ وَطُوِّلَ الشِّعْرُ عَلَى عَهْدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَامْتَلَأَ الْكَوْنُ مِنْ الشُّعَرَاءِ وَالْفُصَحَاءِ حَتَّى صَارَ الشِّعْرُ كَالدِّينِ يَفْتَخِرُونَ بِهِ وَيَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ، فَعَارَضُوهُ بِالشِّعْرِ فَأَعْجَزَهُمْ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَقَطَعَ دَوَاعِيَ مُعَارِضِيهِ فَلَمْ يَأْتُوا بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ، فَأَعْرَضُوا عَنْ مُصَاقَعَةِ اللِّسَانِ وَتَصَدَّوْا إلَى مُقَارَعَةِ السِّنَانِ لِعَجْزِهِمْ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وَأَوَّلُ مَنْ لَطَّفَ الْمَعَانِيَ فِي الشِّعْرِ وَاسْتَوْقَفَ عَلَى الطُّلُولِ وَوَصَفَ النِّسَاءِ بِالظِّبَا وَالْمَهَا وَالْبِيضِ امْرُؤُ الْقَيْسِ. قَالَ عَلِيٌّ: رَأَيْته أَحْسَنَ الشُّعَرَاءِ لِأَنَّهُ قَالَ مَا لَمْ يَقُولُوا، وَأَحْسَنَهُمْ نَادِرَةً، وَأَسْبَقَهُمْ بَادِرَةً، وَلَمْ يَقُلْ الشِّعْرَ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالشِّعْرِ: إنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ لَمْ يَتَقَدَّمْ الشُّعَرَاءَ وَلَكِنَّهُ سَبَقَ إلَى أَشْيَاءَ فَاسْتَحْسَنَهَا الشُّعَرَاءُ وَاتَّبَعُوهُ فِيهَا فَهُوَ أَشْعَرُ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقِيلَ فِي حَقِّهِ عَلَى لِسَانِ النُّبُوَّةِ: «امْرُؤُ الْقَيْسِ بِيَدِهِ لِوَاءُ الشُّعَرَاءِ» كَمَا فِي مُزْهِرِ اللُّغَةِ لِلسُّيُوطِيِّ. وَفِي أَوَائِلِ السُّيُوطِيِّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَرَقَّ الشِّعْرَ وَالْمَرَاثِي مُهَلْهَلُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَذَبَ فِي شِعْرِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَشْعَرَهُمْ أَكْذَبُهُمْ. وَفِي التَّوْرَاةِ: أَبُو ذِئْبٍ مُؤَلِّفٌ زُورًا، وَكَانَ اسْمَ شَاعِرٍ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَقَدْ قِيلَ: الشُّعَرَاءُ أَرْبَعَةٌ: امْرُؤُ الْقَيْسِ، وَطَرَفَةُ، وَالنَّابِغَةُ، وَمُهَلْهَلٌ، وَأَشْعَرُ الْإِسْلَامِيِّينَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ. [طَبَقَات الشُّعَرَاء] وَالشُّعَرَاءُ أَرْبَعُ طَبَقَاتٍ، جَاهِلِيٌّ قَدِيمٌ، وَمُخَضْرَمٌ، وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَإِسْلَامِيٌّ، وَمُحْدِثٌ. وَلِلشِّعْرِ طَبَقَاتٌ ذَكَرَهَا عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ فِي كُتُبِهِمْ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَاعِرًا لِأَنَّهُ يَشْعُرُ بِمَا لَا يَشْعُرُ بِهِ غَيْرُهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: فِي حَظْرِ الْهِجَاءِ وَالْمَدْحِ بِالزُّورِ وَحَظْرَ الْهَجَا وَالْمَدْحِ بِالزُّورِ وَالْخَنَا ... وَتَشْبِيبِهِ بِالْأَجْنَبِيَّاتِ أَكِّدْ (وَحَظْرُ) أَيْ مَنْعُ (الْهَجَا) أَيْ الشَّتْمِ وَالذَّمِّ بِالشِّعْرِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: هَجَاهُ هَجْوًا وَهِجَاءً شَتَمَهُ بِالشِّعْرِ (وَ) حَظْرُ (الْمَدْحِ بِالزُّورِ) أَيْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا أَصْلَ لَهُ (وَ) حَظْرُ الْمَدْحِ بِ (الْخَنَا) أَيْ الْفُحْشِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْخَنْوَةُ الْقَذِرَةُ وَالْفُرْجَةُ فِي الْخُصِّ، وَخَنَا خَنْوًا فَحُشَ، وَأَمَّا خَنِيَ كَرَضِيَ وَأَخْنَى عَلَيْهِمْ فَمَعْنَاهُ أَهْلَكَهُمْ، وَالْجَرَادُ كَثُرَ بَيْضُهُ، وَالْمَرْعَى كَثُرَ نَبَاتُهُ، وَخَنَا الدَّهْرِ آفَاتُهُ (وَ) حَظْرُ (تَشْبِيبِهِ) أَيْ الْمُتَشَبِّبِ (بِ) النِّسَاءِ (الْأَجْنَبِيَّاتِ) الْمُعَيَّنَاتِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَجْنَبِيَّاتِ هُنَا مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ بِخِلَافِ نِسَائِهِ وَإِمَائِهِ فَلَا حَظْرَ بِالتَّشْبِيبِ بِهِنَّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَكَذَا التَّشْبِيبُ بِغَيْرِ مُعَيَّنَةٍ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أَكِّدْ) الْحَظْرَ وَالْحُرْمَةَ وَامْنَعْ مِنْ ذَلِكَ كُلَّ الْمَنْعِ وَلَا تُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ. وَوَصْفُ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْمُرْدِ وَالنِّسَا ... الْفَتَيَاتِ أَوْ نَوْحِ التَّسَخُّطِ مُورِدِ (وَ) كَذَا (وَصْفُ) سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ نَحْوِ (الزِّنَا وَ) وَصْفُ (الْخَمْرِ) الَّتِي هِيَ أُمُّ الْخَبَائِثِ (وَ) وَصْفُ (الْمُرْدِ) جَمْعُ أَمْرَدَ يَعْنِي التَّشْبِيبَ بِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرَدُ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ. وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ وَالنَّرْدِ بَدَلَ الْمُرْدِ وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ، فَإِنَّ النَّرْدَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَوَصْفُهُ وَالتَّشْبِيبُ بِهِ مَحْظُورٌ، لَكِنَّ الصَّوَابَ الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (وَالنِّسَا الْفَتَيَاتِ) جَمْعُ فَتَاةٍ (أَوْ نَوْحِ التَّسَخُّطِ مُورَدِ) كَذَا فِي النُّسَخِ وَلَعَلَّهُ أَوْرَدَ لِيَسْتَقِيمَ الْإِعْرَابُ فَهُوَ أَمْرٌ مِنْ أَوْرَدَ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِحَظْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ صَاحِبِ الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ أَفْرَطَ شَاعِرٌ بِالْمِدْحَةِ بِإِعْطَائِهِ وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ يَعْنِي أَفْرَطَ بِالْهِجَاءِ وَالْمَذَمَّةِ بِمَنْعِهِ، أَوْ شَبَّبَ بِمَدْحِ خَمْرٍ أَوْ بِمُرْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَسَقَ، لَا إنَّ شَبَّبَ بِامْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ الْمَذْهَبُ، جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ، وَفِي فُصُولِ ابْنِ عَقِيلٍ وَالتَّرْغِيبِ تَرُدُّ شَهَادَتُهُ كَدَيُّوثٍ، وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ كَمَا عُلِمَ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ فِي بَابِ التَّعْزِيرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَالَ الْحُطَيْئَةُ فِي الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ: دَعْ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّك أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي وَسَأَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَسَّانَ وَلَبِيدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَا إنَّهُ هِجَاءٌ لَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُرْمِي فِي بِئْرٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِ شَيْئًا، فَقَالَ الْحُطَيْئَةُ: مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَحٍ ... زُغْبِ الْحَوَاصِلِ لَا مَاءٌ وَلَا شَجَرُ أَلْقَيْت كَاسِيَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ... فَاغْفِرْ عَلَيْهِ سَلَامُ اللَّهِ يَا عُمَرُ أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ ... أَلْقَتْ عَلَيْك مَقَالِيدَ النُّهَى الْبَشَرُ لَمْ يُؤْثِرُوك بِهَا إذْ قَدَّمُوك لَهَا ... لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِك الْأَثَرُ فَامْنُنْ عَلَى صِبْيَةٍ بِالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ ... بَيْنَ الْأَبَاطِحِ يَغْشَاهُمْ بِهَا الْعُذْرُ أَهْلِي فِدَاؤُك كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ... مِنْ عَرْضِ دَاوِيَّةٍ يُعْمَى بِهَا الْخَبَرُ فَحِينَئِذٍ كَلَّمَهُ فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وَاسْتَرْضَاهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ السِّجْنِ ثُمَّ دَعَاهُ فَهَدَّدَهُ بِقَطْعِ لِسَانِهِ إنْ عَادَ يَهْجُو أَحَدًا. قُلْت: وَالْحُطَيْئَةُ هَذَا كَانَ هَجَّاءً حَتَّى إنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ هَمَّ بِهِجَاءٍ فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ فَقَالَ: أَبَتْ شَفَتَايَ الْيَوْمَ إلَّا تَكَلُّمًا ... بِسُوءٍ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُهُ أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ ... فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ فَهَجَا نَفْسَهُ، وَهَجَا أُمَّهُ بِقَوْلِهِ: تَنَحَّيْ فَاجْلِسِي عَنِّي بَعِيدًا ... أَرَاحَ اللَّهُ مِنْك الْعَالَمِينَا أَغُرْبَالًا إذَا اُسْتُوْدِعْتِ سِرًّا ... وَكَانُونًا عَلَى الْمُتَحَدِّثِينَا حَيَاتُك مَا عَلِمْت حَيَاةُ سُوءٍ ... وَمَوْتُك قَدْ يَسُرُّ الصَّاحِبِينَا وَهَجَا بَعْضُهُمْ امْرَأَةً فَقَالَ: لَهَا جِسْمُ بُرْغُوثٍ وَسَاقُ بَعُوضَةٍ ... وَوَجْهٌ كَوَجْهِ الْقِرْدِ بَلْ هُوَ أَقْبَحُ تَبْرُقُ عَيْنَاهَا إذَا مَا رَأَيْتَهَا ... وَتَعْبِسُ فِي وَجْهِ الْجَلِيسِ وَتَكْلَحُ لَهَا مَضْحَكٌ كَالْحَشِّ تَحْسِبُ أَنَّهَا ... إذَا ضَحِكَتْ فِي أَوْجُهِ النَّاسِ تَسْلَحُ إذَا عَايَنَ الشَّيْطَانُ صُورَةَ وَجْهِهَا ... تَعَوَّذَ مِنْهَا حِينَ يُمْسِي وَيُصْبِحُ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشُفِيَ وَاشْتَفَى» وَكَانَ يُصْنَعُ لَهُ مِنْبَرٌ يَقُومُ عَلَيْهِ فَيَهْجُو مَنْ هَجَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ جُمْلَةِ شِعْرِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الذَّبِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ ... إلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ ... تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ وَالسَّمَاءُ وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ ... يُؤَرِّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ لِشَعْثَاءَ الَّتِي قَدْ تَيَّمَتْهُ ... فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ كَأَنَّ خَبِيثَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ إذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا ... فَهُنَّ لِطِيبِ الرَّاحِ الْفِدَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 نُوَلِّيهَا الْمَلَامَةَ إنْ أُلِمْنَا ... إذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحَاءُ وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءٌ يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ مُصْغِيَاتٍ ... عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظِّمَاءُ تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ ... يَلْطِمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ فَإِمَّا تُعْرِضُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ ... يُعِينُ اللَّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ وَقَالَ اللَّهُ قَدْ أَرْسَلْت عَبْدًا ... يَقُولُ الْحَقَّ أَنْ يَقَعَ الْبَلَاءُ شَهِدْتُ بِهِ فَقُومُوا صَدِّقُوهُ ... فَقُلْتُمْ لَا نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ وَقَالَ اللَّهُ قَدْ يَسَّرْت جُنْدًا ... هُمْ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ ... سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ فَنَحْكُمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّمَاءُ أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ بِأَنَّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْك عَبْدًا ... وَعَبْدُ الدَّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ أَتَهْجُوهُ وَلَسْت لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا فِدَاءُ هَجَوْت مُبَارَكًا بَرًّا حَفِيًّا ... أَمِينَ اللَّهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءٌ فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِي لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ مِنْ أَشْعَارِ الْفَتْحِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَهَا حَسَّانُ قَبْلَ يَوْمِ الْفَتْحِ وَقَالَ بَلَغَنِي عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ «لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءَ يَلْطِمْنَ الْخَيْلَ بِالْخُمُرِ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَبِي بَكْرٍ» . قُلْت بَلْ قَالَ هَذَا الشِّعْرَ حَسَّانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرَةِ،. فَمَدْحُ الْخَمْرِ وَنَحْوُ الزِّنَا بِمَنْزِلَةِ الْهِجَاءِ، لِأَنَّهُ مَدْحُ مَا ذَمَّهُ اللَّهُ وَحَرَّمَهُ، وَلِهَذَا قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ فَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ حَرْثَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وَكَانَ قَدْ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ عَلَى مِيسَانَ مِنْ أَرْضِ الْبَصْرَةِ فَقَالَ أَبْيَاتًا مِنْهَا: أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ حَلِيلَهَا ... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ إذَا شِئْت غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ ... وَرَقَّاصَةٍ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ فَإِنْ كُنْت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ... تَنَادُمُنَا فِي الْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ فَلَمَّا بَلَغَتْ أَبْيَاتُهُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ نَعَمْ وَاَللَّهِ إنَّ ذَلِكَ لَيَسُوءُنِي، فَمَنْ لَقِيَهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنِّي قَدْ عَزَلْته، وَعَزَلَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ اعْتَذَرَ إلَيْهِ وَقَالَ وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا صَنَعْت شَيْئًا مِمَّا بَلَغَك أَنِّي قُلْته قَطُّ، وَلَكِنِّي كُنْت امْرَأً شَاعِرًا وَجَدْت فَضْلًا مِنْ قَوْلٍ فَقُلْت فِيمَا يَقُولُ الشُّعَرَاءُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَأَيْمُ اللَّهِ لَا تَعْمَلُ لِي عَلَى عَمَلٍ مَا بَقِيتُ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ. حِكَايَاتٌ لَطِيفَةٌ وَيُشَابِهُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ تَلْقِيحُ الْفُهُومِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَطُوفُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ إذْ سَمِعَ امْرَأَةً تَقُول: هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا ... أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ إلَى فَتًى مَاجِدِ الْأَعْرَاقِ مُقْتَبِلٍ ... سَهْلِ الْمُحَيَّا كَرِيمٍ غَيْرِ مِلْجَاجِ تُهِنِّيهِ أَعْرَاقُ صِدْقٍ حِينَ تَنْسُبُهُ ... أَخًا وَفِيًّا عَنْ الْمَكْرُوهِ فَرَّاجِ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَا أَرَى مَعِي بِالْمَدِينَةِ رَجُلًا تَهْتِفُ بِهِ الْهَوَاتِفُ فِي خُدُورِهِنَّ، عَلَيَّ بِ (نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ) ، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ فَإِذَا هُوَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنِهِمْ شَعْرًا، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَزِيمَةً مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَتَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِك. فَأَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ، فَخَرَجَ وَلَهُ وَجْنَتَانِ كَأَنَّهُمَا شَقَّتَا قَمَرٍ، فَقَالَ لَهُ اعْتَمَّ فَاعْتَمَّ فَافْتَتَنَ النَّاسُ بِعَيْنَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ وَاَللَّهِ لَا تُسَاكِنُنِي فِي بَلْدَةٍ أَنَا فِيهَا. قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا ذَنْبِي؟ قَالَ هُوَ مَا أَقُولُ لَك. ثُمَّ سَيَّرَهُ إلَى الْبَصْرَةِ، وَخَشِيَتْ الْمَرْأَةُ وَهِيَ الْفَارِعَةُ أُمُّ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ أَنْ يَبْدُوَ مِنْ عُمَرَ إلَيْهَا شَيْءٌ فَدَسَّتْ الْمَرْأَةُ إلَيْهِ أَبْيَاتًا وَهِيَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 قُلْ لِلْإِمَامِ الَّذِي تُخْشَى بَوَادِرُهُ ... مَالِي وَلِلْخَمْرِ أَوْ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ لَا تَجْعَلْ الظَّنَّ حَقًّا أَنْ تُبَيِّنَهُ ... إنَّ السَّبِيلَ سَبِيلُ الْخَائِفِ الرَّاجِي إنَّ الْهَوَى زُمَّ بِالتَّقْوَى فَحَبَّسَهُ ... حَتَّى يُقِرَّ بِإِلْجَامٍ وَإِسْرَاجِ قَالَ فَبَكَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي زَمَّ الْهَوَى بِالتَّقْوَى. قَالَ وَطَالَ مُكْثُ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ بِالْبَصْرَةِ فَخَرَجَتْ أُمُّهُ يَوْمًا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مُتَعَرِّضَةً لِعُمَرَ، فَإِذَا عُمَرُ قَدْ خَرَجَ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَبِيَدِهِ الدُّرَّةُ، فَقَالَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاَللَّهِ لَأَقِفَنَّ أَنَا وَأَنْتَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيُحَاسِبَنَّكَ، أَيَبِيتَنَّ عَبْدُ اللَّهِ وَعَاصِمٌ إلَى جَنْبِك وَبَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِي الْفَيَافِي وَالْأَوْدِيَةُ؟ فَقَالَ لَهَا إنَّ ابْنَايَ لَمْ تَهْتِفْ بِهِمَا الْهَوَاتِفُ فِي خُدُورِهِنَّ. ثُمَّ أَرْسَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَرِيدًا إلَى الْبَصْرَةِ وَعَامِلُهُ فِيهَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فَأَقَامَ أَيَّامًا ثُمَّ نَادَى عُتْبَةُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَكْتُبْ فَإِنَّ الْبَرِيدَ خَارِجٌ، فَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ حَجَّاجٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، سَلَامٌ عَلَيْك، أَمَّا بَعْدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَعَمْرِي لَئِنْ سَيَّرْتَنِي أَوْ حَرَمْتنِي ... وَمَا نِلْت مِنْ عِرْضِي عَلَيْك حَرَامُ فَأَصْبَحْت مَنْفِيًّا عَلَى غَيْرِ رِيبَةٍ ... وَقَدْ كَانَ لِي بِالْمَكَّتَيْنِ مُقَامُ أَأَنْ غَنَّتْ الذَّلْفَاءُ يَوْمًا بِمُنْيَةٍ ... وَبَعْضُ أَمَانِيِّ النِّسَاءِ غَرَامُ ظَنَنْت بِي الظَّنَّ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ ... بَقَاءٌ وَمَالِي جُرْمَةٌ فَأُلَامُ فَيَمْنَعُنِي مِمَّا تَقُولُ تَكَرُّمِي ... وَآبَاءُ صِدْقٍ سَابِقُونَ كِرَامُ وَيَمْنَعُهَا مِمَّا تَقُولُ صَلَاتُهَا ... وَحَالٌ لَهَا فِي قَوْمِهَا وَصِيَامُ فَهَاتَانِ حَالَانَا فَهَلْ أَنْتَ رَاجِعِي ... فَقَدْ جُبَّ مِنِّي كَاهِلٌ وَسَنَامٌ فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ الْكِتَابَ قَالَ: أَمَّا وَلِيُّ السُّلْطَانِ فَلَا، فَأَقْطَعَهُ دَارًا بِالْبَصْرَةِ وَدَارًا فِي سُوقِهَا. فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَكِبَ نَاقَتَهُ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ قُلْت: وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَخْرَجَ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ قَالَ لَهُ أَتَمَنَّى قَتْلَ نَفْسِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْفَ؟ قَالَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ} [النساء: 66] فَقَرَنَ هَذَا بِهَذَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا أَبْعَدْت وَلَكِنْ أَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] وَقَدْ أَضْعَفْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 لَك الْعَطَاءَ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا لَك عَنْ خُرُوجِك مِنْ بَلَدِك. وَزَادَ فِي الْأَبْيَاتِ الَّتِي كَتَبَهَا نَصْرٌ: وَمَا نِلْت ذَنْبًا غَيْرَ ظَنٍّ ظَنَنْته ... وَفِي بَعْضِ تَصْدِيقِ الظُّنُونِ آثَامُ أَأَنْ غَنَّتْ الْحَوْرَاءُ لَيْلًا بِمُنْيَةً الْبَيْتُ. وَزَادَ فِي أَبْيَاتِ الْفَارِعَةِ بِنْتِ هَمَّامٍ: مَا مُنْيَةُ إرَبٍ فِيهَا بِضَائِرَةٍ ... وَالنَّاسُ مِنْ هَالِكٍ فِيهَا وَمِنْ نَاجِي فَضُرِبَ بِهَا الْمَثَلُ فَقِيلَ أَصْبَى مِنْ الْمُتَمَنِّيَةِ وَهِيَ الْفَارِعَةُ، وَقِيلَ اسْمُهَا الْفُرَيْعَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ) حَيْثُ قُلْنَا بِحُرْمَةِ الشِّعْرِ الَّذِي أَفْرَطَ صَاحِبُهُ بِالْمِدْحَةِ بِإِعْطَائِهِ أَوْ بِالذَّمِّ بِمَنْعِهِ أَوْ تَشَبَّبَ فِيهِ بِمَدْحِ خَمْرٍ أَوْ أَمْرَدَ أَوْ امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَى مَا مَرَّ لَمْ تَحْرُمْ رِوَايَتُهُ كَمَا فِي الْفُرُوعِ وَالْمُغْنِي وَغَيْرِهِمَا. نَعَمْ نَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُرْوَى الْهِجَاءُ. وَفِي التَّرْغِيبِ فِي الْوَلِيمَةِ تَحْرِيمُ الْغَزَلِ بِصِفَةِ الْمُرْدِ وَالنِّسَاءِ الْمُهَيِّجَةِ لِلطِّبَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي وُجُوبِ كَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ الْمَحْظُورِ وَأَوْجِبْ عَنْ الْمَحْظُورِ كَفَّ جَوَارِحٍ ... وَنَدْبٌ عَنْ الْمَكْرُوهِ غَيْرُ مُشَدِّدِ (وَأَوْجِبْ) أَنْتَ أَيْ اعْتَقِدْهُ وَاجِبًا امْتِثَالًا لِلشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ مِنْ الْكِتَابِ الْقَدِيمِ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ. وَالْوَاجِبُ فِي اللُّغَةِ السَّاقِطُ وَالثَّابِتُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَجَبَ يَجِبُ وَجْبَةً سَقَطَ. وَالشَّمْسُ وَجْبًا وَوُجُوبًا غَابَتْ. وَالْوَجْبَةُ السَّقْطَةُ مَعَ الْهَدَّةِ وَصَوْتُ السَّاقِطِ. وَفِي الْمِصْبَاحِ: وَجَبَ الْحَقُّ وَالْمَبِيعُ يَجِبُ وُجُوبًا وَوَجْبَةً لَزِمَ وَثَبَتَ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الثُّبُوتِ «أَسْأَلُك مُوجِبَاتِ رَحْمَتِك» وَفِي الشَّرْعِ مَا ذُمَّ شَرْعًا تَارِكُهُ قَصْدًا مُطْلَقًا وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمْ مَا يُعَاقَبُ تَارِكُهُ أَوْ مَا تَوَعَّدَ عَلَى تَرْكِهِ وَنَحْوِهِمَا (عَنْ) ارْتِكَابِ الشَّيْءِ (الْمَحْظُورِ) أَيْ الْمَمْنُوعُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَامُ وَهُوَ مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ وَلَوْ قَوْلًا أَوْ عَمَلَ قَلْبٍ شَرْعًا وَيُسَمَّى مَمْنُوعًا وَمَزْجُورًا وَمَعْصِيَةً وَذَنْبًا وَقَبِيحًا وَسَيِّئَةً وَفَاحِشَةً وَإِثْمًا وَحَرَجًا وَتَحْرِيجًا وَعُقُوبَةً كَمَا فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ التَّحْرِيرِ (كَفٌّ) أَيْ صَرْفٌ وَدَفْعٌ وَمَنْعٌ، يُقَالُ كَفَفْتُهُ عَنْهُ دَفَعْته وَصَرَفْتُهُ كَكَفَفْتُهُ فَكَفَّ هُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ. وَفِي الْحَدِيثِ «أُمِرْت أَنْ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 أَكُفَّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا» يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى أَيْ لَا أَمْنَعُهُمَا مِنْ الِاسْتِرْسَالِ حَالَ السُّجُودِ لِيَقَعَا عَلَى الْأَرْضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ أَيْ لَا أَجْمَعُهُمَا وَأَضُمُّهُمَا كَمَا النِّهَايَةُ (جَوَارِحُ) جَمْعُ جَارِحَةٍ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا. وَدَلِيلُ وُجُوبِ كَفِّهَا عَنْ الْمَحْظُورِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْجَوَارِحِ وَصَوْنُهَا وَكَفُّهَا، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ هُنَا لِذِكْرِهِ إيَّاهُ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ، إذْ النَّهْيُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا أَسْلَفْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ آنِفًا، وَأَمَّا هُنَا فَذَكَرَ أَنَّ كَفَّهَا عَنْ الْمَحْظُورِ وَاجِبٌ كَكَفِّ يَدِهِ عَنْ سَرِقَةٍ وَغَصْبٍ وَقَتْلٍ وَجَرْحٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلِسَانِهِ عَنْ غِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَلَعْنٍ وَقَذْفٍ وَبَذَاءٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَفَرْجِهِ عَنْ زِنَاءٍ وَمُبَاضَعَةٍ وَمُسَاحَقَةٍ وَجِمَاعِ نَحْوِ زَوْجَةٍ فِي نَحْوِ حَيْضٍ وَاسْتِمْنَاءٍ. وَعَيْنِهِ عَنْ نَظَرِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ نَظَرُهُ. وَسَمْعِهِ مِنْ اسْتِمَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ غِيبَةٍ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا عَنْ سَمَاعِ الْمَلَاهِي وَمَا حُرِّمَ مِنْ الْغِنَاءِ. وَبَطْنِهِ مِنْ الْحَرَامِ، وَقَلْبِهِ عَنْ الْآثَامِ. وَاسْتِرْسَالِهِ مَعَ الْأَوْهَامِ. وَكَذَا بَقِيَّةُ أَعْضَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرَ مَحْظُورٍ بِأَنْ كَانَ نَهْيَ كَرَاهَةٍ فَكَفُّ الْجَوَارِحِ عَنْهُ (نَدْبٌ) لَا وُجُوبٌ، وَأَصْلُ النَّدْبِ الدُّعَاءُ لِأَمْرٍ مُهِمٍّ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانًا وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ يَخْرُجُ فِي سَبِيلِهِ» أَيْ أَجَابَ لَهُ طَلَبَ مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ. وَالِاسْمُ النُّدْبَةُ مِثْلُ غُرْفَةٍ. وَالْمَنْدُوبُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا أُثِيبَ فَاعِلُهُ كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَلَوْ قَوْلًا كَأَذْكَارِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، أَوْ عَمَلِ قَلْبٍ كَالْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يُعَاقَبْ تَارِكُهُ. وَيُسَمَّى الْمَنْدُوبُ سُنَّةً وَمُسْتَحَبًّا وَتَطَوُّعًا وَطَاعَةً وَنَفْلًا وَقُرْبَةً وَمُرَغَّبًا فِيهِ وَإِحْسَانًا. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي مُقْنِعِهِ: وَيُسَمَّى النَّدْبُ تَطَوُّعًا وَطَاعَةً وَنَفْلًا وَقُرْبَةً إجْمَاعًا وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَسَبِ اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ. وَأَمَّا الْمُحَدِّثُونَ فَيَخُصُّونَ الْمَسْنُونَ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْوُسْطَى: وَيَجِبُ كَفُّ يَدِهِ وَفَمِهِ وَفَرْجِهِ وَبَقِيَّةِ أَعْضَائِهِ عَمَّا يَحْرُمُ، وَيُسَنُّ (مِنْ الْمَكْرُوهِ) وَهُوَ ضِدُّ الْمَنْدُوبِ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْكَرَاهَةِ وَقِيلَ مِنْ الْكَرِيهَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ وَفِي اصْطِلَاحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أَهْلِ الشَّرْعِ مَا مُدِحَ تَارِكُهُ وَلَمْ يُذَمَّ فَاعِلُهُ وَلَا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ وَهُوَ تَكْلِيفٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ حَقِيقَةً، وَهُوَ فِي عُرْفِ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَ الْإِطْلَاقِ لِلتَّنْزِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (غَيْرُ مُشَدَّدٍ) لِأَنَّهُ لَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ وَلَا يُعَاقَبُ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ وَمُسِيءٌ وَغَيْرُ مُمْتَثِلٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَنْ زَادَ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَسَاءَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ فِيمَا إذَا وَافَقَ الْمَأْمُومُ إمَامَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ أَسَاءَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُذَمَّ وَلَمْ يَأْثَمْ. نَعَمْ ذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ كَالْقَاضِي يَأْثَمُ بِتَرْكِ السُّنَنِ أَكْثَرَ عُمْرِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ لِذَلِكَ أَوْ يُوهِمُ أَنَّ التَّرْكَ سُنَّةٌ. وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ إنَّهُ رَجُلُ سُوءٍ. مَطْلَبٌ: فِي التَّوَدُّدِ إلَى النَّاسِ وَأَنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ شَرْعًا وَطَبْعًا قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَجِبُ كَفُّ يَدِهِ وَفَمِهِ وَفَرْجِهِ وَبَقِيَّةِ أَعْضَائِهِ عَمَّا يَحْرُمُ وَيُسَنُّ عَمَّا يُكْرَهُ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا فِيمَنْ لَمْ يَضْطَرَّ إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا جَازَ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّا لَنُكَشِّرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ. قَالَ وَمَتَى قَدَرَ أَنْ لَا يُظْهِرَ مُوَافَقَتَهُمْ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مُوَافَقَةٌ عَلَى مُحَرَّمٍ وَلَا فِيهِ كَلَامٌ، وَإِنَّمَا فِيهِ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ خَاصَّةً لِلْمَصْلَحَةِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ. قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْت الَّذِي قُلْت ثُمَّ أَلَنْت لَهُ الْقَوْلَ،؟ قَالَ يَا عَائِشَةُ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ النَّاسُ أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» . قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ مُدَارَاةُ مَنْ يَتَّقِي فُحْشَهُ وَلَمْ يَمْدَحْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَثْنَى عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَلَا فِي قَفَاهُ إنَّمَا تَأَلَّفَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا مَعَ لِينِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ لِلْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ عَقِيلٍ كَمَا فِي الْفُنُونِ: اسْمَعْ وَصِيَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] وَأَسْمَعُ النَّاسَ يَعُدُّونَ مَنْ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ مُنَافِقًا فَكَيْفَ لِي بِطَاعَةِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 تَعَالَى وَالتَّخَلُّصِ مِنْ النِّفَاقِ؟ فَقَالَ النِّفَاقُ هُوَ إظْهَارُ الْجَمِيلِ وَإِبْطَانُ الْقَبِيحِ وَإِضْمَارُ الشَّرِّ مَعَ إظْهَارِ الْخَيْرِ لِإِيقَاعِ الشَّرِّ، وَاَلَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ إظْهَارُ الْحَسَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبِيحِ لِاسْتِدْعَاءِ الْحُسْنِ. قَالَ فِي الْآدَابِ: فَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ النِّفَاقَ إبْطَانُ الشَّرِّ وَإِظْهَارُ الْحُسْنِ لِإِيقَاعِ الشَّرِّ الْمُضْمَرِ، وَمَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ وَالْحُسْنَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَبِيحِ لِيَزُولَ الشَّرُّ فَلَيْسَ بِمُنَافِقٍ لَكِنَّهُ يَسْتَصْلِحُ، أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] فَهَذَا اكْتِسَابُ اسْتِمَالَةٍ وَدَفْعُ عَدَاوَةٍ وَإِطْفَاءٌ لِنِيرَانِ الْحَقَائِدِ، وَاسْتِنْمَاءِ الْوُدِّ وَإِصْلَاحُ الْعَقَائِدِ. فَهَذَا طَلَبُ الْمَوَدَّاتِ وَاكْتِسَابُ الرِّجَالِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «حُبُّك لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ» ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ «أَحْبِبْ حَبِيبَك هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَك يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَك هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَك يَوْمًا مَا» قَالَ فِي الْآدَابِ: إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا وَالصَّحِيحُ وَقْفُهُ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: وَأَبْغِضْ بَغِيضَك بُغْضًا رُوَيْدًا ... إذَا أَنْتَ حَاوَلْت أَنْ تَحْكُمَا وَأَحْبِبْ حَبِيبَك حُبًّا رُوَيْدًا ... فَلَيْسَ يَغُولُك أَنْ تَصْرُمَا وَقَالَ آخَرُ: وَأَحْبِبْ إذَا أَحْبَبْت حُبًّا مُقَارِبًا ... فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ نَازِعُ وَأَبْغِضْ إذَا أَبْغَضْت بُغْضًا مُقَارِبًا ... فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَتَى أَنْتَ رَاجِعُ (تَتِمَّةٌ) التَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا مُسْتَحْسَنٌ طَبْعًا. قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وَقَالَ {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ التَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ» . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَالتَّوَدُّدُ إلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ» إسْنَادُهُ فِيهِ لِينٌ وَالْأَوَّلَيْنِ ضَعِيفٌ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَا دُمْت حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمُو ... فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ الْمُدَارَاةِ مَنْ يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يَرَى ... عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ وَقَالَ زُهَيْرٌ: وَمَنْ لَا يُصَانِعْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوطَأْ بِمَنْسِمِ وَالْمَنْسِمُ الرِّجْلُ اسْتِعَارَةٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ لِلدَّوَابِّ. وَقَالَ آخَرُ: أُدَارِيهُمُو مَا دُمْت حَيًّا بِدَارِهِمْ ... وَأُرْضِيهُمُو مَا دُمْت فِي أَرْضِهِمْ أَسْعَى وَأَطْلُبُ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ مِنْهُمُو ... خَلَاصًا فَكَانُوا كَيْفَ قَلَبْتهمْ أَفْعَى وَفِي لَامِيَّةِ ابْنِ الْوَرْدِيِّ: دَارِ جَارَ الدَّارِ إنْ جَارَ وَإِنْ ... لَمْ تَجِدْ صَبْرًا فَمَا أَحْلَى النَّقْلَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدِ بْنِ شَرَفٍ الْقَيْرَوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ تَرُمْ مِنْ أَحْجَارِهِمْ ... مَطْلَبًا بِثَأْرِهِمْ يَا ثَاوِيًا فِي مَعْشَرٍ ... وَأَنْتَ فِي أَحْجَارِهِمْ أَوْ تُكْوَ مِنْ شِرَارِهِمْ ... عَلَى يَدَيْ شِرَارِهِمْ فَمَا بَقِيت جَارَهُمْ ... فَفِي هَوَاهُمْ جَارِهِمْ وَأَرْضِهِمْ فِي أَرْضِهِمْ ... وَدَارِهِمْ فِي دَارِهِمْ وَلَهُ أَيْضًا: إنْ تَلْقَك الْغُرْبَةُ فِي مَعْشَرٍ ... قَدْ جُبِلَ الطَّبْعُ عَلَى بُغْضِهِمْ فَدَارِهِمْ مَا دُمْت فِي دَارِهِمْ ... وَأَرْضِهِمْ مَا دُمْت فِي أَرْضِهِمْ وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مَرْفُوعًا «أُمِرْت بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أُمِرْت بِتَأْدِيَةِ الْفَرَائِضِ» وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَمْرُك بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ يَا فَتَى ... عَنْ الْمُنْكَرِ اجْعَلْ فَرْضَ عَيْنٍ تَسْدَدِ (وَأَمْرُك) أَيُّهَا الْمُتَخَلِّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّرِيعَةِ، الْمُتَحَقِّقُ بِأَوْصَافِهَا النَّفِيسَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الرَّفِيعَةِ، الْمُمْتَثِلُ لِأَوَامِرِهَا السَّدِيدَةِ الْمَنِيعَةِ، الْمُزْدَجِرُ عَنْ زَوَاجِرِهَا الشَّدِيدَةِ الْفَظِيعَةِ. (بِالْمَعْرُوفِ) وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ بِكُلِّ مَا نَدَبَ إلَيْهِ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ مِنْ الْمُحَسَّنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ، وَهُوَ مِنْ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ، أَيْ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ إذَا رَأَوْهُ لَا يُنْكِرُونَهُ. وَالْمَعْرُوفُ النَّصَفُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّ ذَلِكَ جَمِيعِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ «أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ» أَيْ مَنْ بَذَلَ مَعْرُوفَهُ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا آتَاهُ اللَّهُ جَزَاءَ مَعْرُوفِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ أَرَادَ مَنْ بَذَلَ جَاهَهُ لِأَصْحَابِ الْجَرَائِمِ الَّتِي لَا تَبْلُغُ الْحُدُودَ فَيَشْفَعُ فِيهِمْ شَفَّعَهُ اللَّهُ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي الْآخِرَةِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا مَعْنَاهُ قَالَ: يَأْتِي أَصْحَابُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُغْفَرُ لَهُمْ بِمَعْرُوفِهِمْ وَتَبْقَى حَسَنَاتُهُمْ جَامَّةً فَيُعْطُونَهَا لِمَنْ زَادَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَيُغْفَرُ لَهُ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيَجْتَمِعُ لَهُمْ الْإِحْسَانُ إلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَالنَّهْيُ) وَهُوَ ضِدُّ الْأَمْرِ. فَمِنْ صِيَغِ الْأَمْرِ: أَقِمْ الصَّلَاةَ، صُمْ رَمَضَانَ، اسْتَعْمِلْ الْخَيْرَاتِ، أَدِّ السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ. وَمِنْ صِيَغِ النَّهْيِ: لَا تَشْرَبْ الْخَمْرَ، لَا تَقْتُلْ النَّفْسَ، لَا تَزْنِ، لَا تَلُطْ، لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، لَا تُطْلِقْ بَصَرَك فِي حَرَمِ الْمُسْلِمِينَ، إلَى مَا لَا نِهَايَةَ (يَا فَتَى) تَقَدَّمَ أَنَّهُ الشَّابُّ وَالسَّخِيُّ الْكَرِيمُ جَمْعُهُ فِتْيَانٌ وَفُتُوَّةٌ (عَنْ) مُقَارَنَةِ الشَّيْءِ (الْمُنْكَرِ) ضِدُّ الْمَعْرُوفِ (اجْعَلْ) أَيْ اعْتَقِدْ وَاِتَّخِذْ (فَرْضَ عَيْنٍ) أَيْ لَازِمٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ وَالْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَالتَّأْثِيرُ كَفَرْضِ الْحَبْلُ الْحَجَرَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْفَرْضُ الْحَزُّ فِي الشَّيْءِ كَالْقَوْسِ مَوْقِعَ الْوَتَرِ. وَالْإِلْزَامُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] أَيْ أَوْجَبْنَا الْعَمَلَ بِهَا. وَالْإِنْزَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: 85] أَيْ أَنْزَلَهُ عَلَيْك. وَفِي الشَّرْعِ يُرَادِفُ الْوَاجِبَ، فَهُوَ مَا يُذَمُّ شَرْعًا تَارِكُهُ قَصْدًا مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مَعَ جَزْمٍ. ثُمَّ هُوَ قِسْمَانِ فَرْضُ عَيْنٍ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يَسْقُطُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 عَنْهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَرْضُ كِفَايَةٍ وَيَأْتِي فِي كَلَامِ النَّاظِمِ. وَقَدْ يَصِيرُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَرْضَ عَيْنٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّاظِمُ. وَقَوْلُهُ (تَسْدَدِ) مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ مِنْ قَوْلِهِ اجْعَلْ كَقَوْلِهِ {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} [الأنعام: 151] وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ وَتَقُولُ ائْتِنِي أُكْرِمْك أَيْ أَنْ تَجْعَلَ أَمْرَك بِالْمَعْرُوفِ فَرْضَ عَيْنٍ تَسْدَدْ، وَإِنَّمَا حُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ. وَالتَّسْدِيدُ التَّقْوِيمُ وَالتَّوْفِيقُ لِلسَّدَادِ، أَيْ الصَّوَابِ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالتَّوْفِيقُ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الْعَبْدِ، وَالْخِذْلَانُ ضِدُّهَا. عَلَى عَالِمٍ بِالْحَظْرِ وَالْفِعْلِ لَمْ يَقُمْ ... سِوَاهُ مَعَ أَمْنِ عُدْوَانِ مُعْتَدِ (عَلَى عَالِمٍ) مُتَعَلِّقٌ بِفَرْضِ عَيْنٍ (بِالْحَظْرِ) أَيْ الْمَنْعِ وَالْحُرْمَةُ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِعَالِمٍ (وَالْفِعْلُ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْفِعْلَ (لَمْ يَقُمْ) أَيْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِقَامَةِ (سِوَاهُ) أَيْ غَيْرُ ذَلِكَ بِالْعَالِمِ بِالْحَظْرِ (بِهِ) أَيْ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ إزَالَةُ ذَلِكَ الْمَحْظُورِ الَّذِي هُوَ الْمُنْكَرُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِيَقُمْ، وَجُمْلَةُ (وَالْفِعْلُ لَمْ يَقُمْ بِهِ) إلَخْ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ فِي حَقِّهِ فَرْضَ عَيْنٍ حَيْثُ عَلِمَ بِالْحَظْرِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ سِوَاهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ (مَعَ أَمْنٍ) مِنْ ضَرَرٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ أَوْ أَهْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَمْنُ (عُدْوَانِ مُعْتَدِّ) أَيْ ظُلْمُ ظَالِمِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: عَدَا عَلَيْهِ عَدْوًا وَعُدُوًّا وَعَدَاءً وَعُدْوَانًا بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَعُدْوَى بِالضَّمِّ: ظَلَمَهُ كَتَعَدَّى وَاعْتَدَى. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُنْهَى عَنْهُ شَرْعًا، فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ جَزْمًا وَشَاهَدَهُ وَعَرَفَ مَا يُنْكِرُ وَلَمْ يَخَفْ سَوْطًا وَلَا عَصًى وَلَا أَذًى. زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: يَزِيدُ عَلَى الْمُنْكَرِ أَوْ يُسَاوِيهِ، وَلَا فِتْنَةَ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ أَوْ أَهْلِهِ. وَأَطْلَقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ سُقُوطَهُ بِخَوْفِ الضَّرَرِ وَالْحَبْسِ وَأَخْذِ الْمَالِ، وَإِنَّهُ ظَاهِرٌ. نَقَلَ ابْنُ هَانِئٍ فِي إسْقَاطِهِ بِالْعَصَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَسْقَطَهُ أَيْضًا بِأَخْذِ الْمَالِ الْيَسِيرِ لَا بِالتَّوَهُّمِ. فَلَوْ قِيلَ لَهُ لَا تَأْمُرْ عَلَى فُلَانٍ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يَقْتُلُك لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ لِذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِرِ الْإِرْشَادِ: مِنْ شُرُوطِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى مَفْسَدَةٍ. وَحُكِيَ عَنْهُ فِي الْفُرُوعِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْفُنُونِ: مِنْ أَعْظَمِ مَنَافِعِ الْإِسْلَامِ وَآكَدِ قَوَاعِدِ الْأَدْيَانِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالتَّنَاصُحُ، فَهَذَا أَشَقُّ مَا يَحْمِلُهُ الْمُكَلَّفُ لِأَنَّهُ مَقَامُ الرُّسُلِ حَيْثُ يَنْقُلُ صَاحِبَهُ عَنْ الطِّبَاعِ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ نُفُوسُ أَهْلِ اللَّذَّاتِ، وَتَمْقُتُهُ أَهْلُ الْخَلَاعَةِ وَهُوَ إحْيَاءٌ لِلسُّنَنِ وَإِمَاتَةٌ لِلْبِدَعِ، إلَى أَنْ قَالَ: لَوْ سَكَتَ الْمُحِقُّونَ وَنَطَقَ الْمُبْطِلُونَ لَتَعَوَّدَ النَّشْءُ مَا شَاهَدُوا، وَأَنْكَرُوا مَا لَمْ يُشَاهِدُوا. فَمَتَى رَامَ الْمُتَدَيِّنُ إحْيَاءَ سُنَّةٍ أَنْكَرَهَا النَّاسُ فَظَنُّوهَا بِدْعَةً، وَقَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ، فَالْقَائِمُ بِهَا يُعَدُّ مُبْتَدِعًا وَمُبْدِعًا، كَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا سَاذَجًا، أَوْ كَتَبَ مُصْحَفًا بِلَا زُخْرُفٍ أَوْ صَعِدَ مِنْبَرًا فَلَمْ يَتَسَوَّدْ وَلَمْ يَدُقَّ سَيْفَ مَرَاقِي الْمِنْبَرِ، وَلَمْ يَصْعَدْ عَلَى عَلَمٍ وَلَا مَنَارَةٍ، وَلَا يَنْشُرُ عَلَمًا. فَالْوَيْلُ لَهُ مِنْ مُبْتَدِعٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ أَخْرَجَ مَيِّتًا لَهُ بِغَيْرِ صُرَاخٍ وَلَا تَخْرِيقٍ، وَلَا قَرَأَ وَلَا ذَكَرَ صَحَابَةً عَلَى النَّعْشِ وَلَا قَرَابَةً. انْتَهَى. فَالْبِدْعَةُ صَارَتْ مَأْلُوفَةً، وَالسُّنَنُ مُنْكَرَةً غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ، فَيَحْتَاجُ الْآمِرُ النَّاهِي إلَى مَزِيدِ صَبْرٍ وَتَسْلِيمٍ، وَاسْتِعَانَةٍ بِالْعَزِيزِ الْحَلِيمِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ: إذَا أَمَرْت أَوْ نَهَيْت فَلَمْ يَنْتَهِ فَلَا تَرْفَعْهُ إلَى السُّلْطَانِ لِيُعْدَى عَلَيْهِ. فَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ خَوْفَ التَّلَفِ، وَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قِيلَ كَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَا يُطِيقُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ بَعْضِهِمْ وُجُوبَ الْإِنْكَارِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَغَيْرِهَا. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَقِيلَ إنْ زَادَ يَعْنِي الْأَذَى عَلَى الْمُنْكَرِ وَجَبَ الْكَفُّ، وَإِنْ تَسَاوَيَا سَقَطَ الْإِنْكَارُ يَعْنِي وُجُوبَهُ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَأَمَّا السَّبُّ وَالشَّتْمُ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ فِي السُّكُوتِ لِأَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ يَلْقَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهُ عُذْرٌ لِأَنَّهُ أَذًى، وَلِهَذَا يَكُونُ تَأْدِيبًا وَتَعْزِيرًا، وَقَدْ قَالَ لَهُ يَعْنِي لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أَبُو دَاوُد يُشْتَمُ، قَالَ يَحْتَمِلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى لَا يُرِيدُ أَنْ يَنْتَصِرَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، إنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، إمَّا تَعْطِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِمَّا حُصُولُ فِتْنَةٍ وَمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ تَرْكِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوْ مِثْلِهَا أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، وَكِلَاهُمَا مَعْصِيَةٌ وَفَسَادٌ. قَالَ تَعَالَى {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17] فَمَنْ أَمَرَ وَلَمْ يَصْبِرْ، أَوْ صَبَرَ وَلَمْ يَأْمُرْ، أَوْ لَمْ يَأْمُرْ وَلَمْ يَصْبِرْ، حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ مَفْسَدَةٌ، وَإِنَّمَا الصَّلَاحُ فِي أَنْ يَأْمُرَ وَيَصْبِرَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي يُسْرِنَا وَعُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» . مَطْلَبٌ: هَلْ يُشْتَرَطُ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ رَجَاءَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ؟ . (تَنْبِيهٌ) : هَلْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ رَجَاءُ حُصُولِ الْمَقْصُودِ أَوْ لَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. نَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ الْوُجُوبَ، وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَكْسَهُ. قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْإِنْكَارُ إذَا عَلِمَ حُصُولَ الْمَقْصُودِ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ غَيْرُهُ، وَعَنْهُ إذَا رَجَا حُصُولَهُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقِيلَ يُنْكِرُهُ وَإِنْ أَيِسَ مِنْ زَوَالِهِ وَخَافَ أَذًى أَوْ فِتْنَةً. وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: إنَّمَا يَجُوزُ الْإِنْكَارُ فِيمَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَإِنْ خَافَ أَذًى، وَقِيلَ لَا، وَقِيلَ يَجِبُ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَيُخَيَّرُ فِي رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَجِبُ رَفْعُهُ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْإِنْكَارُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ، جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ. قَالَ الْقَاضِي خِلَافًا لِأَكْثَرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ قَبِيحٌ وَمَكْرُوهٌ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ. (وَالثَّانِي) : إظْهَارُ الْإِيمَانِ عِنْدَ ظُهُورِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ: حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ، وَصَحَّحَ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ فِي هَذَا فَقَالَ يَكُونُ لَك مَعْذِرَةً، وَهَذَا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى الْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمَنْ قَالَ لَهُمْ {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164] قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدْ وَرَدَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَبُولِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] فَقَالَ أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْتَهُوا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِنَفْسِك وَدَعْ عَنْك أَمْرَ الْعَوَامّ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ ذُكِرَتْ الْفِتْنَةُ فَقَالَ «إذَا رَأَيْتُمْ النَّاسَ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. فَقُمْت فَقُلْت كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك؟ قَالَ الْزَمْ بَيْتَك، وَامْلِكْ عَلَيْك لِسَانَك وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْك بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِك، وَدَعْ عَنْك أَمْرَ الْعَامَّةِ» وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قَالُوا لَمْ يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ، إنَّمَا تَأْوِيلُهَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. إذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْت لَك فَعَلَى الْعَالِمِ بِالْحَظْرِ وَالْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ الْقَائِمِ بِهِ غَيْرُهُ حَيْثُ أَمِنَ عَلَى مَا مَرَّ، الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. . مَطْلَبٌ: هَلْ يُشْتَرَطُ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الْعَدَالَةُ؟ وَلَوْ كَانَ ذَا فِسْقٍ وَجَهْلٍ وَفِي سِوَى ... الَّذِي قِيلَ فَرْضٌ بِالْكِفَايَةِ فَاحْدُدْ (وَلَوْ كَانَ) ذَلِكَ الشَّخْصُ الْآمِرُ وَالنَّاهِي (ذَا) أَيْ صَاحِبَ (فِسْقٍ) بِأَنْ فَعَلَ كَبِيرَةً وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا أَوْ أَصَرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ، إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ عَدْلًا فِي الْمُعْتَمَدِ، بَلْ الْإِمَامُ وَالْحَاكِمُ وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَالْعَدْلُ وَالْفَاسِقُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى. وَإِنَّمَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِلَوْ الْمُفِيدَةِ لِلْخِلَافِ خِلَافًا لِقَوْمٍ اعْتَبَرُوا فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي الْعَدَالَةَ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: قَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ لِفَاسِقٍ الْإِنْكَارُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ. انْتَهَى. وَالصَّحِيحُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِمَا. وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْكَافِرُ مَمْنُوعٌ مِنْ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّلْطَنَةِ وَالْعِزِّ. وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلِلْمُمَيِّزِ الْإِنْكَارُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ. نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُخَالِفَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ، بَلْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَأْتَمِرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَنْزَجِرُ عَنْهُ. فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَا، فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَالَك أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ بَلَى كُنْت آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ قِيلَ لِأُسَامَةَ لَوْ أَتَيْت عُثْمَانَ فَكَلَّمْته، فَقَالَ إنَّكُمْ لَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إلَّا أَنْ أُسْمِعَكُمْ، وَأَنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ، وَلَا أَقُولُ لِرَجُلٍ إنْ كَانَ عَلِيٌّ أَمِيرًا أَنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ وَمَا هُوَ قَالَ سَمِعْته يَقُولُ «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا شَأْنُك أَلَيْسَ كُنْت تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَيْ عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ كُنْت آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الشَّرِّ وَآتِيهِ» . وَإِنِّي سَمِعْته يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مَرَرْت بِأَقْوَامٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ خُطَبَاءُ أُمَّتِك الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْأَقْتَابُ الْأَمْعَاءُ وَاحِدُهَا قِتْبٌ بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَتَنْدَلِقُ أَيْ تَخْرُجُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جُنْدُبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرُقُ نَفْسَهُ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ «مَثَلُ الْفَتِيلَةِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْبَزَّارُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ» . وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي فُرُوعِهِ لِبَعْضِهِمْ: عَجِبْت لِمَنْ يَبْكِي عَلَى مَوْتِ غَيْرِهِ ... دُمُوعًا وَلَا يَبْكِي عَلَى مَوْتِهِ دَمَا وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ ... عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى وَأَنْشَدَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ فِي ابْنِ السَّمَّاكِ الْوَاعِظِ: يَا وَاعِظَ النَّاسِ قَدْ أَصْبَحْت مُتَّهَمًا ... إذْ عِبْت مِنْهُمْ أُمُورًا أَنْتَ آتِيهَا كَالْمُلْبِسِ الثَّوْبَ مِنْ عُرْيٍ وَعَوْرَتُهُ ... لِلنَّاسِ بَادِيَةٌ مِنْ أَنْ يُوَارِيَهَا وَأَعْظَمُ الْإِثْمِ بَعْدَ الشِّرْكِ تَعْلَمُهُ ... فِي كُلِّ نَفْسٍ عَمَاهَا عَنْ مُسَاوِيهَا عِرْفَانُهَا بِعُيُوبِ النَّاسِ تُبْصِرُهَا ... مِنْهُمْ وَلَا تُبْصِرُ الْعَيْبَ الَّذِي فِيهَا وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ لَطَائِفِ الْمَعَارِفِ قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ يُنْشِدُ فِي مَجْلِسِهِ: مَوَاعِظُ الْوَاعِظِ لَنْ تُقْبَلَا ... حَتَّى تَعِيَهَا نَفْسُهُ أَوَّلَا يَا قَوْمِ مَنْ أَظْلَمُ مِنْ وَاعِظٍ ... خَالَفَ مَا قَدْ قَالَهُ فِي الْمَلَا أَظْهَرَ بَيْنَ النَّاسِ إحْسَانَهُ ... وَبَارَزَ الرَّحْمَنَ لَمَّا خَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَأَنْشَدَ لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ قَوْلَهُ: وَبَّخْت غَيْرَك بِالْعَمَى فَأَفَدْتَهُ ... بَصَرًا وَأَنْتَ مُحْسِنٌ لِعَمَاكَا وَفَتِيلَةُ الْمِصْبَاحِ تَحْرِقُ نَفْسَهَا ... وَتُضِيءُ لِلْأَعْشَى وَأَنْتَ كَذَاكَا وَذَكَرَ أَنَّ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ السَّالِفَةِ: إذَا أَرَدْت أَنْ تَعِظَ النَّاسَ فَعِظْ نَفْسَك، فَإِنْ اتَّعَظَتْ وَإِلَّا فَاسْتَحِ مِنِّي، ثُمَّ أَنْشَدَ: وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْشَدَ أَيْضًا: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُقَوِّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّقْوِيمُ فَابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى ... بِالْقَوْلِ مِنْك وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ وَلَمَّا جَلَسَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ الْوَاعِظُ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ الصَّالِحَاتِ فَأَنْشَدَتْهُ: يَا وَاعِظًا قَامَ لِاحْتِسَابِ ... يَزْجُرُ قَوْمَهُ عَنْ الذُّنُوبِ تَنْهَى وَأَنْتَ الْمُرِيبُ حَقًّا ... هَذَا سَنُّ الْمُنْكَرِ الْعَجِيبِ لَوْ كُنْت أَصْلَحْت قَبْلَ هَذَا ... عَيْبَك أَوْ تُبْت مِنْ قَرِيبِ كَانَ لِمَا قُلْت يَا حَبِيبِي ... مَوْقِعُ صِدْقٍ مِنْ الْقُلُوبِ تَنْهَى عَنْ الْغَيِّ وَالتَّمَادِي ... وَأَنْتَ فِي النَّهْيِ كَالْمُرِيبِ قَالَ فِي اللَّطَائِفِ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ إنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تَفْضَحَك هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فَافْعَلْ وَإِلَّا فَابْدَأْ بِنَفْسِك، ثُمَّ تَلَا {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وَقَالَ تَعَالَى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وقَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] . فَإِنْ قَلْت: هَذِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ أَوْ الْآثَارُ الصَّرِيحَةُ تُعَيِّنُ اعْتِبَارَ عَدَالَةِ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ. وَنَحْنُ نَقُولُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا عَدْلًا، وَلَكِنْ فَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الْمُنْكَرِ. وَلَوْ لَمْ يَعِظْ النَّاسَ إلَّا مَعْصُومٌ أَوْ مَحْفُوظٌ لَتَعَطَّلَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعَ كَوْنِهِ دِعَامَةَ الدِّينِ، وَقَدْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَعِظْ النَّاسَ مَنْ هُوَ مُذْنِبٌ ... فَمَنْ يَعِظُ الْعَاصِينَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مُرُوا النَّاسَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلِّهِ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَتَنَاهَوْا عَنْهُ كُلِّهِ» . وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: إنَّ فُلَانًا لَا يَعِظُ وَيَقُولُ أَخَافُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ. فَقَالَ الْحَسَنُ: وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ؟ وَدَّ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِهَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّ أَمْرٍ حَتَّى عَلَى جُلَسَائِهِ وَشُرَكَائِهِ فِي الْمَعْصِيَةِ وَعَلَى نَفْسِهِ فَيُنْكِرُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ النَّاسَ مُكَلَّفُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . وَقَدْ ذَكَرْنَا عَدَمَ اعْتِبَارِ الْعِلْمِ فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي، فَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَ) لَوْ كَانَ الْآمِرُ وَالنَّاهِي ذَا (جَهْلٍ) ضِدُّ الْعِلْمِ وَهُوَ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ وَيُسَمَّى الْجَهْلَ الْبَسِيطَ، وَأَمَّا الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ فَهُوَ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ هَيْئَتِهِ لِأَنَّهُ جَهْلُ الْمُدْرَكِ بِمَا فِي الْوَاقِعِ مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِهِ كَاعْتِقَادِ الْفَلَاسِفَةِ قِدَمَ الْعَالَمِ. وَلَوْ كَانَ ذَا جَهْلٌ بَسِيطٍ عَذَرْته ... وَلَكِنَّهُ يُدْلِي بِجَهْلٍ مُرَكَّبِ (وَ) الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ (فِي سِوَى) أَيْ فِي غَيْرِ الْآمِرِ (الَّذِي قِيلَ) عَنْهُ إنَّهُ (فَرْضٌ) أَيْ فَرْضُ عَيْنٍ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَظْرِ وَالْفِعْلِ آمِنًا وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ (بِ) فَرْضِ (الْكِفَايَةِ) وَهُوَ مَا إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ، فَالْمَقْصُودُ حُصُولُهُ قَصْدًا ذَاتِيًّا، وَقَصْدُ الْفَاعِلِ فِيهِ تَبَعٌ لَا ذَاتِيٌّ، فَفَرْضُ الْكِفَايَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ كَغُسْلِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى النَّاسِ كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ لَا يَسَعُ عَامَّتَهُمْ تَرْكُهُ، وَإِذَا قَامَ بِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَتُهُ أَجْزَأَ عَنْهُمْ، وَإِذَا فَعَلَهُ الْجَمِيعُ مِنْهُمْ كَانَ فَرْضًا فِي حَقِّ الْجَمِيعِ لِعَدَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 مَا يَقْتَضِي تَمْيِيزَ بَعْضِهِمْ. وَفَرْضُ الْعَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، وَلِذَا وَجَبَ عَلَى الْأَعْيَانِ. وَهَذَا الْمُعْتَمَدُ، وَقِيلَ عَكْسُهُ لِكَوْنِهِ يَسْقُطُ بِهِ الطَّلَبُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي قَوْلِ النَّاظِمِ بِالْكِفَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (فَاحْدُدْ) وَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ. وَالْحَدُّ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْوَصْفُ الْمُحِيطُ بِمَوْصُوفِهِ الْمُمَيِّزِ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مُطَّرِدًا وَهُوَ الْمَانِعُ كُلَّمَا وُجِدَ الْحَدُّ وُجِدَ الْمَحْدُودُ مُنْعَكِسًا وَهُوَ الْجَامِعُ كُلَّمَا وُجِدَ الْمَحْدُودُ وُجِدَ الْحَدُّ، وَقَدْ عُلِمَ بِمَا ذَكَرْنَا حَدُّ فَرْضِ الْكِفَايَةِ. فَتَحَقَّقَ مِنْ كَلَامِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَدُورَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَفَرْضِ الْعَيْنِ. فَإِنْ عَلِمَ بِالْمَحْظُورِ وَعَلِمَ بِفِعْلِهِ وَلَمْ يَقُمْ سِوَاهُ بِإِزَالَتِهِ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ فِي حَقِّهِ فَرْضُ عَيْنٍ. وَإِنْ عَلِمَ أَوْ أَمِنَ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَقُومُ بِهِ سِوَاهُ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ. وَظَاهِرُ نِظَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ. نَعَمْ إذَا كَانَ فِي حَالَةٍ لَا يَجِبُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِأَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حُرْمَتِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا يَكُونُ فَضِيلَةً لَا وَاجِبًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَتِمَّةٌ) فِي أَحَادِيثَ وَرَدَتْ عَنْ خَيْرِ الْبَشَرِ، فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، غَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ، وَمَا سَيَأْتِي عَلَى الْأَثَرِ. أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ يَبْعَثُ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ يَرَى أَمْرَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لَا يَقُولُ فِيهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا مَنَعَك أَنْ تَقُولَ فِي كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ خَشِيَتْ النَّاسَ، فَيَقُولُ فَإِيَّايَ كُنْت أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَك، ثُمَّ يَلْقَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 مِنْ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ - تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [المائدة: 79 - 80] إلَى قَوْلِهِ {فَاسِقُونَ} [المائدة: 81] ثُمَّ قَالَ كَلًّا وَاَللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَاهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ لَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مُرْسَلًا. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَمَعْنَى تَأْطُرُوهُمْ أَيْ تَعْطِفُوهُمْ وَتَقْهَرُوهُمْ وَتُلْزِمُوهُمْ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ. انْتَهَى وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَطْرُ عَطْفُ الشَّيْءِ. وَفِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ لِابْنِ قُرْقُولٍ: وَالْأَطْرُ الْعَطْفُ، وَيُقَالُ مِنْهُ أَطَرْت الشَّيْءَ آطِرُهُ أَطْرًا إذَا عَطَفْته. وَفِي الْحَدِيثِ «فَيَأْطُرُهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» انْتَهَى. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَلَفْظُ النَّسَائِيّ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ الْقَوْمَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ» . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كُنَّا نَسْمَعُ أَنَّ الرَّجُلَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ لَهُ مَالَك إلَيَّ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَك مَعْرِفَةٌ، فَيَقُولُ كُنْت تَرَانِي عَلَى الْخَطَأِ أَوْ عَلَى الْمُنْكَرِ وَلَا تَنْهَانِي» ذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ. قَالَ ذَكَرَهُ رَزِينٌ وَلَمْ أَرَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. . وَبِالْعُلَمَا يَخْتَصُّ مَا اخْتَصَّ عِلْمُهُ ... بِهِمْ وَبِمَنْ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ قَدْ (وَبِالْعُلَمَا) بِالْأَحْكَامِ، الْقَائِمِينَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. الْحَافِظِينَ شَرِيعَةَ خَيْرِ الْأَنَامِ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، مِنْ مَنْدُوبٍ وَمُبَاحٍ وَمَكْرُوهٍ، وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ. وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (يَخْتَصُّ) مِنْ عُمُومِ وُجُوبِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ (مَا) أَيْ مُنْكَرٌ (اخْتَصَّ عِلْمُهُ) أَيْ عِلْمُ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ (بِهِمْ) أَيْ بِالْعُلَمَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ: وَمَا اخْتَصَّ عِلْمُهُ بِالْعُلَمَاءِ اخْتَصَّ إنْكَارُهُ بِهِمْ وَبِمَنْ يَأْمُرُونَهُ بِهِ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْعَوَامِّ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَ) يَخْتَصُّ إنْكَارُهُ أَيْضًا (بِمَنْ) أَيْ بِاَلَّذِي (يَسْتَنْصِرُونَ) أَيْ يَطْلُبُونَ النَّصْرَ (بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْمُسْتَنْصَرِ بِهِ عَلَى إزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، يُقَالُ نَصَرَهُ يَنْصُرُهُ نَصْرًا إذَا أَعَانَهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَنَصَرَهُ مِنْهُ نَجَّاهُ وَخَلَّصَهُ، وَالنَّصِيرُ النَّاصِرُ. وَقَوْلُهُ (قَدْ) هِيَ اسْمٌ مُرَادِفٌ لِحَسْبِ تُسْتَعْمَلُ مَبْنِيَّةً غَالِبًا عَلَى السُّكُونِ وَتُسْتَعْمَلُ مُعْرَبَةً (قَدْ زِيدَ دِرْهَمٌ) بِالرَّفْعِ، وَفِي كَلَامِ النَّاظِمِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ وَحُرِّكَتْ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ أَيْ يَخْتَصُّ إنْكَارُهُ بِالْعُلَمَاءِ أَوْ بِمَنْ يَأْمُرُونَهُ بِهِ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْعَوَامِّ دُونَ غَيْرِهِمْ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَمَنْ وَلَّاهُ السُّلْطَانُ الْحِسْبَةَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ كَسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي لَيْسَ لَهُ سَمَاعُهَا وَإِنْ دَعَا الْإِمَامُ أَعْنِي السُّلْطَانَ الْعَامَّةَ إلَى شَيْءٍ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ لَزِمَهُمْ سُؤَالُ الْعُلَمَاءِ فَإِنْ أَفْتَوْا بِوُجُوبِهِ قَامُوا بِهِ، وَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أَخْبَرُوا بِتَحْرِيمِهِ امْتَنَعُوا مِنْهُ، وَإِنْ قَالُوا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَقَالَ السُّلْطَانُ يَجِبُ لَزِمَهُمْ طَاعَتُهُ كَمَا يَجِبُ طَاعَتُهُ فِي الْحُكْمِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُعْتَقَدِهِ: وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ أَمْ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ وَلَا يَنْهَى، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَا يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَلَا يُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ، وَرُوِيَ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِخِلَافِ ذَلِكَ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ فِي الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالْقَوْمِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ: يَنْهَاهُمْ وَيَعِظُهُمْ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَنَهَاهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَأَخَذَ الشِّطْرَنْجَ فَرَمَى بِهِ، فَقَالَ قَدْ أَحْسَنَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِيمَنْ يَمُرُّ بِالْقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ: يَقْلِبُهَا عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يُغَطُّوهَا وَيَسْتُرُوهَا. وَصَلَّى سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمًا إلَى جَنْبِ رَجُلٍ لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ، فَقَالَ: يَا هَذَا، أَقِمْ صُلْبَك وَأَحْسِنْ صَلَاتَك، نَقَلَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ رِضْوَانَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ إبْطَالِ التَّحْلِيلِ: قَوْلُهُمْ وَمَسَائِلُ الْخِلَافِ لَا إنْكَارَ فِيهَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ إمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْقَوْلِ بِالْحُكْمِ أَوْ الْعَمَلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ يُخَالِفُ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا قَدِيمًا وَجَبَ إنْكَارُهُ وِفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُنْكِرُ بِمَعْنَى بَيَانِ ضَعْفِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَهُمْ عَامَّةُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا الْعَمَلُ إذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ وَجَبَ إنْكَارُهُ أَيْضًا بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الْإِنْكَارِ، كَمَا يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ سُنَّةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبِعَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهَا مَسَاغٌ فَلَا يُنْكِرُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا، وَإِنَّمَا دَخَلَ هَذَا اللَّبْسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَسَائِلَ الْخِلَافِ هِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ، كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ، قَالَ وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وُجُوبًا ظَاهِرًا مِثْلَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِي جِنْسِهِ فَيَسُوغُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 إذَا عُدِمَ ذَلِكَ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الْمُقَارِبَةِ أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً طَعْنٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ كَسَائِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ. وَقَدْ تَيَقَّنَّا صِحَّةَ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِيهَا، مِثْلَ كَوْنِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَأَنَّ الْجِمَاعَ الْمُجَرَّدَ عَنْ إنْزَالٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ وَالْمُتْعَةِ حَرَامٌ. وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ رَحِمَهُ اللَّهِ وَرَضِيَ عَنْهُ: يُعِيدُ مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ وَمَنْ لَمْ يُوَقِّتْ الْمَسْحَ نَصَّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مُتَأَوِّلٍ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ فَإِنَّهُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَالْآثَارِ فِيهِ، فَأَفْهَمَنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى عَدَمُ الْإِنْكَارِ فِي مَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ حَيْثُ لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا صَرِيحًا مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ وَإِجْمَاعٍ قَدِيمٍ. وَأَمَّا مَتَى خَالَفَتْ ذَلِكَ سَاغَ الْإِنْكَارُ، وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ مَتَى تَعَارَضَ سُنَّتَانِ فَلَا يَخْلُو، فَإِمَّا أَنْ تُقَارِبَهَا فِي الصِّحَّةِ بِحَيْثُ يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهَا، وَتَصْلُحَ أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ فَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا يَسُوغُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهَا وَإِلَّا سَاغَ الْإِنْكَارُ، فَلَاعِبُ الشِّطْرَنْجِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَتَارِكُ الطُّمَأْنِينَةِ، لِصِحَّةِ السُّنَّةِ فِي الثَّانِيَةِ وَكَثْرَتِهَا فِي الْأُولَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: فِيمَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا وَخَالَفَهُ بِلَا دَلِيلٍ (تَنْبِيهٌ) : قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ الْكُبْرَى: مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا أُنْكِرُ عَلَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا تَقْلِيدٍ سَائِغٍ وَلَا عُذْرٍ. كَذَا ذَكَرَ فِي الرِّعَايَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَلْزَمُ كُلَّ مُقَلِّدٍ أَنْ يَلْتَزِمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فِي الْأَشْهَرِ وَلَا يُقَلِّدَ غَيْرَ أَهْلِهِ، وَقِيلَ بَلَى، وَقِيلَ ضَرُورَةٌ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ: مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ، وَعَامِلًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ، فَاعِلًا لِلْمُحَرَّمِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَهَذَا مُنْكَرٌ، قَالَ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا ثُمَّ يَعْتَقِدَهُ غَيْرَ وَاجِبٍ وَلَا حَرَامٍ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِشُفْعَةِ الْجِوَارِ فَيَعْتَقِدَ أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ ثُمَّ إذَا طُلِبَتْ مِنْهُ شُفْعَةُ الْجِوَارِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 لَيْسَتْ ثَابِتَةً. أَوْ مِثْلُ مَنْ يَعْتَقِدُ إذَا كَانَ أَخًا مَعَ جَدٍّ أَنَّ الْإِخْوَةَ تُقَاسِمُ الْجَدَّ فَإِذَا صَارَ جَدًّا مَعَ أَخٍ اعْتَقَدَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ. وَإِذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يَفْعَلُ بَعْضَ الْأُمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ وَحُضُورِ السَّمَاعِ إنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ وَيُنْكَرَ عَلَيْهِ. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَدِيقُهُ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ، فَمِثْلَ هَذَا مِمَّنْ يَكُونُ فِي اعْتِقَادِهِ حِلَّ الشَّيْءِ وَحُرْمَتُهُ، وَوُجُوبُهُ وَسُقُوطُهُ بِحَسَبِ هَوَاهُ مَذْمُومٌ مَجْرُوحٌ خَارِجٌ عَنْ الْعَدَالَةِ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ إمَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ إنْ كَانَ يَفْهَمُهَا وَيَعْلَمُهَا، وَإِمَّا بِأَنْ يَرَى أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ أَعْلَمَ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْآخَرِ وَهُوَ أَتْقَى لِلَّهِ فِيمَا يَقُولُهُ فَيَرْجِعَ عَنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمِثْلِ هَذَا، فَهَذَا يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ، وَفْد نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُفِعَتْ فَتْوَى لِلْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ وَالْقُدْوَةِ الْفَهَّامَةِ خَاتِمَةِ الْمُحَقِّقِينَ وَوَاسِطَةِ عِقْدِ الْمُرَجَّحِينَ الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمِرْدَاوِيِّ صَاحِبِ الْإِنْصَافِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهِيَ: هَلْ لِلْحَاكِمِ الْحَنْبَلِيِّ أَنْ يَحْكُمَ فِي مَسْأَلَةٍ الْخِلَافُ فِيهَا مُطْلَقٌ بِالصِّحَّةِ تَارَةً عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَبِالْبُطْلَانِ أُخْرَى عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ؟ أَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا الْحُكْمُ بِالتَّشَهِّي فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بَلْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ قَالَ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ بِالتَّشَهِّي، وَهَذَا لَا يَسُوغُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى شَيْءٍ سَاغَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ، ثُمَّ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ عَمِلَ بِالثَّانِي. وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالتَّشَهِّي فَزَنْدَقَةٌ، وَلَا يَصِحُّ حُكْمُهُ وَلَا تَوْلِيَتُهُ الْقَضَاءَ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] وَبِمِثْلِهِ أَفْتَى الشَّبْشِينِيُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: فِي مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ: وَأَضْعَفُهُ بِالْقَلْبِ ثُمَّ لِسَانِهِ وَأَقْوَاهُ ... إنْكَارُ الْفَتَى الْجَلْدِ بِالْيَدِ (وَأَضْعَفُهُ) أَيْ أَضْعَفُ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ يَكُونُ (بِالْقَلْبِ) دُونَ اللِّسَانِ وَالْيَدِ فَإِنْ قِيلَ أَيُّ تَغْيِيرٍ حَصَلَ بِإِنْكَارِ الْقَلْبِ؟ فَالْجَوَابُ الْمُرَادُ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وَلَا يَرْضَاهُ، وَيَشْتَغِلَ بِذِكْرِ مَوْلَاهُ، جَلَّ شَأْنُهُ، وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ. وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَامِلِينَ بِذَلِكَ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِنْعَامًا، فَقَالَ {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] فَإِذَا كَرِهَ الْمُؤْمِنُ الْمُنْكَرَ وَنَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِهِ لَغَيَّرَهُ كَانَ فِي قُوَّةِ تَغْيِيرِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ إيجَابُ عَيْنِ كَرَاهَةِ مَا كَرِهَهُ مَوْلَاهُ وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَ «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» (ثُمَّ) أَرْقَى مِنْ الْإِنْكَارِ بِالْقَلْبِ فَقَطْ الْإِنْكَارُ بِ (لِسَانِهِ) أَيْ أَنْ يُنْكِرَ الْمُنْكَرَ بِلِسَانِهِ بِأَنْ يَصِيحَ عَلَيْهِمْ فَيَتْرُكُونَهُ أَوْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُغَيِّرُهُ (وَأَقْوَاهُ) أَيْ أَقْوَى مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ (إنْكَارُ الْفَتَى) أَيْ الشَّخْصِ الْمُؤْمِنِ (الْجَلْدِ) بِسُكُونِ اللَّامِ أَيْ الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ، وَيُقَالُ لَهُ جَلِيدٌ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ «كَانَ أَجْوَفَ جَلِيدًا» أَيْ قَوِيًّا شَدِيدًا، فَهُوَ صِفَةٌ لِلْفَتَى (بِالْيَدِ) مُتَعَلِّقٌ بِإِنْكَارِ الْفَتَى، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ قَبْلِي إلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يَقُولُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» . وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَرْفُوعًا «يُوشِكُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ تَهْلَكَ إلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، رَجُلٌ أَنْكَرَ بِيَدِهِ وَبِلِسَانِهِ وَبِقَلْبِهِ، فَإِنْ جَبُنَ بِيَدِهِ فَبِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، فَإِنْ جَبُنَ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ فَبِقَلْبِهِ» . وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَرْفُوعًا «سَتَكُونُ بَعْدِي فِتَنٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُؤْمِنُ فِيهَا أَنْ يُغَيِّرَ بِيَدٍ وَلَا بِلِسَانٍ. قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ يُنْكِرُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ. قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يُنْقِصُ ذَلِكَ إيمَانَهُمْ شَيْئًا؟ قَالَ لَا إلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْقَطْرُ مِنْ الصَّفَا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مَرْفُوعًا. فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَنَحْوُهَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَمَنْ لَمْ يُنْكِرْ قَلْبُهُ الْمُنْكَرَ دَلَّ عَلَى ذَهَابِ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ " إنَّ أَوَّلَ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ، ثُمَّ الْجِهَادُ بِأَلْسِنَتِكُمْ، ثُمَّ الْجِهَادُ بِقُلُوبِكُمْ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَلْبُهُ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرْ قَلْبُهُ الْمُنْكَرَ نُكِسَ فَجَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ. وَسَمِعَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلًا يَقُولُ هَلَكَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ. يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ هَلَكَ. وَأَمَّا الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ الْعُرْسِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا عُمِلَتْ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: فَمَنْ شَهِدَ الْخَطِيئَةَ فَكَرِهَهَا بِقَلْبِهِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا إذَا عَجَزَ عَنْ إنْكَارِهَا بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا وَقَدَرَ عَلَى إنْكَارِهَا وَلَمْ يُنْكِرْهَا، لِأَنَّ الرِّضَا بِالْخَطَايَا مِنْ أَقْبَحِ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَفُوتُ بِهِ إنْكَارُ الْخَطِيئَةِ بِالْقَلْبِ وَهُوَ مَرَضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ. فَأَفْهَمَنَا كَلَامُهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِي عَلَى مَا أَسْلَفْنَا بِأَنَّ مُرَادَهُمْ الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ اللَّذَيْنِ يَحْصُلُ تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَأَمَّا الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. وَهَذِهِ فَائِدَةٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَضَرَ مَعْصِيَةً فَكَرِهَهَا فَكَأَنَّهُ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَأَحَبَّهَا فَكَأَنَّهُ حَضَرَهَا» وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي قَبْلَهُ. قَالَ الْحَافِظُ: فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ حَالٍ. فَهَذَا صَرِيحٌ مِنْهُ بِمَا فَهِمْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 يَجِبُ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِ إنْكَارُ مَا يُغْضِبُ الْجَبَّارَ جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَسْأَلُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ مَا مَنَعَك إذْ رَأَيْت الْمُنْكَرَ أَنْ تُنْكِرَهُ. فَإِذَا لَقَّنَ اللَّهُ عَبْدًا حُجَّتَهُ قَالَ يَا رَبِّ رَجَوْتُك وَفَرَقْت النَّاسَ» . وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَيَقُولُ اللَّهُ مَا مَنَعَك أَنْ تَقُولَ فِي كَذَا وَكَذَا فَيَقُولَ خَشْيَةُ النَّاسِ فَيَقُولُ إيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى» . وَمَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إذَا عَلِمَهُ» وَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ وَقَالَ قَدْ وَاَللَّهِ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا. وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَزَادَ فِيهِ «فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يُقَالَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ» فَمَحْمُولَاتٌ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ لَهُ مِنْ الْإِنْكَارِ مُجَرَّدُ الْهَيْبَةِ دُونَ الْخَوْفِ الْمُسْقِطِ لِلْإِنْكَارِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ: مُرَادُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ يَعْنِي فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ «لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ» أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ، لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ، وَلِهَذَا قَالَ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ، فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ فَعَلَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ. قَالَ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَيْفَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ وَهُوَ أَضْعَفُ. قُلْت: كَيْفَ بِالْيَدِ؟ قَالَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ. وَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَرَّ عَلَى صِبْيَانِ الْكُتَّابِ يَقْتَتِلُونَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ لَيْسَ بِالسَّيْفِ وَالسِّلَاحِ. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ هَذَا جَوَازُ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ إذَا لَمْ يُفْضِ إلَى الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَرَكَ مَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ بِلَا عُذْرٍ. زَادَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: بِلَا عُذْرٍ ظَاهِرٍ وَجَبَ الْإِنْكَارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 عَلَيْهِ وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ الْمَطْلُوبَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. وَلَا يُنْكِرُ سَيْفٌ إلَّا مَعَ سُلْطَانٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الضَّرْبُ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ إشْهَارُ سِلَاحٍ أَوْ سَيْفٍ يَجُوزُ لِلْآحَادِ بِشَرْطِ الضَّرُورَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَإِنْ احْتَاجَ إلَى أَعْوَانٍ يُشْهِرُونَ السِّلَاحَ فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِ السُّلْطَانِ عَلَى الصَّحِيحِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْفِتَنِ وَهَيَجَانِ الْفَسَادِ وَالْمِحَنِ. . [تَنْبِيهَاتٌ مُهِمَّةٌ: فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ] (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ تَارَةً يُحْمَلُ عَلَيْهِ رَجَاءَ ثَوَابِهِ وَتَارَةً خَوْفَ الْعِقَابِ فِي تَرْكِهِ، وَتَارَةً الْغَضَبُ لِلَّهِ عَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ، وَتَارَةً النَّصِيحَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالرَّحْمَةُ لَهُمْ وَرَجَاءَ إنْقَاذِهِمْ مِمَّا أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِغَضَبِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَارَةً يُحْمَلُ عَلَيْهِ إجْلَالُ اللَّهِ وَإِعْظَامُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ، وَأَنْ يُفْتَدَى مِنْ انْتِهَاك مَحَارِمِهِ بِالنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَدِدْت أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ أَطَاعُوا اللَّهَ وَأَنَّ لَحْمِي قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ وَتَقَدَّمَ. فَمَنْ لَحَظَ هَذَا الْمَقَامَ، هَانَ عَلَيْهِ مَا يَلْقَى مِنْ الْآلَامِ، وَرُبَّمَا دَعَا لِمَنْ آذَاهُ، لِكَوْنِ ذَلِكَ فِي اللَّهِ، كَمَا «دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» . . (الثَّانِي) : الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَاجِبٌ. وَفِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ وَفِعْلِ الْمَكْرُوهِ مَنْدُوبٌ. قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِرِ الْإِرْشَادِ. وَقَالَ غَيْرُهُ أَيْضًا كَمَا فِي الْآدَابِ: فَمِنْ الْقَبِيحِ مَا يَصْلُحُ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، كَالرَّمْيِ بِالسِّهَامِ وَاِتِّخَاذِ الْحَمَامِ وَالْعِلَاجِ بِالسِّلَاحِ، لِأَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ الْحَرْبِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الْعَدُوِّ، وَلَيُرْسِلَ عَلَى الْحَمَامِ الْكُتُبَ وَالْمُهِمَّاتِ لِحَوَائِجِ السُّلْطَانِ وَالْمُسْلِمِينَ حَسَنٌ لَا يَجُوزُ إنْكَارُهُ. وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ الِاجْتِمَاعَ عَلَى السُّخْفِ وَاللَّهْوِ وَمُعَاشَرَةِ ذَوِي الرِّيَبِ وَالْمَعَاصِي فَذَلِكَ قَبِيحٌ يَجِبُ إنْكَارُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَقِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ عَنْ حَبْسِ الطَّيْرِ لِطِيبِ نَغْمَتِهَا، فَقَالَ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ: سَفَهٌ وَبَطَرٌ يَكْفِينَا أَنْ نَقْدُمَ عَلَى ذَبْحِهَا لِلْأَكْلِ فَحَسْبُ، لِأَنَّ الْهَوَاتِفَ مِنْ الْحَمَامِ رُبَّمَا هَتَفَتْ نِيَاحَةً عَلَى الطَّيَرَانِ وَذِكْرِ فِرَاخِهَا، أَفَيَحْسُنُ بِعَاقِلٍ أَنْ يُعَذِّبَ حَيًّا لِيَتَرَنَّمَ فَيَلْتَذَّ بِنِيَاحَتِهِ، فَقَدْ مَنَعَ مِنْ هَذَا أَصْحَابُنَا وَسَمَّوْهُ سَفَهًا. انْتَهَى. وَأَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ كَثْرَةَ تَرَنُّمِ الطُّيُورِ عَلَى تَذَكُّرِهَا إلْفَهَا مِنْ الْأَمَاكِنِ الشَّاسِعَةِ، وَالْأَغْذِيَةِ النَّاصِعَةِ، وَالْقَرِينِ الْمُصَافِي، وَالْمَاءِ الْعَذْبِ الصَّافِي، وَالْإِطْلَاقِ الرَّحِيبِ، وَمُخَالَطَةِ الْحَبِيبِ، مَعَ الْوَكْرِ الْمُشْتَهَى لَدَيْهَا، وَالْأَغْصَانِ وَالْعُكُوفِ عَلَيْهَا. وَيُعْجِبُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا حُبِسَ فِي قَلْعَةِ جِلِّقِ الْمَحْرُوسَةِ فَضَاقَ بِهِ الْخِنَاقُ، وَبَلَغَتْ مِنْهُ الرُّوحُ التَّرَاقِ، فَدَخَلَتْ إلَيَّ عِنْدَ الْمَحَابِيسِ، وَكَانَ فِي الْحَبْسِ اثْنَانِ مِنْ الدَّيْرَةِ فَقَالَ لِي الْأَعْرَابِيُّ يَا سَيِّدِي أَنَا أَقُولُ قَاتَلَ اللَّهُ حَابِسَ الطَّيْرِ فِي الْأَقْفَاصِ فَإِنَّهُ لِشَجْوِهِ وَغُرْمِهِ يَتَرَنَّمُ وَالْحَابِسُ لَهُ بِشَجْوِهِ وَعَذَابِهِ وَبِلْبَالِهِ يَتَنَعَّمُ، وَلَوْ عَرَفَ مَا فِي جَوْفِهِ مِنْ اللَّهِيبِ النَّاشِئِ عَنْ فِرَاقِ الْإِلْفِ الْحَبِيبِ وَالْمَكَانِ الرَّحِيبِ، لَكَانَ إلَى اُلْبُكَا وَالْوَصَبِ، أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى التَّنَعُّمِ وَالطَّرَبِ، وَلَكِنْ هَانَ عَلَى الْخَلِيِّ، مَا يَلْقَى الْمَلِيُّ. فَقُلْت لَهُ وَمِنْ أَيْنَ عَرَفْت أَنْتَ هَذَا؟ فَقَالَ قِسْته عَلَى نَفْسِي، وَشَبَّهْت حَبْسَهُ بِحَبْسِي، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنَّا نَشَأَ فِي الْفَلَاةِ الْوَاسِعَةِ، وَالْأَقْطَارِ الشَّاسِعَةِ. فَانْظُرْ حَالَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ مَعَ جَفَائِهِ وَغَبَاوَتِهِ، وَعَدَمِ مُخَالَطَتِهِ لِذَوِي الْعُلُومِ وَقِلَّةِ دِرَايَتِهِ، كَيْفَ أَدْرَكَ هَذَا الْمُدْرَكَ، تَجِدْهُ قَدْ أَصَابَ فِي قِيَاسِهِ وَأَدْرَكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. . (الثَّالِثُ) : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى سُلْطَانٍ إلَّا وَعْظًا وَتَخْوِيفًا لَهُ، أَوْ تَحْذِيرًا مِنْ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيَجِبُ. قَالَ الْقَاضِي وَيَحْرُمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَالْمُرَادُ وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ بِالتَّخْوِيفِ وَالتَّحْذِيرِ وَإِلَّا سَقَطَ، وَكَانَ حُكْمُ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ. قَالَ حَنْبَلٌ: اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ فِي وِلَايَةِ الْوَاثِقِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَالُوا لَهُ إنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا، يَعْنُونَ إظْهَارَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا نَرْضَى بِإِمَارَتِهِ وَلَا سُلْطَانِهِ، فَنَاظَرَهُمْ فِي ذَلِكَ وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالْإِنْكَارِ بِقُلُوبِكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وَلَا تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ وَلَا تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَدِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَكُمْ، وَانْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكُمْ، وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَيُسْتَرَاحُ مِنْ فَاجِرٍ. وَقَالَ لَيْسَ هَذَا يَعْنِي نَزْعَهُمْ أَيْدِيَهُمْ مِنْ طَاعَتِهِ صَوَابًا، هَذَا خِلَافُ الْآثَارِ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَأْمُرُ بِالْكَفِّ عَنْ الْأُمَرَاءِ وَيُنْكِرُ الْخُرُوجَ إنْكَارًا شَدِيدًا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ: الْكَفُّ أَيْ يَجِبُ الْكَفُّ لِأَنَّا نَجِدُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا صَلُّوا فَلَا» أَيْ فَلَا تُنْزَعُ يَدُ طَاعَتِهِمْ مُدَّةَ دَوَامِهِمْ يُصَلُّونَ. خِلَافًا لِلْمُتَكَلِّمِينَ فِي جَوَازِ قِتَالِهِمْ كَالْبُغَاةِ. وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا الظَّاهِرُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِ الْبُغَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} [الحجرات: 9] الْآيَةَ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَمْرٌ بِالْكَفِّ عَنْ الْأَئِمَّةِ بِالْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا مَعْنًى فَإِنَّ الْخَوَارِجَ يُقَاتِلُونَ بِالْإِمَامِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا يَحْصُلُ قِتَالُهُمْ بِغَيْرِ إمَامٍ انْتَهَى. قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ الْجَمَاعَةَ حَبْلُ اللَّهِ فَاعْتَصِمُوا ... مِنْهُ بِعُرْوَتِهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَا كَمْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ مُعْضِلَةً ... فِي دِينِنَا رَحْمَةً مِنْهُ وَدُنْيَانَا لَوْلَا الْخِلَافَةُ لَمْ تَأْمَنْ لَنَا سُبُلٌ ... وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا وَفِي وَصِيَّةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ احْفَظْ عَنِّي مَا أُوصِيك بِهِ: " إمَامٌ عَدْلٌ خَيْرٌ مِنْ مَطَرٍ وَبْلٍ. وَأَسَدٌ خَطُومٌ خَيْرٌ مِنْ إمَامٍ ظَلُومٍ. وَإِمَامٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْجَائِزُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ السَّلَاطِينِ التَّعْرِيفُ وَالْوَعْظُ. فَأَمَّا تَخْشِينُ الْقَوْلِ نَحْوُ يَا ظَالِمُ يَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُحَرِّكُ فِتْنَةً يَتَعَدَّى شَرُّهَا إلَى الْغَيْرِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ وَاَلَّذِي أَرَاهُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إزَالَةُ الْمُنْكَرِ وَحَمْلُ السُّلْطَانِ بِالِانْبِسَاطِ عَلَيْهِ أَيْ حَمْلُهُ السُّلْطَانَ عَلَى أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ فِي التَّعَدِّي عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ فِعْلِ الْمُنْكَرِ الَّذِي قَصَدَ إزَالَتَهُ. وَقَدْ قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُتَعَرَّضُ بِالسُّلْطَانِ، فَإِنَّ سَيْفَهُ مَسْلُولٌ، وَعَصَاهُ. فَأَمَّا مَا جَرَى لِلسَّلَفِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِأُمَرَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الْعُلَمَاءَ، فَإِذَا انْبَسَطُوا عَلَيْهِمْ احْتَمَلُوهُمْ فِي الْأَغْلَبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وَلِأَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إذَا اسْتَشَاطَ السُّلْطَانُ، تَسَلَّطَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ» . وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ بِسَنَدٍ فِيهِ جَهَالَةٌ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الشُّهَدَاءِ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ رَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ فَقَتَلَهُ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَقَدْ رَوَى مَعْنَاهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ كُلِّهَا فِيهَا ضَعْفٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ. . قِصَّةُ الْإِمَامِ شَمْسِ الدِّينِ مَعَ تَيْمُورَ قُلْت: قَدْ سَنَحَ فِي خَلَدِي أَنْ أَذْكُرَ هُنَا قِصَّةً صَدَرَتْ مِنْ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ الْهُمَامِ شَمْسِ الدِّينِ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ بْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ مُفْلِحٍ الرَّامِينِيِّ الْأَصْلِ ثُمَّ الدِّمَشْقِيِّ وَلَدِ صَاحِبِ الْفُرُوعِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَيْمُورَ كَوْرُكَانَ وَيُقَالُ لَهُ (تَيْمُورْ لَنْك) لَمَّا فَعَلَ بِالشَّامِ وَأَهْلِهَا مَا فَعَلَ، وَعَمَّ بِظُلْمِهِ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ وَالسَّهْلَ وَالْجَبَلَ، وَكَانَ قَدْ طَلَبَ الصُّلْحَ، وَاجْتَمَعَ بِهِ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرَ الْحِلْمَ وَالصَّفْحَ، وَكَانَ عَبْدُ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيُّ إمَامَهُ. وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُ زِمَامَهُ، يُنَاظِرُ عُلَمَاءَ السُّنَّةِ بِحَضْرَةِ تَيْمُورَ. وَلَا يُمَكِّنُهُمْ الْجَوَابَ عَنْ أَكْثَرِ الْأُمُورِ. فَطَلَبَ مِنْ الْعُلَمَاءِ كِتَابَةَ سُؤَالٍ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْإِنْكَارِ وَالضَّلَالِ وَهُوَ أَنْ يَكْتُبُوا وَيَخْتِمُوا الْكِتَابَ، بِأَنَّ فَضِيلَةَ النَّسَبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ بِلَا ارْتِيَابٍ، فَتَقَاعَسُوا وَأَحْجَمُوا، وَعَلَى الْجَوَابِ وَجَمُوا، وَعَلِمَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَدْ اُبْتُلِيَ، فَابْتَدَرَ بِالْجَوَابِ الْإِمَامُ شَمْسُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ فَقَالَ: دَرَجَةُ الْعِلْمِ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ النَّسَبِ، وَمَرْتَبَتُهَا عِنْدَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَسْنَى الرُّتَبِ، وَالْهَجِينُ الْفَاضِلُ يُقَدَّمُ عَلَى الْهَجَّانِ الْجَاهِلِ، وَالدَّلِيلُ فِي هَذَا جَلِيٌّ. وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عَلِيٍّ، وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُهُمْ. وَأَثْبَتُهُمْ قَدَمًا فِي الْإِسْلَامِ وَأَقْدَمُهُمْ، وَإِثْبَاتُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ، مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» . ثُمَّ أَخَذَ الْقَاضِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 شَمْسُ الدِّينِ فِي نَزْعِ ثِيَابِهِ، مُصِيخًا لِتَيْمُورْ وَمَا يَصْدُرُ مِنْ جَوَابِهِ، فَفَكَّك أَزْرَارَهُ، وَقَالَ لِنَفْسِهِ إنَّمَا أَنْتَ إعَارَةٌ. وَكَأْسُ الْمَوْتِ لَا بُدَّ مِنْ شُرْبِهَا، فَسَوَاءٌ مَا بَيْنَ بُعْدِهَا وَقُرْبِهَا، وَالْمَوْتُ عَلَى الشَّهَادَةِ، مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ، وَأَفْضَلِ أَحْوَالِهَا لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ إلَى اللَّهِ صَائِرٌ، كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ. فَقَالَ لَهُ تَيْمُورُ مَا حَمَلَك عَلَى نَزْعِ ثِيَابِك؟ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ بَذْلًا لِنَفْسِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا لِعِقَابِك. فَقَالَ لَهُ قَدْ وَسِعَك حِلْمُنَا. فَلَا تُعْدَمُ سِلْمَنَا. فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا السُّلْطَانُ الْجَلِيلُ: حَيْثُ مَنَنْت بِالْحِلْمِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الذَّلِيلِ، فَلْيَكُنْ الْأَمَانُ مَصْحُوبًا بِالتَّفْضِيلِ، مِنْ صَوْلَةِ بَعْضِ الْعَسْكَرِ الَّذِي عِدَّةُ مِلَلِهِ تَفُوقُ عَلَى أُمَمِ بَنِي إسْرَائِيلَ. فَفِيهِمْ مَنْ ابْتَدَعُوا بِدَعًا، وَقَطَعُوا فِي مَذَاهِبِهِمْ قَطْعًا، وَمَزَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَجَالِسَ حَضْرَتِك تُنْقَلُ، وَتَخُصُّ فِي سَرَيَانِهَا وَتَشْمَلُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْجَوَابُ عَنِّي، وَوَعَاهُ أَحَدٌ عَنْ سِنِّي خُصُوصًا مَنْ ادَّعَى مُوَالَاةَ عَلِيٍّ، وَيُسَمَّى فِي رَفْضِهِ مَنْ وَالَى أَبَا بَكْرٍ بِالنَّاصِبِيِّ، وَتَحَقَّقَ مِنِّي يَقِينِي، وَأَنَّهُ لَا نَاصِرَ لِي يَقِينِي، فَإِنَّهُ يَقْتُلُنِي جِهَارًا، وَيُرِيقُ دَمِي نَهَارًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَنَا أَسْتَعِدُّ لِهَذِهِ السَّعَادَةِ، وَأَخْتِمُ أَحْكَامَ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ. فَقَالَ لَهُ تَيْمُورُ: لِلَّهِ دَرُّك مَا أَفْصَحَك، وَأَنْصَرَك لِمَقَالَتِك، وَأَنْصَحَك، فَأَمَرَ بِجَمَاعَةٍ يُشَيِّعُونَهُ، وَيَحْرُسُونَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ فِي ذَهَابِهِ لِدَارِهِ وَيَحْفَظُونَهُ فَأَحَاطَتْ بِهِ الْجُنْدُ إحَاطَةَ الْهَالَةِ بِالْقَمَرِ، وَصَارُوا حَوْلَهُ كَالسُّوَرِ حَوْلَ الْمِسْوَرِ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ وَكَزَهُ بَعْضُ الطَّغَامِ، مِنْ تِلْكَ الْعَسَاكِرِ الرَّعَاعِ الْغِشَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُصُولِ السَّعَادَةِ. فَجَرَى مَا جَرَى وَخَتَمَ اللَّهُ عَمَلَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ ابْنُ عَرَبْ شَاهْ فِي تَارِيخِ تَيْمُورَ، وَالشَّيْخُ الْعُلَيْمِيِّ فِي الْمَقْصَدِ الْأَحْمَدِ، تَرَاجِمِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد. - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وَلَمَّا وَعَظَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الْخَلِيفَةَ (الْمُسْتَضِيءَ بِأَمْرِ اللَّهِ) سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ قَالَ لَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَوْ أَنِّي مَثُلْت بَيْنَ يَدَيْ السُّدَّةِ الشَّرِيفَةِ لَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: كُنْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مَعَ حَاجَتِك إلَيْهِ كَمَا كَانَ لَك مَعَ غِنَاهُ عَنْك أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدًا فَوْقَك، فَلَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَشْكَرَ لَهُ مِنْك. فَتَصَدَّقْ بِصَدَقَاتٍ وَأَطْلِقْ مَحْبُوسِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وَوَعَظَ أَيْضًا فِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْخَلِيفَةُ حَاضِرٌ فَبَالَغَ فِي وَعْظِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا حَكَاهُ لَهُ أَنَّ الرَّشِيدَ قَالَ لِشَيْبَانَ عِظْنِي، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَأَنْ تَصْحَبَ مَنْ يُخَوِّفُك حَتَّى تُدْرِكَ الْأَمْنَ، خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَصْحَبَ مَنْ يُؤَمِّنُك حَتَّى تُدْرِكَ الْخَوْفَ، قَالَ فَسِّرْ لِي هَذَا، قَالَ مَنْ يَقُولُ لَك أَنْتَ مَسْئُولٌ عَنْ الرَّعِيَّةِ فَاتَّقِ اللَّهَ أَنْصَحُ لَك مِمَّنْ يَقُولُ لَك أَنْتُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مَغْفُورٌ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ نَبِيِّكُمْ، فَبَكَى الرَّشِيدُ حَتَّى رَحِمَهُ مَنْ حَوْلَهُ. فَقُلْت لَهُ فِي كَلَامِي: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنْ تَكَلَّمْت خِفْت مِنْك، وَإِنْ سَكَتُّ خِفْت عَلَيْك، وَأَنَا أُقَدِّمُ خَوْفِي عَلَيْك عَلَى خَوْفِي مِنْك. انْتَهَى. وَفِي (مُثِيرُ الْعَزْمِ السَّاكِنِ، إلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ) لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَعَظَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ: كُنْت بِمَكَّةَ فِي زُقَاقِ الشَّطَوِيِّ وَإِلَى جَنْبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ وَقَدْ حَجَّ هَارُونُ الرَّشِيدُ، فَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ يَا عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْعَى، قَدْ أُخْلِيَ لَهُ الْمَسْعَى، قَالَ الْعُمَرِيُّ لِلرَّجُلِ لَا جَزَاك اللَّهُ عَنِّي خَيْرًا كَلَّفْتنِي أَمْرًا كُنْت عَنْهُ غَنِيًّا. ثُمَّ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ وَقَامَ فَتَبِعْته فَأَقْبَلَ هَارُونُ الرَّشِيدُ مِنْ الْمَرْوَةِ يُرِيدُ الصَّفَا، فَصَاحَ بِهِ يَا هَارُونُ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ قَالَ لَبَّيْكَ يَا عَمِّ، قَالَ ارْقَ الصَّفَا، فَلَمَّا رَقِيَهُ قَالَ ارْمِ بِطَرَفِك إلَى الْبَيْتِ، قَالَ قَدْ فَعَلْت، قَالَ كَمْ هُمْ؟ قَالَ وَمَنْ يُحْصِيهِمْ؟ قَالَ فَكَمْ فِي النَّاسِ مِثْلُهُمْ؟ قَالَ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ. قَالَ اعْلَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسْأَلُ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَنْتَ وَحْدَك مَسْئُولٌ عَنْ الْجَمِيعِ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ. قَالَ فَبَكَى هَارُونُ وَجَلَسَ، وَجَعَلُوا يُعْطُونَهُ مِنْدِيلًا مِنْدِيلًا لِلدُّمُوعِ. قَالَ الْعُمَرِيُّ: وَأُخْرَى أَقُولُهَا، قَالَ قُلْ يَا عَمِّ، قَالَ وَاَللَّهِ إنَّ الرَّجُلَ لَيُسْرِعُ فِي مَالِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ أَسْرَعَ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مَضَى وَهَارُونُ يَبْكِي. وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ كَانَ يَقُولُ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّ الْحَجَّ كُلَّ سَنَةٍ مَا يَمْنَعُنِي إلَّا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ ثُمَّ يُسْمِعُنِي مَا أَكْرَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الرَّابِعُ) : لَا بُدَّ لِوُجُوبِ الْإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ مُجَاهِرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وَأَمَّا مَنْ تَسَتَّرَ وَاخْتَفَى فَلَا يَتَجَسَّسُ عَلَيْهِ. وَيَأْتِي فِي كَلَامِ النَّاظِمِ، وَتُذْكَرُ أَحْكَامُ ذَلِكَ ثَمَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ إلَّا تَأْدِيبًا لَهُ وَزَجْرًا. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمُنْكَرُ أَعَمُّ مِنْ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَحْذُورُ الْوُقُوعِ فِي الشَّرْعِ، فَمَنْ رَأَى صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ خَمْرَهُ وَيَمْنَعَهُ، وَكَذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الزِّنَا. انْتَهَى. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: فَالطُّنْبُورُ الصَّغِيرُ يَكُونُ مَعَ الصَّبِيِّ؟ قَالَ يُكْرَهُ أَيْضًا إذَا كَانَ مَكْشُوفًا فَاكْسِرْهُ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمِعَ زَمَّارَةَ رَاعٍ وَسَدَّ أُذُنَيْهِ» قَالَ: لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الرَّفِيقَ كَانَ بَالِغًا فَلَعَلَّهُ كَانَ صَغِيرًا دُونَ الْبُلُوغِ، وَالصِّبْيَانُ رُخِّصَ لَهُمْ فِي اللَّعِبِ مَا لَمْ يُرَخَّصْ فِيهِ لِبَالِغٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ سَمَاعَ الْمُحَرَّمِ بِدُونِ اسْتِمَاعِهِ وَهُوَ قَصْدُ السَّمَاعِ لَا يَحْرُمُ. وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا وَزَادَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ وَإِنَّمَا سَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُذُنَيْهِ مُبَالَغَةً فِي التَّحَفُّظِ، فَسَنَّ بِذَلِكَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ السَّمَاعِ. وَإِلَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَشَارَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: مَطْلَبٌ: فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الصِّبْيَانِ لِتَأْدِيبِهِمْ: وَأَنْكِرْ عَلَى الصِّبْيَانِ كُلَّ مُحَرَّمٍ ... لِتَأْدِيبِهِمْ وَالْعِلْمِ فِي الشَّرْعِ لَرَدِي (وَأَنْكِرْ) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ الْمُتَّبِعُ الْأَوَامِرَ الشَّرْعِيَّةَ، الْعَالِمُ بِأَحْكَامِهَا الْفَرْعِيَّةِ. (عَلَى الصِّبْيَانِ) جَمْعُ صَبِيٍّ هُوَ الصَّغِيرُ أَعْنِي الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ التَّكْلِيفِ، هَذَا مُرَادُهُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الصَّبِيُّ مَنْ لَمْ يُفْطَمْ. وَقَالَ فِي كِتَابِ كِفَايَةِ الْمُتَحَفِّظِ: الْوَلَدُ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فَهُوَ جَنِينٌ فَإِذَا وُلِدَ يُسَمَّى صَبِيًّا، فَإِذَا فُطِمَ يُسَمَّى غُلَامًا إلَى سَبْعِ سِنِينَ، ثُمَّ يَصِيرُ يَافِعًا إلَى عَشْرٍ، ثُمَّ حُزُورًا إلَى خَمْسَةَ عَشْرَ، ثُمَّ يَصِيرُ قَمْدًا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ. فَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصَّبِيَّ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 لَمْ يُفْطَمْ بَعْدُ، وَلَكِنْ لَيْسَ مُرَادًا فِي كَلَامِ النَّاظِمِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ سِنِّ التَّكْلِيفِ. وَفِي حَدِيثٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى حَسَنًا يَلْعَبُ مَعَ صَبْوَةٍ فِي السِّكَّةِ» ، وَالصَّبْوَةُ وَالصِّبْيَةُ جَمْعُ صَبِيٍّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ يَلْعَبُونَ أَكْبَرَ مِنْ الَّذِينَ يَرْضَعُونَ (كُلَّ) فِعْلٍ وَقَوْلٍ (مُحَرَّمٍ) فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفَاعِلُ آثِمًا، فَإِنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ (لِ) أَجْلِ (تَأْدِيبِهِمْ) وَزَجْرِهِمْ عَنْ مُلَابَسَةِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الصِّبْيَانِ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا (وَ) لِأَجْلِ (الْعِلْمِ فِي الشَّرْعِ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ. وَالشَّرِيعَةُ الدِّينُ وَهُوَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَمِثْلُهُ الشِّرْعَةُ بِالْكَسْرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِظُهُورِهِ وَوُضُوحِهِ، وَطَرِيقٌ شَارِعٌ: أَيْ مَسْلُوكٌ، وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ الدِّينَ أَوْضَحَهُ وَبَيَّنَهُ، وَالشَّرِيعَةُ مَوْرِدُ الْمَاءِ. فَالْمُرَادُ بِالشَّرْعِ هُنَا الْمَشْرُوعُ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيُسْتَحَبُّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ يَعْنِي لِتَأْدِيبِهِمْ وَلِلْعِلْمِ أَنَّ هَذَا فِي الشَّرْعِ (بِا) لِفِعْلِ (الرَّدِي) أَيْ الْقَبِيحُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَرَّ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ وَلَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ وَقَرَّ قُبْحُهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوهُ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَجَّاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ إنْكَارَ ذَلِكَ عَلَى أُولَئِكَ مُسْتَحَبٌّ وَلَفْظُهُ: وَيُسْتَحَبُّ الْإِنْكَارُ عَلَى الْأَوْلَادِ الَّذِينَ دُونَ الْبُلُوغِ، سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا تَأْدِيبًا لَهُمْ وَتَعْلِيمًا. قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يُنْكَرُ عَلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ إلَّا تَأْدِيبًا لَهُ وَزَجْرًا. انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْإِنْكَارَ وَاجِبٌ كَمَا قَدَّمْنَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ خَمْرَهُ وَيَمْنَعَهُ وَكَذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الزِّنَا ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَظْهَرُ حَيْثُ تَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا يَقُولُونَ أَكْرِمْ وَلَدَك وَأَحْسِنْ أَدَبَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّعَلُّمُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وَقَالَ لُقْمَانُ: ضَرْبُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ كَمَطَرِ السَّمَاءِ لِلزَّرْعِ. وَكَانَ يُقَالُ: الْأَدَبُ مِنْ الْآبَاءِ، وَالصَّلَاحُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ أَدَّبَ ابْنَهُ صَغِيرًا قَرَّتْ عَيْنُهُ بِهِ كَبِيرًا. (تَنْبِيهٌ) قَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْفِقْهِ بِأَنَّ عَلَى وَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَرْبُهُ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْوُجُوبِ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ، أَوْ يُقِيمَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ. وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا أَيْضًا: يَجِبُ عَلَى الْأَبِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ تَعْلِيمُ الِابْنِ مَا يَحْتَاجُهُ لِدِينِهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «إنَّ لِوَلَدِك عَلَيْك حَقًّا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ الْقَاضِي مِنْ أَئِمَّتِنَا: وَمِمَّا يَجِبُ إنْكَارُهُ تَرْكُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ لِمَا يَجِبُ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ، نَحْوُ مَا تَعَلَّقَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَبِمَعْرِفَةِ الصَّلَاةِ وَجُمْلَةِ الشَّرَائِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَرَائِضِ وَيَلْزَمُ النِّسَاءَ الْخُرُوجُ لِتَعَلُّمِ ذَلِكَ. وَأَوْجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمُعَلِّمَ وَالْمُتَعَلِّمَ لِذَلِكَ وَيَرْزُقَهُمَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قِوَامًا لِلدِّينِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا نَشَأَ الْوَلَدُ عَلَى مَذْهَبٍ فَاسِدٍ فَيَتَعَذَّرُ زَوَالُهُ مِنْ قَلْبِهِ. انْتَهَى. وَقَدْ نَصَّ فُقَهَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ تَمْكِينُ الصَّغِيرِ مِنْ لُبْسِ ثَوْبٍ حَرِيرٍ وَنَحْوِهِ، وَكَذَا مِنْ فِعْلِ كُلِّ مُحَرَّمٍ. فَعَلَى كُلِّ حَالٍ مَتَى تَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لَا أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ كَمَا قَالَ الْحَجَّاوِيُّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي زَجْرِ الذِّمِّيِّ إذَا جَهَرَ بِالْمُنْكَرَاتِ وَإِنْ جَهَرَ الذِّمِّيُّ بِالْمُنْكَرَاتِ ... فِي الشَّرِيعَةِ يُزْجَرُ دُونَ مُخْفٍ بِمَرْكَدِ (وَإِنْ جَهَرَ) أَيْ أَظْهَرَ وَأَبَانَ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: جَهَرَ كَمَنَعَ عَلَنَ، وَالْكَلَامَ وَبِهِ أَعْلَنَ كَأَجْهَرَ، وَالصَّوْتَ أَعْلَاهُ. وقَوْله تَعَالَى {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] أَيْ عِيَانًا غَيْرَ مُسْتَتِرٍ (الذِّمِّيُّ) فَاعِلُ جَهَرَ وَنِسْبَتُهُ إلَى الذِّمَّةِ بِمَعْنَى الْعَهْدِ وَالْأَمَانِ وَتُفَسَّرُ الذِّمَّةُ بِالضَّمَانِ أَيْضًا. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي ذِمَّتِي أَيْ ضَمَانِي، وَالْجَمْعُ ذِمَمٌ، وَهُمْ مَنْ جَوَّزْنَا عَقْدَ الذِّمَّةِ لَهُمْ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 لِأَنَّ لَهُمْ شُبْهَةَ كِتَابٍ، وَالسَّامِرَةُ مِنْ الْيَهُودِ وَالْإِفْرِنْجِ فِرْقَةٌ مِنْ النَّصَارَى (بِالْمُنْكَرَاتِ) مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ (فِي الشَّرِيعَةِ) الْمُطَهَّرَةِ وَأَلْ فِيهَا لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيْ فِي شَرِيعَتِنَا الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمْعُهَا شَرَائِعُ (يُزْجَرُ) أَيْ يُمْنَعُ، يُقَالُ زَجَرْته مِنْ بَابِ قَتَلَ مَنَعْته فَانْزَجَرَ وَازْدَجَرَ ازْدِجَارًا وَالْأَصْلُ ازْتَجَرَ عَلَى افْتِعَالٍ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا. وَتَزَاجَرُوا عَنْ الْمُنْكَرِ مَنَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَزَجَرَهُ أَيْ حَثَّهُ وَحَمَلَهُ عَلَى السُّرْعَةِ. وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجْهَرْ بِالْمُنْكَرَاتِ فِي شَرِيعَتِنَا بَلْ أَخْفَاهَا وَسَتَرَهَا أَنَّهُ لَا يُزْجَرُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ بِقَوْلِهِ (دُونَ) أَيْ غَيْرَ. وَمِنْ إتْيَانِ دُونَ بِمَعْنَى غَيْرِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» أَيْ فِي غَيْرِ خَمْسِ أَوَاقٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَتَكُونُ دُونَ بِمَعْنَى سِوَى أَيْ سِوَى (مُخْفٍ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَخْفَى يُخْفِي فَهُوَ مُخْفٍ فَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ الذِّمِّيُّ بِفِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ أَوْ قَوْلِهَا بِأَنْ فَعَلَهَا (بِمَرْكَدِ) أَيْ بِمَوْضِعِ سُكُونٍ يَعْنِي فِي نَحْوِ بَيْتِهِ. يُقَالُ رَكَدَ الْمَاءُ رُكُودًا مِنْ بَابِ قَعَدَ سَكَنَ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرُّكُودُ السُّكُونُ وَالثَّبَاتُ. فَمَعْنَى مَرْكَدِ مَسْكَنٌ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: إذَا فَعَلَ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَمْرًا مُحَرَّمًا عِنْدَهُمْ غَيْرَ مُحَرَّمٍ عِنْدَنَا لَمْ نَعْرِضْ لَهُمْ وَنَدْعُهُمْ وَفِعْلَهُمْ سَوَاءٌ أَسَرُّوهُ أَوْ أَظْهَرُوهُ، وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ النَّظْمِ، فَإِنَّهُ حَصَرَ الزَّجْرَ فِي فِعْلٍ مُحَرَّمٍ فِي الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ بِقَيْدِ الظُّهُورِ، وَيَبْقَى إذَا فَعَلُوا مُحَرَّمًا عِنْدَهُمْ دُونَ شَرِيعَتِنَا وَلَوْ ظَاهِرًا أَوْ فِي شَرِيعَتِنَا وَكَانَ خِفْيَةً، سَوَاءٌ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ أَوْ لَا. وَأَمَّا إذَا فَعَلُوا مُحَرَّمًا فِي شَرْعِنَا مُجَاهِرِينَ بِهِ وَجَبَ إنْكَارُهُ، سَوَاءٌ اعْتَقَدُوا حِلَّهُ أَوْ لَا. وَأَمَّا إذَا فَعَلُوا مَا يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ وَهُوَ فِي شَرْعِنَا غَيْرُ مُحَرَّمٍ لَمْ نُنْكِرْ عَلَيْهِمْ وَلَوْ ظَاهِرًا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنَعَنَا مِنْ قِتَالِهِمْ وَالتَّعَرُّضِ لَهُمْ إذَا الْتَزَمُوا الْجِزْيَةَ وَالصَّغَارَ، وَهُوَ جَرَيَانُ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْضًا فَالْقَصْدُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إقَامَةُ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ حَاصِلٌ، لَا أَمْرِ دِينِهِمْ الْمُبَدَّلِ الْمُغَيَّرِ. وَأَمَّا إنْ فَعَلُوا أَمْرًا مُحَرَّمًا عِنْدَنَا فَمَا فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يُمْنَعُونَ مِنْهُ. وَيَدْخُلُ فِيهِ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ يَعْنِي إصَابَتُهَا بِاسْمِ النِّكَاحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِذَلِكَ. وَلَعَلَّ هَذَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهُ حَيْثُ بَلَغَهُ أَنَّ فِي الْمَحَلِّ الْفُلَانِيِّ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيٌّ بِمُسْلِمَةٍ. وَقَدْ وَقَعَ فِي حُدُودِ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ إخْوَانِنَا ذَكَرَ لِي قِصَّةً عَلَى سَبِيلِ الْمُذَاكَرَةِ، فَإِذَا فِيهَا أَنَّ رَجُلًا كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَالْحَالُ أَنَّ لَهُ بُنَيَّةً دُونَ الْبُلُوغِ، فَلَمَّا بَلَغَتْ الْبِنْتُ تَزَوَّجَهَا نَصْرَانِيٌّ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهَا تَبَعًا، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لِي كُنْت فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيَّةِ فَإِذَا بِفُلَانٍ النَّصْرَانِيِّ مُتَزَوِّجٌ بِابْنَةِ فُلَانٍ الَّذِي أَسْلَمَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ جِدًّا وَزَوْجُهَا كَبِيرٌ. فَتَعَجَّبْت كَيْفَ قَعَدَتْ لَهُ. فَتَثَبَّتُّ فِي الْقَضِيَّةِ فَإِذَا هِيَ جَلِيَّةٌ، فَرَكِبْت لِبَعْضِ وُلَاةِ أُمُورِ الدِّينِ وَرَكِبَتْ عِدَّةُ خَيَّالَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِي طَلَبِ أَبِي الْبِنْتِ وَزَوْجِهَا وَالْخُورِيِّ وَالْبِنْتِ، فَهَرَبَ الزَّوْجُ وَالْخُورِيِّ وَأَتَى الْأَبُ مُعْتَذِرًا. فَحَرَّجْت عَلَيْهِ أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْخَبِيثَ مِنْ ابْنَتِهِ وَإِلَّا أَجْرَيْت عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا مَا يَسْتَحِقَّانِهِ. فَذَهَبَ الزَّوْجُ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَصَدَ بَعْضَ شُيُوخِ الْإِسْلَامِ فَكَتَبَ لَهُ وَرَقَةً تَتَضَمَّنُ الرِّفْقَ بِهِ، وَأَنَّ هَذَا يُسَامَحُ بِمِثْلِهِ لِكَوْنِ النَّصْرَانِيِّ أَنْهَى لِلشَّيْخِ غَيْرَ الْوَاقِعِ، فَلَمْ أَنْظُرْ إلَى ذَلِكَ وَصَمَّمْت عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا الْإِسْلَامُ وَإِمَّا الْقَتْلُ. فَفَرَّ وَمَكَثَ مُدَّةً فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ فَمَا شَعَرْت إلَّا وَالرَّجُلُ أَتَانِي مُسْلِمًا، فَأَعَادَ النِّكَاحَ وَخَرَجَ مِنْ عَامِهِ لِحَجِّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَزِيَارَةِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي شَرْعِنَا تَعَيَّنَ إنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ خَمْرًا جَازَتْ إرَاقَتُهُ، وَإِنْ أَظْهَرُوا صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا جَازَ كَسْرُهُ. وَإِنْ أَظْهَرُوا كُفْرَهُمْ أُدِّبُوا عَلَى ذَلِكَ. وَيُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الْمُغْنِي وَابْنِ رَزِينٍ، وَيُمْنَعُونَ مِمَّا تَتَأَذَّى بِهِ الْمُسْلِمُونَ كَإِظْهَارِ الْمُنْكَرِ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَعْيَادِ وَالصُّلْبَانِ وَالنَّاقُوسِ، وَكَذَا مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ مَأْكُولٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ كَالشِّوَاءِ. وَكَذَا إذَا تَبَايَعُوا بِالرِّبَا فِي سُوقِنَا مُنِعُوا لِأَنَّهُ عَائِدٌ بِفَسَادِ نَقْدِنَا. قَالَهُ الْقَاضِي. فَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْمَنْعِ فِي غَيْرِ سُوقِنَا. وَاسْتَظْهَرَ فِي الْآدَابِ مَنْعَهُمْ مُطْلَقًا لِأَنَّهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَيْهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: يُمْنَعُونَ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ، كَمَا يُنْهُونَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَإِنْ تَرَكُوا التَّمْيِيزَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: لِبَاسُهُمْ وَشُعُورُهُمْ وَرُكُوبُهُمْ وَكُنَاهُمْ أُلْزِمُوا بِهِ، نَعَمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ نِكَاحِ مَحَارِمِهِمْ بِشَرْطَيْنِ: (الْأَوَّلُ) : أَنْ يَعْتَقِدُوا حِلَّ ذَلِكَ. (الثَّانِي) : أَنْ لَا يَرْتَفِعُوا إلَيْنَا، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا حِلَّهُ مُنِعُوا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِهِمْ فَلَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ عِنْدَنَا مَعَ اعْتِقَادِهِمْ تَحْرِيمَهُ يُصَيِّرُهُ مُنْكَرًا فَيَتَنَاوَلُهُ أَدِلَّةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا الصَّغَارَ وَهُوَ جَرَيَانُ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ إلَّا فِيمَا اعْتَقَدُوا إبَاحَتَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ وُجُوبَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَتَارَةً فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَبَيَّنَ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَمَا يُنْكِرُ شَرْعًا وَمَنْ يُنْكِرُ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِكَيْفِيَّةِ الْإِنْكَارِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَبْدَأَ بِالرِّفْقِ. وَبِالْأَسْهَلِ ابْدَأْ ثُمَّ زِدْ قَدْرَ حَاجَةٍ ... فَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِالنَّافِذِ الْأَمْرِ فَاصْدُدْ (وَبِالْأَسْهَلِ) أَيْ الْأَلْيَنِ مِنْ السَّهْلِ ضِدُّ الْحَزَنِ (ابْدَأْ) أَيُّهَا الْآمِرُ النَّاهِي لِتَفُوزَ بِفَضِيلَةِ مَا قُمْت بِهِ وَفَضِيلَةِ الِاتِّبَاعِ فِي سُهُولَةِ الْأَخْلَاقِ وَالِانْطِبَاعِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْفَعِلُ لِلرِّفْقِ مَا لَا يَنْفَعِلُ لِلْعُنْفِ، يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَبْدَأَ بِالرِّفْقِ وَلِينِ الْجَانِبِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُنْكَرُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ مُتَوَاضِعًا رَفِيقًا فِيمَا يَدْعُو إلَيْهِ، رَحِيمًا شَفِيقًا غَيْرَ فَظٍّ وَلَا غَلِيظَ الْقَلْبِ وَلَا مُتَعَنِّتٍ، دَيِّنًا نَزِهًا عَفِيفًا ذَا رَأْيٍ وَحَزَامَةٍ وَشِدَّةٍ فِي الدِّينِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ فِي قَوْلِهِ الْفَتَى الْجَلْدِ، قَاصِدًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِقَامَةَ دِينِهِ وَنُصْرَةَ شَرْعِهِ وَامْتِثَالَ أَمْرِهِ، وَإِحْيَاءَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا رِيَاءٍ وَلَا مُنَافَقَةٍ وَلَا مُدَاهَنَةٍ، غَيْرَ مُنَافِسٍ وَلَا مُفَاخِرٍ، وَلَا مِمَّنْ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وَيُسَنُّ لَهُ الْعَمَلُ بِالنَّوَافِلِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَالرِّفْقُ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ عِنْدَ إنْكَارِهِ، وَالتَّثَبُّتُ وَالْمُسَامَحَةُ بِالْهَفْوَةِ عِنْدَ أَوَّلِ مَرَّةٍ. قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: النَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَى مُدَارَاةِ وَرِفْقِ الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ بِلَا غِلْظَةٍ إلَّا رَجُلٌ مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْك نَهْيُهُ وَإِعْلَامُهُ لِأَنَّهُ يُقَالُ: لَيْسَ لِفَاسِقٍ حُرْمَةٌ، فَهَؤُلَاءِ لَا حُرْمَةَ لَهُمْ. وَسَأَلَهُ مُهَنَّا هَلْ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبًا بِالْيَدِ إذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ؟ قَالَ الرِّفْقُ. وَنَقَلَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ كَانَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ مَهْلًا رَحِمَكُمْ اللَّهُ. وَنَقَلَ مُهَنَّا: يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ بِالرِّفْقِ وَالْخُضُوعِ. قُلْت كَيْفَ؟ قَالَ إنْ أَسْمَعُوهُ مَا يَكْرَهُ لَا يَغْضَبُ فَيُرِيدُ أَنْ يَنْتَصِرَ لِنَفْسِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَسْهَلِ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ كَالنَّاظِمِ، وَيَبْدَأُ بِإِسْقَاطٍ وَيَجِبُ وَيَعْمَلُ بِظَنِّهِ فِي ذَلِكَ (ثُمَّ) إنْ لَمْ يُزَلْ الْمُنْكَرُ الْوَاجِبُ إنْكَارُهُ (زِدْ) عَلَى الْأَسْهَلِ بِأَنْ تُغْلِظَ لَهُ الْقَوْلَ (قَدْرَ) أَيْ بِقَدْرِ (حَاجَةِ) إزَالَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ أَغْلِظْ فِيهِ بِالزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ، فَإِنْ زَالَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ إقَامَةُ الدِّينِ، وَنُصْرَةُ الشَّرْعِ الْمُبِينِ، وَزَوَالُ الْمُنْكَرِ وَالشَّيْنِ، وَإِحْيَاءُ سُنَّةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ (فَإِنْ لَمْ يَزُلْ) الْمُنْكَرُ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَاسْتَعِنْ عَلَى إزَالَتِهِ (بِالنَّافِذِ) أَيْ الْمَاضِي (الْأَمْرَ) يُقَالُ أَنْفَذَ الْأَمْرَ قَضَاهُ وَهُوَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. وَالنَّافِذُ الْمَاضِي فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ كَالنُّفُوذِ وَالنَّفَاذِ وَالْمُطَاعِ مِنْ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ (فَاصْدُدْ) أَيْ فَأَعْرِضْ وَأَصْرِفْ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ فَأَعْرِضْ عَنْ ذَلِكَ وَارْفَعْهُ لِنَافِذِ الْأَمْرِ وَهُوَ بَعِيدٌ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ أَرَادَ فَاصْدُدْهُ أَيْ امْنَعْهُ وَاصْرِفْهُ بِنَافِذِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ. قَالَ فِي الْآدَابِ: فَإِنْ زَالَ وَإِلَّا رَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ابْتِدَاءً إنْ أَمِنَ حَيْفَهُ فِيهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ وَقَدْ صَرَّحَ الْأَصْحَابُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّ شَرْطَ رَفْعِهِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمَنَ حَيْفَهُ فِيهِ، وَيَكُونَ قَصْدُهُ فِي ذَلِكَ النُّصْحَ لَا الْغَلَبَةَ. وَفِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ يَفْعَلُ فِيهِ يَعْنِي السُّلْطَانَ مَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ لَا غَيْرُ، وَظَاهِرُهُ يَحْرُمُ إنْ فَعَلَ بِهِ مُحَرَّمًا مِنْ أَخْذِ مَالٍ وَنَحْوِهِ، وَيُكْرَهُ إنْ فَعَلَ بِهِ مَكْرُوهًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ: وَيَحْرُمُ أَخْذُ مَالٍ عَلَى حَدٍّ أَوْ مُنْكَرٍ اُرْتُكِبَ. وَنَقَلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ أَنَّ تَعْطِيلَ الْحَقِّ بِمَالٍ يُؤْخَذُ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ سُحْتٌ خَبِيثٌ، وَلَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ وَهُوَ الْوَاسِطَةُ» ، انْتَهَى. وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ رَفْعِهِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ بِلَا تَفْصِيلٍ. (تَتِمَّةٌ) قَالَ مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ إذَا ضَرَبَ رَجُلٌ رَجُلًا بِحَضْرَتِي أَوْ شَتَمَهُ فَأَرَادَنِي أَنْ أَشْهَدَ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ؟ قَالَ إنْ خَافَ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِ لَمْ يَشْهَدْ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ شَهِدَ. (فَائِدَةٌ) : قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: لَعَلَّ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْأَمْرِ يَرْفَعُهُ يَعْنِي مَعَ إقَامَتِهِ لِلْحَدِّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ: مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ بِحَدٍّ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُقِيمَهَا. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ رَفْعَهُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ مُبَاحٌ، وَرَفْعَهُ لِأَجْلِ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ أَمْنِ الْحَيْفِ قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا لَمْ يَخَفْ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ حَيْفَهُ ... إذَا كَانَ ذَا الْإِنْكَارُ حَتْمَ التَّأَكُّدِ (إذَا) أَيْ إنَّمَا يَرْفَعُهُ إلَى نَافِذِ الْأَمْرِ حَيْثُ (لَمْ يَخَفْ) الرَّافِعُ عِلْمَ ذَلِكَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ (فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ) الَّذِي رَفَعَهُ إلَيْهِ (حَيْفَهُ) أَيْ جَوْرَهُ وَظُلْمَهُ. وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ، فَإِنْ خَافَ جَوْرَهُ وَظُلْمَهُ بِأَنْ عَاقَبَهُ أَزْيَدَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا لَمْ يَرْفَعْهُ. وَقَدْ نَصَّ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعُهُ إلَى السُّلْطَانِ إنْ تَعَدَّى فِيهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَشْرَسَ، قَالَ: مَرَّ بِنَا سَكْرَانُ فَشَتَمَ رَبَّهُ. فَبَعَثْنَا إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَسُولًا وَكَانَ مُخْتَفِيًا فَقُلْنَا أَيْشٍ السَّبِيلُ فِي هَذَا، سَمِعْنَاهُ يَشْتُمُ رَبَّهُ، أَتَرَى أَنْ نَرْفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ؟ فَبَعَثَ إلَيْنَا: إنْ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ أَخَافُ أَنْ لَا يُقِيمَ عَلَيْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، وَلَكِنْ أَخِيفُوهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْكُمْ شَبِيهًا بِالْهَارِبِ، فَأَخَفْنَاهُ فَهَرَبَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وَلَا بُدَّ لِوُجُوبِ رَفْعِهِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مِنْ شَرْطٍ ثَانٍ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (إذَا كَانَ ذَا) أَيْ هَذَا (الْإِنْكَارُ) الَّذِي أَنْكَرَهُ (حَتْمٌ) أَيْ وَاجِبُ الْإِنْكَارِ مَجْزُومُ (التَّأَكُّدِ) بِأَنْ كَانَ حَرَامًا مَحْضًا أَوْ تَرْكَ وَاجِبٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ مَنْدُوبًا أَوْ الْفِعْلُ مَكْرُوهًا فَإِنَّهُ لَا يُرْفَعُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ، فَمَتَى وَجَبَتْ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ وَلَمْ تُمْكِنْهُ رَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: مَطْلَبٌ: فِي كَسْرِ الدُّفِّ وَلَا غُرْمَ فِي دُفِّ الصُّنُوجِ كَسَرْته ... وَلَا صُوَرٍ أَيْضًا وَلَا آلَةِ الدَّدِ (وَلَا غُرْمَ) أَيْ لَا ضَمَانَ (فِي دُفٍّ) بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتُفْتَحُ وَجَمْعُهُ دُفُوفٌ وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الضَّمَانُ فِي الدُّفِّ ذِي (الصُّنُوجِ) جَمْعُ صَنْجٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنْ صُفْرٍ يُضْرَبُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ، انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ الدُّفُّ ذَا صُنُوجٍ فَلَا غُرْمَ عَلَيْك إذَا (كَسَرْته) لِعَدَمِ إبَاحَتِهِ، وَمِثْلُ الصُّنُوجِ الْحِلَقُ وَالْجَلَاجِلُ، نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى عَدَمِ ضَمَانِهِ. وَأَمَّا الدُّفُّ الْعَارِي عَنْ ذَلِكَ فَيُبَاحُ لِلنِّسَاءِ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ امْرَأَةً نَذَرَتْ إنْ رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَالِمًا ضَرَبَتْ عَلَى رَأْسِهِ بِالدُّفِّ، فَقَالَ: «أَوْفِي بِنَذْرِك» . وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ لِأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِالنِّسَاءِ. وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَيُسَنُّ الضَّرْبُ فِيهِ لِلنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِي النِّكَاحِ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ غَيْرَ أَبِي دَاوُد. وَلَا يُكْرَهُ لِقُدُومِ غَائِبٍ وَخِتَانٍ وَنَحْوِهِمَا، بَلْ يُسَنُّ. وَقَالَ الْقَاضِي: يُكْرَهُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ. (وَلَا) غُرْمَ فِي (صُوَرٍ) جَمْعُ صُورَةٍ (أَيْضًا) مَصْدَرُ آضَ إذَا رَجَعَ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْأَيْضُ الْعَوْدُ إلَى الشَّيْءِ وَصَيْرُورَةُ الشَّيْءِ غَيْرَهُ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ وَالرُّجُوعُ، وَآضَ كَذَا صَارَ، وَفَعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا، إذَا فَعَلَهُ مُعَاوِدًا. فَمَعْنَى قَوْلِ النَّاظِمِ أَيْضًا يَعْنِي الْمُعَاوَدَةَ إلَى عَدَمِ الضَّمَانِ فِي كَسْرِ الصُّورَةِ كَمَا لَا ضَمَانَ فِي كَسْرِ الدُّفِّ الْمُصَنَّجِ. مَطْلَبٌ: فِي عِظَمِ وِزْرِ الْمُصَوِّرِينَ وَكَسْرِ الصُّورَةِ وَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ مِنْ النَّبِيِّ الْمَجِيدِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِظَمِ وِزْرِ الْمُصَوِّرِينَ وَتَهْوِيلِ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْت سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَوَّنَ وَجْهُهُ وَقَالَ يَا عَائِشَةُ، أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ قَالَتْ: فَقَطَعْنَاهُ فَجَعَلْنَا مِنْهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ السَّهْوَةُ - بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ - الطَّاقُ فِي الْحَائِطِ يُوضَعُ فِيهِ الشَّيْءُ. وَقِيلَ الصُّفَّةُ، وَقِيلَ الْمَخْدَعُ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ، وَقِيلَ بَيْتٌ صَغِيرٌ كَالْخِزَانَةِ الصَّغِيرَةِ. وَالْقِرَامُ - بِكَسْرِ الْقَافِ - هِيَ السِّتْرُ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ وَقَالَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُمَا «أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً - وَهِيَ بِضَمِّ النُّونِ وَالرَّاءِ أَيْضًا؛ وَقَدْ تُفْتَحُ الرَّاءُ وَبِكَسْرِهَا - يَعْنِي مِخَدَّةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفَتْ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ. قَالَتْ: فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْت؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ فَقُلْت اشْتَرَيْتهَا لَك لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» . وَقَالَ «إنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلهُ الْمَلَائِكَةُ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ إنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ اُدْنُ مِنِّي فَدَنَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ اُدْنُ مِنِّي، فَدَنَا، حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ أُنْبِئُك بِمَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَيُعَذِّبَهُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 جَهَنَّمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنْ كُنْت لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعْ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ حَيَّانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا تَدَعَ صُورَةً إلَّا طَمَسْتهَا، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» وَفِي مُسْلِمٍ «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا تَمَاثِيلُ» وَالْمُرَادُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ دُونَ الْحَافِظِينَ وَغَيْرِهِمَا، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ وَضَّاحٍ وَالْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ اللَّهُ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ وَيُسْمِعَهُمْ قَوْلَهُ وَهُمْ بِبَابِ الدَّارِ الَّذِي هُوَ فِيهَا مَثَلًا كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ. وَالْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ الْبَيْتَ الَّتِي هِيَ فِيهِ مَا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا الرُّوحُ مَا لَمْ يُقْطَعْ رَأْسُهُ أَوْ لَمْ يُمْتَهَنْ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَمِثْلُهُ الْكَلْبُ، يَعْنِي حَيْثُ لَمْ يُبَحْ اقْتِنَاؤُهُ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ إنِّي وُكِّلْت بِثَلَاثَةٍ: بِمَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ، وَبِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِالْمَصُورِينَ» . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: الْعُنُقُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ أَيْ طَائِفَةٌ وَجَانِبٌ مِنْ النَّارِ. إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَإِطْلَاقُ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَخْصُوصٌ بِصُوَرِ الْحَيَوَانِ دُونَ الشَّجَرِ وَمَا لَا رُوحَ فِيهِ، وَيَعْنِي دُونَ مَا لَيْسَ هُوَ عَلَى هَيْئَةِ ذِي رُوحٍ وَمَا لَا تَبْقَى مَعَهُ حَيَاةٌ كَإِبَانَةِ رَأْسِ الصُّورَةِ. نَعَمْ لَوْ فَصَلَهَا بِنَحْوِ خَطٍّ مِمَّا يَزِيدُهَا رَوْنَقًا لَمْ تَزُلْ الْحُرْمَةُ. وَعُمُومُ نِظَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَنَاوَلُ الصُّوَرَ الَّتِي عَلَى نَحْوِ الثِّيَابِ مِنْ السُّتُورِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالصُّوَرِ الَّتِي عَلَى نَحْوِ الْحِيطَانِ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَتْلَفَهَا بِخِلَافِ الصُّوَرِ الْمُصَوَّرَةِ عَلَى السُّتُورِ وَالثِّيَابِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْرِيقُهَا وَإِنْ كَانَ تَصْوِيرُهَا حَرَامًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَالرَّجُلُ يُدْعَى فَيَرَى سِتْرًا عَلَيْهِ تَصَاوِيرُ، قَالَ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ. قُلْت قَدْ نَظَرْت إلَيْهِ كَيْفَ أَصْنَعُ أَهْتِكُهُ؟ قَالَ: لَا يُحْرَقُ شَيْءُ النَّاسِ، وَلَكِنْ إنْ أَمْكَنَك خَلْعُهُ خَلَعْته. قُلْت فَالرَّجُلُ يَكْتَرِي الْبَيْتَ فِيهِ تَصَاوِيرُ تَرَى أَنْ أَحُكَّ الرَّأْسَ؟ قَالَ نَعَمْ، وَهَذَا الْحَكُّ إذَا كَانَ فِي الْحَائِطِ، وَأَمَّا فِي سِتْرٍ وَثِيَابٍ فَلَا يُتْلِفُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: وَسُئِلَ هَلْ يَجُوزُ تَخْرِيقُ الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَرُ؟ قَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَفَارِشَ بِخِلَافِ غَيْرِهَا. انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا اتَّخَذَتْ ذَاكَ السِّتْرَ مِخَدَّةً أَوْ مِخَدَّتَيْنِ. فَإِذَا كَانَ عَلَى نَحْوِ بِسَاطٍ يُفْرَشُ وَيُدَاسُ، أَوْ مَخَادٍّ تُوضَعُ وَيُجْلَسُ عَلَيْهَا فَلَا حُرْمَةَ. نَعَمْ التَّصْوِيرُ حَرَامٌ وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. وَتَأْتِي لَهُ تَتِمَّةٌ فِي آدَابِ اللِّبَاسِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. . (وَلَا) غُرْمَ أَيْضًا فِي (آلَةِ) وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَا عُمِلَتْ بِهِ مِنْ آلَاتِ الْبِنَاءِ مَثَلًا نَحْوُ خَشَبٍ وَأَحْجَارٍ وَآجُرٍّ وَعَمَلِ الْخَيْمَةِ وَالْجَمْعُ آلَاتٌ (الدَّدِ) أَيْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَالصِّحَاحِ، تَقُولُ هَذَا دَدٌ وَدَدًا كَقَفًا وَدَدَنٍ. وَفِي حَدِيثٍ «مَا أَنَا دَدٌ وَلَا الدَّدُ مِنِّي» قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: لَهُ كَسْرُ آلَةِ اللَّهْوِ وَصُوَرِ الْخَيَالِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَآلَاتُ اللَّهْوِ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهَا وَلَا الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ: وَمَنْ أَتْلَفَ أَوْ كَسَرَ مِزْمَارًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ كَسَرَ إنَاءَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءً فِيهِ خَمْرٌ مَأْمُورٌ بِإِرَاقَتِهَا وَلَوْ قَدَرَ عَلَى إرَاقَتِهَا بِدُونِهِ أَوْ آلَةَ لَهْوٍ وَلَوْ مَعَ صَغِيرٍ كَعُودٍ وَطَبْلٍ وَدُفٍّ بِصُنُوجٍ أَوْ حِلَقٍ أَوْ نَرْدٍ أَوْ شِطْرَنْجٍ أَوْ صُوَرَ خَيَالٍ أَوْ أَوْثَانٍ، وَيَأْتِي بَعْضُ ذَلِكَ فِي النَّظْمِ، لَمْ يَضْمَنْ فِي الْجَمِيعِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ (إغَاثَةِ اللَّهْفَانِ مِنْ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ) : وَنَصَّ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى كَسْرِ آلَاتِ اللَّهْوِ كَالطُّنْبُورِ وَغَيْرِهِ إذَا رَآهَا مَكْشُوفَةً وَأَمْكَنَهُ كَسْرُهَا. وَعَنْهُ فِي كَسْرِهَا إذَا كَانَتْ مُغَطَّاةً تَحْتَ ثِيَابِهِ وَعَلِمَ بِهَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ. وَقَدْ عَلِمْت فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ الْإِطْلَاقَ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مَطْلَبٌ: فِي إتْلَافِ آلَةِ التَّنْجِيمِ وَالسِّحْرِ: وَآلَةِ تَنْجِيمٍ وَسِحْرٍ وَنَحْوِهِ ... وَكُتُبٍ حَوَتْ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ اُقْدُدْ (وَ) لَا غُرْمَ أَيْضًا فِي إتْلَافِ (آلَةِ تَنْجِيمٍ) لِأَنَّهُ عِلْمٌ بَاطِلٌ وَحَدْسٌ عَاطِلٌ مَبْنَاهُ عَلَى الْحَدْسِ وَالتَّخْمِينِ لَا عَلَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ لَمْ تَرِدْ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْغَرَّاءُ، وَإِنَّمَا يَلْهَجُ بِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ وَلَا نَصِيبَ مِنْ الدِّينِ بَحْرًا وَبَرًّا. وَقَدْ أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَنَصُّوا عَلَى بُطْلَانِهِ وَحُرْمَتِهِ، فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ الْحَرَامِ. وَقَدْ أَبْطَلَهُ بِالنَّقْضِ وَالْبُرْهَانِ عَيْنُ الْأَعْيَانِ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي (مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ) فَأَتَى فِيهِ بِمَا يَكْفِي وَيَشْفِي وَزِيَادَةٍ، وَأَنْشَدَ قَصِيدَةَ أَبِي تَمَّامٍ فِي أَمْرِ عَمُورِيَّةَ وَالْمُعْتَصِمُ. وَمِنْهَا: أَيْنَ الرِّوَايَةُ أَمْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا ... صَاغُوهُ مِنْ زُخْرُفٍ مِنْهَا وَمِنْ كَذِبِ تَخَرُّصًا وَأَحَادِيثًا مُلَفَّقَةً ... لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إذَا عُدَّتْ وَلَا غَرَبِ وَأَنْشَدَ قَصِيدَةَ الْفَاضِلِ الْعَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَحْمُودٍ الْحُسَيْنِيِّ لَمَّا قَضَى مُنَجِّمُو زَمَانِهِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ لَمَّا نَزَلَ الْإِفْرَنْجُ عَلَى دِمْيَاطَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَغْلِبُوا عَلَى الْبِلَادِ فَيَتَمَلَّكُوا مَا بِأَرْضِ مِصْرَ مِنْ رِقَابِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُمْ لَا تَدُورُ عَلَيْهِمْ الدَّائِرَةُ إلَّا إذَا قَامَ قَائِمُ الزَّمَانِ، وَظَهَرَ بِرَايَاتِهِ الْخَافِقَةِ ذَلِكَ الْأَوَانُ، فَكَذَّبَ اللَّهُ ظُنُونَهُمْ وَأَتَى مِنْ لُطْفِهِ الْخَفِيِّ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابٍ، وَرَدَّ الْفِرِنْجَ، بَعْدَ الْقَتْلِ الذَّرِيعِ فِيهِمْ، وَالْأَسْرِ عَلَى الْأَعْقَابِ. وَكَانَ الْمُنَجِّمُونَ قَدْ أَجْمَعُوا فِي أَمْرِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى نَحْوِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي شَأْنِ عَمُورِيَّةَ مَعَ الْمُعْتَصَمِ ذِي السَّطْوَةِ الْبَارِعَةِ. فَمِمَّا أُنْشِدَ: لَا يَنْبَغِي لَك فِي مَكْرُوهِ حَادِثَةٍ ... أَنْ تَبْتَغِي لَك فِي غَيْرِ الرِّضَا طَلَبَا لِلَّهِ فِي الْخَلْقِ تَدْبِيرٌ يَفُوقُ مَدَى ... أَسْرَارِ حِكْمَتِهِ أَحْكَامَ مَنْ حَسِبَا أَبْغِي النَّجَاةَ إذَا مَا ذُو النَّجَامَةِ فِي ... زُورٍ مِنْ الْقَوْلِ يَقْضِي كُلَّ مَا قَرُبَا إلَى أَنْ قَالَ: لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ خَالِقُنَا ... لَا غَيْرُهُ عَالِمٌ عَجَمًا وَلَا عَرَبَا لَا شَيْءَ أَجْهَلُ مِمَّنْ يَدَّعِي ثِقَةً ... بِحَدْسِهِ وَيَرَى فِيمَا يَرَى رِيَبَا قَدْ يَجْهَلُ الْمَرْءُ مَا فِي بَيْتِهِ نَظَرًا ... فَكَيْفَ عَنْهُ بِمَا فِي غَيْبِهِ احْتَجَبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَأَمَّا الرِّوَايَةُ أَنَّ عَلِيًّا نَهَى عَنْ السَّفَرِ وَالْقَمَرُ فِي الْعَقْرَبِ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ فَبَاطِلٌ. وَالْمَشْهُورُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ خِلَافُهُ، أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِحَرْبِ الْخَوَارِجِ اعْتَرَضَ مُنَجِّمٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَخْرُجَ، قَالَ لِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ إنَّ الْقَمَرَ فِي الْعَقْرَبِ، فَإِنْ خَرَجْت أُصِبْت وَهُزِمَ عَسْكَرُك، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَجِّمٌ، وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا لِعُمَرَ، فَأَخْرُجُ ثِقَةً بِاَللَّهِ وَتَكْذِيبًا لِقَوْلِك، فَمَا سَافَرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَفْرَةً أَبْرَكَ مِنْهَا، قَتَلَ الْخَوَارِجَ وَكَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فَائِزًا بِبِشَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ قَتَلَهُمْ حَيْثُ يَقُولُ: «شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَا، وَخَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوهُ» وَفِي لَفْظٍ «طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ» . وَمِمَّا يُنْسَبُ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَوْلُهُ: أَيَا عُلَمَا النُّجُومِ أَحَلْتُمُونَا ... عَلَى عِلْمٍ أَرَقَّ مِنْ الْهَبَاءِ كُنُوزُ الْأَرْضِ لَمْ تَصِلُوا إلَيْهَا ... فَكَيْفَ وَصَلْتُمُو عِلْمَ السَّمَاءِ قُلْت: وَنَسَبَهُمَا صَلَاحُ الدِّينِ الصَّفَدِيُّ فِي كِتَابِهِ الْوَافِي بِالْوَفَيَاتِ إلَى الْإِمَامِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ بِلَفْظِ: أَمُنْتَحِلِي النُّجُومَ أَحَلْتُمُونَا ... عَلَى عِلْمٍ أَرَقَّ مِنْ الْهَبَاءِ عُلُومُ الْأَرْضِ مَا أَحْكَمْتُمُوهَا ... فَكَيْفَ بِكُمْ إلَى عِلْمِ السَّمَاءِ وَمَا أَلْطَفَ قَوْلَ تَاجِ الدِّينِ الْكِنْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: دَعْ الْمُنَجِّمَ يَكْبُو فِي ضَلَالَتِهِ ... إنْ ادَّعَى عِلْمَ مَا يَجْرِي بِهِ الْفَلَكُ تَفَرَّدَ اللَّهُ بِالْعِلْمِ الْقَدِيمِ فَلَا الْ ... إنْسَانُ يُشْرِكُهُ فِيهِ وَلَا الْمَلَكُ أَعَدَّ لِلرِّزْقِ مِنْ إشْرَاكِهِ شَرَكًا ... وَبِئْسَ الْعِدَّتَانِ الشِّرْكُ وَالشَّرَكُ وَأَطَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَقْرِيرِ كَلَامِ الْمُنَجِّمِينَ وَرَدِّهِ. فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَنَصَحَهُ لِشَرِيعَةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . (وَ) لَا غُرْمَ أَيْضًا فِي إتْلَافِ آلَةِ (سِحْرٍ) لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ (وَ) لَا غُرْمَ أَيْضًا فِي إتْلَافِ آلَةِ (نَحْوِهِ) أَيْ نَحْوِ السِّحْرِ كَالتَّعْزِيمِ وَالْحَصَى الَّذِي يُتَّخَذُ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالسِّحْرِ، وَهُوَ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 دَلَالَةٌ عَلَى كُفْرِ السَّحَرَةِ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» . وَرَوَى عَنْهُ النَّسَائِيُّ مَرْفُوعًا «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ وُكِلَ إلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ دُونَ قَوْلِهِ وَمَنْ أَتَى إلَخْ. وَرَوَى الْبَزَّارُ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا قَالَ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» إسْنَادُهُ جَيِّدُ قَوِيٌّ. وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَنْ أَتَاهُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْكَاهِنُ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْ بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ وَالْمُضْمَرَاتِ فَيُصِيبُ بَعْضَهَا وَيُخْطِئُ أَكْثَرَهَا، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْجِنَّ تُخْبِرُهُ بِذَلِكَ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «لَنْ يَنَالَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ اسْتَقْسَمَ أَوْ رَجَعَ مِنْ سَفَرٍ تَطَيُّرًا» . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْعَرَّافُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ كَالْكَاهِنِ، وَقِيلَ هُوَ السَّاحِرُ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: الْعَرَّافُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الْأُمُورِ بِمُقَدِّمَاتِ أَسْبَابٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى مَوَاقِعِهَا، كَالْمَسْرُوقِ مَنْ الَّذِي سَرَقَهُ، وَمَعْرِفَةِ مَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ سَمَّى الْمُنَجِّمَ كَاهِنًا. انْتَهَى. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَّافَ غَيْرُ الْكَاهِنِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ سَاحِرًا أَوْ كَاهِنًا فَسَأَلَهُ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مَوْقُوفًا. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ «يُؤْمِنُ بِمَا يَقُولُ» وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ قَطَنِ بْنِ قَبِيصَةَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْعِيَافَةُ وَالطِّيَرَةُ وَالطَّرْقُ مِنْ الْجِبْتِ» قَالَ أَبُو دَاوُد: الطَّرْقُ الزَّجْرُ، وَالْعِيَافَةُ الْحَظُّ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الطَّرْقُ الضَّرْبُ بِالْحَصَى وَهُوَ جِنْسٌ مِنْ التَّكْهِينِ وَهُوَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. وَالْجِبْتُ بِكَسْرِ الْجِيمِ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. . (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ كُفْرُ السَّاحِرِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيَحْرُمُ تَعَلُّمُ السِّحْرِ وَتَعْلِيمُهُ وَفِعْلُهُ، وَهُوَ عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلَامٌ يَتَكَلَّمُ بِهِ أَوْ يَكْتُبُهُ أَوْ يَعْمَلُ شَيْئًا يُؤَثِّرُ فِي بَدَنِ الْمَسْحُورِ أَوْ قَلْبِهِ أَوْ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لَهُ. وَلَهُ حَقِيقَةٌ، فَمِنْهُ مَا يَقْتُلُ وَمَا يُمْرِضُ، وَمَا يَأْخُذُ الرَّجُلَ عَنْ زَوْجَتِهِ فَيَمْنَعُهُ عَنْ وَطْئِهَا، أَوْ يَعْقِدُ الْمُتَزَوِّجَ فَلَا يُطِيقُ وَطْأَهَا أَوْ يَسْحَرُهُ حَتَّى يَهِيمَ مَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الْوَحْشِ. وَمِنْهُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ وَمَا يُبْغِضُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، وَيُحَبِّبُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. قَالَ وَيَكْفُرُ بِتَعْلِيمِهِ وَفِعْلِهِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَوْ إبَاحَتَهُ، كَاَلَّذِي يَرْكَبُ الْجَمَادَ مِنْ مِكْنَسَةٍ وَغَيْرِهَا فَتَسِيرُ بِهِ فِي الْهَوَاءِ، وَيَدَّعِي أَنَّ الْكَوَاكِبَ تُخَاطِبُهُ، وَيُقْتَلُ إنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَكَذَا مَنْ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُقْتَلُ سَاحِرٌ ذِمِّيٌّ إلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِهِ، وَيَكُونَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا فَيُقْتَصُّ مِنْهُ. فَأَمَّا الَّذِي يَسْحَرُ بِأَدْوِيَةٍ وَتَدْخِينٍ وَسَقْيِ شَيْءٍ يَضُرُّ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ وَيُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا دُونَ الْقَتْلِ، إلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِفِعْلِهِ غَالِبًا فَيُقْتَصَّ مِنْهُ وَإِلَّا يَكُنْ فِعْلُهُ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا فَالدِّيَةُ. وَأَمَّا الَّذِي يَعْزِمُ عَلَى الْجِنِّ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُهَا فَتُطِيعُهُ فَلَا يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ وَيُعَزَّرُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا دُونَ الْقَتْلِ، وَكَذَا الْكَاهِنُ وَالْعَرَّافُ. وَإِطْلَاقُ الشَّارِعِ كُفْرَ مَنْ أَتَاهُمَا تَشْدِيدٌ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَالْكَاهِنُ الَّذِي لَهُ رَوِيٌّ مِنْ الْجِنِّ يَأْتِيهِ بِالْأَخْبَارِ، وَالْعَرَّافُ الَّذِي يَحْدُسُ وَيَتَخَرَّصُ كَالْمُنَجِّمِ. وَلَوْ أَوْهَمَ قَوْمًا بِطَرِيقَتِهِ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: التَّنْجِيمُ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَحْوَالِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ الْأَرْضِيَّةِ مِنْ السِّحْرِ. قَالَ: وَيَحْرُمُ إجْمَاعًا. وَالْمُشَعْبِذُ وَالْقَائِلُ بِزَجْرِ الطَّيْرِ، وَالضَّارِبُ بِحَصًى وَشَعِيرٍ وَقِدَاحٍ. زَادَ فِي الرِّعَايَةِ: وَالنَّظَرُ فِي أَلْوَاحِ الْأَكْتَافِ إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ إبَاحَتَهُ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِهِ الْغَيْبَ عُزِّرَ وَيَكُفُّ عَنْهُ وَإِلَّا كَفَرَ وَحَرُمَ طَلْسَمٌ بِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ كَاسْمِ كَوْكَبٍ، وَمَا وُضِعَ عَلَى نَجْمٍ مِنْ صُورَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَلَا بَأْسَ بِحَلِّ السِّحْرِ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالْأَقْسَامِ وَالْكَلَامِ الْمُبَاحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) : الَّذِي يَحْرُمُ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا يَدَّعِيهِ أَهْلُهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَوَادِثِ الْآتِيَةِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَجِيءِ الْمَطَرِ، وَوُقُوعِ الثَّلْجِ، وَهُبُوبِ الرِّيحِ، وَتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ ذَلِكَ بِسَيْرِ الْكَوَاكِبِ وَاقْتِرَانِهَا وَافْتِرَاقِهَا وَظُهُورِهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَهَذَا شَيْءٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرَهُ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي (مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ) بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ. فَأَمَّا مَا يُدْرَكُ مِنْ طَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الزَّوَالُ وَجِهَةُ الْقِبْلَةِ وَكَمْ مَضَى وَكَمْ بَقِيَ فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي النَّهْيِ، بَلْ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 (وَ) لَا غُرْمَ أَيْضًا فِي إتْلَافِ (كُتُبٍ) جَمْعُ كِتَابٍ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْكُتُبُ الْمُدَوَّنَةُ الْجَامِعَةُ لِأَبْوَابِ الْعُلُومِ وَفُصُولِهَا وَمَسَائِلِهَا وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِجَمْعِهَا أَنْوَاعَ الْعُلُومِ وَالْمَسَائِلِ. وَإِنَّمَا يُبَاحُ إتْلَافُهَا وَلَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا حَيْثُ (حَوَتْ) أَيْ اشْتَمَلَتْ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: حَوَاهُ يَحْوِيهِ حَيًّا وَحَوَايَةً، وَاحْتَوَاهُ وَاحْتَوَى عَلَيْهِ جَمَعَهُ وَأَحْرَزَهُ. قِيلَ وَمِنْهُ الْحَيَّةُ لِتَحْوِيهَا أَوْ لِطُولِ حَيَاتِهَا. وَالْحَوَايَا الْأَمْعَاءُ. انْتَهَى. (هَذَا) الْهَاءُ لِلتَّنْبِيهِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ لِآلَةِ التَّنْجِيمِ وَالسِّحْرِ بِأَنْوَاعِهِ مِنْ السِّيمِيَاءِ وَالْهِيمْيَاءِ وَالطَّلْسَمَاتِ وَالْعَزَائِمِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْأَوْفَاقِ وَالِاسْتِخْدَامَات، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (وَأَشْبَاهُهُ) أَيْ أَشْبَاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ وَالْبَاطِلَاتِ، فَكُلُّ مَا شَاكَلَ ذَلِكَ وَمَاثَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى مُتْلِفِهِ لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ وَمَالِيَّتِهِ، وَكَذَا كُتُبٌ مُبْتَدَعَةٌ مُضِلَّةٌ، وَأَحَادِيثُ مَكْذُوبَةٌ، وَكُتُبُ أَهْلِ الْكُفْرِ بِالْأَوْلَى لَا سِيَّمَا (كُتُبُ الدُّرُوزِ) عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ، فَقَدْ نَظَرْت فِي بَعْضِهَا فَرَأَيْت الْعَجَبَ الْعُجَابَ، فَلَا يَهُودَ وَلَا نَصَارَى وَلَا مَجُوسَ مِثْلُهُمْ، بَلْ هُمْ أَشَدُّ مِنْ عَلِمْنَا كُفْرًا لِإِسْقَاطِهِمْ الْأَحْكَامَ وَإِنْكَارِهِمْ الْقِيَامَ، وَزَعْمِهِمْ أَنَّ الْحَاكِمَ الْعُبَيْدَيَّ الْخَبِيثَ رَبُّ الْأَنَامِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا وَأَضْرَابِهِ مِنْ الْكُتُبِ الْمُضِلَّةِ (اُقْدُدْ) هَا أَمْرُ وُجُوبٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ مِنْ الْقَدِّ وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُسْتَأْصِلُ أَوْ الْمُسْتَطِيلُ وَالشَّقُّ كَالِاقْتِدَادِ وَالتَّقْدِيدِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَبَيْضٍ وَجَوْزٍ لِلْقِمَارِ بِقَدْرِ مَا ... يُزِيلُ عَنْ الْمَنْكُورِ مَقْصِدَ مُفْسِدِ (وَ) لَا غُرْمَ أَيْضًا فِي إتْلَافِ (بَيْضٍ) يُتَّخَذُ لِلْقِمَارِ (وَ) لَا غُرْمَ أَيْضًا فِي إتْلَافِ (جَوْزٍ) هُوَ الثَّمَرُ الْمَعْرُوفُ. وَقَدْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَجَرَةَ الْجَوْزِ فِي حَدِيثِ (شَجَرَةُ طُوبَى) لَمَّا «قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ لَيْسَ تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ أَرْضِك وَلَكِنْ أَتَيْت الشَّامَ؟ قَالَ لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ فَإِنَّهَا تُشْبِهُ شَجَرَةً فِي الشَّامِ تُدْعَى الْجَوْزَةَ» وَالْمُتَّخَذُ (لِلْقِمَارِ) ثَمَرَتُهَا وَلَكِنْ إنَّمَا يَجُوزُ إتْلَافُ نَحْوِ الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ (بِقَدْرِ مَا) أَيْ إنْكَارٍ (يُزِيلُ) أَيْ يُذْهِبُ وَيُبْطِلُ (عَنْ) الشَّخْصِ (الْمَنْكُورِ) عَلَيْهِ (مَقْصِدَ مُفْسِدِ) أَيْ يُتْلِفُ الْقَدْرَ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الْقَصْدُ الْمُحَرَّمُ الْفَاسِدُ بِأَنْ كَسَرَ الْبَيْضَ وَالْجَوْزَ بِحَيْثُ يُذْهِبُ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 تَأْتِي الْقِمَارُ بِهِ فَقَطْ دُونَ إتْلَافٍ بِالْكُلِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقِمَارِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ الْمُرَاهَنَةِ، يُقَالُ قَامَرَهُ مُقَامَرَةً وَقَمْرًا فَقَمَرَهُ كَنَصَرَهُ وَتَقَمَّرَهُ رَاهَنَهُ فَغَلَبَهُ وَهُوَ التَّقَامُرُ. وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ قَالَ تَعَالَ أُقَامِرْك فَلْيَتَصَدَّقْ» قِيلَ يَتَصَدَّقُ بِقَدْرِ مَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْقِمَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ مَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَلَا شَقِّ زِقِّ الْخَمْرِ أَوْ كَسْرِ دَنِّهِ ... إذَا عَجَزَ الْإِنْكَارُ دُونَ التَّقَدُّدِ (وَلَا) غُرْمَ أَيْضًا فِي (شَقِّ زِقٍّ) أَيْ وِعَاءٍ (الْخَمْرِ) وَالزَّقُّ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ هُوَ السِّقَاءُ أَوْ جِلْدٌ يُجَزُّ وَلَا يَنْتِفْ لِلشَّرَابِ وَغَيْرِهِ. وَالْخَمْرُ كُلُّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ أَيْ غَطَّاهُ، فَمَتَى أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ. وَشُرْبُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا زَادَ مُسْلِمٌ «وَلَكِنَّ التَّوْبَةَ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ» . وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَبَائِعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاللَّفْظُ لَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ «وَآكِلَ ثَمَنِهَا» وَرَوَى مِثْلَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَسَاقِيَهَا وَمُسْقَاهَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ مُدْمِنُهَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ» هَذِهِ الرِّوَايَةُ لِلْبَيْهَقِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ ثُمَّ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمَا: وَفِي قَوْلِهِ حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ وَعِيدٌ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، لِأَنَّ شَرَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَمْرٌ إلَّا أَنَّهُمْ {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 19] وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا يُحْرَمُ شَرَابَهَا. انْتَهَى. قُلْت: وَمِثْلُهُ يُقَالُ فِيمَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] بَلْ أَوْلَى. وَقَدْ أَشْبَعْت الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ الْكَبَائِرِ. (أَوْ) أَيْ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ فِي (كَسْرِ دَنِّهِ) أَيْ دَنِّ الْخَمْرِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرَّاقُودُ الْعَظِيمُ أَوْ أَطْوَلُ مِنْ الْحُبِّ أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ لَهُ عُسْعُسٌ لَا يَقْعُدُ إلَّا أَنْ يَحْفِرَ لَهُ. وَفِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ: الدَّنُّ الْحُبُّ إلَّا أَنَّهُ أَطْوَلُ مِنْهُ وَأَوْسَعُ رَأْسًا وَجَمْعُهُ دِنَانٌ مِثْل سَهْمٍ وَسِهَامٍ، وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحُبِّ: وَالْحُبُّ الْجَرَّةُ أَوْ الضَّخْمَةُ مِنْهَا جَمْعُهُ أَحْبَابٌ وَحِبَبَةٌ وَحِبَابٌ وَبِالْكَسْرِ الْمُحِبُّ. انْتَهَى. وَقَوْلُ النَّاظِمِ (إذَا عَجَزَ الْإِنْكَارُ) أَيْ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْإِنْكَارُ (دُونَ) أَيْ غَيْرَ التَّقَدُّدِ يَعْنِي حَيْثُ لَمْ تُمْكِنْ إزَالَةُ هَذَا الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ إرَاقَةُ الْخَمْرِ بِغَيْرِ تُقَدِّدْ زَقِّ الْخَمْرِ أَوْ كَسْرِ دَنِّهِ. وَمَفْهُومُهُ ضَمَانُ آنِيَةِ الْخَمْرِ مَعَ إمْكَانِ إرَاقَتِهَا دُونَ تَلَفِ الْآنِيَةِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فَقَالَ: وَإِنْ يَتَأَتَّى دُونَهُ دَفْعُ مُنْكَرٍ ضَمِنْت الَّذِي يُنْقَى بِتَغْسِيلِهِ قَدْ (وَإِنْ يَتَأَتَّى) أَيْ يُمْكِنُ إرَاقَةُ الْخَمْرِ مِنْ الزَّقِّ أَوْ الدَّنِّ (دُونَهُ) أَيْ دُونَ شَقِّ زَقِّ الْخَمْرِ وَدُونَ كَسْرِ دَنِّهِ (دَفْعٌ) أَيْ إزَالَةُ (مُنْكَرٍ) وَهُوَ الْخَمْرُ بِلَا شَقِّ زَقٍّ أَوْ كَسْرِ دَنٍّ ثُمَّ مَعَ الْإِمْكَانِ وَالتَّأَتِّي وَالنَّهْيِ لِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَدَفْعِهِ مَعَ إرَاقَةِ الْخَمْرِ بِغَيْرِ شَقٍّ وَكَسْرٍ إنْ شَقَقْت الزِّقَّ أَوْ كَسَرْت الدَّنَّ (ضَمِنْت) أَيْ غَرِمْت الزِّقَّ أَوْ الدَّنَّ (الَّذِي يُنْقَى) أَيْ يُنَظَّفُ وَيُطَهَّرُ. وَأَصْلُ النَّقَاءِ الْبَيَاضُ وَالنَّظَافَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الطَّهَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الْوِعَاءُ طَاهِرًا جَائِزَ الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ كَوْنِهِ نَجِسًا مُحَرَّمَ الِاسْتِعْمَالِ (بِتَغْسِيلِهِ) أَيْ بِسَبَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 تَغْسِيلِ ذَلِكَ الْإِنَاءِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ. فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَطْهِيرُهُ بِأَنْ كَانَ تَشْرَبُ النَّجَاسَةَ فَلَا ضَمَانَ بِأَنْ يَكُونَ الدَّنُّ أَوْ الزِّقُّ فَشَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ. وَقَوْلُهُ (قَدْ) أَيْ حَسْبُ، يَعْنِي فَقَطْ دُونَ الَّذِي لَمْ يَطْهُرْ بِتَغْسِيلِهِ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَجْزِ عَنْ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِدُونِ كَسْرٍ أَوْ شَقِّ وِعَاءِ الْخَمْرِ وَإِلَّا ضَمِنَ رِوَايَةً اخْتَارَهَا النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَقَلَهَا فِي الْإِنْصَافِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِهِمَا وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَثْرَمِ مِنْ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْمَذْهَبُ الْمَجْزُومُ بِهِ خِلَافُهُ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: لَمْ يَضْمَنْ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى إرَاقَتِهَا بِدُونِ تَلَفِ الْإِنَاءِ أَوْ لَا. قَالَ وَهُوَ الْمَذْهَبُ نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ. وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ آتِيَهُ بِمُدْيَةٍ وَهِيَ الشَّفْرَةُ فَأَتَيْت بِهَا فَأَرْسَلَ بِهَا فَأُرْهِفَتْ ثُمَّ أَعْطَانِيهَا وَقَالَ أَعِدْ عَلَيَّ بِهَا فَفَعَلْت. فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إلَى أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ وَفِيهَا زُقَاقُ الْخَمْرِ قَدْ جُلِبَتْ مِنْ الشَّامِ، فَأَخَذَ الْمُدْيَةَ مِنِّي فَشَقَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الزِّقَاقِ بِحَضْرَتِهِ كُلِّهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَنْ يَمْضُوا مَعِي وَيُعَاوِنُونِي، وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْأَسْوَاقَ كُلَّهَا فَلَا أَجِدُ فِيهَا زِقَّ خَمْرٍ إلَّا شَقَقْتُهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَكَذَا لَوْ أَحْرَقَ مَخْزِنَ خَمْرٍ لَمْ يَضْمَنْ كَمَا فِي الْهَدْيِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَجُلٌ مُسْلِمٌ وُجِدَ فِي بَيْتِهِ خَمْرٌ، قَالَ يُرَاقُ الْخَمْرُ وَيُؤَدَّبُ، وَإِنْ كَانَتْ تِجَارَتَهُ يُحْرَقُ بَيْتُهُ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بِرُوَيْشِدٍ. انْتَهَى. يُرِيدُ مَا رَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: وَجَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَيْتِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ شَرَابًا فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَحُرِقَ بَيْتُهُ، وَكَانَ يُدْعَى (رُوَيْشِدٌ) فَقَالَ عُمَرُ: إنَّهُ فُوَيْسِقٌ. وَقَالَ الْحَارِثُ: شَهِدَ قَوْمٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَصْطَنِعُ الْخَمْرَ فِي بَيْتِهِ فَيَشْرَبُهَا وَيَبِيعُهَا، فَأُمِرَ بِهَا فَكُسِرَتْ وَحُرِقَ بَيْتُهُ وَأُنْهِبَ مَالُهُ ثُمَّ جُلِدَ، وَنَفَاهُ. رَوَاهُمَا الْإِمَامُ ابْنُ بَطَّةَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. [مَطْلَبٌ: فِي هَجْرِ مَنْ أَعْلَنَ بِالْمَعَاصِي] وَلَمَّا بَيَّنَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَرَاتِبِهِ الثَّلَاثَةِ وَبَيَّنَ طَرَفًا مِمَّا يُنْكِرُهُ وَيَكْسِرُهُ وَيُتْلِفُهُ. وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَيَكُونُ إنَّمَا أَنْكَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ فَقَطْ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي هِجْرَانُهُ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ هِجْرَانِ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْعِصْيَانِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي هَجْرِ مَنْ أَعْلَنَ بِالْمَعَاصِي: وَهِجْرَانُ مَنْ أَبْدَى الْمَعَاصِيَ سُنَّةٌ ... وَقَدْ قِيلَ إنْ يَرْدَعْهُ أَوْجِبْ وَأَكِّدْ (وَهِجْرَانُ) مَصْدَرُ هَجَرَهُ هَجْرًا بِالْفَتْحِ وَهِجْرًا بِالْكَسْرِ صَرَمَهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْهَجْرُ ضِدُّ الْوَصْلِ يَعْنِي صَرْمَ وَقَطْعَ (مَنْ) أَيْ إنْسَانٍ مُكَلَّفٍ (أَبْدَى) أَيْ أَظْهَرَ وَأَعْلَنَ ذَلِكَ الْمُكَلَّفُ (الْمَعَاصِيَ) جَمْعُ مَعْصِيَةٍ وَهِيَ مَا يُعَابُ فَاعِلُهَا ضِدُّ الطَّاعَةِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَعَاصِي فِعْلِيَّةً أَوْ قَوْلِيَّةً أَوْ اعْتِقَادِيَّةً (سُنَّةٌ) مِنْ سُنَنِ الْمُصْطَفَى يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهَا حَيْثُ كَانَ الْهَجْرُ لِلَّهِ تَعَالَى وَغَضَبًا لِارْتِكَابِ مَعَاصِيهِ أَوْ لِإِهْمَالِ أَوَامِرِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ لَمْ يَأْثَمْ إنْ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَإِلَّا كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُلِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَرَ مُنْكَرًا وَلَا جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ. وَقَدْ هَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعْبًا وَصَاحِبِيهِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِهَجْرِهِمْ خَمْسِينَ يَوْمًا. وَهَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا. وَهَجَرَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ابْنَ أُخْتِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مُدَّةً. وَهَجَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَاتُوا مُتَهَاجِرِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. أَمَّا هِجْرَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعْبًا وَصَاحِبَهُ وَهُمَا (مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ) الْعَامِرِيُّ وَ (هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ) الْوَاقِفِيُّ فَلِتَخَلُّفِهِمْ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَأَمَّا هِجْرَانُهُ أَهْلَهُ شَهْرًا فَلِكَلَامٍ أَغْضَبَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَلَبِ بَعْضِ أُمُورٍ وَشُئُونٍ مِنْهُ حَتَّى أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ، فَخَيَّرَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَمَّا هِجْرَانُ سَيِّدَتِنَا وَأُمِّنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ابْنَ أُخْتِهَا الْإِمَامَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلِفَرْطِ كَرَمِهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَدَمِ اكْتِرَاثِهَا بِالدُّنْيَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ هَذَا سَفَهٌ أَوْ كَلَامٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَوْجَبَ غَضَبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 عَائِشَةَ وَآلَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا. وَلَفْظُ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا نَعَمْ. قَالَتْ هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ، فَقَالَتْ لَا وَاَللَّهِ لَا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِإِيرَادِ أَثَرِ عَائِشَةَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْهِجْرَةِ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَنْ هَجَرَ بِغَيْرِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ فَطَالَتْ هِجْرَتُهَا إيَّاهُ فَنَغَّصَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ فَاسْتَشْفَعَ بِالْمُهَاجِرِينَ فَلَمْ تَقْبَلْ. وَأَخْرَجَهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ وَزَادَ فِيهِ: فَاسْتَشْفَعَ إلَيْهَا بِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ فَقَالَ لَهَا أَيُّ حَدِيثٍ أَخْبَرْتَنِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّرْمِ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَلَمْ تَقْبَلْ، أَيْ لِأَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَهَا مَخْصُوصٌ كَمَا تَقَدَّمَ. فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاَللَّهِ لَمَا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذُرَ قَطِيعَتِي. فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلِينَ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَا السَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ أَنَدْخُلُ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ اُدْخُلُوا. قَالُوا كُلُّنَا؟ قَالَتْ نَعَمْ اُدْخُلُوا كُلُّكُمْ وَلَا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ. فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَفِيهِ أَنَّهُ بَكَى وَبَكَتْ وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ بَعَثَتْ إلَى الْيَمَنِ بِمَالٍ قَالَ فَابْتِيعَ لَهَا بِهِ أَرْبَعُونَ رَقَبَةً فَأَعْتَقَتْهَا كَفَّارَةً لِنَذْرِهَا. وَأَرْسَلَ لَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ بِعَشْرِ رِقَابٍ فَأَعْتَقَتْهُمْ وَلَعَلَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْبَعِينَ بِأَنْ كَمَّلَتْ عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو دَاوُد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ لِلَّهِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا يَعْنِي مِنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ بِالْهِجْرَانِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَجَرَ بَعْضَ نِسَائِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَجَرَ ابْنًا لَهُ إلَى أَنْ مَاتَ. وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ هَجَرَ جَمَاعَةً مِمَّنْ أَجَابُوا فِي الْمِحْنَةِ مِثْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرِهِمَا مَعَ فَخَامَةِ شَأْنِهِمْ، حَتَّى ذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمِلَ أَبْيَاتًا فِي شَأْنِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَأَرْسَلَهَا إلَيْهِ وَهِيَ: يَا ابْنَ الْمَدِينِيِّ الَّذِي عَرَضَتْ لَهُ ... دُنْيَا فَجَادَ بِدِينِهِ لِيَنَالَهَا مَاذَا دَعَاك إلَى انْتِحَالِ مَقَالَةٍ ... قَدْ كُنْت تَزْعُمُ كَافِرًا مَنْ قَالَهَا أَمْرٌ بَدَا لَك رُشْدُهُ فَتَبِعْته ... أَمْ زِينَةُ الدُّنْيَا أَرَدْت نَوَالَهَا وَلَقَدْ عَهِدْتُك مَرَّةً مُتَشَدِّدًا ... صَعْبَ الْمَقَالَةِ لِلَّتِي تُدْعَى لَهَا إنَّ الْمُرَزَّى مَنْ يُصَابُ بِدِينِهِ ... لَا مَنْ يُرَزَّأُ نَاقَةً وَفِصَالَهَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَنَدٍ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَكَمْ إمَامٍ هَجَرَ لِلَّهِ خِدْنًا كَانَ أَعَزَّ عَلَيْهِ لَوْلَا انْتِهَاكُهُ لِمَحَارِمِ مَوْلَاهُ مِنْ رُوحِهِ، فَصَارَ بِذَلِكَ كَالْجَمَادِ بَلْ أَدْنَى. فَلَا نُطِيلُ الْكَلَامَ بِحِكَايَاتِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ خَيْرِ الْأَنَامِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَعَ كَعْبٍ وَصَاحِبَيْهِ وَهِيَ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَذْكُورَةٌ. (وَقَدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ، وَتَأْتِي لِلتَّقْلِيلِ كَ (قَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ) وَلِلتَّكْثِيرِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَدْ أَتْرُكُ الْفُرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ وَلِلتَّوَقُّعِ قَدْ يَقْدُمُ الْغَائِبُ وَتَقْرِيبِ الْمَاضِي مِنْ الْحَالِ قَدْ قَامَ زَيْدٌ وَكَذَا لِتَقْرِيبِ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ وَلِلنَّفْيِ كَقَوْلِهِمْ: قَدْ كُنْت فِي خَيْرٍ فَتَعْرِفَهُ بِنَصْبِ تَعْرِفُ. وَمَعْنَى هَذَا كَمَا ذَكَرْنَا لِلتَّحْقِيقِ (قِيلَ) فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ أَصْلُهُ قُوِلَ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الْوَاوِ اُسْتُثْقِلَتْ الضَّمَّةُ عَلَى الْقَافِ فَحُذِفَتْ ثُمَّ نُقِلَتْ كَسْرَةُ الْوَاوِ إلَى الْقَافِ فَصَارَتْ قِوْلَ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا فَصَارَتْ قِيلَ (أَنْ يَرْدَعَهُ) أَيْ إنْ كَانَ الْهِجْرَانُ يَرْدَعُ مَنْ أَظْهَرَ الْمَعَاصِيَ أَيْ يَكُفُّهُ وَيَزْجُرُهُ وَيَرُدُّهُ، يُقَالُ رَدَعَهُ كَمَنَعَهُ كَفَّهُ وَرَدَّهُ (أَوْجَبَ) ذَلِكَ عَلَيْهِ (وَأَكِّدْ) الْوُجُوبَ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتِمَّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَإِنْ حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٌ، وَيَرْدَعْهُ فِعْلُ الشَّرْطِ، وَأَوْجِبْ جَوَابُهُ، وَأَكِّدْ مَعْطُوفٌ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَّةِ. وَقِيلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَا دَامَ مُعْلِنَا ... وَلَاقِهِ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ مُرَبَّدِ (وَقِيلَ) أَوْجَبَ هَجْرَهُ (عَلَى) سَبِيلِ (الْإِطْلَاقِ) مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِكَوْنِهِ يَرْتَدِعُ بِهَذَا الْهَجْرِ أَوْ لَا. فَمَتَى ارْتَكَبَ مَعَاصِيَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجِبْ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 نَفْسِك وَإِخْوَانِك الْمُتَشَرِّعِينَ هِجْرَانَهُ (مَا دَامَ مُعْلِنَا) أَيْ مُدَّةَ دَوَامِ إعْلَانِهِ لِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي. وَالْإِعْلَانُ الظُّهُورُ وَالْبَيَانُ وَهُوَ ضِدُّ السِّرِّ وَالْإِخْفَاءِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالِاعْتِقَادِيَّة، وَقِيلَ: يَجِبُ إنْ ارْتَدَعَ بِهِ وَإِلَّا كَانَ مُسْتَحَبًّا. وَقِيلَ: يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إلَّا مِنْ السَّلَامِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى يَتُوبَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَيُكْرَهُ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ تَرْكُهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرْكُ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ مُطْلَقًا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو حُسَيْنٍ فِي التَّمَامِ: لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي وُجُوبِ هَجْرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَفُسَّاقِ الْمِلَّةِ. وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُجَاهِرِ وَغَيْرِهِ كَالْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ فَيَنْبَغِي لَك إنْ كُنْت مُتَّبِعًا سُنَنَ مَنْ سَلَفَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَاهَرَ بِمَعَاصِي اللَّهِ لَا تُعَاضِدْهُ وَلَا تُسَاعِدْهُ وَلَا تُقَاعِدْهُ وَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ بَلْ اُهْجُرْهُ (وَلَاقِهِ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ الْمُلَاقَاةِ (بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ) عَلَى وَزْنِ مُسْتَمِرٍّ هُوَ الْغَلِيظُ، يُقَالُ اكْفَهَرَّ وَجْهُهُ عَبَسَ وَقَطَبَ. وَفِي الْحَدِيثِ «الْقَوْا الْمُخَالِفِينَ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ عَابِسٍ قَطُوبٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إذَا لَقِيت الْكَافِرَ فَالْقَهُ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ» وَقَوْلُهُ (مُرَبَّدِ) صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ. وَالْمُرَبَّدُ الْمُلَوَّنُ وَزْنًا وَمَعْنًى. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: تَرَبَّدَ تَغَيَّرَ، وَتَرَبَّدَتْ السَّمَاءُ تَغَيَّمَتْ وَتَعَبَّسَتْ انْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَرَبَّدَ لَوْنُهُ وَأَرْبَدَ أَيْ تَلَوَّنَ وَصَارَ كَلَوْنِ الرَّمَادِ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرَةِ: وَالرُّبْدَةُ لَوْنٌ أَكْدَرُ مِنْ الْوَرْقَاءِ، يَعْنِي الْحَمَامَةَ الرَّبْدَاءَ. يُقَالُ نَعَامَةٌ رَبْدَاءُ وَظَلِيمٌ أَرْبَدَ. قَالَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُ الرَّجُلِ إذَا احْمَارَّ حُمْرَةً فِيهَا سَوَادٌ عِنْدَ الْغَضَبِ. وَرَبَدَ السَّيْفُ فَرَبَدَهُ، يُقَالُ سَيْفٌ ذُو رُبْدٍ أَيْ فِيهِ شِبْهُ غُبَارٍ أَوْ مَدَبُّ نَمْلٍ. انْتَهَى. وَفِي قَصِيدَةِ بِشْرِ بْنِ أَبِي عَوَانَةَ الْعَبْدِيِّ الْجَاهِلِيِّ الَّتِي كَتَبَهَا إلَى أُخْتِهِ فَاطِمَةَ، كَانَ قَدْ خَرَجَ فِي ابْتِغَاءِ مَهْرِ ابْنَةِ عَمِّهِ فَعَرَضَ لَهُ أَسَدٌ فَقَتَلَ الْأَسَدَ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي قُرَاضَةِ الذَّهَبِ وَقَالَ فِي ذَلِكَ: أَفَاطِمُ لَوْ شَهِدْت بِبَطْنٍ خَبْتٍ ... وَقَدْ لَاقَى الْهِزَبْرُ أَخَاك بِشْرَا إذًا لَرَأَيْت لَيْثًا رَامَ لَيْثًا ... هِزَبْرًا أَغْلَبًا لَاقَى هِزَبْرَا تَبَهْنَسَ إذْ تَقَاعَسَ عَنْهُ مُهْرِي ... مُحَاذَرَةً فَقُلْت عُقِرْت مُهْرَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أَنِلْ قَدَمَيَّ ظَهْرَ الْأَرْضِ إنِّي ... رَأَيْت الْأَرْضَ أَثْبَتَ مِنْك ظَهْرَا فَحِينَ نَزَلْت مَدَّ إلَيَّ طَرْفًا ... تَخَالُ الْمَوْتَ يَلْمَعُ مِنْهُ شَزَرًا فَقُلْت لَهُ وَقَدْ أَبْدَى نِصَالًا ... مُحَدِّدَةً وَوَجْهًا مُكْفَهِرَّا تَدَلَّ بِمِخْلَبٍ وَبِحَدِّ نَابٍ ... وَبِاللَّحَظَاتِ تَحْسَبُهُنَّ جَمْرَا وَفِي يُمْنَايَ مَاضِي الْحَدِّ أَبْقَى ... بِمِضْرَبِهِ قِرَاعَ الدَّهْرِ أَسْرَا إلَى آخِرِهَا. وَهِيَ قَصِيدَةٌ عَظِيمَةٌ. وَالشَّاهِدُ فِي قَوْلِهِ وَوَجْهًا مُكْفَهِرَّا يَعْنِي عَابِسًا قَطُوبًا. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - آثَرُوا فِرَاقَ أَنْفُسِهِمْ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهَا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَهَذَا يَقُولُ زَنَيْت فَطَهِّرْنِي، وَنَحْنُ لَا نَسْخُو أَنْ نُقَاطِعَ أَحَدًا فِيهِ لِمَكَانِ الْمُخَالَفَةِ. وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ النَّاظِمِ وَهِجْرَانُ مَنْ أَبْدَى الْمَعَاصِيَ، وَمِنْ قَوْلِهِ مَا دَامَ مُعْلِنًا أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعَاصِي الْمُسْتَتِرَ لَا يُهْجَرُ وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا عُلِمَ مِنْ الرَّجُلِ الْفُجُورُ أَيُخْبَرُ بِهِ النَّاسُ؟ قَالَ بَلْ يُسْتَرُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَاعِيَةً. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ فِي مَعْنَى الدَّاعِيَةِ مَنْ اُشْتُهِرَ وَعُرِفَ بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسَرَّ الْمَعْصِيَةَ. وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ الْقَاضِي فِيمَنْ أَتَى مَا يُوجِبُ حَدًّا إنْ شَاعَ عَنْهُ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَذْهَبَ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ لِيَأْخُذَهُ بِهِ وَإِلَّا سَتَرَ نَفْسَهُ. قَالَ الْقَاضِي: فَإِنْ كَانَ يَسْتَتِرُ بِالْمَعَاصِي فَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يُهْجَرُ. قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَيْسَ لِمَنْ يَسْكَرُ وَيُقَارِفُ شَيْئًا مِنْ الْفَوَاحِشِ حُرْمَةٌ وَلَا وَصْلَةٌ إذَا كَانَ مُعْلِنًا بِذَلِكَ مُكَاشِفًا. وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ الْمُجَانَبَةِ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يُهْجَرُ أَهْلُ الْمَعَاصِي وَمَنْ قَارَفَ الْأَعْمَالَ الرَّدِيَّةَ أَوْ تَعَدَّى حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَعْنَى الْإِقَامَةِ عَلَيْهِ أَوْ الْإِضْرَارِ. وَأَمَّا مَنْ سَكِرَ أَوْ شَرِبَ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْظُورَةِ ثُمَّ لَمْ يُكَاشِفْ بِهَا وَلَمْ يَلْقَ فِيهَا جِلْبَابُ الْحَيَاءِ فَالْكَفُّ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ وَعَنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمْسَاكُ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ أَسْلَمُ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: إنَّ الْمُسْتَتِرَ بِالْمُنْكَرِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُسْتَرُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فُعِلَ مَا يَنْكَفُّ بِهِ إذَا كَانَ أَنْفَعَ بِهِ فِي الدِّينِ. وَإِنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الْمُظْهِرَ لِلْمُنْكَرِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ عَلَانِيَةً، وَلَا تَبْقَى لَهُ غِيبَةٌ، وَيَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَانِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ أَنْ يَهْجُرُوهُ مَيِّتًا إذَا كَانَ فِيهِ كَفٌّ لِأَمْثَالِهِ فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يُنَافِيهِ وُجُوبُ الْإِغْضَاءِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ وُجُوبُ الْإِنْكَارِ سِرًّا جَمْعًا بَيْنَ الْمَصَالِحِ. وَلِذَا يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ: تُعْتَبَرُ الْمَصْلَحَةُ قَالَ فِي الْآدَابِ: وَكَلَامُهُمْ ظَاهِرٌ أَوْ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ السَّتْرِ عَلَى هَذَا يَعْنِي الَّذِي لَمْ يُعْلِنْ بِالْمَعْصِيَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ الْحَلَالُ يُسْتَحَبُّ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلَمْ أَجِدْ بَيْنَ الْأَصْحَابِ خِلَافًا فِي أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا لَهُ أَنْ يُقِيمَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُقِيمَهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ سَتْرَهُ لَا يَجِبُ، وَأَنَّهُ يُنْكَرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِهِ. وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَشْهُورًا بِالشَّرِّ وَالْفَسَادِ أَمْ لَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ أَمَّا السَّتْرُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ هُنَا فَالْمُرَادُ بِهِ السَّتْرُ عَلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَادِ، وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُسْتَرَ عَلَيْهِ بَلْ يَرْفَعُ قِصَّتَهُ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إنْ لَمْ يَخَفْ مِنْ ذَلِكَ مَفْسَدَةً، لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطْمِعُهُ فِي الْإِيذَاءِ وَالْفَسَادِ وَانْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي سِتْرِ مَعْصِيَةٍ مَضَتْ وَانْقَضَتْ، أَمَّا مَعْصِيَةٌ رَآهُ عَلَيْهَا وَهُوَ بَعْدُ مُتَلَبِّسٌ فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِإِنْكَارِهَا عَلَيْهِ وَمَنْعِهِ مِنْهَا عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا، فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ. انْتَهَى. [مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ التَّجَسُّسِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ] وَلَمَّا كَانَ السَّتْرُ مَطْلُوبًا وَفَاعِلُهُ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ مَحْسُوبًا، كَانَ عَدَمُ التَّجَسُّسِ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى أَحْرَى. كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ وَأَدْرَى. وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ التَّجَسُّسِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ: وَيَحْرُمُ تَجْسِيسٌ عَلَى مُتَسَتِّرٍ ... بِفِسْقٍ وَمَاضِي الْفِسْقِ إنْ لَمْ يُجْدَدْ (وَيَحْرُمُ) عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ (تَجْسِيسٌ) بِالْجِيمِ هُوَ الْبَحْثُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ. وَأَمَّا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَهُوَ الْبَحْثُ عَنْ طَلَبِ الْخَبَرِ. قَالَ تَعَالَى {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] بِحَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ لَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَايِبَهُمْ بِالْبَحْثِ عَنْهَا. وَقَالَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ {فَتَحَسَّسُوا} [يوسف: 87] بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ {مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87] أَيْ اُطْلُبُوا خَبَرَهُمَا. فَتَتَبُّعُ أَخْبَارِ النَّاسِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْبَحْثِ مِنْ عُيُوبِهِمْ أَوْ لِيَطَّلِعَ عَلَى أَخْبَارِهِمْ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِئَلَّا يَظْهَرَ عَلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ. وَتَأَمُّلُ الْعَيْبِ مَعِيبٌ وَكَذَا تَتَبُّعُهُ وَالْبَحْثُ عَنْهُ. وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِئَلَّا يَقَعَ فِي حَدٍّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا» وَقِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ لِاسْتِمَاعِ حَدِيثِ الْقَوْمِ وَأَصْلُهُ مِنْ الْحِسِّ لِأَنَّهُ يَتَتَبَّعُهُ بِحِسِّهِ، وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ (وَلَا تَحَسَّسُوا) بِالْحَاءِ، قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ ذَلِكَ الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْأُمَنَاءِ عَلَى الْأَوْقَافِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْأَيْتَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ جَرْحُهُمْ وَلَا يَحِلُّ السَّتْرُ عَلَيْهِمْ إذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ وَتَقَدَّمَ. (عَلَى مُتَسَتِّرٍ) مُتَعَلِّقٌ بِتَجْسِيسٍ بِخِلَافِ الْمُعْلِنِ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا غِيبَتُهُ لِأَنَّهُ قَدْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْ وَجْهِهِ (بِ) عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ يُؤَدِّي إلَى (فِسْقٍ) مِنْ شُرْبِ خَمْرٍ وَزِنًا وَلِوَاطٍ وَنَحْوِهَا. ذَكَرَ الْمَهْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ فَإِنْ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى رِيبَةٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتُرَهَا وَيَعِظَهُ مَعَ ذَلِكَ وَيُخَوِّفَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْإِجْهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ» وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ " مُعَافَاةٌ " يَعُودُ إلَى الْأُمَّةِ. وَفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 بَعْضِ النُّسَخِ. وَإِنَّ الْمُجَاهَرَةَ " وَفِي بَعْضِهَا " وَإِنَّ مِنْ الْجِهَارِ يُقَالُ جَهَرَ بِأَمْرِ كَذَا وَأَجْهَرَ وَجَاهَرَ. (وَ) يَحْرُمُ تَجْسِيسٌ عَلَى (مَاضِي الْفِسْقِ) أَيْ مَا يُفَسَّقُ بِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي أَوْ الْفِسْقِ الْمَاضِي مِثْلُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي مَضَى وَتَبْحَثُ عَنْهُ أَنْتَ بَعْدَ مُدَّةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ إشَاعَةٌ لِلْمُنْكَرِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا عَوْدَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا هُوَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ فَيَنْبَغِي كَفُّهُ وَنِسْيَانُهُ دُونَ إذَاعَتِهِ وَإِعْلَانِهِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ التَّجَسُّسُ عَنْ ذَلِكَ (إنْ لَمْ يُجَدِّدْ) الْعَوْدُ عَلَيْهِ وَالْإِتْيَانُ بِهِ ثَانِيًا. فَإِنْ عَاوَدَهُ فَلَا حُرْمَةَ إذَنْ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَيَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لِمُنْكَرٍ فُعِلَ خُفْيَةً عَلَى الْأَشْهَرِ أَوْ مَاضٍ أَوْ بَعِيدٍ وَقِيلَ يُجْهَلُ فَاعِلُهُ وَمَحَلُّهُ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا إنْكَارَ فِيمَا مَضَى وَفَاتَ إلَّا فِي الْعَقَائِدِ أَوْ الْآرَاءِ. انْتَهَى. وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ النَّاظِمِ، لِأَنَّ الْعَقَائِدَ مِمَّا يُجَدَّدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مَرْفُوعًا «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ» . قَالَ الْحَجَّاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَالْمُسْتَتِرُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ غَالِبًا غَيْرُ مَنْ حَضَرَهُ، وَيَكْتُمُهُ وَلَا يُحَدِّثُ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ فِي مَوْضِعٍ يَعْلَمُ بِهِ جِيرَانُهُ وَلَوْ فِي دَارِهِ فَإِنَّ هَذَا مُعْلِنٌ مُجَاهِرٌ غَيْرُ مُسْتَتِرٍ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَنْ تَسَتَّرَ بِالْمَعْصِيَةِ فِي دَارِهِ وَأَغْلَقَ بَابَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَجَسَّسَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُظْهِرَ مَا يَعْرِفُهُ كَأَصْوَاتِ الْمَزَامِيرِ وَالْعِيدَانِ، فَلِمَنْ سَمِعَ ذَلِكَ أَنْ يَدْخُلَ وَيَكْسِرَ الْمَلَاهِيَ، وَإِنْ فَاحَتْ رَائِحَةُ الْخَمْرِ فَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الْإِنْكَارِ. انْتَهَى. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ: وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَرْبَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَنْ كَانَ مَسْتُورًا لَا يُعْرَفُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي، فَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُهَا وَهَتْكُهَا وَلَا التَّحَدُّثُ بِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19] وَالْمُرَادُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 إشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَتِرِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ أَوْ اُتُّهِمَ بِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ كَمَا فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ. قَالَ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ الصَّالِحِينَ لِبَعْضِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ: اجْتَهِدْ أَنْ تَسْتُرَ الْعُصَاةَ فَإِنَّ ظُهُورَ مَعَاصِيهِمْ عَيْبٌ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَوْلَى الْأُمُورِ سَتْرُ الْعُيُوبِ. وَفِي مِثْلِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ «أَقِيلُوا ذَوِي الْعَثَرَاتِ عَثَرَاتِهِمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَالثَّانِي: مَنْ كَانَ مُشْتَهِرًا بِالْمَعَاصِي مُعْلِنًا بِهَا وَلَا يُبَالِي بِمَا ارْتَكَبَ مِنْهَا وَلَا بِمَا قِيلَ لَهُ، فَهَذَا هُوَ الْفَاجِرُ الْمُعْلِنُ وَلَيْسَ لَهُ غِيبَةٌ، وَمِثْلُ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِالْبَحْثِ عَنْ أَمْرِهِ لِتُقَامَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. انْتَهَى. وَأَمَّا تَسَوُّرُ الْجُدْرَانِ عَلَى مَنْ عَلِمَ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى مُنْكَرٍ فَقَدْ أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ مِثْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّجَسُّسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ فُلَانًا تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ نَهَانَا اللَّهُ عَنْ التَّجَسُّسِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: إنْ كَانَ فِي الْمُنْكَرِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الِاسْتِمْرَارُ بِهِ بِإِخْبَارِ ثِقَةٍ عَنْهُ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا كَالزِّنَا وَالْقَتْلِ جَازَ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنْ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرُّتْبَةِ لَمْ يَجُزْ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا الْكَشْفُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ عَلَى دَارِ غَيْرِهِ يَسْتَمِعُ صَوْتَ الْأَوْتَارِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلشَّمِّ لِيُدْرِكَ رَائِحَةَ الْخَمْرِ، وَلَا أَنْ يَمَسَّ مَا قَدْ سُتِرَ بِثَوْبٍ لِيَعْرِفَ شَكْلَ الْمِزْمَارِ، وَلَا أَنْ يَسْتَخْبِرَ جِيرَانَهُ لِيُخْبِرَ بِمَا جَرَى، بَلْ لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ ابْتِدَاءً أَنَّ فُلَانًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَلَهُ إذْ ذَاكَ أَنْ يَدْخُلَ وَيُنْكِرَ. وَمَرَّ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَتَى سَمِعَ أَنْكَرَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَارِثِ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ قَالَ يَأْمُرُهُ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ يَجْمَعُ عَلَيْهِ الْجِيرَانَ وَيُهَوِّلُ عَلَيْهِ. وَفِيمَنْ سَمِعَ صَوْتَ الْمُغَنِّي فِي الطَّرِيقِ قَالَ: هَذَا قَدْ ظَهَرَ، عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَاهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي الْكَفِّ عَنْ الْبَحْثِ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ: أَدْرَكْنَا قَوْمًا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ عُيُوبٌ، فَذَكَرُوا عُيُوبَ النَّاسِ فَذَكَرَ النَّاسُ لَهُمْ عُيُوبًا؛ وَأَدْرَكْنَا أَقْوَامًا كَانَتْ لَهُمْ عُيُوبٌ فَكَفُّوا عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ فَنُسِيَتْ عُيُوبُهُمْ. وَشَاهِدُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي بُرْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا. «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ لَا تَغْتَابُوا النَّاسَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» ، وَتَقَدَّمَ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ: لَا تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا ... فَيَكْشِفَ اللَّهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَا وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إذَا ذُكِرُوا ... وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا وَاسْتَغْنِ بِاَللَّهِ عَنْ كُلٍّ فَإِنَّ بِهِ ... غِنًى لِكُلٍّ وَثِقْ بِاَللَّهِ يَكْفِيكَا (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : قَدْ هَجَرَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - جَمَاعَةً بِأَدْوَنَ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَضْحَكُ مَعَ جِنَازَةٍ فَقَالَ تَضْحَكُ مَعَ الْجِنَازَةِ لَا أُكَلِّمُك أَبَدًا. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ كَانَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امْرَأَةٌ فِي خُلُقِهَا سُوءٌ، فَكَانَ يَهْجُرُهَا السَّنَةَ وَالْأَشْهُرَ، فَتَتَعَلَّقُ بِثَوْبِهِ فَتَقُولُ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ يَا ابْنَ مَالِكٍ، أَنْشُدُك بِاَللَّهِ يَا ابْنَ مَالِكٍ، فَمَا يُكَلِّمُهَا. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ جَعَلَ فِي عَضُدِهِ خَيْطًا مِنْ الْحُمَّى: لَوْ مِتَّ وَهَذَا عَلَيْك لَمْ أُصَلِّ عَلَيْك. وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ ابْنَك أَكَلَ طَعَامًا حَتَّى كَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ، قَالَ: لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي مَقَامَاتِهِ الْمُسَمَّاةِ (الزَّجْرُ بِالْهَجْرِ) قَالَ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ بَشِيرِ بْنِ عَمْرٍو، كَانَ قَدْ «رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَصْرِمْ الْأَحْمَقَ فَلَيْسَ لِلْأَحْمَقِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ الْهِجْرَانِ» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى بَشِيرِ بْنِ عَمْرٍو. وَرَوَى مَرْفُوعًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَفْظُهُ «أَصْرِمْ الْأَحْمَقَ» قَالَ الْحَاكِمُ: بَشِيرُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ فِيهِ وَمَسَانِيدُهُ عَزِيزَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ «أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ خَذَفَ فَنَهَاهُ وَقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْخَذْفِ وَقَالَ إنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا وَلَا تَنْكِي عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ. قَالَ فَعَادَ فَقَالَ أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ ثُمَّ عُدْت تَحْذِفُ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا» . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ هِجْرَانُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُسُوقِ وَمُنَابِذِي السُّنَّةِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ هِجْرَانُهُ دَائِمًا. وَالنَّهْيُ عَنْ الْهِجْرَانِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ هَجَرَ لِحَظِّ نَفْسِهِ وَمَعَايِشِ الدُّنْيَا، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْهَجْرُ الْجَمِيلُ فِي قَوْلِهِ {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا} [المزمل: 10] وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ فِي قَوْلِهِ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] وَالصَّفْحُ الْجَمِيلُ فِي قَوْلِهِ {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] فَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا أَذًى مَعَهُ. وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا شَكْوَى مَعَهُ. وَالصَّفْحُ الْجَمِيلُ هُوَ الَّذِي لَا عِتَابَ مَعَهُ. وَكَانَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: مُصَارَمَةٌ جَمِيلَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ مَوَدَّةٍ عَلَى دَخَلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُبَّ هَجْرٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ مُؤْذِيَةٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: إذَا مَا تَقَضَّى الْوُدُّ إلَّا مُكَاثِرًا ... فَهَجْرٌ جَمِيلٌ عِنْدَ ذَلِكَ صَالِحُ مَطْلَبٌ: لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ (الثَّانِي) : مِمَّا لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَيَغْفِرَ زَلَّتَهُ، وَيَرْحَمَ عَبْرَتَهُ وَيُقِيلَ عَثْرَتَهُ، وَيَقْبَلَ مَعْذِرَتَهُ، وَيَرُدَّ غِيبَتَهُ، وَيُدِيمَ نَصِيحَتَهُ، وَيَحْفَظَ خُلَّتَهُ، وَيَرْعَى ذِمَّتَهُ، وَيُجِيبَ دَعَوْتَهُ، وَيَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ، وَيُكَافِئَ صِلَتَهُ، وَيَشْكُرَ نِعْمَتَهُ، وَيُحْسِنَ نُصْرَتَهُ، وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، وَيَشْفَعَ مَسْأَلَتَهُ وَيُشَمِّتَ عَطْسَتَهُ، وَيَرُدَّ ضَالَّتَهُ، وَيُوَالِيَهُ وَلَا يُعَادِيَهُ، وَيَنْصُرَهُ عَلَى ظَالِمِهِ، وَيَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمِ غَيْرِهِ، وَلَا يُسْلِمَهُ، وَلَا يَخْذُلَهُ، وَيُحِبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَمْدَانَ فِي الرِّعَايَةِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ نُصْحُ الذِّمِّيِّ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ الْكَفُّ عَنْ مَسَاوِئِ النَّاسِ وَعُيُوبِهِمْ، كَذَا عِبَارَاتُهُمْ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ: وَالْأَوْلَى يَجِبُ وَهُوَ كَمَا قَالَ زَادَ فِي الرِّعَايَةِ الَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 يُسِرُّونَهَا، وَعَمَّا يَبْدُو مِنْهُمْ غَفْلَةٌ أَوْ غَلَبَةٌ مِنْ كَشْفِ عَوْرَةٍ أَوْ خُرُوجِ رِيحٍ، أَوْ صَوْتِ رِيحٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ فَالْأَوْلَى لِلسَّامِعِ أَنْ يُظْهِرَ طَرَشًا أَوْ غَفْلَةً أَوْ نَوْمًا أَوْ يَتَوَضَّأَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَتْرًا لِذَلِكَ. انْتَهَى. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى رِيبَةٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتُرَهَا وَيَعِظَهُ مَعَ ذَلِكَ وَيُخَوِّفَهُ بِاَللَّهِ. قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْكَيِّسُ الْعَاقِلُ هُوَ الْفَطِنُ الْمُتَغَافِلُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنِّي لَأَعْفُو عَنْ ذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ ... وَفِي دُونِهَا قَطْعُ الْحَبِيبِ الْمُوَاصِلِ وَأُعْرِضُ عَنْ ذِي اللُّبِّ حَتَّى كَأَنَّنِي ... جَهِلْت الَّذِي يَأْتِي وَلَسْت بِجَاهِلِ وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَغُضَّ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ ... وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهُوَ عَائِبُ وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ ... يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ هَذَا كُلُّهُ فِي هِجْرَانِ أَرْبَابِ الْمَعَاصِي. وَأَمَّا هِجْرَانُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي نَظْمِهِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي هَجْرِ مَنْ يَدْعُو لِأَمْرٍ مُضِلٍّ: وَهِجْرَانُ مَنْ يَدْعُو لِأَمْرٍ مُضِلٍّ أَوْ ... مُفَسِّقٍ احْتِمْهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ (وَهِجْرَانُ مَنْ) أَيْ إنْسَانٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِمْ (يَدْعُو) النَّاسَ جَهْرَةً أَوْ خُفْيَةً (لِ) إجَابَةِ (أَمْرٍ) مِنْ الدِّينِ مِنْ الْأَقْوَالِ أَوْ الْأَفْعَالِ أَوْ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ (مُضِلٍّ) تَائِهٌ حَائِدٌ عَنْ النَّهْجِ الْقَوِيمِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ، وَالرَّسُولُ الْعَظِيمُ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَوْ الصَّحَابَةُ أَهْلُ التَّقْوَى وَالْإِصَابَةِ، الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ عِصَابَةٍ، أَوْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، أَوْ الْقَرْنِ الثَّالِثِ الَّذِي نَطَقَ بِفَضْلِهِ سَيِّدُ الْأَكْوَانِ، فِي قَوْلِهِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَهَؤُلَاءِ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْوِرَاثَةِ، لَا مَا نَهَجَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ وَأَضْرَابُهُمْ مِنْ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ وَالطَّوَائِفِ الْمَائِلَةِ الزَّالَّةِ، فَهَؤُلَاءِ حَتْمٌ هِجْرَانُهُمْ، وَلَا تَرْعَ شَأْنَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَيَجِبُ هَجْرُ مَنْ كُفِّرَ أَوْ فُسِّقَ بِبِدْعَةٍ أَوْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ أَوْ مُفَسِّقَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ النَّاظِمِ (أَوْ) يَدْعُو لِأَمْرٍ (مُفَسِّقٍ) بِأَنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُ مُفَسِّقَةً لَا مُكَفِّرَةً. وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُكَفِّرَةً فَبِالْأَوْلَى وَقَدْ شَمَلَهُ قَوْلُهُ لِأَمْرٍ مُضِلٍّ، لِأَنَّ الضَّلَالَ يَشْمَلُ الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ، وَعَطْفُهُ مِنْ عَطْفِ (الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ) وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْبِدْعَةِ الْمُفَسِّقَةِ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ عَدَمَ وُجُوبِ هَجْرِهِ كَمَا لَهُ كَانَ فَاسِقًا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ هَجْرُهُ بَلْ يُسَنُّ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ دَاعِيَةً إلَى الْبِدْعَةِ الْمُفَسِّقَةِ (احْتِمْهُ) أَيْ الْهِجْرَانَ بِغَيْرِ (تَرَدُّدٍ) مِنْك وَلَا شَكٍّ لِارْتِكَابِهِ الْبِدَعَ، وَخِلَالُ السُّوءِ الَّتِي عَلَيْهَا انْطَبَعَ. فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَلِيمِ الْفُؤَادِ، مِنْ شُعَبِ الْبِدَعِ وَالْعِنَادِ، أَنْ يَصْرِمَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالْإِلْحَادِ، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَرْدَادٍ. فَهِجْرَانُ الدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ وَاجِبٌ. عَلَى غَيْرِ مَنْ يَقْوَى عَلَى دَحْضِ قَوْلِهِ ... وَيَدْفَعُ إضْرَارَ الْمُضِلِّ بِمِذْوَدِ (عَلَى) كُلِّ مُسْلِمٍ مُمْتَثِلٍ لِلسُّنَّةِ وَلِلْبِدْعَةِ مُجَانِبٍ (غَيْرَ مَنْ) أَيْ إنْسَانٍ مُسْلِمٍ (يَقْوَى) لِنُفُوذِ كَلِمَتِهِ أَوْ عُلُوِّ هِمَّتِهِ أَوْ كَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ (عَلَى دَحْضِ) أَيْ دَفْعِ وَرَدِّ وَإِبْطَالِ قَوْلِهِ، أَيْ قَوْلِ مَنْ يَدْعُو لِلضَّلَالَةِ وَالْبِدَعِ وَالْجَهَالَةِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَيَجِبُ هَجْرُ مَنْ كُفِّرَ أَوْ فُسِّقَ بِبِدْعَةٍ أَوْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ أَوْ مُفَسِّقَةٍ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ أَوْ خَافَ الِاغْتِرَارَ بِهِ وَالتَّأَذِّي دُونَ غَيْرِهِ. فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ هَجْرُهُ بَلْ عَلَيْهِ رَدُّ قَوْلِهِ كَمَا فِي كَلَامِ النَّاظِمِ فَيَرُدُّهُ (وَيَدْفَعُ) بِالْبَرَاهِينِ الظَّاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ شُبْهَتَهُ إنْ كَانَ لَهُ شُبْهَةٌ أَوْ بِسَيْفِ الشَّرْعِ (إضْرَارَ الْمُضِلِّ) لِلنَّاسِ الدَّاعِيَ لَهُمْ لِلْهَلَكَةِ وَالْيَأْسِ (بِمِذْوَدِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْمِذْوَدُ كَمِنْبَرِ اللِّسَانِ. وَأَصْلُ الذَّوْدِ السَّوْقُ وَالطَّرْدُ وَالدَّفْعُ كَالذِّيَادِ وَهُوَ ذَائِدٌ. وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ: وَقِيلَ يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَطَعَ ابْنُ عَقِيلٍ بِهِ فِي مُعْتَقَدِهِ قَالَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَسْرًا لَهُ وَاسْتِصْلَاحًا وَقَالَ أَيْضًا يَعْنِي ابْنَ عَقِيلٍ: إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ مَحَلَّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ، فَلَا تَنْظُرْ إلَى زِحَامِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ، وَلَا ضَجِيجِهِمْ بِ (لَبَّيْكَ) ، وَإِنَّمَا اُنْظُرْ إلَى مُوَاطَأَتِهِمْ أَعْدَاءَ الشَّرِيعَةِ. عَاشَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمُرِّيُّ - عَلَيْهِمَا مَا يَسْتَحِقَّانِ - يَنْظِمَانِ وَيَنْثُرَانِ هَذَا يَقُولُ حَدِيثُ خُرَافَةٍ. وَالْمَعَرِّيُّ يَقُولُ: تَلَوْا بَاطِلًا وَجَلَوْا صَارِمًا ... وَقَالُوا صَدَقْنَا فَقُلْنَا نَعَمْ يَعْنِي بِالْبَاطِلِ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعُظِّمَتْ قُبُورُهُمْ وَاشْتُرِيَتْ تَصَانِيفُهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُرُودَةِ الدِّينِ فِي الْقَلْبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَالَهُ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ هَجْرُ مَنْ كُفِّرَ أَوْ فُسِّقَ بِبِدْعَةٍ أَوْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ أَوْ مُفَسِّقَةٍ وَهُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ فِيمَا لَا يَسُوغُ فِيهِ الْخِلَافُ، كَالْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَفْيِ الْقَدَرِ، وَنَفْيِ رُؤْيَةِ الْبَارِي فِي الْجَنَّةِ وَالْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجَسِّمَةُ، وَالْمُرْجِئَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ، وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْإِبَاضِيَّةُ وَالْحَرُورِيَّةُ وَالْوَاقِفِيَّةُ، وَاللَّفْظِيَّةُ، وَالرَّافِضَةُ، وَالْخَوَارِجُ، وَأَمْثَالُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ كُفْرٍ أَوْ فِسْقٍ. قَالَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ. قَالَ الْخَلَّالُ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ رَافِضِيٌّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، قَالَ لَا وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: يَجِبُ عَلَى الْخَامِلِ وَمَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى خُلْطَتِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى خُلْطَتِهِمْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُرَادُ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ: وَيَقْضِي أُمُورَ النَّاسِ فِي إتْيَانِهِ وَلَا هَجْرَ مَعَ تَسْلِيمِهِ الْمُتَعَوَّدِ (وَيَقْضِي) أَيْ يُنَفِّذُ (أُمُورَ) جَمْعُ أَمْرٍ وَالْمُرَادُ بِهِ حَوَادِثُ وَشُئُونُ وَمَصَالِحُ (النَّاسِ) الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ أَنْفُسِهِمْ (فِي إتْيَانِهِ) أَيْ إتْيَانُ هَذَا الْمُخَالِطِ لِهَؤُلَاءِ وَغِشْيَانُهُ لِأَبْوَابِهِمْ وَجُلُوسُهُ فِي أَنْدِيَتِهِمْ، فَهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ هَجْرُهُمْ: فَتَخَلَّصَ مِنْ مَجْمُوعِ كَلَامِ النَّاظِمِ وَالْأَصْحَابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ أَوْ خَافَ الِاغْتِرَارَ وَالتَّأَذِّي وَجَبَ عَلَيْهِ الْهَجْرُ، وَأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الرَّدِّ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى مُخَالَطَتِهِمْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْهَجْرُ، لِأَنَّ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَيُنَاظِرُهُمْ يَحْتَاجُ إلَى مُشَافَهَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَكَذَا مَنْ فِي مَعْنَاهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَهِجْرَانُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَافِرِهِمْ وَفَاسِقِهِمْ، وَالْمُتَظَاهِرِ بِالْمَعَاصِي، وَتَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَمَكْرُوهٌ لِسَائِرِ النَّاسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وَلَا) يَتَأَتَّى (هَجْرٌ) وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ شَخْصٍ (مَعَ تَسْلِيمِهِ) أَيْ تَسْلِيمِ الْهَاجِرِ عَلَى الْمُبْتَدِعِ (الْمُتَعَوِّدِ) أَيْ الْمُعْتَادِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِمَ كَلَامَهُ وَيَتْرُكَ سَلَامَهُ فَلَا يَبْدَأُهُ بِالسَّلَامِ، وَإِنْ بَدَأَهُ الْمُبْتَدِعُ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ وَلَا احْتِشَامَ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ أَوْلَى، وَامْتِثَالَ الشَّرِيعَةِ أَحَقُّ وَأَعْلَى. فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَاجِرًا، وَلَا عَنْ مَوَدَّتِهِ وَصُحْبَتِهِ نَافِرًا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ فَهُوَ يُحِبُّهُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» . (تَتِمَّةٌ) قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ الْهِجْرَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِمَا يُوجِبُ الْهِجْرَةَ، نَصَّ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَأْخُذُ بِالْقَرَفِ وَلَا يُصَدِّقُ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ» وَالْقَرَفُ التُّهْمَةُ، يُقَالُ قَرَفْتُهُ بِكَذَا إذَا أَضَفْتُهُ إلَيْهِ وَعِبْتُهُ وَاتَّهَمْتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: إذَا كَانَ لَك أَخٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُمَارِهِ وَلَا تَسْمَعْ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ فَرُبَّمَا قَالَ لَك مَا لَيْسَ فِيهِ فَحَالَ بَيْنَك وَبَيْنَهُ، وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ: إنَّ الْوُشَاةَ كَثِيرٌ إنْ أَطَعْتَهُمْ ... لَا يَرْقُبُونَ بِنَا إلًّا وَلَا ذِمَمَا الْإِلُّ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِهَذَا الْبَيْتِ عَلَى أَنَّهُ الْقَرَابَةُ. وَقِيلَ أَيْضًا: لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتهمْ بِرَسُولٍ أَيْ بِرِسَالَةٍ. وَقَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: لِعَمِّ أَبِي الْوَاشِينَ لَا عَمِّ غَيْرِهِمْ ... لَقَدْ كَلَّفُونِي خُطَّةً لَا أُرِيدُهَا وَلَا يَلْبَثُ الْوَاشُونَ أَنْ يَصْدَعُوا الْعَصَا ... إذَا هِيَ لَمْ يُصْلَبْ عَلَى الْمَرْءِ عُودُهَا وَقَالَ غَيْرُهُ: يَا مُلْزِمِي بِذُنُوبٍ مَا أَحَطْتُ بِهَا ... عِلْمًا وَلَا خَطَرَتْ يَوْمًا عَلَى فِكْرِي صَدَّقْتَ فِي أَبَاطِيلَ الظُّنُونِ وَكَمْ ... كَذَّبْتُ فِيكَ يَقِينَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ يُنْدَبُ وَيَجِبُ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنْ لَا يَجُوزُ هَجْرُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي حَظْرِ انْتِفَاءِ التَّسْلِيمِ فَوْقَ ثَلَاثَةٍ: وَحَظْرَ انْتِفَا التَّسْلِيمِ فَوْقَ ثَلَاثَةٍ ... عَلَى غَيْرِ مَنْ قُلْنَا بِهَجْرٍ فَأَكِّدْ (وَحَظْرَ) أَيْ مَنْع، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِأَكِّدِ. وَالْمُرَادُ بِالْحَظْرِ هُنَا الْحُرْمَةُ خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ الْإِمَامِ ابْنِ عَقِيلٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: فَأَمَّا هَجْرُ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ فِي اعْتِقَادِهِ وَأَفْعَالِهِ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يُكْرَهُ. وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ خِلَافُهُ وَلِهَذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: اقْتِصَارُهُ فِي الْهَجْرِ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلْ مِنْ الْكَبَائِرِ، عَلَى نَصِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إذْ الْكَبِيرَةُ مَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَوْ وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ. (انْتِفَا التَّسْلِيمِ) إذَا لَقِيَهُ فَيُعْرِضُ عَنْهُ جَانِبًا وَلَا يَكُونُ لِأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِ مُرَاقِبًا وَلَا لِخُطَّةِ الشَّيْطَانِ مُجَانِبًا (فَوْقَ ثَلَاثَةٍ) مِنْ الْأَيَّامِ أَيْ أَزْيَدَ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. فَظَاهِرُ كَلَامِ النَّاظِمِ عَدَمُ الْحَظْرِ فِي الثَّلَاثَةِ فَمَا دُونَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَكْثَرِ هُنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَكْثَرَ. وَكَلَامُهُمْ فِي النُّشُوزِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَذَلِكَ لِظَاهِرِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَهُنَا، وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ، وَفِيهِمَا وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَهَاجَرُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا. إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» . فَقَوْلُهُ. وَلَا تَهَاجَرُوا " نَهْيٌ عَنْ الْهِجْرَةِ وَقَطْعِ الْكَلَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ " وَلَا تَهْجُرُوا " وَهُوَ بِمَعْنَى الْأُولَى. وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى وَلَا تَهْجُرُوا أَيْ لَا تَتَكَلَّمُوا بِالْهُجْرِ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْقَبِيحُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا «وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَزَادَ فِيهِ «يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَاَلَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ يَسْبِقُ إلَى الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلَاثٌ فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ وَخَرَجَ الْمُسَلِّمُ مِنْ الْهِجْرَةِ» . وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد «فَإِذَا لَقِيَهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ أَيْ مَائِلَانِ عَنْ الْحَقِّ، مَا دَامَا عَلَى صِرَامِهِمَا، وَأَوَّلُهُمَا فَيْئًا يَكُون سَبْقُهُ بِالْفَيْءِ كَفَّارَةً لَهُ، وَإِنْ سَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلْ وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلَامَهُ رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ وَرَدَّ عَلَى الْآخَرِ الشَّيْطَانُ، فَإِنْ مَاتَا عَلَى صِرَامِهِمَا لَمْ يَدْخُلَا الْجَنَّةَ جَمِيعًا أَبَدًا» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَهُوَ فِي النَّارِ إلَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» . وَأَخْرَجَ مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تُعْرَضُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمَ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيَقُولُ اُتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يُكَرِّرُ ذَلِكَ ثَلَاثًا يَعْنِي قَوْلَهُ اُتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. الشَّحْنَاءُ الْعَدَاوَةُ كَأَنَّهُ شَحَنَ قَلْبَهُ بُغْضًا أَيْ مَلَأَهُ. وَكَلَامُهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ فِي الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ عَلَى الْغَضَبِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلَاثِ لِيَزُولَ ذَلِكَ الْعَارِضُ. وَقِيلَ إنَّ الْأَخْبَارَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْهَجْرِ فِي الثَّلَاثِ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِالْمَفْهُومِ: قَالَ فِي الْآدَابِ: وَيُتَوَجَّهُ أَوْ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي الْهَجْرِ بِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ انْتَهَى. قُلْت: وَقَدْ وَرَدَ مِنْ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُبْطِلُ التَّأْوِيلَيْنِ. فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ عَبْدَ الْعَزِيزِ اللَّيْثَنِيَّ فَوَثَّقَهُ مَالِكٌ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ يَحْيَى لَيْسَ بِشَيْءٍ فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَا تَرَى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا، هَجْرُ الْمُؤْمِنَيْنِ ثَلَاثًا فَإِنْ تَكَلَّمَا وَإِلَّا أَعْرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمَا حَتَّى يَتَكَلَّمَا» فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُبْطِلُ تَأْوِيلَ مَنْ لَمْ يَحْتَجَّ بِالْمَفْهُومِ جَزْمًا، وَهِيَ اتِّجَاهُ صَاحِبِ الْآدَابِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعُذْرِ إلَّا أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْهَجْرُ وَانْتِفَاءُ التَّسْلِيمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (عَلَى غَيْرٍ مَنْ) أَيْ مُسْلِمٍ قُلْنَا (بِ) جَوَاز (هَجْرِ) هـ لِارْتِكَابِهِ الْمَعَاصِيَ وَتَجَاهُرِهِ بِهَا، فَإِنَّهَا تَجُرُّهُ بِالنَّوَاصِي إلَى جَهَنَّمَ وَلَهَبِهَا. أَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ هَجْرِهِ لِارْتِكَابِهِ الْبِدَعَ الْمُكَفِّرَةَ أَوْ الْمُفَسِّقَةَ أَوْ كَوْنِهِ دَاعِيًا إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ أَوْ مُفَسِّقَةٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ سَابِقًا. وَقَوْلُ النَّاظِمِ (فَأَكِّدْ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ التَّأْكِيدِ، أَيْ أَكِّدْ حَظْرَ انْتِفَاءِ التَّسْلِيمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ قُلْنَا بِجَوَازِ هَجْرِهِ أَوْ وُجُوبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 مَطْلَبٌ: هَلْ يَزُولُ الْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ بِالسَّلَامِ ؟ (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : ظَاهِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْهَجْرَ الْمُحَرَّمَ يَزُولُ بِالسَّلَامِ وَذَكَرَهُ فِي الْآدَابِ وَالرِّعَايَةِ وَالْمُسْتَوْعِبِ وَزَادَ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ كَلَامَهُ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «السَّلَامُ يَقْطَعُ الْهِجْرَانَ» وَذَكَر النَّوَوِيُّ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا يَزُولُ الْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ بِالسَّلَامِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ الْقَاسِمِ الْمَالِكِيُّ: إنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لَمْ يَقْطَعْ السَّلَامُ هِجْرَانَهُ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ السَّلَامِ يَقْطَعُ الْهِجْرَانَ؟ فَقَالَ قَدْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَقَدْ صَدَرَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا» فَإِذَا كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَأَنْ يُصَافِحَهُ ثُمَّ قَالَ إلَّا أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ هِجْرَانٍ فِي شَيْءٍ يَخَافُ عَلَيْهِ فَهُوَ الْكُفْرُ فَهُوَ جَائِزٌ. ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ خَافَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فِيهِمْ " لَا تُكَلِّمُوهُمْ " فَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ بَلْ بِعَوْدِهِ إلَى حَالِهِ مَعَ الْمَهْجُورِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ أَحْمَدُ خَارِجًا مِنْ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ حَتَّى يَعُودَ إلَى عَادَتِهِ مَعَهُ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْمُؤَانَسَةِ، لِأَنَّ الْهِجْرَةَ لَا تَزُولُ إلَّا بِعَوْدَتِهِ مَعَهُ. انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِلَّذِي تَشْتُمُهُ ابْنَةُ عَمِّهِ: إذَا لَقِيتَهَا سَلِّمْ عَلَيْهَا اقْطَعْ الْمُصَارَمَةَ. فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّلَامَ يَقْطَعُهَا مُطْلَقًا. وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَمْدَانَ وَالسَّامِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) : ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّ الْهَجْرَ الْمُحَرَّمَ لَا يَزُولُ بِغَيْرِ مُشَافَهَةٍ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيُتَوَجَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْكِتَابَةَ وَالْمُرَاسَلَةَ كَلَامًا أَنْ يَزُولَ الْهَجْرُ الْمُحَرَّمُ بِهَا. قَالَ ثُمَّ وَجَدْت ابْنَ عَقِيلٍ ذَكَرَهُ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَصَحُّهُمَا يَزُولُ لِزَوَالِ الْوَحْشَةِ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ كَلَامِ سَيِّدِنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَزُولُ. قَالَ ابْنُ رَزِينٍ فِي مُخْتَصَرِهِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ فَكَتَبَ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ، فَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَوْ سَبَبُ يَمِينِهِ يَقْتَضِي هِجْرَانَهُ وَتَرْكَ صِلَتِهِ حَنِثَ. انْتَهَى. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْمُرَاسَلَةَ كَلَامٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِكُلِّ خَيْرٍ. وَلَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ عَلَى أَحْكَامِ الْهَجْرِ وَالِانْصِرَامِ أَعْقَبَ ذَلِكَ فِي النِّظَامِ بِذِكْرِ السَّلَامِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي فَضْلِ بَدْءِ السَّلَامِ وَرَدِّهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُنْ عَالِمًا أَنَّ السَّلَامَ لِسُنَّةٍ ... وَرَدُّك فَرْضٌ لَيْسَ نَدْبًا بِأَوْطَدِ (وَكُنْ) أَيُّهَا الْمُتَشَرِّعُ، الَّذِي لِعِلْمِ الْآدَابِ مُتَشَوِّقٌ وَمُتَطَلِّعٌ. (عَالِمًا) عِلْمَ إخْلَاصٍ وَتَحْقِيقٍ، وَامْتِثَالٍ وَتَدْقِيقٍ، (أَنَّ السَّلَامَ) أَيْ ابْتِدَاءَهُ. وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً الْأَمَانُ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ: السَّلَامُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي التَّشَهُّدِ السَّلَامُ عَلَيْك مُعَرَّفًا وَيَجُوزُ مُنَكَّرًا، وَمَعْنَاهُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْك، أَوْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْك تَسْلِيمًا وَسَلَامًا، وَمَنْ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَلِمَ (لَسُنَّةٌ) مُؤَكَّدَةٌ صَرَّحَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ، وَصَحَّتْ بِهَا الْآثَارُ، عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَنَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ فِي قَوْلِهِ {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور: 61] فَالسَّلَامُ سُنَّةُ عَيْنٍ مِنْ الْمُنْفَرِدِ، وَسُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ الْجَمَاعَةِ، وَالْأَفْضَلُ السَّلَامُ مِنْ جَمِيعِهِمْ (وَ) كُنْ عَالِمًا أَنَّ (رَدَّك) السَّلَامَ الْمَسْنُونَ عَلَى مَنْ ابْتَدَأَهُ عَلَيْك يَعْنِي حَيْثُ كَانَ الِابْتِدَاءُ فِي حَالَةٍ يُسَنُّ الِابْتِدَاءُ فِيهَا (فَرْضٌ) عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ الْجَمَاعَةِ. وَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْوَاحِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَلِمَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ (لَيْسَ) رَدُّكَ السَّلَامَ (نَدْبًا) أَيْ مَنْدُوبًا بَلْ وَاجِبٌ خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ، رَحِمَهُمْ الْمَلِكُ الْوَهَّابُ (بِأَوْطَدَ) أَيْ بِأَثْبَتَ وَأَشْهَرَ، يُقَالُ وَطَدَ الشَّيْءَ يَطِدُهُ وَطْدًا فَهُوَ وَطِيدٌ وَمَوْطُودٌ أَثْبَتَهُ وَثَقَّلَهُ كَوَطَّدَهُ فَتَوَطَّدَ، وَوَطَدَ الشَّيْءُ دَامَ وَثَبُتَ وَرَسَا، وَالْمُتَوَاطِدُ الدَّائِمُ الثَّابِتُ الَّذِي بَعْضُهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَنَحْوُهُ فِي النِّهَايَةِ. فَالْأَثْبَتُ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ لَا مَنْدُوبٌ. وَعُلِمَ مِنْهُ. أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعًا. وَظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ وُجُوبُهُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ وَاجِبٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ فِي إفْشَاءِ السَّلَامِ وَفَضَائِلِهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» . وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْشُوا السَّلَامَ تَسْلَمُوا» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كُنَّا إذَا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتُفَرِّقُ بَيْنَنَا شَجَرَةٌ فَإِذَا الْتَقَيْنَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» . وَأَخْرَجَ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَقَالَ لَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ فِي الدُّعَاءِ، وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ» . وَرَوَى أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَعَاجِمِهِ الثَّلَاثَةِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْرَقُ النَّاسِ الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ صَلَاتَهُ؟ قَالَ لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا. وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَإِسْنَادُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ لِفُلَانٍ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 حَائِطِي عِذْقًا وَأَنَّهُ قَدْ أَذَانِي وَشَقَّ عَلَيَّ مَكَانُ عِذْقِهِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: بِعْنِي عِذْقَك الَّذِي فِي حَائِطِ فُلَانٍ. قَالَ لَا. قَالَ فَهَبْهُ لِي، قَالَ لَا، قَالَ فَبِعْنِيهِ بِعِذْقٍ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا رَأَيْت الَّذِي هُوَ أَبْخَلُ مِنْك إلَّا الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلَامِ» . وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ. إذَا عَلِمْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ لِلسَّلَامِ عِدَّةَ فَوَائِدَ، مِنْهَا امْتِثَالُ سُنَّةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْ أُمَّتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي» وَمِنْهَا الْخُرُوجُ مِنْ الْحُرْمَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ ابْتِدَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ عَدَمَ الْوُجُوبِ. وَمِنْهَا الْخُرُوجُ مِنْ الْبُخْلِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ جَنَّةَ عَدْنٍ بَخِيلٌ، وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنْ الْبُخْلِ، وَالْبَخِيلُ بَغِيضٌ إلَى اللَّهِ، بَغِيضٌ إلَى النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنْ الْجَنَّةِ، حَبِيبٌ إلَى الشَّيْطَانِ، قَرِيبٌ إلَى النِّيرَانِ، وَالْجَنَّةُ دَارُ الْأَسْخِيَاءِ» . وَمِنْهَا أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُدْخِلُ صَاحِبَهَا الْجَنَّةَ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَيُوجِبُ دُخُولَهَا لَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَرْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ يُوجِبُ الْجَنَّةَ، قَالَ طَيِّبُ الْكَلَامِ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَمِنْهَا أَنَّ بَذْلَهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ، فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي سَرْحٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَالَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، قَالَ إنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلَ السَّلَامِ، وَحُسْنَ الْكَلَامِ» . وَمِنْهَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ وَغَيْرِهِ. وَالْمَحَبَّةُ شَأْنُهَا عَظِيمٌ. وَقَدْرُهَا جَسِيمٌ، وَمَدَارُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ عَلَيْهَا. وَجَمِيعُ الْحَرَكَاتِ إنَّمَا نَشَأَتْ عَنْهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَلَيْهَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ ذَكَرْت طَرَفًا مِنْهَا فِي خَاتِمَةِ كِتَابِي الْبُحُورِ الزَّاخِرَةِ، وَيَكْفِي كَوْنُهَا عِلْمًا لِلْإِيمَانِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وَمِنْهَا أَدَاءُ حَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيلَ وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ إذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاك فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» . وَمِنْهَا أَوْلَوِيَّتُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاَللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ» وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلَانِ يَلْتَقِيَانِ أَيُّهُمَا يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ؟ قَالَ: أَوْلَاهُمَا بِاَللَّهِ تَعَالَى» . وَمِنْهَا حَوْزُهُ الْفَضِيلَةَ، لِمَا أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْمَاشِيَانِ أَيُّهُمَا بَدَأَ فَهُوَ أَفْضَلُ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَأَحَدِ إسْنَادَيْ الْكَبِيرِ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ الْأَغَرِّ أَغَرِّ مُزَيْنَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ لِي بِجَرِيبٍ مِنْ تَمْرٍ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَمَطَلَنِي بِهِ، فَكَلَّمْت فِيهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اُغْدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَخُذْ لَهُ مِنْ تَمْرِهِ، فَوَعَدَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمَسْجِدَ إذَا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ، فَوَجَدْته حَيْثُ وَعَدَنِي فَانْطَلَقْنَا. فَكُلَّمَا رَأَى أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ مِنْ بَعِيدٍ سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَّا تَرَى مَا يُصِيبُ الْقَوْمُ عَلَيْك مِنْ الْفَضْلِ لَا يَسْبِقُك إلَى السَّلَامِ أَحَدٌ فَكُنَّا إذَا طَلَعَ الرَّجُلُ مِنْ بَعِيدٍ بَادَرْنَاهُ بِالسَّلَامِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْنَا» . وَمِنْهَا إدْرَاكُ الْفَضِيلَةِ فِي إفْشَاءِ اسْمِ اللَّهِ السَّلَامِ وَفَضْلِ الدَّرَجَةِ بِنَشْرِهِ، لِمَا أَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَضَعَهُ فِي الْأَرْضِ فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إذَا مَرَّ بِقَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلُ دَرَجَةٍ بِتَذْكِيرِهِ إيَّاهُمْ السَّلَامَ، فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وَمِنْهَا حُصُولُ الْحَسَنَاتِ الَّتِي صَحَّتْ بِهَا الرِّوَايَاتُ، فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَحَسَّنَهُ أَيْضًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرٌ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَرَدَّ فَجَلَسَ فَقَالَ عِشْرُونَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ فَجَلَسَ فَقَالَ ثَلَاثُونَ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ وَزَادَ «ثُمَّ أَتَى آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، فَقَالَ أَرْبَعُونَ هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ» وَمِنْهَا حُصُولُ السَّلَامَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمُتَقَدِّمِ. وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْشُوا السَّلَامَ تَسْلَمُوا» يَعْنِي فِي الدُّنْيَا مِنْ الْإِثْمِ وَالْبُخْلِ، أَوْ مِنْ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ مِنْ نَكَبَاتِ الدُّنْيَا وَمِنْ أَهْوَالِ الْآخِرَةِ، وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ. وَمِنْهَا دُخُولُ الْجَنَّةِ بِسَلَامٍ، يَعْنِي بِأَمَانٍ؛ أَوْ مُتَلَبِّسِينَ بِسَلَامٍ، أَوْ مُصْطَحِبِينَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْهَا تَصْفِيَةُ وُدِّ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ، فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ شَيْبَةَ الْحَجَبِيِّ عَنْ عَمِّهِ مَرْفُوعًا «ثَلَاثٌ يُصَفِّينَ لَك وُدَّ أَخِيكَ: تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيتَهُ، وَتُوَسِّعُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَتَدْعُوهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إلَيْهِ» . وَمِنْهَا حُصُولُ فَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ وَخَيْرِيَّتِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَتَقَدَّمَ. وَمِنْهَا إحْيَاءُ سُنَّةِ أَبِينَا آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ، نَفَرٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُجِيبُونَك فَإِنَّهَا تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ؛ فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوا وَرَحْمَةُ اللَّهِ» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَأْخُذُ بِيَدِي فَيَخْرُجُ إلَى السُّوقِ يَقُولُ إنِّي لَأَخْرُجُ وَمَا لِي حَاجَةٌ إلَّا لِأُسَلِّمَ وَيُسَلَّمَ عَلَيَّ، فَأُعْطِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَآخُذُ عَشْرًا، يَا مُجَاهِدُ إنَّ السَّلَامَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: فَمَنْ أَكْثَرَ السَّلَامَ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا سَلَامٌ كَمَا قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يَقُولُهُ الْبَادِئُ بِالسَّلَامِ وَجَوَابُ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : صِفَةُ السَّلَامِ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَدِئُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَيَقُول الرَّادُّ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَإِنْ قَالَ الرَّادُّ: وَعَلَيْك أَوْ وَعَلَيْكُمْ فَقَطْ. وَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ، فَظَاهِرُ كَلَامِ النَّاظِمِ فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ أَنَّهُ يُجْزِئُ، وَكَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ. قَالَ كَمَا رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَصَحَّ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَ يَا أُبَيّ، فَالْتَفَتَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ صَلَّى أَيْ تَخَفَّفَ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ وَعَلَيْكَ، مَا مَنَعَك أَنْ تُجِيبَنِي إذْ دَعَوْتُك» الْحَدِيثَ. قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ الرَّادِّ لِلسَّلَامِ وَعَلَيْك بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ. انْتَهَى. وَكَذَا رَدُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي فَضَائِلِهِ، وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَظَاهِرُ الْإِقْنَاعِ لَا يُجْزِيهِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَالَ وَيُجْزِئُ فِي الرَّدِّ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، فَدَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى الْإِجْزَاءِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَبِمَفْهُومِهِ عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ بِأَقَلَّ مِنْهَا بِأَنْ حَذَفَ الْمُبْتَدَأَ فَقَالَ وَعَلَيْكُمْ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ الْإِجْزَاءُ لِأَنَّهُ قَالَ الْمُضْمَرُ كَالْمُظْهَرِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إذَا وَصَلَهُ بِكَلَامٍ فَلَهُ الِاقْتِصَارُ بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَتَ وَلَوْلَا أَنَّ الرَّدَّ الْوَاجِبَ يَحْصُلُ بِهِ لَمَا أَجْزَأَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ فِي الرَّدِّ عَلَى الذِّمِّيِّ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَسَيِّدِنَا الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ. قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: فَإِنْ قَالَ سَلَامٌ لَمْ يُجِبْهُ وَيُعَرِّفُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ تَنْكِيرَ الِابْتِدَاءِ وَتَعْرِيفَ الْجَوَابِ، وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ يَعْنِي: السَّلَامَ الْأَوَّلَ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ تَعْرِيفِهِ وَتَنْكِيرِهِ فِي سَلَامِهِ عَلَى الْحَيِّ، وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى الْمَيِّتِ فَمُعَرَّفٌ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ إلَى آخِرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الثَّانِي) : انْتِهَاءُ السَّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا (وَبَرَكَاتُهُ) وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ الِابْتِدَاءَ عَلَى الرَّدِّ كَعَكْسِهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَآخِرُهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ابْتِدَاءً وَرَدًّا وَلَا يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ تَمَامِ السَّلَامِ فَقَالَ وَبَرَكَاتُهُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ السَّلَامَ انْتَهَى إلَى الْبَرَكَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُجْزِي أَنْ يَزِيدَ الِابْتِدَاءُ عَلَى لَفْظِ الرَّدِّ وَالرَّدُّ عَلَى لَفْظِ الِابْتِدَاءِ إلَّا أَنَّ الِانْتِهَاءَ فِي ذَلِكَ إلَى الْبَرَكَاتِ خِلَافًا لِمَنْ أَوْجَبَ مُسَاوَاةَ الرَّدِّ لِلِابْتِدَاءِ أَوْ أَزْيَدَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي دَاوُد فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْبَرَكَاتِ حَيْثُ قَالَ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ فَقَالَ أَرْبَعُونَ - وَتَقَدَّمَ - فَضَعِيفٌ وَخِلَافُ الْمَشْهُورِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَدِئُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَيَأْتِي بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، وَيَقُولُ الْمُجِيبُ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ لِمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَبِي دَاوُد، وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَكْمَلُهُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ ابْتِدَاءً وَكَذَا الْجَوَابُ، وَأَقَلُّهُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَأَوْسَطُهُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُجْزِئُ فِي السَّلَامِ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) وَلَوْ عَلَى مُنْفَرِدٍ، وَفِي الرَّدِّ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَيَنْوِي مَلَائِكَتَهُ حَيْثُ أَتَى بِمِيمِ الْجَمْعِ. (الثَّالِثُ) : أَوْجَبَ فِي الْإِقْنَاعِ زِيَادَةَ الْوَاوِ فِي الرَّدِّ بِأَنْ يَقُولَ وَعَلَيْك أَوْ وَعَلَيْكُمْ فَإِنْ أَسْقَطَهَا فَقَالَ فِي الْهَدْيِ فَهَلْ يَكُونُ رَدًّا صَحِيحًا؟ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْمُتَوَلِّي لَا يَكُونُ جَوَابًا وَلَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضُ الرَّدِّ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ. انْتَهَى. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَتُزَادُ الْوَاوُ فِي رَدِّ السَّلَامِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ يَعْنِي عَدَمَ وُجُوبِ زِيَادَتِهَا. قُلْت وَهُوَ الْمَذْهَبُ، جَزَمَ بِهِ م ص فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى كَالْمُصَنِّفِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَتْنِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ عَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ {قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [هود: 69] قَالَ فِي الْآدَابِ: قِيلَ هُوَ مَرْفُوعٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ قَوْلِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 سَلَامٌ، أَيْ جَوَابِي أَوْ أَمْرِي. وَقِيلَ هُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَأَمَّا النَّصْبُ فِي الْأَوَّلِ فَقِيلَ مَفْعُولٌ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ ذَكَرُوا سَلَامًا وَقِيلَ هُوَ مَصْدَرٌ أَيْ سَلَّمُوا سَلَامًا، وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّسْلِيمِ وَهُوَ كَذِبٌ وَفِيهِ أَنَّهُ إنْشَاءٌ كَقَوْلِك: صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، بَلْ الْأَوْلَى أَنَّ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِالسَّلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ كَمَا فِي الْآدَابِ. مَطْلَبٌ: فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ السَّلَامِ وَمَنْ لَا يَجِبُ (الرَّابِعُ) : يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ الْمُتَوَضِّئُ، وَمَنْ فِي الْحَمَّامِ، وَمَنْ يَأْكُلُ، أَوْ يُقَاتِلُ، وَعَلَى تَالٍ، وَذَاكِرٍ، وَمُلَبٍّ، وَمُحَدِّثٍ، وَخَطِيبٍ، وَوَاعِظٍ، وَعَلَى مُسْتَمِعٍ لَهُمْ وَمُكَرِّرِ فِقْهٍ، وَمُدَرِّسٍ، وَبَاحِثٍ فِي عِلْمٍ، وَمُؤَذِّنٍ وَمُقِيمٍ، وَمَنْ عَلَى حَاجَتِهِ، وَمُتَمَتِّعٍ بِأَهْلِهِ، أَوْ مُشْتَغِلٍ بِالْقَضَاءِ، وَنَحْوِهِمْ. فَمَنْ سَلَّمَ فِي حَالَةٍ لَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا السَّلَامُ لَمْ يَسْتَحِقَّ جَوَابًا. وَقَدْ نَظَّمَهُمْ الْخَلْوَتِيُّ وَزَادَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةً فَقَالَ: رَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ إلَّا عَلَى ... مَنْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ بِأَكْلٍ شُغِلَا أَوْ شُرْبٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ أَدْعِيَهْ ... أَوْ ذِكْرٍ أَوْ فِي خُطْبَةٍ أَوْ تَلْبِيَهْ أَوْ فِي قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ... أَوْ فِي إقَامَةٍ أَوْ الْأَذَانِ أَوْ سَلَّمَ الطِّفْلُ أَوْ السَّكْرَانُ ... أَوْ شَابَّةٌ يُخْشَى بِهَا افْتِتَانُ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ نَاعِسٌ أَوْ نَائِمٌ ... أَوْ حَالَةَ الْجِمَاعِ أَوْ تَحَاكُمٌ أَوْ كَانَ فِي الْحَمَّامِ أَوْ مَجْنُونَا ... فَهِيَ اثْنَتَانِ قَبْلَهَا عِشْرُونَا وَرَدَ النَّصُّ فِي بَعْضِ هَذِهِ وَالْبَقِيَّةُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَنْصُوصِ. وَإِذَا انْتَفَى الْوُجُوبُ بَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ أَوْ الْإِبَاحَةُ، نَعَمْ فِي مَوَاضِعَ يُكْرَهُ الرَّدُّ أَيْضًا كَاَلَّذِي عَلَى حَاجَتِهِ، وَلَعَلَّ مِثْلَهُ مَنْ مَعَ أَهْلِهِ. وَيَحْرُمُ أَنْ يَرُدَّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَفْظًا وَتَبْطُلُ بِهِ، وَيُكْرَهُ إشَارَةٌ قَدَّمَهَا فِي الرِّعَايَةِ وَقِيلَ لَا كَرَاهَةَ لِلْعُمُومِ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ عَلَى ابْنِ عُمَرَ إشَارَةً، وَعَلَى صُهَيْبٍ، كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وَصَحَّحَهُ، وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ السَّلَامِ فَحَسَنٌ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَإِنْ لَقِيَ طَائِفَةً فَخَصَّ بَعْضَهُمْ بِالسَّلَامِ كُرِهَ، وَكُرِهَ السَّلَامُ عَلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ غَيْرِ عَجُوزٍ وَبَرْزَةٍ فَإِنْ سَلَّمَتْ شَابَّةٌ عَلَى رَجُلٍ رَدَّهُ عَلَيْهَا، وَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الْمَرْأَةُ لَا تُسَلِّمُ عَلَى الرِّجَالِ أَصْلًا، وَرُوِيَ مِنْ الْحِلْيَةِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ يَرْفَعُهُ «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ سَلَامٌ وَلَا عَلَيْهِنَّ سَلَامٌ» وَكَرِهَ الْإِمَامِ السَّلَامَ عَلَى الشَّوَابِّ دُونَ الْكَبِيرَةِ، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَا يُصَلِّي وَلَا يُجِيبُ دَعْوَتَهُ. (الْخَامِسُ) : سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَجُلٍ مَرَّ بِجَمَاعَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَقَالَ يُسْرِعُ فِي خُطَاهُ لَا تَلْحَقُهُ اللَّعْنَةُ مَعَ الْقَوْمِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الرَّدِّ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ جَعَلُوهُ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ. وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَحَكَاهُ الْمَجْدُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ نَعَمْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ لَا يَجِبُ رَدُّ سَلَامِ سَائِلٍ عَلَى بَابِ دَارِهِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لِشِعَارِ سُؤَالِهِ لَا لِلتَّحِيَّةِ، قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُجْزِي رَدُّ وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ، فَأَمَّا الْوَاحِدُ الْمُنْقَطِعُ فَلَا يُجْزِئُ سَلَامُهُ عَنْ سَلَامٍ آخَرَ مُنْقَطِعٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ خِلَافُهُ. وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُجْزِئُ عَنْ الْجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنْ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِيهِ سَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ ضَعَّفَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ. قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ: وَرَدُّ السَّلَامِ سَلَامٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَجُوزُ بِلَفْظِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَيَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ وَلِأَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ تَحِيَّتِهِ فَلَا تَجِبُ زِيَادَةٌ كَزِيَادَةِ الْقَدْرِ قَالَ وَإِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ يَعْنِي وُجُوبَ الرَّدِّ بِرَدِّ غَيْرِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَرْضِ كَمَا لَا يَسْقُطُ الْأَذَانُ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ بِأَذَانِ بَلْدَةٍ أُخْرَى. وَأَمَّا لَوْ قَالَ كُلٌّ مِنْ الْمُتَلَاقِيَيْنِ لِصَاحِبِهِ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ ابْتِدَاءً لَا جَوَابًا فَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ لَمْ يَسْتَحِقَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْجَوَابَ لِأَنَّهَا صِيغَةُ جَوَابٍ لَا ابْتِدَاءً، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 مَطْلَبٌ: فِي السَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ (السَّادِسُ) : يَجُوزُ السَّلَامُ عَلَى الصِّبْيَانِ تَأْدِيبًا لَهُمْ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ، وَصَاحِبُ عُيُونِ الْمَسَائِلِ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: يُسْتَحَبُّ، وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إجْمَاعًا. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَأَمَّا الْحَدَثُ الْوَضِيءُ أَيْ الْجَمِيلُ فَلَمْ يَسْتَثْنُوهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْبَنِيَ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّظَرِ إلَيْهِ. وَقَدْ سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصِّبْيَانِ كَمَا فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، كَقَوْلِ أَنَسٍ: «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ صِبْيَانٌ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا» . «وَمَرَّ أَنَسٌ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالصِّبْيَانُ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَضَمُّهَا لُغَةٌ. (السَّابِعُ) : يُسَنُّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِابْتِدَاءِ السَّلَامِ لِيَسْمَعَهُ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ سَمَاعًا مُحَقَّقًا وَمَنْ سَلَّمَ أَوْ رَدَّ عَلَى أَصَمَّ جَمَعَ بَيْنَ لَفْظٍ وَإِشَارَةٍ. وَسَلَامُ أَخْرَسَ وَجَوَابُهُ بِالْإِشَارَةِ وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى أَيْقَاظٍ عِنْدَهُمْ نِيَامٌ أَوْ عَلَى مَنْ لَا يَعْلَمُ هَلْ هُمْ أَيْقَاظٌ أَوْ نِيَامٌ خَفَضَ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْأَيْقَاظُ وَلَا يُوقِظُ النِّيَامَ. وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى إنْسَانٍ عَلَى بُعْدٍ ثُمَّ لَقِيَهُ عَلَى قُرْبٍ سُنَّ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا، وَلَا يَتْرُكُ السَّلَامَ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الرَّدِّ فِي الْأَصَحِّ. وَإِنْ دَخَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ عُلَمَاءُ سَلَّمَ عَلَى الْكُلِّ ثُمَّ سَلَّمَ عَلَى الْعُلَمَاءِ سَلَامًا ثَانِيًا. (الثَّامِنُ) : سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ حَدِيثِ حَذْفِ السَّلَامِ سُنَّةٌ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ إلَى الْقَوْمِ فَيَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَمَدَّ بِهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَوْتَهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَخَفَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَوْتَهُ قَالَ يَقُولُ هَكَذَا. (التَّاسِعُ) : إنْ سَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ أَوْ الْغَائِبُ بِرِسَالَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ وَجَبَتْ الْإِجَابَةُ عِنْدَ الْبَلَاغِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الرَّسُولِ فَيَقُولَ وَعَلَيْك وَعَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنْ بَعَثَ مَعَهُ السَّلَامَ وَجَبَ تَبْلِيغُهُ إنْ تَحَمَّلَهُ. رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا: «إنِّي لَأَرَى لِرَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ عَلَيَّ حَقًّا كَمَا أَرَى رَدَّ جَوَابِ السَّلَامِ» . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْمَحْفُوظُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وَقْفُهُ، قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ إذَا لَمْ يَصِحَّ خِلَافُهُ عَنْ صَحَابِيٍّ مَعْمُولٌ بِهِ. (الْعَاشِرُ) قَالَ حَرْبٌ: قُلْت لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: كَيْفَ نَكْتُبُ فِي عِنْوَانِ الْكِتَابِ؟ قَالَ تَكْتُبُ إلَى أَبِي فُلَانٍ وَلَا تَكْتُبُ لِأَبِي فُلَانٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْنَى إذَا كَتَبْت لِأَبِي فُلَانٍ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَكْتُبُ عِنْوَانَ الْكِتَابِ إلَى أَبِي فُلَانٍ وَقَالَ هُوَ أَصْوَبُ مِنْ أَنْ يَكْتُبَ لِأَبِي فُلَانٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ: كَتَبَ إلَيَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ إلَى سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَاءٌ، وَالسُّلْطَانُ دَاءٌ، وَالْعَالِمَ طَبِيبٌ، فَإِذَا رَأَيْت الطَّبِيبَ يَجُرُّ الدَّاءَ إلَى نَفْسِهِ فَاحْذَرْهُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. وَقَالَ حَنْبَلٌ: كَانَتْ كُتُبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الَّتِي يَكْتُبُ بِهَا إلَى فُلَانٍ، فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَكَتَبَ كُلَّمَا كَتَبَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَرُ كَتَبَ إلَى عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، وَهَذَا الَّذِي يُكْتَبُ الْيَوْمَ لِفُلَانٍ مُحْدَثٌ لَا أَعْرِفُهُ. قُلْت فَالرَّجُلُ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ، قَالَ أَمَّا الْأَبُ فَلَا أُحِبُّ أَنْ يُقَدِّمَهُ بِاسْمِهِ وَلَا يَبْدَأَ وَلَدٌ بِاسْمِهِ عَلَى وَالِدٍ وَالْكَبِيرُ السِّنُّ كَذَلِكَ يُوَقِّرُهُ بِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا بَأْسَ وَفِي مَعْنَى كِبَرِ السِّنِّ الْعِلْمُ وَالشَّرَفُ قَالَ فِي الْآدَابِ وَهُوَ مُرَادُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِمُرَاعَاةِ شَيْخٍ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ وَتَرْكِ عَالَمٍ صَغِيرِ السِّنِّ. قَالَ وَلَمْ أَجِدْ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا يُخَالِفُ هَذَا النَّصَّ صَرِيحًا وَلَعَلَّ ظَاهِرَ حَالِهِ اتِّبَاعُ طَرِيقِ مَنْ مَضَى فِي بُدَاءَةِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَذَكَّرْت هُنَا أَبْيَاتًا أَحْبَبْت ذِكْرَهَا. كَتَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا لَفْظُهُ: قَالُوا يَزُورُك أَحْمَدُ وَتَزُورُهُ ... قُلْت الْفَضَائِلُ لَا تُفَارِقُ مَنْزِلَهْ إنْ زَارَنِي فَبِفَضْلِهِ أَوْ زُرْتُهُ ... فَلِفَضْلِهِ فَالْفَضْلُ فِي الْحَالَيْنِ لَهْ فَأَجَابَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ زُرْتنَا فَبِفَضْلٍ مِنْك تَمْنَحُنَا ... أَوْ نَحْنُ زُرْنَا فَلِلْفَضْلِ الَّذِي فِيكَا فَلَا عَدِمْنَا كِلَا الْحَالَيْنِ مِنْك وَلَا ... نَالَ الَّذِي يَتَمَنَّى فِيك شَانِيكَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وَكَتَبَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ لِلْمُغِيرَةِ وَقَدْ عَتَبَ عَلَيْهِ عَلَى بُطْءِ الْمُكَاتَبَةِ: مَا غَيَّرَ النَّأْيُ وُدًّا كُنْت تَعْهَدُهُ ... وَلَا تَبَدَّلْت بَعْدَ الذِّكْرِ نِسْيَانَا وَلَا حَمِدْت إخَاءً مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... إلَّا جَعَلَتْك فَوْقَ الْحَمْدِ عُنْوَانَا (الْحَادِي عَشَرَ) ابْتِدَاءُ السَّلَامِ أَفْضَلُ مِنْ رَدِّهِ، مَعَ أَنَّ ابْتِدَاءَهُ سُنَّةٌ وَرَدَّهُ وَاجِبٌ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي السُّنَّةُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الْفَرْضِ. الثَّانِي: إنْظَارُ الْمُعْسِرِ فَرْضٌ وَإِبْرَاؤُهُ سُنَّةٌ وَهُوَ أَفْضَلُ. الثَّالِثُ التَّطَهُّرُ قَبْلَ الْوَقْتِ سُنَّةٌ وَبِهِ يَجِبُ. وَقَدْ نَظَمَهَا الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فَقَالَ: الْفَرْضُ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ عَابِدٍ ... حَتَّى وَلَوْ قَدْ جَاءَ مِنْهُ بِأَكْثَرِ إلَّا التَّطَهُّرَ قَبْلَ وَقْتٍ وَابْتِدَا ... لِلسَّلَامِ كَذَاك إبْرَا الْمُعْسِرِ وَزَادَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدٌ الْخَلْوَتِيُّ الْخِتَانَ وَنَظَمَهُ فَقَالَ: وَكَذَا خِتَانُ الْمَرْءِ قَبْلَ بُلُوغِهِ ... تَمِّمْ بِهِ عَقْدَ الْإِمَامِ الْمُكْثِرِ مَطْلَبٌ: فِي السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ (تَتِمَّةٌ) . لَا يَجُوزُ بُدَاءَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ سَلَّمَ أَحَدُهُمْ وَجَبَ الرَّدُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ بِالْأَمْرِ بِالرَّدِّ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَصِفَةُ الرَّدِّ (وَعَلَيْك) أَوْ (وَعَلَيْكُمْ) بِحَذْفِ الْوَاوِ وَإِثْبَاتِهَا لِصِحَّةِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاخْتَارَ الْأَصْحَابُ إثْبَاتَ الْوَاوِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي مُوسَى مِنَّا وَابْنِ حُسَيْنٍ الْمَالِكِيِّ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّشْرِيكَ وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَرْوِيهِ بِالْحَذْفِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ رَوَاهُ عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ بِالْوَاوِ، وَقِيلَ: الْوَاوُ هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيكِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الذَّمِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ السَّامُّ عَلَيْكُمْ يَعْنِي الْمَوْتَ أَوْ السَّلَامُ عَلَيْك، وَهِيَ الْحِجَارَةُ، فَيُقَالُ: وَعَلَيْك، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى ذِمِّيٍّ، وَلَمْ يَعْلَمْهُ قَالَ لَهُ رُدَّ عَلَيَّ سَلَامِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُجْزِئُ تَسْلِيمُ امْرِئٍ مِنْ جَمَاعَةٍ ... وَرَدُّ فَتًى مِنْهُمْ عَلَى الْكُلِّ يَا عَدِيّ (وَ) حَيْثُ عَلِمْت أَنَّ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ مِنْ الْجَمَاعَةِ سُنَّةُ كِفَايَةٍ فَ (يُجْزِئُ تَسْلِيمٌ) أَيْ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ مِنْ (امْرِئٍ) حَيْثُ كَانَ الْمَرْءُ الْمُسَلِّمُ (مِنْ) جُمْلَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 جَمَاعَةٍ) مِنْ جَمِيعِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْكِفَايَةِ أَيْ يُخَاطِبُ بِهِ الْجَمِيعَ لَا كُلَّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ وَيُجْزِئُ مِنْ وَاحِدٍ. وَظَاهِرُهُ وَيَحْصُلُ لَهُمْ أَصْلُ السَّنَةِ بِتَسْلِيمِ مَنْ يُجْزِئُ سَلَامُهُ، وَالْأَفْضَلُ السَّلَامُ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَالسَّلَامُ فِي حَقِّهِ سُنَّةُ عَيْنٍ. وَظَاهِرُ إطْلَاقِ كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ إجْزَاءُ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ مِنْ الْمُمَيِّزِ وَيَتَوَجَّهُ، وَكَذَا مِنْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الرَّدُّ عَلَى سَلَامِهِمَا وَلَا يَلْزَمُهُمَا رَدٌّ إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِمَا (وَ) وَيُجْزِئُ عَنْ الْجَمَاعَةِ (رَدُّ فَتًى) وَاحِدٍ بَالِغٍ (مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ دُونَ رَدِّ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ فَوْرًا بِحَيْثُ يُعَدُّ جَوَابًا لِلسَّلَامِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ رَدًّا كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ: قَالَ الْمَجْدُ: لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَرْضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا، وَانْظُرْ هَلْ يَشْمَلُ تَعْلِيلُهُ كُلَّ مَنْ لَا يُسَنُّ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ عَلَيْهِ كَالْآكِلِ، وَالْمُتَوَضِّئِ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ وَالظَّاهِرُ إجْزَاءُ رَدِّهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ رَدَّ السَّلَامِ كَمَا عَلِمْت فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَشَأْنُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ الْجَمْعُ، وَيَسْقُطَ بِمَنْ يَقُومُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِتْيَانُ بِهِ وَقَدْ حَصَلَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُجْزِئُ عَنْ الْجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنْ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ» نَعَمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرَّادُّ مُكَلَّفًا حَتَّى يُجْزِئَ عَنْ الْبَاقِينَ. فَلَوْ رَدَّ كَافِرٌ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إنْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ فَرَدَّ وَحْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ الْفَرْضُ. قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: إنْ سَلَّمَ بَالِغٌ عَلَى بَالِغٍ وَصَبِيٍّ رَدَّهُ الْبَالِغُ، وَلَمْ يَكْفِ رَدُّ الصَّبِيِّ. انْتَهَى. وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَالِغٌ وَصَبِيٌّ فَسَلَّمَ الصَّبِيُّ عَلَى بَالِغٍ وَصَبِيٍّ أَجْزَأَ رَدُّ الصَّبِيِّ، وَلَعَلَّهُ لَيْسَ مُرَادًا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الرَّدُّ عَلَى تَسْلِيمِ الصَّبِيِّ فِي الْأَصَحِّ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الرَّدَّ لَا يَسْقُطُ بِالصَّبِيِّ فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَالسَّلَامُ عَلَى الصَّبِيِّ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْخِطَابِ وَالْأَمْرِ بِهِ فَإِنْ سَلَّمَ صَبِيٌّ عَلَى بَالِغِينَ فَوَجْهَانِ فِي وُجُوبِ الرَّدِّ مُخْرَجَانِ مِنْ صِحَّةِ سَلَامِهِ. انْتَهَى. وَالْمَذْهَبُ الْوُجُوبُ. قَالَ فِي الْغَايَةِ: وَلَا بَأْسَ بِهِ يَعْنِي السَّلَامَ عَلَى الصِّبْيَانِ تَأْدِيبًا لَهُمْ وَلَا يَلْزَمُهُمْ رَدٌّ، وَيَلْزَمُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ كَشَابَّةٍ أَجْنَبِيَّةٍ سَلَّمَتْ وَإِرْسَالُهَا بِهِ لِأَجْنَبِيٍّ وَإِرْسَالُهُ إلَيْهَا لَا بَأْسَ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ وَعَدَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 مَحْذُورٍ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ اعْتِبَارُ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا الْوَاحِدُ الْمُنْقَطِعُ فَلَا يُجْزِئُ سَلَامُهُ عَنْ سَلَامِ آخَرَ مُنْقَطِعٍ. (تَنْبِيهٌ) : اسْتَوْجَهَ الْعَلَّامَةُ فِي غَايَتِهِ اكْتِفَاءَ رَدِّ وَاحِدٍ مَعَ سَلَامِ جَمَاعَةٍ تَعَاقَبُوا إنْ لَمْ يَكُنْ رَدٌّ عَلَى الْأَوَّلِ، وَمِثْلُهُ تَشْمِيتٌ، وَكَأَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَاسَهُ عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَفِيهِ أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ فِيهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ لَا تَتَدَاخَلُ وَعَلَى كَلَامِهِ لَا بُدَّ مِنْ قَصْدِهِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَقَوْلُ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (عَلَى الْكُلِّ) أَيْ عَلَى كُلِّ الْجَمَاعَةِ الْمُسَلِّمِينَ أَوْ الْمُسَلِّمِ مِنْهُمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهِ بِالرَّدِّ عَلَى كُلِّهِمْ وَلَوْ كَانَ الْمُسَلِّمُ بَعْضَهُمْ. وَفِي نُسْخَةٍ وَرَدُّ الْفَتَى مِنْهُمْ عَنْ الْجَمْعِ يَا عَدِيّ، أَيْ وَيُجْزِئُ رَدُّ فَتًى مِنْ جَمْعٍ عَنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ يَعْنِي رَدَّ وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ عَنْ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فَرْضُ كِفَايَةٍ يُخَاطَبُ بِهِ الْجَمِيعُ وَيَسْقُطُ بِوَاحِدٍ، وَقَدْ عُلِمَ هَذَا مِمَّا شَرَحْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ (يَا عَدِيّ) أَيْ يَا فُلَانُ وَأَتَى بِهِ حَشْوًا لِقَافِيَّةِ الْبَيْتِ لَا أَنَّهُ قَصَدَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ اسْمُهُ عَدِيٌّ. وَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ إرَادَتُهُ شَخْصًا بِعَيْنِهِ وَأَنَّهُ قَصَدَ تَفْهِيمُهُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَسْلِيمُ نَزْرٍ وَالصَّغِيرِ وَعَابِرِ ... السَّبِيلِ وَرُكْبَانٍ عَلَى الضِّدِّ أَيِّدِ (وَ) يُسَنُّ (تَسْلِيمُ نَزْرٍ) أَيْ قَلِيلٍ سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا عَلَى اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا أَوْ جَمَاعَةً عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَدَدًا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: النَّزْرُ الْقَلِيلُ كَالنَّزِيرِ وَالْمَنْزُورِ. وَفِي صِفَةِ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا نَزْرَ وَلَا هَدْرَ» ، أَيْ لَيْسَ بِقَلِيلٍ فَيَدُلُّ عَلَى عَيٍّ وَلَا بِكَثِيرٍ فَاسِدٍ (وَ) يُسَنُّ تَسْلِيمُ (الصَّغِيرِ) عَلَى ضِدِّهِ وَهُوَ الْكَبِيرُ وَعَابِرِ السَّبِيلِ يَعْنِي الْمَاشِيَ فِي الطَّرِيقِ عَلَى الْجَالِسِ (وَ) تَسْلِيمُ (رُكْبَانٍ) عَلَى خَيْلٍ أَوْ ضِدِّهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي» رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ. فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «يُسَلِّمُ الْمَاشِي عَلَى الْجَالِسِ، وَالرَّاكِبُ عَلَيْهِمَا» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْمَاشِيَانِ أَيُّهُمَا بَدَأَ فَهُوَ أَفْضَلُ» قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الْإِمَامُ الْوَزِيرُ عَوْنُ الدِّينِ بْنُ هُبَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ سَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ فَقَدْ أَمَّنَهُ، فَالْفَارِسُ أَقْوَى مِنْ الرَّاجِلِ، فَأُمِرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِسَلَامِ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ، وَسَلَامُ الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ أَقَلُّ حَرَجًا، هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ. وَإِنَّ سَلَّمَ الْمَأْمُورُ بِالرَّدِّ مِنْهُمْ ... فَقَدْ حَصَّلَ الْمَسْنُونَ إذْ هُوَ مُبْتَدِي (وَإِنْ) عُكِسَ الْأَمْرُ بِأَنْ (سَلَّمَ) أَيْ ابْتَدَأَ السَّلَامَ (الْمَأْمُورُ بِالرَّدِّ) أَيْ بِرَدِّ السَّلَامِ لِيَكُونَ ضِدَّهُمْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ (مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ الْمُسَلِّمِينَ الْمَأْمُورِينَ بِنَشْرِ السَّلَامِ بِأَنْ ابْتَدَأَ بِالسَّلَامِ الْكَثِيرُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَالْكَبِيرُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الرَّاكِبِ (فَقَدْ حَصَلَ) الْأَمْرُ (الْمَسْنُونَ إذْ هُوَ) أَيْ الْمُسَلِّمُ (مُبْتَدِي) فَحَصَّلَ بِالسَّلَامِ مَنْ قُلْنَا يَبْدَأُ غَيْرُهُ السُّنَّةَ بِسَلَامِهِ وَصَارَ مُبْتَدِئًا يَعْنِي حَصَّلَ أَصْلَ السُّنَّةِ غَيْرَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ ابْنِ مُفْلِحٍ هُنَا تَرَدُّدٌ فِي فَهْمِ شَأْنِ هَذَا الْبَيْتِ وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى. وَمُرَادُ النَّاظِمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ ابْتَدَأَ بِالسَّلَامِ مِنْ نَحْوِ الْجَالِسِ وَالْكَثِيرِ إلَخْ فَقَدْ حَصَّلَ الْمَسْنُونَ وَفَازَ بِالْأَجْرِ الْمَضْمُونِ، وَحَازَ الْفَضْلَ الْمَكْنُونَ فِي الِابْتِدَاءِ؛ إذْ الِابْتِدَاءُ أَفْضَلُ مِنْ الرَّدِّ كَمَا قَدَّمْنَا فَلَا تَوَقُّفَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ فُقَهَاؤُنَا: وَسُنَّ حِرْصُ مُتَلَاقِيَيْنِ عَلَى بُدَاءَةِ سَلَامٍ، فَإِنْ بَدَأَ كُلٌّ صَاحِبَهُ مَعًا وَجَبَ الرَّدُّ عَلَى كُلٍّ وَسُنَّ لِمَنْ تَلَاقَوْا بِطَرِيقٍ أَنْ يُسَلِّمَ صَغِيرٌ وَقَلِيلٌ وَمَاشٍ وَرَاكِبٌ. قَالَ فِي الْغَايَةِ: وَيُتَّجَهُ وَمُنْحَدَرٌ عَلَى ضِدِّهِمْ، فَإِنَّ عُكِسَ حَصَلَتْ السُّنَّةُ وَيُسَلِّمُ وَارِدٌ عَلَى ضِدِّهِ مُطْلَقًا يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِدُ أَكْثَرَ مِنْ ضِدِّهِ أَوْ أَقَلَّ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا، كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا. وَظَاهِرُ النَّظْمِ لَوْ سَلَّمَ الْجَالِسُ عَلَى الْوَارِدِ لَحَصَّلَ أَصْلَ السُّنَّةِ، وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ تُعَيِّنُ كَوْنَ السَّلَامِ مِنْ الْوَارِدِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَمَّا إذَا وَرَدُوا عَلَى قَاعِدٍ أَوْ قُعُودٍ فَإِنَّ الْوَارِدَ يَبْدَأُ مُطْلَقًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَشَارَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى مَسْنُونِيَّةِ السَّلَامِ عَلَى مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِ قَوْمٍ فَقَالَ: وَسَلِّمْ إذَا مَا قُمْت عَنْ حَضْرَةِ امْرِئٍ ... وَسَلِّمْ إذَا مَا جِئْت بَيْتَك تَهْتَدِ (وَسَلِّمْ) اسْتِحْبَابًا كَابْتِدَاءِ السَّلَامِ. وَهَلْ يَكُونُ مِنْ جَمَاعَةٍ سُنَّةَ كِفَايَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ كَذَلِكَ لَا سُنَّةَ عَيْنٍ فَيَطْلُبُ مِنْ كُلِّ مَنْ قَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ عَلَى حِدَتِهِ. نَعَمْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ كَابْتِدَائِهِ لِلْقَادِمِينَ وَنَحْوِهِمْ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَادِمِينَ إلَى مَجْلِسِ قَوْمٍ وَالْقَائِمِينَ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (إذَا مَا) تَقَدَّمَ أَنَّ إذَا ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ وَمَا زَائِدَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] (قُمْت) عِنْدَ انْصِرَافِك (عَنْ حَضْرَةِ امْرِئٍ) مُسْلِمٍ غَيْرِ وَاجِبِ الْهَجْرِ وَلَا مَنْدُوبِهِ وَهَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ لَفْظَةِ (عَنْ) هِيَ لِلْمُفَارَقَةِ وَالْمُجَاوَزَةِ أَيْ إذَا قُمْت مِنْ مَجْلِسِ قَوْمٍ وَاحِدًا وَاحِدًا فَصَاعِدًا فَسَلِّمْ عِنْدَ انْصِرَافِك وَمُفَارَقَتِك لِمَجْلِسِهِمْ، لِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الثَّانِيَةِ» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَزَادَ فِيهِ رَزِينٌ «وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ حِينَ يَقُومَ عَنْهُمْ كَانَ شَرِيكَهُمْ فِيمَا خَاضُوا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ بَعْدَهُ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ فَايِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «حَقٌّ عَلَى مَنْ قَامَ عَلَى جَمَاعَةٍ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ، وَحَقٌّ عَلَى مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسٍ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَامَ رَجُلٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَكَلَّمُ فَلَمْ يُسَلِّمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ» . وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَا بُنَيَّ إذَا كُنْت فِي مَجْلِسٍ تَرْجُو خَيْرَهُ فَعَجَّلَتْ بِك حَاجَةٌ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّك شَرِيكُهُمْ فِيمَا يُصِيبُونَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَوْقُوفًا هَكَذَا، وَمَرْفُوعًا وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فَقَالَ: عَشْرُ حَسَنَاتٍ، ثُمَّ مَرَّ آخَر فَقَالَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ: عِشْرُونَ حَسَنَةً، ثُمَّ مَرَّ آخَرُ فَقَالَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ: ثَلَاثُونَ حَسَنَةً، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمَجْلِسِ وَلَمْ يُسَلِّمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 مَا أَوْشَكَ أَيْ مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيَ صَاحِبُكُمْ إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، وَإِنْ قَامَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَةِ» . وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِي دُخُولِهِ أَعَادَهُ فِي خُرُوجِهِ، قَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ الْقَاضِي وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَالدُّخُولُ آكَدُ اسْتِحْبَابًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ «إذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» . مَطْلَبٌ: فِي اسْتِحْبَابِ تَسْلِيمِ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ (وَسَلِّمْ) اسْتِحْبَابًا (إذَا مَا جِئْت) أَيْ: زَمَانَ مَجِيئِك (بَيْتَك) عَلَى أَهْلِهِ (تَهْتَدِ) لِمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ، وَفِعْلِك الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَأَحْرَى. أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا بُنَيَّ إذَا دَخَلْت عَلَى أَهْلِك فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ تَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِك» . وَقَوْلُ النَّاظِمِ بَيْتَك مُجَارَاةٌ لِلَفْظِ الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَبَيْتُ غَيْرِهِ كَبَيْتِهِ، فَيُسَنُّ أَنْ يُسَلِّمَ إنْ دَخَلَ بَيْتَهُ أَوْ بَيْتًا مَسْكُونًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور: 61] . وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا وَلَجَ أَحَدُكُمْ بَيْتَهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا، وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَشَمِلَ إطْلَاقُ قَوْلِ النَّاظِمِ (وَسَلِّمْ إذَا مَا جِئْت بَيْتَك) مَا إذَا كَانَ بَيْتُهُ خَالِيًا وَهُوَ مُرَادٌ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَمَنْ دَخَلَ بَيْتًا خَالِيًا سَلَّمَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمَلَائِكَةِ وَرَدَّ هُوَ السَّلَامَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي الرِّعَايَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُهُ أَنَّهُ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ وَيُعَايَى بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسَلِّمَ هُوَ يَرُدُّ السَّلَامَ. وَيَتَوَجَّهُ مِنْهُ تَخْرِيجٌ فِيمَنْ عَطَسَ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ أَنَّهُ يَرُدَّ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 نَفْسِهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِهِمْ اخْتِصَاصُ الْبَيْتِ الْمَسْكُونِ بِالسَّلَامِ دُونَ الْخَالِي وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ. وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَلَمْ يَرُدَّ ابْنُ عُمَرَ السَّلَامَ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: إذَا دَخَلَ بَيْتًا خَالِيًا أَوْ مَسْجِدًا خَالِيًا فَلْيَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ، قِيلَ: بُيُوتَ أَنْفُسِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ وَعِيَالِكُمْ، وَقِيلَ: الْمَسَاجِدُ سَلِّمُوا عَلَى مَنْ فِيهَا، وَقِيلَ: الْمَعْنَى إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَ غَيْرِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ. وَاَلَّذِي قَالَهُ وَجِيهُ الدِّينِ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَعَطَاءٍ، فَحَصَلَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ بَيْتًا خَالِيًا سَلَّمَ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. وَالْمُعْتَمَدُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ خِلَافًا لِظَاهِرِ الرِّعَايَةِ، وَلَعَلَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَبَّهَ عَلَى بَعْضِ فَوَائِدِ السَّلَامِ فَقَالَ: وَإِفْشَاؤُك التَّسْلِيمَ يُوجِبْ مَحَبَّةً ... مِنْ النَّاسِ مَعْرُوفًا وَمَجْهُولًا اقْصِدْ (وَإِفْشَاؤُك) أَيْ: نَشْرُك وَإِذَاعَتُك التَّسْلِيمَ، مَصْدَرُ سَلَّمَ تَسْلِيمًا وَسَلَامًا (يُوجِبْ) أَيْ يُلْزِمْ وَيُحَقِّقْ (مَحَبَّةً) وَالْمُوجِبَةُ الْكَبِيرَةُ مِنْ الْحَسَنَاتِ أَوْ السَّيِّئَاتِ الَّتِي تُوجِبُ الْجَنَّةَ أَوْ النَّارَ. وَالْمَحَبَّةُ أَصْلُهَا الصَّفَاءُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِصَفَاءِ بَيَاضِ الْأَسْنَانِ وَنَضَارَتِهَا حَبَبُ الْأَسْنَانِ. وَقِيلَ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحُبَابِ وَهُوَ مَا يَعْلُو الْمَاءَ عِنْدَ الْمَطَرِ الشَّدِيدِ، فَهِيَ غَلَيَانُ الْقَلْبِ وَثَوَرَانُهُ عِنْدَ الِاهْتِيَاجِ إلَى لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ. وَقِيلَ: مُشْتَقَّةٌ مِنْ اللُّزُومِ وَالثَّبَاتِ، يُقَالُ أَحَبَّ الْبَعِيرُ إذَا بَرَكَ فَلَمْ يَقُمْ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: خِلْت عَلَيْهِ بِالْفَلَاةِ ضَرْبًا ... ضَرْبَ بَعِيرِ السُّوءِ إذْ أَحَبَّا فَكَأَنَّ الْمُحِبُّ قَدْ لَزِمَ قَلْبَهُ مَحْبُوبُهُ فَلَمْ يَرُمْ عَنْهُ انْتِقَالًا. وَقِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقُرْطُ حِبًّا لِقَلَقِهِ فِي الْأُذُنِ وَاضْطِرَابِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 تَبِيتُ الْحَبَّةُ التَّنْضَاضُ مِنْهُ ... مَكَانَ الْحِبِّ يَسْتَمِعُ السِّرَارَا أَرَادَ بِالْحِبِّ الْقُرْطَ. وَقِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحَبِّ جَمْعُ حَبَّةٍ وَهُوَ لُبَابُ الشَّيْءِ وَخَالِصُهُ وَأَصْلُهُ، فَإِنَّ الْحَبَّ أَصْلُ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ. وَقِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحُبِّ، وَهُوَ الْإِنَاءُ الْوَاسِعُ الْمَعْرُوفُ يُوضَعُ فِيهِ الشَّيْءُ فَيَمْتَلِئُ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ غَيْرَهُ، وَكَذَالِك قَلْبُ الْمُحِبِّ لَا يَسَعُ غَيْرَ مَحْبُوبِهِ. وَقِيلَ مِنْ الْحُبِّ، وَهُوَ الْخَشَبَاتُ الْأَرْبَعُ الَّتِي يَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا مَا يُوضَعُ عَلَيْهَا مِنْ جَرَّةٍ وَغَيْرِهَا فَسُمِّيَ الْحُبُّ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَحَمَّلُ لِأَجْلِ مَحْبُوبِهِ الْأَثْقَالَ كَمَا تَتَحَمَّلُ الْخَشَبَاتُ ثِقَلَ مَا يُوضَعُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَبَّةِ الْقَلْبِ وَهِيَ سُوَيْدَاؤُهُ، وَيُقَالُ ثَمَرَتُهُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوُصُولِهَا إلَى حَبَّةِ الْقَلْبِ، وَفِيهَا لُغَتَانِ: حَبَّ وَأَحَبَّ. وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْمَحَبَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، فَقِيلَ هِيَ الْمَيْلُ الدَّائِمُ، بِالْقَلْبِ الْهَائِمِ. وَقِيلَ إيثَارُ الْمَحْبُوبِ، عَلَى كُلِّ مَصْحُوبٍ. وَقِيلَ مُوَافَقَةُ الْحَبِيبِ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ. وَقِيلَ إقَامَةُ الْخِدْمَةِ، مَعَ الْقِيَامِ بِالْحُرْمَةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ شَأْنَ الْمَحَبَّةِ عَظِيمٌ وَمَدَارُ حَرَكَاتِ الْعَالِمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ عَلَيْهَا. وَقَدْ نَبَّهَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ السَّلَامَ مِنْ مُوجِبَاتِهَا. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا «مَا حَسَدَتْكُمْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ» وَقَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ يَمْكُثُ النَّاسُ دَهْرًا لَيْسَ بَيْنَهُمُو ... وُدٌّ فَيَزْرَعُهُ التَّسْلِيمُ وَاللُّطْفُ وَقَوْلُ النَّاظِمِ (مِنْ النَّاسِ) مُتَعَلِّقٌ بِ {يُوجِبْ مَحَبَّةً} يَعْنِي يُوقِعْهَا وَيَغْرِسْهَا فِي قُلُوبِهِمْ لِلْخَبَرِ. وَقَوْلُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مَعْرُوفًا) مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (وَمَجْهُولًا) مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ (اقْصِدْ) فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَّةِ، أَيْ اقْصِدْ بِسَلَامِك كُلَّ إنْسَانٍ سَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا لَك أَوْ مَجْهُولًا عِنْدَك لَا تَعْرِفُهُ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ مِنْ التَّوَاضُعِ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّلَامِ عَلَى مَنْ عَرَفَ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ يُكْثِرُ مِنْهُ وَيُفْشِيه وَيُشِيعُهُ، لَا أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ، فَإِنَّ هَذَا فِي السُّوقِ وَنَحْوِهِ يُسْتَهْجَنُ عَادَةً وَعُرْفًا. وَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُحَافَظَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ لَشَاعَ وَتَوَاتَرَ وَنَقَلَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ خَلَفًا مِنْ سَلَفٍ. انْتَهَى. كَذَا قَالَ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَغْدُو إلَى السُّوقِ فَلَا يَمُرُّ بِأَحَدٍ إلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الطُّفَيْلُ بْنُ أَبِي كَعْبٍ مَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ، وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ، وَلَا تَسْأَلُ عَنْ السِّلَعِ وَلَا تَسُومُ بِهَا وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ فَقَالَ يَا أَبَا بَطْنٍ - وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ - إنَّمَا نَغْدُوا مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِيَنَا. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. لَكِنَّ مُرَاد الشَّيْخِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ السَّلَامَ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ مَجَامِعِ النَّاسِ كَالْأَسْوَاقِ وَالْمَوَاسِمِ وَالْحَجِيجِ وَنَحْوِهَا مُسْتَهْجَنٌ عُرْفًا وَعَادَةً وَهُوَ كَذَلِكَ. ثُمَّ رَأَيْت الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَشَى فِي الشَّوَارِعِ الْمَطْرُوقَةِ كَالسُّوقِ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ إلَّا عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَقِيَ لَتَشَاغَلَ بِهِ عَنْ الْمُهِمِّ الَّذِي خَرَجَ لِأَجْلِهِ، وَلَخَرَجَ بِهِ عَنْ الْعُرْفِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَذَكَرَ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لِأَنَّ مُرَادَ الْمَاوَرْدِيِّ مَنْ خَرَجَ فِي حَاجَةٍ لَهُ فَتَشَاغَلَ عَنْهَا بِمَا ذُكِرَ، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرٌ بِأَنَّهُ خَرَجَ لِقَصْدِ تَحْصِيلِ ثَوَابِ السَّلَامِ انْتَهَى. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ السَّلَامُ لِلْمَعْرِفَةِ» ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ. وَلَمَّا بَيَّنَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - طَرَفًا صَالِحًا مِنْ أَحْكَامِ السَّلَامِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ عَلَى لَفْظِهِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي تَعْرِيفِ لَفْظِ السَّلَامِ وَتَنْكِيرِهِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ وَتَعْرِيفُهُ لَفْظَ السَّلَامِ مُجَوَّزٌ ... وَتَنْكِيرُهُ أَيْضًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ (وَتَعْرِيفُهُ) أَيْ الْمُسَلِّمُ (لَفْظَ السَّلَامِ) بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ (مُجَوَّزٌ) أَيْ جَائِزٌ (وَ) يَجُوزُ (تَنْكِيرُهُ) أَيْ السَّلَامِ (أَيْضًا) بِأَنْ يَقُولَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فَرْقٍ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَالتَّحِيَّةِ وَالْوَدَاعِ (عَلَى نَصِّ) الْإِمَامِ (أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ. وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ تَرْجَمَتِهِ هُنَا. وَقَدْ قِيلَ نَكِّرْهُ وَقِيلَ تَحِيَّةً ... كَلِلْمَيِّتِ وَالتَّوْدِيعَ عَرِّفْ كَرَدِّدِ (وَقَدْ قِيلَ نَكِّرْهُ) أَفْضَلُ، وَعَنْهُ تَعْرِيفُهُ أَفْضَلُ، وَالْمُعْتَمَدُ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ صَحَّتْ بِهِمَا (وَقِيلَ) الْأَفْضَلُ تَنْكِيرُهُ (تَحِيَّةً) أَيْ فِي سَلَامِ التَّحِيَّةِ (كَ) مَا أَنَّ الْأَفْضَلَ تَعْرِيفُهُ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ فِي السَّلَامِ (لِلْمَيِّتِ) أَيْ عَلَى الْأَمْوَاتِ (وَ) فِي السَّلَامِ لِ (لِتَوْدِيعِ) أَيْ عِنْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ الْمَجْلِسِ (عَرِّفْ) لَفْظَ السَّلَامِ بِأَنْ تَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي تَحِيَّةِ الْأَمْوَاتِ، وَكَذَا عِنْدَ التَّوْدِيعِ مِنْ مَجْلِسٍ قُمْت مِنْهُ فَتَقُولُ السَّلَام عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. قَالَهُ ابْنُ الْبَنَّا، قَالَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ قَالَ ابْنُ الْبَنَّا: سَلَامُ التَّحِيَّةِ مُنَكَّرٌ وَسَلَامُ الْوَدَاعِ مُعَرَّفٌ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآدَابِ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ ابْنِ الْبَنَّا: وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: سَلَامُ الْأَحْيَاءِ مُنَكَّرٌ وَسَلَامُ الْأَمْوَاتِ مُعَرَّفٌ. كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقِيلَ عَكْسُهُ. قَالَ وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ تَعْرِيفُ السَّلَامِ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَالَهُ جَمَاعَةٌ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ الْأَخْبَارِ. وَيُخَيَّرُ فِي السَّلَامِ عَلَى الْحَيِّ، فَإِنْ شَاءَ عَرَّفَ وَإِنْ شَاءَ نَكَّرَ. انْتَهَى. وَقَوْلُ النَّاظِمِ (كَرَدِّدِ) أَيْ كَمَا أَنَّ الْأَفْضَلَ تَعْرِيفُ السَّلَامِ فِي الرَّدِّ. وَتَكْرِيرُ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ضَرُورَةٌ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ الْأَثِيرِ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ تَنْكِيرَ الِابْتِدَاءِ وَتَعْرِيفَ الْجَوَابِ، وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ يَعْنِي السَّلَامَ الْأَوَّلَ. مَطْلَبٌ: فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ كَيْفَ أَصْبَحْت وَكَيْفَ أَمْسَيْت (فَوَائِدُ: الْأُولَى) لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ كَيْفَ أَمْسَيْت وَكَيْفَ أَصْبَحْت. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِصَدَقَةَ وَهُمْ فِي جِنَازَةٍ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كَيْفَ أَمْسَيْت؟ فَقَالَ مَسَّاك اللَّهُ بِالْخَيْرِ. وَقَالَ أَيْضًا لِلْمَرُّوذِيِّ: كَيْفَ أَصْبَحْت يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ لَهُ: صَبَّحَك اللَّهُ بِالْخَيْرِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَصْحَابِ الصُّفَّةِ «كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَسِيدٍ السَّاعِدِيِّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ قَالَ كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ؟ قَالُوا بِخَيْرٍ نَحْمَدُ اللَّهَ كَيْفَ أَصْبَحْت بِأَبِينَا وَأُمِّنَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَصْبَحْت بِخَيْرٍ أَحْمَدُ اللَّهَ» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ قُلْت «كَيْفَ أَصْبَحْت يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ بِخَيْرٍ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يُصْبِحْ صَائِمًا وَلَمْ يَعُدْ سَقِيمًا» وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ ضَعِيفٌ. وَفِي حَوَاشِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي الْكَبِيرِ عِنْدَ كِتَابِ النُّذُورِ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: لَوْ لَقِيت رَجُلًا فَقَالَ لِي: بَارَكَ اللَّهُ فِيك لَقُلْت وَفِيك. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ الِاكْتِفَاءُ بِنَحْوِ كَيْفَ أَصْبَحْت وَكَيْفَ أَمْسَيْت بَدَلًا مِنْ السَّلَامِ وَأَنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْمُبْتَدِئِ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ السَّلَامُ وَجَوَابُهُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ قَوْلِهِمْ: أَبْقَاك اللَّهُ (الثَّانِيَةُ) : قَالَ الْخَلَّالُ فِي الْآدَابِ كَرَاهِيَةُ قَوْلِهِ فِي السَّلَامِ أَبْقَاك اللَّهُ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: رَأَيْت أَبِي إذَا دُعِيَ لَهُ بِالْبَقَاءِ يَكْرَهُهُ، وَيَقُولُ هَذَا شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ «أُمِّ حَبِيبَةَ لَمَّا سَأَلَتْ، أَنْ يَمْنَعَهَا اللَّهُ بِزَوْجِهَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِأَبِيهَا أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِيهَا مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّك سَأَلْت اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَا يُعَجَّلُ مِنْهَا شَيْءٌ قَبْلَ حَلِّهِ وَلَا يُؤَخَّرُ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ حَلِّهِ، وَلَوْ سَأَلْت اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَك مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا لَك» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَوْلُهُ: حَلِّهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ مُهْمَلَةً وَكَسْرِهَا أَيْ وُجُوبِهِ قَالَ ابْنُ قُرْقُولٍ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ: قَبْلَ حَلِّهِ أَيْ يُؤَخِّرُهُ عَنْ حَلِّهِ بِفَتْحِ الْحَاءِ ضَبْطُهُ أَيْ وُجُوبِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وَكَذَلِكَ بِالْمَكَانِ يَحِلُّ حُلُولًا وَأَحَلَّ إحْلَالًا خَرَجَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمِنْ مِيثَاقٍ عَلَيْهِ. انْتَهَى. وَضَبَطَهُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي رِوَايَةٍ «وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ» وَفِي أُخْرَى «وَآثَارٍ مَبْلُوغَةٍ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إلَّا الْبِرُّ» قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: إسْنَادٌ جَيِّدٌ. مَطْلَبٌ: فِي كَتْبِهِمْ فِي الرَّسَائِلِ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِي وَأَنَّهُ مِنْ أَحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ (الثَّالِثَةُ) : مِنْ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ كَتْبُهُمْ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِنَا. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: لَا أَدْرِي مِمَّنْ أَخَذُوهُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ أَجَلُّ الدُّعَاءِ، وَنَحْنُ نَدْعُو رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى غَيْرِ هَذَا وَمَنْعِ هَذَا فَفِيهِ انْقِلَابُ الْمَعْنَى. وَقَدْ حَكَى إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ دُعَاءٌ مُحْدَثٌ، وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ، قُلْت: وَلَعَلَّ مَنْ كَرِهَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَرِهَهُ لِعَدَمِ الْوُرُودِ، وَإِلَّا فَالْعِلَّةُ فِيهِ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِهِ، وَمَقَادِيرُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا قَدْ فُرِغَ مِنْهَا مِنْ السَّعَادَةِ وَكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّعِيمِ، وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَالْمُطِيعِينَ وَأَضْدَادِهَا كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي الْيُسْرِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو اللَّهُمَّ أَمْتِعْنَا بِهِ» وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ بَدْرٍ وَفَاةً وَمِنْ دُعَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي» وَمِنْهُ «اللَّهُمَّ عَافَنِي فِي جَسَدِي وَعَافَنِي فِي بَصَرِي وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي» وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَةٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا وَأَضْرَابِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ قَوْلِهِمْ فِي السَّلَامِ جُعِلْت فِدَاك (الرَّابِعَةُ) : قَالَ الْخَلَّالُ: كَرَاهِيَةُ قَوْلِهِ فِي السَّلَامِ: جُعِلْت فِدَاك. قَالَ بِشْرُ بْنُ مُوسَى سَأَلَ رَجُلٌ، وَأَنَا أَسْمَعُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ جُعِلْت فِدَاك فَقَالَ: لَا تَقُلْ هَكَذَا فَإِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ مِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ هَذَا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَوْلَى مِنْهُ لِصِحَّةِ غَيْرِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ «قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك» . وَذَكَرَهُ أَيْضًا عَنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ انْتَهَى، قُلْت: وَفِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ: أَتَهْجُوهُ وَلَسْت لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا فِدَاءُ وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ أَنْصَفُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ «قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَةٍ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك مَرَّتَيْنِ» . وَقَالَ الْخَلَّالُ: قَوْلُهُ فِي السَّلَامُ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ تَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: فِدَاك أَبِي وَأُمِّي؟ قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: فِدَاك أَبِي وَأُمِّي، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِدَاءٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ بِرٌّ وَإِعْلَامٌ بِمَحَبَّتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ. وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّهُ بِالْأَبَوَيْنِ يَعْنِي الْكَرَاهَةَ دُونَ وَأَنَا فِدَاكَ. وَالْمُعْتَمَدُ لَا كَرَاهَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - لِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ، وَكَثْرَتِهَا عَنْ الْمُخْتَارِ، فَإِنَّهَا كَادَتْ تُجَاوِزُ حَدَّ الْحَصْرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ مَنَاقِبِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ (تَتِمَّةٌ) فِي بَعْضِ مَنَاقِبِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَطَرَفٍ مِنْ تَرْجَمَتِهِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِ النَّاظِمِ عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ. أَقُولُ: هُوَ الْإِمَامُ الْمُبَجَّلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدِ بْنِ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَيَّانَ - بِالْمُثَنَّاةِ تَحْتَ - بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ عَوْفِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ مَازِنِ بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابِ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ - بِكَسْرِ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ النُّونِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ - ابْنِ أَفْصَى - بِالْفَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - ابْنِ دُعْمِيِّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَاءَ الشَّيْبَانِيُّ الْمَرُّوذِيُّ الْبَغْدَادِيُّ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ الْبِرْمَاوِيُّ: الشَّيْبَانِيُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ابْنُ ذُهْلِ بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ابْنُ ثَعْلَبَةَ كَمَا نَسَبَهُ وَلَدُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَاعْتَمَدَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ. وَغَلِطَ الْخَطِيبُ عَبَّاسًا الدَّوْرِيَّ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ دَاوُد بْنِ مَأْكُولَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فِي قَوْلِهِمَا إنَّهُ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَقَالَ وَذُهْلٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ هُوَ عَمُّ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَشَيْبَانُ حَيٌّ مِنْ بَكْرٍ وَهُمَا شَيْبَانَانِ أَحَدُهُمَا شَيْبَانَ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنُ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَالْآخَرُ شَيْبَانَ بْنُ ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَ الْخَطِيبُ. وَقُدِّمَ فِي الْمُغْنِي ذُهْلٌ عَلَى شَيْبَانَ وَالصَّوَابُ تَقْدِيمُ شَيْبَانَ كَمَا ذَكَرْنَا. حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ بِمَرْوَ وَوُلِدَ بِبَغْدَادَ وَنَشَأَ بِهَا وَأَقَامَ بِهَا إلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَدَخَلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَالشَّامَ وَالْيَمَنَ وَالْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ وَالْجَزِيرَةَ. وَسَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ وَيَحْيَى الْقَطَّانَ وَهُشَيْمًا وَوَكِيعًا وَابْنَ عُلَيَّةَ وَابْنَ مَهْدِيٍّ وَعَبْدَ الرَّزَّاقِ وَخَلَائِقَ كَثِيرِينَ ذَكَرَهُمْ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو الْوَلِيدِ وَابْنُ مَهْدِيٍّ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ وَالدِّمَشْقِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ هَانِئٍ الطَّائِيُّ الْأَثْرَمُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيّ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ وَمُوسَى بْنُ هَارُونَ وَحَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ وَوَلَدَاهُ وَالْمَرُّوذِيُّ وَخَلَائِقُ كَثِيرُونَ ذَكَرَهُمْ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَنَاقِبِ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وَاجْتَمَعَ بِالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَخَذَ عَنْ الْآخَرِ، وَلَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ آخِرَ الصَّدَقَاتِ تَعْلِيقًا. وَقَالَ الْحَازِمِيُّ: إنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَدِيثًا ثَانِيًا بِوَاسِطَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ. وَفَضَائِلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَشْهُورَةٌ، وَمَنَاقِبُهُ مَأْثُورَةٌ، سَارَتْ بِذَكَرِهِ الرُّكْبَانُ، وَبَلَغَ صِيتُهُ كُلَّ قَاصٍ وَدَانٍ، وَمَلَأَ ذِكْرُهُ الْأَمْصَارَ وَالْبُلْدَانَ. وَكُلُّ إمَامٍ فِي عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَضَعَ لَهُ وَدَانَ. قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: خَرَجْت مِنْ بَغْدَادَ وَمَا خَلَّفْت بِهَا أَحَدًا أَوْرَعَ وَلَا أَتْقَى وَلَا أَفْقَهَ وَلَا أَعْلَمَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ لِوَلَدِ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ أَبُوك يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيك؟ فَقَالَ ذَاكَرْته فَأَخَذْت عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ. قُلْت: فِي ثِمَارِ مُنْتَهَى الْعُقُولِ فِي مُنْتَهَى النُّقُولِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيِّ مَا نَصُّهُ: انْتَهَى الْحِفْظُ لِابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ فَرِيدٌ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ، وَكَانَ يَحْفَظُ كُتُبًا حِمْلَ ثَمَانِينَ بَعِيرًا. وَحَفِظَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ أَلْفَ كُرَّاسٍ وَحَفِظَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفَ بَيْتِ مِنْ الشَّعْرِ اسْتِشْهَادًا لِلنَّحْوِ. وَكَانَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يَحْفَظُ مِنْ مَرَّةٍ أَوْ نَظْرَةٍ. وَابْنُ سِينَا الْحَكِيمُ حَفِظَ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَبُو زُرْعَةَ كَانَ يَحْفَظُ أَلْفَ أَلْفِ حَدِيثٍ. وَالْبُخَارِيُّ حَفِظَ عُشْرَهَا أَيْ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ. وَالْكُلُّ مِنْ بَعْضِ مَحْفُوظِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انْتَهَى. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ أَحَدٌ بِسُنَّةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ امْتَازَ بِهَا عَنْ سَائِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَمَّنْ مَضَى، وَعَمَّنْ بَقِيَ مِنْ الْأَئِمَّةِ. وَلِذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: يَقُولُ النَّاسُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِالتَّوَهُّمِ وَاَللَّهِ مَا أَجِدُ لِأَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ عَلَيْهِ مَزِيَّةً، وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا يَقْدِرُ قَدْرَهُ، وَلَا يَعْرِفُ مِنْ الْإِسْلَامِ مَحَلَّهُ. قَالَ: وَلَقَدْ صَحِبْته عِشْرِينَ سَنَةً صَيْفًا وَشِتَاءً وَحَرًّا وَبَرْدًا وَلَيْلًا وَنَهَارًا فَمَا لَقِيته فِي يَوْمٍ إلَّا وَهُوَ زَائِدٌ عَلَيْهِ بِالْأَمْسِ. وَلَقَدْ كَانَ يَقْدُمُ أَئِمَّةَ الْعُلَمَاءِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ وَإِمَامَ كُلِّ مِصْرٍ فَهُمْ بِجَلَالَتِهِمْ مَا دَامَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، صَارَ غُلَامًا مُتَعَلِّمًا. وَقَالَ الْحَرْبِيُّ أَيْضًا: قَدْ رَأَيْت رِجَالَاتِ الدُّنْيَا لَمْ أَرَ مِثْلَ ثَلَاثَةٍ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَتَعْجِزُ النِّسَاءُ أَنْ تَلِدَ مِثْلَهُ، وَرَأَيْت بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ مِنْ قَرْنِهِ إلَى قَدَمِهِ مَمْلُوءًا عَقْلًا، وَرَأَيْت أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ بْنَ سَلَّامٍ كَأَنَّهُ جَبَلٌ نُفِخَ فِيهِ عِلْمٌ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ: مَا رَأَيْت مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. قَالُوا لَهُ: وَأَيُّ شَيْءٍ بَانَ لَك مِنْ فَضْلِهِ وَعِلْمِهِ عَلَى سَائِرِ مَنْ رَأَيْت؟ قَالَ: رَجُلٌ سُئِلَ عَنْ سِتِّينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا بِأَنْ قَالَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَرَوَيْنَا. قُلْت: وَهَذِهِ كَالْأُولَى لَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا فَعَلَهَا. وَقَدْ سُئِلَ كَثِيرٌ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الْأَئِمَّةِ عَنْ مِعْشَارِ عُشْرِ ذَلِكَ فَأَحْجَمَ عَنْ الْجَوَابِ عَنْ أَكْثَرِهَا. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ الصَّرْصَرِيُّ فِي لَامِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: حَوَى أَلْفَ أَلْفٍ مِنْ أَحَادِيثَ أُسْنِدَتْ ... وَأَثْبَتَهَا حِفْظًا بِقَلْبٍ مُحَصِّلِ أَجَابَ عَلَى سِتِّينَ أَلْفَ قَضِيَّةٍ ... بِأَخْبَرِنَا لَا مِنْ صَحَائِفَ نُقَّلِ وَكَانَ إمَامًا فِي الْحَدِيثِ وَحُجَّةً ... لِنَقْدٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ وَمُعَلَّلِ وَكَانَ إمَامًا فِي كِتَابٍ وَسُنَّةٍ ... وَعِلْمٍ وَزُهْدٍ كَامِلٍ وَتَوَكُّلِ فَمَنْهَجُهُ فِي الْحَقِّ أَقْوَمُ مَنْهَجٍ ... وَمَوْرِدُهُ فِي الشَّرْعِ أَعْذَبُ مَنْهَلِ وَهُدِّدَ فِي الْقُرْآنِ بِالسَّوْطِ وَالظُّبَا ... فَلَمْ يَخْشَ مِنْ تَهْدِيدِ سَوْطٍ وَمِنْصَلِ فَمَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَقُلْ مُتَصَدِّيًا ... لِنَصْرِ الْهُدَى فَرْدًا عَلَى أَلْفِ جَحْفَلِ وَمَنْ قَالَ فِي دِينِ الْهُدَى مُتَخَرِّصًا ... بِآرَائِهِ مَا لَمْ يَقُلْ لَمْ يَعْدِلْ فَقَدْ كَانَ كَالصِّدِّيقِ فِي يَوْمِ رِدَّةٍ ... وَعُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ فِي الصَّبْرِ إذْ بُلِي وَفِي الضَّرْبِ إذْ حُلَّتْ سَرَاوِيلُهُ دَعَا ... فَمَا فَارَقَتْ حَقْوَيْ مُحِقٍّ مُسَرْوَلِ وَسَافَرَ مِنْ بَغْدَادَ مِنْ وَرَعٍ إلَى ... خُرَاسَانَ فِي رَدِّ الْيَرَاعِ الْمُسَجَّلِ وَمِنْ وَرَعٍ قَدْ كَانَ يَطْوِي ثَمَانِيًا ... مُوَاصَلَةً فِي عَسْكَرِ الْمُتَوَكِّلِ هُوَ الْعَلَمُ الْمَشْهُورُ لَمْ يَطْوِ ذِكْرَهُ ... مَمَاتٌ بَلْ اسْتَعْلَى عَلَى كُلِّ مُعْتَلِ إمَامٌ عَظِيمٌ كَانَ لِلَّهِ حُجَّةً ... عَلَى نَفْيِ تَشْبِيهٍ وَدَحْضٍ مُعَطِّلِ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ - رَحِمَ اللَّهُ رُوحَهُ -: إنَّ سَيِّدِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَمَرَنِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إلَّا مِنْ كِتَابٍ. وَقَالَ إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعَزَّ هَذَا الدِّينَ بِرَجُلَيْنِ لَيْسَ لَهُمَا ثَالِثٌ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَوْمَ الرِّدَّةِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَوْمَ الْمِحْنَةِ. وَقَالَ: مَا قَامَ أَحَدٌ بِأَمْرِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَامَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قِيلَ يَا أَبَا الْحَسَنِ وَلَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ؟ قَالَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ لَهُ أَعْوَانٌ وَأَصْحَابٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْوَانٌ وَلَا أَصْحَابٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إمَامُنَا إنِّي لَأَتَزَيَّنُ بِذِكْرِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَنَا أَنْظُرُ رَجُلًا عِنْدَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَقُلْت مَنْ لَيْسَ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ مِثْلُهُ، قَالَ مَنْ؟ قُلْت أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ صَدَقَ لَيْسَ فِي شَرْقٍ وَلَا غَرْبٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 مِثْلُهُ، مَا رَأَيْت رَجُلًا أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حُجَّةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عَبِيدِهِ فِي أَرْضِهِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيّ: مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْفِقْهِ وَالْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ خَيْرٍ، مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَجْمَعَ مِنْهُ، وَمَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْمَلَ مِنْهُ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَ الرِّدَّة، وَعُمَرُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَعُثْمَانُ يَوْمَ الدَّارِ، وَعَلِيٌّ يَوْمَ صِفِّينَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ: رَأَيْت مِائَتَيْ شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الْعِلْمِ فَمَا رَأَيْت مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، لَمْ يَخُضْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخُوضُ فِيهِ النَّاسُ، فَإِذَا ذُكِرَ الْعِلْمُ تَكَلَّمَ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي زَمَانِهِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي زَمَانِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ: لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَرُدُّوهُ إلَى عَالِمِهِ» رَدَدْنَاهُ إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ وَمَآثِرُهُ شَهِيرَةٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَنَفَعَنَا بِمَحَبَّتِهِ. وَقَدْ صَنَّفَ فِي مَنَاقِبِهِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ جَمَاعَةٌ كَابْنِ مَنْدَهْ، وَالْبَيْهَقِيِّ، وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيِّ، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَابْنِ نَاصِرٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَمَنَاقِبُهُ وَإِمَامَتُهُ وَمَآثِرُهُ وَسِيَادَتُهُ وَبَرَاعَتُهُ وَزَهَادَتُهُ وَرِوَايَتُهُ وَدِرَايَتُهُ وَمَجْمُوعُ مَحَاسِنِهِ كَالشَّمْسِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَغْرُبُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِ آمِينَ. وُلِدَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِنَحْوٍ مِنْ سَاعَتَيْنِ مِنْ النَّهَارِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَمُدَّةُ حَيَّاتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبْعَةٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَوَهَمَ الْمُنَاوِيُّ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَقَالَ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ، فَزَادَ عَلَى عُمْرِهِ عَشْرَ سِنِينَ، وَهُوَ سَبْقٌ بِلَا شَكٍّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. صَنَّفَ الْمُسْنَدَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ غَيْرَ الْمُكَرَّرِ وَالتَّفْسِيرَ مِائَةَ أَلْفٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَالنَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَالتَّارِيخَ، وَحَدِيثَ شُعْبَةَ، وَالزُّهْدَ، وَالْمُقَدَّمَ وَالْمُؤَخَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَجَوَابَاتِ الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِلرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ، وَالْمَنَاسِكَ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ، وَأَشْيَاءَ أُخَرَ. وَكَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَيْخًا وَقُورًا كَثِيرَ التَّوَاضُعِ يُحِبُّ الْفُقَرَاءَ، لَمْ يَرَ الْفَقِيرُ نَفْسَهُ أَعَزَّ مِنْهُ فِي مَجْلِسِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، دَائِمَ الْبِشْرِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، يُحِبُّ فِي اللَّهِ وَيَبْغَضُ فِي اللَّهِ، وَإِذَا أَحَبَّ رَجُلًا أَحَبَّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ يَزِيدُ الْمُنَادِي: كَانَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ أَحْيَا النَّاسِ وَأَكْرَمِهِمْ نَفْسًا، وَأَحْسَنِهِمْ عِشْرَةً وَأَدَبًا، كَثِيرَ الْإِطْرَاقِ وَالْغَضِّ، مُعْرِضًا عَنْ الْقَبِيحِ وَاللَّغْوِ، لَا يُسْمَعُ مِنْهُ إلَّا الْمُذَاكَرَةُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ وَالطُّرُقِ وَذِكْرِ الصَّالِحِينَ وَالزُّهَّادِ، فِي وَقَارٍ وَسُكُونٍ وَلَفْظٍ حَسَنٍ. وَإِذَا لَقِيَهُ إنْسَانٌ سُرَّ بِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَتَوَاضَعُ تَوَاضُعًا شَدِيدًا، وَكَانُوا يُكْرِمُونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: كُنَّا فِي مَجْلِسِ بِشْرِ بْنِ مُوسَى يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ الْأَسَدِيَّ وَمَعَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْفَقِيهُ الْقَاضِي، فَخَاضُوا فِي ذِكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ ذِكْرَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: وَهَلْ أُصُولُ الْفِقْهِ إلَّا مَا كَانَ يُحْسِنُهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ؟ حَفِظَ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَعْرِفَةَ بِسُنَّتِهِ وَاخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قُلْت: لَمْ يَبْقَ بَعْدَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سِوَى الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ حَيْثُ لَا نَصَّ، وَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالْمَنْقُولِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَهُوَ أَجْدَرُ الْأَئِمَّةِ بِالصَّوَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَحْنُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُذْهَبُ إلَى الْقِيَاسِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الِاحْتِجَاجِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ لَا يُعَارِضُهَا نَصٌّ، وَلَا مِثْلُهَا فَمَذْهَبُنَا اتِّبَاعُ الْمَنْقُولِ، وَتَقْدِيمُ خَبَرِ الرَّسُولِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ الْفُحُولِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأُصُولِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: حَدَّثَنَا الْمَرُّوذِيُّ قَالَ قَالَ لِي أَحْمَدُ: مَا كَتَبْت حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا، وَقَدْ عَمِلْت بِهِ حَتَّى مَرَّ بِي فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِينَارًا» ، فَأَعْطَيْت الْحَجَّامَ دِينَارًا حِينَ احْتَجَمْت. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ إسْمَاعِيلَ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: كَانَ يَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ زُهَاءٌ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ، وَيَزِيدُونَ أَقَلُّ مِنْ خَمْسمِائَةِ يَكْتُبُونَ، وَالْبَاقِي يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ حُسْنَ الْأَدَبِ وَحُسْنَ السَّمْتِ. وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ: رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَتَبَ مِنْ مِصْرَ كِتَابًا وَأَعْطَاهُ لِلرَّبِيعِ بْنِ سَلْمَانَ وَقَالَ: اذْهَبْ بِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأْتِنِي بِالْجَوَابِ، فَجَاءَ بِهِ إلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَهُ تَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ. وَكَانَ الشَّافِعِيُّ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ وَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ إنَّك سَتُمْتَحَنُ وَتُدْعَى إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ فَلَا تُجِبْهُمْ يَرْفَعْ اللَّهُ لَك عَلَمًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ لَهُ الرَّبِيعُ الْبِشَارَةَ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ وَجَوَابَ الْكِتَابِ، فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ أَيُّ شَيْءٍ دَفَعَ إلَيْك؟ قَالَ الْقَمِيصَ الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ، قَالَ لَيْسَ نَفْجَعُك بِهِ، وَلَكِنْ بِلَّهُ وَادْفَعْ إلَيْنَا الْمَاءَ حَتَّى نُشْرِكَك فِيهِ. قَالَ الرَّبِيعُ فَغَسَلْته وَحَمَلْت مَاءَهُ إلَيْهِ فَتَرَكَهُ فِي قِنِّينَةٍ وَكُنْت أَرَاهُ كُلَّ يَوْمٍ يَأْخُذُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَلَى وَجْهِهِ تَبَرُّكًا بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - انْتَهَى. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَاشْتُهِرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْخَلْقِ، وَتَحَلَّتْ بِهَا الْكُتُبُ الْمُدَوَّنَةُ، وَاشْتُهِرَتْ فِي الْمَحَافِلِ عَلَى الْأَلْسِنَة. وَأَنْشَدَ إسْمَاعِيلُ بْنُ فُلَانٍ التِّرْمِذِيُّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَصِيدَةً لَهُ فِيهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ فَمِنْهَا قَوْلُهُ: إذَا مَيَّزَ الْأَشْيَاءَ يَوْمًا وَحَصَّلُوا ... فَأَحْمَدُ مِنْ بَيْنِ الْمَشَايِخِ جَوْهَرُ إذَا افْتَخَرَ الْأَقْوَامُ يَوْمًا بِسَيِّدٍ ... فَفِيهِ لَنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَفْخَرُ فَيَا أَيُّهَا السَّاعِي لِيُدْرِكَ شَأْوَهُ ... رُوَيْدَك عَنْ إدْرَاكِهِ سَتَقْصُرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 حَمَى نَفْسَهُ الدُّنْيَا وَقَدْ سَمَحَتْ لَهُ ... فَمَنْزِلُهُ إلَّا مِنْ الْقُوتِ مُقْفِرُ فَإِنْ يَكُ فِي الدُّنْيَا مُقِلًّا فَإِنَّهُ ... مِنْ الْأَدَبِ الْمَحْمُودِ وَالْعِلْمِ مُكْثِرُ وَقَالَ الْإِمَامُ بِشْرٌ الْحَافِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَامَ مَقَامَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَيْضًا: أُدْخِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْكِيرَ فَخَرَجَ ذَهَبَةً حَمْرَاءَ. وَقَدْ رُوِّينَا بِالْإِسْنَادِ إلَى بِشْرٍ قَالَ سَمِعْت الْمُعَافَى بْنَ عِمْرَانَ يَقُولُ: سُئِلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ الْفُتُوَّةِ، فَقَالَ الْفُتُوَّةُ الْعَقْلُ وَالْحَيَاءُ، وَرَأْسُهَا الْحَافِظُ، وَزِينَتُهَا الْحِلْمُ وَالْأَدَبُ، وَشَرَفُهَا الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ، وَحِلْيَتُهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَحِفْظُ الْجَارِ وَتَرْكُ التَّكَبُّرِ وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ وَالْوَقَارُ وَغَضُّ الطَّرْفِ عَنْ الْمَحَارِمِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَبَذْلُ السَّلَامِ وَأَبَرُّ الْفِتْيَانِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ عَقَلُوا عَنْ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَاجْتِنَابُ الْحَلِفِ وَإِظْهَارُ الْمَوَدَّةِ وَإِطْلَاقُ الْوَجْهِ وَإِكْرَامُ الْجَلِيسِ وَالْإِنْصَاتُ لِلْحَدِيثِ وَكِتْمَانُ السِّرِّ وَسَتْرُ الْعُيُوبِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ وَتَرْكُ الْخِيَانَةِ وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالصَّمْتُ فِي الْمَجَالِسِ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ، وَالتَّوَاضُعُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَإِجْلَالُ الْكَبِيرِ، وَالرِّفْقُ بِالصَّغِيرِ، وَالرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمِسْكَيْنِ، وَالصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَكَمَالُ الْفُتُوَّةِ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَنْبَغِي لِلْفَتَى أَنْ تَكُونَ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فَتًى حَقًّا. قَالَ بِشْرٌ: وَكَذَلِكَ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَتًى؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ كُلَّهَا. (خَاتِمَةٌ) ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَجَّهَ ابْنُ طَاهِرٍ بِمَنَادِيلَ فِيهَا ثِيَابٌ وَطِيبٌ، فَقَالَ الرَّسُولُ لِوَلَدِهِ صَالِحٍ: الْأَمِيرُ يُقْرِئُك السَّلَامَ قَدْ فَعَلْت مَا لَوْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَاضِرًا لَكَانَ فَعَلَهُ قَالَ صَالِحٌ فَأَرْسَلْت إلَيْهِ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَانَ أَعْفَاهُ مِمَّا يَكْرَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَكْرَهُ، فَعَادَ إلَيْهِ الرَّسُولُ يَقُولُ يَكُونُ شِعَارُهُ وَلَا يَكُونُ دِثَارُهُ، فَأَعَدْت إلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَرَدَّ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ. وَكَانَتْ جَارِيَةُ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعَدَّتْ لَهُ ثَوْبًا عُشَارِيًّا مِنْ غَزْلِهَا، قُدِّرَ بِثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَطَعُوهُ لَهُ لِفَافَتَيْنِ وَأَخَذُوا مِنْ فُورَانَ لِفَافَةً أُخْرَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 قَالَ وَلَدُهُ فَأَدْرَجْنَاهُ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ وَاشْتَرَيْنَا لَهُ حَنُوطًا، وَحَضَرَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ عِنْدَ تَكْفِينِهِ، فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَ جَبْهَتَهُ حِينَ وُضِعَ عَلَى السَّرِيرِ. وَأَمَّا الْجَمْعُ الَّذِي صَلَّوْا عَلَيْهِ فَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ بِمِثْلِهِ. قَالَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ. وَقَدْ حَزَرَ الْمَوْضِعُ مَسْحَهُ عَلَى التَّصْحِيحِ فَإِذَا هُوَ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ أَلْفٍ، وَحَزَرْنَا عَلَى السُّورِ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا مِنْ النِّسَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ فَإِذَا هُوَ أَلْفُ أَلْفٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ سِوَى مَا كَانَ فِي السُّفُنِ. وَفِي أُخْرَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ عَنْ وَالِدِهِ: قُولُوا لِأَهْلِ الْبِدَعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ يَوْمُ الْجَنَائِزِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمْ تُرَ جِنَازَةٌ مِثْلُهَا إلَّا جِنَازَةٌ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَوَقَعَ الْمَأْتَمُ بِسَبَبِ مَوْتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنْ النَّاسِ، الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، وَأَسْلَمَ يَوْمَ مَوْتِهِ عِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس. قُلْت: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جَمِيعَ الْجِنِّ حَضَرَتْ جِنَازَتَهُ إلَّا الْمَرَدَةَ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَنَعَتَهُ الْجِنُّ الْمُؤْمِنُونَ. وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ الصَّرْصَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اللَّامِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَعِشْرُونَ أَلْفًا أَسْلَمُوا حِينَ عَايَنُوا ... جِنَازَتَهُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مُضَلِّلِ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَلْفُ أَلْفِ مُوَحِّدٍ ... وَسِتُّمِئَيْ أَلْفٍ فَأَعْظَمِ وَأَكْمِلْ فَقَدْ بَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلنَّاسِ فَضْلُهُ ... كَمَا كَانَ حَيًّا فَضْلُهُ ظَاهِرٌ جَلِيّ أَقَرَّ لَهُ بِالْفَضْلِ أَعْيَانُ وَقْتِهِ ... وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ بِالثَّنَاءِ الْمُبَجَّلِ إلَى مَا يَطُولُ نَقْلُهُ، وَيَكْثُرُ عَلُّهُ وَنَهْلُهُ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَآثِرِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَمْ نَذْكُرْهُ كَقَطْرَةٍ مِنْ بَحْرٍ لُجِّيٍّ. وَإِنَّمَا حَلَّيْنَا كِتَابَنَا هَذَا بِطَرَفٍ مِنْ ذِكْرِهِ وَمَنَاقِبِهِ وَمَآثِرِهِ لِتَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ ذِكْرِهِ. فَرِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَمَاتَنَا اللَّهُ عَلَى طَرِيقِهِ وَحُبِّهِ، بِبَرَكَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآلِهِ وَحِزْبِهِ إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ، رَءُوفٌ رَحِيمٌ. [مَطْلَب: فِي اسْتِئْذَانِ مُرِيدِ الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ] ثُمَّ ذَكَرَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الِاسْتِئْذَانَ وَأَحْكَامَهُ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 مَطْلَب فِي اسْتِئْذَانِ مُرِيدِ الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ وَسُنَّةٌ اسْتِئْذَانُهُ لِدُخُولِهِ ... عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَقْرَبِينَ وَبُعَّدِ (وَسَنَةٌ) بِالتَّنْوِينِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةً: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ، حَمِيدَةً كَانَتْ أَوْ ذَمِيمَةً، وَالْجَمْعُ سُنَنٌ، مِثْلُ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ مَا أُضِيفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ كَمَا قَدَّمْنَا. وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ (اسْتِئْذَانُهُ) أَيْ اسْتِئْذَانُ مُرِيدِ الدُّخُولِ، وَهُوَ بِالنَّقْلِ لِلْوَزْنِ أَيْ طَلَبُ الْإِذْنِ (لِدُخُولِهِ عَلَى غَيْرِهِ) فَإِنْ أَذِنَ لَهُ دَخَلَ، وَإِلَّا رَجَعَ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَرْبَابُ الْمَنْزِلِ الْمَطْلُوبِ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ (مِنْ أَقْرَبِينَ) لِلْمُسْتَأْذِنِ يَعْنِي أَقَارِبًا لَهُ، وَلَوْ مَحَارِمَ أَ (وَ) كَانُوا مِنْ (بُعَّدِ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مُشَدَّدَةً جَمْعُ بَعِيدٍ ضِدُّ الْقَرِيبِ، وَالْمُرَادُ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرَابَةِ يَعْنِي أَجْنَبِيًّا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] . قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْتَ غَيْرِك إلَّا بِالِاسْتِئْذَانِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، يَعْنِي يَجِبُ الِاسْتِئْذَانُ إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ إلَى بَيْتِ غَيْرِهِ. وَمَعْنَى تَسْتَأْنِسُوا: تَسْتَأْذِنُوا، وَقَطَعَ بِوُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ ابْنُ مُوسَى وَالسَّامِرِيُّ وَابْنُ تَمِيمٍ عَلَى الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ فَيَجِبُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ. وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى وَالِدَتِهِ فَلْيَسْتَأْذِنْ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - نَحْوُ ذَلِكَ. وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ نَعَمْ» . فَأَمَرَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ. قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ. وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58] إلَى {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58] قَالَ إنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ، وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ، فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرَّجُلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وَالرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ، فَجَاءَهُمْ اللَّهُ بِالسُّتُورِ وَالْخَيْرِ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ. الْحِجَالُ جَمْعُ حَجَلَةٍ بِالتَّحْرِيكِ بَيْتٌ كَالْقُبَّةِ يَسْتُرُ الثِّيَابَ، وَلَهُ أَزْرَارٌ كِبَارٌ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ يَسْتَأْذِنُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالطِّفْلُ وَالْمَمْلُوكُ يَسْتَأْذِنُ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ فِي كِتَابِهِ قَلَائِدِ الْمَرْجَانِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ الْقُرْآنِ: قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا قَالُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ تَسْتَأْنِسُوا خَطَأٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِقَوْلِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِئْنَاسُ؟ قَالَ يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بِالتَّسْبِيحَةِ وَالتَّكْبِيرَةِ وَالتَّحْمِيدَةِ أَوْ يَتَنَحْنَحُ» ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا مُحْكَمَتَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْحُكْمَ عَامًّا فِي سَائِرِ الْبُيُوتِ ثُمَّ نُسِخَتْ مِنْهَا الْبُيُوتُ الَّتِي لَا سَاكِنَ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] أَيْ مَنْفَعَةٌ لَكُمْ الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْخَانَاتُ، وَمَا بُنِيَ لِلسَّابِلَةِ، أَوْ جَمِيعِ الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا سَاكِنٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْذَان إنَّمَا وَرَدَ لِئَلَّا يُطَّلَعَ عَلَى الْعَوْرَاتِ، فَإِذَا أُمِنَ ذَلِكَ جَازَ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إذْنٍ. وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور: 58] الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] ثُمَّ ذَكَر كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَ، ثُمَّ قَالَ: بَعْضُهُمْ رَأَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. قَالُوا: سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَنْسُوخَةٌ هِيَ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ النَّاسَ لَا يَعْمَلُونَ بِهَا فَقَالَ: الْمُسْتَعَانُ بِاَللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: إنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَا وَاَللَّهِ مَا نُسِخَتْ وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ بِهَا النَّاسُ انْتَهَى. وَأَمَّا الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَلَمْ يَذْكُرْ الْآيَةَ فِي الْمَنْسُوخِ أَلْبَتَّةَ فِي كِتَابِهِ الْمُصَفَّى بِإِلْفِ أَهْلِ الرُّسُوخِ مِنْ عِلْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. نَعَمْ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] الْآيَةَ قَالَ بَعْضُ نَاقِلِي التَّفْسِيرِ نُسِخَ مِنْ هَذَا النَّهْيِ الْعَامِّ حُكْمُ الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 أَهْلٌ يَسْتَأْذِنُونَ بِقَوْلِهِ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور: 29] . قَالَ: وَهَذَا تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ) : ظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ سُنَّةٌ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ كُلِّ مَسْنُونٍ. وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْوَاجِبَاتِ. جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ النَّاظِمُ قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَعِبَارَتُهُ: وَيُسَنُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِي الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ ثَلَاثًا فَقَطْ. قَالَ الْحِجَازِيُّ: قَدْ لَا يَكُونُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الرِّعَايَةِ حُجَّةٌ أَعْنِي فِي كَوْنِ الِاسْتِئْذَانِ نَفْسِهِ سُنَّةً، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ يُسَنُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِي الدُّخُولِ عَلَى غَيْرِهِ ثَلَاثًا فَقَطْ أَنَّ الْمُرَادَ صِفَةُ الِاسْتِئْذَانِ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَهُ فَقَطْ أَيْ لَا يَزِيدُ الْمُسْتَأْذِنُ عَلَى الثَّلَاثِ إذَا لَمْ يُجَبْ لِئَلَّا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ. وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ النَّاظِمِ أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: ثَلَاثًا وَمَكْرُوهٌ دُخُولٌ لِهَاجِمِ ... وَلَا سِيَّمَا مِنْ سَفْرَةٍ وَتَبَعُّدِ. مَطْلَبٌ: فِي صِفَةِ الِاسْتِئْذَانِ (ثَلَاثًا) أَيْ وَسُنَّةُ اسْتِئْذَانِهِ لِدُخُولِهِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ الْخِلَافِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالتَّثْلِيثُ فِي الِاسْتِئْذَانِ سُنَّةٌ إلَّا أَنْ يُجَابَ قَبْلَهَا، وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ إنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ وَإِلَّا زَادَ حَتَّى يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ سَمِعَ، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا رَجَعَ، وَيَأْتِي فِي النَّظْمِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» وَصِفَةُ الِاسْتِئْذَانِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ. «وَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ أَلِجُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَادِمِهِ اُخْرُجْ إلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ، فَقَالَ لَهُ قُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَخَلَ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ حَمْدَانَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وَقَدَّمَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى أَنَّ صِفَةَ الِاسْتِئْذَانِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَقَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ فَقَالَ: إذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا. وَالِاسْتِئْذَانُ السَّلَامُ. وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى تَقْدِيمِ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الَّذِي قَدَّمَهُ فِي الْآدَابِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَتَى قَوْمًا لَمْ يَسْتَقْبِلْ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ وَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» . وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ. حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ صَفْوَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ كِلْدَةَ بْنَ الْجُنَيْدِ أَخْبَرَهُ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ فِي الْفَتْحِ بِلِبَأٍ وَجِدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَعْلَى الْوَادِي. قَالَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ أَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْجِعْ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ صَفْوَانُ. حَدِيثٌ جَيِّدٌ. وَعَمْرُو بْنُ صَفْوَانَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَفِي لَفْظٍ بِلَبَنٍ وَلَمْ يَقُلْ: وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ وَلَمْ يَزِدْ أَأَدْخُلُ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ. الْجِدَايَةُ مِنْ أَوْلَادِ الظِّبَاءِ مَا بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ سَبْعَةً بِمَنْزِلَةِ الْجَدْيِ فِي أَوْلَادِ الْمُعِزِّ. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْجِدَايَةُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الظِّبَاءِ إذَا بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ سَبْعَةً، وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهَا الذَّكَرَ مِنْهَا، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْجِدَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْعِنَاقِ مِنْ الْغَنَمِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ «أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَ مَعَ أَخِيهِ لِأُمِّهِ كِلْدَةَ بْنِ الْجُنَيْدِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبَنًا وَضَغَابِيسَ وَجِدَايَةَ قَالَ وَالضَّغَابِيسُ صِغَارُ الْقِثَّاءِ» . انْتَهَى. وَاحِدَتُهَا ضُغْبُوسٌ، وَقِيلَ هُوَ نَبْتٌ يَنْبُتُ فِي أُصُولِ الثُّمَامِ يُسْلَقُ بِالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَيُؤْكَلُ. وَالثُّمَامُ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ يُقَالُ لِمَا لَا يَعْسُرُ تَنَاوُلُهُ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ؛ لِأَنَّهُ يَطُولُ انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَمَكْرُوهٌ) كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ (دُخُولٌ) لِرَجُلٍ (هَاجِمٍ) أَيْ بَغْتَةً عَلَى أَهْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَنَحْنُحٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ وَلَا تَحَرُّكِ نَعْلٍ، يُقَالُ هَجَمَ عَلَيْهِ هُجُومًا انْتَهَى إلَيْهِ بَغْتَةً أَوْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَفِي النِّهَايَةِ الْهُجُومُ عَلَى الْقَوْمِ الدُّخُولُ عَلَيْهِمْ. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَرِّكَ نَعْلَهُ فِي اسْتِئْذَانِهِ عِنْدَ دُخُولِهِ حَتَّى إلَى بَيْتِهِ وَقَالَ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ يَتَنَحْنَحُ. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَدْخُلُ إلَى مَنْزِلِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَى أَهْلِهِ أَعْنِي زَوْجَتَهُ؟ قَالَ مَا أَكْرَهُ ذَاكَ إنْ اسْتَأْذَنَ مَا يَضُرُّهُ، قُلْت: زَوْجَتُهُ وَهُوَ يَرَاهَا فِي جَمِيعِ حَالَاتِهَا، فَسَكَتَ عَنِّي فَهَذِهِ نُصُوصُهُ لَمْ يَسْتَحِبَّ فِيهَا الِاسْتِئْذَانَ، وَاسْتَحَبَّ النَّحْنَحَةَ أَوْ تَحْرِيكَ النَّعْلِ لِئَلَّا يَرَاهَا عَلَى حَالَةٍ لَا تُعْجِبُهَا وَلَا تُعْجِبُهُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا (وَلَا سِيَّمَا) هَذِهِ كَلِمَةٌ تُدْخِلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا بِطَرِيقِ الْأُولَى أَيْ يُكْرَهُ دُخُولُ الْهَاجِمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا إعْلَامٍ كَرَاهَةً أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى حَيْثُ كَانَ الْهَاجِمُ قَادِمًا (مِنْ سَفْرَةٍ) كَانَ قَدْ سَافَرَهَا وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً (وَ) أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ قَادِمًا مِنْ مَكَان ذِي (تَبَعُّدِ) أَيْ بُعْدٍ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُسَافِرًا سَفَرًا بَعِيدًا كُرِهَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ لَيْلًا، «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى إذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ طُرُوقًا» . وَفِي رِوَايَةٍ «نَهَى أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِمْ» . قَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ طُرُوقًا» قَالَ: نَعَمْ يُؤْذِنُهُمْ قَبْلُ بِكِتَابٍ، وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِي آخِرِهِ «كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُعْنِيَةُ» . وَفِي مُسْلِمٍ «يَتَخَوَّنَهُمْ أَوْ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِمْ» وَفِيهِمَا عَنْ جَابِرٍ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَطَالَ الرَّجُلُ الْغَيْبَةَ أَنْ يَجِيءَ أَهْلَهُ طُرُوقًا» وَهُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ أَيْ لَيْلًا. يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أَتَاك لَيْلًا طَارِقٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] يَعْنِي النَّجْمَ؛ لِأَنَّهُ يَطْرُقُ بِطُلُوعِهِ لَيْلًا. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «تَسْتَحِدَّ» أَيْ تُصْلِحَ مِنْ شَأْنِ نَفْسِهَا، وَالِاسْتِحْدَادُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَدِيدِ، وَهُوَ إزَالَةُ الشَّعْرِ بِالْمُوسَى. وَقَوْلُهُ «الْمُعْنِيَةُ» يَعْنِي ذَاتَ الْعَانَةِ، يُقَالُ: اسْتَعَانَ الرَّجُلُ يَعْنِي إذَا حَلَقَ عَانَتَهُ، وَاسْتُعْمِلَ الِاسْتِحْدَادُ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَالتَّوْرِيَةِ وَالْمُرَادُ كَيْ تَمْتَشِطَ وَتُهَيِّئَ حَالَهَا، وَتُزِيلَ الشَّعْرَ الَّذِي تَعَافُهُ النُّفُوسُ وَهُوَ شَعْرُ الْعَانَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَنْ طَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 سَفَرُهُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَيْلًا بَغْتَةً، قَالَ: وَأَمَّا إذَا كَانَ سَفَرُهُ قَرِيبًا تَتَوَقَّعُ امْرَأَتُهُ إتْيَانَهُ لَيْلًا فَلَا بَأْسَ. انْتَهَى. (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : اسْتَوْجَبَهُ صَاحِبُ الْآدَابِ الْكُبْرَى أَنَّ مَنْ طَرَقَ أَهْلَهُ لَيْلًا طَلَبًا لِعَثَرَاتِهِمْ وَتَتَبُّعًا لِعَوْرَاتِهِمْ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّجَسُّسِ وَالْإِكْرَاهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّيْلَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ. وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يُؤْذِنُهُمْ بِكِتَابٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَ قَالَ الْإِمَامُ يَدْخُلُ نَهَارًا وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ النَّاظِمِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ يَشْمَلُ النَّهَارَ كَاللَّيْلِ. (الثَّانِي) : ظَاهِرُ إطْلَاقِ كَلَامِ النَّاظِمِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ السَّفَرِ الْقَصِيرِ وَالْبَعِيدِ، بَلْ يَدُلُّ عَطْفُهُ الْبَعِيدُ عَلَى السَّفَرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْقَصِيرُ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعَطْفِ. نَعَمْ ظَاهِرُ كَلَامِ الْحَجَّاوِيِّ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فِي السَّفَرِ الْقَرِيبِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ وُقُوفِ الْمُسْتَأْذِنِ تِلْقَاءَ الْبَابِ وَوَقْفَتُهُ تِلْقَاءَ بَابٍ وَكُوَّةٍ فَإِنْ لَمْ ... يُجَبْ يَمْضِي وَإِنْ يُخْفَ يَزْدَدْ (وَ) مَكْرُوهٌ لِلْمُسْتَأْذِنِ أَيْضًا (وَقْفَتُهُ تِلْقَاءَ) أَيْ عِنْدَ (بَابِ) مُسْتَأْذَنٍ عَلَيْهِ مُقَابِلًا لَهُ،؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ إنَّمَا شُرِعَ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَا يُوَاجِهُ الْبَابَ فِي اسْتِئْذَانِهِ؛ لِأَنَّ «رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا عَيْنُك وَهَكَذَا، فَإِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنْ النَّظَرِ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إذَا دَخَلَ الْبَصَرُ فَلَا إذْنَ» حَدِيثَانِ حَسَنَانِ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ فِي الْبُيُوتِ، فَقَالَ: مَنْ دَخَلَتْ عَيْنُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ وَيُسَلِّمَ فَلَا إذْنَ لَهُ، وَقَدْ عَصَى رَبَّهُ» ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وَ) مِثْلُ الْبَابِ وَقْفَتُهُ تِلْقَاءَ (كَوَّةٌ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتُضَمُّ: الْخَرْقُ وَالثَّقْبُ فِي الْحَائِطِ، وَيُقَالُ كَوٌّ مِنْ غَيْرِ تَأْنِيثٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: التَّذْكِيرُ لِلْكَبِيرِ، وَالتَّأْنِيثُ لِلصَّغِيرِ جَمْعُهُ كُوًى وَكِوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَابِ بِجَامِعِ تَوَصُّلِ النَّظَرِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد «فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَقَدْ هُدِرَتْ» . وَمِثْلُ الْكَوَّةِ خُصَاصُ الْبَابِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى بَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَلْقَمَ عَيْنَهُ خَصَاصَةُ الْبَابِ، فَبَصُرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوَخَّاهُ بِحَدِيدَةٍ أَوْ عُودٍ لِيَفْقَأَ عَيْنَهُ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُ انْقَمَعَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَا إنَّك لَوْ ثَبَتَّ لَفَقَأْت عَيْنَك» وَخَصَاصَةُ الْبَابِ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَصَادَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ هِيَ الثُّقْبُ فِيهِ وَالشُّقُوقُ. وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ الشَّقَّ الَّذِي فِي الْبَابِ مُحَاذِيًا عَيْنَهُ. وَمَعْنَى تَوَخَّاهُ بِتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ قَصَدَهُ وَمَعْنَى انْقَمَعَ رَدَّ بَصَرَهُ وَرَجَعَ يُقَالُ: أَقْمَعْت الرَّجُلَ عَنِّي إقْمَاعًا إذَا طَلَعَ عَلَيْك فَرَدَدْته عَنْك فَكَأَنَّ الْمَرْدُودَ أَوْ الرَّاجِعَ قَدْ دَخَلَ فِي قَمَعِهِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ " فَيَنْقَمِعُ الْعَذَابُ عِنْد ذَلِكَ " أَيْ يَرْجِعُ وَيَتَدَاخَلُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جُحْرٍ فِي حُجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِدْرَاةٌ يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَنْظُرُ لَطَعَنْت بِهَا فِي عَيْنِك، إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» . وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقٍ أَحَدُهَا جَيِّدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَكِنْ ائْتُوهَا مِنْ جَوَانِبِهَا فَاسْتَأْذِنُوا فَإِنْ أُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا، وَإِلَّا فَارْجِعُوا» وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ) اسْتَأْذَنَ بِقَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ، أَوْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَطْ عَلَى مَا هُوَ وَ (لَمْ يُجَبْ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ لَمْ يُجِبْهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ (يَمْضِي) لِمَا فِي الْأَخْبَارِ الْمَارَّةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فَلَا يَقِفُ عَلَى الْبَابِ، وَيُلَازِمُهُ لِلْآيَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» وَتَقَدَّمَ. وَالْمُرَادُ إنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُمْ سَمِعُوا صَوْتَهُ (وَإِنْ) حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٍ وَ (يُخْفَ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ فِعْلُ الشَّرْطِ مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَلٌّ بِهَا وَنَائِبُ الْفَاعِلِ مُسْتَتِرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمُسْتَأْذِنِ يَعْنِي وَإِنْ يُخْفَ صَوْتُهُ (يَزْدَدْ) جَوَابُ الشَّرْطِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَتَى عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ اسْتِئْذَانِهِ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مَرَّاتٍ حَتَّى يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَقِيلَ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ مُطْلَقًا، قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَأَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ الْعَلَّامَةَ الْمُحَقِّقَ ابْنَ الْقَيِّمِ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ إلَّا إنْ ظَنَّ عَدَمَ سَمَاعِهِمْ. قَالَ م ص فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ: فَيَزِيدُ بِقَدْرِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ. مَطْلَبٌ: فِي اسْتِحْبَابِ تَحْرِيكِ الْمُسْتَأْذِنِ نَعْلَيْهِ وَإِظْهَارِ حِسِّهِ (وَ) يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْتَأْذِنِ (تَحْرِيكُ نَعْلَيْهِ) تَثْنِيَةُ نَعْلٍ وَهِيَ مُؤَنَّثَةً الَّتِي تُلْبَسُ فِي الْمَشْيِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَتُسَمَّى الْآنَ تَاسُومَةَ، وَفِي الْخَبَرِ «أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا خَيْرَ مَنْ يَمْشِي بِنَعْلٍ فَرْدٍ» ، وَصَفَهَا بِالْفَرْدِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ؛ لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَالْفَرْدُ هِيَ الَّتِي لَمْ تُخْصَفْ وَلَمْ تُطَارَقْ وَإِنَّمَا هِيَ طَاقٌ وَاحِدٌ. وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ بِرِقَّةِ النِّعَالِ وَتَجْعَلُهَا مِنْ لِبَاسِ الْمُلُوكِ يُقَالُ نَعَلْت وَانْتَعَلْت إذَا لَبِسْت النَّعْلَ وَانْتَعَلَتْ الْخَيْلُ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «إنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ خَيْلَهَا» . (وَ) يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْتَأْذِنِ أَيْضًا (إظْهَارُ حِسِّهِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْحَرَكَةِ وَأَنْ يَمُرَّ بِك قَرِيبًا فَتَسْمَعَهُ، وَلَا تَرَاهُ كَالْحِسِّ وَالصَّوْتِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَالْمُرَادُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إتْيَانُ شَيْءٍ مِنْ تَحْرِيكِ نَعْلٍ أَوْ نَحْنَحَةٍ أَوْ صَوْت كَمَا مَرَّ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَذَلِكَ لِئَلَّا يَرَى أَمْرًا يَكْرَهُهُ الدَّاخِلُ أَوْ أَهْلُ الْمَنْزِلِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى الشَّحْنَاءِ بَيْنَ الْأَهْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى مِنْ عَوْرَاتِهِمْ مَا لَا يُحِبُّ، فَإِذَا حَرَّكَ نَعْلَهُ أَوْ تَنَحْنَحَ أَوْ أَظْهَرَ حِسَّهُ انْتَفَى ذَلِكَ. وَقَالَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 دَخَلَ تَنَحْنَحَ وَصَوَّتَ. مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ. فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ إظْهَارُ حِسِّهِ (لِ) أَجْلِ (دَخْلَتِهِ) لِكُلِّ دَخْلَةٍ (حَتَّى) يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيكِ نَعْلِهِ وَإِظْهَارِ حِسِّهِ (لِ) دُخُولِ مَنْزِلِهِ عَلَى امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ، فَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِدُخُولِهِ عَلَى الْأَجَانِبِ. وَقَوْلُهُ (اشْهَدْ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ الْإِشْهَادِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ، أَيْ أَعْلِمْ ذَلِكَ وَأُشْهِدْهُ وَلَا تَتَوَقَّفْ فِيهِ. وَقَدْ مَرَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ، قَالَ يُحَرِّكُ نَعْلَهُ إذَا دَخَلَ. وَقَالَ إذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ تَنَحْنَحَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَيُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ إذَا دَخَلَ يَكْثُرُ خَيْرُ بَيْتِهِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «يَا بُنَيَّ إذَا دَخَلْت عَلَى أَهْلِك فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ تَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِك» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا «إذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا، وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِهِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد أَيْضًا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ مَعْنَاهُ مَضْمُونٌ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، يُرِيدُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. قَالَ: وَقَوْلُهُ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسَلِّمَ إذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] . وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنْ يَلْزَمَ الْبَيْتَ طَلَبًا لِلسَّلَامَةِ مِنْ الْفِتَنِ، يُرَغِّبُ بِذَلِكَ فِي الْعُزْلَةِ وَيَأْمُرُ بِإِقْلَالِ الْخُلْطَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْتَأْذِنِ إذَا قِيلَ لَهُ مَنْ أَنْتَ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ وَتَحْرِيكُ نَعْلَيْهِ وَإِظْهَارُ حِسِّهِ ... لِدَخْلَتِهِ حَتَّى لِمَنْزِلِهِ اشْهَدْ (فَوَائِدُ) الْأُولَى: يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْتَأْذِنِ إذَا قِيلَ لَهُ مَنْ أَنْتَ أَوْ مَنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ فُلَانٌ فَيُسَمِّيَ نَفْسَهُ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْ اسْم أَوْ كُنْيَةٍ، لِمَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 «ثُمَّ صَعَدَ بِي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ، قِيلَ وَمَنْ مَعَك؟ قَالَ مُحَمَّدٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِ «أَبِي ذَرٍّ قَالَ خَرَجْت لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ يَمْشِي وَحْدَهُ، فَجَعَلْت أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ فَالْتَفَتَ فَرَآنِي، فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت أَبُو ذَرٍّ» . وَكُرِهَ لِلْمُسْتَأْذِنِ إذَا قِيلَ مَنْ هَذَا أَنْ يَقُولَ أَنَا، وَلَا يُسَمِّيَ نَفْسَهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَقَقْت الْبَابَ، فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ فَقُلْت أَنَا، فَقَالَ أَنَا أَنَا كَأَنَّهُ كَرِهَهَا» . قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا أَكْثَرَ مَا نَلْقَى مِنْ النَّاسِ يَدُقُّونَ الْبَابَ فَيَقُولُونَ أَنَا أَنَا، أَلَا يَقُولُ: أَنَا فُلَانٌ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلِيَزُولَ اللَّبْسُ فَيَذْكُرُ مَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْ كُنْيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، لِقَوْلِ أُمِّ هَانِئٍ: أُمُّ هَانِئٍ وَقَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ: أَبُو قَتَادَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَدُ الْإِمَامِ: دَقَّ أَبِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْبَابَ فَقِيلَ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. (الثَّانِيَةُ) : ظَنَّ مَنْ لَا تَحْقِيقَ لَدَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْآثَارِ، وَلَا لَهُ مَزِيدُ اطِّلَاعٍ عَلَى أَسْرَارِ الْأَخْبَارِ، أَنَّ عِلَّةَ كَرَاهَةِ قَوْلِ الْمُسْتَأْذِنِ (أَنَا) مُشَابَهَةُ إبْلِيسَ الْمَبْعُودِ فِي قَوْلِهِ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ. وَهَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَنَا فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ. وَخَبَرُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ وَحَدِيثُ الصِّدِّيقِ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي أَوْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا لَا يُرِيدُ مَعَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الملك: 26] وَلِي مِنْ أَبْيَاتٍ: أَنَا عَبْدُك الْجَانِي وَأَنْتَ السَّيِّدُ ... وَرَجَاك أَلْحَانِي وَأَنْتَ الْمَقْصِدُ يَا وَاحِدًا فِي مُلْكِهِ أَنَا وَاقِفٌ ... فِي بَابِ جُودِك بِالدُّعَا أَتَعَبَّدُ وَإِذَا بَحَثْت عَنْ الْحَقِيقَةِ أَلْتَقِي ... عَبْدًا ضَعِيفًا بِالْقَضَاءِ مُقَيَّدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وَالسُّنَّةُ طَافِحَةٌ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ. مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا فَقَالَ مَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا، فَقَالَ مَنْ اتَّبَعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جِنَازَةً؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا، قَالَ مَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ قَطُّ فِي رَجُلٍ إلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَمُقْتَضَى نَصِّ إمَامِنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنَا فُلَانٌ أَوْ أَنَا أَبُو فُلَانٍ لَمْ يُكْرَهْ كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، وَهُوَ عَيْنُ الصَّوَابِ. ثُمَّ رَأَيْته صَحِيحًا. فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى الْمَسْجِدَ وَأَبُو مُوسَى يَقْرَأُ قَالَ فَجِئْت فَقَالَ مَنْ هَذَا قُلْت أَنَا بُرَيْدَةُ» . وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ فَقُلْت أَنَا أُمُّ هَانِئٍ. وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ أَنَا الشَّيْخُ فُلَانٌ أَوْ الْقَارِئُ فُلَانٌ أَوْ الْقَاضِي فُلَانٌ إذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّمْيِيزُ إلَّا بِذَلِكَ. وَإِنَّمَا عِلَّةُ الْكَرَاهَةِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْفَائِدَةِ بِقَوْلِهِ: أَنَا فَإِنَّهُ مَا زَادَ عَلَى أَنَّ ثَمَّ عَلَى الْبَابِ إنْسَانًا، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالِاسْتِئْذَانِ. (الثَّالِثَةُ) : يَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذِنِ أَنْ لَا يَدُقَّ الْبَابَ بِعُنْفٍ لِنِسْبَةِ فَاعِلِ ذَلِكَ عُرْفًا إلَى قِلَّةِ الْأَدَبِ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ رَبُّ الْمَنْزِلِ شَيْخَهُ، وَلِذَا كَانُوا يَقْرَعُونَ بُيُوتَ الْأَشْيَاخِ بِالْأَظَافِرِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ أَبْوَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ تُقْرَعُ بِالْأَظَافِرِ» . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَهَذَا مَحْمُولٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَدَبِ، وَهُوَ حَسَنٌ لِمَنْ قَرُبَ مَحَلُّهُ مِنْ بَابِهِ، وَأَمَّا مَنْ بَعُدَ عَنْ الْبَابِ فَيُقْرَعُ بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ. مَطْلَبٌ: فِي جُلُوسِ الدَّاخِلِ حَيْثُ أَجْلَسَهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ (الرَّابِعَةُ) : إذَا دَخَلَ يَجْلِسُ حَيْثُ أَجْلَسَهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ، وَقِيلَ: بَلْ حَيْثُ انْتَهَى مِنْهُ كَذَا فِي الرِّعَايَةِ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَحَاصِلُ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّهُ إنْ أَمَرَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ بِالْجُلُوسِ فِي مَكَان مِنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَدَّاهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ وَتَكْرِمَتُهُ. وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِي الدُّخُولِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمُقَامُ فِيهِ. وَهَذَا وَاضِحٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْجُلُوسِ فِي مَكَان مِنْهُ فَهَلْ يَجْلِسُ وَأَيْنَ يَجْلِسُ، يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إلَى عُرْفِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ وَعَادَتِهِ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ، يَعْنِي عُرْفَهُ وَعَادَتَهُ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ فَيُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ كَالْكَلَامِ. فَإِنْ خَالَفَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ عَادَتَهُ بِأَنْ أَمَرَهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي شَيْءٍ وَافَقَهُ إنْ ظَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَكَذَا إنْ شَكَّ، حَمْلًا لِحَالِ الْمُكَلَّفِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ أَجَابَهُ. وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ فَعَلَ مَعَهُ ذَلِكَ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي لَمْ يُجِبْهُ؛ لِأَنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ. ثُمَّ يَجْلِسُ فِيمَا يَظُنُّ إذْنَهُ فِيهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَيُعْمَلُ فِي ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَظَوَاهِرِ الْحَالِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُرْفٌ وَلَا عَادَةٌ فَالْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي ذَلِكَ الْجُلُوسُ بِلَا إذْنٍ خَاصٍّ فِيهِ لِحُصُولِ الْإِذْنِ فِيهِ بِإِذْنٍ فِي الدُّخُولِ. ثُمَّ إنْ شَاءَ جَلَسَ أَدْنَى الْمَجْلِسِ لِتَحَقُّقِ جَوَازِهِ مَعَ سُلُوكِ الْأَدَبِ، وَهَذَا أَوْلَى. وَإِنْ شَاءَ عَمِلَ بِالظَّنِّ فِي جُلُوسِهِ فِيمَا يَأْذَنُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى عَوَائِدِ النَّاسِ. وَدَخَلَ ابْنُ يَزِيدَ النَّحْوِيُّ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ بِنِيَّةِ زَائِرٍ لَهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا بِالْأَرْضِ إلَى وِسَادَةٍ قَالَ فَقُلْت لَهُ إنِّي قَدْ رَضِيت لِنَفْسِي مَا رَضِيتَ لِنَفْسِك، فَقَالَ: إنِّي لَا أَرْضَى لَك فِي بَيْتِي بِمَا أَرْضَى بِهِ لِنَفْسِي فَاجْلِسْ حَيْثُ تُؤْمَرُ. (الْخَامِسَةُ) : يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْلِسَ فِي وَسَطِ الْحَلْقَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: رَأَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إذَا كَانَ فِي الْحَلْقَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَعَدَ يَتَأَخَّرُ يَعْنِي يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ. لِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَتَوَجَّهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لِأَنَّهُ إذَا جَلَسَ فِي وَسَطِهَا اسْتَدْبَرَ بَعْضَهُمْ بِظَهْرِهِ فَيُؤْذِيهِمْ بِذَلِكَ وَيَسُبُّونَهُ وَيَلْعَنُونَهُ. (السَّادِسَةُ) : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَيَجْلِسَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِإِذْنِهِمَا لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «لَا يُجْلَسُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا» رَوَاهَا أَبُو دَاوُد وَهُمَا حَسَنَانِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ، وَرَوَى الثَّانِيَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (السَّابِعَةُ) لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنْ الْمَجْلِسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إذَا جَلَسَ قَوْمٌ إلَى رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُهُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ؟ قَالَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمٌ مَا أَحْسَنَهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كَمَا قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إذَا أَرَادَ الْقِيَامَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَكُنْت رُبَّمَا غَمَزْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا، فَأَقُولُ: قُمْ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كُنَّا نَقْعُدُ إلَيْهِ يَعْنِي الْإِمَامَ كَثِيرًا فَيَقُومُ وَلَا يَسْتَأْذِنُنَا. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السَّلَامَ وَالِاسْتِئْذَانَ وَأَحْكَامَهُمَا ذَكَرَ أَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، فَمِنْهَا الْقِيَامُ، وَبَدَأَ بِهِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِيمَنْ يَجُوزُ الْقِيَامُ لَهُ وَمَنْ يُكْرَهُ: وَكُلُّ قِيَامٍ لَا لِوَالٍ وَعَالِمٍ ... وَوَالِدِهِ أَوْ سَيِّدٍ كُرْهَهُ امْهَدْ (وَكُلُّ قِيَامٍ) قَامَهُ الْإِنْسَانُ مَكْرُوهٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ سَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَذَا الشَّرْحِ (لَا) يُكْرَهُ الْقِيَامُ مُطْلَقًا بَلْ يُبَاحُ (لِوَالٍ) الْأَمْر. وَظَاهِرُ إطْلَاقِ نِظَامِهِ وَلَوْ غَيْرَ عَادِلٍ، وَأَطْلَقَهُ جَمَاعَةٌ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَقَائِمٌ بِالسِّيَاسَةِ فَيُقَامُ لَهُ إكْرَامًا لِمَنْزِلَتِهِ. وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ عَادِلًا. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: لَا يُسْتَحَبُّ إلَّا لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ (وَ) لَا يُكْرَهُ الْقِيَامُ أَيْضًا لِ (عَالِمٍ) ؛ لِأَنَّهُ الْحَامِلُ لِكِتَابِ اللَّهِ النَّاقِلُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّالُّ عَلَى اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ، الْمُبَيِّنُ لِحَلَالِ الشَّيْءِ وَحَرَامِهِ، الْمُنَبِّهُ عَلَى عَظَمَتِهِ وَآيَاتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ» أَيْ فِي حِفْظِ الْحُدُودِ وَالشَّرِيعَةِ. وَكَوْنِهِمْ لِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي أَقْوَى ذَرِيعَةً. (وَ) لَا يُكْرَهُ الْقِيَامُ أَيْضًا (لِوَالِدِهِ) أَيْ الْقَائِمِ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي وُجُودِهِ، وَالْبَاذِلُ فِي تَرْبِيَتِهِ وَحِفْظِ حَيَاتِهِ غَايَةَ مَجْهُودِهِ. فَالْقِيَامُ لِلْوَالِدَيْنِ مِنْ إظْهَارِ الْبِرِّ وَالْإِجْلَالِ، وَالِانْخِفَاضِ وَالِامْتِثَالِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ وُدِّهِمَا، وَمَا عَسَاهُ أَنْ يَفْعَلَ فِي جَنْبِ كَدِّهِمَا، وَقَدْ رَبَّيَاهُ صَغِيرًا، وَأَسْهَرَا أَعْيُنَهُمَا سَهَرًا كَثِيرًا. وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِشُكْرِهِ شُكْرَهُمَا لِعَظِيمِ حَقِّهِمَا عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْفِضَ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ لِكِبَرِ طَاعَتِهِمَا لَدَيْهِ. وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُفَصَّلًا بِأَدِلَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الْمُنِيرَةِ، عِنْدَ قَوْلِ النَّاظِمِ وَإِنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ كَبِيرَةٌ. (أَوْ) أَيْ لَا يُكْرَهُ الْقِيَامُ أَيْضًا لِ (سَيِّدِ) قَوْمٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» وَهَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَذَلِكَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَجَاءَ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ وَكَانَ مَجْرُوحًا فَقَالَ قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ لِلْأَنْصَارِ «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بِالْقِيَامِ إلَيْهِ لَا لَهُ. وَالْقِيَامُ إلَيْهِ لِأَجْلِ تَلَقِّيه لِضَعْفِهِ بِالْجِرَاحَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ» لَكِنْ يَنْصُرُ كَوْنَ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ لَهُ آخِرُ الْخَبَرِ، وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي الْأَشْهَلِ يَقُولُونَ قُمْنَا لَهُ عَلَى أَرْجُلِنَا صَفَّيْنِ يُحَيِّيهِ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا حَتَّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّاظِمَ أَرَادَ بِالسَّيِّدِ الشَّرِيفَ الْقُرَشِيَّ وَنَحْوَهُ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَام أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: رَأَيْت أَبِي إذَا جَاءَ الشَّيْخُ أَوْ الْحَدَثُ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَشْرَافِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ فَيَكُونُوا هُمْ يَتَقَدَّمُونَهُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَعْدِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: لَا يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ إلَّا لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ وَالْوَالِدَيْنِ وَالْوَرَعِ وَالْكَرْمِ وَالنَّسَبِ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ أَغْدَقَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ عَلَى ضَرِيحِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْقِيَامِ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ، إحْدَاهَا لَا يُقَامُ إلَّا لِلْوَالِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ إلَّا الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ أَوْ أُمِّهِ، أَمَّا غَيْرُ الْوَالِدَيْنِ فَلَا. نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. (الثَّانِيَةُ) : يُكْرَهُ الْقِيَامُ إلَّا لِقَادِمٍ مِنْ سَفَرٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُثَنَّى: لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ، وَأَمَّا إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا إذَا كَانَ عَلَى التَّدَيُّنِ مَحَبَّةً فِي اللَّهِ أَرْجُو لِحَدِيثِ جَعْفَرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» . (الثَّالِثَةُ) تُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِهِ وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ أَنْ يُقَامَ لِلْإِمَامِ، وَقِيلَ الْعَادِلِ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَالنَّسَبِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَلِمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ، وَكَرِيمِ قَوْمٍ، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إكْرَامًا لِإِخْوَانِهِ، وَمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ. وَجَاءَ أَبُو إبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيُّ أَحْمَدُ بْنُ سَعْدٍ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ وَثَبَ إلَيْهِ أَوْ قَامَ إلَيْهِ قَائِمًا فَأَكْرَمَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فَلَمَّا أَنْ مَشَى قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ يَا أَبَتِ أَبُو إبْرَاهِيمَ شَابٌّ وَتَعْمَلُ بِهِ هَذَا وَتَقُومُ إلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ لَا تُعَارِضْنِي فِي مِثْلِ هَذَا أَلَا أَقُومُ إلَى ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ؟ ، «وَقَدْ قَامَ طَلْحَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ» . وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَعْلَى اللَّهُ مَنَارَهُ، وَأَبْقَى عَلَى مَمَرِّ الْأَيَّامِ آثَارَهُ: تَرْكُ الْقِيَامِ كَانَ شِعَارَ السَّلَفِ، ثُمَّ صَارَ تَرْكُ الْقِيَامِ كَالْأَهْوَانِ بِالشَّخْصِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ لَمَنْ يَصْلُحُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ: يَنْبَغِي تَرْكُ الْقِيَامِ فِي اللِّقَاءِ الْمُتَكَرِّرِ وَالْمُعْتَادِ، وَنَحْوِهِ لَكِنْ إذَا اعْتَادَ النَّاسُ الْقِيَامَ وَقَدِمَ مَنْ لَا يَرَى كَرَامَتَهُ إلَّا بِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. فَالْقِيَامُ دَفْعًا لِلْعَدَاوَةِ وَالْفَسَادِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ الْمُفْضِي إلَى الْفَسَادِ. وَيَنْبَغِي مَعَ هَذَا أَنْ يُسْعَى فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَا يَرْحَمُ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفُ حَقَّ كَبِيرِنَا» وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ «وَيَعْرِفُ شَرَفَ كَبِيرِنَا» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمُ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفُ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ» . وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَلِأَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى «إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْمُغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: اتَّفَقُوا عَلَى إيجَابِ تَوْقِيرِ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ وَالْفَاضِلُ وَالْعَالِمُ، وَمَا عَدَا مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الَّذِينَ يُقَامُ لَهُمْ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْعَالِمِ وَالْوَالِدِ وَالسَّيِّدِ وَمَنْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَرِيمِ وَالْحَسِيبِ وَالشَّائِبِ، فَالْقِيَامُ لِغَيْرِهِمْ (كُرْهُهُ) أَيْ كَرَاهَتَهُ تَنْزِيهًا (امْهَدْ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ مَهَدَ كَمَنَعَ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ. يُقَال مَهَدَهُ كَمَنَعَهُ، وَتَمْهِيدُ الْأَمْرِ تَسْوِيَتُهُ وَإِصْلَاحُهُ، وَتَمْهِيدُ الْعُذْرِ بَسْطُهُ وَقَبُولُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّاظِمَ أَرَادَ اقْبَلْ كَرَاهَةَ الْقِيَامِ لِغَيْرِ مَنْ ذُكِرَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ اُبْسُطْ كَرَاهَةَ ذَلِكَ وَوَطِّئْهَا وَانْشُرْهَا وَهَيِّئْهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَيُكْرَهُ الْقِيَامُ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ. وَاَلَّذِي يُقَامُ لَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكْرَهَ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا يَطْلُبَهُ؛ لِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا فَقُمْنَا إلَيْهِ، فَقَالَ لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: النَّهْيُ قَدْ وَقَعَ عَلَى السُّرُورِ بِتِلْكَ الْحَالِ، فَإِذَا لَمْ يُسَرَّ بِالْقِيَامِ لَهُ وَقَامُوا إلَيْهِ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُمَا: فَرَّقُوا بَيْنَ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ، فَاسْتَحَبُّوهُ لِطَائِفَةٍ، وَكَرِهُوهُ لِأُخْرَى. وَالتَّفْرِيقُ فِي مِثْلِ هَذَا بِالصِّفَاتِ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَغَيْرُهُمْ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ تَحْذِيرٌ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْعُجْبِ وَالْخُيَلَاءِ. مَعَ أَنَّ ابْنَ قُتَيْبَةَ قَالَ: إنَّمَا مَعْنَاهُ مَا تَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ وَالْأُمَرَاءُ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنْ يَجْلِسَ، وَالنَّاسُ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ تَكَبُّرًا وَعُجْبًا. وَلِذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مَنْ يَمْشِي النَّاسُ خَلْفَهُ إكْرَامًا: إنَّهَا ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ. وَرَدَّ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَاشِيَةِ السُّنَنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ سِيَاقَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَرِهَ الْقِيَامَ لَهُ لَمَّا خَرَجَ تَعْظِيمًا وَلِأَنَّ هَذَا لَا يُقَالُ لَهُ الْقِيَامُ لِلرَّجُلِ وَإِنَّمَا هُوَ الْقِيَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ أَوْ عِنْدَ الرَّجُلِ. قَالَ: وَالْقِيَامُ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، قِيَامٌ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ، وَهُوَ فِعْلُ الْجَبَابِرَةِ، وَقِيَامٌ إلَيْهِ عِنْدَ قُدُومِهِ وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقِيَامٌ لَهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَهُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ انْتَهَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي خُصُوصِ الْقِيَامِ عَلَى رَأْسِ الْكَبِيرِ الْجَالِسِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُمْ عَظَّمُوا مُلُوكَهُمْ بِأَنْ قَامُوا وَهُمْ قُعُودٌ. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ إنَّ الْقِيَامُ يَقَعُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الْأَوَّلُ: مَحْظُورٌ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُقَامَ لَهُ تَكَبُّرًا وَتَعَاظُمًا عَلَى الْقَائِمِينَ إلَيْهِ. وَالثَّانِي: مَكْرُوهٌ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ لِمَنْ لَا يَتَكَبَّرُ وَلَا يَتَعَاظَمُ عَلَى الْقَائِمِينَ، وَلَكِنْ يَخْشَى أَنْ يَدْخُلَ نَفْسَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَحْذَرُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْجَبَابِرَةِ. وَالثَّالِثُ: جَائِزٌ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ وَيُؤْمَنُ مَعَهُ التَّشَبُّهُ بِالْجَبَابِرَةِ. وَالرَّابِعُ: مَنْدُوبٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَرَحًا بِقُدُومِهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ، أَوْ إلَى مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ فَيُهَنِّيهِ أَوْ مُصِيبَةٌ فَيُعَزِّيهِ انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْقِيَامَ لِغَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا مَكْرُوهٌ. وَالْقَاعِدَةُ زَوَالُ الْكَرَاهَةِ بِأَدْنَى حَاجَةٍ فَكَيْفَ بِالْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ. وَقَدْ «قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِ فَاطِمَةُ بُضْعَتُهُ الشَّرِيفَةُ - عَلَيْهَا السَّلَامُ -» . قَالَتْ سَيِّدَتُنَا وَأُمُّنَا عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا: «مَا رَأَيْت أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ فَاطِمَةَ كَانَتْ إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. «وَمِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّاهُ لَمَّا قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ فَالْتَزَمَهُ، وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ صَحَابِيٌّ سَكَنَ دِمَشْقَ قَالَ «دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فَتَحَرَّكَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَجُلٌ: إنَّ فِي الْمَكَانِ سَعَةً، فَقَالَ لِلْمُؤْمِنِ أَوْ لِلْمُسْلِمِ حَقٌّ» . وَمِنْهُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا قَامَ إلَيْهِ فَرَحًا بِقُدُومِهِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِسَنَدِهِ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا. وَمِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «دَخَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ: وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 فِي بَيْتِي فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ وَاَللَّهِ مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ» . وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي بَاب الضَّرِيرِ يُوَلَّى مِنْ كِتَابِ الْإِمَارَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُومُ لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ كُلَّمَا أَقْبَلَ وَيَقُولُ مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ» وَذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ غَيْرُ الْخَطَّابِيِّ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْقِيَامِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْلِسُ مَعَنَا فِي الْمَجْلِسِ يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ بُيُوتَ أَزْوَاجِهِ» . وَعَنْ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَلْقَى لَهُ كِسَاءَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ إذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ أَوْجُهٍ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ عِنْدَهُمْ. وَرَوَى مُرْسَلًا عَنْ الشَّعْبِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ أَبُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَأَجْلَسَهُ عَلَى بَعْضِ ثَوْبِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ» . مُرْسَلٌ جَيِّدٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ. وَلِذَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي مِنْ أَئِمَّتِنَا: وَإِكْرَامُ الْعُلَمَاءِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ بِالْقِيَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ. وَكُرِهَ أَنْ يَطْمَعَ فِي الْقِيَامِ لَهُ لِلْحَدِيثِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إذَا اعْتَادَ النَّاسُ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَقِيَامُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أَحَقُّ. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ الْإِمَامُ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي مُنْتَقَى الْأَحْكَامِ «عَنْ قِيَامِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّيْفِ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ لِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي ذَمِّهِ لِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا» . وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الرَّئِيسِ الرِّجَالَ عَلَى رَأْسِهِ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ وَمَوَاطِنِ الْحُرُوبِ جَائِزٌ، وَأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 أَرَادَ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُوفًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَصَدَ بِهِ الْكِبْرَ، وَذَهَبَ مَذْهَبَ النَّخْوَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَقْصُودٍ شَرْعِيٍّ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ فِي «قِيَامِ الْمُغِيرَةِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّيْفِ» : فِيهِ جَوَازُ الْقِيَامِ عَلَى رَأْسِ الْأَمِيرِ بِهِ بِقَصْدِ الْحِرَاسَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ تَرْهِيبِ الْعَدُوِّ، وَلَا يُعَارِضُهُ النَّهْيُ عَنْ الْقِيَامِ عَلَى رَأْسِ الْجَالِسِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِ انْتَهَى. وَلَمَّا ذَكَرَ الْقِيَامَ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَهُمَا مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ السَّلَامِ، ذَكَرَ الْمُصَافَحَةَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهِ أَيْضًا فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي الْمُصَافَحَةِ وَصَافِحْ لِمَنْ تَلْقَاهُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمِ ... تَنَاثَرْ خَطَايَاكُمْ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ (وَصَافِحْ) أَيُّهَا الْأَخُ الْحَرِيصُ عَلَى اقْتِفَاءِ الْمَأْثُورِ، وَامْتِثَالِ الْوَارِدِ الْمَسْطُورِ، عَنْ النَّبِيِّ الْأَوَّابِ، الْمَبْعُوثِ بِالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ. وَالْمُصَافَحَةُ مُفَاعَلَةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنْ إلْصَاقِ صَفْحِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ، وَإِقْبَالِ الْوَجْهِ عَلَى الْوَجْهِ. يُقَالُ صَافَحْته أَفْضَيْت بِيَدِي إلَى يَدِهِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمُصَافَحَةُ الْأَخْذُ بِالْيَدِ كَالتَّصَافُحِ (لِمَنْ) أَيْ رَجُلًا مُسْلِمًا وَكَذَا صَبِيًّا حَيْثُ وَثِقْت مِنْ نَفْسِك وَأَمِنْت مِنْ الْفِتْنَةِ بِهِ لِقَصْدِ تَعْلِيمِهِ حُسْنَ الْخُلُقِ، وَكَذَا عَجُوزٌ إلَّا الشَّابَّةَ الْأَجْنَبِيَّةَ فَتَحْرُمُ مُصَافَحَتُهَا لِلرَّجُلِ كَمَا فِي الْفُصُولِ وَالرِّعَايَةِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُصَافَحَةَ مِنْ النَّظَرِ. وَأَطْلَقَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ كَرَاهَةَ مُصَافَحَةِ النِّسَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: قُلْت فَيُصَافِحُهَا بِثَوْبِهِ؟ قَالَ: لَا. وَالتَّحْرِيمُ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ. وَعُلِّلَ بِأَنَّ الْمُلَامَسَةَ أَبْلَغُ مِنْ النَّظَرِ. (تَلْقَاهُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ) مَا عَدَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّابَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَمَنْ يَخَافُ بِهِ فِتْنَةً. وَأَفْهَمَ أَنَّهُ لَا يُصَافِحُ غَيْرَ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مُصَافَحَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي، وَشَمِلَ إطْلَاقُهُ مُصَافَحَةَ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ. وَكَذَا الْأَمْرَدُ الْأَمْرَدَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 كَذَلِكَ. فَإِنْ تَفْعَلْ مِنْ مُصَافَحَةِ مَنْ تَلْقَاهُ (تُنَاثَرْ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَوْ لِلْفَاعِلِ بِحَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا وَالْأَصْلُ تَتَنَاثَرُ وَهُوَ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ. وَالتَّنَاثُرُ مِنْ النَّثْرِ يُقَالُ نَثَرَ الشَّيْءَ يَنْثُرُهُ وَنَثَرَهُ نَثْرًا وَنِثَارًا رَمَاهُ مُتَفَرِّقًا كَنَثَرَهُ فَتَنَاثَرَ وَالْمَعْنَى تَتَسَاقَطُ (خَطَايَاكُمْ) جَمْعُ خَطِيئَةٍ. وَهِيَ الذَّنْبُ أَوْ مَا يُتَعَمَّدُ مِنْهُ كَالْخِطْءِ بِالْكَسْرِ وَالْخَطَأِ مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ، وَالْمُرَادُ هُنَا: مُطْلَقُ الذُّنُوبِ الْعَمْدِ وَغَيْرِهَا، وَأَرَادَ خَطَايَا الْمُتَصَافِحَيْنِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى (فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) يَعْنِي أَخَوَيْنِ فَصَاعِدًا (كَمَا فِي) الْحَدِيثِ (الْمُسَنَّدِ) مُخَفَّفًا وَشَدَّدَهُ ضَرُورَةً لِلْوَزْنِ. وَفِي ذَلِكَ عِدَّةُ أَخْبَارٍ، عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا وَحَمِدَا اللَّهَ - تَعَالَى - وَاسْتَغْفَرَاهُ غُفِرَ لَهُمَا» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ الْتَقَيَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَحْضُرَ دُعَاءَهُمَا وَلَا يُفَرِّقَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى يَغْفِرَ لَهُمَا» . وَقَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَلَاقَوْا تَصَافَحُوا، وَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَّجَرِ» وَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ حُذَيْفَةَ فَأَرَادَ أَنْ يُصَافِحَهُ فَتَنَحَّى حُذَيْفَةُ فَقَالَ: إنِّي كُنْت جُنُبًا فَقَالَ: إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا صَافَحَ أَخَاهُ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَحَاتَّ وَرَقُ الشَّجَرِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَلْمَانَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَرْفُوعًا «إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا لَقِيَ أَخَاهُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُمَا ذُنُوبُهُمَا كَمَا يَتَحَاتَّ الْوَرَقُ عَنْ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ، وَإِلَّا غُفِرَ لَهُمَا وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمَا مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «مِنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ الْأَخْذُ بِالْيَدِ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ قَتَادَةَ: قُلْت لِأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكَانَتْ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ نَعَمْ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَيُّوبَ بْنِ بَشِيرٍ الْعَدَوِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ عِتْرَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ وَهُوَ مَجْهُولٌ قَالَ قُلْت لِأَبِي ذَرٍّ حَيْثُ سُيِّرَ إلَى الشَّامِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ إذَنْ أُخْبِرَكَ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ سِرًّا، قُلْت إنَّهُ لَيْسَ بِسِرٍّ، «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَافِحُكُمْ إذَا لَقِيتُمُوهُ؟ قَالَ مَا لَقِيته قَطُّ إلَّا صَافَحَنِي وَبَعَثَ إلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي فَجِئْت فَأُخْبِرْت أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيَّ فَأَتَيْته وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ فَالْتَزَمَنِي فَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ» . وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ هَكَذَا مُعْضَلًا، وَقَدْ أَسْنَدَهُ مِنْ طُرُقٍ فِيهَا مَقَالٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إنَّ الْمُسْلِمَيْنِ إذَا الْتَقَيَا فَتَصَافَحَا وَتَسَاءَلَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ لِأَبَشِّهِمَا وَأَطْلَقِهِمَا وَأَبَرِّهِمَا وَأَحْسَنِهِمَا مَسْأَلَةً بِأَخِيهِ» وَمَعْنَى لِأَبَشِّهِمَا أَكْثَرُهُمَا بَشَاشَةً وَهِيَ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ مَعَ التَّبَسُّمِ وَحَسَنِ الْإِقْبَالِ وَاللُّطْفِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَمَعْنَى أَطْلَقَهُمَا أَكْثَرُهُمَا وَأَبْلَغُهُمَا طَلَاقَةً وَهِيَ بِمَعْنَى الْبَشَاشَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا الْتَقَى الرَّجُلَانِ الْمُسْلِمَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّ أَحَبَّهُمَا إلَى اللَّهِ أَحْسَنُهُمَا بِشْرًا لِصَاحِبِهِ، فَإِذَا تَصَافَحَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمَا مِائَةُ رَحْمَةٍ لِلْبَادِئِ مِنْهُمَا تِسْعُونَ وَلِلْمُصَافِحِ عَشْرَةٌ» . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ لَمَّا جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَدْ جَاءَكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ جَاءَ بِالْمُصَافَحَةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُد الْأَعْمَى وَهُوَ مَتْرُوكٌ قَالَ لَقِيَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَخَذَ بِيَدِي وَصَافَحَنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي ثُمَّ قَالَ: تَدْرِي لِمَ أَخَذْتُ بِيَدِكَ؟ قُلْت لَا إلَّا إنَّنِي ظَنَنْت أَنَّك لَمْ تَفْعَلْهُ إلَّا لِخَيْرٍ، فَقَالَ «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَنِي فَفَعَلَ بِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ أَتَدْرِي لِمَ فَعَلْت بِك ذَلِكَ؟ قُلْت لَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ الْمُسْلِمَيْنِ إذَا الْتَقَيَا وَتَصَافَحَا وَضَحِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي وَجْهِ صَاحِبِهِ لَا يَفْعَلَانِ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ، لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُمَا» . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، وَاَللَّهُ الْحَلِيمُ السَّتَّارُ. مَطْلَبٌ: أَوَّلُ مَنْ صَافَحَ وَعَانَقَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : مِنْهَا أَوَّلُ مَنْ صَافَحَ وَعَانَقَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كَمَا فِي مُثِيرِ الْغَرَامِ وَالْأُنْسِ الْجَلِيلِ وَالْأَوَائِلِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْإِسْكَنْدَرُ الْأَكْبَرُ، فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ الْمُفَضَّلِ الْمُوَقَّرِ، صَافَحَهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، وَعَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ، وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ وَعَمَّمَهُ، وَأَهْدَاهُ لِلْخَيْرِ وَعَمَّمَهُ، وَتَشَرَّعَ الْإِسْكَنْدَرُ بِشَرِيعَتِهِ، وَدَخَلَ مَعَهُ فِي مِلَّتِهِ. وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي كِتَابِي الْجَوَابِ الْمُحَرَّرِ، فِي الْخَضِرِ وَالْإِسْكَنْدَرِ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا فِي خَبَرِ أَنَسٍ. كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي حَدْسٍ. (الثَّانِي) سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - أَغْدَقَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ عَلَى رُوحِهِ الزَّكِيَّةِ - عَنْ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ هَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ لَا؟ أَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: أَمَّا الْمُصَافَحَةُ عَقِبَ الصَّلَاةِ فَبِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى. قُلْت: وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُبَاحَةٌ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ النَّوَوِيِّ أَنَّهَا سُنَّةٌ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيُّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَصْلُ الْمُصَافَحَةِ سَنَةٌ، وَكَوْنُهُمْ حَافَظُوا عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْ أَصْلِ السُّنَّةِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَلِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ، وَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ تَحْرِيمَهَا. انْتَهَى. قُلْت: وَيَتَوَجَّهُ مِثْلُ ذَلِكَ عَقِبَ الدُّرُوسِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَنْوَاعِ مَجَامِعِ الْخَيْرَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الثَّالِثُ) : الْحَدِيثُ الْمُسَلْسَلُ بِالْمُصَافَحَةِ رَوَيْنَاهُ عَنْ عِدَّةِ أَشْيَاخٍ، مِنْهُمْ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ الْوَرِعُ خَاتِمَةُ مَنْ رَأَيْنَا مُتَخَلِّقًا بِأَخْلَاقِ السَّلَفِ الصَّالِحِ شَيْخُنَا قَالَ شَيْخُنَا التَّغْلِبِيُّ: صَافَحَنِي الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّاوِيُّ الْمُجَلَّلُ الْإِمَامُ الْأَوْحَدُ، وَالشَّيْخُ الْعَارِفُ شَيْخُنَا عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ وَجَمَاعَةٌ. قَالَ شَيْخُنَا التَّغْلِبِيُّ: صَافَحَنِي الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ الشَّاوِيُّ الْمَغْرِبِيُّ وَذَكَرَ سَنَدَهُ فِي ثَبْتِهِ إلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «صَافَحْت بِكَفِّي هَذِهِ كَفَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ أَرَ خَزًّا وَلَا حَرِيرًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمِ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الرَّابِعُ) : صَرَّحَ فِي الْفُصُولِ أَنَّ لِلرَّجُلِ مُصَافَحَةَ الْعَجُوزِ وَالْبَرْزَةِ. وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِ بَلْ صَرِيحُهُ وَلَوْ كَانَتْ الْبَرْزَةُ شَابَّةً أَجْنَبِيَّةً، وَذَكَرَهُ عَنْهُ فِي الْآدَابِ وَظَاهِرُ الْإِقْنَاعِ وَالْغَايَةِ يُخَالِفُهُ، وَعِبَارَةُ الْغَايَةِ: وَحَرُمَ مُصَافَحَةُ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ شَابَّةٍ. انْتَهَى. فَلَمْ يَسْتَثْنِ سِوَى مَا أَفْهَمَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَجْنَبِيَّةٍ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ يَعْنِي وَزَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ. وَبِقَوْلِهِ شَابَّةٍ الْعَجُوزَ وَلَمْ يَقُلْ خَفِرَةً حَتَّى تَخْرُجَ الْبَرْزَةُ. وَهَذَا الْمَذْهَبُ بِلَا رَيْبٍ، وَهُوَ الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ السَّلَامِ. مَطْلَبٌ: السُّجُودُ يَرِدُ لِمَعَانٍ وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ حَلَّ سُجُودُنَا ... وَيُكْرَهُ تَقْبِيلُ الثَّرَى بِتَشَدُّدِ (وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ) عَزَّ وَجَلَّ (حَلَّ) أَيْ شُرِعَ (سُجُودُنَا) مَعْشَرَ الْعِبَادِ، وَأَمَّا لِلْمَلِكِ الْجَوَّادِ، فَقَدْ شَرَعَهُ جَلَّ شَأْنُهُ، فَتَارَةً يَكُونُ فَرْضًا، وَأُخْرَى طَاعَةً وَنَفْلًا. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ مَذْهَبِنَا: السُّجُودُ يَرِدُ لِمَعَانٍ، مِنْهَا الِانْحِنَاءُ وَالْمَيْلُ مِنْ قَوْلِهِمْ سَجَدَتْ الدَّابَّةُ وَأَسْجَدَتْ إذَا خَفَضَتْ رَأْسَهَا لِتُرْكَبَ. وَمِنْهَا الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ. وَمِنْهَا التَّحِيَّةُ، وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] أَنَّهُمْ سَجَدُوا لِيُوسُفَ إكْرَامًا وَتَحِيَّةً، وَأَنَّهُ كَانَ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ وَبِالِانْحِنَاءِ فَحَظَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَذَكَرَ كَلَامَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَلَمْ يُخَالِفْهُ، فَدَلَّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ. وَأَمَّا الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ فَجَزَمَ بِتَحْرِيمِ السُّجُودِ وَالِانْحِنَاءِ وَالْقِيَامِ عَلَى الرَّأْسِ وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 جَالِسٌ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ: سَجَدَ الرَّجُلُ إذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَسَجَدَ إذَا وَضَعَ جَبْهَتَهُ بِالْأَرْضِ انْتَهَى. فَإِذَا كَانَ السُّجُودُ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا خُضُوعَ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ قَالَ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَرَأَيْنَا مِنْهُ عَجَبًا، جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَ لِي حَائِطٌ فِيهِ عَيْشُ عِيَالِي وَلِي فِيهِ نَاضِحَانِ فَحْلَانِ قَدْ مَنَعَانِي أَنْفُسَهُمَا وَحَائِطِي وَمَا فِيهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمَا، فَنَهَضَ نَبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى الْحَائِطَ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: افْتَحْ، فَقَالَ أَمْرُهُمَا عَظِيمٌ، فَقَالَ افْتَحْ، فَلَمَّا حُرِّكَ الْبَابُ أَقْبَلَا وَلَهُمَا جَلَبَةٌ أَيْ صَوْتٌ وَرُغَاءٌ فَلَمَّا انْفَرَجَ الْبَابُ وَنَظَرَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَرَكَا ثُمَّ سَجَدَا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرُءُوسِهِمَا ثُمَّ دَفَعَهُمَا لِصَاحِبِهِمَا وَقَالَ اسْتَعْمِلْهُمَا وَأَحْسِنْ عَلَفَهُمَا، فَقَالَ الْقَوْمُ تَسْجُدُ لَك الْبَهَائِمُ أَفَلَا تَأْذَنُ لَنَا فِي السُّجُودِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ أَمَرْت أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا؟» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُمَا وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْتَنُّونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ، فَجَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَكَوْا إلَيْهِ اسْتِصْعَابَهُ وَقَالُوا: قَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ قُومُوا فَقَامُوا، فَدَخَلَ الْحَائِطَ، وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَتِهِ، فَمَشَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْك صَوْلَتَهُ، فَقَالَ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ، فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَك، وَنَحْنُ نَعْقِلُ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَك قَالَ لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ الْإِمَام الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ الذُّلُّ وَالِانْكِسَارُ لِلْعَزِيزِ الْجَبَّارِ: السُّجُودُ أَعْظَمُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ ذُلُّ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَيْثُ جَعَلَ الْعَبْدُ أَشْرَفَ مَا لَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ وَأَعَزَّهَا عَلَيْهِ وَأَعْلَاهَا حَقِيقَةً أَوْضَعَ مَا يُمْكِنُهُ فَيَضَعُهُ فِي التُّرَابِ مُعَفَّرًا، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ انْكِسَارُ الْقَلْبِ وَتَوَاضُعُهُ وَخُشُوعُهُ، وَلِذَا كَانَ جَزَاءُ الْعَبْدِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَنْ يُقَرِّبَهُ اللَّهُ إلَيْهِ، فَإِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ تَعَالَى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وَهُوَ مِمَّا كَانَ يَأْنَفُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَكْرَهُ أَنْ أَسْجُدَ فَتَعْلُونِي اسْتِي. وَإِنَّمَا طَرَدَ اللَّهُ إبْلِيسَ لَمَّا اسْتَكْبَرَ عَنْ السُّجُودِ حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلِذَا يَبْكِي إذَا سَجَدَ الْمُؤْمِنُ، وَيَقُولُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَفَعَلَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْت فَعَصَيْت فَلِيَ النَّارُ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَيْلَةً فِي سُجُودِهِ «أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُعَفِّرُ وَجْهِي فِي التُّرَابِ لِسَيِّدِي وَحُقَّ لِوَجْهِ سَيِّدِي أَنْ تُعَفَّرَ الْوُجُوهُ لِوَجْهِهِ» . قَالَ وَمَرَّ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ بِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي مَجْلِسِهِ، فَقَالَ يَا حَاتِمُ تُحْسِنُ تُصَلِّي؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ تُصَلِّي؟ قَالَ حَاتِمٌ أَقُومُ بِالْأَمْرِ، وَأَمْشِي بِالْخَشْيَةِ وَأَدْخُلُ بِالنِّيَّةِ، وَأُكَبِّرُ بِالْعَظَمَةِ، وَأَقْرَأُ بِالتَّرَسُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، وَأَرْكَعُ بِالْخُشُوعِ، وَأَسْجُدُ بِالتَّوَاضُعِ، وَأَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ بِالتَّمَامِ، وَأُسَلَّمُ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ، وَأُسَلِّمُهَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَرْجِعُ عَلَى نَفْسِي بِالْخَوْفِ فَأَخَافُ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنِّي، وَأَحْفَظُهُ بِالْجَهْدِ إلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ: تَكَلَّمْ فَأَنْتَ تُحْسِنُ تُصَلِّي. فَالسُّجُودُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ لِلْمَعْبُودِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ الصَّلَاةِ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَحْرُمُ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وَيُكْرَهُ) كَرَاهَةً شَدِيدَةً كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى (تَقْبِيلُ) مِنْ الْقُبْلَةِ، وَهِيَ عَرَبِيَّةٌ وَالْبُوسُ فَارِسِيٌّ (الثَّرَى) أَصْلُهُ النَّدَى وَالتُّرَابُ النَّدِيُّ أَوْ الَّذِي إذَا بُلَّ لَمْ يَصِرْ طِينًا لَازِبًا. وَالْمُرَادُ هُنَا تَقْبِيلُ الْأَرْضِ فَيُكْرَهُ (بِتَشَدُّدٍ) ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ السُّجُودَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِسُجُودٍ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ الشَّرْعِيَّ وَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ عَلَى طَهَارَةٍ لِلَّهِ وَحْدَهُ إلَى جِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهَذَا إنَّمَا يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْهُ فَمُهُ، وَذَلِكَ لَا يَجْزِي فِي السُّجُودِ قَالَهُ النَّاظِمُ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَهَذَا يَعْنِي تَقْبِيلَ الْأَرْضِ لَا يُفْعَلُ غَالِبًا إلَّا لِلدُّنْيَا، وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الِانْحِنَاءِ، وَمِنْ تَقْبِيلِ الْيَدِ لِلدُّنْيَا. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ الِانْحِنَاءِ وَجَوَازِ تَقْبِيلِ الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَيُكْرَهُ مِنْك الِانْحِنَاءُ مُسَلِّمًا ... وَتَقْبِيلُ رَأْسِ الْمَرْءِ حَلَّ وَفِي الْيَدِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (مِنْك الِانْحِنَاءُ) أَيْ الِالْتِوَاءُ وَالِانْعِطَافُ (مُسَلِّمًا) مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ أَيْ يُكْرَهُ مِنْك الِانْحِنَاءُ لِأَجْلِ السَّلَامِ أَوْ فِي السَّلَامِ فَيَكُونُ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ وَصَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: لَا قَالَ أَفَيُلْزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَيَأْخُذُهُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَدَّمَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى عَنْ أَبِي الْمَعَالِي أَنَّ التَّحِيَّةَ بِانْحِنَاءِ الظَّهْرِ جَائِزٌ، وَقِيلَ: هُوَ سُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ. قَالَ: وَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ عُمَرَ الشَّامَ حَيَّاهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَهُمْ وَقَالَ: هَذَا تَعْظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِالْجَوَازِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ فَلَا يُنَافِي الْكَرَاهِيَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا تَقْبِيلُ رَأْسِ الْإِنْسَانِ وَيَدِهِ وَنَحْوِهِمَا فَحَلَالٌ، وَلِذَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَقْبِيلُ رَأْسِ الْمَرْءِ) أَيْ الْإِنْسَانِ تَدَيُّنًا (حَلَّ) فِي الشَّرْعِ (وَ) كَذَا تَقْبِيلُهُ (فِي الْيَدِ) بِلَا كَرَاهَةٍ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ. مَطْلَبٌ: يُبَاحُ تَقْبِيلُ الْيَدِ وَالْمُعَانَقَةُ تَدَيُّنًا قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَتُبَاحُ الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيلُ الْيَدِ وَالرَّأْسِ تَدَيُّنًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ. وَظَاهِرُ هَذَا عَدَمُ إبَاحَتِهِ لِأَمْرِ الدُّنْيَا. وَاخْتَارَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 بَعْضُ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْكَرَاهَةُ أَوْلَى. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قُبْلَةِ الْيَدِ، فَقَالَ: إنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّدَيُّنِ فَلَا بَأْسَ، قَبَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الدُّنْيَا فَلَا إلَّا رَجُلًا تَخَافُ سَيْفَهُ أَوْ سَوْطَهُ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ أَيْضًا: وَكَرِهَهَا عَلَى طَرِيقِ الدُّنْيَا. وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ التَّابِعِيُّ: الْقُبْلَةُ سُنَّةٌ. وَقَالَ مُهَنَّا بْنُ يَحْيَى: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَثِيرًا يُقَبِّلُ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَخَدَّهُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا. وَرَأَيْته لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَأَيْت سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد الْهَاشِمِيَّ يُقَبِّلُ جَبْهَتَهُ وَرَأْسَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكْرَهُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ: رَأَيْت كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَبَنِي هَاشِمٍ وَقُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ يُقَبِّلُونَهُ يَعْنِي أَبَاهُ بَعْضُهُمْ يَدَهُ وَبَعْضُهُمْ رَأْسَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ تَعْظِيمًا لَمْ أَرَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِأَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ غَيْرَهُ، وَلَمْ أَرَهُ يَشْتَهِي أَنْ يُفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ. وَقَالَ لَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ: تَرَى أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ رَأْسَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَقْبِيلُ الْيَدِ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَادُونَهُ إلَّا قَلِيلًا. وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمْ «لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ مُؤْتَةَ وَقَالُوا نَحْنُ الْفَرَّارُونَ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ الْعَكَّارُونَ أَنَا فَيْئَةُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَبَّلُوا يَدَهُ» . وَفِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلْحَافِظِ بْنِ حَجَرٍ «أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَصَاحِبَهُ قَبَّلُوا يَدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» . ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ. وَقَبَّلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَدَ ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى جِنَازَةِ أُمِّهِ فَقُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَتُهُ لِيَرْكَبَ فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ فَقَالَ خَلِّ عَنْهَا يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَكَذَا نَفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عَنْهُ الْعِلْمَ، فَقَبَّلَ زَيْدٌ يَدَهُ، وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 قَالَ: وَرَخَّصَ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّدَيُّنِ، وَكَرِهَهُ آخَرُونَ كَمَالِكٍ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: هِيَ السَّجْدَةُ الصُّغْرَى. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُقَالُ تَقْبِيلُ الْيَدِ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ. قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: وَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْإِنْسَانِ بِمَدِّ يَدِهِ لِلنَّاسِ لِيُقَبِّلُوهَا، وَقَصْدُهُ لِذَلِكَ فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ بِلَا نِزَاعٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُقَبِّلُ هُوَ الْمُبْتَدِئَ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَلَمَّا تَنَاوَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ يَدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِيُقَبِّلَهَا قَبَضَهَا، فَتَنَاوَلَ رِجْلَهُ فَقَالَ مَا رَضِيت مِنْك بِتِلْكَ فَكَيْفَ هَذِهِ. وَقَبَضَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَدَهُ مِنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُقَبِّلَهَا، وَقَالَ: مَهْ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا مِنْ الْعَرَبِ إلَّا هَلُوعٌ، وَمِنْ الْعَجَمِ إلَّا خَضُوعٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قُبْلَةُ يَدِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ طَاعَةٌ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قُبْلَةُ الْوَالِدِ عِبَادَةٌ، وَقُبْلَةُ الْوَلَدِ رَحْمَةٌ، وَقُبْلَةُ الْمَرْأَةِ شَهْوَةٌ، وَقُبْلَةُ الرَّجُلِ أَخَاهُ دَيْنٌ. وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ تَقْبِيلَ يَدِ الظَّالِمِ مَعْصِيَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَوْفٍ. وَقَالَ فِي مَنَاقِبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يُبَالِغَ فِي التَّوَاضُعِ لِلْعَالِمِ وَيُذَلُّ لَهُ. قَالَ: وَمِنْ التَّوَاضُعِ تَقْبِيلُ يَدِهِ. وَقَبَّلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ أَحَدُهُمَا يَدَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ وَالْآخَرُ رِجْلَهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: أَمَّا تَقْبِيلُ يَدِ الْعَالِمِ وَالْكَرِيمِ لِرِفْدِهِ وَالسَّيِّدِ لِسُلْطَانِهِ فَجَائِزٌ، وَأَمَّا إنْ قَبَّلَ يَدَهُ لِغِنَاهُ فَقَدْ رُوِيَ «مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ فَقَدْ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ» انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الصَّحَابَةَ قَبَّلُوا يَدَ الْمُصْطَفَى كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَارِّ عِنْدَ قُدُومِهِمْ مِنْ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ «قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَا عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ فَقَبَّلَا يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَقَالَا نَشْهَدُ أَنَّك نَبِيٌّ اللَّهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أُمِّ أَبَانَ بِنْتِ الْوَازِعِ بْنِ زَارِعٍ عَنْ جَدِّهَا زَارِعٍ وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ «فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلَهُ» وَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ كَمَا فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ، وَفِيهَا «ثُمَّ جَاءَ مُنْذِرٌ الْأَشَجُّ حَتَّى أَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَّلَهَا وَهُوَ سَيِّدُ الْوَفْدِ وَكَانَ دَمِيمًا فَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى دَمَامَتِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ لَا يُسْقَى فِي مُسُوكِ أَيْ جُلُودِ الرِّجَالِ إنَّمَا يُحْتَاجُ مِنْ الرَّجُلِ إلَى أَصْغَرَيْهِ: لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ فِيك خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ» الْحَدِيثَ. وَرُوِيَ أَيْضًا قِصَّةُ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ لَمَّا طَعَنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ فَقَالَ «اصْبِرْنِي، فَقَالَ: اصْطَبِرْ، أَيْ قُدْنِي، فَقَالَ اتَّقِدْ، قَالَ إنَّ عَلَيْك قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَمِيصِهِ فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ، قَالَ إنَّمَا أَرَدْت هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ. وَرُوِيَ نَحْوُهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. قُلْت وَفِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ «لَمَّا انْكَشَفَ أَوَّلُ عَسْكَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ ابْنُ عَمِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَمَّا لَقِينَا الْقَوْمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ اقْتَحَمْت عَنْ فَرَسِي وَبِيَدِي السَّيْفُ مُصْلِتًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنِّي أُرِيدُ الْمَوْتَ دُونَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيَّ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخُوك وَابْنُ عَمِّك أَبُو سُفْيَانَ فَارْضَ عَنْهُ، قَالَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، ثُمَّ الْتَفَتَ وَقَالَ يَا أَخِي، فَقَبَّلْت رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ سَيِّدُ فَتَيَانِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَئِذٍ: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَجَاهُ، وَهُوَ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ حَسَّانُ فِي قَوْلِهِ: أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... مُغَلْغِلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ بِأَنَّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْك عَبْدًا ... وَعَبْدُ الدَّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ «لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَبْوَاءِ وَابْنٌ لَهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ ابْنُ عَمَّتِهِ وَصِهْرُهُ، وَالْتَمَسَا الدُّخُولَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فِيهِمَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ وَصِهْرُكَ لَا يَكُونَا أَشْقَى النَّاسِ بِك قَالَ لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمَّا ابْنُ عَمِّي فَهَتَكَ عِرْضِي فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْأَذِيَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ كَثِيرَ الْهَجْوِ لَهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ آلَفَ النَّاسِ إلَيْهِ، قَالَ: وَأَمَّا ابْنُ عَمَّتِي وَصِهْرِي فَهُوَ الَّذِي قَالَ بِمَكَّةَ مَا قَالَ أَيْ لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتَّى تَعْرُجَ إلَى السَّمَاءِ فِي سُلَّمٍ وَنَحْنُ نَنْظُرُ وَتَأْتِي بِصَكٍّ وَأَرْبَعَةِ مَلَائِكَةٍ يَشْهَدُونَ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّك حَتَّى تَنْزِلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فَلَمَّا خَرَجَ الْخَبَرُ إلَيْهِمَا بِذَلِكَ وَمَعَ أَبِي سُفْيَانَ بَنِيَّ لَهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَيَأْذَنَنَّ لِي أَوْ لَآخُذَنَّ بِيَدِ بَنِيَّ هَذَا ثُمَّ نَذْهَبَنَّ فِي الْأَرْضِ حَتَّى نَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَقَّ لَهُمَا رِقًّا شَدِيدًا ثُمَّ أَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلَا عَلَيْهِ، وَأَسْلَمَا» . وَفِي الْهَدْيِ لِلْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ «أَنَّ عَلِيًّا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُلْ لَهُ مَا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ لِيُوسُفَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْهُ قَوْلًا فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] فَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُعْتَذِرًا: لَعَمْرُكَ إنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ لَك الْمُدْلِجُ الْحَيْرَانُ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أَهْدِي وَأَهْتَدِي هَدَانِي هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَدَلَّنِي ... عَلَى اللَّهِ مَنْ طَرَدْته كُلَّ مُطْرَدِ أَصُدُّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمَّدِ ... وَأَدَّعِي كَأَنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمَّدِ هُمُو مَا هُمُو مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَوَاهُمُو ... وَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلِمُّ وَيُفْسِدُ أُرِيدُ لِأُرْضِيهِمْ وَلَسْت بِلَائِطٍ ... مَعَ الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدِ فِي كُلِّ مَقْعَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 فَقُلْ لِثَقِيفٍ لَا أُرِيدُ قِتَالَهَا ... وَقُلْ لِثَقِيفٍ تِلْكَ عِيرِي أَوْعِدْ فَمَا كُنْت فِي الْجَيْشِ الَّذِي نَالَ عَامِرًا ... وَمَا كَانَ عَنْ جَرْيِ لِسَانِي وَلَا يَدِي قَبَائِلُ جَاءَتْ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ ... تُرَايِعُ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسُوْدُدِ » قَالَ فِي الْهَدْيِ، كَابْنِ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ: «إنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا قَالَ: وَدَلَّنِي عَلَى اللَّهِ مَنْ طَرَدْته كُلَّ مُطْرَدِ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرَهُ وَقَالَ أَنْتَ طَرَدَتْنِي كُلَّ مُطْرَدِ، وَحَسُنَ إسْلَامُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . قَالَ فِي الْهَدْيِ: وَيُقَالُ إنَّهُ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ أَسْلَمَ حَيَاءً مِنْهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّهُ وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ. كَمَا ذَكَرْنَا وَقَالَ: «أَرْجُو أَنْ تَكُونَ خَلَفًا مِنْ حَمْزَةَ» . وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَكَى عَلَيْهِ أَهْلُهُ، فَقَالَ: لَا تَبْكُوا عَلَيَّ فَمَا نَطَقْت بِخَطِيئَةٍ مُنْذُ أَسْلَمْت. انْتَهَى. وَحَلَّ عِنَاقٌ لِلْمُلَاقِي تَدَيُّنَا ... وَيُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْفَمِ افْهَمْ أَوْ قَيِّدِ (وَحَلَّ) لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَلَاقِينَ مِنْ سَفَرٍ (عِنَاقٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الِالْتِزَامُ. يُقَالُ: عَانَقَهُ إذَا جَعَلَ يَدَيْهِ عَلَى عُنُقِهِ وَضَمَّهُ إلَى نَفْسِهِ (لِ) لِشَخْصِ الْمُسْلِمِ (الْمُلَاقِي) غَيْرَهُ مِنْ سَفَرٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعِنَاقِ الْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ أَوْ الْمُقِيمِ لِلْقَادِمِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَأَمَّا لِغَيْرِ الْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ فَظَاهِرُ النَّظْمِ كَالْإِرْشَادِ لَا يُطْلَبُ. قَالَ فِي الْإِرْشَادِ الْمُعَانَقَةُ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ حَسَنَةٌ. قَالَ الشَّيْخُ فَقَيَّدَهَا بِالْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ. وَأَطْلَقَ الْقَاضِي، وَالْمَنْصُوصُ فِي السَّفَرِ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ الْقَادِمِ وَمُعَانَقَتُهُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْمُعَانَقَةِ وَالْقِيَامِ: أَمَّا إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا إذَا كَانَ عَلَى التَّدَيُّنِ يُحِبُّهُ لِلَّهِ أَرْجُو لِحَدِيثِ جَعْفَرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا الْتَقَوْا صَافَحُوا بَعْضَهُمْ، فَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ عَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ «أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَانَقَهُ» ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «خَرَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَائِفَةٍ مِنْ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى جَاءَ سُوقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 بَنِي قَيْنُقَاعِ ثُمَّ انْصَرَفَ حَتَّى أَتَى خِبَاءَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَ: أَثِمٌ لُكَعٌ أَثِمٌ لُكَعٌ يَعْنِي حَسَنًا فَظَنَنَّا أَنَّهُ إنَّمَا تَحْبِسُهُ أُمُّهُ لَأَنْ تَغْسِلَهُ وَتُلْبِسَهُ سِخَابًا فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ» . قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ فِي طَائِفَةٍ أَيْ قِطْعَةٍ مِنْهُ، وَقَيْنُقَاعُ بِتَثْلِيثِ النُّونِ. وَلُكَعٌ هُنَا الصَّغِيرُ. وَالْخِبَاءُ بِكَسْرِ الْخَاء وَالْمَدِّ بَيْنَهُمَا بَاءٌ مُوَحَّدٌ. وَالسِّخَابُ بِكَسْرِ السِّينِ جَمْعُهُ سُخُبٌ: الْقِلَادَةُ مِنْ الْقَرَنْفُلِ وَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَخْلَاطِ الطِّيبِ يُعْمَلُ عَلَى هَيْئَةِ السُّبْحَةِ وَيُجْعَلُ قِلَادَةً لِلصِّبْيَانِ وَالْجَوَارِي. وَقِيلَ هُوَ خَيْطٌ سُمِّيَ سَخَّانًا لِصَوْتِ خِرَرَةٌ عِنْدَ حَرَكَتِهِ مِنْ السَّخَبِ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُقَالُ: الصَّخَبُ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ فِي صِفَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ» وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لِخَدِيجَةَ «وَبَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا وَصَبَ» وَفِيهِ لِبَاسُ الصِّبْيَانِ الْقَلَائِدَ وَالسَّخَبَ مِنْ الزِّينَةِ وَتَنْظِيفِهِمْ لَا سِيَّمَا عِنْدَ لِقَاءِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَمُلَاطَفَةِ الصَّبِيِّ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ الْعِنَاقِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَكَرِهَ مَالِكٌ مُعَانَقَةَ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَقَالَ بِدْعَةٌ، وَاعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِجَعْفَرٍ حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ بِأَنَّهُ خَاصٌّ لَهُ فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ مَا تَخُصُّهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَسَكَتَ مَالِكٌ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَسُكُوتُهُ دَلِيلٌ لِتَسْلِيمِ قَوْلِ سُفْيَانَ وَمُوَافَقَتِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ. انْتَهَى. وَقَالَ النَّاظِمُ تَدَيُّنًا أَيْ لِأَجْلِ الدِّينِ وَالِاحْتِرَامِ، وَالْمَوَدَّةِ وَالْإِكْرَامِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَلِكُ السَّلَامُ، وَظَاهِرُ النَّظْمِ عَدَمُ حِلِّهِ لِأَجْلِ الدُّنْيَا، وَالْكَرَاهَةُ أَوْلَى كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْآدَابِ الْكُبْرَى. . (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ وَمَعَهَا يَحْرُمُ اتِّفَاقًا (تَقْبِيلُ) الرَّجُلِ (الْفَمَ) مِنْ الْإِنْسَانِ مَعْرُوفٌ، وَفِيهِ تِسْعُ لُغَاتٍ تَثْلِيثُ الْفَاءِ مَعَ تَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَفَتْحُهَا وَضَمُّهَا مَعَ تَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَتَثْلِيثُهَا مَقْصُورًا مُخَفَّفَ الْمِيمِ وَالتَّاسِعَةُ فَمٌ بِالنَّقْصِ وَإِتْبَاعُ الْفَاءِ الْمِيمَ فِي الْحَرَكَاتِ الْإِعْرَابِيَّةِ، تَقُولُ هَذَا فَمُهُ، وَقَبَّلْت فَمَهُ، وَنَظَرْت إلَى فَمِهِ مِنْ مَحْرَمِهِ، قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ: يُقَبِّلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الرَّجُلُ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ؟ قَالَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ مِنْ الْغَزْوِ قَبَّلَ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -» ، وَكَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَبَّلَ أُخْتَهُ. وَتَقَدَّمَ تَقْبِيلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي هِجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى مِنْ عَازِبٍ رَحْلًا فَحَمَلَهُ مَعَهُ ابْنُهُ الْبَرَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ الْبَرَاءُ فَدَخَلْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَهْلِهِ فَإِذَا عَائِشَةُ بِنْتُهُ مُضْطَجِعَةً قَدْ أَصَابَتْهَا حُمَّى فَرَأَيْت أَبَاهَا يُقَبِّلُ خَدَّهَا وَقَالَ كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ. وَقَوْلُ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (افْهَمْ) وَالْمُرَادُ افْهَمْ الْحُكْمَ الْمُرَادَ مِنْ النَّظْمِ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَقَيِّدْ) الْحِلَّ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ يَعْنِي مَنْ لَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِنَّ، وَإِيَّاكَ مِنْ حَمْلِ كَلَامِي عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ هَذَا سِرُّ قَوْلِ النَّظْمِ افْهَمْ وَقَيِّدْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَأَمَّا اخْتِصَاصُ الْكَرَاهَةِ بِالتَّقْبِيلِ عَلَى الْفَمِ فَنَصُّوا عَلَيْهَا قَالُوا وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ عَلَى الْفَمِ أَبَدًا بَلْ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالرَّأْسِ وَذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَقَعَ كَرَامَةً بَلْ شَهْوَةً كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ، وَالْمُرَادُ أَيْضًا غَيْرُ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ الْمُبَاحَةِ فَلَا يُكْرَهُ تَقْبِيلُهُمَا عَلَى الْفَمِ، وَهُوَ مَفْهُومٌ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ النَّاظِمِ افْهَمْ وَقَيِّدْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَنَزْعُ يَدِ مَنْ يُصَافِحُ عَاجِلًا ... وَأَنْ يَتَنَاجَى الْجَمْعُ مَا دُونَ مُفْرَدِ (وَ) وَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا لِلْمُصَافِحِ (نَزْعُ يَدِهِ) (مِنْ) يَدِ (مَنْ) أَيْ الَّذِي (يُصَافِحُهُ عَاجِلًا) أَيْ سَرِيعًا حَتَّى يَنْزِعَ الْأَجْنَبِيُّ يَدَهُ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَالْفُصُولِ: يُكْرَهُ نَزْعُ يَدِهِ مِنْ يَدِ مَنْ يُصَافِحُهُ قَبْلَ نَزْعِهِ هُوَ إلَّا مَعَ حَيَاءٍ أَوْ مَضَرَّةِ التَّأْخِيرِ، وَقَالَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: وَلَا يَنْزِعُ يَدَهُ حَتَّى يَنْزِعَ الْآخَرُ يَدَهُ إذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِئَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ: الضَّابِطُ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْآخَرَ سَيَنْزِعُ أَمْسَكَ وَإِلَّا فَلَوْ اُسْتُحِبَّ الْإِمْسَاكُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَفْضَى إلَى دَوَامِ الْمُعَاقَدَةِ لَكِنَّ تَقْيِيدَ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ حَسَنٌ أَنَّ النَّازِعَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. «مَا رَأَيْت رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأْسَهُ. وَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَكَ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ» . . مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ مُنَاجَاةِ الِاثْنَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ حَالَ الرُّفْقَةِ. (وَ) يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ (أَنْ يَتَنَاجَى) مِنْ الْمُنَاجَاةِ وَهِيَ الْمُسَارَّةُ، يُقَالُ نَاجَاهُ مُنَاجَاةً سَارَّهُ وَانْتَجَاهُ خَصَّهُ بِمُنَاجَاتِهِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْمُنَاجِي هُوَ الْمُخَاطِبُ لِلْإِنْسَانِ وَالْمُحَدِّثُ لَهُ يُقَالُ نَاجَاهُ يُنَاجِيهِ مُنَاجَاةً فَهُوَ مُنَاجٍ، وَالنَّجِيُّ فَعِيلٌ مِنْهُ، وَقَدْ تَنَاجَيْنَا مُنَاجَاةً وَانْتِجَاءً، وَمِنْهُ حَدِيثُ «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا» أَيْ لَا يَتَسَارَّانِ مُنْفَرِدَيْنِ عَنْهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسُوءُهُ. (الْجَمْعُ) فَاعِلُ يَتَنَاجَى وَالْمُرَادُ بِهِ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ (مَا) زَائِدَةٌ (دُونَ) إنْسَانٍ وَاحِدٍ (مُفْرَدٍ) لِمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى يَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَجَلْ إنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» بِإِسْقَاطِ مِنْ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فِي الصَّحِيحِ. وَفِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ لَهُ بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ بِزِيَادَةِ مِنْ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: نَطَقُوا بِهَا اللَّفْظَ بِإِسْقَاطِ مِنْ ذَكَرَ لَهُ شَاهِدًا وَيَجُوزُ كَسْرُ هَمْزَةِ أَنَّ وَالْمَشْهُورُ فَتْحُهَا. انْتَهَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ إنَّمَا يُحْزِنُهُ لِأَجْلِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ نَجْوَاهُمَا لِتَبْيِيتِ رَأْيٍ أَوْ تَدْسِيسِ غَائِلَةٍ لَهُ، وَالثَّانِي مِنْ أَجْلِ الِاخْتِصَاصِ بِالْكَرَامَةِ وَهُوَ يُحْزِنُ صَاحِبَهُ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ» . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَالنَّهْيُ عَامٌّ وِفَاقًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَخَصَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالسَّفَرِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 (تَنْبِيهَاتٌ) (الْأَوَّلُ) : ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْحُرْمَةُ لَا الْكَرَاهَةُ، فَإِنَّهُ مَتَى انْتَفَى الْحِلُّ خَلَفَهُ الْحَظْرُ، وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ نَسَخَهُ. وَالْمُعْتَمَدُ فِقْهًا يُكْرَهُ ذَلِكَ تَنْزِيهًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) : مَفْهُومُ كَلَامِ النَّاظِمِ لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً فَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ الرَّابِعِ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ ثَالِثِهِمَا. وَفِي الْمُجَرَّدِ: وَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَمُرَادُهُمْ جَمَاعَةٌ دُونَ وَاحِدٍ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ: وَلَا يُكْرَهُ إلَّا إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً لَا أَرْبَعَةً فَأَكْثَرَ. فَقَوْلُ النَّاظِمِ الْجَمْعُ يُحْمَلُ عَلَى الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ عَلَى قَوْلٍ. وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْجَمْعِ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْكَرَاهَةِ إذَا كَانُوا أَرْبَعَةً وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ» أَخْرَجَاهُ وَزَادَ أَبُو صَالِحٍ قُلْت لِابْنِ عُمَرَ فَأَرْبَعَةٌ؟ قَالَ لَا يَضُرُّك رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَقَالَ كُنْت أَنَا وَابْنُ عُمَرَ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ بْنِ عُقْبَةَ الَّتِي فِي السُّوقِ فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يُنَاجِيَهُ وَلَيْسَ مَعَ ابْنِ عُمَرَ أَحَدٌ غَيْرِي، فَدَعَا ابْنُ عُمَرَ رَجُلًا آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً، فَقَالَ لِي وَلِلرَّجُلِ الثَّالِثِ الَّذِي دَعَا اسْتَأْخِرَا شَيْئًا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً فَيَتَنَاجَى اثْنَانِ» لَمْ يُكْرَهْ لِقِصَّةِ ابْنِ عُمَرَ وَأَمَّا أَنْ يَتَنَاجَى مِنْ الْأَرْبَعَةِ ثَلَاثَةٌ دُونَ وَاحِدٍ فَالْأَظْهَرُ الْكَرَاهَةُ. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ فِي كَلَامِ الْحَجَّاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُسَامَحَةً فِي حَمْلِ كَلَامِ النَّاظِمِ عَلَى مَا حَمَلَهُ، وَهَلْ أَحَدٌ قَالَ: إنَّ الْجَمْعَ اثْنَانِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا قَالُوا أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ عَلَى مَذْهَبٍ وَهُوَ مَرْجُوحٌ، وَقَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَابَلَهُ مِنْ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذَلِكَ. وَأَمَّا كَوْنُ أَقَلِّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ إنَّمَا وَرَدَ فِي حَجْبِ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ. وَهَذَا الْجَمْعُ قَلِيلٌ جِدًّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لَكِنْ مَا أَحَدٌ قَالَ إنَّ الْجَمْعَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَأَكْثَرَ. وَصَاحِبُ الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ مُرَادُهُمْ جَمَاعَةٌ دُونَ وَاحِدٍ، وَاسْتَشْهَدَ بِكَلَامِ النَّاظِمِ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَهُ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْحَجَّاوِيِّ بِقَصِّهِ ابْنِ دِينَارٍ مَعَ ابْنِ عُمَرَ وَمُنَادَاتُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 لِلرَّجُلِ الرَّابِعِ فَلَا دَلِيلَ لَهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ النَّاظِمِ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ حَيْثُ قَيَّدَ انْفِرَادَ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمَا أَوْ مَعَهُمْ فِي الْمُنَاجَاةِ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ مَتَى كَانَ مَعَهُ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ لَمْ يُكْرَهْ اخْتِصَاصُ بَعْضِ الْجَمْعِ بِالْمُنَاجَاةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ انْفِرَادُ الْجَمْعِ بِالْمُنَاجَاةِ دُونَ وَاحِدٍ مُنْفَرِدٍ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يُنَاجِيهِ وَلَا يَسْتَأْنِسُ بِهِ. وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانُوا فِي سَفَرٍ أَوْ مَوْضِعٍ مُخِيفٍ وَالْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي الِاثْنَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ مَوْجُودَةٌ فِي الثَّلَاثِ فَأَكْثَرَ دُونَ وَاحِدٍ فَالْأَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إبْقَاءُ كَلَامِ النَّاظِمِ عَلَى عُمُومِهِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْحَدِيثِ فَهَذَا مَفْهُومُ عَدَدٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ هَلْ يَكُونُ مَفْهُومُهُ حُجَّةً أَوْ لَا الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِلْعَدَدِ. وَأَيْضًا مُرَادُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ انْفِرَادُ اثْنَيْنِ دُونَ وَاحِدٍ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي الْآنَ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ صَرَّحَ بِمَا قُلْنَا. قَالَ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ وَاحِدٍ وَلَا عَشْرَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ نَهَى أَنْ يُتْرَكَ وَاحِدٌ. قَالَ وَهَذَا مُسْتَنْبَطٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَابِ يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. قَالَ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِلْوَاحِدِ كَتَرْكِ الِاثْنَيْنِ لِلْوَاحِدِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ: لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْوَاحِدِ، زَادَ الْقُرْطُبِيُّ: بَلْ وُجُودُهُ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ أَمْكَنُ وَأَشَدُّ فَلْيَكُنْ الْمَنْعُ أَوْلَى. قَالَ وَإِنَّمَا خُصَّ الثَّلَاثَةُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ عَدَدٍ يُتَصَوَّرُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. فَهُمَا وَجَدَا الْمَعْنَى فِيهِ أُلْحِقَ بِهِ فِي الْحُكْمِ. انْتَهَى. (الثَّالِثُ) : مَحَلُّ الْكَرَاهَةِ مَا لَمْ يَأْذَنْ الْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ لِلْجَمْعِ فِي الْمُنَاجَاةِ، فَإِنْ أَذِنَ فَلَا كَرَاهَةَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ. قَالَهُ فِي الْآدَابِ عَنْ بَعْضِهِمْ. وَذُكِرَ النَّهْيُ عَنْ الْإِصْغَاءِ إلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ سِرًّا بِدُونِ إذْنِهِ. قَالَ وَإِنْ كَانَ إذْنُهُ اسْتِحْيَاءً فَذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ يُكْرَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ مَنْ أَعْطَى مَالًا حَيَاءً لَمْ يَجُزْ الْأَخْذُ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي الْفُصُولِ. انْتَهَى. وَيُتَّجَهُ مِثْلُهُ هُنَا أَنْ لَوْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْمُنَاجَاةِ حَيَاءً مِنْهُمْ بِأَنْ اسْتَأْذَنُوهُ فَأَذِنَ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْحَيَاءِ كُرِهَ انْفِرَادُهُمْ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الْإِذْنُ مُنَافِيًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ الْجُلُوسِ وَالْإِصْغَاءِ إلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ سِرًّا بِغَيْرِ إذْنِهِ: وَأَنْ يَجْلِسَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ مُحَدِّثٍ ... بِسِرٍّ وَقِيلَ احْظَرْ وَإِنْ يَأْذَنْ اُقْعُدْ (وَ) يُكْرَهُ (أَنْ يَجْلِسَ الْإِنْسَانُ) أَيْ جُلُوسُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ نَوْعُ الْعَالَمِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ تَقْدِيرُ الْإِنْسَانِ فِعْلَانِ وَإِنَّمَا زِيدَ فِي تَصْغِيرِهِ يَاءٌ كَمَا زِيدَ فِي تَصْغِيرِ رَجُلٍ وَاوٌ فَقِيلَ رُوَيْجِلٌ وَقَالَ قَوْمٌ أَصْلُهُ إنْسَيَانٌ فَحُذِفَتْ الْيَاءُ اسْتِخْفَافًا لِكَثْرَةِ مَا يَجْرِي عَلَى الْأَلْسِنَةِ فَإِذَا صَغَّرُوهُ رَدُّوهَا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ عُهِدَ إلَيْهِ فَنَسِيَ وَالْأُنَاسُ لُغَةٌ فِي النَّاسِ وَهُوَ الْأَصْلُ فَخُفِّفَ. قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وَهُوَ اعْتِدَالُهُ وَتَسْوِيَةُ أَعْضَائِهِ لِأَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ مُنْكَبًّا عَلَى وَجْهِهِ، وَخَلَقَهُ سَوِيًّا أَوْ لَهُ لِسَانٌ زَلِقٌ، وَأَصَابِعُ يَقْبِضُ بِهَا؛ مُزَيَّنًا بِالْعَقْلِ مُؤَدَّبًا بِالْأَمْرِ، مُهَذَّبًا بِالتَّمْيِيزِ، يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَهُ وَمَشْرُوبَهُ بِيَدِهِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: لَيْسَ لِلَّهِ خَلْقٌ أَحْسَنُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُدَبِّرًا حَكِيمًا. وَيُرْوَى أَنَّ مُوسَى بْنَ عِيسَى الْهَاشِمِيَّ كَانَ يُحِبُّ زَوْجَتَهُ حُبًّا شَدِيدًا؛ فَقَالَ لَهَا يَوْمًا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ تَكُونِي أَحْسَنَ مِنْ الْقَمَرِ، فَاحْتَجَبَتْ عَنْهُ وَقَالَتْ طَلُقْتُ، وَبَاتَ بِلَيْلَةٍ عَظِيمَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى الْمَنْصُورُ فَاسْتَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ وَسَأَلَهُمْ فَأَجَابَ كُلُّهُمْ بِالطَّلَاقِ إلَّا وَاحِدًا فَقَالَ لَا تَطْلُقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] فَقَالَ الْمَنْصُورُ: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى زَوْجَتِهِ بِذَلِكَ. (عِنْدَ مُحَدِّثٍ) لِغَيْرِهِ (بِحَدِيثِ) (سِرٍّ) لَمْ يُدْخِلَاهُ أَوْ يُدْخِلُوهُ إنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ فِي حَدِيثِهِمَا أَوْ حَدِيثِهِمْ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَأَنْ لَا يَدْخُلَ أَحَدٌ فِي سِرِّ قَوْمٍ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِيهِ، وَالْجُلُوسُ وَالْإِصْغَاءُ إلَى مَنْ يَتَحَدَّثُ سِرًّا بِدُونِ إذْنِهِ (وَقِيلَ احْظَرْ) أَيْ امْنَعْ مَنْعَ تَحْرِيمٍ لَا كَرَاهَةٍ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنْ اسْتَمَعَ إلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ وَلَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 بِنَافِخٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَالْآنُكُ بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ النُّونِ هُوَ الرَّصَاصُ الْمُذَابُ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يُنَاجِي رَجُلًا فَدَخَلَ رَجُلٌ بَيْنَهُمَا فَضَرَبَ صَدْرَهُ وَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا تَنَاجَى اثْنَانِ فَلَا يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا الثَّالِثُ إلَّا بِإِذْنِهِمَا» . وَبِالْكَرَاهَةِ جَزَمَ صَاحِبُ الْمُجَرَّدِ وَالْفُصُولِ. وَعِبَارَةُ الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِمَاعُ إلَى كَلَامِ قَوْمٍ يَتَشَاوَرُونَ وَيَجِبُ حِفْظُ سِرِّ مَنْ يَلْتَفِتُ فِي حَدِيثِهِ حَذَرًا مِنْ إشَاعَتِهِ لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَوْدَعِ لِحَدِيثِهِ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إفْشَاءِ السِّرِّ وَكِتْمَانِهِ فَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ الْحُرْمَةُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمُسْتَمِعُ لِحَدِيثِ مَنْ يَتَنَاجَوْنَ أَحَدُ الثَّمَانِيَةِ الْمُسْتَحَقِّينَ لِلصَّفْعِ وَقَدْ جَمَعَهُمْ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: مَطْلَبٌ: فِي النَّظْمِ الْجَامِعِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّونَ الصَّفْعَ: قَدْ خُصَّ بِالصَّفْعِ فِي الدُّنْيَا ثَمَانِيَةٌ ... لَا لَوْمَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا صُفِعَا الْمُسْتَخِفُّ بِسُلْطَانٍ لَهُ خَطَرٌ ... وَدَاخِلٌ فِي حَدِيثِ اثْنَيْنِ قَدْ جُمِعَا وَآمِرٌ غَيْرَهُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ ... وَجَالِسٌ مَجْلِسًا عَنْ قَدْرِهِ ارْتَفَعَا وَمُتْحِفٌ بِحَدِيثٍ غَيْرِ حَافِظِهِ ... وَدَاخِلٌ بَيْتَ تَطْفِيلٍ بِغَيْرِ دُعَا وَقَارِئُ الْعِلْمِ مَعَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ ... وَطَالِبُ النَّصْرِ مِنْ أَعْدَائِهِ طَمَعَا (وَأَنْ يَأْذَنَ) الْمُحَدِّثُ لِغَيْرِهِ أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهُمْ (اُقْعُدْ) أَمْرُ إبَاحَةٍ مِنْ الْقُعُودِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَّةِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ أَوْ لَهُمْ، وَلِمَفْهُومِ حَدِيثِ «لَا يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا الثَّالِثُ إلَّا بِإِذْنِهِمَا» وَحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ «وَمَنْ اسْتَمَعَ حَدِيثَ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» نَعَمْ إنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ إنَّمَا أُذِنَ لَهُ حَيَاءً لَمْ يَقْعُدْ عَمَلًا بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَرْأَى عَجُوزٍ لَمْ تُرَدْ وَصِفَاحُهَا ... وَخَلْوَتُهَا اكْرَهْ لَا تَحِيَّتَهَا اشْهَدْ (وَمَرْأَى عَجُوزٍ) الْمُرَادُ رُؤْيَتُهَا وَالنَّظَرُ فِيهَا بِلَا شَهْوَةٍ، وَالْعَجُوزُ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْكَبِيرَةُ مِنْ النِّسَاءِ وَلَا تَقُلْ عَجُوزَةٌ أَوْ هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَجَمْعُهَا عَجَائِزُ وَعُجُزٌ (لَمْ تُرَدْ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ضَمِيرٌ يَعُودُ إلَى الْعَجُوزِ أَيْ لَمْ تُرِدْهَا النَّفْسُ وَلَمْ تَطْلُبْهَا لِكِبَرِهَا (وَصِفَاحُهَا) أَيْ الْعَجُوزُ الَّتِي لَمْ تُرَدْ لِلْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ يَعْنِي مُصَافَحَتُهَا (وَخَلْوَتُهَا) أَيْ الْخَلْوَةُ بِهَا (اكْرَهْ) ذَلِكَ أَيْ اعْتَقِدْهُ مَكْرُوهًا لَا حَرَامًا، لِأَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَوَّزَ أَخْذَ يَدِ عَجُوزٍ وَفِي الرِّعَايَةِ وَشَوْهَاءَ. وَإِنَّمَا كُرِهَتْ الْخَلْوَةُ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا غَيْرَ مَطْلُوبَةٍ لِلنَّفْسِ وَلَا مُرَادَةٍ لَهَا لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَالْعَجُوزُ وَإِنْ كَبِرَتْ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا امْرَأَةً وَمَفْهُومُ نَظْمِهِ أَنَّ رُؤْيَةَ الشَّابَّةِ يَعْنِي غَيْرَ الْفَجْأَةِ وَمُصَافَحَتَهَا وَالْخَلْوَةَ بِهَا حَرَامٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي مُصَافَحَتِهَا هَلْ تُكْرَهُ أَوْ تَحْرُمُ، وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الشَّيْخِ، حَمْلَ رِوَايَةِ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْعَجُوزِ وَرِوَايَةَ التَّحْرِيمِ عَلَى الشَّابَّةِ. . (لَا) تُكْرَهُ (تَحِيَّتُهَا) أَيْ الْعَجُوزِ يَعْنِي سَلَامَهَا وَلَا السَّلَامَ عَلَيْهَا (اشْهَدْ) بِذَلِكَ أَوْ اعْلَمْ وَاعْتَقِدْ أَنَّ السَّلَامَ عَلَى الْعَجُوزِ يَجُوزُ بِلَا كَرَاهَةٍ كَمَا قَدَّمْنَا مَطْلَبٌ: فِيمَا يَجُوزُ تَشْمِيتُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ وَتَشْمِيتُهَا وَاكْرَهْ كِلَا الْخَصْلَتَيْنِ ... لِلشَّبَابِ مِنْ الصِّنْفَيْنِ بُعْدَى وَأَبْعَدِ (وَ) كَذَا لَا يُكْرَهُ (تَشْمِيتُهَا) أَيْ الْعَجُوزِ إذَا عَطَسَتْ وَحَمِدَتْ اللَّهَ قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَحَيْثُ انْتَفَتْ الْكَرَاهَةُ خَلَفَتْهَا الْإِبَاحَةُ فَلَا يَجِبُ تَشْمِيتُهَا وَيَأْتِي (وَاكْرَهْ) أَيْ اعْتَقِدْ الْكَرَاهَةَ وَكُرِهَ (كِلَا الْخَصْلَتَيْنِ) يَعْنِي السَّلَامَ وَالتَّشْمِيتَ، وَكَلِمَةُ كِلَا وَكِلْتَا إذَا أُضِيفَتَا إلَى ظَاهِرٍ لَزِمَتْهُ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ، تَقُولُ جَاءَنِي كِلَا الرَّجُلَيْنِ، وَرَأَيْت كِلَا الرَّجُلَيْنِ. وَنَظَرْت إلَى كِلَا الرَّجُلَيْنِ وَأَمَّا إذَا أُضِيفَتَا إلَى ضَمِيرٍ أُعْرِبَتَا إعْرَابَ الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ رَفْعًا وَبِالْيَاءِ نَصْبًا وَخَفْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (لِلشَّبَابِ) جَمْعُ شَابٍّ وَهُوَ الْفَتَى، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ لَيْسَ بِشَيْخٍ (مِنْ) كِلَا (الصِّنْفَيْنِ) أَيْ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ امْرَأَةٍ (بُعْدَى وَ) رَجُلٍ (أَبْعَدِ) أَيْ كَوْنُهُمَا أَجْنَبِيَّيْنِ. فَظَاهِرُ نِظَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الشَّابَّ لَا يُسَلِّمُ وَلَا يُشَمِّتُ الْمَرْأَةَ وَإِنْ عَجُوزًا، وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ فِي الْعَجُوزِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَتَشْمِيتُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَالرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ الْعَجُوزَ الْبَرْزَةَ وَلَا يُشَمِّتُ الْأَجْنَبِيَّةَ الشَّابَّةَ وَلَا تُشَمِّتْهُ. وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ: وَيُكْرَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ عَجُوزًا أَوْ بَرْزَةً. انْتَهَى. فَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ فِي التَّشْمِيتِ اعْتِبَارُ كَوْنِهَا عَجُوزًا بَرْزَةً وَفِي السَّلَامِ الِاكْتِفَاءُ بِأَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ. نَعَمْ قَالَ فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عَجُوزًا أَيْ غَيْرَ حَسْنَاءَ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي حُضُورِهَا الْجَمَاعَةَ. وَفِي قَوْلِهِ أَوْ إلَّا أَنْ تَكُونَ بَرْزَةً أَيْ فَلَا يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَيْهَا وَالْمُرَادُ لَا تُشْتَهَى لِأَمْنِ الْفِتْنَةِ انْتَهَى. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْغَايَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: لَا يُشَمِّتُ الرَّجُلُ الشَّابَّةَ وَلَا تُشَمِّتُهُ. وَفِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: لِلرَّجُلِ أَنْ يُشَمِّتَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً، وَقِيلَ عَجُوزًا أَوْ شَابَّةً بَرْزَةً وَلَا تُشَمِّتُهُ هِيَ. وَقِيلَ وَلَا يُشَمِّتُهَا. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: رَوَيْنَا عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعُبَّادِ فَعَطَسَتْ امْرَأَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدُ، فَقَالَ لَهَا الْعَابِدُ يَرْحَمُكِ اللَّهُ، فَقَالَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَابِدٌ جَاهِلٌ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ لَا يُشَمِّتُ الرَّجُلُ امْرَأَةً مُطْلَقًا. وَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الشَّابَّةَ لَا تُسَلِّمُ عَلَى الرَّجُلِ وَلَا تُشَمِّتُهُ وَإِنْ كَانَ شَيْخًا. وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ يُوَافِقُهُ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ أَجْنَبِيَّةٍ لَمْ يُكْرَهْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. مَطْلَبٌ: فِي النَّظَرِ إلَى الْأَمْرَدِ: وَيَحْرُمُ رَأْيُ الْمُرْدِ مَعَ شَهْوَةٍ فَقَطْ ... وَقِيلَ وَمَعْ خَوْفٍ وَلِلْكُرْهِ جَوِّدْ (وَيَحْرُمُ رَأْيُ) أَيْ النَّظَرُ فِي الْأَحْدَاثِ (الْمُرْدُ) جَمْعُ أَمْرَدَ وَهُوَ مَنْ لَمْ تَنْبُتْ لِحْيَتُهُ لِصِغَرِهِ بِأَنْ لَمْ يَأْتِ أَوَانُ نَبَاتِهَا لَا مَنْ فَاتَ أَوَانُ نَبَاتِهَا وَأَيِسَ مِنْهُ فَيُسَمَّى ثُظَا بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ لَا أَمْرَدَ. وَإِنَّمَا تَحْرُمُ رُؤْيَتُهُمْ (مَعَ شَهْوَةٍ) إلَيْهِمْ كَمَا فِي غَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَدِ وَذِي اللِّحْيَةِ وَالْبَهِيمَةِ وَإِنَّمَا قَصَدَ النَّاظِمُ التَّنْبِيهَ عَلَى عَدَمِ حُرْمَةِ النَّظَرِ إلَى الْأَمْرَدِ بِلَا شَهْوَةٍ كَمَا هُوَ رَأْيُ النَّوَوِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ عُلَمَائِنَا. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: مَنْ كَرَّرَ النَّظَرَ إلَى الْأَمْرَدِ الْجَمِيلِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَشْتَهِي فَقَدْ كَذَبَ. فَلِذَا قَالَ (فَقَطْ) أَيْ لَا بِدُونِ شَهْوَةٍ (وَقِيلَ) يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِمْ بِشَهْوَةٍ (وَمَعَ خَوْفٍ) لِلشَّهْوَةِ وَالْفِتْنَةِ بِهِ لِأَنَّ مَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْحُرْمَةِ. نَعَمْ يُكْرَهُ ذَلِكَ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَلِلْكُرْهِ) أَيْ الْكَرَاهَةِ (جَوِّدْ) أَيْ قُلْ هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فِقْهٌ جَيِّدٌ لِخَوْفِ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْذُورِ، وَلَا تَقُلْ حَرَامٌ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ، فَهُوَ كَدُخُولِ الْحَمَّامِ مَعَ خَوْفِ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ، فَإِنْ عَلِمَ حَرُمَ فِيمَا يَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ عَلَى السَّلَامِ وَلَوَاحِقِهِ الَّتِي آخِرُهَا مُصَافَحَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ وَتَشْمِيتُهَا أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَمُتَعَلِّقَاتِ ذَلِكَ فَقَالَ مَطْلَبٌ: فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَكُنْ وَاصِلَ الْأَرْحَامِ حَتَّى لِكَاشِحٍ ... تُوَفَّرْ فِي عُمْرٍ وَرِزْقٍ وَتَسْعَدْ (وَكُنْ) أَنْتَ وَهُوَ خِطَابٌ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْخِطَابُ، مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ، الَّذِينَ لَهُمْ تَمَامُ الِاقْتِدَاءِ بِنَبِيِّ الْهُدَى وَالْأَصْحَابِ (وَاصِلَ الْأَرْحَامِ) جَمْعُ رَحِمٍ وَهُوَ الْقَرَابَةُ وَالصِّلَةُ ضِدُّ الْقَطِيعَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] أَيْ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا. وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 21] يَعْنِي مِنْ الرَّحِمِ وَغَيْرِهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ؛ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ خَثْعَمَ قَالَ «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ؟ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقُلْت أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ، قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ. قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ ثُمَّ صِلَةُ الرَّحِمِ. قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَبْغَضُ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ. قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَهْ؟ قُلْ ثُمَّ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ. قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ الْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَعْرُوفِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِذِمَامِهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ، قَالَ فَكَفَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ثُمَّ قَالَ لَقَدْ وُفِّقَ أَوْ لَقَدْ هُدِيَ. قَالَ كَيْفَ قُلْت؟ قَالَ فَأَعَادَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ. دَعْ النَّاقَةَ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَتَصِلُ ذَا رَحِمِك فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ تَمَسَّكَ بِمَا أَمَرْتُهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» . وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الرَّحِمُ» ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ «فَأَخَذَتْ بِحَقْوَيْ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ مَهْ، فَقَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِك مِنْ الْقَطِيعَةِ. قَالَ نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَك وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَك؟ قَالَتْ بَلَى، فَقَالَ فَذَلِكَ لَك. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] » قَوْلُهُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوَيْ الرَّحْمَنِ، قِيلَ مَعْنَاهُ الِاسْتِجَارَةُ وَالِاعْتِصَامُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُقَالُ عُذْتُ بِحَقْوِ فُلَانٍ إذَا اسْتَجَرْت بِهِ، وَقِيلَ الْحَقْوُ الْإِزَارُ وَإِزَارُهُ عِزُّهُ، فَلَاذَتْ الرَّحِمُ بِعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْقَطِيعَةِ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَرْعِي فِي أَقَاوِيلِ الثِّقَاتِ: الْحَقْوُ هُوَ مَا تَحْتَ الْخَاصِرَةِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِزَارِ. قَالَ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ حَمَلَ الْحَقْوَ عَلَى ظَاهِرِ مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ اللِّيَاذُ وَالِاعْتِصَامُ، وَتَمْثِيلًا لَهُ بِفِعْلِ مَنْ اعْتَصَمَ بِحَبْلِ ذِي عِزَّةٍ وَاسْتَجَارَ بِذِي مَلَكَةٍ وَقُدْرَةٍ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّهَا اسْتَجَارَتْ وَاعْتَصَمَتْ بِاَللَّهِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ تَعَلَّقْت بِظِلِّ جَنَاحِهِ أَيْ اعْتَصَمْت بِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوَيْ الرَّحْمَنِ مَعْنَاهُ فَاسْتَجَارَتْ بِكَنَفَيْ رَحْمَتِهِ. وَالْأَصْلُ فِي الْحَقْوِ مَعْقِدُ الْإِزَارِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْتَجِيرِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِحَقْوَيْ الْمُسْتَجَارِ بِهِ وَهُمَا جَانِبَاهُ الْأَيْمَنُ وَالْأَيْسَرُ اُسْتُعِيرَ الْأَخْذُ بِالْحَقْوِ فِي اللِّيَاذِ بِالشَّيْءِ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الرَّحِمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ تَقُولُ يَا رَبِّ إنِّي قُطِعْت، يَا رَبِّ إنِّي أُسِيءَ إلَيَّ، يَا رَبِّ إنِّي ظُلِمْتُ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ، فَيُجِيبُهَا أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَك وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَالْبَزَّارُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنَّ هَذِهِ الرَّحِمَ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنْ قَطَعَهَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» قَوْلُهُ «شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي قَرَابَةٌ مُشْتَبِكَةٌ كَاشْتِبَاكِ الْعُرُوقِ، وَمِنْهَا لُغَتَانِ كَسْرُ الشِّينِ وَضَمُّهَا وَإِسْكَانُ الْجِيمِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّازُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الرَّحِمُ حَجَنَةٌ مُتَمَسِّكَةٌ بِالْعَرْشِ تَكَلَّمُ بِلِسَانٍ ذَلِقٍ اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَإِنِّي شَقَقْت الرَّحِمَ مِنْ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ بَتَكَهَا بَتَكْتُهُ» قَوْلُهُ حَجَنَةٌ هِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ صِنَّارَةُ الْمِغْزَلِ، وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الْعَقْفَاءُ الَّتِي يُعَلَّقُ بِهَا الْخَيْطُ ثُمَّ يُفْتَلُ الْغَزْلُ. وَقَوْلُهُ بِلِسَانٍ ذَلِقٍ. الذَّلِقُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ كَفَرِحَ وَنَصَرَ وَكَرُمَ أَيْ حَدِيدٌ بَلِيغٌ بَيْنَ الذَّلَاقَةِ، وَلِسَانٌ ذَلِقٌ: طَلْقٌ. وَقَوْلُهُ «مَنْ بَتَكَهَا بَتَكْتُهُ» أَيْ مَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ. قَوْلُ النَّاظِمِ (حَتَّى لِكَاشِحٍ) حَتَّى حَرْفٌ لِلْغَايَةِ وَالتَّدْرِيجِ أَمَّا الْغَايَةُ فَبِأَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فِي زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ يَنْقَطِعُ الْحُكْمُ عِنْدَهَا، وَأَمَّا التَّدْرِيجُ فَبِأَنْ يَنْقَضِيَ مَا قَبْلَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْغَايَةَ، وَلِذَا اُعْتُبِرَ فِي الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا مِمَّا قَبْلَهَا كَمَا فِي قَوْلِ النَّاظِمِ حَتَّى لِكَاشِحٍ، فَإِنَّ ذَا الرَّحِمِ الْكَاشِحِ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، إذْ عَدَاوَتُهُ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ أَوْ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْبَعْضِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلْقَى الصَّحِيفَةَ كَيْ يُخَفِّفَ رَحْلَهُ ... وَالزَّادَ حَتَّى نَعْلَهُ أَلْقَاهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ أَلْقَى مَا يُثْقِلُهُ حَتَّى انْتَهَى الْإِلْقَاءُ إلَى نَعْلِهِ. فَالْمُرَادُ الْحَثُّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ حَتَّى عَلَى الْكَاشِحِ وَهُوَ الَّذِي يُضْمِرُ عَدَاوَتَهُ فِي كَشْحِهِ وَهُوَ خَصْرُهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ كُلْثُومَ بِنْتِ عُقْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَفْضَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» يَعْنِي أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمُضْمِرِ الْعَدَاوَةَ فِي بَاطِنِهِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَك» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذْت بِيَدِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ، فَقَالَ يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَك، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. وَفِي لَفْظٍ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا أَدُلُّك عَنْ أَكْرَمِ أَخْلَاقِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك، وَأَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك» . وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ أَفْضَلَ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك، وَتَصْفَحَ عَمَّنْ شَتَمَك» . وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا بِلَفْظٍ «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ تَحْلُمُ عَلَى مَنْ جَهِلَ عَلَيْك، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَك، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَك» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا بِلَفْظِ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُشَرِّفُ اللَّهُ بِهِ الْبُنْيَانَ وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ» فَذَكَرَهُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ. فَإِنْ عَلِمْتَهَا وَعَمِلْت بِمُوجِبِهَا (تُوَفَّرُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ يُوَفِّرُك اللَّهُ تَعَالَى. وَالتَّوْفِيرُ بِالْفَاءِ التَّكْثِيرُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَفَّرَهُ تَوْفِيرًا أَكْثَرَهُ كَوَفَرَ لَهُ وَفْرًا وَوَفَّرَهُ تَوْفِيرًا أَكْمَلَهُ وَجَعَلَهُ وَافِرًا وَالْوَفْرُ الْغَنِيُّ وَمِنْ الْمَالِ وَالْمَتَاعِ الْكَثِيرُ الْوَاسِعُ وَالْعَامُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَلِذَا قَالَ (فِي عُمْرٍ) يَعْنِي يَبْسُطُ لَك فِي عُمُرِكَ وَيُنَسَّأُ لَك فِي أَجَلِك (وَرِزْقٍ) وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يَسُوقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْحَيَوَانِ فَيَأْكُلُهُ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ الْحَرَامَ لَيْسَ بِرِزْقٍ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ طُولَ عُمْرُهُ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ رَازِقَهُ، مَعَ أَنَّهُ لَا رَازِقَ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عَلَى أَكْلِ الْحَرَامِ لِسُوءِ مُبَاشَرَةِ أَسْبَابِهِ بِاخْتِيَارِهِ (وَتَسْعَدْ) مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ، يُقَالُ سَعِدَ كَعَلِمَ فَهُوَ سَعِيدٌ، وَأَسْعَدَهُ اللَّهُ فَهُوَ مَسْعُودٌ، وَلَا يُقَالُ مُسْعَدٌ، وَأَسْعَدَهُ أَعَانَهُ، وَلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ أَيْ إسْعَادًا بَعْدَ إسْعَادٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةٍ إقْنَاعُهُ: سَعِدَ فُلَانٌ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا يَسْعَدُ سَعْدًا مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَالْفَاعِلُ سَعِيدٌ وَالْجَمْعُ سُعَدَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وَالسَّعَادَةُ اسْمٌ مِنْهُ. انْتَهَى. وَالسَّعَادَةُ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْجَامِعَةِ لِلْخَيْرَاتِ، الْمُشْعِرَةِ فِي الدُّنْيَا بِالسَّعَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِعُلُوِّ الدَّرَجَاتِ. وَإِنَّمَا وَصَفَ النَّاظِمُ وَاصِلَ الرَّحِمِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَخَصَّهُ بِهَذِهِ الْمَزَايَا، لِعِدَّةِ أَخْبَارٍ نَبَوِيَّةٍ صَحَّتْ عَنْ خَيْرِ الْبَرَايَا. فَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنَسَّأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . قَوْلُهُ «يُنَسَّأَ» بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتٍ وَتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَهْمُوزًا أَيْ يُؤَخَّرُ لَهُ فِي أَجَلِهِ. وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنَسَّأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ» وَمَعْنَى مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ يَعْنِي بِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْعُمْرِ. وَمَعْنَى مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ يَعْنِي بِهِ الزِّيَادَةَ فِي الْمَالِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِهِ وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَيُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةُ السُّوءِ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَادَ فِي عُمْرِهِ وَيُزَادَ فِي رِزْقِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ لَيُعَمِّرُ بِالْقَوْمِ الدِّيَارَ، وَيُثْمِرُ لَهُمْ الْأَمْوَالَ وَمَا نَظَرَ إلَيْهِمْ مُنْذُ خَلَقَهُمْ بُغْضًا لَهُمْ. قِيلَ وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ بِصِلَتِهِمْ أَرْحَامَهُمْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الرَّجُلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إلَّا الْبِرُّ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «صِلَةُ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَوْصَانِي خَلِيلِي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِصَالٍ مِنْ الْخَيْرِ، أَوْصَانِي أَنْ لَا أَنْظُرَ إلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَنْ أَنْظُرَ إلَى مَنْ هُوَ دُونِي، وَأَوْصَانِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي، وَإِنْ أَدْبَرْت، وَأَوْصَانِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا. وَأَوْصَانِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ، الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَرَّ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. (تَنْبِيهَاتٌ) (الْأَوَّلُ) : صِلَةُ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآدَابِ وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ. وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لِوَالِدَيْهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يَصِلَ رَحِمَهُ، وَعَلَيْهِ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّصِيحَةُ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى عَلَيْهِ صِلَةُ رَحِمِهِ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ: يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ صِلَةُ رَحِمِهِ لِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْقُرْآنُ يُحَاجُّ الْعِبَادَ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَالْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ تُنَادِي أَلَا مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» . قَالَ الْحَجَّاوِيُّ: وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنْ الْكَبَائِرِ. انْتَهَى. وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْبَلْبَانِيُّ فِي آدَابِهِ: اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ تَصِلَ بَقِيَّةَ رَحِمِكَ وَهُمْ كُلُّ قَرَابَةٍ لَك مِنْ النَّسَبِ، فَصِلَتُهُمْ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْك، وَقَطِيعَتُهُمْ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْك تَحْرِيمًا مُؤَكَّدًا، فَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى: وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَرْحَامَ بِاسْمِهِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى أَنَّ صِلَتَهَا بِمَكَانٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَمُقَرِّبٌ إلَيْهِ، وَقَطْعُهَا خَطَرٌ عَظِيمٌ عِنْدَهُ، وَمُبْعِدٌ عَنْهُ سُبْحَانَهُ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: أَدْخَلْت عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ الثَّغْرِ، فَقَالَ لِي قَرَابَةٌ بِالْمَرَاغَةِ فَتَرَى لِي أَنْ أَرْجِعَ إلَى الثَّغْرِ أَوْ تَرَى أَنْ أَذْهَبَ فَأُسَلِّمَ عَلَى قَرَابَتِي وَإِنَّمَا جِئْت قَاصِدًا لِأَسْأَلَك، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قَدْ رُوِيَ: «بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ» اسْتَخِرْ اللَّهَ وَاذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ قَدْ تَوَاعَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَطْعِ الْأَرْحَامِ بِاللَّعْنِ وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ ذَوِي الرَّحِمِ الَّذِينَ يَجِبُ صِلَتُهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُرِدْ صِلَةَ كُلِّ رَحِمٍ وَقَرَابَةٍ، إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوَجَبَ صِلَةُ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ضَبْطِ ذَلِكَ بِقَرَابَةٍ تَجِبُ صِلَتُهَا وَإِكْرَامُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا، وَتِلْكَ قَرَابَةُ الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَأُخْتِهَا فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ الْكُبْرَى: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَنَّهُ لَا تَجِبُ إلَّا صِلَةُ الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ اخْتَارَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: تَجِبُ صِلَةُ الرَّحِمِ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ لَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْخَطَّابِ لَا يَكْفِي فِي صِلَةِ الرَّحِمِ مُجَرَّدُ السَّلَامِ. وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ظَاهِرُهُ الِاكْتِفَاءُ. قَالَ مُثَنَّى: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْقَرَابَةُ مِنْ النِّسَاءِ فَلَا يَقُومُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَيُّ شَيْءٍ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ بِرِّهِمْ وَفِي كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَهُمْ؟ قَالَ اللُّطْفُ وَالسَّلَامُ. وَفِي الْحَدِيثِ «بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ لَهُ إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ بِأَرْضِ غَصْبٍ تَرَى أَنْ يَزُورَهُمْ؟ قَالَ نَعَمْ يَزُورُهُمْ وَيُرَاوِدُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، فَإِنْ أَجَابُوا إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يُقِمْ مَعَهُمْ وَلَا يَدَعُ زِيَارَتَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الثَّانِي) : الرَّحِمُ بِوَزْنِ كَتِفٍ وَفِيهِ اللُّغَاتُ الْأَرْبَعُ فِي الْفَخِذِ، وَهِيَ فَتْحُ الرَّاءِ وَكَسْرُ الْحَاءِ وَكَسْرُ الرَّاءِ بِوَزْنِ إبِلٍ وَيَجُوزُ إسْكَانُ الْحَاءِ مَعَ فَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا قَالَ ابْنُ سِيدَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: وَهَذِهِ اللُّغَاتُ الْأَرْبَعَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ ثُلَاثِيٍّ عَيْنُهُ حَرْفُ حَلْقٍ مَكْسُورٍ كَشَهِدَ لَا فِيمَا لَامُهُ حَرْفُ حَلْقٍ كَبَلَغَ أَوْ كَانَ حَرْفَ الْحَلْقِ فَاؤُهُ كَحَرَفَ. قَالَ ابْنُ عَبَّادٍ: وَهُوَ بَيْتُ مَنْبَتِ الْوَلَدِ وَوِعَاؤُهُ فِي الْبَطْنِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ رَحِمُ الْأُنْثَى وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَالرَّحِمُ الْقَرَابَةُ قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: يُقَالُ رَحِمَ وَرَحُمَ وَهِيَ مَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي وَهِيَ النَّسَبُ وَالِاتِّصَالُ الَّذِي يَجْمَعُ رَحِمَ وَالِدِهِ فَسُمِّيَ الْمَعْنَى بِاسْمِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ، وَاسْتِعَارَةً جَارِيَةً فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، لِيَفْهَمَ الْخَلْقُ عَظِيمَ حَقِّهَا، وَوُجُوبَ صِلَةِ الْمُتَّصِفِينَ بِهَا، وَعَظِيمَ الْإِثْمِ فِي قَطْعِهَا، وَبِذَلِكَ سُمِّيَ قَطِيعًا لِأَنَّهُ قَطَعَ تِلْكَ الصِّلَةَ. انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ: الرَّحِمُ بِالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ بَيْتِ مَنْبَتِ الْوَلَدِ وَوِعَاؤُهُ وَالْقَرَابَةُ أَوْ أَصْلُهَا وَأَسْبَابُهَا جَمْعُهَا أَرْحَامٌ. انْتَهَى. قَالَ فِي الْمَطْلَعِ يُطْلَقُ ذُو الرَّحِمِ عَلَى كُلِّ قَرَابَةٍ وَعَلَى مَنْ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ انْتَهَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: قَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنْ الْكَبَائِرِ (الثَّالِثُ) : قَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَقَدْ ذَكَرَهَا الْحَجَّاوِيُّ فِي مَنْظُومَتِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْكَبَائِرِ الْوَاقِعَةِ فِي إقْنَاعِهِ، وَقَدْ شَرَحْتُهَا شَرْحًا لَطِيفَ الْحَجْمِ، غَزِيرَ الْفَوَائِدِ وَالْعِلْمِ. قَالَ فِيهَا: وَأَمْنٌ لِمَكْرِ اللَّهِ ثُمَّ قَطِيعَةٌ ... لِذِي رَحِمٍ وَالْكِبْرَ وَالْخُيَلَا اُعْدُدْ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الْبَلْبَانِيِّ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ» . وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ جَالِسًا بَعْدَ الصُّبْحِ فِي حَلْقَةٍ فَقَالَ " أَنْشُدُ اللَّهَ قَاطِعَ رَحِمٍ لَمَّا قَامَ عَنَّا فَإِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَدْعُوَ رَبَّنَا وَإِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ مُرْتَجَةٌ دُونَ قَاطِعِ رَحِمٍ. وَالْمُرْتَجَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ الْمُغْلَقَةِ. وَوَرَدَ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ أَنَّ الرَّحْمَةَ لَا تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ يُسَاعِدُونَهُ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّحْمَةِ الْمَطَرُ، وَأَنَّهُ يُحْبَسُ عَنْ النَّاسِ عُمُومًا بِشُؤْمِ التَّقَاطُعِ. انْتَهَى. قُلْت: وَظَاهِرُ صَنِيعِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى رَحْمَةٍ أَخَصَّ مِنْ الْمَطَرِ، وَعَلَى عُمُومِ مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي فِيهِ قَاطِعُ رَحِمٍ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ. (الرَّابِعُ) : تَقَدَّمَ كَلَامُ أَبِي الْخَطَّابِ وَنَصَّ الْإِمَامُ فِي الِاكْتِفَاءِ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ بِالسَّلَامِ وَعَدَمِهِ. وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْبَلْبَانِيُّ فِي آدَابِهِ مَا نَصُّهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ مُوَالَاتُهُمْ وَمَحَبَّتُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَجْلِ قَرَابَتِهِمْ، وَتَأْكِيدُ الْمُبَادَرَةِ إلَى صُلْحِهِمْ عِنْدَ عَدَاوَتِهِمْ، وَالِاجْتِهَادُ فِي إيصَالِهِمْ كِفَايَتَهُمْ بِطِيبِ نَفْسٍ عِنْدَ فَقْرِهِمْ، وَالْإِسْرَاعُ إلَى مُسَاعَدَتِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ، وَمُرَاعَاةُ جَبْرِ خَاطِرِهِمْ مَعَ التَّعَطُّفِ وَالتَّلَطُّفِ بِهِمْ، وَتَقْدِيمُهُمْ فِي إجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ، وَالتَّوَاضُعُ مَعَهُمْ فِي غِنَاهُ وَفَقْرِهِمْ وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِمْ، وَمُدَاوَمَةُ مَوَدَّتِهِمْ وَنُصْحُهُمْ فِي كُلِّ شُؤُونِهِمْ، وَالْبُدَاءَةُ بِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ وَالضِّيَافَةِ قَبْلَ غَيْرِهِمْ، وَإِيثَارُهُمْ فِي الْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ وَفِي مَعْنَاهَا الْهَدِيَّةُ وَنَحْوُهَا. وَيَتَأَكَّدُ فِعْلُ ذَلِكَ مَعَ الرَّحِمِ الْكَاشِحِ الْمُبْغِضِ عَسَاهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ بُغْضِهِ إلَى مَوَدَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 قَرِيبِهِ وَمَحَبَّتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» . انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ أَكْثَرُهُ مَنْدُوبٌ كَمَا يُعْلَمُ. وَفِي النِّهَايَةِ قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ صِلَةُ الرَّحِمِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْأَقْرَبِينَ مِنْ ذَوِي النَّسَبِ وَالْأَصْهَارِ، وَالتَّعَطُّفُ عَلَيْهِمْ، وَالرِّفْقُ بِهِمْ، وَالرِّعَايَةُ لِأَحْوَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ بَعُدُوا وَأَسَاءُوا. وَقَطْعُ الرَّحِمِ ضِدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ. يُقَالُ وَصَلَ رَحِمَهُ يَصِلُهَا وَصْلًا وَصِلَةً، وَالْهَاءُ فِيهَا عِوَضٌ مِنْ الْوَاوِ الْمَحْذُوفَةِ، فَكَأَنَّهُ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ قَدْ وَصَلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَلَاقَةِ الْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ. انْتَهَى. وَفِي الْفَتْحِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرَّحِمُ الَّتِي تُوصَلُ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَالْعَامَّةُ رَحِمُ الدِّينِ وَتَجِبُ مُوَاصَلَتُهَا بِالتَّوَادِّ وَالتَّنَاصُحِ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ. وَأَمَّا الرَّحِمُ الْخَاصَّةُ فَتَزَيُّدُ النَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ، وَتَفَقُّدُ أَحْوَالِهِمْ، وَالتَّغَافُلُ عَنْ زَلَّاتِهِمْ، وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ اسْتِحْقَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ وَالْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ: تَكُونُ صِلَةُ الرَّحِمِ بِالْمَالِ، وَبِالْعَوْنِ عَلَى الْحَاجَةِ، وَبِدَفْعِ الضَّرَرِ وَبِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَبِالدُّعَاءِ. وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ إيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِنْ الْخَيْرِ، وَدَفْعُ مَا أَمْكَنَ مِنْ الشَّرِّ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَمِرُّ إذَا كَانَ أَهْلُ الرَّحِمِ أَهْلَ اسْتِقَامَةٍ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ فُجَّارًا فَمُقَاطَعَتُهُمْ فِي اللَّهِ هِيَ صِلَتُهُمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجَهْدِ فِي وَعْظِهِمْ ثُمَّ إعْلَامُهُمْ إذَا أَصَرُّوا بِأَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ الْحَقِّ، وَلَا يَسْقُطُ مَعَ ذَلِكَ صِلَتُهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِظَهْرِ الْغَيْبِ أَنْ يَعُودُوا إلَى الطَّرِيقِ الْمُثْلَى. انْتَهَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (الْخَامِسُ) : الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرْنَا مَعَ الرَّحِمِ الْمُوَافِقِ فِي الدِّينِ. أَمَّا إذَا كَانَ الشَّخْصُ مُسْلِمًا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَا يُوَالِهِمْ وَلَا يُوَادُّهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ. ذَكَرَهُ الْبَلْبَانِيُّ، وَفِيهِ نَظَرٌ إلَّا أَنْ حُمِلَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ. وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَيَأْتِي فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ «جَاءَتْنِي أُمِّي مُشْرِكَةً فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصِلُهَا قَالَ نَعَمْ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ «أَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] إلَى آخِرِ الْآيَةِ. فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا» . قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ طَيَّبَ اللَّهُ مَثْوَاهُ: وَهَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةٌ فِي صِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يَنْصِبُوا الْحَرْبَ لِلْمُسْلِمِينَ وَجَوَازُ بِرِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَالَاةُ مُنْقَطِعَةً. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ نَسْخُهَا وَاَلَّتِي بَعْدَهَا بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ بِرَّ الْمُؤْمِنِ الْمُحَارِبِينَ قَرَابَةً كَانُوا أَوْ غَيْرَ قَرَابَةٍ لَا يَحْرُمُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعُونَةٌ وَتَقْوِيَةٌ عَلَى الْحَرْبِ بِكُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى عَوْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ، وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهْدَى حُلَّةَ الْحَرِيرِ لِأَخِيهِ الْمُشْرِكِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ: وَفِيهِ جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ. فَفِي كَلَامِ الْبَلْبَانِيِّ إجْمَالٌ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ مُوَالَاتِهِمْ مِمَّا فِيهِ تَقْوِيَةٌ عَلَى حَرْبِنَا دُونَ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: فِي جَوَابِ الْعُلَمَاءِ عَنْ كَيْفِيَّةِ بَسْطِ الرِّزْقِ وَتَأْخِيرِ الْأَجَلِ (فَوَائِدُ) : (الْأُولَى) : تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَبْسُطُ الرِّزْقَ وَتَنْسَأُ فِي الْأَجَلِ، قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: بَسْطُ الرِّزْقِ بِتَوْسِيعِهِ وَكَثْرَتِهِ وَقِيلَ بِالْبَرَكَةِ فِيهِ، وَأَمَّا التَّأْخِيرُ فِي الْأَجَلِ فَفِيهِ سُؤَالٌ مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّ الْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ مُقَدَّرَةٌ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا وَهُوَ أَصَحُّهَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِالْبَرَكَةِ فِي عُمْرِهِ وَالتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَاتِ، وَعِمَارَةِ أَوْقَاتِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ وَصِيَانَتِهَا عَنْ الضَّيَاعِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنَحْوِهِ، فَيَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ عُمْرَهُ سِتُّونَ سَنَةً مَثَلًا إلَى أَنْ يَصِلَ رَحِمَهُ، فَإِنْ وَصَلَهَا يُزَادُ لَهُ أَرْبَعُونَ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا سَيَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا سَبَقَ بِهِ قَدَرُهُ فَلَا زِيَادَةَ بَلْ هِيَ مُسْتَحِيلَةٌ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ظَهَرَ لِلْمَخْلُوقِينَ فَتَنْعَقِدُ الزِّيَادَةُ وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ. انْتَهَى. . (الثَّانِيَةُ) : يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى صِلَةِ ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ وَأَنْ يَدْفَعَ مَا عِنْدَهُ مِنْ الضِّغْنِ وَالْبَغْضَاءِ. بِالْإِحْسَانِ وَالْإِعْطَاءِ، وَأَنْ يَقْتُلَ شَيْطَانَ حِقْدِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وَحَسَدِهِ، بِسِهَامِ بِرِّهِ وَمُوَالَاتِهِ وَتَفَقُّدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] فَكَيْفَ بِالْحَمِيمِ الَّذِي هُوَ الْقَرِيبُ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ وَيُسِيئُونَ، وَأَغْفِرُ وَيَظْلِمُونَ أَفَأُكَافِئُهُمْ؟ فَقَالَ لَا إذَنْ تَكُونُوا جَمِيعًا وَلَكِنْ خُذْ الْفَضْلَ وَصِلْهُمْ فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ ظَهِيرٌ مِنْ اللَّهِ مَا كُنْت عَلَى ذَلِكَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَلَيْهِمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ إنْ كُنْت كَمَا قُلْت فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْت عَلَى ذَلِكَ» . قَوْلُهُ الْمَلَّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْمَلَّةُ هُوَ الرَّمَادُ الْحَارُّ، يَعْنِي كَأَنَّك تُسْفِي فِي وُجُوهِهِمْ الرَّمَادَ الْحَارَّ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَلَّةُ التُّرْبَةُ الْمُحْمَاةُ تُدْفَنُ فِيهَا الْخُبْزَةُ. وَقَالَ الْقَبْتِيُّ: الْمَلُّ الْجَمْرُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَرَادَ إنَّمَا تَجْعَلُ الْمَلَّ لَهُمْ سَفُوفًا يَسْتَفُّونَهُ يَعْنِي أَنَّ إعْطَاءَك إيَّاهُمْ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ وَنَارٌ فِي بُطُونِهِمْ. انْتَهَى. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْإِحْسَانُ وَالْمَوَدَّةُ يَقْلِبَانِ الْعَدَاوَةَ صَدَقَةً بِلَا مُحَالٍ. وَمَا أَحْسَنُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ الْعَبَّاسِيِّ فِي تَائِيَّتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا: أَلَا عَلِّلَانِي قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْتُ ... وَيُبْنَى لِجُسْمَانِي بِدَارِ الْبِلَى بَيْتُ أَلَا عَلِّلَانِي كَمْ حَبِيبٍ تَعَذَّرَتْ ... مَوَدَّتُهُ عَنْ وَصْلِهِ قَدْ تَسَلَّيْت أَلَا رُبَّ دَسَّاسٍ لِي الْكَيْدَ حَامِلٍ ... ضَبَابَ الْحَقُودِ قَدْ عَرَفْت وَدَاوَيْت فَعَادَ صَدِيقًا بَعْدَ مَا كَانَ شَانِيًا ... بَعِيدَ الرِّضَى عَنِّي فَصَافَى وَصَافَيْت أَلَا عَلِّلَانِي لَيْسَ سَعْيٌ بِمُدْرَكٍ ... وَلَا بِوُقُوفِي بِاَلَّذِي حَظَّنِي فَوْتُ فَأَهْلَكَنِي مَا أَهْلَكَ النَّاسَ كُلَّهُمْ ... صُرُوفُ الْمُنَى وَالْحِرْصُ وَاللَّوُّ وَاللَّيْتُ وَعَرَّفَنِي رَبِّي طَرِيقَ سَلَامَتِي ... وَبَصَّرَنِي لَكِنَّنِي قَدْ تَعَامَيْت إلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْ عَجَبِ الْأَيَّامِ بَغْيُ مَعَاشِرَ ... غِضَابٍ عَلَى سَبْقِي إذَا أَنَا جَارَيْت لَهُمْ رَحِمٌ دُنْيَا وَهُمْ يُبْعِدُونَهَا ... إذَا أَنْهَكُوهَا بِالْقَطِيعَةِ أَبْقَيْت يَصُدُّونَ عَنْ شُكْرِي وَتُهْجَرُ سُنَّتِي ... عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ مِثْلِ مَا يُهْجَرُ الْمَيْتُ فَذَلِكَ دَأْبُ الْبِرِّ مِنِّي وَدَأْبُهُمْ ... إذَا قَتَلُوا نُعْمَايَ بِالْكُفْرِ أَحْيَيْت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وَأَعِي احْتِيَالِي مَا بِهِمْ فَرَمَيْتُهُمْ ... وَرَائِي وَمَا أُنْسِيتُهُمْ بَلْ تَنَاسَيْت يَغِيظُهُمْ فَضْلِي عَلَيْهِمْ وَجَهْلُهُمْ ... كَأَنِّي قَسَمْت الْحُظُوظَ فَحَابَيْت وَكَمْ كُرْبَةٍ أَخَّاذَةٍ بِحُلُوقِهِمْ ... مُعَمَّمَةِ الْبَلْوَى كَشَفْت وَجَلَّيْت وَهَذِهِ الْقَصِيدَةُ غَزِيرَةُ الْفَوَائِدِ فَرِيدَةُ الْعَوَائِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّالِثَةُ) حَكَى صَاحِبُ الزَّوَاجِرِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّ رَجُلًا حَجَّ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَطْلُعَ إلَى الْجَبَلِ أَوْدَعَ رَجُلًا مَوْسُومًا بِالْأَمَانَةِ مَالًا لَهُ خَطَرٌ، فَلَمَّا رَجَعَ لَقِيَ الرَّجُلَ انْتَقَلَ بِالْوَفَاةِ فَسَأَلَ وَرَثَتَهُ عَنْ مَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَسَأَلَ الْعُلَمَاءَ عَنْ قَضِيَّتِهِ فَدَلَّهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ بِأَنَّهُ يَأْتِي زَمْزَمَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَيُنَادِي الرَّجُلَ بِاسْمِهِ فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ فَسَيُجِيبُهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ لَيَالِي فَلَمْ يُجِبْهُ فَرَجَعَ إلَى الْعَارِفِ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ لَعَلَّ الرَّجُلَ ذَهَبَ بِهِ ذَاتَ الشِّمَالِ فَاذْهَبْ إلَى الْيَمَنِ فَأْتِ بِئْرًا فِي وَادِي بَرَهُوتَ فَنَادِ صَاحِبَك، فَذَهَبَ الرَّجُلُ إلَى الْيَمَنِ وَقَصَدَ الْبِئْرَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَنَادَى يَا فُلَانُ فَأَجَابَهُ، فَقَالَ لَهُ أَيْنَ الْأَمَانَةُ فَوَصَفَهَا لَهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ مَا الَّذِي صَيَّرَك إلَى هُنَا مَعَ اشْتِهَارِك بِالْأَمَانَةِ وَالْخَيْرِ؟ فَقَالَ لَهُ أُخْتٌ كَانَ قَاطِعًا لَهَا وَتَوَسَّلَ إلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِهَا، فَلَمَّا رَجَعَ دَعَا أَوْلَادَ الرَّجُلِ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَحْفِرُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ فَوَجَدَ مَالَهُ بِخَتْمِهِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَوْلَادَهُ بِمَا صَارَ إلَيْهِ وَالِدُهُمْ وَبِمَا قَالَ لَهُ. فَقَالُوا أَنْتَ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ، فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يُدِلُّوهُ عَلَى عَمَّتِهِمْ فَوَجَدَهَا تَتَكَفَّفُ النَّاسَ، فَذَهَبَ إلَيْهَا وَرَجَعَ أَوْلَادُ أَخِيهَا فَسَأَلَهَا عَنْ حَالِ أَخِيهَا فَنَالَتْ مِنْهُ وَقَالَتْ لَا تَذْكُرُهُ لِي، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا إلَى أَنْ سَامَحَتْهُ وَدَفَعَ إلَيْهَا مَالًا لَهُ خَطَرٌ، فَطَابَتْ نَفْسُهَا، فَذَكَرَ لَهَا الْقِصَّةَ فَرَّقَتْ لِأَخِيهَا وَبَكَتْ وَسَامَحَتْهُ مِنْ جَمِيعِ حُقُوقِهَا وَدَعَتْ لَهُ بِخَيْرٍ. فَلَمَّا كَانَ وَسَطَ اللَّيْلِ ذَهَبَ الرَّجُلُ إلَى زَمْزَمَ وَنَادَى يَا فُلَانُ فَأَجَابَهُ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ جَزَاك اللَّهُ عَنِّي أَحْسَنَ الْجَزَاءِ مَا أَيْمَنَ طَلْعَتَك عَلَيَّ وَأَبْرَكَهَا، قَدْ نُقِلْت مِنْ الْعَذَابِ وَالْجَحِيمِ إلَى الرَّاحَةِ وَالنَّعِيمِ بِبَرَكَةِ طَلْعَتِك عَلَيَّ وَمُسَامَحَةِ أُخْتِي لِي. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى هَذِهِ الْحِكَايَةِ الَّتِي يَكَادُ الصَّلْدُ لَهَا أَنْ يَلِينَ وَإِيَّاكَ وَالْقَطِيعَةَ فَإِنَّ فِيهَا الْعَذَابَ الْمُهِينَ. فَصِلْ رَحِمَك رَحِمَك مَوْلَاك، وَخَالِفْ بِذَلِكَ نَفْسَك وَهَوَاك، وَاصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ فَإِنَّ بِذَلِكَ نَبِيَّك أَوْصَاك، وَبَالِغْ فِي الْإِحْسَانِ إلَى مَنْ أَسَاءَ إلَيْك مِنْهُمْ تُحْمَدُ بِذَلِكَ عُقْبَاك، وَحَسِّنْ أَخْلَاقَك مَعَهُمْ تُرْضَ خَلَاقُك، وَتَنَلْ رَاحَتَك، وَيُطَيَّبُ مَثْوَاك. وَاَللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الْمَسْئُولُ أَنْ يُوَفِّقَنِي وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ لِمَا فِيهِ السَّعَادَةُ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْحُسْنَى وَزِيَادَةً، بِبَرَكَةِ يَنْبُوعِ الْحِكَمِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَمَعْدِنِ الْأَسْرَارِ الرُّوحَانِيَّةِ، النَّبِيِّ الْأَوَّابِ، مَنْ جَاءَ بِالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ. اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ مَا دَجَتْ الْأَحْلَاكُ، وَدَارَتْ الْأَفْلَاكُ. ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَثَّ عَلَى عُمُومِ تَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ، وَخَصَّ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَزِيَّةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الِاتِّفَاقُ، فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ حُسْنِ الْخُلُقِ وَيَحْسُنُ تَحْسِينٌ لِخُلْقٍ وَصُحْبَةٍ ... وَلَا سِيَّمَا لِلْوَلَدِ الْمُتَأَكِّدِ (وَيَحْسُنُ) أَيْ يَجْمُلُ وَيُلَائِمُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا يَشْرَعُ لِأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا وَأُخْرَى مَنْدُوبًا. وَأَصْلُ الْحُسْنِ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْجَمَالُ وَضِدُّهُ الْقُبْحُ وَهُمَا لِلشَّيْءِ بِمَعْنَى مُلَاءَمَةِ الطَّبْعِ وَمُنَافَرَتِهِ كَحُسْنِ الْحُلْوِ وَقُبْحِ الْمُرِّ، فَالْحُسْنُ صِفَةُ الْكَمَالِ وَالْقُبْحُ صِفَةُ النَّقْصِ، كَحُسْنِ الْعِلْمِ وَقُبْحِ الْجَهْلِ وَذَلِكَ عَقْلِيٌّ. وَأَمَّا تَرَتُّبُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ عَاجِلًا وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ آجِلًا كَحُسْنِ الطَّاعَةِ وَقُبْحِ الْمَعْصِيَةِ فَشَرْعِيٌّ فَلَا يَحْكُمُ بِهِ إلَّا الشَّرْعُ الْمَبْعُوثُ بِهِ الرُّسُلُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (تَحْسِينٌ لِخُلْقٍ) حُسْنُ الْخُلُقِ هُوَ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْخُلُقُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْخُلُقُ بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ السَّجِيَّةُ وَالطَّبْعُ وَالْمُرُوءَةُ وَالدِّينُ، وَمِثْلُهُ فِي الْمَطَالِعِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْخُلُقُ وَالْخُلْقُ السَّجِيَّةُ، وَفُلَانٌ يَتَخَلَّقُ بِغَيْرِ خُلُقِهِ أَيْ يَتَكَلَّفُ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَا أَيُّهَا الْمُتَحَلِّي غَيْرَ شِيمَتِهِ ... إنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ وَفِي النِّهَايَةِ: الْخُلُقُ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا الدِّينُ وَالطَّبْعُ وَالسَّجِيَّةُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ صُورَةُ الْإِنْسَانِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ نَفْسُهُ، وَأَوْصَافُهَا وَمَعَانِيهَا الْمُخْتَصَّةُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْخُلُقِ لِصُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ وَأَوْصَافِهَا وَمَعَانِيهَا، وَلَهَا أَوْصَافٌ حَسَنَةٌ وَقَبِيحَةٌ. وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ أَكْثَرَ مَا يَتَعَلَّقَانِ بِأَوْصَافِ الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلِذَا تَكَرَّرَتْ الْأَحَادِيثُ فِي مَدْحِ حُسْنِ الْخُلُقِ وَذَمِّ سُوئِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وَ) يَحْسُنُ تَحْسِينٌ (لِصُحْبَةٍ) مَنْ يَصْحَبُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ. فَإِنَّ مَعْنَى الدِّينِ سَفَرٌ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَمِنْ أَرْكَانِ السَّفَرِ حُسْنُ الصُّحْبَةِ فِي مَنَازِلِ السَّفَرِ مَعَ الْمُسَافِرِينَ. وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مُسَافِرُونَ يَسِيرُ بِهِمْ الْعُمْرُ سَيْرَ السَّفِينَةِ بِرَاكِبِهَا فِي الْبَحْرِ. وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ حُسْنِ الصُّحْبَةِ كَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ، وَهَذَا وَاجِبٌ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يُعْلَى وَالْبَزَّارُ وَإِسْنَادُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ جَيِّدٌ. وَفَوْقَ ذَلِكَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ وَيُحْسِنَ إلَيْهِمْ. وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَمِلَ الْأَذَى مِنْهُمْ، وَيُحْسِنَ مَعَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ، وَهَذِهِ دَرَجَةُ الصِّدِّيقِينَ. وَمِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أَحْسَنَ إلَى مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ فَقَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ شُكْرًا، وَمَنْ أَسَاءَ إلَى مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ فَقَدْ اسْتَبْدَلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا. وَقَدْ سُئِلَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ فَقَالَ أَنْ لَا تَغْضَبَ وَلَا تَحْقِدَ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ أَنْ تَحْتَمِلَ مَا يَكُونُ مِنْ النَّاسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حُسْنُ الْخُلُقِ الْكَرَمُ وَالْبِذْلَةُ وَالِاحْتِمَالُ. وَعَنْ الشَّعْبِيِّ: الْبِذْلَةُ وَالْعَطِيَّةُ وَالْبِشْرُ الْحُسْنُ. وَكَانَ الشَّعْبِيُّ كَذَلِكَ. وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ: بَسْطُ الْوَجْهِ وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ وَكَفُّ الْأَذَى. وَسُئِلَ سَلَّامُ بْنُ مُطِيعٍ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ فَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: تَرَاهُ إذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا ... كَأَنَّك تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ رُوحِهِ ... لَجَادَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ سَائِلُهُ هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ ... فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ وَالْبَحْرُ سَاحِلُهُ مَطْلَبٌ: فِي الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي مَدْحِ حُسْنِ الْخُلُقِ وَذَمِّ سُوءِ الْخُلُقِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ سَنَذْكُرُ مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا. وَكَانَ نِهَايَةُ هَذَا الْعَالَمِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ نَبِيَّهُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فَمَا بَالُكَ بِمَا يَسْتَعْظِمُهُ الْحَقُّ جَلَّ شَأْنُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أَنَّهَا «سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» أَيْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِآدَابِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأُمُورِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ إنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ لَهُ «وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ. وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ الْفَمُ وَالْفَرْجُ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَلْطَفَهُمْ بِأَهْلِهِ» . وَعَنْهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ الْمُؤْمِنَ لِيُدْرِكَ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَفْظُهُ «إنَّ الْمُؤْمِنَ لِيُدْرِكَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَاتِ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَارِ» وَفِي هَذَا الْمَعْنَى عِدَّةُ أَحَادِيثَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ الْعَبْدَ لِيَبْلُغَ بِحُسْنِ خُلُقِهِ عَظِيمَ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ وَشَرَفِ الْمَنَازِلِ وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْعِبَادَةِ. وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ بِسُوءِ خُلُقِهِ أَسْفَلَ دَرَجَةٍ فِي جَهَنَّمَ» . وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرُّوذِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مُرْسَلًا عَنْ الْعَلِيِّ بْنِ الشِّخِّيرِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ حُسْنُ الْخُلُقِ، ثُمَّ أَتَاهُ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ حُسْنُ الْخُلُقِ، ثُمَّ أَتَاهُ عَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ حُسْنُ الْخُلُقِ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ بَعْدِهِ يَعْنِي مِنْ خَلْفِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَالْتَفَتَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَالَك لَا تَفْقَهُ؟ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَهُوَ أَنْ لَا تَغْضَبَ إنْ اسْتَطَعْت» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ» . وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «مِنْ أَحَبِّكُمْ إلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا» الْحَدِيثَ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ عَنْ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «حُسْنُ الْخُلُقِ خُلُقُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ» حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ «إنَّ هَذَا دِينٌ ارْتَضَيْتُهُ لِنَفْسِي وَلَنْ يَصْلُحَ لَهُ إلَّا لِلسَّخَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ فَأَكْرِمُوهُ بِهِمَا مَا صَحِبْتُمُوهُ» . وَرَوَى فِي الْأَوْسَط أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَوْحَى اللَّهُ إلَى إبْرَاهِيمَ يَا خَلِيلِي حَسِّنْ خُلُقَك وَلَوْ مَعَ الْكُفَّارِ تَدْخُلُ مَدْخَلَ الْأَبْرَارِ. وَإِنَّ كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ أَنْ أُظِلَّهُ تَحْتَ عَرْشِي وَأَنْ أَسْقِيَهُ مِنْ حَظِيرَةِ قُدُسِي وَأَنْ أُدْنِيَهُ مِنْ جِوَارِي» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا «مَا حَسَّنَ اللَّهُ خَلْقَ رَجُلٍ وَخُلُقَهُ فَيُطْعِمَهُ النَّارَ أَبَدًا» ضَعَّفَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَغَيْرُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا ذَرٍّ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَصْلَتَيْنِ هُمَا أَخَفُّ عَلَى الظَّهْرِ وَأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ غَيْرِهِمَا؟ قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ عَلَيْك بِحُسْنِ الْخُلُقِ وَطُولِ الصَّمْتِ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَمِلَ الْخَلَائِقُ بِمِثْلِهِمَا» وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ أَبِي الشَّيْخِ بْنِ حَيَّانَ «يَا أَبَا ذَرٍّ أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ وَأَخَفِّهَا عَلَى الْبَدَنِ وَأَثْقَلِهَا فِي الْمِيزَانِ وَأَهْوَنِهَا عَلَى اللِّسَانِ؟ فَقُلْت بَلَى فِدَاك أَبِي وَأُمِّي، قَالَ عَلَيْك بِطُولِ الصَّمْتِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ فَإِنَّك لَسْتَ بِعَامِلٍ بِمِثْلِهِمَا» رَوَاهُ بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «إنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ إسْلَامًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» . وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ مَرْفُوعًا قَالُوا «مَنْ أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» . وَالْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا، وَأَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا» وَفِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ لَمْ يُصَرِّحْ بِالسَّمَاعِ. وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُ مَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اللَّهُمَّ كَمَا أَحْسَنْت خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي» وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «اللَّهُمَّ أَحْسَنْت خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي» . وَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ وَقَالَ فِيهِ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا نَظَرَ إلَى وَجْهِهِ فِي الْمِرْآةِ» فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا وَفِي آخِرِهِ «وَحَرِّمْ وَجْهِي عَلَى النَّارِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَنَّ أَحَبَّكُمْ إلَيَّ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ. وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ» . . مَطْلَبٌ: إذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَزْوَاجٌ لِمَنْ تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ؟ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا زَوْجَانِ ثُمَّ تَمُوتُ فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ هِيَ وَزَوْجَاهَا لِأَيِّهِمَا تَكُونُ لِلْأَوَّلِ أَوْ لِلْآخِرِ؟ قَالَ تُخَيَّرُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا كَانَ مَعَهَا فِي الدُّنْيَا يَكُونُ زَوْجَهَا فِي الْجَنَّةِ يَا أُمَّ حَبِيبَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَفِي إعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ «سُئِلَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمَرْأَةِ تَتَزَوَّجُ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ مَعَ مَنْ تَكُونُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ تُخَيَّرُ فَتَكُونُ مَعَ أَحْسَنِهِمْ خُلُقًا» . انْتَهَى. وَلَفْظُ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي آخِرِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذَكَرْتُهُ فِي كِتَابِي الْبُحُورِ الزَّاخِرَةِ مَعَ بَيَانِ ضَعْفِهِ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ مِنَّا تَتَزَوَّجُ الزَّوْجَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ تَمُوتُ فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَدْخُلُونَ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ زَوْجَهَا مِنْهُمْ؟ قَالَ يَا أُمَّ سَلَمَةَ إنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا فَتَقُولُ أَيْ رَبِّ إنَّ هَذَا كَانَ أَحْسَنَهُمْ مَعِي خُلُقًا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَزَوِّجْنِيهِ. يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «الْخُلُقُ الْحَسَنُ يُذِيبُ الْخَطَايَا كَمَا يُذِيبُ الْمَاءُ الْجَلِيدَ، وَالْخُلُقُ السُّوءُ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ» ضَعَّفَهُ الْمُنْذِرِيُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ مِنْ طُرُقٍ أَحَدُهَا حَسَنٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» وَرَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ فِي الْأَدَبِ لَهُ مِنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «إنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ فَلْيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْبِشْرِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَحَبَّكُمْ إلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ مَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ أَسْوَأُكُمْ أَخْلَاقًا الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَحَسَّنَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَسْوَءُكُمْ أَخْلَاقًا. وَزَادَ فِي آخِرِهِ «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ الْمُتَكَبِّرُونَ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الثَّرْثَارُ بِثَاءَيْنِ مُثَلَّثَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ هُوَ الْكَثِيرُ الْكَلَامِ تَكَلُّفًا. وَالْمُتَشَدِّقُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِمِلْءِ شِدْقَيْهِ تَفَاضُحًا وَتَعْظِيمًا لِكَلَامِهِ. وَالْمُتَفَيْهِقُ أَصْلُهُ مِنْ الْفَهْقِ وَهُوَ الِامْتِلَاءُ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُتَشَدِّقِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَمْلَأُ فَاهُ بِالْكَلَامِ وَيَتَوَسَّعُ فِيهِ إظْهَارًا لِفَصَاحَتِهِ وَفَضْلِهِ وَاسْتِعْلَاءً عَلَى غَيْرِهِ، وَلِهَذَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُتَكَبِّرِ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد عَنْ رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «حُسْنُ الْخُلُقِ نَمَاءٌ، وَسُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ، وَالْبِرُّ زِيَادَةٌ فِي الْعُمْرِ، وَالصَّدَقَةُ تَدْفَعُ مَيْتَةَ السُّوءِ» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «الشُّؤْمُ سُوءُ الْخُلُقِ» وَرَوَاهُ فِيهِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «مَا الشُّؤْمُ؟ قَالَ سُوءُ الْخُلُقِ» وَهُمَا ضَعِيفَانِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَرِجَالُ حَدِيثِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ سِوَى رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ. الشُّؤْمُ ضِدُّ الْيُمْنِ، يُقَالُ تَشَاءَمْت بِالشَّيْءِ وَتَيَمَّنْت بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا لَهُ تَوْبَةٌ إلَّا صَاحِبَ سُوءِ الْخُلُقِ فَإِنَّهُ لَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ إلَّا عَادَ فِي شَرٍّ مِنْهُ» . وَرَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ لَمْ يُسَمِّهِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَنْبٍ إلَّا وَقَعَ فِي ذَنْبٍ» وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو يَقُولُ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا» . وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ مِنْ النَّاسِ» . وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «مَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ» . وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرِيمَ وَمَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» . وَرَوَى أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: السَّفْسَافُ الْأَمْرُ الْحَقِيرُ وَالرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضِدُّ الْمَعَالِي وَالْمَكَارِمِ. وَفِي الْقَامُوسِ: السَّفْسَافُ الرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَالْأَمْرُ الْحَقِيرُ وَمِنْ الدَّقِيقِ مَا يُرْفَعُ مِنْ غُبَارِهِ عِنْدَ النَّخْلِ. وَمِنْ الشَّعْرِ رَدِيئُهُ، وَمَا دَقَّ مِنْ التُّرَابِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَعَالِي الْأَخْلَاقِ لِلْمُؤْمِنِ: قُوَّةٌ فِي لِينٍ، وَحَزْمٌ فِي دِينٍ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ، وَحِرْصٌ عَلَى الْعِلْمِ، وَاقْتِصَادٌ فِي النَّفَقَةِ، وَبَذْلٌ فِي السَّعَةِ، وَقَنَاعَةٌ فِي الْفَاقَةِ، وَرَحْمَةٌ لِلْمَجْهُودِ، وَإِعْطَاءٌ فِي كَرَمٍ، وَبِرٌّ فِي اسْتِقَامَةٍ. وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ يَوْمًا لِقَوْمِهِ إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، لَيْسَ فِي فَضْلٌ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَبْسُطُ لَكُمْ وَجْهِي، وَأَبْذُلُ لَكُمْ مَالِي، وَأَقْضِي حُقُوقَكُمْ، وَأَحُوطُ حَرِيمَكُمْ، فَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِي فَهُوَ مِثْلِي، وَمَنْ زَادَ عَلَيَّ فَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمَنْ زِدْت عَلَيْهِ فَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ. قِيلَ لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا يَدْعُوك إلَى هَذَا الْكَلَامِ؟ قَالَ أَحُضُّهُمْ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ غَيْرِ أَنَّهُ لَهُ شَوَاهِدُ «مَا جُبِلَ وَلِيٌّ لِلَّهِ إلَّا عَلَى السَّخَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ» وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. [تَنْبِيهَات: فِي كَيْفِيَّة تحسين الخلق] (تَنْبِيهَاتٌ) (الْأَوَّلُ) : مُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ أَنَّ الْعَبْدَ يُمْكِنُهُ تَحْسِينُ خُلُقِهِ، وَإِلَّا لَمَا أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» «وَحَسِّنْ خُلُقَك لِلنَّاسِ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ. وَحُكِيَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي بَابِ كَثْرَةِ حَيَائِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْقَاضِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 عِيَاضٍ قَالَ: حَكَى الطَّبَرَانِيُّ خِلَافًا لِلسَّلَفِ هَلْ هُوَ غَرِيزَةٌ أَمْ مُكْتَسَبٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الطَّبْعُ الْكَرِيمُ، فَسُمِّيَ خُلُقًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْخِلْقَةِ فِي صَاحِبِهِ، فَأَمَّا مَا طُبِعَ عَلَيْهِ فَيُسَمَّى الْخِيمَ فَيَكُونُ الْخِيمُ الطَّبْعُ الْغَرِيزِيُّ، وَالْخُلُقُ الطَّبْعُ الْمُتَكَلَّفُ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ الْكُبْرَى: فَيَكُونُ هَذَا كَمَا قِيلَ إنَّ الْعَقْلَ غَرِيزَةٌ، وَمِنْهُ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّجَارِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا مُتَوَجَّهٌ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مِنْهُ مَا هُوَ غَرِيزَةٌ مَرْكُوزٌ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ خَلَقَهُ اللَّهُ فِيهِ كَمَلَكَةِ الْعَقْلِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَا مُكْتَسَبًا مِنْ التَّجَارِبِ وَالتَّخَلُّقِ بِهِ. وَلِذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَفُلَانٌ يَتَخَلَّقُ بِغَيْرِ خُلُقِهِ أَيْ يَتَكَلَّفُ. وَقَدَّمْنَا قَوْلَ الشَّاعِرِ: إنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ وَأَمَّا الْخِيمُ بِالْكَسْرِ فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ هُوَ السَّجِيَّةُ وَالطَّبِيعَةُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَهَذَا مِنْ الْجَوْهَرِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُلُقَ وَالْخِيمَ مُتَرَادِفَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أَقُولُ: الْخِيمُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتٌ فَمِيمٌ. وَفِي شِعْرِ حَسَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَدْحِ أُمِّنَا عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا -: حَصَانٌ رَزَانٌ لَا تَبُوءُ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيمَهَا ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلٍ فَإِنْ كُنْت قَدْ قُلْت الَّذِي قَدْ زَعَمْتُمُو ... فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيَّ أَنَامِلِي وَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيت وَنُصْرَتِي ... لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَالشَّاهِدُ فِي خِيمِهَا أَيْ سَجِيَّتِهَا وَطَبِيعَتِهَا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» هَذَا مِنْ تَمَامِ التَّقْوَى فَلَا تَتِمُّ إلَّا بِهِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالذِّكْرِ لِلْحَاجَةِ إلَى بَيَانِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ الْقِيَامُ بِحَقِّ اللَّهِ دُونَ حُقُوقِ عِبَادِهِ، فَنَصَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَمْرِ بِإِحْسَانِ الْعِشْرَةِ لِلنَّاسِ فَإِنَّهُ «- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ بَعَثَ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي وَصَّاهُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ إلَى الْيَمَنِ مُعَلِّمًا لَهُمْ، وَمُفَقِّهًا وَقَاضِيًا» . مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 إلَى مُخَالَقَةِ النَّاسِ بِخُلُقٍ حَسَنٍ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَا حَاجَةَ لِلنَّاسِ بِهِ وَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَكَثِيرًا مَا يَغْلِبُ عَلَى مَنْ يَعْتَنِي بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَالِاعْتِكَافِ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ وَطَاعَتِهِ إهْمَالُ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ التَّقْصِيرُ فِيهَا. وَالْجَمْعُ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ عَزِيزٌ جِدًّا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ إلَّا الْكُمَّلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ. وَقَدْ قَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ عَزِيزَةٌ أَوْ مَعْدُومَةٌ: حُسْنُ الْوَجْهِ مَعَ الصِّيَانَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ الدِّيَانَةِ، وَحُسْنُ الْإِخَاءِ مَعَ الْأَمَانَةِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَلَسَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَالِيًا فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالِي أَرَاك خَالِيًا؟ قَالَ هَجَرْتُ النَّاسَ فِيك يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. قَالَ يَا دَاوُد أَلَا أَدُلُّك عَلَى مَا تَسْتَثْنِي وُجُوهَ النَّاسِ وَتَبْلُغُ فِيهِ رِضَائِي، خَالِقْ النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَاحْتَجِزْ الْإِيمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَك. وَيُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «حُسْنُ الْخُلُقِ زِمَامٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْفِ صَاحِبِهِ، وَالزِّمَامُ بِيَدِ الْمَلَكِ، وَالْمَلَكُ يَجُرُّهُ إلَى الْخَيْرِ، وَالْخَيْرُ يَجُرُّهُ إلَى الْجَنَّةِ. وَسُوءُ الْخُلُقِ زِمَامٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْفِ صَاحِبِهِ، وَالزِّمَامُ بِيَدِ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ يَجُرُّهُ إلَى الشَّرِّ، وَالشَّرُّ يَجُرُّهُ إلَى النَّارِ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) : قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: حُسْنُ الْخُلُقِ كَظْمُ الْغَيْظِ لِلَّهِ، وَإِظْهَارُ الطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرِ إلَّا لِلْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ، وَالْعَفْوُ عَنْ الزَّالِّينَ إلَّا تَأْدِيبًا أَوْ إقَامَةَ حَدٍّ، وَكَفُّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ إلَّا تَغْيِيرَ مُنْكَرٍ، وَأَخْذُ الْمَظْلِمَةِ مِنْ مَظْلِمَةٍ مَنْ غَيْرِ تَعَدٍّ. وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ. وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. . (الثَّالِثُ) : قَدَّمْنَا أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا أَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَتَوَاضَعَ لَهُمْ وَلَا يَفْخَرَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَخْتَالَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَلَا يَتَكَبَّرُ وَلَا يَعْجَبُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ. وَإِنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَلْيَحْتَمِلْ مِنْهُ ذَلِكَ وَيُعَامِلْهُ بِاللِّينِ. وَيَغُضُّ طَرْفَ الطَّرْفِ عَنْ أَهْلِ الرَّقَاعَةِ مِنْ الْمُتَكَبِّرِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وَأَنْ يُوَقِّرَ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ، وَيَرْحَمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الطِّفْلَ الصَّغِيرَ، وَيَعْرِفَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، مَعَ طَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ التَّلَقِّي وَدَوَامِ الْبِشْرِ، وَلِينِ الْجَانِبِ، وَحُسْنِ الْمُصَاحَبَةِ، وَسُهُولَةِ الْكَلِمَةِ، مَعَ إصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِ إخْوَانِهِ، وَتَفَقُّدِ أَقْرَانِهِ وَأَخْدَانِهِ، وَأَنْ لَا يَسْمَعَ كَلَامَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَأَنْ يَبْذُلَ مَعْرُوفَهُ لَهُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا لِأَجْلِ غَرَضٍ مَعَ سَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَإِقَالَةِ عَثَرَاتِهِمْ، وَإِجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ. وَأَنْ لَا يَقِفَ مَوَاقِفَ التُّهَمِ. وَأَنْ يَحْلُمَ عَنْ مَنْ جَهِلَ عَلَيْهِ، وَيَعْفُوَ عَنْ مَنْ ظَلَمَ. وَأَنْ لَا يُجَالِسَ الْمَوْتَى الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْحُطَامِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ السَّلَامِ «إيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ الْمَوْتَى، قِيلَ وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ الْأَغْنِيَاءُ. اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» وَلَا يُجَالِسُ إلَّا مَنْ يُفِيدُهُ فِي الدِّينِ، أَوْ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّمْكِينَ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، الْمَعْرُوفَةِ لِلْأَنَامِ، مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ. . (تَتِمَّةٌ) رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ مِنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُوا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ زَالَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا بِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ» حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ ثَابِتٌ إلَى الزُّهْرِيِّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَهُمْ الطَّبْعُ غَلَبَ التَّطَبُّعَ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِهِ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: دَخَلْت الْبَادِيَةَ فَإِذَا أَنَا بِعَجُوزٍ بَيْنَ يَدَيْهَا شَاةٌ مَقْتُولَةٌ وَجَرْوُ ذِئْبٍ مُقْعٍ، فَنَظَرْت إلَيْهَا، فَقَالَتْ أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ قُلْت لَا. قَالَتْ جَرْوُ ذِئْبٍ أَخَذْنَاهُ وَأَدْخَلْنَاهُ بَيْتَنَا، فَلَمَّا كَبِرَ قَتَلَ شَاتَنَا، وَقُلْت فِي ذَلِكَ. قُلْت مَا هُوَ؟ فَأَنْشَدَتْ: بَقَرْت شُوَيْهَةً وَفَجَعْت قَوْمًا ... وَأَنْتَ لِشَاتِنَا ابْنٌ رَبِيبُ غُذِيت بِدَرِّهَا وَرُبِّيتَ فِينَا ... فَمَنْ أَنْبَاكَ أَنَّ أَبَاك ذِيبُ إذَا كَانَ الطِّبَاعُ طِبَاعَ سُوءٍ ... فَلَا أَدَبٌ يُفِيدُ وَلَا حَلِيبُ وَيُشْبِهُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي آخِرِ شُعَبِ الْإِيمَانِ أَيْضًا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَّهُ سَأَلَ يُونُسَ بْنَ حَبِيبٍ عَنْ الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ كَمُجِيرِ أُمِّ عَامِرٍ، فَقَالَ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّ قَوْمًا خَرَجُوا إلَى الصَّيْدِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ عَرَضَتْ لَهُمْ أُمُّ عَامِرٍ وَهِيَ الضَّبُعُ فَطَرَدُوهَا فَأَتْعَبَتْهُمْ فَأَلْجَئُوهَا إلَى خِبَاءِ أَعْرَابِيٍّ، فَاقْتَحَمَتْ، فَخَرَجَ إلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا صَيْدُنَا وَطَرِيدَتُنَا. قَالَ كَلًّا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَصِلُونَ إلَيْهَا مَا ثَبَتَ قَائِمُ سَيْفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 بِيَدَيَّ. قَالَ فَرَجَعُوا وَتَرَكُوهُ فَقَامَ إلَى لِقْحَةٍ يَحْلُبُهَا وَقَرَّبَ مِنْهَا ذَلِكَ وَقَرَّبَ إلَيْهَا مَاءً فَأَقْبَلَتْ مَرَّةً تَلْغُ مِنْ هَذَا وَمَرَّةً مِنْ هَذَا حَتَّى عَاشَتْ وَاسْتَرَاحَتْ. فَبَيْنَمَا الْأَعْرَابِيُّ نَائِمٌ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ إذْ وَثَبَتَ عَلَيْهِ فَبَقَرَتْ بَطْنَهُ وَشَرِبَتْ دَمَهُ وَأَكَلَتْ حَشْوَتَهُ وَتَرَكَتْهُ فَجَاءَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ فَوَجَدَهُ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ، فَالْتَفَتَ إلَى مَوْضِعِ الضَّبُعِ فَلَمْ يَرَهَا. فَقَالَ صَاحِبَتِي وَاَللَّهِ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَكِنَانَتَهُ وَأَتْبَعَهَا فَلَمْ يَزَلْ يَتْبَعُهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا فَقَتَلَهَا وَأَنْشَأَ يَقُولُ: وَمَنْ يَفْعَلْ الْمَعْرُوفَ مَعَ غَيْرِ أَهْلِهِ ... يُلَاقِ الَّذِي لَاقَى مُجِيرُ أُمِّ عَامِرِ أَدَامَ لَهَا حِينَ اسْتَجَارَتْ بِقُرْبِهِ ... قَرَاهَا مِنْ أَلْبَانِ اللِّقَاحِ الْغَزَائِرِ وَأَشْبَعَهَا حَتَّى إذَا مَا تَمَلَّأَتْ ... فَرَتْهُ بِأَنْيَابٍ لَهَا وَأَظَافِرِ فَقِيلَ لِذِي الْمَعْرُوفِ هَذَا جَزَاءُ مَنْ ... غَدَا يَصْنَعُ الْمَعْرُوفَ مَعَ غَيْرِ شَاكِرِ انْتَهَى. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [بِرّ الْوَالِدَيْنِ] ثُمَّ خَصَّ النَّاظِمُ الْوَالِدَيْنِ بِحُسْنِ الْخُلُقِ لَهُمَا وَالصُّحْبَةِ مَعَهُمَا فَقَالَ (وَلَا سِيَّمَا) فَإِنَّ كَلِمَةَ لَا سِيَّمَا تُدْخِلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا بِطَرِيقٍ أَوْلَى. فَقَوْلُهُمْ تُسْتَحَبُّ الصَّدَقَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَعْنَاهُ وَاسْتِحْبَابُهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ آكَدُ وَأَفْضَلُ، فَهُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ: وَدُخُولُ الْوَاوِ عَلَى لَا وَاجِبٌ. قَالَ ثَعْلَبٌ: مَنْ اسْتَعْلَمَهُ عَلَى خِلَافِ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ " وَلَا سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُلِ " فَهُوَ مُخْطِئٌ. انْتَهَى كَلَامُ ثَعْلَبٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ غَيْرَهُ أَنَّهُ قَدْ يُخَفَّفُ وَتُحْذَفُ الْوَاوُ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَبِالْعُهُودِ وَبِالْأَيْمَانِ لَا سِيَّمَا ... عَقْدُ وَفَاءٍ بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ وَفِي الْقَامُوسِ: وَلَا سِيَّمَا زَيْدٌ مِثْلُ لَا مِثْلَ زَيْدٌ وَمَا لَغْوٌ وَيُرْفَعُ زَيْدٌ مِثْلَ دَعْ مَا زَيْدٌ وَتُخَفَّفُ الْيَاءُ. انْتَهَى قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيَجُوزُ فِي الِاسْمِ الَّذِي بَعْدَهَا الْجَرُّ وَالرَّفْعُ مُطْلَقًا وَالنَّصْبُ أَيْضًا إذَا كَانَ نَكِرَةً. وَقَدْ رَوَى بِهِنَّ وَلَا سِيَّمَا يَوْمٍ فَالْجَرُّ أَرْجَحُهَا وَهُوَ عَلَى الْإِضَافَةِ وَمَا زَائِدَةٌ بَيْنَهُمَا مِثْلُهَا فِي أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ، وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمَضْمُونِهِ مَحْذُوفٌ وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالْجُمْلَةِ، وَالتَّقْدِيرُ وَلَا مِثْلَ الَّذِي هُوَ يَوْمٌ أَوْ وَلَا مِثْلَ شَيْءٍ هُوَ يَوْمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وَيُضَعِّفُهُ فِي نَحْوِ وَلَا سِيَّمَا زَيْدٌ حَذْفُ الْعَائِدِ الْمَرْفُوعِ مَعَ عَدَمِ الطُّولِ وَإِطْلَاقُ مَا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَفَتْحَةُ شَيْءٍ إعْرَابٌ لِأَنَّهُ مُضَافٌ وَالنَّصْبُ عَلَى التَّمْيِيزِ كَمَا يَقَعُ التَّمْيِيزُ بَعْدَ مِثْلِ نَحْوُ {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] وَمَا كَافَّةٌ عَنْ الْإِضَافَةِ، وَالْفَتْحَةُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ مِثْلُهَا فِي لَا رَجُلَ. وَأَمَّا انْتِصَابُ الْمَعْرِفَةِ نَحْوُ وَلَا سِيَّمَا زَيْدًا فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ: لَا أَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا. وَوَجَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَا: كَافَّةٌ وَلَا سِيَّمَا نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ إلَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُخَرَّجٌ وَمَا بَعْدَهُ دَاخِلٌ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُخَرَّجٌ مِمَّا أَفْهَمَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ مِنْ مُسَاوَاتِهِ لِمَا قَبْلَهَا. وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا. انْتَهَى. وَفِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ قَالَ ابْنُ يَعِيشَ: وَلَا يُسْتَثْنَى بِسِيَّمَا إلَّا وَمَعَهَا جَحْدٌ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: مَنْ قَالَهُ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي جَاءَ بِهِ امْرُؤُ الْقَيْسِ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ لَا سِيَّمَا تُسَاقُ لِتَرْجِيحِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا فَيَكُونُ كَالْمُخَرَّجِ عَنْ مُسَاوَاتِهِ إلَى التَّفْضِيلِ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَا يُسْتَثْنَى بِهَا إلَّا مَا يُرَادُ تَعْظِيمُهُ وَبَعْضُهُمْ يَسْتَثْنِي بِسِيَّمَا. انْتَهَى. قُلْتُ وَقَدْ وَلِعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْأَرْجَحَ أَنْ يُقَالَ وَلَا سِيَّمَا بِالْوَاوِ وَلَا وَتَشْدِيدُ الْيَاءِ كَمَا فِي كَلَامِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَالنَّاظِمِ هُنَا، وَيُقَالُ لَا سِيَّمَا مِنْ غَيْرِ وَاوٍ بِالتَّشْدِيدِ وَعَدَمِهِ، وَيُقَالُ سِيَّمَا مِنْ غَيْرِ وَاوٍ وَلَا لَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَدَمَ التَّشْدِيدِ يَجِيءُ فِي الثَّلَاثِ حَالَاتٍ وَأَنَّهُ ضَرُورَةٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (لِلْوَالِدِ) الْمَعْرُوفُ فِي الذِّهْنِ يَعْنِي جِنْسَ الْوَالِدِ فَيَشْمَلُ الْأُمَّ وَالْأَبَ وَإِنْ عَلَوْا (الْمُتَأَكِّدِ) فِي الْقُرْبِ وَالْمُسْتَحِقِّ لِلْبِرِّ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّبُّ. فَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، وَعُقُوقُهُمَا مِنْ أَكْبَرِ الْمُوبِقَاتِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْآثَارِ الْمُسْنَدَاتِ. وَرَأَيْت فِي عِدَّةِ نُسَخٍ مَكَانَ هَذَا الْبَيْتِ بَدَلَهُ مَا لَفْظُهُ (وَإِنَّ عُقُوقَ) أَيْ إيذَاءَ (الْوَالِدَيْنِ) تَثْنِيَةُ وَالِدٍ، يُقَالُ عَقَّ وَالِدَهُ. يَعُقُّهُ عُقُوقًا فَهُوَ عَاقٌّ إذَا آذَاهُ وَعَصَاهُ وَخَرَجَ عَلَيْهِ وَهُوَ ضِدُّ الْبِرِّ بِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَقِّ الَّذِي هُوَ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ (كَبِيرَةٌ) الْكَبِيرَةُ مِنْ الذُّنُوبِ مَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَوْ وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَوْ نَفْيُ إيمَانٍ أَوْ لَعْنٌ مُبْعِدٌ. وَفِي مَنْظُومَةِ الْكَبَائِرِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 فَمَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَوَعُّدٌ ... بِأُخْرَى فَسَمِّ كُبْرَى عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ وَزَادَ حَفِيدُ الْمَجْدِ أَوْ جَا وَعِيدُهُ ... بِنَفْيٍ لِإِيمَانٍ وَلَعْنٍ مُبْعِدِ (فَبِرُّهُمَا) أَيْ الْوَالِدَيْنِ وَالْبِرُّ الصِّلَةُ وَالْحَسَنَةُ وَالْخَيْرُ وَالْإِشْبَاعُ فِي الْإِحْسَانِ، فَهُوَ ضِدُّ الْعُقُوقِ. قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. وَفِي الْمَطَالِعِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ» الْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ. قَالَ وَبِرُّ الْأَبَوَيْنِ كُلُّهُ مِنْ الصِّلَةِ وَفِعْلُ الْخَيْرِ وَالتَّوَسُّعُ فِيهِ وَاللُّطْفُ وَالطَّاعَةُ (تَبْرُرْ) أَيْ يَبَرُّك أَوْلَادُك أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ جَزَاءً لِبِرِّك وَالِدَيْك، فَإِنَّ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ بَرَّهُ أَوْلَادُهُ كَمَا يَأْتِي فِي الْخَبَرِ، وَمَنْ عَقَّهُمَا عَقَّهُ أَوْلَادُهُ جَزَاءً وِفَاقًا. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ عَصَى وَالِدَيْهِ لَمْ يَنَلْ السُّرُورَ مِنْ وَلَدِهِ. وَعَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: رَأَيْت رَجُلًا يَضْرِبُ أَبَاهُ فِي مَوْضِعٍ فَقِيلَ لَهُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ الْأَبُ: خَلُّوا عَنْهُ فَإِنِّي كُنْت أَضْرِبُ أَبِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَابْتُلِيت بِابْنِي يَضْرِبُنِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. (وَتُحْمَدْ) مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ وَكُسِرَ لِلْقَافِيَةِ، يَعْنِي تُحْمَدُ فِي الدُّنْيَا بِحُسْنِ الثَّنَاءِ مِنْ الْخُلُقِ وَالْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَتُحْمَدُ فِي الْآخِرَةِ لَدَى رَبِّ السَّمَوَاتِ الْعُلَى، وَتُحْمَدُ عَاقِبَةُ بِرِّك لَهُمَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا حَصَلَتْ لَكَ بَرَكَتُهُ فِي الْأُولَى. قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. . مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ الْأَخْبَارِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الْمُصْطَفَوِيَّةِ وَالْآثَارُ الْمُحَمَّدِيَّةُ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْضَرَ، فِي مِثْلِ هَذَا الْمُخْتَصَرِ. وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ طَرَفٍ صَالِحٍ مِنْهَا. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا. قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَأْذَنَهُ مِنْ الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فِيهِمَا فَجَاهِدْ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «أَقْبَلَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ. قَالَ فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْك أَحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا حَيٌّ. قَالَ فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَارْجِعْ إلَى وَالِدَيْك فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا؟ قَالَ هُمَا جَنَّتُك وَنَارُك» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ «أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْت أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْت أَنْ أَسْتَشِيرَك، فَقَالَ هَلْ لَك مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلِهَا» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِطَلْحَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ السُّلَمِيِّ أُمُّك حَيَّةٌ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ» أَشَارَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ إلَى ضَعْفِهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ إنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّي تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا. فَقَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْت فَضَعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ» . وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ " أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ إنَّ أَبِي لَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى زَوَّجَنِي وَإِنَّهُ الْآنَ يَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا. قَالَ مَا أَنَا بِاَلَّذِي آمُرُك أَنْ تَعُقَّ وَالِدَيْك وَلَا بِاَلَّذِي آمُرُك أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتَك، غَيْرَ أَنَّك إنْ شِئْت حَدَّثْتُك مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْته يَقُولُ «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ إنْ شِئْت أَوْ دَعْ» قَالَ فَأَحْسِبُ عَطَاءً قَالَ فَطَلَّقَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَمُدَّ اللَّهُ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَيُزَادَ فِي رِزْقِهِ فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلِيَصِلْ رَحِمَهُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ طُوبَى لَهُ زَادَ اللَّهُ فِي عُمْرِهِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ سُلَيْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إلَّا الْبِرُّ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ، وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَمَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلًا فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مُحِقًّا كَانَ أَوْ مُبْطِلًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الْحَوْضَ» . وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «بِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ. وَعِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ. قِيلَ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَوْ أَحَدَهُمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ» وَمَعْنَى رَغِمَ أَنْفُهُ أَيْ لَصِقَ بِالرَّغْمِ وَهُوَ التُّرَابُ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ أَحَدُهَا حَسَنٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَمْرٍو الْقُشَيْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً فَهِيَ فِدَاهُ مِنْ النَّارِ. وَمَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَأَسْحَقَهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمْ الْمَبِيتُ إلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ، فَقَالُوا إنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْت لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا، فَنَأَى بِي طَلَبُ شَيْءٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْت لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتهمَا نَائِمَيْنِ فَكَرِهْت أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا فَلَبِثْت وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ انْتَظَرْت اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا. اللَّهُمَّ إنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ زَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمِي. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ فَأَرَدْتهَا عَلَى نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنْ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ، حَتَّى إذَا قَدَرْت عَلَيْهَا قَالَتْ لَا أَحِلُّ لَك أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْت مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْت عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ وَتَرَكْت الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتهَا. اللَّهُمَّ إنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَافْرِجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْت أُجَرَاءَ وَأَعْطَيْتهمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْت كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِك مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ. فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْت إنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِك، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا. اللَّهُمَّ إنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَافْرِجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ» . قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «وَكُنْت لَا أَغْبِقُ قَبْلَهَا أَهْلًا وَلَا مَالًا» الْغَبُوقُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الَّذِي يُشْرَبُ بِالْعَشِيِّ وَمَعْنَاهُ كُنْت لَا أُقَدِّمُ عَلَيْهِمَا فِي شُرْبِ اللَّبَنِ أَهْلًا وَلَا غَيْرَهُمْ. وَقَوْلُهُ «يَتَضَاغَوْنَ» بِالضَّادِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ أَيْ يَضِجُّونَ مِنْ الْجُوعِ. وَالسَّنَةُ الْعَامُ الْمُقْحِطُ الَّذِي لَمْ تَنْبُتْ الْأَرْضُ فِيهِ شَيْئًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 سَوَاءٌ نَزَلَ غَيْثٌ أَمْ لَمْ يَنْزِلْ. وَقَوْلُهُ «تَفُضَّ الْخَاتَمَ» هُوَ بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ كِنَايَةٌ عَنْ الْوَطْءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ «بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشُونَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ فَمَالُوا إلَى غَارٍ فِي الْجَبَلِ فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اُنْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَالِحَةً فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ، كُنْت أَرْعَى، فَإِذَا رُحْت عَلَيْهِمْ فَحَلَبْت بَدَأْت بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَأَنَّهُ نَأَى بِي الشَّجَرُ فَمَا أَتَيْت حَتَّى أَمْسَيْت فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا فَحَلَبْت كَمَا كُنْت أَحْلُبُ فَجِئْت بِالْحِلَابِ فَقُمْت عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمِي، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبُهُمَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْت ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَأَفْرِجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ حَتَّى يَرَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَعِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ يَرْتَادُونَ لِأَهْلِيهِمْ فَأَصَابَهُمْ السَّمَاءُ فَلَجَئُوا إلَى جَبَلٍ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَفَا الْأَثَرُ وَوَقَعَ الْحَجَرُ وَلَا يَعْلَمُ بِمَكَانِكُمْ إلَّا اللَّهُ، فَادْعُوا اللَّهَ بِأَوْثَقِ أَعْمَالِكُمْ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَجَعَ وَقْفُهُ. وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ «طَاعَةُ اللَّهِ طَاعَةُ الْوَالِدِ، وَمَعْصِيَةُ اللَّهِ مَعْصِيَةُ الْوَالِدِ» . وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَوْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ «رِضَا الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ» . إلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ. . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الْعُقُوقِ وَجُرْمِهِ وَعَظِيمِ قُبْحِهِ وَإِثْمِهِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ: وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا؟ قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ» . وَالْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» . وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَبَائِرَ فَقَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» ، الْحَدِيثَ. «وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَتَبَهُ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَأَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ» الْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ وَاللَّفْظُ لَهُ بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ عَطَاءَهُ. وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَالرَّجِلَةُ مِنْ النِّسَاءِ» . وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ شَطْرَهُ الْأَوَّلَ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الدَّيُّوثُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ هُوَ الَّذِي يُقِرُّ أَهْلَهُ عَلَى الزِّنَا مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ. وَالرَّجِلَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ هِيَ الْمُتَرَجِّلَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالنَّسَائِيِّ وَالْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثَةٌ حَرَّمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ الْخَبَثَ فِي أَهْلِهِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ «يُرَاحُ رِيحُ الْجَنَّةِ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا مَنَّانٌ بِعَمَلِهِ، وَلَا عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ» حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَرَوَى ابْنُ عَاصِمٍ بِإِسْنَادِ عَاصِمٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا: عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ» . وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «أَرْبَعٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ الْجَنَّةَ وَلَا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَآكِلُ الرِّبَا، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ» . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْفَعُ مَعَهُنَّ عَمَلٌ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ «أَنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَهِدْت أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْت الْخَمْسَ، وَأَدَّيْت زَكَاةَ مَالِي، وَصُمْت رَمَضَانَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا، وَنَصَبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 أُصْبُعَيْهِ مَا لَمْ يَعُقَّ وَالِدَيْهِ» . وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا بِاخْتِصَارٍ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ قَالَ لَا تُشْرِكْ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِلْت وَحُرِّقْت، وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْك وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ» الْحَدِيثَ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ مُجْتَمِعُونَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اتَّقُوا اللَّهَ وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ثَوَابٍ أَسْرَعَ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، إيَّاكُمْ وَالْبَغْيَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ أَسْرَعُ مِنْ عُقُوبَةِ بَغْيٍ، إيَّاكُمْ وَعُقُوبَةَ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ وَاَللَّهِ لَا يَجِدُهَا عَاقٌّ وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ وَلَا شَيْخٌ زَانٍ وَلَا جَارٍّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ. إنَّمَا الْكِبْرِيَاءُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَالْكَذِبُ كَلِمَةُ إثْمٍ إلَّا مَا نَفَعْت بِهِ مُؤْمِنًا أَوْ دَفَعْت بِهِ عَنْ دِينٍ. وَأَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا مَا يُبَاعُ فِيهَا وَلَا يُشْتَرَى لَيْسَ فِيهَا إلَّا الصُّوَرُ فَمَنْ أَحَبَّ صُورَةً مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ دَخَلَ فِيهَا» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَفِي مَرْفُوعِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَالْحَاكِمِ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ «مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ» . وَفِي مَرْفُوعِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ «وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَبَّ وَالِدَيْهِ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْأَصْبَهَانِيّ وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللَّهُ مِنْهَا مَا شَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَاهُ آتٍ فَقَالَ شَابٌّ يَجُودُ بِنَفْسِهِ قِيلَ لَهُ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ كَانَ يُصَلِّي؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَهَضْنَا مَعَهُ فَدَخَلَ عَلَى الشَّابِّ فَقَالَ لَهُ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَقَالَ لَا أَسْتَطِيعُ، فَقَالَ لِمَ؟ قَالَ كَانَ يَعُقُّ وَالِدَتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 أَحَيَّةٌ وَالِدَتُهُ؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَ اُدْعُوهَا، فَدَعَوْهَا فَجَاءَتْ، فَقَالَ هَذَا ابْنُك؟ فَقَالَتْ نَعَمْ. فَقَالَ لَهَا أَرَأَيْت لَوْ أُجِّجَتْ نَارٌ ضَخْمَةٌ فَقِيلَ لَك إنْ شَفَعْت لَهُ خَلَّيْنَا عَنْهُ وَإِلَّا حَرَقْنَاهُ بِهَذِهِ النَّارِ أَكُنْت تَشْفَعِينَ لَهُ؟ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَنْ أَشْفَعُ، قَالَ فَأَشْهِدِي اللَّهَ وَأَشْهِدِينِي أَنَّك قَدْ رَضِيت عَنْهُ، قَالَتْ اللَّهُمَّ إنِّي أُشْهِدُك وَأُشْهِدُ رَسُولَك أَنِّي قَدْ رَضِيت عَنْ ابْنِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا غُلَامُ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَاشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنْ النَّارِ» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُخْتَصَرًا. «وَيُرْوَى أَنَّ اسْمَ الشَّابِّ عَلْقَمَةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَمَرَ أُمَّهُ بِالرِّضَى عَلَيْهِ أَبَتْ، فَدَعَا بِحُزَمِ الْحَطَبِ وَالنَّارِ، فَقَالَتْ مَا تَصْنَعُ بِذَلِكَ؟ قَالَ أُحْرِقُ وَلَدَك عَلْقَمَةَ، فَرَضِيَتْ عَلَيْهِ» ، أَوْ كَمَا وَرَدَ. وَرَوَى الْأَصْبَهَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ نَزَلْت مَرَّةً حَيًّا وَإِلَى جَانِبِ ذَلِكَ الْحَيِّ مَقْبَرَةٌ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ انْشَقَّتْ مِنْهَا قَبْرٌ فَخَرَجَ مِنْهُ رَجُلٌ رَأْسُهُ رَأْسُ حِمَارٍ وَجَسَدُهُ جَسَدُ إنْسَانٍ فَنَهَقَ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ ثُمَّ انْطَبَقَ عَلَيْهِ الْقَبْرُ فَإِذَا عَجُوزٌ تَغْزِلُ شَعْرًا أَوْ صُوفًا، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ تَرَى تِلْكَ الْعَجُوزَ؟ قُلْت مَالَهَا؟ قَالَتْ تِلْكَ أُمُّ هَذَا. قُلْت وَمَا كَانَ قِصَّتُهُ؟ قَالَتْ كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَإِذَا رَاحَ تَقُولُ لَهُ أُمُّهُ يَا بُنَيَّ اتَّقِ اللَّهَ إلَى مَتَى تَشْرَبُ هَذَا الْخَمْرَ؟ فَيَقُولُ لَهَا أَنْتِ تَنْهَقِينَ كَمَا يَنْهَقُ الْحِمَارُ. قَالَتْ فَمَاتَ بَعْدَ الْعَصْرِ. قَالَتْ فَهُوَ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ بَعْدَ الْعَصْرِ كُلَّ يَوْمٍ فَيَنْهَقُ ثَلَاثَ نَهْقَاتٍ ثُمَّ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْقَبْرُ. قَالَ الْأَصْبَهَانِيُّ حَدَّثَ بِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ إمْلَاءً بِنَيْسَابُورَ بِمَشْهَدٍ مِنْ الْحَافِظِ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْسُنُ تَحْسِينُ الْخُلُقِ وَالصُّحْبَةِ لِلْوَالِدِ. وَلَوْ كَانَ ذَا كُفْرٍ وَأَوْجِبْ طَوْعَهُ ... سِوَى فِي حَرَامٍ أَوْ لِأَمْرٍ مُؤَكَّدِ (وَلَوْ كَانَ) الْوَالِدُ (ذَا) أَيْ صَاحِبَ (كُفْرٍ) يَعْنِي وَلَوْ كَانَ الْوَالِدُ كَافِرًا. قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: فَإِنْ كَانَ الْوَالِدَانِ كَافِرَيْنِ فَلْيُصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَلَا يُطِعْهُمَا فِي كُفْرٍ وَلَا مَعْصِيَةِ اللَّهِ. قَالَ السَّامِرِيُّ: لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ. . (وَأَوْجِبْ) أَنْتَ اعْتِمَادًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (طَوْعَهُ) أَيْ الْوَلَدِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بِرَّ الْجَدِّ فَرْضٌ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: كَذَا قَالَ: وَمُرَادُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَاجِبٌ. وَنُقِلَ الْإِجْمَاعُ فِي الْجَدِّ فِيهِ نَظَرٌ، وَلِهَذَا عِنْدَنَا يُجَاهِدُ الْوَلَدُ وَلَا يَسْتَأْذِنُ الْجَدَّ وَإِنْ سَخِطَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَغَيْرِهِ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي زَادِ الْمُسَافِرِ: مَنْ أَغْضَبَ وَالِدَيْهِ وَأَبْكَاهُمَا يَرْجِعُ فَيُضْحِكُهُمَا لِأَنَّ «رَجُلًا جَاءَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَايِعُهُ فَقَالَ جِئْت لِأُبَايِعَك عَلَى الْجِهَادِ وَتَرَكْت أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ، قَالَ ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا يَقْتَضِي قَوْلَهُ أَنْ يُبَرَّا فِي جَمِيعِ الْمُبِيحَاتِ، فَمَا أَمَرَاهُ ائْتَمَرَ وَمَا نَهَيَاهُ انْتَهَى، وَهَذَا فِيمَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمَا وَلَا ضَرَرُ عَلَيْهِ فِيهِ ظَاهِرٌ، مِثْلُ تَرْكِ السَّفَرِ وَتَرْكِ الْمَبِيتِ عَنْهُمَا نَاحِيَةً. وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ أَوْجِبْ طَاعَةَ الْوَالِدَيْنِ (سِوَى فِي) مُعْطَاةِ شَيْءٍ (حَرَامٍ) فَلَا طَاعَةَ لَهُمَا عَلَى الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ أَشَدُّ طَاعَةً فَلَا يُعْصَى لِأَجْلِ طَاعَتِهِمَا (أَوْ) أَيْ: وَسِوَى (لِأَمْرٍ) مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَفِي نُسْخَةٍ أَوْ لِفِعْلٍ، وَفِي أُخْرَى وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الْآدَابِ الْكُبْرَى أَوْ لِنَفْلٍ (مُؤَكَّدٍ) عَلَيْهِ إتْيَانُهُ وَمُعَاطَاتُهُ كَالرَّاتِبَةِ وَهِيَ أَصَحُّ. وَاقْتَصَرَ الْحَجَّاوِيُّ عَلَى ذِكْرِ النُّسْخَةِ الْأُولَى يَعْنِي أَوْ لِأَمْرٍ وَمُرَادُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ إذَا نَهَيَاهُ عَنْهُ فَلَا تَجِبُ طَاعَتُهُمَا، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ لِفِعْلِ الْأَمْرِ الْمُؤَكَّدِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْتَفِتُ لِنَهْيِهِمَا. نَعَمْ يَأْخُذُ بِخَاطِرِهِمَا وَلَا يُدَارِيهِمَا كَتِطْلَابِ عِلْمٍ لَا يَضُرُّهُمَا بِهِ ... وَتَطْلِيقِ زَوْجَاتٍ بِرَأْيٍ مُجَرَّدِ (كَمَا) إذَا نَهَيَاهُ عَنْ (تِطْلَابِ عِلْمٍ) غَيْرِ وَاجِبٍ عَلَيْهِ حَيْثُ (لَا يَضُرُّهُمَا) أَيْ الْوَالِدَيْنِ (بِهِ) أَيْ بِطَلَبِهِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بْنُ تَيْمِيَّةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْأَبَوَانِ وَلَا يَضُرُّ هُوَ بِطَاعَتِهِمَا فِيهِ قِسْمَانِ قِسْمٌ يَضُرُّهُمَا تَرْكُهُ فَهَذَا لَا يُسْتَرَابُ فِي وُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِيهِ، بَلْ عِنْدَنَا هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 يَجِبُ لِلْجَارِ، وَقِسْمٌ يَنْتَفِعَانِ بِهِ وَلَا يَضُرُّهُ أَيْضًا يَجِبُ طَاعَتُهُمَا فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِهِ. فَأَمَّا مَا كَانَ يَضُرُّهُ طَاعَتُهُمَا فِيهِ لَمْ تَجِبْ طَاعَتُهُمَا فِيهِ، لَكِنْ إنْ شَقَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَضُرَّهُ وَجَبَ. وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيِّدْهُ الْإِمَامُ بَلْ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً لِأَنَّ فَرَائِضَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّهَارَةِ وَأَرْكَانِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ تَسْقُطُ. بِالضَّرَرِ فَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَتَعَدَّى ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا بَيَّنَّا أَمْرَ التَّمَلُّكِ، فَإِنَّا جَوَّزْنَا لَهُ أَخْذَ مَا لَمْ يَضُرَّهُ، فَأَخْذُ مَنَافِعِهِ كَأَخْذِ مَالِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْعَبْدِ. . ثُمَّ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نُصُوصَ الْإِمَامِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِ الْفَرْضِ، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي عَدَمِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَعَدَمِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ. وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ فِي رَجُلٍ تَسْأَلُهُ أُمُّهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا مِلْحَفَةً لِلْخُرُوجِ. قَالَ إنْ كَانَ خُرُوجُهَا فِي بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ كَعِيَادَةِ مَرِيضٍ أَوْ جَارٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ لِأَمْرٍ وَاجِبٍ لَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يُعِينُهَا عَلَى الْخُرُوجِ. وَقِيلَ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ أَمَرَنِي أَبِي بِإِتْيَانِ السُّلْطَانِ لَهُ عَلَيَّ طَاعَةٌ؟ قَالَ لَا. وَذَكَرَ أَبُو الْبَرَكَاتِ أَنَّ الْوَالِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ وَلَدِهِ مِنْ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، وَكَذَا الْمُكْرِي وَالزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا تَأَكَّدَ شَرْعًا لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُ وَلَدِهِ فَلَا يُطِيعُهُ فِيهِ. وَقَالَ وَلِذَا ذَكَرَ صَاحِبُ النَّظْمِ لَا يُطِيعُهُمَا فِي تَرْكِ نَفْلٍ مُؤَكَّدٍ كَطَلَبِ عِلْمٍ لَا يَضُرُّهُمَا بِهِ. . مَطْلَبٌ: هَلْ إذَا أَمَرَ الْأَبُ أَوْ الْأُمُّ وَلَدَهُمَا بِتَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ يُجِيبُهُمَا أَمْ لَا؟ (وَ) كَأَمْرِهِمَا لَهُ (بِتَطْلِيقِ زَوْجَاتٍ) لَهُ أَوْ بَيْعِ أَمَةٍ لَهُ (بِرَأْيٍ) أَيْ اعْتِقَادٍ (مُجَرَّدٍ) عَنْ مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرَّأْيُ الِاعْتِقَادُ جَمْعُهُ آرَاءٌ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: فَإِنْ أَمَرَهُ أَبُوهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَمْ يَجِبْ. ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ. وَسَأَلَ رَجُلٌ الْإِمَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ إنَّ أَبِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي، قَالَ لَا تُطَلِّقْهَا. قَالَ أَلَيْسَ عُمَرُ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ؟ قَالَ حَتَّى يَكُونَ أَبُوك مِثْلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ عُمَرَ. وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 إذَا أَمَرَتْهُ أُمُّهُ بِالطَّلَاقِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُطَلِّقَ، لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْآدَابِ، وَكَذَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُ لِأَمْرِ أُمِّهِ. فَإِنْ أَمَرَهُ الْأَبُ بِالطَّلَاقِ طَلَّقَ إذَا كَانَ عَدْلًا يَعْنِي الْأَبَ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِيمَنْ تَأْمُرُهُ أُمُّهُ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، قَالَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهَا، وَلَيْسَ تَطْلِيقُ امْرَأَتِهِ مِنْ بِرِّهَا. انْتَهَى. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِي جَارِيَةٌ وَأُمِّي تَسْأَلُنِي أَنْ أَبِيعَهَا، قَالَ تَتَخَوَّفُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسُك؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ لَا تَبِعْهَا. قَالَ إنَّهَا تَقُولُ لَا أَرْضَى عَنْك أَوْ تَبِيعُهَا، قَالَ إنْ خِفْت عَلَى نَفْسِك فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ يَبْقَى إمْسَاكُهَا وَاجِبًا، أَوْ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا. وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ يُطِيعُهَا فِي بَيْعِهَا لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ لَا دِينًا وَلَا دُنْيَا. وَقَالَ أَيْضًا: قَيَّدَ أَمْرَهُ بِبَيْعِ السُّرِّيَّةِ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ بَيْعَ السُّرِّيَّةِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الثَّمَنَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ. فَإِنَّهُ مُضِرٌّ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُتَّهَمُ فِي الطَّلَاقِ مَا لَا يُتَّهَمُ فِي بَيْعِ السُّرِّيَّةِ. وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ وُجُوبِ طَاعَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَطَلَاقُ زَوْجَاتِهِ بِمُجَرَّدِ هَوًى ضَرَرٌ بِهَا وَبِهِ. . وَأَمَّا طَاعَتُهُمَا فِي تَرْكِ مَا هُوَ مَسْنُونٌ فَالْأَقْيَسُ وُجُوبُهَا، وَيَنْبَغِي لَهُمَا أَنْ لَا يَنْهَيَاهُ عَمَّا هُوَ مَنْدُوبٌ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ هَارُونَ بْنِ مُوسَى إذَا أَمَرَهُ أَبَوَاهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ، قَالَ يُدَارِيهِمَا وَيُصَلِّي. إذَا نَهَيَاهُ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَنْهَيَاهُ، يَعْنِي عَنْ التَّطَوُّعِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى: إذَا أَمَرَهُ أَبَوَاهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ، قَالَ يُدَارِيهِمَا وَيُصَلِّي. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَفِي الصَّوْمِ كُرِهَ الِابْتِدَاءُ فِيهِ إذَا نَهَيَاهُ وَاسْتُحِبَّ الْخُرُوجُ مِنْهُ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَالَ يُدَارِيهِمَا وَيُصَلِّي. انْتَهَى. قَالَ تِلْمِيذُهُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ صَلَاةِ النَّفْلِ إذَا سَأَلَهُ أَحَدُ وَالِدَيْهِ. ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ الْمُقْرِي فِي الرَّجُلِ يَأْمُرُهُ وَالِدُهُ بِأَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَوَاتِ لِيُصَلِّيَ بِهِ، قَالَ يُؤَخِّرُهُمَا. قَالَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: فَلَوْ كَانَ تَأْخِيرُهَا يُفْضِي إلَى خُرُوجِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي الرَّجُلِ يَنْهَاهُ أَبُوهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ قَالَ لَيْسَ لَهُ طَاعَتُهُ فِي الْفَرْضِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَيْضًا فِي التَّعْلِيقِ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ فَقَدْ أُمِرَ بِطَاعَةِ أَبِيهِ فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ نُدِبَ إلَى طَاعَةِ أَبِيهِ فِي تَرْكِ النَّفْلِ وَصَلَاةِ النَّفْلِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً وَطَاعَةً. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَجُلٍ يَصُومُ تَطَوُّعًا فَسَأَلَهُ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ يُفْطِرَ لَهُ أَجْرُ الْبِرِّ وَالصَّوْمِ إذَا أَفْطَرَهُ. وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ يَأْمُرَانِهِ بِالتَّزْوِيجِ أَمَرْته أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ كَانَ شَابًّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ أَمَرْتُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ. . وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُوَفَّقُ الدِّينِ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ: إنَّ لِلْوَالِدِ مَنْعَ الْوَلَدِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْهِ لِأَنَّ لَهُ مَنْعَهُ مِنْ الْغَزْوِ وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَالتَّطَوُّعُ أَوْلَى. . وَقَالَ فِي مَسْأَلَةٍ لَا يُجَاهِدُ مَنْ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا يَعْنِي تَطَوُّعًا وَأَنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَأَنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاسْتَدَلَّ بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ ثُمَّ قَالَ: وَلِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ عَيْنٍ وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ مُقَدَّمٌ فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ سَقَطَ إذْنُهُمَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ فَرَائِضِ الْأَعْيَانِ وَكَذَا كُلُّ مَا وَجَبَ كَالْحَجِّ وَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمَعِ وَالسَّفَرِ لِلْعِلْمِ الْوَاجِبِ لِأَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْأَبَوَيْنِ فِيهَا كَالصَّلَاةِ. وَظَاهِرُ هَذَا التَّعْلِيلِ اعْتِبَارُ إذْنِهِمَا فِي التَّطَوُّعِ كَمَا نَقُولُهُ فِي الْجِهَادِ وَهُوَ غَرِيبٌ، وَالْمَعْرُوفُ اخْتِصَاصُ الْجِهَادِ بِهَذَا الْحُكْمِ. قَالَ فِي الْآدَابِ. قَالَ وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ لِمُسْتَحَبٍّ إلَّا بِإِذْنِهِ كَسَفَرِ الْجِهَادِ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ فِي الْحَضَرِ كَالصَّلَاةِ النَّافِلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إذْنُهُ وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا يَعْتَبِرُهُ وَلَا وَجْهَ لَهُ وَالْعَمَلُ عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّفَرِ مَا فِيهِ خَوْفٌ كَالْجِهَادِ مَعَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَمِثْلُهُ الدُّخُولُ فِيمَا يَخَافُ مِنْهُ فِي الْحَضَرِ كَإِطْفَاءِ حَرِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى. وَالْمُرَادُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهَاتٌ) (الْأَوَّلُ) : ظَاهِرُ النَّظْمِ وُجُوبُ طَاعَةِ الْوَالِدِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا. وَقَالَهُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى. قَالَ وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ ثُمَّ قَالَ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ أَنَّ الْكَافِرَيْنِ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُمَا. وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَا إذْنَ لِلْكَافِرِ فِي الْجِهَادِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَيُعَامِلُهُمَا بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَتْ أَسْمَاءُ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ «- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَاءَتْنِي أُمِّي مُشْرِكَةً فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصِلُهَا؟ قَالَ نَعَمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَيُرْوَى أَنَّهُ نَزَلَ فِيهَا {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] إلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةٌ فِي الَّذِينَ لَمْ يَنْصِبُوا الْحَرْبَ لِلْمُسْلِمِينَ وَجَوَازُ بِرِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَالَاةُ مُنْقَطِعَةً، وَتَقَدَّمَ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ طَاعَةُ الْأَبِ الْمُشْرِكِ كَالْمُسْلِمِ، لَا سِيَّمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ وَالطَّاعَاتِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ وَلِذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا سَبِيلَ لِلْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ الْجِهَادِ فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا، وَطَاعَتُهُمَا حِينَئِذٍ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ مَعُونَةٌ لِلْكُفَّارِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَبَرَّهُمَا وَيُطِيعَهُمَا فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ. كَذَا قَالَ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى. وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. مَطْلَبٌ: فِي تَقْدِيمِ بِرِّ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ (الثَّانِي) : قَدْ عُلِمَ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ، لَكِنْ يُقَدَّمُ بِرُّ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ أُمُّكَ، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمُّكَ، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أُمُّكَ، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أَبُوكَ» فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ الْأُمِّ وَالشَّفَقَةَ عَلَيْهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ الْأَبِ لِذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَذِكْرِ الْأَبِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ الْأُمَّ تَنْفَرِدُ عَنْ الْأَبِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ صُعُوبَةُ الْحَمْلِ، وَصُعُوبَةُ الْوَضْعِ، وَصُعُوبَةُ الرَّضَاعِ، فَهَذِهِ تَنْفَرِدُ بِهَا الْأُمُّ وَتَشْقَى بِهَا ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الثَّالِثُ) : ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَغْدَقَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ عَلَى ضَرِيحِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَنْ يُلْزِمَ الْوَلَدَ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُهَا، وَأَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ لَا يَكُونُ عَاقًّا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَكْلِ مَا يَنْفِرُ طَبْعُهُ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَكْلِ مَا تَشْتَهِيه نَفْسُهُ كَانَ النِّكَاحُ بِذَلِكَ أَوْلَى، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَكْرُوهِ مَرَارَةُ سَاعَةٍ، وَعِشْرَةُ الْمَكْرُوهِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طُولٍ يُؤْذِي صَاحِبَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ فِرَاقُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (نَوَادِرُ) الْأُولَى فِي تَفْسِيرِ أَبِي السُّعُودِ «أَنَّ شَيْخًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هَذَا لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ وَلَا يُنْفِقُ عَلَيَّ مِنْ مَالِهِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا الشَّيْخَ قَالَ فِي وَلَدِهِ أَبْيَاتًا مَا سُمِعَ بِمِثْلِهَا، فَأَنْشَدَهَا فِي الْحَالِ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيُرْوَى أَنَّ الْوَلَدَ جَاءَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشْتَكَى عَلَى وَالِدِهِ بِأَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ، فَأَرْسَلَ خَلْفَهُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ بِأَنَّهُ قَدْ قَالَ الْأَبْيَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ ابْنَك هَذَا يَزْعُمُ أَنَّك أَخَذْت مَالَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ سَلْهُ هَلْ أَنْفَقْته إلَّا عَلَى أَخَوَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيهِ دَعْنَا مِنْ هَذَا مَا أَبْيَاتٌ قُلْتهَا فِي نَفْسِك لَمْ تَسْمَعْهَا أُذُنَاك، فَقَالَ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا يَزَالُ اللَّهُ يُرِينَا مِنْك الْحَقَّ لَقَدْ قُلْتُ أَبْيَاتًا مَا سَمِعَتْهَا أُذُنَايَ، فَاسْتَنْشَدَهُ الْأَبْيَاتَ فَقَالَ قُلْت: غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَصُنْتُك يَافِعًا ... تُعَلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْك وَتَنْهَلُ إذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْك بِالسُّقُمِ لَمْ أَبِتْ ... لِسُقُمِك إلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَك بِالْأَذَى ... طُرِقْت بِهِ دُونِي وَعَيْنِي تُهْمَلُ تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْك وَإِنَّهَا ... لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ فَلَمَّا بَلَغْت السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي ... إلَيْهَا مَدَى مَا كُنْت فِيك أُؤَمِّلُ جَعَلْت جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً ... كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ فَلَيْتَك إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي ... فَعَلْت كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ فَأَوْلَيْتنِي حَقَّ الْجِوَارِ وَلَمْ تَكُنْ ... عَلَيَّ بِمَالِي دُونَ مَالِكَ تَبْخَلُ فَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِابْنِهِ حِينَئِذٍ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» . (الثَّانِيَةُ) : قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ: قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَتْ عَاتِكَةُ ابْنَةُ زَيْدٍ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَكَانَتْ غَلَبَتْهُ عَلَى رَأْيِهِ وَشَغَلَتْهُ عَنْ سُوقِهِ، فَأَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِطَلَاقِهَا وَاحِدَةً فَفَعَلَ فَوَجَدَ عَلَيْهَا، فَقَعَدَ لِأَبِيهِ عَلَى طَرِيقِهِ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا بَصُرَ بِأَبِي بَكْرٍ بَكَى وَأَنْشَدَ يَقُولُ: وَلَمْ أَرَ مِثْلِي طَلَّقَ الْيَوْمَ مِثْلَهَا ... وَلَا مِثْلَهَا فِي غَيْرِ جُرْمٍ تَطْلُقُ لَهَا خُلُقٌ جَزْلٌ وَحِلْمٌ وَمَنْصِبٌ ... وَخَلْقٌ سَوِيٌّ فِي الْحَيَاةِ وَمَصْدَقُ فَرَقَّ لَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا. فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ تَرِثِيهِ: آلَيْتُ لَا تَنْفَكُّ عَيْنِي سَخِيَّةً ... عَلَيْك وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِي أَغْبَرَا فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْلَهُ فَتًى ... أَعَفَّ وَأَمْضَى فِي الْهِيَاجِ وَأَصْبَرَا إذَا شُرِعَتْ فِيهِ الْأَسِنَّةُ خَاضَهَا ... إلَى الْمَوْتِ حَتَّى يَتْرُكَ الرُّمْحَ أَحْمَرَا فَلَمَّا حَلَّتْ تَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا، فَاسْتَأْذَنَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُدْخِلَ رَأْسَهُ إلَى عَاتِكَةَ فَيُكَلِّمَهَا فَأَذِنَ لَهُ، فَأَدْخَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأْسَهُ إلَيْهَا وَقَالَ لَهَا يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا: آلَيْت لَا تَنْفَكُّ عَيْنِي قَرِيرَةً ... عَلَيْك وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِي أَصْفَرَا فَبَكَتْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَاذَا دَعَاك إلَى هَذَا يَا أَبَا الْحَسَنِ كُلُّ النِّسَاءِ يَفْعَلْنَ هَذَا. ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الزُّبَيْرُ بَعْدَ عُمَرَ، ثُمَّ خَطَبَهَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَعْدَ قَتْلِ الزُّبَيْرِ فَقَالَتْ إنِّي لَأَضِنُّ بِك عَنْ الْقَتْلِ. (الثَّالِثَةُ) ذُكِرَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إنَّمَا رَدَّ اللَّهُ عُقُوبَةَ سُلَيْمَانَ عَنْ الْهُدْهُدِ لِبِرِّهِ كَانَ بِأُمِّهِ انْتَهَى. يَعْنِي لَمَّا تَوَعَّدَهُ سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ فِي قَوْلِهِ {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] وَذَلِكَ لَمَّا فَقَدَهُ لِأَجْلِ الْمَاءِ، فَدَعَا سُلَيْمَانُ عَرِيفَ الطَّيْرِ وَهُوَ النِّسْرُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ عِلْمَهُ، ثُمَّ قَالَ لِسَيِّدِ الطَّيْرِ وَهُوَ الْعُقَابُ عَلَيَّ بِهِ، فَارْتَفَعَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هُوَ مُقْبِلٌ فَقَصَدَتْهُ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ وَقَالَ بِحَقِّ الَّذِي قَوَّاك وَأَقْدَرِك عَلَيَّ أَلَا رَحِمْتِينِي، فَتَرَكَتْهُ وَقَالَتْ ثَكِلَتْك أُمُّك إنَّ نَبِيَّ اللَّهِ حَلَفَ لَيُعَذِّبَنَّكَ قَالَ وَمَا اسْتَثْنَى قَالَتْ بَلَى أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرْخَى ذَنَبَهُ وَجَنَاحَيْهِ يَجُرُّهُمَا عَلَى الْأَرْضِ تَوَاضُعًا لَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخَذَ رَأْسَهُ فَمَدَّهُ إلَيْهِ، فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ اُذْكُرْ وُقُوفَك بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ، فَارْتَعَدَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَفَا عَنْهُ. قِيلَ كَانَ عَذَابُ سُلَيْمَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 لِلطَّيْرِ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ وَيُشَمِّسَهُ. وَقِيلَ يُطْلَى بِالْقَطِرَانِ وَيُشَمَّسُ. وَقِيلَ أَنْ يُلْقَى لِلنَّمْلِ يَأْكُلُهُ. وَقِيلَ إيدَاعُهُ الْقَفَصَ. وَقِيلَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إلْفَهُ. وَقِيلَ لَزِمَتْهُ صُحْبَةُ الْأَضْدَادِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَضْيَقَ السِّجْنِ مُعَاشَرَةُ الْأَضْدَادِ. وَقِيلَ لَزِمَتْهُ خِدْمَةُ أَقْرَانِهِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: إنَّمَا صَرَفَ سُلَيْمَانُ عَنْ ذَبَحَ الْهُدْهُدِ أَنَّهُ كَانَ بَارًّا بِوَالِدِيهِ يَنْقُلُ الطَّعَامَ إلَيْهِمَا فَيَزُقُّهُمَا. ذَكَرَهُ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ. وَفِي الْكَامِلِ وَشُعَبِ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ أَنَّ نَافِعًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ سُلَيْمَانُ مَعَ مَا خَوَّلَهُ اللَّهُ مِنْ الْمُلْكِ وَأَعْطَاهُ كَيْفَ عَنَى بِالْهُدْهُدِ مَعَ صِغَرِهِ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّهُ احْتَاجَ إلَى الْمَاءِ، وَالْهُدْهُدُ كَانَتْ الْأَرْضُ لَهُ كَالزُّجَاجِ فَقَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ قِفْ يَا وَقَّافُ كَيْفَ يُبْصِرُ الْمَاءَ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ وَلَا يَرَى الْفَخَّ إذَا غُطِّيَ لَهُ بِقَدْرِ أُنْمُلَةٍ مِنْ تُرَابٍ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا نَزَلَ الْقَضَاءُ عَمِيَ الْبَصَرُ. وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ لِأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ ... وَكَانَ ذَا رَأْيٍ وَعَقْلٍ وَبَصَرْ وَحِيلَةٍ يَفْعَلُهَا فِي دَفْعِ مَا ... يَأْتِي بِهِ مَحْتُومُ أَسْبَابِ الْقَدَرْ غَطَّى عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ ... وَسَلَّ مِنْهُ ذِهْنَهُ سَلَّ الشَّعَرْ حَتَّى إذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ ... رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةُ الْكَبَائِرِ (فَوَائِدُ) : (الْأُولَى) : قَالَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةُ الْكَبَائِرِ. وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَكْحُولٍ. قُلْت وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ إنِّي أَذْنَبْت ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ هَلْ لَك مِنْ أُمٍّ» وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ «هَلْ لَك وَالِدَانِ؟ قَالَ لَا. قَالَ فَهَلْ لَك مِنْ خَالَةٍ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَبِرَّهَا» . . (الثَّانِيَةُ) : رَأَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلًا يَمْشِي خَلْفَ رَجُلٍ فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 مَنْ هَذَا؟ قَالَ أَبِي، قَالَ لَا تَدْعُهُ بِاسْمِهِ وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ، وَلَا تَمْشِ أَمَامَهُ. ذَكَرَهُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ أَنَّ مِنْ حُقُوقِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُطْعِمَهُ إذَا احْتَاجَ إلَى طُعْمَةٍ، وَيَكْسُوَهُ إذَا قَدَرَ. وَذَكَرَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ الْمُصَاحَبَةُ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يُطْعِمَهُمَا إذَا جَاعَا، وَيَكْسُوَهُمَا إذَا عَرِيَا. وَمِنْ حُقُوقِهِمَا خِدْمَتُهُمَا إذَا احْتَاجَا أَوْ أَحَدُهُمَا إلَى خِدْمَةٍ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِمَا، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً عَلَى مَا مَرَّ، وَالتَّكَلُّمُ مَعَهُمَا بِاللِّينِ، وَأَنْ لَا يَدْعُوهُمَا بِاسْمِهِمَا، وَأَنْ يَمْشِيَ خَلْفَهُمَا، وَأَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُمَا بِالْمَغْفِرَةِ. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ تَرْكَ الدُّعَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ يُضَيِّقُ الْعَيْشَ عَلَى الْوَلَدِ. انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي ابْنِهِ: يَوَدُّ الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ ... وَلَوْ مِتُّ بَانَتْ لِلْعَدُوِّ مَقَاتِلُهُ إذَا مَا رَآنِي مُقْبِلًا غَضَّ طَرْفَهُ ... كَأَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ دُونِي يُقَابِلُهُ (الثَّالِثَةُ) يَنْبَغِي احْتِرَامُ الْمُعَلِّمِ الَّذِي هُوَ الشَّيْخُ وَتَوْقِيرُهُ وَالتَّوَاضُعُ لَهُ، وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ. وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ حَقَّهُ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْوَالِدِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَالْأَبُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ طَاعَتُهُ وَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَأَظُنُّهُ يَعْنِي بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ صَرَّحَ بِذَلِكَ. قَالَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْعِلْمِ لَا مُطْلَقًا. انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْمُصْطَلَحِ: الْأَشْيَاخُ آبَاءٌ فِي الدِّينِ وَقَالَ لِي شَيْخَانِ أَبُو التَّقِيِّ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ التَّغْلِبِيُّ الشَّيْبَانِيُّ أَغْدَقَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ عَلَى رَمْسِهِ: شَيْخُك أَبُوك بَلْ أَعْظَمُ حَقًّا مِنْ وَالِدِك؛ لِأَنَّهُ أَحْيَاك حَيَاةً سَرْمَدِيَّةً وَلَا كَذَلِكَ وَالِدُك أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ، وَقَالَ لِي: النَّاسُ يَقُولُونَ فُلَانٌ يَعْنِي نَفْسَهُ لَا وَلَدَ لَهُ وَهَلْ لِأَحَدٍ مِنْ الْوَلَدِ مِثْلُ مَا لِي، يَعْنِي تَلَامِذَتَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . (الرَّابِعَةُ) ذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَضِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ الْإِغْضَاءُ مِنْ زَلَّاتِ الْوَالِدَيْنِ يَجِبُ الْإِغْضَاءُ عَنْ زَلَّاتِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وَإِذَا سَمَّيْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْنِ يَجِبُ تَوْقِيرُهُمْ وَاحْتِرَامُهُمْ كَمَا فِي الْوَالِدَيْنِ. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: لَوْ أَمَرَهُ أَبُوهُ بِتَنَاوُلِ الْمُشْتَبَهِ هَلْ تَجِبُ طَاعَتُهُ؟ (الْخَامِسَةُ) : لَوْ أَمَرَهُ وَالِدُهُ بِتَنَاوُلِ الْمُشْتَبَهِ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ أَوْ لَا تَجِبُ، يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى عَلَى جَوَازِ تَنَاوُلِهِ وَعَدَمِهِ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ عَدَمُ الْحُرْمَةِ بَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَقُوَّةُ الْكَرَاهَةِ فِيهِ وَضَعْفُهَا بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْحَرَامِ وَقِلَّتِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَدَّمَهُ الْأَزَجِيُّ وَغَيْرُهُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَأَطْعَمَهُ طَعَامًا فَلْيَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِ وَلَا يَسْأَلْهُ عَنْهُ، وَإِنْ سَقَاهُ شَرَابًا مِنْ شَرَابِهِ فَلْيَشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ وَلَا يَسْأَلْ عَنْهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُمَيْلٍ عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: لِي جَارٌ يَأْكُلُ الرِّبَا وَلَا يَزَالُ يَدْعُونِي، فَقَالَ مُهَنَّأَهُ لَك وَإِثْمُهُ عَلَيْهِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: إنْ عَرَفْته بِعَيْنِهِ فَلَا تَأْكُلْهُ. وَمُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَلَامُهُ لَا يُخَالِفُ هَذَا. وَرَوَى جَمَاعَةٌ أَيْضًا عَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إذَا كَانَ لَك صَدِيقٌ عَامِلٌ فَدَعَاك إلَى طَعَامٍ فَاقْبَلْهُ فَإِنَّ مُهَنَّأَهُ لَك وَإِثْمُهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ مَنْصُورٌ قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: عَرِيفٌ لَنَا يُصِيبُ مِنْ الظُّلْمِ وَيَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُهُ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لِلشَّيْطَانِ غَرَضٌ بِهَذَا لِيُوقِعَ عَدَاوَةً، قَدْ كَانَ الْعُمَّالُ يَهْمِطُونَ وَيُصِيبُونَ ثُمَّ يَدْعُونَ فَيُجَابُونَ. قُلْت نَزَلْت بِعَامِلٍ فَنَزَلَنِي وَأَجَازَنِي، قَالَ أَقْبِلْ قُلْت فَصَاحِبُ رِبَاءٍ، قَالَ أَقْبِلْ مَا لَمْ تَرَهُ بِعَيْنِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْهَمْطُ الظُّلْمُ وَالْأَخْذُ بِلَا تَقْدِيرٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَتَيَقَّنْ مُحَرَّمًا فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِالِاحْتِمَالِ وَإِنْ تَرَكَهُ أَوْلَى. قَالَ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا حُكْمُ مُعَامَلَتِهِ وَقَبُولُ هَدِيَّتِهِ وَضِيَافَتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [تَتِمَّة: حرمة الْوَالِدَيْنِ] (تَتِمَّةٌ) ذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي كِتَابِهِ تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حُرْمَةَ الْوَالِدَيْنِ وَلَمْ يُوصِ بِهِمَا لَكَانَ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أَنَّ حُرْمَتَهُمَا وَاجِبَةٌ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَتَهُمَا وَيَقْضِيَ حَقَّهُمَا. فَكَيْفَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ، وَقَدْ أَمَرَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ وَأَوْحَى إلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ وَأَوْصَاهُمْ بِحُرْمَةِ الْوَالِدَيْنِ وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِمَا، وَجَعَلَ رِضَاهُ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسَخَطَهُ فِي سَخَطِهِمَا. وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَوْ عَلِمَ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ الْعُقُوقِ أَدْنَى مِنْ أُفٍّ لَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَلْيَعْمَلْ الْعَاقُّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلْيَعْمَلْ الْبَارُّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ النَّارَ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَقْرُونَةً بِثَلَاثِ آيَاتٍ لَا يُقْبَلُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا، أَوَّلُهَا {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ. وَالثَّانِي قَوْله تَعَالَى {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] ، فَمَنْ شَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَشْكُرْ وَالِدَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَلَمْ يُطِعْ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث أَيْضًا أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي خَرِفَتْ عِنْدِي وَأَنَا أُطْعِمُهَا بِيَدَيْ وَأُسْقِيهَا بِيَدَيْ وَأُوَضِّيهَا وَأَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِي فَهَلْ جَزَيْتهَا؟ قَالَ لَا وَلَا وَاحِدًا مِنْ مِائَةٍ وَلَكِنَّك قَدْ أَحْسَنْت وَاَللَّهُ يُثِيبُك عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيرًا» قُلْت: وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ الْمَقُولَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ وَلَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّك أَحْسَنْت. .. إلَخْ. وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ وُجُوبَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَذَّرَ مِنْ عُقُوقِهِمَا أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالتَّوْصِيَةِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ إلَى أَصْحَابِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بِرِّهِمَا فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي بِرِّ الرَّجُلِ أَبَوَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا: وَأَحْسِنْ إلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ... فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوَّدِ (وَأَحْسِنْ) بِالْمَوَدَّةِ وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَإِطْلَاقِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ الْبَشَاشَةِ (إلَى أَصْحَابِهِ) أَيْ الْوَالِدِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ أَوْ الْأُمُّ بِأَنْ يُكْرِمَ صُوَيْحِبَاتِهَا (بَعْدَ مَوْتِهِ) أَيْ وَالِدِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْقَيْدَ أَغْلَى فَيُحْسِنُ إلَى أَصْحَابِهِ وَلَوْ حَيًّا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَغْلَبُ إنَّمَا يَحْتَاجُونَهُ بَعْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ قَيَّدُوهُ بِكَوْنِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ (فَهَذَا) أَيْ إحْسَانُك إلَى أَصْحَابِ وَالِدِك (بَقَايَا) أَيْ كَمَالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 بِرِّهِ) مِنْك، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَلَيْسَ بِرُّك لَهُ كَامِلًا بَلْ عَلَيْك الْإِحْسَانُ لِأَصْحَابِ وَالِدِك لِكَمَالِ بِرِّهِ (الْمُتَعَوَّدِ) مِنْك يَعْنِي الْمُعْتَادَ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ " الْمُتَزَوَّدِ " يَعْنِي الْمُتَّخَذَ زَادًا لِكَوْنِ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْك وَوَالِدُك فِي دَارِ الْبَرْزَخِ، فَكَأَنَّك أَرْسَلْته زَادًا لَهُ أَحْوَجَ مَا هُوَ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ «قَالَ الرَّجُلُ مَا أَكْثَرَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَطْيَبَهُ، قَالَ فَاعْمَلْ بِهِ» وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلْ لَك مِنْ خَالَةٍ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ. قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا أَصْلَحَك اللَّهُ إنَّهُمْ الْأَعْرَابُ وَهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «وَإِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: «قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَأَتَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ أَتَدْرِي لِمَ أَتَيْتُك؟ قَالَ قُلْت لَا. قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أَبَاهُ فِي قَبْرِهِ فَلْيَصِلْ إخْوَانَ أَبِيهِ» . وَأَنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَبِي عُمَرَ وَبَيْنَ أَبِيكَ إخَاءٌ وَوُدٌّ فَأَحْبَبْت أَنْ أَصِلَ ذَاكَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ عِدَّةُ أَخْبَارٍ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوُدُّ يُتَوَارَثُ وَالْبُغْضُ يُتَوَارَثُ» وَقَوْلُهُ «ثَلَاثٌ يُطْفِينَ نُورَ الْعَبْدِ: أَنْ يَقْطَعَ وُدَّ أَبِيهِ، وَيُبْدِلَ سُنَّةً صَالِحَةً، وَيَزْنِي بِبَصَرِهِ فِي الْحُجُرَاتِ» وَذُكِرَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ لَا تَقْطَعُ مَنْ كَانَ أَبُوك يَصِلُهُ فَيُطْفَى نُورُك. انْتَهَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي الرَّوَّادِ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ بَارًّا بِأَبَوَيْهِ فِي حَيَّاتِهِمَا ثُمَّ لَمْ يَفِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِنُذُورِهِمَا وَلَمْ يَقْضِ دُيُونَهُمَا كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَاقًّا. وَإِذَا كَانَ لَمْ يَبَرَّهُمَا وَأَوْفَى بِنُذُورِهِمَا وَقَضَى دُيُونَهُمَا كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَارًّا. ذَكَرَهُ الْحَجَّاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي تَنْبِيهِهِ: فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ إذَا مَاتَا سَاخِطَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ هَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرْضِيَهُمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا، قِيلَ لَهُ بَلْ يُرْضِيهِمَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، أَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِمَا مِنْ صَلَاحِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَصِلَ قَرَابَتَهُمَا وَأَصْدِقَاءَهُمَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمَا وَيَدْعُوَ لَهُمَا وَيَتَصَدَّقَ عَنْهُمَا. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّ مَنْ دَعَا لِأَبَوَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَقَدْ أَدَّى حَقَّهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] فَشُكْرُ اللَّهِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَكَذَا شُكْرُ الْوَالِدَيْنِ أَنْ تَدْعُوَ لَهُمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا أَنْهَى الْكَلَامَ عَلَى حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ ذَكَر َ شَذْرَةً مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَقَالَ: وَيُكْرَهُ فِي الْحَمَّامِ كُلُّ قِرَاءَةٍ ... وَذِكْرُ لِسَانٍ وَالسَّلَامُ لِمُبْتَدِي (وَيُكْرَهُ) كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ (فِي) دَاخِلِ (الْحَمَّامِ) وَمَا يَتْبَعُهُ فِي بَيْعٍ مِنْ الْمَسْلَخِ وَالسَّطْحِ وَالْقَمِيمِ (كُلُّ قِرَاءَةٍ) لِقُرْآنٍ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَى الْأَصَحِّ صِيَانَةً لَهُ، وَرَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عَلِيٍّ وَحَكَاهُ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ. قَالَ فِي شَرْحِ الْكَبِيرِ وَلَمْ يَكْرَهْهُ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ. وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ كُلُّ قِرَاءَةٍ يَعْنِي كَثِيرَهَا وَقَلِيلَهَا وَمِثْلُ الْحَمَّامِ جَمِيعُ الْمَحَالِّ الْقَذِرَةِ. . مَطْلَبٌ: فِي الْحَمَّامِ وَكَيْفِيَّةِ الدُّخُولِ فِيهَا وَالِاسْتِحْمَامِ (نَادِرَةٌ) ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيّ فِي أَوَائِلِهِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ النَّبِيُّ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَصُنِعَتْ لَهُ النُّورَةُ مِنْ أَجْلِ بِلْقِيسَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَزَوَّجَ بِلْقِيسَ، قَالَتْ لَمْ يَمَسّنِي حَدِيدٌ قَطُّ، فَكَرِهَ سُلَيْمَانُ الْمُوسَى فَسَأَلَ الْجِنَّ فَقَالُوا لَا نَدْرِي، فَسَأَلَ الشَّيَاطِينَ فَقَالُوا إنَّا نَحْتَالُ لَك حَتَّى تَبْقَى كَالْفِضَّةِ الْبَيْضَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 فَاتَّخَذُوا النُّورَةَ وَالْحَمَّامَ، فَلَمَّا دَخَلَهُ وَجَدَ حَرَّهُ وَغَمَّهُ، فَقَالَ أَوَّاهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَوَّاهُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا. قُلْت وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَهُ الْأُسْتَاذُ كالبيمارستان. قَالَهُ ابْنُ جِبْرِيلَ، اسْتَفَادَهُ مِنْ شَخْصٍ دَخَلَ غَارًا وَسَقَطَ فِي مَاءٍ حَارٍّ مِنْ الْكِبْرِيتِ وَبِهِ تَعْقِيدٌ مِنْ الْعَصَبِ فَزَالَ، فَحَدَّثَ الْحَكِيمُ أَنَّ إسْخَانَ الْمَاءِ فِي مَوْضِعٍ يُسَخَّنُ فِيهِ الْهَوَاءُ جَيِّدٌ فَأَحْدَثَهُ. قَالَ هَذَا الطَّبِيبُ: وَأَفْضَلُ الْحَمَّامِ مُطْلَقًا حَمَّامٌ عَالٍ مُرْتَفِعٍ فِي الْبِنَاءِ لِئَلَّا يُحْضِرَ الْأَنْفَاسَ الْمُخْتَلِفَةِ فَيَفْسُدَ بِهَا وَيَنْحَلَّ الْهَوَاءُ فِيهِ بِسُرْعَةٍ بَعْدَ تَحَلْحُلٍ وَانْبِسَاطٍ، وَيُلَطَّفُ الْبُخَارُ الصَّاعِدُ إلَى الْأَعْلَى كَمَا تُشَاهِدُهُ مِنْ قُبَّةِ الْأَنْبِيقِ، فَإِنْ اتَّسَعَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ أَقْوَى فِي تَفْرِيقِ الْهَوَاءِ وَتَلْطِيفِهِ وَقَبُولِهِ التَّكَيُّفَ فِيمَا ذُكِرَ لَا سِيَّمَا إنْ طَالَ عَهْدُهُ وَقَدُمَ بِنَاؤُهُ لِفَسَادِ الْجَدِيدِ بِأَبْخِرَةِ الْأَحْجَارِ وَالطِّينِ وَعُفُونَةِ مَا يُشْرَبُ مِنْ الْمَاءِ فِي أَجْزَائِهِ وَبَرْدِهِ. قَالَ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى الْحَمَّامِ الْقِدَمُ إلَّا بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ غَايَةً خُصُوصًا إنْ عَذُبَ مَاؤُهُ وَلَطُفَ هَوَاؤُهُ وَأَحْكَمَ صَانِعُهُ مِزَاجَهُ. وَيَنْبَغِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَسْلَخُهُ لَطِيفَ الصَّنْعَةِ وَاسِعَ الْفَضَاءِ وَأَنْ يَشْتَمِلَ دَاخِلُهُ عَلَى الْبُيُوتِ الْكَثِيرَةِ الرُّطُوبَةِ اللَّطِيفَةِ أَوَّلًا وَلْيَكُنْ دُخُولُهُ عَلَى التَّدْرِيجِ بِأَنْ يَمْكُثَ أَوَّلًا فِي الْأَوَّلِ حَتَّى يَأْلَفَ الْهَوَاءَ الْحَارَّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْأَوَّلَ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا يَدْخُلُ الثَّالِثَ إلَّا عِنْدَ إرَادَةِ الْخُرُوجِ، فَإِنَّهُ مُجَفِّفٌ قَوِيُّ التَّحْلِيلِ وَيُقَدِّمُ يَسَارَهُ فِي الْحَمَّامِ وَالْمُغْتَسَلِ دُخُولًا. وَالْأَوْلَى أَنْ يَغْسِلَ قَدَمَيْهِ وَإِبْطَيْهِ بِمَاءٍ بَارِدٍ عِنْدَ دُخُولِهِ وَيَلْزَمُ الْحَائِطَ، وَيَقْصِدُ مَوْضِعًا خَالِيًا وَيُقَلِّلُ الِالْتِفَاتَ وَلَا يُطِيلُ الْمُقَامَ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ بِمَاءٍ بَارِدٍ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الصُّدَاعَ كَمَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مِنْهَاجِ الْقَاصِدِينَ: يُكْرَهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ قَرِيبًا مِنْ الْغُرُوبِ وَبَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ لِانْتِشَارِ الشَّيَاطِينِ. انْتَهَى. وَفِي الْإِقْنَاعِ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ. وَكَرِهَ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِنَاءَ الْحَمَّامِ وَبَيْعَهُ وَإِجَارَتِهِ وَشِرَاءَهُ وَقَالَ: الَّذِي يَبْنِي حَمَّامًا لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِعَدْلٍ. وَعُمْدَةُ الْحَمَّامِ الدَّلْكُ وَالدَّهْنُ وَالِانْتِقَاعُ، وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِاعْتِدَالٍ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ. وَأَفْضَلُ الِانْتِقَاعِ مَا كَانَ فِي الْأَبَازِينِ يَعْنِي الْمَغَاطِسَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ وَلَمْ يَتَغَمَّرْ وَلَمْ يَنْتَقِعْ فَقَدْ جَلَبَ الضَّرَرَ إلَى نَفْسِهِ. أَرَادَ بِالْغَمْرِ الدَّلْكَ، وَقِيلَ التَّكَيُّسُ، وَلَا مُنَافَاةَ فَإِنَّ الْغَمْرَ وَالدَّلْكَ وَالتَّكَيُّسَ الْمُرَادُ بِهَا وَاحِدٌ. وَيَنْبَغِي التَّدْرِيجُ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ فَإِنْ خَرَجَ دَفْعَةً وَاحِدَةً حَصَلَ لَهُ بَعْضُ ضَرَرٍ خُصُوصًا فِي الشِّتَاءِ. وَيَنْبَغِي الرَّاحَةُ بَعْدَهُ كَالنَّوْمِ. قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: نَوْمَةٌ بَعْدَ الْحَمَّامِ خَيْرٌ مِنْ شَرْبَةٍ. وَلْيَتَدَثَّرْ، فَإِنَّ نِكَايَةَ الْبَرْدِ عَقَبَةٌ شَدِيدَةٌ. وَهَذِهِ فَوَائِدُ أَجْنَبِيَّةٌ. وَدُخُولُ الْحَمَّامِ مُبَاحٌ لِلرِّجَالِ فَإِنْ خِيفَ مُحَرَّمٌ كُرِهَ وَإِنْ عُلِمَ حَرُمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) يُكْرَهُ فِي الْحَمَّامِ أَيْضًا كُلُّ (ذِكْرِ لِسَانٍ) أَيْ كُلُّ ذِكْرٍ مِنْ أَذْكَارِ اللَّهِ حَيْثُ كَانَ اللِّسَانُ، بِخِلَافِ ذِكْرِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَحُجَّةُ كَرَاهَةِ الذِّكْرِ فِي الْحَمَّامِ مَا رَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ، وَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ. وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَان حَسَنٌ مَا لَمْ يَرِدْ الْمَنْعُ مِنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ حَمَّامًا فَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» . (وَ) يُكْرَهُ فِي الْحَمَّامِ أَيْضًا (السَّلَامُ) حَيْثُ كَانَ (لِمُبْتَدِئٍ) يَعْنِي يُكْرَهُ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ فِي الْحَمَّامِ خِلَافًا لِمَا فِي الْمُغْنِي. وَأَمَّا الرَّدُّ فَمُبَاحٌ هُنَا. قَالَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: الْأَوْلَى جَوَازُهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَالْأَشْيَاءُ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَفِي الْآدَابِ: لَا يُسَلِّمُ وَلَا يَرُدُّ عَلَى مُسْلِمٍ. وَتَوَسَّطَ الْحَجَّاوِيُّ كَالنَّاظِمِ فِي شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ فَكَرِهَ الِابْتِدَاءَ دُونَ الرَّدِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا خِلَافًا لِمَا قَدَّمَهُ الشَّيْخُ م ص، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَوَائِدُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (الْأُولَى) تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ حَالَ خُرُوجِ الرِّيحِ، وَمَعَ الْجِنَازَةِ جَهْرًا، وَحَال لَمْسِ الذَّكَرِ أَوْ الزَّوْجَةِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَلَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ حَالٍ قَائِمًا وَجَالِسًا وَمُضْطَجِعًا وَرَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَلَا تُكْرَهُ فِي الطَّرِيقِ نَصًّا، وَلَا مَعَ حَدَثٍ أَصْغَرَ وَنَجَاسَةِ بَدَنٍ وَثَوْبٍ، وَلَا حَالَ مَسِّ الذَّكَرِ وَالزَّوْجَةِ وَالسُّرِّيَّةِ. وَتُكْرَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ، وَاسْتِدَامَتُهَا حَالَ خُرُوجِ الرِّيحِ، وَجَهْرُهُ بِهَا مَعَ الْجِنَازَةِ، وَلَا تَمْنَعُ نَجَاسَةَ الْفَمِ الْقِرَاءَةَ. انْتَهَى. قَالَ فِي شَرْحِهِ: ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: الْأَوْلَى الْمَنْعُ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهَا نَجَسُ الْفَمِ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: لَا تَمْنَعُ نَجَاسَةُ الْفَمِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالْأَوْلَى الْمَنْعُ. انْتَهَى. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَزَادَ الْقَاضِي فِيمَا لَا تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِيهِ حَالَ أَكْلِهِ لِلَحْمِ الْجَزُورِ وَغَسْلِهِ لِلْمَيِّتِ عَلَى احْتِمَالٍ فِيهِ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ تِلْكَ الْحَالِ. انْتَهَى. . وَيُكْرَهُ الْحَدِيثُ عِنْدَ الْقُرْآنِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وَكَرِهَ الْإِمَامُ السُّرْعَةَ فِي الْقِرَاءَةِ. وَتَأَوَّلَهُ الْقَاضِي إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْحُرُوفَ وَتَرْكُ السُّرْعَةِ أَكْمَلُ. وَكَرِهَ أَصْحَابُنَا قِرَاءَةَ الْإِدَارَةِ قَالَهُ فِي الْإِقْنَاعِ تَبَعًا لِلْآدَابِ الْكُبْرَى. وَقَالَ حَرْبٌ: هِيَ حَسَنَةٌ. وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: قِرَاءَةُ الْإِدَارَةِ وَتَقْطِيعُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ. وَقَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَهِيَ أَنْ يَقْرَأَ قَارِئٌ ثُمَّ يَقْطَعُ ثُمَّ يَقْرَأُ غَيْرُهُ قَالَ م. ص أَيْ بِمَا بَعْدَ قِرَاءَتِهِ. أَمَّا لَوْ أَعَادَ مَا قَرَأَهُ الْأَوَّلُ وَهَكَذَا فَلَا يَنْبَغِي الْكَرَاهَةُ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُدَارِسُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ. وَحَكَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا حَسَنَةٌ كَالْقِرَاءَةِ مُجْتَمِعِينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ. مَطْلَبٌ: فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قِرَاءَةَ الْأَلْحَانِ وَقَالَ هِيَ بِدْعَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ «أَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لَيْسَ بِأَقْرَئِهِمْ وَلَا أَفْضَلِهِمْ إلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ غِنَاءً» . وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ: لَا يُعْجِبنِي أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ الْأَلْحَانَ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَزْمُهُ مِثْلَ حَزْمِ أَبِي مُوسَى. وَفِي لَفْظٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَزْمُهُ فَيَقْرَأُ بِحُزْنٍ مِثْلَ صَوْتِ أَبِي مُوسَى. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَوْضِعٍ: أَكْرَهُ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ، وَفِي مَوْضِعٍ: لَا أَكْرَهُهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ فَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ لِخُرُوجِهَا عَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ لَهُ مِنْ الْخُشُوعِ وَالتَّفَهُّمِ. وَأَبَاحَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ لِلْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلرِّقَّةِ وَإِثَارَةِ الْخَشْيَةِ وَإِقْبَالِ النُّفُوسِ عَلَى اسْتِمَاعِهِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِصِفَةِ التَّلَحُّنِ الَّذِي يُشْبِهُ تَلَحُّنَ الْغِنَاءِ مَكْرُوهٌ مُبْتَدَعٌ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَفِي الْإِقْنَاعِ: فَإِنْ حَصَلَ مَعَهَا أَيْ الْأَلْحَانِ تَغَيُّرُ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَجَعْلُ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا حُرِّمَ. وَلَا يُكْرَهُ التَّرْجِيعُ وَتَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ بَلْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» وَقَالَ «لَيْسَ مِنَّا مِنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ تَحْسِينُ قِرَاءَتِهِ وَتَرَنُّمِهِ بِهِ وَرَفْعُ صَوْتِهِ بِهَا. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَجَمَاعَةٌ يَتَغَنَّى بِهِ. . وَكَرِهَ ابْنُ عَقِيلٍ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَسْوَاقِ يَصِيحُ فِيهَا أَهْلُهَا بِالنِّدَاءِ وَالْبَيْعِ. وَرَفْعَ الصَّوْتِ بِقِرَاءَةٍ تُغَلِّطُ الْمُصَلِّينَ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَبَعْدَهَا يُغَلِّطُ أَصْحَابَهُ وَهُمْ يُصَلُّونَ» . وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: مَنْ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ تَطَوَّعَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ جَهْرًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ، «فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ السَّحَرِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَجْهَرُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ» وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى وَغَيْرُهُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْآدَابِ أَنْ لَا يَجْهَرَ بَيْنَ مُصَلِّينَ أَوْ نِيَامٍ أَوْ تَالِينَ جَهْرًا يُؤْذِيهِمْ. (الثَّانِيَةُ) : يُسْتَحَبُّ تَرْتِيلُ الْقِرَاءَةِ وَإِعْرَابُهَا وَتَمْكِينُ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تُعْجِبُنِي الْقِرَاءَةَ السَّهْلَةَ. وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ إذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ اللَّيْلِ أَحَبُّ إلَيْك التَّرَسُّلُ أَوْ السُّرْعَةُ؟ فَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ جَاءَ بِكُلِّ حَرْفٍ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً، قَالُوا لَهُ فِي السُّرْعَةِ قَالَ إذَا صَوَّرَ الْحَرْفَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْ الْهِجَاءِ. قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الْقَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اخْتَارَ السُّرْعَةَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ كَرِهَ السُّرْعَةَ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْحُرُوفَ فَلَا مُنَافَاةَ. قَالَ الْقَاضِي: أَقَلُّ التَّرْتِيلِ تَرْكُ الْعَجَلَةِ فِي الْقُرْآنِ عَنْ الْإِبَانَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا بَيَّنَ مَا يَقْرَأُ بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالتَّرْتِيلِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْجِلًا فِي قِرَاءَتِهِ، وَأَكْمَلُهُ أَنْ يُرَتِّلَ الْقِرَاءَةَ وَيَتَوَقَّفَ فِيهَا مَا لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ إلَى التَّمْدِيدِ وَالتَّمْطِيطِ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى التَّمْطِيطِ كَانَ مَمْنُوعًا. قَالَ وَقَدْ أَوْمَأَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى مَعْنَى هَذَا، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: تُعْجِبُنِي قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ السَّهْلَةُ وَلَا تُعْجِبُنِي هَذِهِ الْأَلْحَانُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ طَيَّبَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ: التَّفَهُّمُ فِيهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالِاعْتِبَارُ مَعَ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ إدْرَاجه بِغَيْرِ تَفَهُّمٍ. وَقَالَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوَّلَ النَّهَارِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ آخِرَهُ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُحَسِّنُ الْقَارِئُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ وَيَقْرَأُ بِحُزْنِ وَتَدَبُّرٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» نَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: قَوْلُهُ أَذِنَ بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَاهُ الِاسْتِمَاعُ. وَقَوْلُهُ كَأَذَنِهِ هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ وَهُوَ مَصْدَرُ أَذِنَ يَأْذَنُ أَذَنًا كَفَرِحِ يَفْرَحُ فَرَحًا. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ كَإِذْنِهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الذَّالِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هُوَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَعْنِي الْحَثَّ عَلَى ذَلِكَ وَالْأَمْرَ بِهِ. انْتَهَى. قُلْت: وَاَلَّذِي فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ تَهْذِيبُ الْإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ قُرْقُولٍ قَوْلُهُ مَا أَذِنَ اللَّهُ كَأَذَنِهِ بِفَتْحِ الذَّالِ فِي الْمَصْدَرِ وَكَسْرِهَا فِي الْمَاضِي، وَمَعْنَاهُ اسْتَمَعَ اسْتِمَاعَهُ. قَالَ وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ كَإِذْنِهِ مِنْ الْإِذْنِ يَعْنِي بِالْكَسْرِ وَسُكُونِ الذَّالِ. قَالَ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِمَعْنَى الْحَدِيثِ وَأَشْهَرُ فِي الرِّوَايَةِ. وَقَدْ غَلَّطَ الْخَطَّابِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ؛ لِأَنَّ مَقْصِدَ الْحَدِيثِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ الْإِذْنَ وَالْفِعْلَ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ قِيلَ فِيهِ أَذِنَ إيذَانًا. انْتَهَى. وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» وَمَعْنَى أَذِنَ اسْتَمَعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا لِلرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ» وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَالْقَيْنَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ بَعْدَهُمَا نُونٌ هِيَ الْأَمَةُ الْمُغَنِّيَةُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (الثَّالِثُ) : ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْهُمْ الْآجُرِّيُّ وَالْحَافِظُ أَبُو مُوسَى وَابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ وَالْحَجَّاوِيُّ فِي إقْنَاعِهِ وَشَرْحِ مَنْظُومَةِ الْآدَابِ وَغَيْرِهِمْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ آدَابًا، مِنْهَا إدْمَانُ تِلَاوَتِهِ، وَالْبُكَاءُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالتَّبَاكِي، وَحَمْدُ اللَّهِ عِنْدَ قَطْعِ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَنِعْمَتِهِ، وَسُؤَالُ الثَّبَاتِ وَالْإِخْلَاصِ، وَالسِّوَاكُ ابْتِدَاءً، وَسُؤَالُ الرَّحْمَةِ عِنْدَ آيَةِ رَحْمَةٍ، وَأَنْ يَتَعَوَّذَ عِنْدَ آيَةِ عَذَابٍ، وَالْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ لَيْلًا لَا نَهَارًا، وَأَنْ يُوَالِيَ قِرَاءَتَهُ وَلَا يَقْطَعُهَا بِحَدِيثِ النَّاسِ مَا لَمْ تَعْرِضْ حَاجَةٌ، وَأَنْ يَقْرَأَ بِالْقِرَاءَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ لَا الشَّاذَّةِ الْغَرِيبَةِ، وَأَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ يَعْنِي ابْتِدَاءَهَا عَلَى الصَّالِحِينَ الْعُدُولِ الْعَارِفِينَ بِمَعَانِيهَا، وَأَنْ يَقْرَأَ مَا أَمْكَنَهُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْعَبْدِ. وَفِي الْحَدِيثِ إنَّ «الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ تُضَاعَفُ عَلَى الْقِرَاءَةِ خَارِجًا عَنْهَا» ، وَأَنْ يَتَحَرَّى قِرَاءَتَهُ مُتَطَهِّرًا، وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ إنْ كَانَ قَاعِدًا، وَأَنْ يُكْثِرَ التِّلَاوَةَ فِي رَمَضَانَ، وَأَنْ يَتَحَرَّى أَنْ يَعْرِضَهُ كُلَّ عَامٍ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ، وَأَنْ يَقْرَأَهُ بِالْإِعْرَابِ وَتَقَدَّمَ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْمَعْنَى الِاجْتِهَادُ عَلَى حِفْظِ إعْرَابِهِ لَا إنَّهُ يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ عَمْدًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ لِتَغْيِيرِهِ الْقُرْآنَ، وَأَنْ يُفَخِّمَهُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ» قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى مَعْنَاهُ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ، وَلَا يُخْضِعُ الصَّوْتَ بِهِ كَكَلَامِ النِّسَاءِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ كَرَاهَةَ الْإِمَالَةِ وَيَحْتَمِلُ إرَادَتَهَا ثُمَّ رَخَّصَ فِيهَا، وَأَنْ يَفْصِلَ كُلَّ سُورَةٍ مِمَّا قَبْلَهَا بِالْوَقْفِ أَوْ التَّسْمِيَةِ، وَلَا يَقْرَأُ مِنْ أُخْرَى قَبْلَ فَرَاغِ الْأُولَى، وَأَنْ يَقِفَ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ. وَقَالَهُ أَبُو مُوسَى، وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ كَوَقْفِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى كُلِّ آيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى آخِرِ السُّوَرِ لَا شَكَّ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ كَسُورَةِ الْفِيلِ مَعَ قُرَيْشٍ. وَأَنْ يَعْتَقِدَ جَزِيلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ إذْ أَهَّلَهُ لِحِفْظِ كِتَابِهِ، وَيَسْتَصْغِرَ عَرَضَ الدُّنْيَا أَجْمَعَ فِي جَنْبِ مَا خَوَّلَهُ تَعَالَى، وَيَجْتَهِدَ فِي شُكْرِهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ الْمُبَاهَاةَ، وَأَنْ لَا يَطْلُبَ بِهِ الدُّنْيَا بَلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يَقْرَأَ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَا سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَقَنَاعَةٍ وَرِضًا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى، مُجَانِبًا لِلدُّنْيَا، مُحَاسِبًا لِنَفْسِهِ، يُعْرَفُ الْقُرْآنُ فِي خُلُقِهِ وَسَمْتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ كِتَابِ الْمَلِكِ، وَالْمُطَّلِعُ عَلَى مَا وَعَدَ فِيهِ وَأَوْعَدَ، وَحَثَّ عَلَيْهِ وَهَدَّدَ، فَإِذَا بَدَرَتْ مِنْهُ سَيِّئَةٌ بَادَرَ مَحَوْهَا بِالْحَسَنَةِ. وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إذَا النَّاسُ نَائِمُونَ، وَبِنَهَارِهِ إذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ، وَبِحُزْنِهِ إذَا النَّاسُ يَفْرَحُونَ، وَبِبُكَائِهِ إذَا النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِصَمْتِهِ إذَا النَّاسُ يَخْلِطُونَ، وَبِخُشُوعِهِ إذَا النَّاسُ يَخْتَالُونَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَاكِيًا مَحْزُونًا حَكِيمًا عَلِيمًا سَكِينًا، وَلَا يَكُونُ جَافِيًا وَلَا غَافِلًا وَلَا صَخِبًا وَلَا صَيَّاحًا وَلَا حَدِيدًا. (الرَّابِعَةُ) اسْتَحَبَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «التَّكْبِيرَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الضُّحَى إلَى أَنْ يَخْتِمَ» . ذَكَرَهُ فِي الْآدَابِ عَنْ ابْنِ تَمِيمٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ وَهُوَ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ أَخَذَهَا الْبَزِّيُّ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَخَذَهَا مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخَذَهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَخَذَهَا أُبَيٌّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ. رَوَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ انْقِطَاعُ الْوَحْيِ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَاوِيهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزِّيُّ وَهُوَ ثَبْتٌ فِي الْقِرَاءَةِ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ جَمَاعَةِ قَرَءُوا يَعْنِي خَتَمُوا بِغَيْرِ تَهْلِيلٍ وَلَا تَكْبِيرٍ، قَالَ إذَا قَرَءُوا بِغَيْرِ حَرْفِ ابْنِ كَثِيرٍ كَانَ تَرْكُهُمْ لِذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ بَلْ الْمَشْرُوعُ الْمَسْنُونُ. (الْخَامِسَةُ) يُسَنُّ التَّعَوُّذُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ قَطَعَهَا قَطْعَ تَرْكٍ وَإِهْمَالٍ أَعَادَ التَّعَوُّذَ إذْ رَجَعَ وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ عَازِمًا عَلَى إتْمَامِهَا إذَا زَالَ الْعُذْرُ كَفَاهُ التَّعَوُّذُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ تَرَكَهَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَاسْتَوْجَهَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا ثُمَّ يَقْرَأُ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لِلِاسْتِحْبَابِ فَلَا يَسْقُطُ بِتَرْكِهَا، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 يَقْتَضِي ذَلِكَ أَمَّا لَوْ تَرَكَهَا حَتَّى فَرَغَ سَقَطَتْ لِعَدَمِ الْقِرَاءَةِ، وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا نَصًّا، وَالْمُرَادُ سِوَى بَرَاءَةٍ فَيُكْرَهُ، وَإِنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ قُرْبَةً مُنِعَ مِنْهُ، فَإِنْ قَرَأَ مِنْ بَعْضِ السُّورَةِ فَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَتِهَا نَصًّا، وَإِنْ قَرَأَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاتِ نَصًّا. قَالَ الْقَاضِي: مَحْصُولُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَصْلِ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ وَالِاسْتِعَاذَةِ. وَعَنْهُ يَجْهَرُ بِهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ. وَعَنْهُ لَا. (السَّادِسَةُ) قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا اخْتَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قِرَاءَةَ الْمُصْحَفِ لِلْأَخْبَارِ أَيْ وَلِيَجْمَعَ بَيْنَ فَضِيلَتِي الذِّكْرِ وَالنَّظَرِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُوَيْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قِرَاءَةُ الرَّجُلِ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ أَلْفَ دَرَجَةٍ، وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَاعَفُ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَلْفَيْ دَرَجَةٍ» قَالَ صَاحِبُ الْآدَابِ الْكُبْرَى: كَذَا نَقَلْته مِنْ خَطِّ ضِيَاءِ الدِّينِ. قَالَ وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى فِي الْوَظَائِفِ فِي ذَلِكَ آثَارًا قَالَ وَفِي الْحَدِيثِ «النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ» . وَرُوِيَ أَنَّ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ قَرَأَ مِائَتَيْ آيَةٍ كُلَّ يَوْمٍ نَظَرًا شَفَعَ فِي سَبْعَةِ قُبُورٍ حَوْلَ قَبْرِهِ وَخَفَّفَ الْعَذَابَ عَنْ وَالِدَيْهِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ» وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَمِنْ ثَمَّ حَذَفَهُ الْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ لِلْآدَابِ الْكُبْرَى. وَمِنْ ثَمَّ عَقَدَ صَاحِبُ الْآدَابِ الْكُبْرَى بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذَا الْأَثَرِ وَأَمْثَالِهِ فَصْلًا تَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، فَهَذَا الْخَبَرُ كَاَللَّذَيْنِ قَبْلَهُ أَقَلُّ مَرَاتِبِهَا الضَّعْفُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مُصْحَفٌ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَوْ آيَاتٍ يَسِيرَةٍ لِئَلَّا يَكُونَ مَهْجُورًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (السَّابِعَةُ) يُسْتَحَبُّ خَتْمُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ نَصًّا «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ وَلَا تَزِيدَنَّ عَلَى ذَلِكَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَإِنْ قَرَأَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَحَسَنٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي قُوَّةً، قَالَ اقْرَأْهُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ثَلَاثٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا. وَلَا بَأْسَ بِالْخَتْمِ فِيمَا دُونَهَا أَحْيَانَا، وَفِي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ كَرَمَضَانَ خُصُوصًا فِي اللَّيَالِي الَّتِي تَطْلُبُ فِيهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ كَأَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَفِي الْأَمَاكِنِ الْفَاضِلَةِ كَمَكَّةَ لِمَنْ دَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، فَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ فِيهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ اغْتِنَامًا لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَتَجُوزُ قِرَاءَتُهُ كُلُّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَعَنْهُ تُكْرَهُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ وَعَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ هُوَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ مِنْ النَّشَاطِ وَالْقُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي لَيْلَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ خَتْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِلَا عُذْرٍ نَصًّا، وَحَرُمَ إنْ خَافَ نِسْيَانَهُ. وَيَكُونُ الْخَتْمُ فِي الشِّتَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَفِي الصَّيْفِ أَوَّلَ النَّهَارِ، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ. وَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَالَ: أَدْرَكْت أَهْلَ الْخَيْرِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَسْتَحِبُّونَ الْخَتْمَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَوَّلَ النَّهَارِ، يَقُولُونَ إذَا خَتَمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِذَا خَتَمَ أَوَّلَ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ. وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَيَجْمَعُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ عِنْدَ الْخَتْمِ نَدْبًا رَجَاءَ عَوْدِ الْبَرَكَةِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ: كَانَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، فَإِذَا خَتَمَ شَرَعَ فِي أُخْرَى لِحَدِيثِ أَنَسٍ «خَيْرُ الْأَعْمَالِ الْحِلُّ وَالرَّاحِلَةُ، قِيلَ وَمَا هُمَا؟ قَالَ افْتِتَاحُ الْقُرْآنِ وَخَتْمُهُ» وَيَدْعُو وَلَا يُكَرِّرُ سُورَةَ الصَّمَدِ وَلَا يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَخَمْسًا مِنْ الْبَقَرَةِ عَقِبَ الْخَتْمِ نَصًّا. قَالَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَثَرٌ صَحِيحٌ. وَقِيلَ يَجُوزُ بَعْدَ الدُّعَاءِ وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ، ذَكَرَهُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى. مَطْلَبٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ بَدَلًا مِنْ الْكَلَامِ (الثَّامِنَةُ) : قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْآنُ بَدَلًا مِنْ الْكَلَامِ مِثْلَ أَنْ يَرَى رَجُلًا جَاءَ فِي وَقْتِهِ فَيَقُولُ {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه: 40] قَالَ فِي الْمُغْنِي وَالشَّرْحِ الْكَبِيرِ: لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ، أَشْبَهَ اسْتِعْمَالَ الْمُصْحَفِ فِي التَّوَسُّدِ. فِي الرِّعَايَةِ فِي الِاعْتِكَافِ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ذَكَرَهُ فِي التَّلْخِيصِ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى سُئِلَ ابْنُ عَقِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ وَضْعِ كَلِمَاتٍ وَآيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي أَوَاخِرِ فُصُولِ خُطْبَةٍ وَعْظِيَّةٍ فَقَالَ تَضْمِينُ الْقُرْآنِ لِمَقَاصِدَ تُضَاهِي مَقْصُودَ الْقُرْآنِ لَا بَأْسَ بِهِ تَحْصِينًا لِلْكَلَامِ كَمَا يُضَمَّنُ فِي الرَّسَائِلِ إلَى الْمُشْرِكِينَ آيَاتٌ مُقْتَضِيَةٌ الدِّعَايَةَ لِلْإِسْلَامِ، فَأَمَّا تَضْمِينُ كَلَامٍ فَاسِدٍ فَلَا، كَكُتُبِ الْمُبْتَدِعَةِ. وَقَدْ أَنْشَدُوا فِي الشِّعْرِ: وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنَيْنَا وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَى الشَّاعِرِ ذَلِكَ لِمَا قَصَدَ مِدْحَةَ الشَّرْعِ وَتَعْظِيمَ شَأْنِ أَهْلِهِ، كَمَا أَنَّ تَضْمِينَ الْقُرْآنِ فِي الشَّرْعِ شَائِعٌ لِصِحَّةِ الْقَصْدِ وَسَلَامَةِ الْوَضْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (التَّاسِعَةُ) يَجُوزُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لَا بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ لُغَةٍ وَلَا نَقْلٍ، فَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ أَوْ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَأَخْطَأَ وَلَوْ أَصَابَ. لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ أَوْ بِمَا لَا يَعْلَمْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَمَعْنَى قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ أَيْ فَسَّرَهُ بِحَدْسِهِ وَفَهْمِهِ وَعَقْلِهِ. وَمَعْنَى فَلْيَتَبَوَّأْ أَيْ فَلْيَتَّخِذْ وَيَتَهَيَّأْ وَيَنْزِلْ مَنْزِلَهُ مِنْ النَّارِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ» قَالَ فِي الْآدَابِ: وَيُقْبَلُ تَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ وَيَلْزَمُ قَبُولُهُ إنْ قُلْنَا قَوْلُهُ حُجَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: يَرْجِعُ إلَى تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ. قَالَ وَقَالَ تَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ كَقَوْلِهِ، فَإِنْ قُلْنَا هُوَ حُجَّةٌ لَزِمَ الْمَصِيرُ إلَى تَفْسِيرِهِ، وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَنَقْلُ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ صِيرَ إلَيْهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ اجْتِهَادًا وَقِيَاسًا عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَلْزَمْ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ مَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا أَوْ يُعَارَضْ بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَقْوَى مِنْهُ فَيُرْجَعُ إلَى تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَحَضَرُوا التَّأْوِيلَ، فَهُوَ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ لَا التَّابِعِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: إلَّا أَنْ يُنْقَلَ ذَلِكَ عَنْ الْعَرَبِ. وَلَا يُعَارِضُهُ مَا نَقَلَهُ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 الْإِمَامِ: نَنْظُرُ مَا كَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ التَّابِعِينَ لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى إجْمَاعِهِمْ لَا عَلَى مَا انْفَرَدَ فِيهِ أَحَدُهُمْ. قَالَهُ الْقَاضِي، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي الِاسْتِمَاعِ لِلْقِرَاءَةِ وَالْخُشُوعِ (الْعَاشِرَةُ) : يُسْتَحَبُّ اسْتِمَاعُ الْقِرَاءَةِ لِلْآيَةِ الشَّرِيفَةِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ لِلْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْخُشُوعِ وَفَضْلِهِ، وَذَمِّ قَسْوَةِ الْقَلْبِ وَالْغَفْلَةِ، فَقَالَ إنْ قِيلَ فَخُشُوعُ الْقَلْبِ لِمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَاجِبٌ، قِيلَ نَعَمْ لَكِنَّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ مُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ، وَالسَّابِقُونَ يَخْتَصُّونَ بِالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَالْمُقْتَصِدُونَ الْأَبْرَارُ هُمْ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْجَنَّةِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْ اسْتِمَاعِهِ إنَّمَا هُوَ فَيْضُ الدُّمُوعِ، وَاقْشِعْرَارُ الْجُلُودِ، وَلِينُ الْقُلُوبِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا} [الزمر: 23] الْآيَةَ. «وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النِّسَاءَ فَلَمَّا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قَالَ حَسْبُك، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ وَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الصَّعْقُ الْغَشْيُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَحَدَثَ فِي التَّابِعِينَ لِقُوَّةِ الْوَارِدِ وَضَعْفِ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ. وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِقُوَّتِهِمْ وَكَمَالِهِمْ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِمْ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: فَأَقْدَمُ مَنْ عَلِمْت هَذَا عَنْهُ الْإِمَامُ الرَّبَّانِيُّ مِنْ أَعْيَانِ التَّابِعِينَ الْكِبَارِ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْرَأُ {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] فَصَعِقَ، وَكَانَ قَبْلَ الظُّهْرِ، فَلَمْ يُفِقْ إلَى اللَّيْلِ، وَكَذَا الْإِمَامُ الْقَاضِي التَّابِعِيُّ الْمُتَوَسِّطُ زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا بَلَغَ {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] شَهِقَ فَمَاتَ، وَكَانَ هَذَا الْحَالُ يَحْصُلُ كَثِيرًا لِلْإِمَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا الشَّيْخِ الْإِمَامِ شَيْخِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَقُولُ لَوْ قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ دَفَعَهُ يَحْيَى. وَحَدَثَ ذَلِكَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ، فَمِنْهُمْ الصَّادِقُ فِي حَالِهِ وَمِنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَلِعَمْرِي أَنَّ الصَّادِقَ مِنْهُمْ عَظِيمُ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 حُضُورِ قَلْبٍ حَيٍّ، وَعِلْمِ مَعْنَى الْمَسْمُوعِ وَقَدْرِهِ، وَاسْتِشْعَارِ مَعْنَى الْمَطْلُوبِ وَفَخَامَةِ أَمْرِهِ، لَكِنَّ الْحَالَ الْأَوَّلَ أَكْمَلُ، وَالْمُتَّصِفُ بِهِ أَرْقَى وَأَفْضَلُ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ مَا يَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ وَأَعْظَمُ، مَعَ ثَبَاتِ قُوَّةِ جَنَانِهِ وَرُسُوخِ بُنْيَانِهِ. نَعَمْ كَثُرَ لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ التَّزْوِيرُ وَالتَّلْبِيسُ، وَأَكْثَرُ مَنْ تَرَى مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ فِي عَصْرِنَا إذَا حَقَقْت فِي الْإِمَّعَانِ عَنْ حَالِهِ تُلْفِيه مِنْ حِزْبِ أَبِي مُرَّةَ إبْلِيسَ، مَعَ الدَّعْوَى الْعَرِيضَةِ، وَالْقُلُوبِ الْمَيِّتَةِ أَوْ الْمَرِيضَةِ، وَالْجَهْلِ بِالْأَوَامِرِ، وَعَدَمِ مَعْرِفَةِ النَّاهِي الْآمِرِ، مَعَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالْجَهْلِ وَالْبِدْعَةِ، وَالتَّهَافُتِ عَلَى حُطَامِ الدُّنْيَا وَقَاذُورَاتِهَا وَلَا تَهَافُتَ الذُّبَابِ، وَالْحِرْصِ عَلَى الْعُكُوفِ عَلَى لَذَّاتِهَا وَالِاخْتِلَاسِ لَهَا وَلَا اخْتِلَاسَ الذِّئَابِ، وَإِطْرَاقِ الرُّءُوسِ عِنْدَ سَمَاعِ رُقَى الشَّيْطَانِ، وَغَفْلَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ حُضُورِ مَجَالِسِ الذَّكَرِ وَالْقُرْآنِ. فَاَللَّهُ يُعَامِلُنَا بِالصَّفْحِ وَالْغُفْرَانِ، وَيُثَبِّتُنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، إنَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. وَقَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا حَدَّثَ بِحَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ زَفَرَ زَفْرَةً وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ثُمَّ ثَانِيَةً ثُمَّ ثَالِثَةً ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ. وَالْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَلِمْت حَدَثَ لَهُ ذَلِكَ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ الْأَحْصَرِ فِيمَنْ رَوَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي تَرْجَمَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَلَانِسِيِّ قَالَ قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الصُّوفِيَّةُ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسَاجِدِ بِلَا عِلْمٍ عَلَى سَبِيلِ التَّوَكُّلِ، قَالَ الْعِلْمُ أَجْلَسَهُمْ، فَقِيلَ لَيْسَ مُرَادُهُمْ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا كِسْرَةُ خُبْزٍ وَخِرْقَةٍ، قَالَ لَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَقْوَامًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ، قِيلَ إنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيَتَوَاجَدُونَ عِنْدَ الْقُرْآنِ فَيَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْغَشْيِ وَالْمَوْتِ كَمَا كَانَ يَحْصُلُ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَذَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَلَا مُخَالَفَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. فَإِنْ قُلْت أَلَيْسَ قَدْ ذَكَرَ أَبُو طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَصَاحِبِ الْعَوَارِفِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْشَدَ بِحَضْرَتِهِ رَجُلٌ: قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى قَلْبِي ... فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِي إلَّا الْحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ ... فَإِنَّهُ عِلَّتِي وَتِرْيَاقِي قَالَ فَتَوَاجَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَوَاجَدَ أَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبِهِ، فَلَمَّا فَرَغُوا آوَى كُلُّ وَاحِدٍ إلَى مَكَانِهِ، ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ بِكَرِيمٍ مَنْ يَهْتَزُّ عِنْدَ السَّمَاعِ، ثُمَّ قَسَمَ رِدَاءَهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ أَرْبَعَمِائَةِ قِطْعَةٍ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ تَوَاجَدَ إمَامُ الْمُرْسَلِينَ، وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَلَا خَالِدٌ وَبَكْرٌ» . قُلْت هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، وَخَبَرٌ بَاطِلٌ مَصْنُوعٌ، وَكَانَ وَاضِعُهُ عَمَّارُ بْنُ إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ بَاقِي رِجَالِهِ لَا يَتَّصِفُونَ بِالْكَذِبِ وَالِاخْتِلَافِ. وَقَدْ قَالَ الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ مِمَّا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ. وَقَالَ فِي تَسْهِيلِ السَّبِيلِ: مَا اُشْتُهِرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُنْشِدَ بَيْنَ يَدَيْهِ: قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي، وَفِي آخِرِهِ فَتَوَاجَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ كَتِفِهِ فَتَقَاسَمَهَا أَهْلُ الصُّفَّةِ وَجَعَلُوهَا رُقَعًا فِي ثِيَابِهِمْ» ، فَكَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، لَكِنْ قَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ وَهُمْ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ. قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَسَبَقَهُ لِذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ أَنَّ الَّذِي أَنْشَدَ أَبُو مَحْذُورَةَ. قَالَ صَاحِبُ تَسْهِيلِ السَّبِيلِ: مَا قِيلَ أَبُو مَحْذُورَةَ قَدْ أَنْشَدَا ... بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّنَا مُهْدِي الْهُدَى قَدْ لَسَعَتْ يَا قَوْمُ حَيَّةُ الْهَوَى ... كَبِدِي فَلَا رَاقٍ لَهَا وَلَا دُوا حَتَّى تَوَاجَدَ النَّبِيُّ ذُو الْعُلَا ... وَسَقَطَتْ بُرْدَتُهُ بَيْنَ الْمَلَا فَقُسِّمَتْ قَالُوا عَلَى الْأَصْحَابِ ... وَرُسِمَتْ لِلرُّقَعِ فِي الثِّيَابِ فَكُلُّ هَذَا كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ ... فَقَاتَلَ اللَّهُ الَّذِي قَدْ أَصَّلَهُ أَبْدَاهُ لِلْجُهَّالِ مَنْ لَا يَرْعَوِي ... وَإِنْ رُوِيَ يَوْمًا فَبِالْوَضْعِ رُوِيَ فَإِنْ تَكُنْ مُقَلِّدًا فَقَلِّدْ ... أَهْلَ الْحَدِيثِ مِنْ الْحَدِيثِ تَهْتَدِي فَكَمْ وَكَمْ لِجَاهِلِ الصُّوفِيَّةِ ... مِنْ بِدَعٍ تُشْبِهُ ذِي الْقَضِيَّةِ يَرْوُونَهَا لِجَاهِلٍ عَنْ جَاهِلٍ ... بِصِيغَةِ الْجَزْمِ مَعَ التَّغَافُلِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ ... هُدَاةُ هَدْيٍ لِهَوَادِي الْأُمَّةِ لَا سِيَّمَا أَرْبَابَ ذِي الزَّوَايَا ... فَمَا مَزَايَاهُمْ سِوَى الرَّزَايَا إلَى آخِرِ الْأَبْيَاتِ. وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِثْبَاتِ. وَرَفْعُك صَوْتًا بِالدُّعَاءِ أَوْ مَعَ الْجِنَازَةِ أَوْ فِي الْحَرْبِ حِينَ التَّشَدُّدِ (وَ) يُكْرَهُ تَنْزِيهًا (رَفْعُك) أَيُّهَا الدَّاعِي (صَوْتًا) وَهُوَ الْهَوَاءُ الْمُنْضَغِطُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمَوَاقِفِ: فِي تَعْرِيفِ الصَّوْتِ أَقْوَالٌ، الْأَوَّلُ أَنَّهُ تَمَوُّجُ الْهَوَاءِ، وَالثَّانِي قَرْعٌ، وَالثَّالِثُ قَلْعٌ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّمَوُّجَ حَرَكَةٌ، وَالْقَرْعُ مُمَاسَّةٌ، وَالْقَلْعُ تَفْرِيقٌ، وَكُلٌّ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالْمُمَاسَّةِ وَالتَّفْرِيقِ مُبَصَّرٌ بِخِلَافِ الصَّوْتِ. قَالَ فَالْحَقُّ أَنَّهُ بَدِيهِيُّ التَّصَوُّرِ لَا احْتِيَاجَ إلَى تَعْرِيفِهِ، وَالتَّمَوُّجُ وَالْقَرْعُ وَالْقَلْعُ أَسْبَابٌ لَهُ وَأَنَّهُ الْتَبَسَ عَلَى مَنْ عَرَّفَهُ بِهَا السَّبَبُ بِالْمُسَبَّبِ. ثُمَّ قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ السَّبَبَ الْقَرِيبَ لِلصَّوْتِ أَنَّ الْهَوَاءَ يَتَمَوَّجُ بِوَاسِطَةِ الْقَرْعِ الْعَنِيفِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْقَارِعِ وَالْمَقْرُوعِ، أَوْ الْقَلْعِ الْعَنِيفِ بَيْنَ الْقَالِعِ وَالْمَقْلُوعِ، وَيَقَعُ عَلَى الْجِلْدِ الْمَمْدُودِ عَلَى الْعَصَبَةِ الَّتِي هِيَ مُقَعَّرُ الصِّمَاخِ مَدُّ الْجِلْدِ عَلَى الطَّبْلِ فَيَحْصُلُ طَنِينٌ فَتُدْرِكُهُ الْقُوَّةُ السَّامِعَةُ الْحَالَّةُ فِي تِلْكَ الْعَصَبَةِ. (بِالدُّعَاءِ) مُتَعَلِّقٌ بِرَفْعِك مُطْلَقًا. نَعَمْ يَجْهَرُ إمَامٌ بِالدُّعَاءِ بِالْقُنُوتِ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ يَجْهَرُ مُنْفَرِدًا نَصًّا، وَقِيلَ وَمَأْمُومٌ. وَظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ الْإِمَامُ فَقَطْ. وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ الْجَهْرُ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ. ثُمَّ قَالَ: وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ يُخَيَّرُ الْمُنْفَرِدُ فِي الْجَهْرِ وَعَدَمِهِ كَالْقِرَاءَةِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُسِرَّ دُعَاءَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] قَالَ هَذَا فِي الدُّعَاءِ (أَوْ) أَيْ وَيُكْرَهُ رَفْعُك الصَّوْتَ (مَعَ الْجِنَازَةِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا اسْمٌ لِلْمَيِّتِ وَالسَّرِيرِ، وَقِيلَ لِلْمَيِّتِ بِالْفَتْحِ وَلِلسَّرِيرِ بِالْكَسْرِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ كَمَا فِي الْمَطَالِعِ. قَالَ فِي الْمُطْلِعِ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَيِّتُ عَلَى السَّرِيرِ فَلَا يُقَالُ لَهُ جِنَازَةٌ وَلَا نَعْشٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ سَرِيرٌ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: لَا يُسَمَّى جِنَازَةً حَتَّى يُشَدَّ الْمَيِّتُ مُكَفَّنًا عَلَيْهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُجْمَلِ: جَنَزْت الشَّيْءَ إذَا سَتَرْته وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الْجِنَازَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْجِنَازَةُ الْمَيِّتُ وَيُفْتَحُ أَوْ بِالْكَسْرِ الْمَيِّتُ وَبِالْفَتْحِ السَّرِيرُ أَوْ عَكْسُهُ، أَوْ بِالْكَسْرِ السَّرِيرُ مَعَ الْمَيِّتِ (أَوْ) أَيْ وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ (فِي الْحَرْبِ) لِلْعَدُوِّ (حِينَ) أَيْ وَقْتَ (التَّشَدُّدِ) أَيْ اشْتِدَادِ الْقِتَالِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: وَكَانَ يُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرْبِ، وَحَمْلِ الْجِنَازَةِ وَالْمَشْيِ بِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ مَعَ الْجِنَازَةِ وَلَوْ بِالْقُرْآنِ اتِّفَاقًا. انْتَهَى. وَحَرَّمَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: الْقَائِلُ مَعَ الْجِنَازَةِ اسْتَغْفِرُوا لَهُ وَنَحْوُهُ بِدْعَةٌ عِنْدَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقِيلَ يُسَنُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسْمِعَ الْمَأْمُومَ الدُّعَاءَ. قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ، وَقِيلَ مَعَ قَصْدِ تَعْلِيمِهِ، وَلَا يَجِبُ الْإِنْصَاتُ لَهُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ. وَلَا يُكْرَهُ الْإِلْحَاحُ بِالدُّعَاءِ بَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْأَثَرِ. وَدُعَاءُ الرَّغْبَةِ بِبَطْنِ الْكَفِّ وَالرَّهْبَةِ بِظَهْرِهِ مَعَ قِيَامِ السَّبَّابَةِ لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ الْقَاضِي: تُسْتَحَبُّ الْإِشَارَةُ إلَى نَحْوِ السَّمَاءِ فِي الدُّعَاءِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: الذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِجَمِيلِ أَوْصَافِهِ وَآلَائِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَالدُّعَاءَ سُؤَالُ الْعَبْدِ حَاجَتَهُ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا، وَلِهَذَا فِي الْحَدِيثِ «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» وَلِذَا كَانَ الْمُسْتَحَبُّ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَبْدَأَ الدُّعَاءَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ حَاجَتِهِ ثُمَّ يَسْأَلُ حَاجَتَهُ كَمَا جَاءَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، وَذَكَرَ مِنْهَا طَرَفًا. مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدْ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَجِلَ هَذَا. ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ. لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» . وَيَنْبَغِي تَحَرِّي الْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَمُدُّ يَدَيْهِ فِي حَالِ الدُّعَاءِ مَعَ الِانْكِسَارِ وَالْخُضُوعِ، وَالْمَسْكَنَةِ وَالْخُشُوعِ، وَإِظْهَارِ الذُّلِّ وَسَفْكِ الدُّمُوعِ، وَلَا يَتَكَلَّفُ السَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ يُشْغِلُ الْقَلْبَ وَيُذْهِبُ الْخُشُوعَ، وَإِنْ دَعَا بِدَعَوَاتٍ مَحْفُوظَةٍ مَعَهُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ سَجْعٍ فَلَيْسَ بِمَمْنُوعٍ، وَيُخْفِضُ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ، وَيُكْثِرُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّلَفُّظِ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّوَسُّلِ بِعَظِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 كَرَمِهِ جَلَّ شَأْنه، وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ، وَلْيَجْتَنِبْ الِاعْتِدَاءَ فِيهِ، وَلْيُكْثِرْ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ. وَنَقْطٌ وَشَكْلٌ فِي مَقَالٍ لِمُصْحَفٍ ... وَلَا تَكْتُبَنْ فِيهِ سِوَاهُ وَحَدِّدْ (وَ) يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ مَرْجُوحَةٍ (نَقْطُ) الْمُصْحَفِ. يُقَالُ: نَقَطَهُ وَنَقَّطَهُ أَعْجَمَهُ، وَالِاسْمُ النُّقْطَةُ بِالضَّمِّ، وَالْجَمْعُ نُقَطٌ كَصُرَدٍ وَنِقَاطٍ كَكِتَابٍ، (وَ) كَذَا يُكْرَهُ (شَكْلٌ) جَمْعُ شَكْلَةٍ يُقَالُ شَكَلَ الْكِتَابَ أَيْ أَعْجَمَهُ كَأَشْكَلَهُ كَأَنَّهُ أَزَالَ عَنْهُ الْإِشْكَالَ. (فِي مَقَالٍ) أَيْ قَوْلٍ (لِمُصْحَفٍ) بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ، وَالضَّمُّ أَشْهَرُ مَأْخُوذٌ مِنْ أُصْحِفَ بِالضَّمِّ أَيْ جُعِلَتْ فِيهِ الصُّحُفُ جَمْعُ صَحِيفَةٍ الْكِتَابُ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: الصَّحِيفَةُ الْكِتَابُ، وَالْجَمْعُ صُحُفٌ وَصَحَائِفُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقِيلَ مُصْحَفٌ؛ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْوَرَقِ الَّذِي يُصْفَحُ فِيهِ مِنْ مُصْحَفٍ كَمُكْرَمٍ وَمَنْ قَالَ: مُصْحَفٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ جَعَلَهُ مِنْ صَحَفْتُ مُصْحَفًا مِثْلُ جَلَسْت مَجْلِسًا، وَمَنْ كَسَرَ الْمِيمَ شَبَّهَهُ بِمِنْقَلٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: فِي كَرَاهَةِ نَقْطِ الْمُصْحَفِ وَشَكْلِهِ وَكِتَابَةِ الْأَخْمَاسِ وَالْأَعْشَارِ وَأَسْمَاءِ السُّوَرِ وَعَدَدِ الْآيَاتِ رِوَايَتَانِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ كِتَابَةُ الْأَجْزَاءِ وَالْأَحْزَابِ وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَثْمَانِ وَمَكِّيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ فَقِيلَ: يُكْرَهُ، وَهِيَ اخْتِيَارُ النَّاظِمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ وَلِأَنَّهُ إذَا جُرِّدَ لَا يَكُونُ فِيهِ إلَّا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ. وَعَنْهُ مُسْتَحَبٌّ نَقْطُهُ. قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: وَمِثْلُهُ شَكْلُهُ، وَيُكْرَهُ التَّعْشِيرُ يَعْنِي وَنَحْوَهُ. وَعَنْهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ، جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صِيَانَةٌ لَهُ عَنْ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ، وَأُجِيبَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَوْفًا مِنْ التَّغْيِيرِ وَقَدْ أُمِنَ الْآنَ، وَلَا يُمْنَعُ لِكَوْنِهِ مُحْدَثًا فَإِنَّ مِنْ الْمُحْدَثَاتِ مَا هُوَ حَسَنٌ بَلْ وَوَاجِبٌ كَتَصْنِيفِ كُتُبِ الْعِلْمِ. فَعُلِمَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ النَّاظِمُ مِمَّا ذَكَرْنَا. وَمِنْ قَوْلِهِ (وَلَا تَكْتُبَنْ) نَهْيُ كَرَاهَةٍ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (فِيهِ) أَيْ الْمُصْحَفِ أَيْ (سِوَاهُ) أَيْ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَجْزَاءِ وَالْأَحْزَابِ وَالْأَنْصَافِ وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَثْمَانِ مَرْجُوحٌ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ كَتْبُ السَّجْدَةِ فِي هَامِشِ الْمُصْحَفِ وَرُمُوزِ الْقُرَّاءِ وَأَسْمَائِهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُمَيَّزَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْخَطِّ بِأَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 يَكْتُبَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ بِالْحِبْرِ الْأَحْمَرِ وَنَحْوِهِ. (وَحَدِّدْ) عَلَى ذَلِكَ فَلَا تُبِحْ الْكِتَابَةَ فِي الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ سِوَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بَلْ كُرِهَ ذَلِكَ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ مَرْجُوحٌ. نَعَمْ يَحْرُمُ مُخَالَفَةُ خَطِّ مُصْحَفِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي وَاوٍ وَيَاءٍ وَأَلِفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَجَازَ تَقْبِيلُ الْمُصْحَفِ، قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ. وَعَنْهُ يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الدَّارِمِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. قَالَ: كَانَ يَضَعُ الْمُصْحَفَ عَلَى وَجْهِهِ وَيَقُولُ: كِتَابُ رَبِّي كِتَابُ رَبِّي. . وَلَا يُكْرَهُ تَطْيِيبُ الْمُصْحَفِ وَلَا جَعْلُهُ عَلَى كُرْسِيٍّ أَوْ كِيسٍ حَرِيرٍ، نَصَّ عَلَيْهِ بَلْ يُبَاحُ ذَلِكَ، وَتَرْكُهُ بِالْأَرْضِ، وَتُكْرَهُ تَحْلِيَتُهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ وَمَرَّ كَلَامُ سَيِّدِنَا شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ النَّاس إذَا اعْتَادُوا الْقِيَامَ لِبَعْضِهِمْ أَوْ لِتَوْقِيعَاتِ الْإِمَامِ فَقِيَامُهُمْ لِكَلَامِ رَبِّ الْأَنَامِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَحْرَى بِالتَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ. وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ. مَطْلَبٌ: فِي أَوَّلِ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَسَمَّاهُ مُصْحَفًا (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : قَالَ السُّيُوطِيّ فِي مَجْمَعِ اللُّغَاتِ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَسَمَّاهُ مُصْحَفًا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَأَوَّلُ مَنْ جَمَعَ اللُّغَاتِ فِي الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ عِنْدَ ظُهُورِ الِاخْتِلَافِ فِي اللُّغَاتِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا فِي أَوَائِلِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ فِي كِتَابِهِ قَلَائِدِ الْمَرْجَانِ: قَدْ اشْتَهَرَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْمَصَاحِفَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَهَا فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَانَ الْقُرْآنُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُفَرَّقًا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ وَلَمْ يَحْفَظْهُ إلَّا ثَلَاثَةٌ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، زَادَ بَعْضُهُمْ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَدْ كَتَبَ النَّاسُ مِنْهُ فِي صُحُفٍ وَفِي جَرِيدٍ وَخَزَفٍ وَأَقْتَابٍ وَأَكْتَافٍ وَأَحْجَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَقَعَ الْقَتْلُ فِي أَهْلِ الْيَمَامَةِ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ، فَجَاءَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ قَدْ عَلِمْت مَنْ قُتِلَ مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَقَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الْقَتْلُ فِي الْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ لَا يُوعَى، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاَللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُ أَبَا بَكْرٍ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدَرَ أَبِي بَكْرٍ لِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، فَقَالَا: يَا زَيْدُ أَنْتَ رَجُلٌ شَابٌّ وَأَنْتَ كُنْت تَكْتُبُ الْوَحْيَ، فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. قَالَ زَيْدٌ: وَاَللَّهِ لَوْ كَلَّفَانِي نَقْلَ جَبَلٍ لَنَقَلْته وَلَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَانِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، فَقُلْت لَهُمَا: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَا: هُوَ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَالَا يُرَاجِعَانِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُمَا. وَإِنَّمَا اخْتَارَا زَيْدًا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً. فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عَرَضَهُ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَقَرَأَهُ زَيْدٌ آخِرَ الْعَرْضِ، فَلِذَلِكَ اخْتَارَاهُ. قَالَ: فَتَتَبَّعْت الْقُرْآنَ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْأَقْتَابِ وَالْجَرِيدِ وَالصُّدُورِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ فَقَدْ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} [التوبة: 128] إلَى آخِرِهَا فَوَجَدَهَا مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ يَجِدْهَا مَعَ غَيْرِهِ فَأَلْحَقَهَا فِي سُورَتِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ فُقِدَتْ آيَةٌ مِنْ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الصُّحُفَ قَدْ كُنْت أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا فَلَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إلَّا خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا» . وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَرَنَ مَعَ زَيْدٍ ثَلَاثَةً مِنْ قُرَيْشٍ سَعِيدَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي الصُّحُفِ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَتْ عِنْدَهُ إلَى أَنْ مَاتَ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ إلَى أَنْ مَاتَ، فَجُعِلَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اخْتَلَفَتْ النَّاسُ فِي الْقِرَاءَةِ. قَالَ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اجْتَمَعَ الْقُرَّاءُ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَةَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَاخْتَلَفُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ حِفْظُ كُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ مَصَاحِفَ انْتَشَرَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ فِي الْآفَاقِ كُتِبَتْ عَنْ الصَّحَابَةِ، كَمُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُصْحَفِ أُبَيٍّ، وَمُصْحَفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 عَائِشَةَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ: أَدْرِك هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إلَيْنَا الصُّحُفَ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إلَيْك، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إلَيْهِ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ وَقَالَ لِلثَّلَاثَةِ إذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إلَى حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَأَرْسَلَ فِي كُلِّ أُفُقٍ مُصْحَفًا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ صَحِيفَةٍ وَمُصْحَفٍ فَحُرِقَ. وَرُوِيَ أَنَّ عِدَّةَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي كَتَبَهَا عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْبَعَةٌ، وَقِيلَ سِتَّةٌ، وَقِيلَ سَبْعَةٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (الثَّانِي) أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمُصْحَفَ الْكَرِيمَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَقِيلَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ اللَّيْثِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كَمَا فِي أَوَائِلِ السُّيُوطِيِّ. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ فِي قَلَائِدِ الْمَرْجَانِ: ذِكْرُ شَكْلِ الْمُصْحَفِ وَنَقْطِهِ. رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ اقْتَرَبَهُ وَعَمِلَهُ وَجَرَّدَ لَهُ الْحَجَّاجَ بِوَاسِطَ وَجَدَّ فِيهِ وَزَادَ تَحْزِيبَهُ، وَأَمَرَ وَالِيَ الْعِرَاقِ الْحَسَنَ بْنَ يَحْيَى بْنَ يَعْمُرَ بِذَلِكَ، وَأَلَّفَ إثْرَ ذَلِكَ كِتَابًا فِي الْقِرَاءَاتِ جَمَعَ فِيهِ مَا رُوِيَ مِنْ اخْتِلَافِ النَّاسِ إلَى أَنْ أَلَّفَ مُجَاهِدٌ كِتَابَهُ فِي الْقِرَاءَاتِ وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمُصْحَفَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ. انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَخَبِ الْمُنْتَخَبِ: أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمُصْحَفَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّالِثُ) : ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي تَرْتِيبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ خِلَافًا هَلْ كَانَ تَوْفِيقًا أَوْ اجْتِهَادًا. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ: تَرْتِيبُ السُّوَرِ بِالِاجْتِهَادِ لَا بِالنَّصِّ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَيَجُوزُ قِرَاءَةُ هَذِهِ قَبْلَ هَذِهِ، وَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ، وَلِذَا تَنَوَّعَتْ مَصَاحِفُ الصَّحَابَةِ فِي كِتَابَتِهَا، لَكِنْ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْمُصْحَفِ زَمَنَ عُثْمَانَ صَارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 هَذَا مِمَّا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ لَهُمْ سُنَّةً يَجِبُ اتِّبَاعُهَا. وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فَثَبَتَ بِالنَّصِّ إجْمَاعًا. (الرَّابِعُ) : قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ وَابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ وَغَيْرُهُمَا: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَتَنْزِيهِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ حَرْفًا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، أَوْ زَادَ حَرْفًا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ عَالَمٌ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوْ الْمُصْحَفِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مِنْهُ، أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِيهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ، أَوْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِذَلِكَ، أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ إنْ جَحَدَ التَّوْرَاةَ أَوْ الْإِنْجِيلَ أَوْ كُتُبَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةَ، أَوْ كَفَرَ بِهَا أَوْ سَبَّهَا أَوْ اسْتَخَفَّ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَتْلُوَّ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الْمَكْتُوبِ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِمَّا جَمَعَهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّلِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] إلَى آخِرِ قُلْ {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ حَقٌّ، وَأَنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفًا قَاصِدًا لِذَلِكَ، أَوْ بَدَّلَهُ بِحَرْفٍ آخَرَ مَكَانَهُ، أَوْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ الْمُصْحَفُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ عَامِدًا لِكُلِّ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَبُو عُثْمَانَ بْنُ الْحَذَّاءِ: جَمِيعُ مَنْ يَنْتَحِلُ التَّوْحِيدَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْجَحْدَ بِحَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنِ كُفْرٌ. وَقَالَ هُوَ وَابْنُ مُفْلِحٍ: وَقَدْ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ عَلَى اسْتِتَابَةِ ابْنِ شَنَبُوذَ الْمُقْرِي أَحَدِ أَئِمَّةِ الْمُقْرِئِينَ الْمُتَصَدِّرِينَ بِهَا مَعَ ابْنِ مُجَاهِدٍ لِقِرَاءَتِهِ وَإِقْرَائِهِ بِشَوَاذٍّ مِنْ الْحُرُوفِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ، وَعَقَدُوا عَلَيْهِ لِلرُّجُوعِ عَنْهُ وَالتَّبَرِّي مِنْهُ سِجِلًّا أَشْهَدَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْوَزِيرِ ابْنِ مُقْلَةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَثِمِائَةِ، وَكَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ مِقْسَمٍ أَبُو بَكْرٍ الْمُقْرِي النَّحْوِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ اُسْتُتِيبَ مِنْ قِرَاءَتِهِ بِمَا لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ وَكَانَ يَقْرَأُ بِذَلِكَ فِي الْمِحْرَابِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى مَا يَسُوغُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ قَارِئٌ. تُوُفِّيَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 [مَطْلَبٌ: فِي عَدَدِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ وَكَلِمَاتِهِ وَآيَاتِهِ وجلالاته وَسُوَرِهِ] مَطْلَبٌ: فِي عَدَدِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ وَكَلِمَاتِهِ وَآيَاتِهِ وَنُقَطِهِ وَجَلَالَاتِهِ وَسُوَرِهِ (فَائِدَةٌ) : جُمْلَةُ عَدَدِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَلَائِدِ الْمَرْجَانِ لِلْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ مَرْعِيٍّ قَالَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا ثَلَثُمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةُ آلَافِ وَسَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ، وَقِيلَ ثَلَثُمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا وَمِائَتَانِ وَأَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ وَعَدَدُ كَلِمَاتِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبْعٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَتِسْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ، وَقِيلَ سَبْعُونَ أَلْفًا وَأَرْبَعُمِائَةٍ وَسِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ: وَعَدَدُ نُقَطِهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا وَأَحَدٌ وَثَمَانُونَ. وَعَدَدُ آيَاتِهِ سِتَّةُ آلَافِ وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَعَدَدُ جَلَالَتِهِ أَلْفَانِ وَسِتُّمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَعَدَدُ سُوَرِهِ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَيُقَالُ نِصْفُ الْقُرْآنِ بِالْحُرُوفِ حَرْفُ الْفَاءِ مِنْ قَوْله تَعَالَى فِي الْكَهْفِ {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19] أَوْ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74] . وَنِصْفُهُ بِالْآيَاتِ قَوْلُهُ فِي الشُّعَرَاءِ {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} [الشعراء: 96] . وَنِصْفُهُ بِالسُّوَرِ قَدْ سَمِعَ. وَفِي كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا جَلَالَةٌ. وَأَطْوَلُ آيَةٍ فِيهِ آيَةُ الدَّيْنِ. وَأَقْصُرُ آيَةٍ {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] . وَأَطْوَلُ كَلِمَةٍ {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} [النور: 55] . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَطْلَبٌ: فِي الْخِضَابِ وَفَوَائِدِ الْحِنَّاءِ] وَغَيِّرْ بِغَيْرِ الْأَسْوَدِ الشَّيْبَ وَابْقِهِ ... وَلِلْقَزَعِ اكْرَهْ ثُمَّ تَدْلِيسَ نَهْدِ (وَغَيِّرْ) أَنْتَ اسْتِحْبَابًا (بِغَيْرِ) الْخِضَابِ (الْأَسْوَدِ الشَّيْبَ) مَفْعُولُ غَيِّرْ، فَيُسَنُّ خِضَابُ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ بِفَتْحِ الْكَافِّ وَالتَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْمَشْهُورُ التَّخْفِيفُ كَمَا فِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ، هُوَ نَبْتٌ يُخْلَطُ مَعَ الْوَسْمَةِ وَيُصْبَغُ بِهِ الشَّعْرُ. وَقِيلَ هُوَ الْوَسْمَةُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَصْبُغُ بِالْكَتَمِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ اسْتِعْمَالُ الْكَتَمِ مُفْرَدًا عَنْ الْحِنَّاءِ، فَإِنَّ الْحِنَّاءَ إذَا خُضِّبَ بِهِ مَعَ الْكَتَمِ جَاءَ أَسْوَدَ وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ السَّوَادِ. قَالَ وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ بِالْحِنَّاءِ أَوْ الْكَتَمِ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. انْتَهَى. وَفِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ: الْكَتَمُ بِفَتْحَتَيْنِ نَبْتٌ فِيهِ حُمْرَةٌ يُخْلَطُ بِالْوَسْمَةِ وَيُخْتَضَبُ بِهِ لِلسَّوَادِ وَقَدْ قِيلَ هُوَ الْوَسْمَةُ. وَفِي كُتُبِ الطِّبِّ: الْكَتَمُ مِنْ نَبَاتِ الْجِبَالِ وَرَقُهُ كَوَرَقِ الْآسِ يُخْضَبُ بِهِ مَدْقُوقًا وَلَهُ ثَمَرٌ قَدْرُ الْفِلْفِلِ، وَيَسْوَدُّ إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 نُضِحَ، وَقَدْ يُعْتَصَرُ مِنْهُ دُهْنٌ يُسْتَصْبَحُ بِهِ فِي الْبَوَادِي. انْتَهَى. وَالْحِنَّاءُ بِالْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ جَمْعٌ وَاحِدُهُ حِنَّاءَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَمْعُ الْحِنَّاءِ حِنَاتٌ بِالْكَسْرِ، يُقَالُ حَنَّأْتُ رَأْسِي مَهْمُوزًا وَحَنَّاهُ تَحَنِّيًا وَتَحْنِيَةً. وَالْيُرَنَّاءُ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مَمْدُودَةً، يُقَالُ يَرْنَأَ أَيْ صَبَغَ بِالْيُرَنَّاءِ وَهُوَ نَبْتٌ كَالسِّدْرِ بِبِلَادِ الْعَرَبِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ بِبِلَادِ مِصْرَ وَوَرَقُهُ شَبِيهٌ بِوَرَقِ الْآسِ، يُؤْخَذُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ، وَأَصْلُهُ يُسَمَّى الْبَلَنْدَ كَسَمَنْدٍ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ الْغَنَّاءِ فِي مَنَافِعِ الْحِنَّاءِ لِسِبْطٍ الْمَرْصَفِيِّ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: الْحِنَّاءُ نَبْتٌ يُزْرَعُ وَلَا يُوجَدُ بِدُونِ الْمَاءِ وَيَعْظُمُ حَتَّى يُقَارِبَ الشَّجَرَ الْكِبَارَ بِجَزَائِرِ السُّوَيْسِ وَمَا يَلِيهَا، وَرَقُهُ كَوَرَقِ الزَّيْتُونِ لَكِنَّهُ أَعْرَضُ يَسِيرًا وَنَوْرُهُ أَبْيَضُ، وَإِذَا أُطْلِقَتْ الْفَاغِيَةُ فَالْمُرَادُ زَهْرُهُ وَالْحِنَّاءُ فَوَرَقُهُ، وَلَيْسَ لِعِيدَانِهِ نَفْعٌ، وَأَجْوَدُهُ الْخَالِصُ الْحَدِيثُ، وَتَبْطُلُ قُوَّتُهُ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَلَا يَكُونُ سَحْقُهُ بِدُونِ الرَّمَلِ فَيَنْبَغِي تَرْوِيقُهُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ وَلَيْسَ فِي الْمُخَضَّبَاتِ أَكْثَرُ سَرَيَانًا مِنْهُ إذَا خُضِبَتْ بِهِ الرِّجْلُ أَوْ الْيَدُ اشْتَدَّتْ حُمْرَةُ الْبَوْلِ بَعْد عَشْرِ دَرَجٍ، فَبِذَلِكَ يَطْرُدُ الْحَرَارَةَ وَيَفْتَحُ السُّدَدَ وَهُوَ يُصْلِحُ الشَّعْرَ خُصُوصًا بِمَاءِ الْكُسْفُرَةِ وَالزِّفْتِ. مَطْلَبٌ: فِي الْخِضَابِ وَفَوَائِدِ الْحِنَّاءِ (فَائِدَةٌ) : نَقَلَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ، وَابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، وَسِبْطُ بْنُ الْمَرْصَفِيِّ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ أُحْصِي مَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ عَدًّا أَنَّ الْحِنَّاءَ إذَا طُلِيَ بِهِ أَسْفَلُ الرِّجْلَيْنِ أَوَّلَ خُرُوجِ الْجُدَرِيِّ أُمِنَ عَلَى الْعَيْنَيْنِ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: إنَّ الْحِنَّاءَ إذَا جُعِلَ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَيَسِيرِ الْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَلُطِّخَ بِهِ أَسْفَلُ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ مَبَادِئِ الْجُدَرِيِّ حَفِظَ الْعَيْنَ مِنْهُ، فَزَادَنَا هَذَا الطَّبِيبُ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. إذَا عَلِمْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ تَغْيِيرَ الشَّيْبِ بِغَيْرِ السَّوَادِ مَنْدُوبٌ، وَفِعْلُهُ مَسْنُونٌ مَطْلُوبٌ، نَصَّ عَلَيْهِ إمَامُ الْأَئِمَّةِ، وَمُجْلِي دُجَى الظُّلُمَاتِ الْمُدْلَهِمَّةِ، سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ مَا نَسْتَحِي نَخْضِبُ، فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 سُبْحَانَ اللَّهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنِّي لَأَرَى الشَّيْخَ الْمَخْضُوبَ فَأَفْرَحُ بِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيُسْتَحَبُّ بِحِنَّاءٍ وَكَتَمٍ لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ. وَلِفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَا بَأْسَ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ قَالَهُ الْقَاضِي، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. وَفِي التَّلْخِيصِ وَالشَّرْحِ. وَقَدَّمَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّ خِضَابَهُ بِغَيْرِ السَّوَادِ سُنَّةٌ وَقَالَ نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السَّبْتِيَّةِ وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَفْعَلُ ذَلِكَ» قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ «كَانَ خِضَابُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَأَمَّا بِالسَّوَادِ فَمَكْرُوهٌ، نَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: قِيلَ لَهُ: تَكْرَهُ السَّوَادَ؟ قَالَ إيْ وَاَللَّهِ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. قَالَ فِي الْآدَابِ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَكَذَا قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ إشَارَةً. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ «مَنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ سَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» سَنَدُهُ لَيِّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَالْكَرَاهَةُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُكْرَهُ بِالسَّوَادِ اتِّفَاقًا نَصَّ عَلَيْهِ، وَفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّلْخِيصِ وَالْغُنْيَةِ فِي غَيْرِ حَرْبٍ وَلَا يَحْرُمُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْمَعَالِي يَحْرُمُ وَهُوَ مُتَّجَهٌ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ: فَإِنْ حَصَلَ بِهِ تَدْلِيسٌ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ حَرُمَ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلِلشَّافِعِيَّةِ خِلَافٌ، وَاسْتَحَبَّهُ فِي الْفُنُونِ بِالسَّوَادِ فِي الْحَرْبِ، وَأَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ ذَمِّهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ فَإِنَّهُ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ كَسَائِرِ التَّدْلِيسِ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: إنَّهُ لَا يُكْرَهُ يَعْنِي الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ فِي الْحَرْبِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اخْضِبُوا بِالسَّوَادِ فَإِنَّهُ أُنْسٌ لِلزَّوْجَةِ وَمَكِيدَةٌ لِلْعَدُوِّ» قَالَ فِي الْآدَابِ: وَهَذَا خَبَرٌ لَا يَصِحُّ. وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ أَنَّ الْمُحْتَسِبَ يَمْنَعُ مَنْ يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ خِضَابُ الشَّيْبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ وَيَحْرُمُ بِالسَّوَادِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: تَرْكُ الْخِضَابِ أَفْضَلُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَآخَرُونَ يَخْضِبُونَ بِالصُّفْرَةِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَخَضَّبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَبَعْضُهُمْ بِالزَّعْفَرَانِ، وَبَعْضُهُمْ بِالسَّوَادِ. وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَكَذَا ابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي بُرْدَةَ وَآخَرِينَ. يُقَالُ: صَبَغَ يَصْبُغُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا. كَانَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ وَيَتَمَثَّلُ: نُسَوِّدُ أَعْلَاهَا وَتَأْبَى أُصُولُهَا ... وَلَا خَيْرَ فِي أَعْلَى إذَا فَسَدَ الْأَصْلُ وَكَانَ سَيِّدُنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ وَيَتَمَثَّلُ: نُسَوِّدُ أَعْلَاهَا وَتَأْبَى أُصُولَهَا ... فَيَا لَيْتَ مَا يُسَوَّدُ مِنْهَا هُوَ الْأَصْلُ وَقَالَ آخَرُ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُسَوِّدُ شَيْبَهُ ... كَيْمَا يُعَدَّ بِهِ مِنْ الشُّبَّانِ أَقْصِرْ فَلَوْ سَوَّدْتَ كُلَّ حَمَامَةٍ ... بَيْضَاءَ مَا عُدَّتْ مِنْ الْغِرْبَانِ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ جَعْفَرٍ السَّرَّاجِ الْحَنْبَلِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ مَصَارِعِ الْعُشَّاقِ: وَمُدَّعٍ شَرْخَ شَبَابٍ وَقَدْ ... عَمَّمَهُ الشَّيْبُ عَلَى وَفْرَتِهِ يَخْضِبُ بِالْوَسْمَةِ عُثْنُونَهُ ... يَكْفِيه أَنْ يَكْذِبَ فِي لِحْيَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْعُثْنُونُ اللِّحْيَةُ أَوْ مَا فَضَلَ مِنْهَا بَعْدَ الْعَارِضَيْنِ وَنَبَتَ عَلَى الذَّقَنِ وَتَحْتِهِ سُفْلًا، أَوْ هُوَ طُولُهَا وَشَعَرَاتٌ طِوَالٌ تَحْتَ حَنَكِ الْبَعِيرِ. انْتَهَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ بْنِ جُرَيْجٍ قَالَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «رَأَيْتُك تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَرَأَيْتُك تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، فَقَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي فِيهَا شَعْرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ مِثْلُ الثَّغَامَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ أَبِي قُحَافَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَحْمِلُهُ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ يَعْنِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ أَقْرَرْت الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ لَأَتَيْنَاهُ تَكْرِمَةً لِأَبِي بَكْرٍ فَأَسْلَمَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ، فَقَالَ: غَيِّرُوهُمَا وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ» قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَوَّلُ مَخْضُوبٍ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ عَنْ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذَ بِيَدِ أَبِي قُحَافَةَ فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا وَقَفَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ غَيِّرُوهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ سَوَادًا» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ «لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ وَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُودُهُ، وَكَانَ رَأْسُ أَبِي قُحَافَةَ ثَغَامَةً، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيه فِيهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَحَقُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 أَنْ يَمْشِيَ إلَيْك مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إلَيْهِ، فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرَهُ وَقَالَ: أَسْلِمْ لِتَسْلَمَ فَأَسْلَمَ» الْحَدِيثَ. قَالَ فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ كَغَيْرِهِ: الثَّغَامَةُ بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ: شَجَرَةٌ إذَا يَبِسَتْ ابْيَضَّتْ أَغْصَانُهَا يُشَبَّهُ بِهَا الشَّيْبُ. . مَطْلَبٌ: فِي الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ رَأَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَسَقًا (نَادِرَةٌ) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَخَبِ الْمُنْتَخَبِ: إنْ قَالَ قَائِلٌ هَلْ تَعْرِفُونَ أَرْبَعَةً رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَسَقًا؟ فَالْجَوَابُ أَبُو قُحَافَةَ، وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَيُكْنَى أَبَا عَتِيقٍ، لَا يُعْرَفُ سِوَاهُمْ. انْتَهَى وَمُرَادُهُ مِنْ الرِّجَالِ، وَإِلَّا فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ، وَأَبُوهَا الصِّدِّيقُ، وَأَبُوهُ أَبُو قُحَافَةَ وَاسْمُهُ عُثْمَانُ. قُلْت: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مَنْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ لَهُ ابْنٌ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ أَعْرِفْ اسْمَهُ وَلَعَلَّ اسْمَهُ مُحَمَّدٌ، وَأَبُوهُ أُسَامَةُ، وَأَبُوهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِإِسْلَامِهِ. فَهَذِهِ النَّادِرَةُ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا فَلَا يُوجَدُ فِي الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَنْ ذَكَرْنَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ أَحَدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ) : ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ زَيْنُ الدِّينِ رَجَبٌ فِي طَبَقَاتِ الْأَصْحَابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَافِظَ أَبَا الْفَرَجِ بْنَ الْجَوْزِيِّ شَرِبَ حَبَّ الْبَلَادِرِ فَسَقَطَتْ لِحْيَتُهُ فَكَانَتْ قَصِيرَةً جِدًّا وَكَانَ يُخَضِّبُهَا بِالسَّوَادِ إلَى أَنْ مَاتَ، وَصَنَّفَ فِي جَوَازِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ مُجَلَّدًا. قُلْت وَغَايَةُ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُعْتَمَدِ الْكَرَاهَةُ وَهِيَ تَزُولُ بِأَدْنَى حَاجَةٍ مَعَ أَنَّ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَالْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ أُسْوَةً - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَجْمَعِينَ. . مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ فَضَائِلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ. وَابْنُ الْجَوْزِيِّ كَانَ عَلَى أَتَمِّ غَايَةٍ مِنْ سَعَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمَنْقُولِ، وَالْعِلْمِ بِالْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَجَوْدَةِ الْخَاطِرِ وَإِدْرَاكِ الْمَعْقُولِ. قَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي الطَّبَقَاتِ: كَانَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لَطِيفَ الصَّوْتِ، حُلْوَ الشَّمَائِلِ، رَخِيمَ النَّغْمَةِ، مَوْزُونَ الْحَرَكَاتِ وَالنَّغَمَاتِ، لَذِيذَ الْمُفَاكَهَةِ، يَحْضُرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 مَجْلِسَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، لَا يُضَيِّعُ مِنْ زَمَانِهِ شَيْئًا، يَكْتُبُ فِي الْيَوْمِ أَرْبَعَ كَرَارِيسَ، يَرْتَفِعُ لَهُ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ كِتَابَتِهِ مَا بَيْنَ خَمْسِينَ مُجَلَّدًا إلَى سِتِّينَ، وَلَهُ فِي كُلِّ عِلْمٍ مُشَارَكَةٌ، لَكِنَّهُ كَانَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ الْأَعْيَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ الْحُفَّاظِ، وَفِي التَّوَارِيخِ مِنْ الْمُتَوَسِّعِينَ، وَمَنَاقِبُهُ وَمَآثِرُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهَا مِثْلُ كِتَابِي هَذَا، وَهُوَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُنَبِّهَ عَلَيْهِ وَعَلَى فَضَائِلِهِ مِثْلِي، نَادِرَةُ الزَّمَانِ، وَإِنْسَانُ سَوَادِ عَيْنِ الْإِنْسَانِ، وَمَنْ اطَّلَعَ عَلَى مُصَنَّفَاتِهِ أَوْ بَعْضِهَا، عَلِمَ بُعْدَ غَوْرِهِ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى السُّنَّةِ وَنَقْلِهَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَوْلُ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَابِقِهِ) أَيْ الشَّيْبَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ نَتْفَ الشَّيْبِ مَكْرُوهٌ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ اتِّفَاقًا. وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ يَحْرُمُ لِلنَّهْيِ لَكِنَّهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. انْتَهَى. وَقَطَعَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى بِالْكَرَاهَةِ فَقَطْ. وَلَفْظُ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْفُرُوعِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ وَقَالَ: إنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لَهِيعَةَ وَبَقِيَّةُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ رِجَالًا يَنْتِفُونَ الشَّيْبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ شَاءَ فَلْيَنْتِفْ نُورَهُ» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبَسَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْإِمَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْتِفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ» . وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ شَابَ شَيْبَةً كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً» . وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ «أَيُّمَا مُسْلِمٍ نَتَفَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ مُتَعَمِّدًا صَارَتْ رُمْحًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُطْعَنُ بِهِ» فَغَيْرُ ثَابِتٍ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَنْصُورٍ الْكَاتِبِ فِي نَتْفِ الشَّيْبِ: أَمُدُّ كَفِّي إلَى الْبَيْضَاءِ أَقْلَعُهَا ... مِنْ لِحْيَتِي فَتَفْدِيهَا بِسَوْدَاءَ هَذِي يَدِي وَهِيَ مِنِّي لَا تُطَاوِعُنِي ... عَلَى مُرَادِي فَمَا ظَنِّي بِأَعْدَائِي مَطْلَبٌ: فِي أَوَّلِ مَنْ شَابَ وَاخْتَتَنَ. (فَوَائِدُ) : (الْأُولَى) : أَوَّلُ مَنْ شَابَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟ فَقَالَ تَعَالَى: هَذَا وَقَارُك، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا، فَمَا بَرِحَ حَتَّى ابْيَضَّتْ لِحْيَتُهُ الشَّرِيفَةُ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَبْلُغُ الْهَرَمَ وَلَمْ يَشِبْ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ وَالِدٌ وَوَلَدٌ فَلَا يُعْرَفُ الِابْنُ مِنْ الْأَبِ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي شَيْئًا أُعْرَفُ بِهِ، فَأَصْبَحَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ أَبْيَضَيْنِ أَزْهَرَيْنِ أَنْوَرَيْنِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ مَا نَصُّهُ: وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّات أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا رَجَعَ مِنْ تَقْرِيبِ وَلَدِهِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَأَتْ سَارَةُ فِي لِحْيَتِهِ شَعْرَةً بَيْضَاءَ، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوَّلَ مَنْ شَابَ، فَأَنْكَرَتْهَا وَأَرَتْهُ إيَّاهَا فَجَعَلَ يَتَأَمَّلُهَا فَأَعْجَبَتْهُ، وَكَرِهَتْهَا سَارَةُ وَطَالَبَتْهُ بِإِزَالَتِهَا فَأَبَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وَأَتَاهُ مَلَكٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا إبْرَاهِيمُ، وَكَانَ اسْمُهُ إبْرَامَ فَزَادَهُ فِي اسْمِهِ هَاءً. وَالْهَاءُ فِي السُّرْيَانِيَّةِ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ: فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَقَالَ أَشْكُرُ إلَهِي وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ صَيَّرَك مُعَظَّمًا فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ وَسَمَكَ بِسِمَةِ الْوَقَارِ فِي اسْمِك وَفِي خَلْقِك أَمَّا اسْمُك فَلِأَنَّك تُدْعَى فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ إبْرَاهِيمُ، وَأَمَّا خَلْقُك فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ نُورًا وَوَقَارًا عَلَى شَعْرِك. فَأَخْبَرَ سَارَةَ بِمَا قَالَ لَهُ الْمَلَكُ وَقَالَ: هَذَا الَّذِي كَرِهْتِيهِ نُورٌ وَوَقَارٌ. قَالَتْ: فَإِنِّي كَارِهَةٌ لَهُ، قَالَ لَكِنِّي أُحِبُّهُ اللَّهُمَّ زِدْنِي وَقَارًا وَنُورًا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ ابْيَضَّتْ لِحْيَتُهُ كُلُّهَا. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ أُمَامَةَ قَالَ: بَيْنَمَا إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَاتَ يَوْمٍ يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى إذْ نَظَرَ إلَى كَفٍّ خَارِجَةٍ مِنْ السَّمَاءِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهَا شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ فَلَمْ تَزَلْ تَدْنُو حَتَّى دَنَتْ مِنْ رَأْسِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَأَلْقَتْ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَتْ أَشْعِلْ وَقَارًا. وَفِي رِوَايَةٍ أَشْعِلْ خَدَّهُ فَأُشْعِلَ رَأْسُهُ مِنْهَا شَيْبًا فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَتَطَهَّرَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَوْحَى إلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ أَوْحَى إلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ فَاخْتَتَنَ فَكَانَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلَ مَنْ شَابَ وَاخْتَتَنَ. وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ النِّسَاءِ وَعَادَتُهُنَّ عَلَى كَرَاهِيَةِ الشَّيْبِ وَهَذَا مُشَاهَدٌ فِي الْعِيَانِ. وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ الْفَحْلُ الْجَاهِلِيُّ مِنْ قَصِيدَةٍ لَهُ طَوِيلَةٍ مِنْ الطَّوِيلِ مَطْلَعُهَا: طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبٌ ... بَعِيدُ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبٌ إلَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا: فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُهُ ... فَلَيْسَ لَهُ فِي وُدِّهِنَّ نَصِيبُ يُرِدْنَ ثَرَاءَ الْمَالِ حَيْثُ عَلِمْنَهُ ... وَشَرْخُ الشَّبَابِ عِنْدَهُنَّ عَجِيبُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْمَخْزُومِيُّ فِي ذَلِكَ: قَالَتْ أُحِبُّك قُلْت كَاذِبَةً ... غُرِّي بِذَا مَنْ لَيْسَ يَنْتَقِدُ لَوْ قُلْت لِي أَشْنَاكَ قُلْت نَعَمْ ... الشَّيْبُ لَيْسَ يُحِبُّهُ أَحَدٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وَقَدْ تَلَطَّفَ مَنْ قَالَ وَأَفَادَ اسْتِجْلَابَ وُدِّهِنَّ بِالْمَالِ: وَخُودٌ دَعَتْنِي إلَى وَصْلِهَا ... وَعَصْرُ الشَّبِيبَةِ مِنِّي ذَهَبَ فَقُلْت مَشِيبِي لَا يَنْطَلِي ... فَقَالَتْ بَلَى يَنْطَلِي بِالذَّهَبِ وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْحَكَمِ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الْبَصْرِيُّ وَأَنْشَدَهُمَا الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ الْخَبِيثَ: فَمَا مِنْك الشَّبَابُ وَلَسْت مِنْهُ ... إذَا سَأَلَتْك لِحْيَتُك الْخِضَابَا وَمَا يَرْجُو الْكَبِيرُ مِنْ الْغَوَانِي ... إذَا ذَهَبَتْ شَبِيبَتُهُ وَشَابَا فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ الْخَبِيثُ فَضَحْتَنَا عِنْدَ النِّسَاءِ وَقَالُوا: وَخَيَّرَهَا أَبُوهَا بَيْنَ شَيْخٍ ... كَثِيرِ الْمَالِ أَوْ حَدَثٍ صَغِيرِ فَقَالَتْ إنْ عَزَمْت فَكُلُّ شَيْءٍ ... أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ وَجْهِ الْكَبِيرِ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَمَّا رَأَيْت شَيْبَ رَأْسِي بَدَا ... فَقَالَتْ عَسَى غَيْرَ هَذَا عَسَى فَقُلْت الْبَيَاضُ لِبَاسُ السُّرُورِ ... وَأَمَّا السَّوَادُ لِبَاسُ الْأَسَى فَقَالَتْ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ ... قَلِيلُ النَّفَاقِ بِسُوقِ النَّسَا وَقَالَ آخَرُ: لَكَلْبٌ عَقُورٌ أَسْوَدُ اللَّوْنِ حَالِكٌ ... عَلَى صَدْرِ سَوْدَاءِ الذَّوَائِبِ كَاعِبِ أَحَبُّ إلَيْهَا مِنْ مُعَانَقَةِ الَّذِي ... لَهُ لِحْيَةٌ بَيْضَاءُ بَيْنَ التَّرَائِبِ (الثَّانِيَةُ) قَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ دَدَهْ فِي أَوَائِلِهِ: أَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَفِي أَوَائِلِهِ كَالسُّيُوطِيِّ: أَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ فِرْعَوْنُ. وَأَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَكَانَ عَهْدُهُمْ أَنَّهُ أَبْيَضُ الشَّعْرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهُ. قَالَ السُّيُوطِيّ: وَأَوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بِالْوَسْمَةِ بِمَكَّةَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، قِيلَ لَهُ لَمَّا نَزَلَ الْيَمَنَ هَلْ لَك أَنْ تُغَيِّرَ هَذَا الْبَيَاضَ فَتَعُودُ شَابًّا، فَخَضَّبَ فَدَخَلَ مَكَّةَ كَأَنَّ شَعْرَهُ حَلْكُ غُرَابٍ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ النِّسَاءِ يَا شَيْبَةَ الْحَمْدِ لَوْ دَامَ لَك هَذَا لَكَانَ حَسَنًا، فَأَنْشَدَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 فَلَوْ دَامَ لِي هَذَا السَّوَادُ حَمِدْته ... فَكَانَ بَدِيلًا مِنْ شَبَابٍ قَدْ انْصَرَمْ تَمَتَّعْت مِنْهُ وَالْحَيَاةُ قَصِيرَةٌ ... وَلَا بُدَّ مِنْ مَوْتٍ تَبْكِيه أَوْ هَرَمْ وَمَاذَا الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمَرْءِ حِفْظُهُ ... وَنِعْمَتُهُ دَوْمًا إذَا عَرْشُهُ انْهَدَمْ وَمِنْ شِعْرِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيِّ، عَلَى مَا نَقَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ الصَّفَدِيُّ فِي الْوَافِي بِالْوَفِيَّاتِ قَوْلُهُ: عَيَّرَتْنِي بِالشَّيْبِ وَهْوَ وَقَارُ ... لَيْتَهَا عَيَّرَتْ بِمَا هُوَ عَارُ إنْ تَكُنْ شَابَتْ الذَّوَائِبُ مِنِّي ... فَاللَّيَالِي تُنِيرُهَا الْأَقْمَارُ قُلْت: وَقَدْ نَسَبَ الْأَبْيَاتَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ لِيَحْيَى بْنِ نَصْرٍ السَّعْدِيِّ الْبَغْدَادِيِّ فِي تَرْجَمَتِهِ وَذَكَرَ لَهُ قَبْلَهُمَا قَوْلَهُ: لَوْ كُنْت ذَا مَالٍ وَذَا ثَرْوَةٍ ... وَالشَّيْبُ مَا آنَ وَلَا قِيلَ كَادَ لَجَامَلَتْ جَمَلٌ بِمِيعَادِهَا ... وَسَاعَدَتْ بِالْوَصْلِ مِنْهَا سُعَادُ وَيُعْجِبنِي مِنْ شِعْرِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُهُ: إذَا مَرِضْنَا نَوَيْنَا كُلَّ صَالِحَةٍ ... وَإِنْ شُفِينَا فَمِنَّا الزَّيْغُ وَالزَّلَلُ نُرْضِي الْإِلَهَ إذَا خِفْنَا وَنَعْصِيهِ ... إذَا أَمِنَّا فَمَا يَزْكُو لَنَا عَمَلُ وَمِنْ شِعْرِهِ فِي الشَّمْعَةِ: وَصَفْرَاءُ مِثْلِي فِي الْقِيَاسِ وَدَمْعُهَا ... سِجَامٌ عَلَى الْخَدَّيْنِ مِثْلُ دُمُوعِي تَذُوبُ كَمَا فِي الْحُبِّ ذَابَتْ صَبَابَةً ... وَتَحْوِي حَشَاهَا مَا حَوَتْهُ ضُلُوعِي وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ الَّذِي كَانَ الْإِمَامُ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَزِيرَهُ وَوَزِيرَ وَالِدِهِ مِنْ قَبْلِهِ الْمُقْتَفِي رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. (الثَّالِثَةُ) ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ مِنْهُمْ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّذِيرَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] قِيلَ هُوَ الشَّيْبُ. وَإِلَى هَذَا أَشَرْت فِي قَصِيدَةٍ لِي: فَوَا أَسَفَى ذَهَبَ الشَّبَابُ وَحَلَّ بِي ... نَذِيرٌ أَتَانِي أَنَّنِي سَوْفَ أَذْهَبُ وَلِي فِي أُخْرَى: إلَيْك أَشْكُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْ وَجَلِي ... نَأَى شَبَابِي سُدًى وَاحْتَاطَ بِي أَجَلِي نَأَى الشَّبَابُ وَجَاءَ الشَّيْبُ يُنْذِرُنِي ... بِأَنَّنِي رَاحِلٌ لِلْقَبْرِ وَاخْجَلِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وَأَخْجَلَنِي مِنْ مَقَامٍ لَسْت أُنْكِرُهُ ... إذَا بَدَا لِي عَلَى رُوسِ الْمَلَا زَلَلِي يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ خُذْ بِيَدِي ... إنِّي أَتَيْت بِلَا عِلْمٍ وَلَا عَمَلِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ رِزْقُ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ 488 كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ رَجَبٍ: وَمَا شَنَآنُ الشَّيْبِ مِنْ أَجْلِ لَوْنِهِ ... وَلَكِنَّهُ حَادٍ إلَى الْبَيْنِ مُسْرِعُ إذَا مَا بَدَتْ مِنْهُ الطَّلِيعَةُ آذَنَتْ ... بِأَنَّ الْمَنَايَا خَلْفَهَا تَتَطَلَّعُ فَإِنْ قَصَّهَا الْمِقْرَاضُ صَاحَتْ بِأُخْتِهَا ... فَتَظْهَرُ تَتْلُوهَا ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُ وَإِنْ خُضِّبَتْ حَالَ الْخِضَابِ لِأَنَّهُ ... يُغَالِبُ صُنْعَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَصْنَعُ فَيُضْحِي كَرِيشِ الدِّيكِ فِيهِ تَلَمُّعٌ ... وَأَفْظَعُ مَا يُكْسَاهُ ثَوْبٌ مُلَمَّعُ إذَا مَا بَلَغْت الْأَرْبَعِينَ فَقُلْ لِمَنْ ... يَوَدُّك فِيمَا تَشْتَهِيه وَيُسْرِعُ هَلُمُّوا لِنَبْكِيَ قَبْلَ فُرْقَةِ بَيْنِنَا ... فَمَا بَعْدَهَا عَيْشٌ لَذِيذٌ وَمَجْمَعُ وَخَلِّ التَّصَابِيَ وَالْخَلَاعَةَ وَالْهَوَى ... وَأُمَّ طَرِيقَ الْحَقِّ فَالْحَقُّ أَنْفَعُ وَخُذْ جُنَّةً تُنْجِي وَزَادًا مِنْ التُّقَى ... وَصُحْبَةَ مَأْمُونٍ فَقَصْدُك مُفْزِعُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ مَا بَكَتْ عَلَى شَيْءٍ مَا بَكَتْ عَلَى الشَّبَابِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: شَيْئَانِ لَوْ بَكَتْ الدُّمُوعَ عَلَيْهِمَا ... عَيْنَايَ حَتَّى يُؤْذِنَا بِذَهَابِ لَمْ يَبْلُغَا الْمِعْشَارَ مِنْ حَقَّيْهِمَا ... فَقْدُ الشَّبَابِ وَفُرْقَةُ الْأَحْبَابِ وَمِنْ الْبُكَاءِ عَلَى الشَّبَابِ قَوْلُ أَبِي الْغُصْنِ الْأَسَدِيِّ وَهُوَ أَبْكَى بَيْتٍ قِيلَ فِيهِ: تَأَمَّلْ رَجْعَةَ الدُّنْيَا سِفَاهًا ... وَقَدْ صَارَ الشَّبَابُ إلَى الذَّهَابِ فَلَيْتَ الْبَاكِيَاتِ بِكُلِّ أَرْضٍ ... جُمِعْنَ لَنَا فَنُحْنَ عَلَى الشَّبَابِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُرْتَضَى: ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ ... فَبَكَى بِأَعْيُنِ كَأْسِهِ رَجُلٌ تَخَوَّنَهُ الزَّمَا ... نُ بِبُؤْسِهِ وَبِبَأْسِهِ فَجَرَى عَلَى غُلَوَائِهِ ... طَلْقَ الْجُمُوحِ بِفَأْسِهِ وَمِنْ كَلَامِ دِعْبِلٍ فِي الشَّيْبِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 أَيْنَ الشَّبَابُ وَأَيَّةُ سَلَكَا ... لَا أَيْنَ يُطْلَبُ ضَلَّ بَلْ هَلَكَا لَا تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ... ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى يَا سَلْمُ مَا بِالْمَشِيبِ مَنْقَصَةٌ ... لَا سُوقَةً يُبْقِي وَلَا مَلِكَا قَصَرَ الْغِوَايَةَ عَنْ هَوَى قَمَرٍ ... وَجَدَ السَّبِيلَ إلَيْهِ مُشْتَرَكَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَقَدْ أَحْسَنَ: إذَا كَانَ الْبَيَاضُ لِبَاسَ حُزْنٍ ... بِأَنْدَلُسَ فَذَاكَ مِنْ الصَّوَابِ أَلَمْ تَرَنِي لَبِسْت ثِيَابَ شَيْبِي ... لِأَنِّي قَدْ حَزِنْت عَلَى الشَّبَابِ مَطْلَبٌ: فِي عَدَدِ مَا شَابَ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (الرَّابِعَةُ) : كَانَ الشَّيْبُ الَّذِي فِي شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ شَعْرَةٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ، مَعَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا أَصْغَرَ مِنْهُ سِنًّا كَالصِّدِّيقِ قَدْ شَابُوا. قَالُوا وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ لُطْفُ الْبَارِي جَلَّ شَأْنُهُ بِنِسَائِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُنَّ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ النِّسَاءِ أَنْ تَنْفِرَ طِبَاعُهُنَّ مِنْ الشَّيْبِ، وَمَنْ نَفَرَ طَبْعُهُ مِنْ الرَّسُولِ خُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَطَفَ اللَّهُ بِهِنَّ فَلَمْ يَشِبْ شَيْبًا تَعَافُهُ النِّسَاءُ. مَعَ أَنَّ الشَّيْبَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ غَيْرُ مُنَفِّرٍ وَلَكِنْ جَلَّتْ حِكْمَةُ الْبَارِي. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: «إنَّ اللَّهَ لِيَسْتَحْيِ أَنْ يُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ بَكَى الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَبْكِي مِمَّنْ يَسْتَحْيِ اللَّهُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ اللَّهِ» . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظٍ «يَقُولُ اللَّهُ إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ عَبْدِي وَأَمَتِي يَشِيبَانِ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ أُعَذِّبُهُمَا» الْحَدِيثَ. وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَتُعُقِّبَ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا. وَذَكَرَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِلَا سَنَدٍ مَرْفُوعًا «مَنْ لَمْ يَرْعَوِ عِنْدَ الشَّيْبِ، وَيَسْتَحْيِ مِنْ الْعَيْبِ، وَلَمْ يَخْشَ اللَّهَ فِي الْغَيْبِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَاجَةٌ» . فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكْرَهَ الشَّيْبَ؛ لِأَنَّهُ نُورُ الْإِسْلَامِ، وَوَقَارٌ مِنْ الْمَلِكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 السَّلَامِ. وَلَا تَغْتَرَّ بِفَسَقَةِ الشُّعَّارِ وَمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَشْعَارِ، مِثْلُ قَوْلِ يَعْقُوبَ بْنِ صَابِرٍ الْمَنْجَنِيقِيِّ كَمَا فِي الْوَافِي بِالْوَفِيَّاتِ: قَالُوا بَيَاضُ الشَّيْبِ نُورٌ سَاطِعٌ ... يَكْسُو الْوُجُوهَ مَهَابَةً وَضِيَاءَ حَتَّى سَرَتْ وَخَطَاتُهُ فِي مَفْرِقِي ... فَوَدِدْت أَنْ لَا أَفْقِدَ الظَّلْمَاءَ وَعَدَلْت أَسْتَبْقِي الشَّبَابَ تَعَلُّلًا ... بِخِضَابِهَا فَصَبَغْتهَا سَوْدَاءَ لَوْ أَنَّ لِحْيَةَ مَنْ يَشِيبُ صَحِيفَةٌ ... لِمَعَادِهِ مَا اخْتَارَهَا بَيْضَاءَ وَقَوْلُ شِهَابِ الدِّينِ التَّلَعْفَرِيِّ فِي ذَلِكَ: لَا تَعْجَلَنَّ فَوَاَلَّذِي جَعَلَ الدُّجَى ... مِنْ لَيْلِ طُرَّتِي الْبَهِيمِ ضِيَاءَ لَوْ أَنَّهَا يَوْمَ الْمَعَادِ صَحِيفَتِي ... مَا سَرَّ قَلْبِي كَوْنَهَا بَيْضَاءَ وَلَكِنْ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ مِصْبَاحِ الْهُدَى وَمَاحِي الضَّلَالَةِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ «أَنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ إكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ» وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَتَعَقَّبَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ وَالْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي أَوَّلِ مَنْ اخْتَرَعَ عِلْمَ الْبَدِيعِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ اخْتَرَعَ عِلْمَ الْبَدِيعِ حَيْثُ يَقُولُ فِي تَائِيَّتِهِ: وَكُنْت امْرَأً مِنِّي التَّصَابِي الَّذِي يُرَى ... وَقَدْ بَلَغَتْ سِنِّي النُّهَى فَتَنَاهَيْتُ وَقُلْت أَيَا نَفْسِي وَهَلْ بَعْدَ شَيْبَةٍ ... نَذِيرٌ فَمَا عُذْرِي إذَا مَا تَمَادَيْتُ وَقَدْ أَبْصَرَتْ عَيْنِي الْمَنِيَّةَ تَنْتَضِي ... سُيُوفَ مَشِيبِي فَوْقَ رَأْسِي فَأَشْفَيْتُ فَخَلَّيْت شَيْطَانَ التَّصَابِي لِأَهْلِهِ ... وَأَدْبَرْت عَنْ شَأْنِ الْغَوِيِّ وَوَلَّيْتُ وَقَالُوا مَشِيبُ الرَّأْسِ يَحْدُو إلَى الرَّدَى ... فَقُلْت أَرَانِي قَدْ قَرُبْت وَدَانَيْتُ تَبَدَّلَ قَلْبِي مَا تَبَدَّلَ مَفْرِقِي ... بَيَاضُ النَّقَا فَقَدْ نَزَعْت وَأَبْقَيْتُ وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيّ فِي جُزْئِهِ تَنْبِيهُ النَّائِمِ الْغَمْرُ عَلَى مَوْسِمِ الْعُمْرِ لِنَفْسِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 قَدْ رَأَيْت الْمَشِيبَ نُورًا تَبَدَّى ... نَوَّرَ الطُّرُقَ ثُمَّ مَا إنْ تَعَدَّى إنَّ ثَوْبَ الشَّبَابِ عَارِيَّةٌ عِنْدِي ... فَجَاءَ الْمُعِيرُ حَتَّى اسْتَرَدَّا جَاءَنِي نَاصِحٌ أَتَانِي نَذِيرُ ... بَيَاضٍ أَرَانِي الْأَمْرَ جَدًّا دَعْ حَدِيثَ الصِّبَا وَرَامَةَ وَالْغَوْرَ ... وَنَجْدَ يَا سَعْدُ وَاهْجُرْ سَعْدًا ثُمَّ خَلِّي حَدِيثَ لَيْلَى وَنِعْمَ ... وَسُعَادَ وَدِّعْ فَدَيْتُكِ دَعْدَا وَتَزَوَّدْ زَادَ الشِّتَاءِ فَقَدْ فَاتَ ... رَبِيعٌ ضَيَّعْت فِيهِ الْوَرْدَا قِفْ عَلَى الْبَابِ سَائِلًا عَفْوَ مَوْلَاك ... فَمَا إنْ يَرَاك يَرْحَمُ عَبْدًا وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ: أَفِقْ يَا قَلْبُ مِنْ خَمْرِ التَّصَابِي ... فَقَدْ آنَ الرَّحِيلُ وَأَنْتَ صَابِي وَبَادَ الْعُمْرُ فِي حُبِّ الْغَوَانِي ... وَرَبَّاتِ الْبَرَاقِعِ وَالنِّقَابِ فَمِنْ سِنِّ الصِّبَا فِي اللَّهْوِ حَتَّى ... بَدَا وَازَفْرَتِي هَذَا التَّغَابِي وَأَخْبَارُ الشَّيْبِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَأَشْهُرُ مِنْ أَنْ تُشْهَرَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ أَدْرَكَتْهُ الْعِنَايَةُ. [حَلْقُ الشعر] (وَلِلْقَزَعِ) وَهُوَ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ وَتَرْكُ بَعْضِهِ (أَكْرَهُ) كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «نَهَى عَنْ الْقَزَعِ وَقَالَ احْلِقْهُ كُلَّهُ أَوْ دَعْهُ كُلَّهُ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْقَزَعُ أَنْ تَحْلِقَ رَأْسَ الصَّبِيِّ وَتَتْرُكَ مَوَاضِعَ مِنْهُ مُتَفَرِّقَةً غَيْرَ مَحْلُوقَةٍ تَشْبِيهًا بِقَزَعِ السَّحَابِ، وَمِثْلُهُ فِي النِّهَايَةِ. وَعُلِمَ مِنْهُ عَدَمُ كَرَاهَةِ حَلْقِ كُلِّ الرَّأْسِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَثَمَّ رِوَايَةٌ يُكْرَهُ حَلْقُهُ، لَكِنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ. قَالَ فِي الشَّرْحِ: لَكِنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ عَلَى إبَاحَةِ الْحَلْقِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَأَمَّا أَخْذُهُ بِالْمِقْرَاضِ وَاسْتِيصَالُهُ فَلَا يُكْرَهُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ. نَعَمْ يُكْرَهُ حَلْقُ الْقَفَا مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ نَحْوُ حِجَامَةٍ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: هُوَ مِنْ فِعْلِ الْمَجُوسِ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَهَذَا يَعْنِي كَلَامَ الْإِمَامِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ لَكِنْ جَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا بِالْكَرَاهَةِ فَقَطْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ثُمَّ) أَكْرَهُ أَيْضًا (تَدْلِيسَ) أَيْ كِتْمَانَ عَيْبٍ (نُهَّدِ) جَمْعُ نَاهِدٍ، مِنْ نَهَدَ الثَّدْيُ كَمَنَعَ وَنَصَرَ نُهُودًا كَعَبَ، وَالْمَرْأَةُ كَعَبَ ثَدْيُهَا كَنَهَدَتْ فَهِيَ مُنْهِدٌ وَنَاهِدٌ وَنَاهِدَةٌ. وَظَاهِرُ نِظَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تَدْلِيسَ الْمَرْأَةِ بِنَحْوِ وَشْمٍ وَوَشْرٍ وَوَصْلٍ مَكْرُوهٌ، وَالْمَذْهَبُ الْحُرْمَةُ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا: يَحْرُمُ نَمْصٌ وَوَشْرٌ وَشْمٌ وَوَصْلُ شَعْرٍ بِشَعْرٍ وَلَوْ بِشَعْرِ بَهِيمَةٍ أَوْ إذْنِ زَوْجٍ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إنْ كَانَ نَجِسًا، وَلَا بَأْسَ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ شَدُّ الشَّعْرِ كَالْقَرْمَلِ. وَأَبَاحَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ النَّمْصَ وَحْدَهُ وَحَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّدْلِيسِ أَوْ أَنَّهُ شِعَارُ الْفَاجِرَاتِ. فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَتِي أَصَابَتْهَا الْحَصْبَةُ فَتَمَزَّقَ شَعْرُهَا وَإِنِّي زَوَّجْتهَا أَفَأَصِلُ فِيهِ؟ فَقَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمَوْصُولَةَ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ «لَعَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» . وَأَخْرَجَا وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] » . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «لُعِنَتْ الْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالنَّامِصَةُ وَالْمُتَنَمِّصَةُ، وَالْوَاشِمَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ مِنْ غَيْرِ دَاءٍ» . فَالْمُتَفَلِّجَةُ هِيَ الَّتِي تَفْلُجُ أَسْنَانَهَا بِالْبَرْدِ وَنَحْوِهِ لِلتَّحْسِينِ. وَالْوَاصِلَةُ الَّتِي تَصِلُ الشَّعْرَ بِشَعْرِ نِسَاءٍ أَوْ دَوَابَّ. وَالْمُسْتَوْصِلَةُ الْمَعْمُولُ بِهَا ذَلِكَ. وَالنَّامِصَةُ الَّتِي تَنْقُشُ الْحَاجِبَ حَتَّى تُرِقَّهُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَرَّحَ بِهِ فُقَهَاؤُنَا هُوَ نَتْفُ الشَّعْرِ مِنْ الْوَجْهِ. وَالْمُتَنَمِّصَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الْمَعْمُولُ بِهَا ذَلِكَ. وَالْوَاشِمَةُ الَّتِي تَغْرِزُ الْيَدَ أَوْ الْوَجْهَ وَنَحْوَهُمَا بِالْإِبَرِ ثُمَّ يُحْشَى ذَلِكَ الْمَكَانُ بِكُحْلٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ أَوْ مِدَادٍ. وَالْمُسْتَوْشِمَةُ الْمَعْمُولُ بِهَا ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ «سَمِعَ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ كَانَتْ فِي يَدِ حَرَسِيٍّ فَقَالَ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، سَمِعْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا وَيَقُولُ إنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ «قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ فَخَطَبَنَا وَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعْرٍ فَقَالَ مَا كُنْت أَرَى أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُهُ إلَّا الْيَهُودَ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَغَهُ فَسَمَّاهُ الزُّورَ» . وَفِي أُخْرَى لَهُمَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ «إنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ زِيَّ سُوءٍ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الزُّورِ» قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي مَا يُكْثِرُ بِهِ النِّسَاءُ أَشْعَارَهُنَّ مِنْ الْخِرَقِ. قَالَ وَجَاءَ رَجُلٌ بِعَصًا عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ أَلَا هَذَا الزُّورُ. وَفِي كِتَابِ أَدَبِ النِّسَاءِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ إيَّاكُنَّ وَقَشْرَ الْوَجْهِ. قَالَ فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ عَنْ الْخِضَابِ، قَالَتْ لَا بَأْسَ بِالْخِضَابِ. وَقَالَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الصَّالِقَةَ وَالْحَالِقَةَ وَالْخَارِقَةَ وَالْقَاشِرَةَ» . وَعَنْهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْعَنُ الْقَاشِرَةَ وَالْمَقْشُورَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَالْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ» فَالْقَاشِرَةُ هِيَ الَّتِي تَقْشُرُ وَجْهَهَا بِالدَّوَاءِ لِيَصْفُوَ لَوْنُهَا. وَالصَّالِقَةُ هِيَ الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالصُّرَاخِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ. وَالْحَالِقَةُ هِيَ الَّتِي تَحْلِقُ شَعْرَهَا عِنْدَ النَّوَائِبِ. وَالْخَارِقَةُ الَّتِي تَخْرِقُ ثَوْبَهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: فَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي قَدْ نُهِيَ عَنْهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَدْ أَخَذَ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 عَلَى مَا رَوَيْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ كَانَ شِعَارَ الْفَاجِرَاتِ فَيَكُنَّ الْمَقْصُودَاتِ بِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لِلتَّدْلِيسِ عَلَى الرَّجُلِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ يَتَضَمَّنُ تَغْيِيرَ خِلْقَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْوَشْمِ الَّذِي يُؤْذِي الْيَدَ وَيُؤْلِمُهَا وَلَا يَكَادُ يُسْتَحْسَنُ، وَرُبَّمَا أَثَّرَ الْقِشْرُ فِي الْجِلْدِ تَحَسُّنًا فِي الْعَاجِلِ ثُمَّ تَأَذَّى بِهِ الْجِلْدُ فِيمَا بَعْدَهُ. وَأَمَّا الْأَدْوِيَةُ الَّتِي تُزِيلُ الْكَلَفَ وَتُحَسِّنُ الْوَجْهَ لِلزَّوْجِ فَلَا أَرَى بِهَا بَأْسًا. وَكَذَلِكَ أَخْذُ الشَّعْرِ مِنْ الْوَجْهِ لِلتَّحَسُّنِ لِلزَّوْجِ. وَيَكُونُ حَدِيثُ النَّامِصَةِ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَقَالَ: شَيْخُنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ الْأَنْمَاطِيُّ: إذَا أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ وَجْهِهَا لِأَجْلِ زَوْجِهَا بَعْدَ رُؤْيَتِهِ إيَّاهَا فَلَا بَأْسَ، وَإِنَّمَا يُذَمُّ إذَا فَعَلَتْهُ قَبْلَ أَنْ يَرَاهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَدْلِيسًا. ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ أُمِّ حَلِيلَةَ قَالَتْ: شَهِدْت امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا تَقُولِينَ فِي قَشْرِ الْوَجْهِ؟ قَالَتْ إنْ كَانَ شَيْءٌ وُلِدَتْ وَهُوَ بِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهَا وَلَا آمُرُهَا وَلَا أَنْهَاهَا، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ حَدَثَ فَلَا بَأْسَ تَعْمِدُ إلَى دِيبَاجَةِ كِسَاهَا فَتُنَحِّيَهَا مِنْ وَجْهِهَا لَا آمُرُهَا وَلَا أَنْهَاهَا. وَقَالَ: قَالَ مُسْلِمٌ وَحَدَّثَتْنَا بَحْسَةُ الرَّاسِبِيَّةُ قَالَتْ حَدَّثَتْنِي أُمُّ نَصْرَةَ قَالَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَوْ كَانَ فِي وَجْهِ بَنَاتِ أَخِي لَأَخْرَجْته وَلَوْ بِشَفْرَةٍ. وَقَالَ وَعَنْ بَكْرَةَ بِنْتِ عُقْبَةَ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَسَأَلَتْهَا عَنْ الْحِنَّاءِ فَقَالَتْ شَجَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ، وَسَأَلَتْهَا عَنْ الْحِفَافِ فَقَالَتْ لَهَا إنْ كَانَ لَك زَوْجٌ فَاسْتَطَعْت أَنْ تَنْتَزِعِي مُقْلَتَيْك فَتَصْنَعِيهِمَا أَحْسَنَ مِمَّا هُمَا فَافْعَلِي. انْتَهَى. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَا بَأْسَ بِالْقَرَامِلِ وَنَحْوِهَا. زَادَ بَعْضُهُمْ لَكِنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ. وَعَنْهُ هِيَ كَالْوَصْلِ بِالشَّعْرِ. قِيلَ لِلْإِمَامِ: تَصِلُ الْمَرْأَةُ بِالْقَرَامِلِ؟ فَكَرِهَهُ. وَظَاهِرُ الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى عَدَمُ مَنْعِ وَصْلِ شَعْرٍ بِغَيْرِ شَعْرٍ، وَصَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ. قَالُوا لِأَنَّهُ لَا تَدْلِيسَ فِيهِ بَلْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ تَحْسِينِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ، لَكِنْ يُكْرَهُ مَا زَادَ عَمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْأَخْبَارِ الْمَارَّةِ الْمَنْعُ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاه: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَقَدْ رَخَّصَتْ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَرَامِلِ وَكُلِّ شَيْءٍ وُصِلَ الشَّعْرُ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ الْوَصْلُ شَعْرًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِعْفَاءُ اللِّحَى نَدْبٌ وَقِيلَ خُذْنَ لِمَا ... يَلِي الْحَلْقَ مَعَ مَا زَادَ عَنْ قَبْضَةِ الْيَدِ (وَإِعْفَاءُ) أَيْ تَرْكُ (اللِّحَى) بِالْقَصْرِ جَمْعُ لِحْيَةٍ بِالْكَسْرِ، شَعْرُ الْخَدَّيْنِ وَالذَّقَنِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا (نَدْبٌ) أَيْ مَنْدُوبٌ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا لَمْ يُسْتَهْجَنْ طُولُهَا (وَقِيلَ خُذْنَ) فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٌ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ (لِمَا) أَيْ لِلشَّعْرِ الَّذِي (يَلِي الْحَلْقَ) مِنْ الْمُوَالَاةِ أَيْ يَدْنُو وَيَقْرُبُ مِنْهُ وَهُوَ الْحُلْقُومُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالْمِيمُ فِي الْحُلْقُومِ أَصْلِيَّةٌ. يُقَالُ حَلْقَمَهُ إذَا قَطَعَ حُلْقُومَهُ أَيْ حَلْقَهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، فَالْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ أَخْذُ مَا تَحْتَ حَلْقِهِ (مَعَ مَا) أَيْ شَعْرٍ (زَادَ عَنْ) قَدْرِ (قَبْضَةِ الْيَدِ) الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ بِقِيلَ هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا: لَا يُكْرَهُ أَخْذُ مَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ مِنْ لِحْيَتِهِ وَلَا أَخْذُ مَا تَحْتَ حَلْقِهِ. وَأَخَذَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ حَاجِبَيْهِ وَعَارِضَيْهِ، نَقَلَهُ ابْنُ هَانِئٍ. وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَا يُكْرَهُ أَخْذُ مَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ، وَنَصُّهُ لَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ وَتَحْتَ حَلْقِهِ لِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَكِنْ إنَّمَا فَعَلَهُ إذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَتَرْكُهُ أَوْلَى، وَقِيلَ يُكْرَهُ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ حُرْمَةُ حَلْقِ اللِّحْيَةِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيَحْرُمُ حَلْقُهَا. وَكَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَحْرُمُ حَلْقُهَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا. انْتَهَى. وَذَكَرَهُ فِي الْإِنْصَافِ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ» زَادَ الْبُخَارِيُّ " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضُلَ أَخَذَهُ. [تَغْطِيَةُ الْإِنَاءِ] وَيُشْرَعُ إيكَاءُ السِّقَا وَغَطَا الْإِنَاءِ ... وَإِيجَافُ أَبْوَابٍ وَطَفْءُ الْمَوْقِدِ (وَيُشْرَعُ) أَيْ يُسْتَحَبُّ وَيُسَنُّ وَيُنْدَبُ شَرْعًا (إيكَاءُ) مَصْدَرًا كَمَنَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 اسْتَوْثَقَ إكَاءَةً وَإِيكَاءً، وَالْوِكَاءُ كَكِسَاءٍ رِبَاطُ (السِّقَا) كَكِسَا أَيْضًا جِلْدُ السَّخْلَةِ إذَا أَجْذَعَ يَكُونُ لِلْمَاءِ وَاللَّبَنِ، جَمْعُهُ أَسْقِيَةٌ وَأَسْقِيَاتٌ وَأَسَاقٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، يُقَالُ وَكَا السِّقَا وَالْقِرْبَةَ وَأَوْكَاهَا وَأَوْكَأَ عَلَيْهَا، وَالْمُرَادُ كُلُّ مَا شُدَّ رَأْسُهُ مِنْ وِعَاءٍ مِنْ نَحْوِ قِرْبَةٍ (وَ) يُشْرَعُ لَك أَيْضًا أَيُّهَا الْمُتَشَرِّعُ الَّذِي لِآدَابِ الشَّرِيعَةِ وَاقْتِفَاءِ آثَارِهَا مُتَشَوِّفٌ وَمُتَطَلِّعٌ (غِطَاءُ) أَيْ تَغْطِيَةُ (الْإِنَا) وَهُوَ الْوِعَاءُ وَجَمْعُهُ آنِيَةٌ وَجَمْعُ الْآنِيَةِ أَوَانِي، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُغَطِّيَ الْإِنَاءَ وَنُوكِي السِّقَاءَ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنْ النَّقِيعِ لَيْسَ مُخَمَّرًا، فَقَالَ: أَلَا خَمَّرْته وَلَوْ تَعْرِضْ عَلَيْهِ عُودًا» زَادَ مُسْلِمٌ قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ «إنَّمَا أَمَرْنَا بِالْأَسْقِيَةِ أَنْ تُوكَأَ لَيْلًا، وَبِالْأَبْوَابِ أَنْ تُغْلَقَ لَيْلًا» وَالصَّحَابِيُّ أَعْلَمُ. قَالَ فِي مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ: قَوْلُهُ بِقَدَحِ لَبَنٍ مِنْ النَّقِيعِ قَالَ وَحِمَى النَّقِيعِ عَلَى عِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنْ الْمَدِينَةِ، وَمِسَاحَتُهُ مِيلٌ فِي بَرِيدٍ وَفِيهِ شَجَرٌ وَيَسْتَحِمُّ حَتَّى يَغِيبَ فِيهِ الرَّاكِبُ قَالَ وَاخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي ضَبْطِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِالنُّونِ مِنْهُمْ النَّسَفِيُّ وَأَبُو ذَرٍّ وَالْقَابِسِيُّ، قَالَ وَكَذَلِكَ قَيَّدْنَاهُ فِي مُسْلِمٍ عَنْ الصَّدَفِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لِابْنِ مَاهَانَ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ صَحَّفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِالْبَاءِ، قَالَ وَإِنَّمَا الَّذِي بِالْبَاءِ فَهُوَ مَدْفِنُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الْأَصِيلِيِّ بِالْفَاءِ مَعَ النُّونِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالنُّونِ وَالْقَافِ. وَقَالَ الْبَكْرِيُّ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ بِالْبَاءِ مِثْلُ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ مَدْفِنُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَهُوَ الْبَقِيعُ الَّذِي حَمَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عُمَرُ، وَهُوَ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ غَرْسُ الْبَقِيعِ. وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ: وَفِيهِ أَنَّ عُمَرَ حَمَى غَرْسَ النَّقِيعِ وَهُوَ مَوْضِعٌ حَمَاهُ لِنِعَمِ الْفَيْءِ أَوْ خَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ فَلَا يَرْعَاهُ غَيْرُهَا، وَهُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ الْمَدِينَةِ كَانَ يَسْتَنْقِعُ فِيهِ الْمَاءُ أَيْ يَجْتَمِعُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْكِ سَقَاكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إنَاءَك وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 عُودًا» وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا «وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ» قَالَ هَمَّامٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَوْ بِعُودٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ: ظَاهِرُهُ التَّخْيِيرُ. وَيُتَوَجَّهُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ مَا يُخَمِّرُ بِهِ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إلَّا أَنْ يَعْرِضَ عَلَى إنَائِهِ عُودًا» . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «وَلَوْ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ شَيْئًا» . وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِمَا بِزِيَادَةٍ: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا» وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُجَافًا، وَلَا يَكْشِفُ غِطَاءً، وَلَا يَحِلُّ وِكَاءً» وَحِكْمَةُ وَضْعِ الْعُودِ إمَّا لِيَعْتَادَ تَخْمِيرَهُ وَلَا يَنْسَاهُ، وَإِمَّا لَرَدِّ دَبِيبٍ أَوْ بِمُرُورِهِ يَعْنِي الدَّبِيبَ عَلَى الْعُودِ. مَطْلَبٌ: فِي إغْلَاقِ الْأَبْوَابِ وَطَفْءِ الْمَوْقِدِ. (وَ) يُشْرَعُ أَيْضًا (إيجَافُ) أَيْ إغْلَاقُ (أَبْوَابٍ) جَمْعُ بَابٍ وَهُوَ الْفُرْجَةُ الْمُتَوَصَّلُ مِنْهَا إلَى الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَإِغْلَاقُ الْبَابِ أَيْ يُسَنُّ، وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ وَيُرْخِيَ السِّتْرَ. قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْبَلْبَانِيُّ فِي آدَابِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ: يُسَنُّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ أَنْ يُوكِئَ سِقَاهُ، وَيُطْفِئَ سِرَاجَهُ، وَيُغْلِقَ بَابَهُ، وَكَذَا فِي الْإِقْنَاعِ: يُسَنُّ تَخْمِيرُ الْإِنَاءِ وَلَوْ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا وَإِيكَاءُ السِّقَاءِ إذَا أَمْسَى، وَإِغْلَاقُ الْبَابِ، فَقَيَّدَ بِالْمَسَاءِ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ قَرِيبًا (وَ) يُشْرَعُ (طَفْءُ) أَيْ إطْفَاءُ (الْمُوَقَّدِ) بِتَشْدِيدِ الْقَافِ يَعْنِي النَّارَ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْوَقَدُ مُحَرَّكَةً النَّارُ وَاتِّقَادُهَا كَالْوَقْدِ وَالْوُقُودِ وَالْقِدَةِ وَالْوَقَدَانِ وَالتَّوَقُّدِ وَالِاسْتِيقَادِ وَالْفِعْلُ وَقَدَ كَوَعَدَ، وَالْوَقُودُ كَصَبُورٍ الْحَطَبُ. وَكَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَشْمَلُ الْمِصْبَاحَ وَغَيْرَهُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «احْتَرَقَ بَيْتٌ عَلَى أَهْلِهِ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا حُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إنَّ هَذِهِ النَّارَ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا قَدْرَ مَوْضِعِ دِرْهَمٍ» الْخُمْرَةُ السَّجَّادَةُ الَّتِي يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّي، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْوَجْهَ أَيْ تُغَطِّيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ فَذَهَبَتْ الْجَارِيَةُ تَزْجُرُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعِيهَا فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَتُحْرِقُكُمْ» قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِطْفَاءِ النَّارِ عِنْدَ النَّوْمِ» ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ. قَالَ صَدْرُ الْوُزَرَاءِ عَوْنُ الدِّينِ بْنُ هُبَيْرَةَ طَيَّبَ اللَّهُ رُوحَهُ: النَّارُ يُسْتَحَبُّ إطْفَاؤُهَا عِنْدَ النَّوْمِ؛ لِأَنَّهَا عَدُوٌّ، فَأَمَّا إنْ جُعِلَ الْمِصْبَاحُ فِي شَيْءٍ مُعَلَّقٍ أَوْ عَلَى مَكَان عَالٍ لَا تَصِلُ الْفُوَيْسِقَةُ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ. انْتَهَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ إطْفَاءَ الْمِصْبَاحِ مِنْ أَجْلِ فِعْلِ الْفُوَيْسِقَةِ، فَإِذَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ الَّتِي عَلَّلَ بِهَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَالَ الْمَنْعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ أَوْكِ سَقَاكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ. .. إلَخْ، وَذِكْرُ اسْمِهِ جَلَّ شَأْنُهُ تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا لِتَكُونَ حَرَكَاتُ الْمُكَلَّفِ مَصْحُوبَةً بِذَكَرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَشْيَاخِ عَنْ ابْنَةِ الْحَجَّاوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ وَالِدَهَا أَفَادَهَا أَنَّهَا إذَا لَمْ تَجِدْ مَا تُغَطِّي بِهِ الْإِنَاءَ تَضَعُ يَدَهَا عَلَيْهِ فَتَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ هَذَا غِطَاؤُك يَعْنِي أَنَّهَا غَطَّتْهُ بِفَضْلِ الْبَسْمَلَةِ، وَذَلِكَ مِنْهُ إمَّا لِتَعْتَادَ التَّغْطِيَةَ فَلَا تُهْمِلُهَا كَمَا قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي تَعْرِيضِ الْعُودِ، وَإِمَّا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِبَرَكَةِ اسْمِ الْمَعْبُودِ جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ. (الثَّانِي) : إطْلَاقُ نَظْمِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَنَاوَلُ فِعْلَ ذَلِكَ مَسَاءً وَنَهَارًا، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِكَوْنِهِ إنَّمَا يُنْدَبُ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ وَقَيَّدَهُ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ بِالْمَسَاءِ وَهُوَ صَرِيحُ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ حَضْرَةِ الرِّسَالَةِ. قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ كَأَصْلِهِ: وَسِيَاقُ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ يَخُصُّ اللَّيْلَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ. قَالَ وَالْمُرَادُ إلَّا فِي بَقَاءِ النَّارِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْمُرَادُ الْغَفْلَةُ عَنْهَا بِنَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 (الثَّالِثُ) : إذَا نَامَ وَلَمْ يُطْفِئْ النَّارَ وَخَالَفَ سُنَّةَ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ فَهَلْ يَضْمَنُ مَا تَلَفَ بِهَا لِغَيْرِهِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: لَمْ أَجِدْ تَصْرِيحًا بِهَا وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَضْمَنَ لِتَعَدِّيهِ بِارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ، وَعَادَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَقَاؤُهَا وَالْغَالِبُ السَّلَامَةُ. قَالَ وَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِي إنَاءٍ لَمْ يُغَطَّ مَعَ احْتِمَالِ الضَّرَرِ بِالْوَبَاءِ الْوَاقِعِ فِيهِ لِنُدْرَةِ ذَلِكَ وَقِلَّتِهِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَّا نَسْقِيَك نَبِيذًا؟ فَقَالَ بَلَى، فَخَرَجَ الرَّجُلُ يَسْعَى فَجَاءَ بِقَدَحِ نَبِيذٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا خَمَّرْته وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ عُودًا قَالَ فَشَرِبَ» وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْمَذْهَبَ لَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ خَبَرَ نُزُولِ الْوَبَاءِ فِيهِ وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «غَطُّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السِّقَاءَ فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لَا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ إلَّا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ» زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ قَالَ اللَّيْثُ: فَالْأَعَاجِمُ عِنْدَنَا يَتَّقُونَ ذَلِكَ فِي كَانُونَ الْأَوَّلِ. قَالَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِيهِ الْوَبَاءُ وَلَا نَعْلَمُ هَلْ يَخْتَصُّ بِالشُّرْبِ أَوْ يَعُمُّ الِاسْتِعْمَالَ وَالشُّرْبَ فَكَانَ تَجَنُّبُهُ أَوْلَى. فَهَذَا مِنْ ابْنِ عَقِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ شُرْبِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: مَنْ أَوْقَدَ نَارًا يَصْطَلِي أَوْ يَطْبُخُ أَوْ تَرَكَ سِرَاجًا فَنَامَ فَوَقَعَ حَرِيقٌ فَأَتْلَفَ نَاسًا وَأَمْوَالًا لَمْ يَضْمَنْ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ الصَّغَانِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «النَّارُ جُبَارٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. قَالَ فَوَجَبَ أَنَّ كُلَّ مَا تَلَفَ بِالنَّارِ هَدَرٌ إلَّا نَارًا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَضْمِينِ صَاحِبِهَا إذَا تَعَمَّدَ الْإِتْلَافَ، فَإِنْ تَعَمَّدَ طَرْحَهَا لِلْإِتْلَافِ فَعَمْدٌ وَإِلَّا فَخَطَأٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَقْلِيمُ أَظْفَارٍ وَنَتْفُ آبَاطِهِ ... وَحَلْقًا وَلِلتَّنْوِيرِ فِي الْعَانَةِ اقْصِدْ (وَ) يُشْرَعُ (تَقْلِيمُ) أَيْ أَخْذُ مَا طَالَ مِنْ (أَظْفَارٍ) جَمْعُ ظُفْرٍ بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِهَا يُقَالُ: قَلَّمْت الظُّفْرَ إذَا أَخَذْت مَا طَالَ مِنْهُ، فَالْقَلْمُ أَخْذُ الظُّفْرِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ شُدِّدَ لِلْكَثْرَةِ، وَالْقُلَامَةُ بِالضَّمِّ مَا سَقَطَ مِنْهَا، وَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 تَعَوَّدَ الْقَصَّ وَفِي الْقَلْمِ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِ كَانَ الْقَصُّ فِي حَقِّهِ كَالْقَلْمِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ: وَيُقَلِّمُ ظُفْرَهُ مُخَالِفًا يَعْنِي يَبْدَأُ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى فَالْوُسْطَى فَالْإِبْهَامِ فَالْبِنْصِرِ فَالسَّبَّاحَةِ وَيُقَالُ لَهَا السَّبَّابَةُ فَإِبْهَامِ الْيُسْرَى فَالْوُسْطَى فَالْخِنْصَرِ فَالسَّبَّاحَةِ فَالْبِنْصِرِ اخْتَارَهُ ابْنُ بَطَّةَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ وَغَيْرُهُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ تَرْتِيبَ ذَلِكَ فِي لَفْظَتَيْ خَوَابِسُ أَوْ خَسَبٌ، ذَكَرَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ فِي الْغُنْيَةِ وَغَيْرِهِ يَرْوِي أَنَّ مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ مُخَالِفًا لَمْ يَرَ فِي عَيْنَيْهِ رَمَدًا. وَرَوَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهَذَا الْخَبَرُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ السَّخَاوِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ، وَقَالَ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الدَّيْبَعِ فِي التَّمْيِيزِ: لَمْ يَثْبُتْ فِي كَيْفِيَّتِهِ وَلَا فِي تَعْيِينِ يَوْمٍ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ. قَالَ وَقَالَ شَيْخُنَا وَمَا يُعْزَى مِنْ النَّظْمِ فِي ذَلِكَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ لِشَيْخِنَا يَعْنِي الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ فَبَاطِلٌ عَنْهُمَا. وَالنَّظْمُ الْمُشَارُ إلَيْهِ: اسْتَبِدَّ مِنْ يُمْنَاك بِالْخِنْصَرِ ... فِي قَصِّ أَظْفَارِك وَاسْتَبْصِرْ وَثَنِّ بِالْوُسْطَى وَثَلِّثْ كَمَا ... قَدْ قِيلَ بِالْإِبْهَامِ فَالْبِنْصِرْ وَاخْتِمْ بِسَبَّابَتِهَا هَكَذَا ... بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَلَا تُنْكِرْ وَابْدَأْ بِإِبْهَامِك مِنْ بَعْدِهَا ... فَالْإِصْبَعِ الْوُسْطَى وَبِالْخِنْصَرْ وَاتَبَعَ الْخِنْصَرَ سَبَّابَةً ... بِنْصِرُهَا خَاتِمَةُ الْأَيْسَرْ فَذَاكَ أَمْنٌ لَك قَدْ حُزْته ... مِنْ رَمَدِ الْعَيْنِ فَلَا تَمْتَرْ وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ مُخَالِفًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. انْتَهَى. وَأَمَّا رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَصِحَّ. وَلِلْحَافِظِ السُّيُوطِيِّ فِي ذَلِكَ مُؤَلَّفٌ سَمَّاهُ الْأَسْفَارَ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَيُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ قَصِّهَا تَكْمِيلًا لِلنَّظَافَةِ. وَقِيلَ إنَّ حَكَّ الْجَسَدِ بِهَا قَبْلَ غَسْلِهَا يَضُرُّهُ. . (وَ) يُشْرَعُ أَنْ يَكُونَ تَقْلِيمُ أَظْفَارِهِ وَ (نَتْفُ) شَعْرِ (آبَاطِهِ) وَالنَّتْفُ نَزْعُ الشَّعْرِ وَنَحْوُهُ، وَالنُّتْفَةُ بِالضَّمِّ مَا نَزَعْته بِإِصْبَعِك مِنْ النَّبْتِ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 أَنَّهُ مَحَلُّ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ ذَلِكَ مِنْ الْوَسَخِ الَّذِي يَجْتَمِعُ وَيَتَبَلَّدُ مَعَ الْعَرَقِ فَيَهِيجُ، فَشُرِعَ فِيهِ النَّتْفُ الَّذِي يُضَعِّفُهُ فَتُخَفَّفُ الرَّائِحَةُ بِهِ بِخِلَافِ الْحَلْقِ فَإِنَّهُ يُقَوِّي الشَّعْرَ وَيُهَيِّجُهُ فَتَكْثُرُ الرَّائِحَةُ لِذَلِكَ، فَإِنْ شَقَّ النَّتْفُ حَلَقَهُ أَوْ تَنَوَّرَ كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقِيلَ يُخَيَّرُ كَمَا فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ «أَنَّ مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَخَلَ فِيهِ شِفَاءٌ وَخَرَجَ مِنْهُ دَاءٌ» رَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ. قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَقَدْ رَأَيْت هَذِهِ الْفَضِيلَةَ وَالِاسْتِحْبَابَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي الرِّعَايَةِ. وَاَلَّذِي فِي الشَّرْحِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَلِّمَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْرِهِ عَلِيًّا بِذَلِكَ، وَالْأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ يَوْمُ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْعَصْرِ. (وَ) اقْصِدْ (حَلْقًا) أَيْ الْحَلْقَ لِلْعَانَةِ (وَلِلتَّنْوِيرِ فِي الْعَانَةِ) وَهُوَ الِاسْتِحْدَادُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ. (أَقْصِدْ) فِعْلُ أَمْرِ قَصَدَ، وَحُرِّك بِالْكَسْرِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ لِلْقَافِيَةِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَحْلِقُ عَانَتَهُ وَلَهُ قَصُّهُ وَإِزَالَتُهُ بِمَا شَاءَ، وَالتَّنْوِيرُ فِي الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَذَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ وَقَدْ أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ قَتَادَةَ قَالَ مَا أَطْلَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي الْغَنِيمَةِ: وَيَجُوزُ حَلْقُهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إزَالَتُهُ كَالنُّورَةِ وَإِنْ ذُكِرَ خَبَرٌ بِالْمَنْعِ حُمِلَ عَلَى التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ. وَكَرِهَ الْآمِدِيُّ كَثْرَةَ التَّنْوِيرِ؛ لِأَنَّهُ يُضْعِفُ الشَّهْوَةَ وَرُبَّمَا أَشْعَرَ نِظَامُهُ بِأَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنْ التَّنْوِيرِ لِتَقْدِيمِهِ لَهُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ. (فَائِدَتَانِ: الْأُولَى) يُسَنُّ أَنْ لَا يَحِيفَ عَلَى الْأَظْفَارِ فِي التَّقْلِيمِ فِي الْغَزْوِ وَالسَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى نَحْوِ حَلِّ حَبْلٍ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: قَالَ الْإِمَامُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَفِّرُوا الْأَظْفَارَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ سِلَاحٌ، وَقَالَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا نُحْفِيَ الْأَظْفَارَ فِي الْجِهَادِ» وَفِي مَعْنَاهُ السَّفَرُ. وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ كُلَّ أُسْبُوعٍ نَدْبًا. وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ سِنْدِيٍّ: حَلْقُ الْعَانَةِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ كَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 يُتْرَكُ؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ لِلْحَدِيثِ فَأَمَّا الشَّارِبُ فَفِي كُلِّ جُمُعَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ وَحْشًا، وَقِيلَ عِشْرِينَ وَقِيلَ لِلْمُقِيمِ، وَرَوَى الْبَغَوِيّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُ أَظْفَارَهُ وَشَارِبَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ» . نَعَمْ إنَّمَا يُكْرَهُ تَرْكُهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ لِحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا يُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ» وَيُنْدَبُ دَفْنُ ذَلِكَ كُلِّهِ نَصَّ عَلَيْهِ. وَفِي الْإِقْنَاعِ يُدْفَنُ الدَّمُ وَالشَّعْرُ وَالظُّفْرُ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مِثْلِ بِنْتِ مِشْرَحٍ الْأَشْعَرِيَّةِ «قَالَتْ: رَأَيْت أَبِي يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَدْفِنُهَا وَيَقُولُ: رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ» . وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُعْجِبُهُ دَفْنُ الدَّمِ» . وَقَالَ مُهَنَّا سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَيَدْفِنُهُ أَمْ يُلْقِيه؟ قَالَ يَدْفِنُهُ. قُلْت بَلَغَك فِيهِ شَيْءٌ؟ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] قَالَ يُلْقُونَ فِيهَا الدَّمَ وَالشَّعْرَ وَالْأَظَافِرَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَتَدْفِنُونَ فِيهَا مَوْتَاكُمْ. (الثَّانِيَةُ) : لَا بَأْسَ بِقَصِّ ظُفْرِهِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ جُنُبٌ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ، بِمَا صُورَتُهُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ جُنُبًا وَقَصَّ ظُفْرَهُ أَوْ شَارِبَهُ أَوْ مَشَّطَ رَأْسَهُ هَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ فَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى هَذَا وَقَالَ إذَا قَصَّ الْجُنُبُ شَعْرَهُ أَوْ ظُفْرَهُ فَإِنَّهُ تَعُودُ إلَيْهِ أَجْزَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ فَيَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ كَشْطٌ مِنْ الْجَنَابَةِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ عَلَى كُلِّ شَعْرَةٍ قَشْطًا مِنْ الْجَنَابَةِ فَهَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ؟ فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ لَهُ الْجُنُبُ فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ «حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» . قَالَ وَمَا أَعْلَمُ عَلَى كَرَاهَةِ إزَالَةِ شَعْرِ الْجُنُبِ وَظُفْرِهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، بَلْ قَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي أَسْلَمَ أَلْقِ عَنْك شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ» فَأَمَرَ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَأْخِيرِ الِاخْتِتَانِ وَإِزَالَةِ الشَّعْرِ عَنْ اغْتِسَالٍ فَإِطْلَاقُ كَلَامِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْأَمْرَيْنِ، وَكَذَلِكَ تُؤْمَرُ الْحَائِضُ بِالِامْتِشَاطِ فِي غُسْلِهَا مَعَ أَنَّ الِامْتِشَاطَ يَذْهَبُ بِبَعْضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 الشَّعْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلِمْنَا عَدَمَ كَرَاهَةِ ذَلِكَ وَأَنَّ مَا يُقَالُ فِيهِ مِمَّا ذُكِرَ لَا أَصْلَ لَهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَيَحْسُنُ خَفْضُ الصَّوْتِ مِنْ عَاطِسٍ ... وَأَنْ يُغَطِّيَ وَجْهًا لِاسْتِتَارٍ مِنْ الرَّدِي (وَيَحْسُنُ) يَعْنِي يُسَنُّ وَيُنْدَبُ (خَفْضٌ) - ضِدُّ الرَّفْعِ - الصَّوْتِ الْخَارِجِ (مِنْ عَاطِسٍ) فِي حَالَةِ عُطَاسِهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَسْمَعُ جَلِيسُهُ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَأَحْمَدَ بْنِ أَصْرَمَ (وَ) يَحْسُنُ بِمَعْنَى يُسَنُّ مِنْ الْعَاطِسِ (أَنْ يُغَطِّيَ) أَيْ يُخَمِّرَ (وَجْهًا) مِنْهُ (لِ) أَجْلِ (اسْتِتَارِ) هـ (مِنْ) إيصَالِ (الرَّدِي) يَعْنِي الْأَذَى الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ بِسَبَبِ الْعُطَاسِ إلَى غَيْرِهِ فَيُؤْذِيهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَيَبْعُدُ مِنْ النَّاسِ. وَاسْتَغْرَبَ ذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا. انْتَهَى. وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِثَوْبِهِ وَيَدِهِ ثُمَّ غَضَّ لَهَا صَوْتَهُ» . قَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي تَغْطِيَةِ وَجْهِ الْعَاطِسِ لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْ فَمِهِ شَيْءٌ يُؤْذِي جُلَسَاءَهُ مِنْ بُصَاقٍ وَغَيْرِهِ أَوْ يَخْرُجَ شَيْءٌ يُفْحِشُ مَنْظَرَهُ. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ: قَالَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ: الْعُطَاسُ لَا يَكُونُ أَوَّلَ مَرَضٍ أَبَدًا إلَّا أَنْ يَكُونَ زُكْمَةً. قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: فَإِذَا عَطَسَ الْإِنْسَانُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى صِحَّةِ بَدَنِهِ وَجَوْدَةِ هَضْمِهِ وَاسْتِقَامَةِ قُوَّتِهِ. (وَ) حِينَئِذٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ (يَحْمَدَ) اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى صِحَّتِهِ وَاسْتِقَامَةِ قُوَّتِهِ (جَهْرًا) لِيَسْمَعَ تَحْمِيدَهُ مَنْ عِنْدَهُ (وَلْيُشَمِّتْهُ) أَيْ الْعَاطِسَ (سَامِعٌ لِتَحْمِيدِهِ) الصَّادِرِ مِنْهُ وُجُوبًا، فَاللَّامُ لِلْأَمْرِ وَيُشَمِّتُ مَجْزُومٌ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَمَعْنَى شَمَّتَهُ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُهْمَلَةِ دَعَا لَهُ بِقَوْلِهِ يَرْحَمُك اللَّهُ أَوْ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَالتَّسْمِيتُ بِالْمُهْمَلَةِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الشَّيْءِ وَالدُّعَاءُ لِلْعَاطِسِ وَلُزُومُ السَّمْتِ وَقَالَ وَالتَّشْمِيتُ بِالْمُعْجَمَةِ التَّسْمِيتُ وَالْجَمْعُ وَالتَّحْنِينُ. انْتَهَى. قَالَ فِي الْآدَابِ التَّشْمِيتُ بِالْمُعْجَمَةِ هِيَ الْفُصْحَى وَمَعْنَاهَا أَبْعَدَك اللَّهُ عَنْ الشَّمَاتَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: كُلُّ دَاعٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ مُشَمِّتٌ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُمَا الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَالْمُعْجَمَةُ أَعْلَاهُمَا وَالشَّوَامِتُ قَوَائِمُ الدَّابَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وَقَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. يُقَالُ لَا تَرَكَ اللَّهُ لَهَا شَامِتَةً أَيْ قَائِمَةً. انْتَهَى. وَبِهِمَا جَاءَ الْحَدِيثُ. قَالَ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: التَّسْمِيتُ بِالْمُهْمَلَةِ تَفْعِيلٌ مِنْ السَّمْتِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ حُسْنُ الْهَيْئَةِ وَالْوِقَايَةِ، فَيُقَالُ لِفُلَانٍ سَمْتٌ حَسَنٌ، فَمَعْنَى سَمَّتْ الْعَاطِسَ وَقَّرْته وَأَكْرَمَتْهُ وَتَأَدَّبْت مَعَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الدُّعَاءِ لَهُ. وَقِيلَ سَمَّتَهُ دَعَا لَهُ أَنْ يُعِيدَهُ اللَّهُ إلَى سَمْتِهِ قَبْلَ الْعُطَاسِ مِنْ السُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَطُمَأْنِينَةِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّ فِي الْعُطَاسِ مِنْ انْزِعَاجِ الْأَعْضَاءِ وَاضْطِرَابِهَا مَا يُخْرِجُ الْعَاطِسَ عَنْ سَمْتِهِ، فَإِذَا قَالَ لَهُ السَّامِعُ يَرْحَمُك اللَّهُ فَقَدْ دَعَا لَهُ أَنْ يُعِيدَهُ اللَّهُ إلَى سَمْتِهِ وَهَيْئَتِهِ. وَأَمَّا التَّشْمِيتُ بِالْمُعْجَمَةِ فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ وَجُمِعَ: أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّسْمِيتِ وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ. ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْقَلْبِ وَالْإِبْدَالِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَيَّهمَا الْأَصْلُ وَلَا أَيَّهمَا الْبَدَلُ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمُهْمَلَةُ الْأَصْلُ فِي الْكَلِمَةِ، وَعَكَسَ تِلْمِيذُهُ ابْنُ جِنِّي؛ لِأَنَّ الشَّوَامِتَ الَّتِي هِيَ الْقَوَائِمُ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُ الْفَرَسَ وَنَحْوَهُ وَبِهَا عِصْمَتُهُ وَهِيَ قِوَامُهُ، فَكَأَنَّهُ إذَا دَعَا لَهُ فَقَدْ نَهَضَهُ وَثَبَّتَ أَمْرَهُ وَأَحْكَمَ دَعَائِمَهُ وَأَنْشَدَ النَّابِغَةُ: طَوْعَ الشَّوَامِتِ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ صُرَدٍ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَشَمَّتَ الْإِبِلُ إذَا حَنَّتْ وَسَمِنَتْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: مَعْنَى شَمَّتَ الْعَاطِسَ أَزَلْتُ عَنْهُ الشَّمَاتَةَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَطْلَبٌ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ] قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا: وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إذَا حَمِدَ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَرَدِّ السَّلَامِ إنْ كَانُوا جَمَاعَةً وَإِلَّا فَفَرْضُ عَيْنٍ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ» وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُطَاسَ يَدُلُّ عَلَى خِفَّةِ بَدَنٍ وَنَشَاطٍ، وَالتَّثَاؤُبُ غَالِبًا لِثِقَلِ الْبَدَنِ وَامْتِلَائِهِ وَاسْتِرْخَائِهِ فَيَمِيلُ إلَى الْكَسَلِ، فَأَضَافَهُ إلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ يُرْضِيه، وَمِنْ تَسَبُّبِهِ لِدُعَائِهِ إلَى الشَّهَوَاتِ، يَعْنِي يُشِيرُ إلَى مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَقُلْ: هَاهْ هَاهْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَضْحَكُ مِنْهُ» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ» . وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ كَمَا فِي الْآدَابِ لِابْنِ مُفْلِحٍ «الْعُطَاسُ مِنْ اللَّهِ وَالتَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ لَمْ يُشَمِّتْهُ» وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِ النَّاظِمِ لِتَحْمِيدِهِ فَإِنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ التَّشْمِيتِ الْحَمْدَ فَإِذَا لَمْ يَحْمَدْ لَمْ يُشَمَّتْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «عَطَسَ عِنْدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَانِ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الْآخَرَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَمَّتَّ فُلَانًا وَلَمْ تُشَمِّتنِي، فَقَالَ: إنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِنَّك لَمْ تَحْمَدْ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فَشَمِّتُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ تَعَالَى فَلَا تُشَمِّتُوهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ حَقٌّ عَلَى الرَّجُلِ إذَا عَطَسَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ وَأَنْ يُسْمِعَ مَنْ عِنْدَهُ، وَحَقٌّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُشَمِّتُوهُ. انْتَهَى. فَإِنْ شَمَّتَ مَنْ لَمْ يَحْمَدْ كُرِهَ. فَإِنْ عَطَسَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ فَسَمِعَ الْعُطَاسَ وَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَمِدَ اللَّهَ أَمْ لَا قَالَ يَرْحَمُك اللَّهُ إنْ كُنْت حَمِدْت اللَّهَ. قَالَ مَكْحُولٌ: كُنْت إلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَرْحَمُك اللَّهُ إنْ كُنْت حَمِدْت اللَّهَ. فَإِنْ عَطَسَ فَحَمِدَ وَلَمْ يُشَمِّتْهُ أَحَدٌ فَسَمِعَهُ مَنْ بَعُدَ عَنْهُ شُرِعَ لَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ حَتَّى يُسْمِعَهُ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي دَاوُد صَاحِبِ السُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ فِي سَفِينَةٍ فَسَمِعَ عَاطِسًا عَلَى الشَّطِّ حَمِدَ، فَاكْتَرَى قَارِبًا بِدِرْهَمٍ حَتَّى جَاءَ إلَى الْعَاطِسِ فَشَمَّتَهُ ثُمَّ رَجَعَ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَعَلَّهُ يَكُونُ مُجَابَ الدَّعْوَةِ. فَلَمَّا رَقَدُوا سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ إنَّ أَبَا دَاوُد اشْتَرَى الْجَنَّةَ مِنْ اللَّهِ بِدِرْهَمٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يَقُولُ الْعَاطِسُ وَمَا يَقُولُ لَهُ الْمُشَمِّتُ. (وَلْيُبْدِ) الْعَاطِسُ (رَدَّ الْمُعَوَّدِ) أَيْ الْمُعْتَادِ الْوَارِدِ فِي سُنَّةِ خَيْرِ الْعِبَادِ. فَيَجِبُ عَلَى الْعَاطِسِ بَعْدَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيُشَمَّتَ أَنْ يَقُولَ مُجِيبًا لِمَنْ شَمَّتَهُ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُك اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُك اللَّهُ فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَإِنْ زَادَ " وَيُدْخِلُكُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَكُمْ " فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَهُ، وَذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَالْآدَابِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْ يَقُولُ " يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ " وَقِيلَ يَقُولُ مِثْلَ مَا قِيلَ لَهُ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ يَرْحَمُك اللَّهُ قَالَ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: التَّشْمِيتُ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. وَهَذَا مَعْنَى مَا نَقَلَ غَيْرُهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ هَذَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ. وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَالثَّانِي يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ. كَذَا قَالَ. وَصَوَّبَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَخْتَارُ أَصْحَابُنَا يَهْدِيكُمْ اللَّهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ يُدِيمُ اللَّهُ هُدَاكُمْ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا عَطَسَ سُنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كُلُّ ذَلِكَ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَقُولَ لَهُ جَلِيسُهُ: يَرْحَمُك اللَّهُ. وَجَازَ الْإِتْيَانُ بِمِيمِ الْجَمْعِ، وَأَنْ يَقُولَ الْعَاطِسُ مُجِيبًا لِمَنْ شَمَّتَهُ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ إلَى آخِرِهِ كَمَا مَرَّ وَهُوَ الْأَفْضَلُ، أَوْ يَقُولَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، وَقِيلَ يَقُولُ مِثْلَ مَا قِيلَ لَهُ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ وَلَا أَصْلَ لِمَا اعْتَادَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ اسْتِكْمَالِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَذَا الْعُدُولُ عَنْ الْحَمْدِ إلَى أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَمْدِ فَمَكْرُوهَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ ابْنَهُ عَطَسَ فَقَالَ: أَبْ، فَقَالَ: وَمَا أَبْ؟ إنَّ الشَّيْطَانَ جَعَلَهَا بَيْنَ الْعَطْسَةِ وَالْحَمْدِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِلَفْظِ أَشْهُرٍ بَدَلَ أَبْ. فَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: يُخَيَّرُ بَيْنَ الْحَمْدِ لِلَّهِ أَوْ يَزِيدُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ ثَنَاءً كَانَ أَفْضَلَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَأْثُورًا. وَإِنَّ حَمْدَهُ إذَا عَطَسَ سُنَّةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وَتَشْمِيتُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِجَابَةُ الْمُشَمِّتِ فَرْضُ عَيْنٍ مِنْ الْوَاحِدِ وَمِنْ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ عَطَسَ جَمَاعَةٌ فَشُمِّتُوا فَرْضُ كِفَايَةٍ كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ خِلَافًا لِظَاهِرِ الدَّلِيلِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ فَرْضُ عَيْنٍ. قَالَ الْإِمَامُ بْنُ الْقَيِّمِ: وَلَا دَافِعَ لَهُ. انْتَهَى. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ يَرْحَمُك اللَّهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ يَرْحَمُك اللَّهُ» . [فَوَائِد: فِي الْعُطَاس] (فَوَائِدُ) الْأُولَى قَالَ الْإِمَامُ بْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: وَمِمَّا كَانَ الْجَاهِلِيَّةُ يَتَطَيَّرُونَ بِهِ وَيَتَشَاءَمُونَ مِنْهُ الْعُطَاسُ كَمَا يَتَشَاءَمُونَ بِالْبَوَارِحِ وَالسَّوَانِحِ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ يَصِفُ فَلَاةً: قَطَعْتُهَا وَلَا أَهَابُ الْعُطَاسَا وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ: وَقَدْ أَغْتَدِي قَبْلَ الْعُطَاسِ بِهَيْكَلٍ ... شَدِيدِ مَسَدِّ الْجَيْبِ نِعْمَ الْمَنْطِقُ أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ تَنَبَّهَ لِلصَّيْدِ قَبْلَ أَنْ يَتَنَبَّهَ النَّاسُ مِنْ نَوْمِهِمْ لِئَلَّا يَسْمَعَ عُطَاسًا فَيَتَشَاءَمَ بِهِ، وَكَانُوا إذَا عَطَسَ مَنْ يُحِبُّونَهُ قَالُوا لَهُ: عُمْرًا وَشَبَابًا، وَإِذَا عَطَسَ مَنْ يَكْرَهُونَهُ قَالُوا لَهُ: وَرْيًا وَقُحَابًا. وَالْوَرْيُ كَالرَّمْيِ دَاءٌ يُصِيبُ الْكَبِدَ فَيُفْسِدُهَا، وَالْقُحَابُ كَالسُّعَالِ وَزْنًا وَمَعْنًى، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ إذَا سَمِعَ عُطَاسًا فَتَشَاءَمَ بِهِ يَقُولُ بِك لَا بِي أَيْ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ شُؤْمَ عُطَاسِك بِك لَا بِي. وَكَانَ تَشَاؤُمُهُمْ بِالْعَطْسَةِ الشَّدِيدَةِ أَشَدَّ كَمَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْمُلُوكِ أَنَّ مُسَامِرًا لَهُ عَطَسَ عَطْسَةً شَدِيدَةً رَاعَتْهُ، فَغَضِبَ الْمَلِكُ، فَقَالَ سَمِيرُهُ: وَاَللَّهِ مَا تَعَمَّدْت ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا عُطَاسِي، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ لَك بِذَلِكَ لَأَقْتُلَنَّكَ، فَقَالَ أَخْرِجْنِي إلَى النَّاسِ لَعَلِّي أَجِدُ مَنْ يَشْهَدُ لِي، فَأُخْرِجَ وَقَدْ وَكَّلَ بِهِ الْأَعْوَانَ، فَوَجَدَ رَجُلًا فَقَالَ: نَشَدْتُك بِاَللَّهِ إنْ كُنْت سَمِعْت عُطَاسِي يَوْمًا فَلَعَلَّك تَشْهَدُ لِي بِهِ عِنْدَ الْمَلِكِ، فَقَالَ: نَعَمْ أَنَا أَشْهَدُ لَك فَنَهَضَ مَعَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 فَقَالَ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَوْمًا عَطَسَ فَطَارَ ضِرْسٌ مِنْ أَضْرَاسِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ عُدْ إلَى حَدِيثِك وَمَجْلِسِك. فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَأَبْطَلَ بِرَسُولِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ الطَّغَامُ، مِنْ الضَّلَالِ وَالْآثَامِ، نَهَى أُمَّتَهُ عَنْ التَّشَاؤُمِ وَالتَّطَيُّرِ، وَشَرَعَ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا مَكَانَ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَاطِسِ بِالْمَكْرُوهِ دُعَاءً لَهُ بِالرَّحْمَةِ. وَلَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ عَلَى الْعَاطِسِ نَوْعًا مِنْ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ جَعَلَ الدُّعَاءَ لَهُ بِلَفْظِ الرَّحْمَةِ الْمُنَافِي لِلظُّلْمِ، وَأَمَرَ الْعَاطِسَ أَنْ يَدْعُوَ لِسَامِعِهِ وَمُشَمِّتِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْهِدَايَةِ وَإِصْلَاحِ الْبَالِ فَيَقُولُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَوْ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. فَأَمَّا الدُّعَاءُ بِالْهِدَايَةِ فَلِمَا أَنَّهُ اهْتَدَى إلَى طَاعَةِ الرَّسُولِ، وَرَغِبَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، فَدَعَا لَهُ يُثَبِّتُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَيَهْدِيهِ إلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ بِإِصْلَاحِ الْبَالِ وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لَهُ صَلَاحُ شَأْنِهِ كُلِّهِ، وَهِيَ مِنْ بَابِ الْخَيْرَاتِ. وَلَمَّا دَعَا لِأَخِيهِ بِالرَّحْمَةِ فَنَاسَبَ أَنْ يُجَازِيَهُ بِالدُّعَاءِ لَهُ بِإِصْلَاحِ الْبَالِ. وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ فَجَاءَ بِلَفْظٍ يَشْمَلُ الْعَاطِسَ وَالْمُشَمِّتَ فَيَقُولُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، لِيَتَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ دَعْوَى الْعَاطِسِ وَالْمُشَمِّتِ لَهُمَا الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ مَعًا. فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى الْمَبْعُوثِ بِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ وَلِأَجْلِ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَشْمِيتِ مَنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ. فَالدُّعَاءُ لَهُ بِالرَّحْمَةِ نِعْمَةٌ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ وَلَمْ يَشْكُرْهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَيَتَأَسَّى بِأَبِيهِ آدَمَ فَإِنَّهُ لَمَّا نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ وَبَلَغَتْ إلَى خَيَاشِيمِهِ عَطَسَ فَأَلْهَمَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ نَطَقَ بِحَمْدِهِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: يَرْحَمُك اللَّهُ يَا آدَم، فَصَارَتْ تِلْكَ سُنَّةَ الْعَاطِسِ. فَمَنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ لَمْ يَسْتَحِقَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ. وَلَمَّا سَبَقَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُ كَانَ مَآلُهُ إلَى الرَّحْمَةِ، وَكَانَ مَا جَرَى عَارِضًا وَزَالَ، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ سَبَقَتْ الْعُقُوبَةَ وَغَلَبَتْ الْغَضَبَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَوَّلَ نَفَسٍ خَرَجَ مِنْ أَبِينَا آدَمَ الْعُطَاسُ، وَأَوَّلَ كَلِمَةٍ جَرَتْ عَلَى لِسَانِهِ الشَّرِيفِ حَمْدُ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 مَطْلَبٌ: لَا يُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الذِّمِّيِّ. (الثَّانِيَةُ) : لَا يُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الذِّمِّيِّ، نُصَّ عَلَيْهِ. وَهَلْ يُبَاحُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ؟ أَقْوَالٌ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ: وَلَا يُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الْكَافِرِ، فَإِنْ شَمَّتَهُ أَجَابَهُ بِآمِينَ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ فَإِنَّهَا دَعْوَةٌ تَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ قَالَ «كَانَ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ، فَكَانَ يَقُولُ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: نَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَشْمِيتُ الذِّمِّيِّ. قَالَ الْقَاضِي: عَدَمُ التَّشْمِيتِ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ تَحِيَّةٌ لَهُ فَهُوَ كَالسَّلَامِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ خِصَالٍ إنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ شَيْئًا تَرَكَ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ: إذَا دَعَاهُ أَنْ يُجِيبَهُ، وَإِذَا مَرِضَ أَنْ يَعُودَهُ، وَإِذَا مَاتَ أَنْ يُشَيِّعَهُ، وَإِذَا لَقِيَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ، وَإِذَا عَطَسَ أَنْ يُشَمِّتَهُ» فَلَمَّا خَصَّ الْمُسْلِمَ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ بِخِلَافِهِ. وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ إلَّا قَوْلَهُ «حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ» وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «حَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ» فَذَكَرَهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: التَّخْصِيصُ بِالْوُجُوبِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ إنَّمَا يَنْفِي ذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي النَّصِيحَةِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ لَا يَنْفِي جَوَازَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ مِنْ اسْتِحْبَابٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ كَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ يُكْرَهُ، قَالَ وَكَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ إنَّمَا يَنْفِي الِاسْتِحْبَابَ. فَإِذَا كَانَ فِي التَّهْنِئَةِ وَالتَّعْزِيَةِ وَالْعِيَادَةِ رِوَايَتَانِ فَالتَّشْمِيتُ كَذَلِكَ. انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّالِثَةُ) رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ سَبَقَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ أَمِنَ مِنْ الشَّوْصِ وَاللَّوْصِ وَالْعِلَّوْصِ» وَهَذِهِ أَوْجَاعٌ اُخْتُلِفَ فِي بَعْضِهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَغَيْرُهُ. قَالَ فِي التَّمْيِيزِ وَغَيْرِهِ: وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ وَقَدْ نَظَمَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: مَنْ يَسْتَبِقْ عَاطِسًا بِالْحَمْدِ يَأْمَنْ مِنْ ... شَوْصٍ وَلَوْصٍ وَعِلَّوْصٍ كَذَا وَرَدَا عَنَيْتُ بِالشَّوْصِ دَاءَ الرَّأْسِ ثُمَّ بِمَا ... يَلِيهِ دَاءَ الْبَطْنِ وَالضِّرْسِ اتَّبِعْ رُشْدَا وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَهُوَ أَوْلَى: فَالدَّاءُ فِي الضِّرْسِ شَوْصٌ ثُمَّ فِي أُذُنٍ ... لَوْصٌ وَفِي الْبَطْنِ عِلَّوْصٌ كَذَا وُجِدَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 يَعْنِي فِي اللُّغَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الشَّوْصُ وَجَعُ الضِّرْسِ وَالْبَطْنِ، وَقَالَ فِي الْعِلَّوْصِ كَسِنَّوْرِ التُّخَمَةُ وَوَجَعٌ فِي الْبَطْنِ، وَقَالَ فِي اللَّوْصِ وَجَعُ الْأُذُنِ أَوْ النَّحْرِ وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي النِّهَايَةِ. فَظَهَرَ بِمَا قُلْنَا أَوْلَوِيَّةُ الشِّعْرِ الثَّانِي وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَكَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ يَذْكُرُ هَذَا الْخَبَرَ يَعْنِي مَنْ سَبَقَ الْعَاطِسَ إلَى آخِرِهِ وَيُعَلِّمُهُ النَّاسَ. (الرَّابِعَةُ) ذَكَرَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ فِي الْغُنْيَةِ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ الْمَلَكُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْحَمْدِ قَالَ الْمَلَكُ: يَرْحَمُك رَبُّك» ، فَيَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، ذَكَرَهُ فِي الْآدَابِ. وَالْخَبَرُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَافِظُ الضِّيَاءُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقُلْ لِلْفَتَى عُوفِيت بَعْدَ ثَلَاثَةٍ ... وَلِلطِّفْلِ بُورِكَ فِيك وَأْمُرْهُ يَحْمَدْ (وَقُلْ) أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْمُتَشَرِّعُ الَّذِي لِنَيْلِ الْفَضَائِلِ مُتَشَوِّقٌ وَمُتَطَلِّعٌ (لِلْفَتَى) الْمُسْلِمِ وَأَصْلُهُ لُغَةً الشَّابُّ وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ لَا يَجِبُ هَجْرُهُ وَلَا يُسَنُّ، وَلَيْسَ بِأَجْنَبِيَّةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي السَّلَامِ وَتُشَمِّتُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَالرَّجُلُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ الْعَجُوزَ الْبَرْزَةَ لِأَمْنِ الْفِتْنَةِ، وَأَمَّا الشَّابَّةُ فَلَا يُشَمِّتُهَا وَلَا تُشَمِّتُهُ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ (عُوفِيت) دُعَاءٌ لَهُ بِالْعَافِيَةِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِخَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «وَسَلُوا اللَّهَ الْمُعَافَاةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ رَجُلٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْمُعَافَاةِ» . وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَا سُئِلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا أَحَبَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ الْعَافِيَةَ» وَفِي الْعَافِيَةِ عِدَّةُ أَخْبَارٍ مَأْثُورَةٍ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (بَعْدَ ثَلَاثَةٍ) أَيْ بَعْدَ تَشْمِيتِك لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِقَوْلِك لَهُ يَرْحَمُك اللَّهُ أَوْ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ، فَإِذَا عَطَسَ رَابِعَةً لَا يُشَمَّتُ بَلْ يُقَالُ لَهُ عُوفِيت، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ وَسَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقِيلَ أَوْ ثَالِثَةً، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ، وَقِيلَ أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَشَرْحِهِ كَغَيْرِهِ: فَإِنْ عَطَسَ ثَانِيًا وَحَمِدَ شَمَّتَهُ، وَثَالِثًا شَمَّتَهُ، وَرَابِعًا دَعَا لَهُ بِالْعَافِيَةِ، وَلَا يُشَمَّتُ لِلرَّابِعَةِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ شَمَّتَهُ قَبْلَهَا ثَلَاثًا. فَالِاعْتِبَارُ بِفِعْلِ التَّشْمِيتِ لَا بِعَدَدِ الْعَطَسَاتِ، فَلَوْ عَطَسَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ مُتَوَالِيَاتٍ شَمَّتَهُ بَعْدَهَا إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ تَشْمِيتٌ. قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى فِي شَرْحِهِ وَالْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، وَلَفْظُ الْآدَابِ: وَيُقَالُ لَهُ عَافَاك اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ رِيحٌ. قَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ: يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ فِي مَجْلِسِهِ ثَلَاثًا. قَالَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ ثَلَاثٌ. قَالَ وَهَذَا مَعَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِفِعْلِ التَّشْمِيتِ لَا بِعَدَدِ الْعَطَسَاتِ، فَلَوْ عَطَسَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ مُتَوَالِيَاتٍ شَمَّتَهُ بَعْدَهَا إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ تَشْمِيتٌ قَوْلًا وَاحِدًا. قَالَ: وَالْأَدِلَّةُ تُوَافِقُ هَذَا وَهُوَ وَاضِحٌ. قَالَ مُهَنَّا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَيُّ شَيْءٍ مَذْهَبُك فِي الْعَاطِسِ يُشَمَّتُ إلَى ثَلَاثِ مِرَارٍ؟ فَقَالَ إلَى قَوْلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ الْعَاطِسُ بِمَنْزِلَةِ الْخَاطِبِ يُشَمَّتُ إلَى ثَلَاثٍ فَمَا زَادَ فَهُوَ دَاءٌ فِي الرَّأْسِ. وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ عَنْهُ: يُشَمَّتُ إلَى. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ ثِقَاتٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ مَرْفُوعًا «يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ ثَلَاثًا فَمَا زَادَ فَهُوَ مَزْكُومٌ» . وَلِأَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا مِثْلُهُ. وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد عَنْ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «سَمِعَ رَسُولَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ يَرْحَمُك اللَّهُ، ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الرَّجُلُ مَزْكُومٌ» . وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ قَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ «أَنْتَ مَزْكُومٌ» قَالَ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَذْهَبَ الْمُعْتَمَدَ أَنْ يُشَمَّتَ إلَى ثَلَاثٍ وَيُدْعَى لَهُ فِي الرَّابِعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : قَوْلُهُ: وَقُلْ لِلْفَتَى عُوفِيت بَعْدَ ثَلَاثَةٍ. لَعَلَّهُ عَلَى سَبِيلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 الِاسْتِحْبَابِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كَغَيْرِهِ إذَا حَمِدَ اللَّهَ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَهُوَ مُرَادُهُمْ فِي الْأَوَّلِ بِلَا رَيْبٍ وَفِي الثَّانِي فِيمَا يَظْهَرُ لِكَرَاهَةِ تَشْمِيتِ مَنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ. (الثَّانِي) : لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ فِي أَنَّ الدَّاعِيَ لِلْعَاطِسِ بِالْعَافِيَةِ هَلْ يَسْتَحِقُّ جَوَابًا أَمْ لَا، وَلَعَلَّهُ يُجِيبُ بِقَوْلِهِ عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَهَلْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا أَوْ مُبَاحًا؟ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ إنْ قُلْنَا الدُّعَاءُ لَهُ بِالْعَافِيَةِ مُسْتَحَبٌّ فَالْإِجَابَةُ كَذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ الْإِجَابَةُ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِنَابَةِ. (الثَّالِثُ) : قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَغَايَةِ الشَّيْخِ مَرْعِيٍّ كَالْإِقْنَاعِ، وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يُجِيبُ الْمُتَجَشِّئَ بِشَيْءٍ، فَإِنْ حَمِدَ اللَّهَ قَالَ لَهُ سَامِعُهُ هَنِيئًا مَرِيئًا أَوْ هَنَّأَك اللَّهُ وَأَمْرَاك. قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَكَذَا الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ. قَالَ وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ سُنَّةٌ بَلْ هُوَ مَوْضُوعَةٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا تَجَشَّأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كُفَّ عَنَّا جُشَاءَك فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا أَكْثَرُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَبِي طَالِبٍ: إذَا تَجَشَّأَ الرَّجُلُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَرْفَعْ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ حَتَّى يَذْهَبَ الرِّيحُ، فَإِذَا لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ آذَى مَنْ حَوْلَهُ مِنْ رِيحِهِ. قَالَ وَهَذَا مِنْ الْأَدَبِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: إذَا تَجَشَّأَ الرَّجُلُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ وَجْهَهُ إلَى فَوْقَ لِكَيْ لَا يَخْرُجَ مِنْ فِيهِ رَائِحَةٌ يُؤْذِي بِهَا النَّاسَ. فَقَيَّدَ فِي الْأُولَى بِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ وَأَطْلَقَ فِي الثَّانِيَةِ. وَظَاهِرُ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي حَيْثُ كَانَ ثَمَّ نَاسٌ وَإِلَّا فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ رَفْعٌ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَقُلْ) أَيُّهَا الْجَلِيسُ السَّامِعُ (لِلطِّفْلِ) الْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ. قَالَ. فِي النِّهَايَةِ: وَالطِّفْلُ الصَّبِيُّ وَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْجَمَاعَةِ، وَيُقَالُ طِفْلَةٌ وَأَطْفَالٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: وَالطِّفْلُ بِالْكَسْرِ الصَّغِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ الْمَوْلُودُ إذَا عَطَسَ (بُورِكَ) أَيْ بَارَكَ اللَّهُ (فِيك) أَيُّهَا الْغُلَامُ. وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: يُقَالُ لَهُ بُورِكَ فِيك وَجَبَرَك اللَّهُ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 عَطَسَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَارَكَ اللَّهُ فِيك يَا غُلَامُ» رَوَاهُ الْحَافِظُ السَّلَفِيُّ فِي انْتِخَابِهِ (وَأْمُرْهُ) أَيُّهَا الْجَلِيسُ، يَعْنِي أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْجَلِيسِ أَنْ يَأْمُرَ الطِّفْلَ إذَا عَطَسَ (يَحْمَدْ) مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ كَنَظَائِرِهِ لِلْقَافِيَّةِ أَيْ يَحْمَدُ اللَّهَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيُقَالُ لِلصَّبِيِّ قَبْلَ الثَّلَاثِ يُرِيدُ قَبْلَ تَشْمِيتِهِ ثَلَاثًا بُورِكَ فِيك. وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَزَادَ: وَجَبَرَك اللَّهُ. وَقَالَ عَنْ النَّاظِمِ وَإِنْ عَطَسَ صَبِيٌّ يَعْنِي عَلِمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قِيلَ لَهُ يَرْحَمُك اللَّهُ أَوْ بُورِكَ فِيك وَيَعْلَمُ الرَّدَّ وَإِنْ كَانَ طِفْلًا حَمِدَ اللَّهَ وَلِيُّهُ أَوْ مَنْ حَضَرَ وَقِيلَ لَهُ نَحْوُ ذَلِكَ. انْتَهَى. قَالَ فِي الْآدَابِ: أَمَّا كَوْنُهُ يَعْلَمُ الْحَمْدَ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا تَعْلِيمُهُ الرَّدَّ فَيَتَوَجَّهُ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي رَدِّ السَّلَامِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ رَدُّ السَّلَامِ وَلَا يَسْقُطُ إنْ كَانَ مَعَ بَالِغِينَ بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتَظْهَرَ فِي الْآدَابِ أَنَّهُ يُدْعَى لَهُ وَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ. وَاسْتَظْهَرَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِعُطَاسِ الْمَجْنُونِ وَأَنَّهُ يُشْرَعُ لَهُ الدُّعَاءُ فِي الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: إذَا تَرَكَ الْعَاطِسُ الْحَمْدَ هَلْ يُسْتَحَبُّ تِذْكَارُهُ أَمْ لَا؟ (تَنْبِيهٌ) : ظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الْعَاطِسَ إذَا نَسِيَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ لَمْ يُذَكَّرْ، وَبِهِ جَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ. وَفِي الْغَايَةِ وَلَا يُذَكَّرُ نَاسٍ وَلَا بَأْسَ بِتَذْكِيرِهِ. وَاحْتِمَالُ إرَادَةِ النَّاظِمِ بِقَوْلِهِ وَأْمُرْهُ يَحْمَدْ الصَّبِيَّ وَالْكَبِيرَ إذَا لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ تَعَالَى إمَّا لِنِسْيَانٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ الْحَجَّاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ لِلطِّفْلِ كَمَا لَا يَخْفَى. نَعَمْ يُعَلَّمُ قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَنَحْوُهُ الْحَمْدَ كَصَغِيرٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: (الْأُولَى) إذَا تَرَكَ الْعَاطِسُ الْحَمْدَ هَلْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَضَرَهُ أَنْ يُذَكِّرَهُ الْحَمْدَ؟ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا يُذَكِّرُهُ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ فَاعِلِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: أَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ بَلْ يُذَكِّرُهُ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّخَعِيِّ وَهُوَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَظَاهِرُ السُّنَّةِ تُقَوِّي قَوْلَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ؛ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُشَمِّتْ الَّذِي لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ وَلَمْ يُذَكِّرْهُ. وَهَذَا تَعْزِيرٌ لَهُ وَحِرْمَانٌ لِتَرْكِهِ الدُّعَاءَ لَمَّا حَرَمَ نَفْسَهُ بِتَرْكِهِ الْحَمْدَ فَنَسِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَصَرَفَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْسِنَتَهُمْ عَنْ تَشْمِيتِهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ تَذْكِيرُهُ سُنَّةً لَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِفِعْلِهَا وَتَعْلِيمِهَا وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهَا. (الثَّانِيَةُ) : أَنَّ الْعَاطِسَ إذَا حَمِدَ اللَّهَ فَسَمِعَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ دُونَ بَعْضٍ هَلْ يُسَنُّ لِمَنْ يَسْمَعُهُ تَشْمِيتُهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُشَمِّتُهُ. انْتَهَى. قُلْت وَالْمَذْهَبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَشْمِيتَهُ عَلَى مَنْ سَمِعَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إنْ كَانُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَإِلَّا فَفَرْضُ عَيْنٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ كَالْآدَابِ الْكُبْرَى فِي الْمَسْأَلَةِ مَا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ يَنْبَغِي تَذْكِيرُ مَنْ نَسِيَ حَمْدَ اللَّهِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: إنَّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ فَانْتَظَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ فَيُشَمِّتُهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْفَ تَقُولُ إذَا عَطَسْت؟ قَالَ أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَرْحَمُك اللَّهُ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا سَبَقَ يَعْنِي مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ كَانَ يَذْكُرُ خَبَرَ مَنْ سَبَقَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ أَمِنَ مِنْ الشَّوْصِ إلَخْ وَيُعَلِّمُهُ النَّاسَ قَالَ وَهُوَ مُتَّجَهٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: فِي تَغْطِيَةِ الْفَمِ وَكَظْمِهِ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ: وَغَطِّ فَمًا وَاكْظِمْ تُصِبْ فِي تَثَاؤُبٍ ... فَذَلِكَ مَسْنُونٌ لِأَمْرِ الْمُرَشَّدِ (وَغَطِّ) أَيُّهَا الْمُتَثَائِبُ (فَمًا) حَيْثُ غَلَبَك وَلَمْ تَسْتَطِعْ كَظْمَهُ (وَاكْظِمْهُ) إنْ اسْتَطَعْت فَإِنَّ الْمَسْنُونَ لَك إذَا تَثَاءَبْت أَنْ تَكْظِمَ، وَالْكَظْمُ مَسْكُ فَمِهِ وَانْطِبَاقُهُ لِئَلَّا يَنْفَتِحَ مَهْمَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ غَلَبَ التَّثَاؤُبُ غَطَّى الْفَمَ بِكُمٍّ أَوْ غَيْرِهِ كَيَدِهِ، «وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مَعَ التَّثَاؤُبِ» وَقَالَ لِي شَيْخُنَا التَّغْلِبِيُّ فَسَّحَ اللَّهُ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَأَغْدَقَ عَلَيْهِ سَحَائِبَ عَفْوِهِ وَبِرِّهِ: إنْ غَطَّيْت فَمَك فِي التَّثَاؤُبِ بِيَدِك الْيُسْرَى فَبِظَاهِرِهَا، وَإِنْ كَانَ بِيَدِك الْيُمْنَى فَبِبَاطِنِهَا. قَالَ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيُسْرَى لِمَا خَبُثَ وَلَا أَخْبَثَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِذَا وَضَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الْيُمْنَى فَبَطْنَهَا؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْغِطَاءِ، وَالْيُسْرَى مُعَدَّةٌ لِدَفْعِ الشَّيْطَانِ، وَإِذَا غَطَّى بِظَهْرِ الْيُسْرَى فَبَطْنُهَا مُعَدٌّ لِلدَّفْعِ. انْتَهَى. فَإِنَّك إنْ فَعَلْت مَا أُمِرْت بِهِ مِنْ الْكَظْمِ حَسَبِ الطَّاقَةِ ثُمَّ تَغْطِيَةِ الْفَمِ إذَا لَمْ تُطِقْ الْكَظْمَ (تُصِبْ) مِنْ الْإِصَابَةِ وَهِيَ ضِدُّ الْخَطَأِ (فِي) فِعْلِك الَّذِي فَعَلْته مِنْ الْكَظْمِ وَالتَّغْطِيَةِ فِي (تَثَاؤُبٍ) بِالْهَمْزِ تَثَاؤُبًا، وِزَانُ تَفَاعَلَ تَفَاعُلًا، قِيلَ هِيَ فَتْرَةٌ تَعْتَرِي الشَّخْصَ فَيَفْتَحُ عِنْدَهَا فَاهُ. وَتَثَاوَبَ بِالْوَاوِ عَامِّيٌّ قَالَهُ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ. وَفِي الْقَامُوسِ تَثَاءَبَ وَتَثَاوَبَ أَصَابَهُ كَسَلٌ وَفَتْرَة كَفَتْرَةِ النَّعْسِ وَهِيَ الثُّؤَبَاءُ وَالثَّأَبُ مُحَرَّكَةً. انْتَهَى. وَفِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ: إذَا تَثَاءَبَ وَالِاسْمُ الثُّؤَبَاءُ، وَيُسَهَّلُ فَيُقَالُ تَثَاوَبَ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ أَصْلُهُ مِنْ ثَيَّبَ فَهُوَ مُثَيِّبٌ إذَا كَسِلَ وَاسْتَرْخَى فَظَهَرَ بِمَا قُلْنَا أَنَّ الْوَاوَ لُغَةٌ لَا كَمَا قَالَ الْحَجَّاوِيُّ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: مَنْ تَثَاءَبَ كَظَمَ مَا اسْتَطَاعَ لِلْخَبَرِ وَأَمْسَكَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ أَوْ غَطَّاهُ بِكُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِ إنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّثَاؤُبُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ» وَفِيهِ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَقُلْ هَاهْ هَاهْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ يَضْحَكُ مِنْهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَالْبُخَارِيُّ وَلَفْظُهُ «إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ» وَقَدَّمْنَا حَدِيثَ «الْعُطَاسُ مِنْ اللَّهِ وَالتَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ إنَّمَا أَحَبَّ الْعُطَاسَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ خِفَّةِ الْبَدَنِ وَانْفِتَاحِ الْمَسَامِّ وَتَيَسُّرِ الْحَرَكَاتِ، وَالتَّثَاؤُبُ بِخِلَافِهِ. وَلَا يُزِيلُ يَدَهُ عَنْ فَمِهِ حَتَّى يَفْرُغَ تَثَاؤُبه. وَيُكْرَهُ إظْهَارُهُ بَيْنَ النَّاسِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى كَفِّهِ. وَإِنْ احْتَاجَهُ تَأَخَّرَ عَنْ النَّاسِ وَفَعَلَهُ. وَعَنْهُ يُكْرَهُ التَّثَاؤُبُ مُطْلَقًا. (فَذَلِكَ) الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَك مِنْ الْكَظْمِ وَالتَّغْطِيَةِ وَإِدَامَةِ التَّغْطِيَةِ إلَى فَرَاغِ التَّثَاؤُبِ وَعَدَمِ إظْهَارِ صَوْتٍ بِنَحْوِ هَاهْ وَأَخْ وَمَا لَهُ هِجَاءٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي صَلَاةٍ يَعْنِي إظْهَارَ مَا لَهُ حُرُوفُ هِجَاءٍ أَبْطَلَهَا؛ لِأَنَّهُ كَالْكَلَامِ (مَسْنُونٌ) يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ لِاقْتِدَائِهِ (بِأَمْرِ الْمُرَشِّدِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَشَدَّدَ الشِّينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ضَرُورَةً، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْخُوذٌ مِنْ الرُّشْدِ يُقَالُ رَشَدَ كَنَصَرَ وَفَرِحَ رُشْدًا وَرَشَدًا وَرَشَادًا اهْتَدَى، وَالرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وَالرَّشِيدُ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْهَادِي إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، وَاَلَّذِي حَسُنَ تَقْدِيرُهُ فِيمَا قَدَّرَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْشَدَ النَّاسَ إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَالدِّينِ الْمَتِينِ الْقَوِيمِ، فَهُوَ الْمُرْشِدُ الْحَكِيمُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ. (تَتِمَّةٌ) رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَبْعٌ مِنْ الشَّيْطَانِ، شِدَّةُ الْغَضَبِ، وَشِدَّةُ الْعُطَاسِ، وَشِدَّةُ التَّثَاؤُبِ، وَالْقَيْءُ، وَالرُّعَافُ، وَالنَّجْوَى، وَالنَّوْمُ عِنْدَ الذِّكْرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الطِّبّ وَالتَّدَاوِي] وَلَا بَأْسَ شَرْعًا أَنْ يَطِبَّك مُسْلِمٌ ... وَتَشْكُو الَّذِي تَلْقَى وَبِالْحَمْدِ فَابْتَدَى (وَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ (شَرْعًا) أَيْ فِي الشَّرْعِ (أَنْ يَطِبَّك) أَيْ أَنْ يُدَاوِيَك طَبِيبٌ (مُسْلِمٌ) ثِقَةٌ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُبَاحُ التَّدَاوِي وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ نَصًّا. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: الْعِلَاجُ رُخْصَةٌ وَتَرْكُهُ دَرَجَةٌ أَعْلَى مِنْهُ. وَيَأْتِي فِي النَّظْمِ مُحْتَرَزٌ قَوْلُهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِطْبَابُهُ ذِمِّيًّا. مَطْلَبٌ: فِي شِكَايَةِ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ مِنْ الْوَجَعِ (وَتَشْكُو) الْوَاوُ ابْتِدَائِيَّةٌ وَلَيْسَتْ عَاطِفِيَّةٌ عَلَى أَنْ يَطِبَّك؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَرْفُوعٌ لَا مَنْصُوبٌ أَوْ عَاطِفَةٌ وَعَدَمُ فَتْحِهِ الْوَاوَ ضَرُورَةٌ (الَّذِي تَلَقَّا) هـ مِنْ النَّصَبِ وَالْوَجَعِ وَالْوَصَبِ وَالْعِيِّ وَاللَّغَبِ (وَ) إذَا فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ الشِّكَايَةِ فَلْيَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ وَالْحِكَايَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّضَجُّرِ وَالتَّبَرُّمِ وَالتَّسَخُّطِ وَالتَّأَلُّمِ وَ (بِالْحَمْدِ) لِلَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ الَّذِي خَلَقَك مِنْ الْمَاءِ الْمَهِينِ وَخَصَّك بِالْعَقْلِ وَالْيَقِينِ (فَابْتَدِي) قَبْلَ أَنْ تَفُوهُ بِالشِّكَايَةِ وَالْإِخْبَارِ عَمَّا تَجِدُ مِنْ الْأَلَمِ وَالشِّكَايَةِ بِأَنْ تَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَجِدُ كَذَا وَكَذَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بِي الشَّيْءُ الْفُلَانِيُّ مِنْ الْأَذَى. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي فُرُوعِهِ: وَيُخْبِرُ بِمَا يَجِدُهُ بِلَا شَكْوَى. وَكَانَ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحْمَدُ اللَّهَ أَوَّلًا لِخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا كَانَ الشُّكْرُ قَبْلَ الشَّكْوَى فَلَيْسَ بِشَاكٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ: يُخْبِرُ بِمَا يَجِدُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ لَا لِقَصْدِ شَكْوَى. وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ لَمَّا قَالَتْ وَارَأْسَاهُ» . وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّك لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ أَجَلْ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي فُنُونِ الْإِمَامِ بْنِ عَقِيلٍ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٌ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِرَاحَةِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الشَّكْوَى عِنْدَ إمْسَاسِ الْبَلْوَى. قَالَ وَنَظِيرُهُ {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] . {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] . «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي» . وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى هَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ إظْهَارِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَمَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْأَذَى وَالتَّعَبِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ شَكْوَى. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا: شَكْوَى الْمَرِيضِ مُخْرِجَةٌ مِنْ التَّوَكُّلِ. وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنِينَ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّهُ يُتَرْجِمُ عَنْ الشَّكْوَى، ثُمَّ احْتَجَّ بِقَوْلِ رَجُلٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْفَ تَجِدُك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ بِخَيْرٍ فِي عَافِيَةٍ، فَقَالَ لَهُ حُمِمْت الْبَارِحَةَ، قَالَ إذَا قُلْت لَك أَنَا فِي عَافِيَةٍ فَحَسْبُك لَا تُخْرِجْنِي إلَى مَا أَكْرَهُ وَوَصْفُ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ لِلطَّبِيبِ لَا يَضُرُّهُ، وَالنَّصُّ الْمَذْكُورُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ إنَّمَا يَدُلُّ لِمَا قَالَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ إذَا كَانَتْ الْمُصِيبَةُ مِمَّا يُمْكِنُ كَتْمُهَا فَكِتْمَانُهَا مِنْ أَعْمَالِ اللَّهِ الْخَفِيَّةِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلِهَذَا ذَكَرَ شَيْخُنَا يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ بْنَ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ مِنْ التَّوَكُّلِ وَغَيْرِهِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، وَأَنَّ الصَّبْرَ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ قَالَ وَالصَّبْرُ لَا تُنَافِيهِ الشَّكْوَى. قَالَ وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ صَبْرٌ بِغَيْرِ شَكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ وَالشَّكْوَى إلَى الْخَالِقِ لَا تُنَافِيهِ، بَلْ شَكْوَاهُ إلَى الْخَالِقِ مَطْلُوبَةٌ. وَقَدْ نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ فِي أَنِينِ الْمَرِيضِ أَرْجُو أَنَّهُ لَا يَكُونُ شَكْوَى، لَكِنَّهُ اشْتَكَى إلَى اللَّهِ. قُلْت أَنِينُ الْمَرِيضِ تَارَةً يَكُونُ عَنْ تَبَرُّمٍ وَتَضَجُّرٍ فَيُكْرَهُ، وَتَارَةً يَكُونُ عَنْ تَسَخُّطٍ بِالْمَقْدُورِ فَيَحْرُمُ فِيمَا يَظْهَرُ، وَتَارَةً يَكُونُ لِأَجْلِ مَا يَجِدُ وَيَجِدُ بِهِ نَوْعَ اسْتِرَاحَةٍ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ التَّضَجُّرِ وَالتَّبَرُّمِ فَيُبَاحُ، وَتَارَةً يَكُونُ عَنْ ذُلٍّ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَانْكِسَارٍ وَخُضُوعٍ وَافْتِقَارٍ وَمَسْكَنَةٍ وَاحْتِقَارٍ مَعَ حَسْمِ مَادَّةِ الْعَوْنِ إلَّا مِنْ بَابِهِ وَالشِّفَاءِ إلَّا مِنْ عِنْدِهِ، وَالْعَافِيَةِ إلَّا مِنْ كَرَمِهِ. فَهَذَا لَا يُكْرَهُ فِيمَا يَظْهَرُ بَلْ يُنْدَبُ إلَيْهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي حَدِيثٍ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ «الْمَرِيضُ أَنِينُهُ تَسْبِيحٌ، وَصِيَاحُهُ تَكْبِيرٌ، وَنَفَسُهُ صَدَقَةٌ. وَنَوْمُهُ عِبَادَةٌ، وَنَقْلُهُ مِنْ جَنْبٍ إلَى جَنْبٍ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: لَيْسَ بِثَابِتٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وَاقْتَصَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ: إنَّ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ لَا جَزَعَ فِيهِ وَلَا شَكْوَى إلَى النَّاسِ، وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ شَكَا إلَى اللَّهِ لَا مِنْهُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الدُّعَاءَ، فَالْمَعْنَى يَا رَبِّ ارْحَمْ أَسَفِي عَلَى يُوسُفَ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] إنْ قِيلَ أَيْنَ الصَّبْرُ وَهَذَا لَفْظُ الشَّكْوَى، فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّكْوَى إلَى اللَّهِ لَا تُنَافِي الصَّبْرَ، وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ الشَّكْوَى إلَى الْخَلْقِ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَكَذَلِكَ مَنْ شَكَا إلَى النَّاسِ وَهُوَ فِي شَكْوَاهُ رَاضٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَزَعًا أَلَمْ تَسْمَعْ «قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ أَجِدُنِي مَغْمُومًا وَأَجِدُنِي مَكْرُوبًا» وَقَوْلَهُ «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ» هَذَا سِيَاقُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَذَكَرَهُ عَنْهُ فِي الْفُرُوعِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ الَّذِي لَا شَكْوَى مَعَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ قَالَ وَفِي أَثَرٍ إسْرَائِيلِيٍّ: أَوْحَى اللَّهُ إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ أَنْزَلْت بِعَبْدِي بَلَائِي فَدَعَانِي فَمَاطَلْته بِالْإِجَابَةِ، فَشَكَانِي، فَقُلْت عَبْدِي كَيْفَ أَرْحَمُك مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُك. ثُمَّ قَالَ وَالشَّكْوَى إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا تُنَافِي الصَّبْرَ، فَإِنَّ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَدَ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ، وَالنَّبِيُّ إذَا وَعَدَ لَا يُخْلِفُ، ثُمَّ قَالَ {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وَكَذَلِكَ أَيُّوبُ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَجَدَهُ صَابِرًا مَعَ قَوْلِهِ {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] وَإِنَّمَا يُنَافِي الصَّبْرَ شَكْوَى اللَّهِ لَا الشَّكْوَى إلَيْهِ، كَمَا رَأَى بَعْضُهُمْ رَجُلًا يَشْكُو إلَى آخَرَ فَاقَةً وَضَرُورَةً، فَقَالَ يَا هَذَا تَشْكُو مَنْ يَرْحَمُك إلَى مَنْ لَا يَرْحَمُك، ثُمَّ أَنْشَدَهُ: وَإِذَا عَرَاك بَلِيَّةٌ فَاصْبِرْ لَهَا ... صَبْرَ الْكَرِيمِ فَإِنَّهُ بِك أَعْلَمُ وَإِذَا شَكَوْت إلَى ابْنِ آدَمَ إنَّمَا ... تَشْكُو الرَّحِيمَ إلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ (تَنْبِيهٌ) : قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ طَبِيبٌ لَا حَكِيمٌ لِاسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحَكِيمُ الْعَالِمُ وَصَاحِبُ الْحِكْمَةِ، وَالْحَكِيمُ الْمُتْقِنُ لِلْأُمُورِ، وَقَدْ حَكُمَ أَيْ صَارَ حَكِيمًا. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَالطَّبِيبُ يَتَنَاوَلُ لُغَةً مَنْ يَطِبُّ الْآدَمِيَّ وَالْحَيَوَانَ وَغَيْرَهُمَا، كَمَا يَتَنَاوَلُ الطَّبَايِعِيَّ وَالْكَحَّالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وَالْجَرَائِحِيَّ وَأَنْوَاعَهُ. وَالطَّبِيبُ الْحَاذِقُ مَنْ يُرَاعِي نَوْعَ الْمَرَضِ وَسَبَبَهُ، وَقُوَّةَ الْمَرِيضِ هَلْ تُقَاوِمُ الْمَرَضَ فَإِنْ قَاوَمَتْهُ تَرَكَهُ، وَمِزَاجَ الْبَدَنِ الطَّبِيعِيِّ مَا هُوَ، وَالْمِزَاجَ الْحَادِثَ عَلَى غَيْرِ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، وَسِنَّ الْمَرِيضِ وَبَلَدَهُ وَعَادَتَهُ وَمَا يَلِيقُ بِالْوَقْتِ الْحَاضِرِ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ، وَحَالَ الْهَوَاءِ وَقْتَ الْمَرَضِ، وَالدَّوَاءَ وَقُوَّتَهُ وَقُوَّةَ الْمَرِيضِ وَإِزَالَةَ الْعِلَّةِ مَعَ أَمْنِ حُدُوثِ أَصْعَبَ مِنْهَا. انْتَهَى. . وَتَرْكُ الدَّوَا أَوْلَى وَفِعْلُك جَائِزٌ ... وَلَمْ تَتَيَقَّنْ فِيهِ حُرْمَةَ مُفْرَدٍ (وَتَرْكُ الدَّوَا) وَهُوَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ مُثَلَّثَةٌ مَا دَاوَيْت بِهِ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ: الدَّوَاءُ مَا يُدَاوَى بِهِ مُثَلَّثُ الدَّالِ مَمْدُودٌ وَفَتْحُهَا أَفْصَحُ، وَالْجَمْعُ أَدْوِيَةٌ، وَدَاوَيْته مُدَاوَاةً، وَالِاسْمُ الدَّوَاءُ وَالدَّاءُ الْمَرَضُ وَجَمْعُهُ أَدْوَاءٌ (أَوْلَى) أَيْ أَفْضَلُ مِنْ الدَّوَاءِ بِمَعْنَى التَّدَاوِي، نَصَّ عَلَيْهِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: الْعِلَاجُ رُخْصَةٌ وَتَرْكُهُ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْهُ. وَكَانَ يَكُونُ بِهِ يَعْنِي الْإِمَامَ عِلَلٌ وَلَا يُخْبِرُ الطَّبِيبَ بِهَا إذَا سَأَلَهُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرِقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» وَفِي رِوَايَةٍ «الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرِقُونَ» وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ اكْتَوَى أَوْ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنْ التَّوَكُّلِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي حَدِيثٍ جَيِّدٍ «لَمْ يَتَوَكَّلْ مَنْ اسْتَرْقَى» وَجَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ تَرْكَ الدَّوَاءِ أَفْضَلُ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ وَلَوْ ظَنَّ نَفْعَهُ. (وَفِعْلُك) أَيُّهَا الْمَرِيضُ وَنَحْوُهُ لِلتَّدَاوِي (جَائِزٌ) أَيْ مُبَاحٌ لَا حَرَامٌ وَلَا مَكْرُوهٌ وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ خَبَّابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ اكْتَوَى فِي بَطْنِهِ سَبْعَ كَيَّاتٍ " مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَقِيت وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَهُ خَبَّابٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَسْلِيَةً لِلْمُؤْمِنِ الْمُصَابِ لَا عَلَى وَجْهِ الشِّكَايَةِ. فَلَوْلَا الْمُدَاوَاةُ جَائِزَةٌ لَمَا اكْتَوَى خَبَّابٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقِيلَ فِعْلُ التَّدَاوِي أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الشَّافِعِيَّةِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الْخَلَفِ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي الْمِنْهَاجِ وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمْ، وَاخْتَارَهُ الْوَزِيرُ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي الْإِفْصَاحِ. قَالَ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُؤَكَّدٌ حَتَّى يُدَانِيَ بِهِ الْوُجُوبَ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِالتَّدَاوِي وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَنَّ عِلْمَ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْفِلَاحَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرِقُونَ» بِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَرْقِي الرَّجُلُ بِالْكَلِمَاتِ الْخَبِيثَةِ فَيُوهِمُهُ الرَّاقِي فِي ذَلِكَ وَفِي الْكَيِّ أَنَّهُمَا يَمْنَعَانِهِ مِنْ الْمَرَضِ أَبَدًا فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ وَالْحِجَامَةُ سُنَّةٌ وَهِيَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى فِعْلِ التَّدَاوِي. وَذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ التَّدَاوِي أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ. وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً أَوْ دَوَاءً إلَّا دَاءً وَاحِدًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ؟ قَالَ الْهَرَمُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ خَالَتِهِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثُرَتْ أَسَقَامُهُ، فَكَانَ يَقْدُمُ عَلَيْهِ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَيَصِفُونَ لَهُ فَنُعَالِجُهُ» . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ حَيْثُ خَلَقَ الدَّاءَ خَلَقَ الدَّوَاءَ فَتَدَاوَوْا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْت أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ يَدِي» وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِمَا «فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ» وَفِيهِمَا «كَانَ إذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْت أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ مِنْهُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا» وَفِيهِمَا عَنْهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنْ الْعَيْنِ» وَفِيهِمَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِجَارِيَةٍ فِي بَيْتِهَا رَأَى فِي وَجْهِهَا سُفْعَةً يَعْنِي صُفْرَةً، فَقَالَ بِهَا نَظْرَةٌ اسْتَرْقُوا لَهَا» قَوْلُهُ " بِهَا نَظْرَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 أَيْ عَيْنٌ، وَقِيلَ عَيْنٌ مِنْ نَظْرَةِ الْجِنِّ، وَقِيلَ فِعْلُ التَّدَاوِي وَاجِبٌ زَادَ بَعْضُهُمْ إنْ ظَنَّ نَفْعَهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ إنَّمَا أَوْجَبَهُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. انْتَهَى. وَأَحَادِيثُ الْأَمْرِ بِالتَّدَاوِي لِلْإِبَاحَةِ وَالْإِرْشَادِ دُونَ الْوُجُوبِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يَجُوزُ بِهِ التَّدَاوِي وَمَا لَا يَجُوزُ (وَ) إنَّمَا يُبَاحُ الدَّوَاءُ حَيْثُ (لَمْ تَتَيَقَّنْ) ، وَالْيَقِينُ الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ هُنَا وَهُوَ فِي الْأَصْلِ إزَاحَةُ الشَّكِّ، وَعَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ حُكْمُ الذِّهْنِ الْجَازِمِ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ (فِيهِ) أَيْ الدَّوَاءِ الَّذِي تَتَدَاوَى بِهِ (حُرْمَةَ مُفْرَدٍ) مِنْ مُفْرَدَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الدَّوَاءُ بِمُحَرَّمٍ أَوْ فِي مُفْرَدَاتِهِ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ حَرُمَ وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَكَذَا الشَّافِعِيُّ فِي الْمُسْكِرِ. وَلَا فَرْقَ فِي الْمُحَرَّمِ بَيْنَ كَوْنِهِ مَأْكُولًا وَغَيْرِهِ مِنْ صَوْتِ مَلْهَاةٍ وَغَيْرِهِ، وَنَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ فِي أَلْبَانِ الْآتِنِ وَفِي التِّرْيَاقِ وَالْخَمْرِ، وَنَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ فِي مُدَاوَاةِ الدُّبُرِ بِالْخَمْرِ. وَلَوْ أَمَرَهُ أَبُوهُ بِشُرْبِ دَوَاءٍ بِخَمْرٍ وَقَالَ أُمُّك طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ تَشْرَبْهُ حَرُمَ شُرْبُهُ. نَعَمْ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِبَوْلِ إبِلٍ فَقَطْ. ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ. (تَنْبِيهٌ) : الَّذِي جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْغَايَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ بِمُحَرَّمٍ أَكْلًا وَشُرْبًا سَمَاعًا وَبِسُمٍّ وَتَمِيمَةٍ وَهِيَ خَرَزَةٌ أَوْ خَيْطٌ وَنَحْوُهُ يَتَعَلَّقُهَا. وَقَالَ فِي الْغَايَةِ: تَرْكُ التَّدَاوِي فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَفْضَلُ. فَعَلَى هَذَا تَرْكُ تَدَاوِي عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَزَوْجَتِهِ لَيْسَ بِأَفْضَلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا وَلَا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ. كَمَا قَالَ فِي الْآدَابِ. وَفِي الْفُرُوعِ عَنْ الْبُلْغَةِ: لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِخَمْرٍ فِي مَرَضٍ، وَكَذَا بِنَجَاسَةٍ أَكْلًا وَشَرَابًا وَظَاهِرُهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَأَنَّهُ يَجُوزُ بِطَاهِرٍ. وَفِي الْغُنْيَةِ لِسَيِّدِنَا الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحْرُمُ بِمُحَرَّمٍ كَخَمْرٍ وَشَيْءٍ نَجَسٍ. وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي: يَجُوزُ اكْتِحَالُهُ بِمِيلِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا حَاجَةٌ وَيُبَاحَانِ لَهَا، وَلَا بَأْسَ بِالْحَمِيَّةِ. نَقَلَهُ حَنْبَلٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 مَطْلَبٌ: فِي مَعْنَى الْخَوْفِ وَمَرَاتِبِهِ: وَرَجِّحْ عَلَى الْخَوْفِ الرَّجَا عِنْدَ بَأْسِهِ ... وَلَاقِ بِحُسْنِ الظَّنِّ رَبَّك تَسْعَدْ (وَرَجِّحْ) أَيْ غَلِّبْ وَمَيِّزْ، مِنْ رَجَحَ الْمِيزَانُ يَرْجَحُ مُثَلَّثَةٌ رُجُوحًا وَرُجْحَانًا مَالَ (عَلَى الْخَوْفِ) ضِدُّ الْأَمْنِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْفَزَعُ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ وَالرَّهْبَةُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَرَادِفَةٍ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْخَوْفُ تَوَقُّعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَجَارِي الْأَنْفَاسِ. وَقِيلَ الْخَوْفُ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَحَرَكَتُهُ مِنْ تَذَكُّرِ الْمَخُوفِ. وَقِيلَ الْخَوْفُ قُوَّةُ الْعِلْمِ بِمَجَارِي الْأَحْكَامِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: هَذَا سَبَبُ الْخَوْفِ لَا نَفْسُهُ. وَقِيلَ الْخَوْفُ هَرَبُ الْقَلْبِ مِنْ حُلُولِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِهِ. وَفِي مَتْنِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الْخَوْفُ الِانْخِلَاعُ عَنْ طُمَأْنِينَةِ الْأَمْنِ بِمُطَالَعَةِ الْجَزَاءِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ: وَالْخَشْيَةُ أَخَصُّ مِنْ الْخَوْفِ فَإِنَّهَا لِلْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ. قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فَهِيَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِمَعْرِفَةٍ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» فَالْخَوْفُ حَرَكَةٌ، وَالْخَشْيَةُ انْجِمَاعٌ وَانْقِبَاضٌ وَسُكُونٌ. فَإِنَّ الَّذِي يَرَى الْعَدُوَّ وَالسَّيْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَهُ حَالَتَانِ: إحْدَاهُمَا: حَرَكَتُهُ لِلْهَرَبِ مِنْهُ وَهِيَ حَالَةُ الْخَوْفِ. وَالثَّانِيَةُ: سُكُونُهُ وَقَرَارُهُ فِي مَكَان لَا يَصِلُ إلَيْهِ وَهِيَ الْخَشْيَةُ. قَالَ وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَهِيَ الْإِمْعَانُ فِي الْهَرَبِ مِنْ الْمَكْرُوهِ، وَهِيَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ الَّتِي هِيَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ. وَبَيْنَ الرَّهَبِ وَالْهَرَبِ تَنَاسُبٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ الَّذِي هُوَ عَقْدُ تَقَالِيبِ الْكَلِمَةِ عَلَى مَعْنًى جَامِعٍ. وَأَمَّا الْوَجَلُ فَرَجَفَانُ الْقَلْبِ وَانْصِدَاعُهُ لِذِكْرِ مَنْ يَخَافُ سُلْطَانَهُ وَعُقُوبَتَهُ أَوْ لِرُؤْيَتِهِ. وَأَمَّا الْهَيْبَةُ فَخَوْفٌ مُقَارِنٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَأَكْثَرُهَا تَكُونُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ. وَالْإِجْلَالُ تَعْظِيمٌ مَقْرُونٌ بِالْحُبِّ. فَالْخَوْفُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْخَشْيَةُ لِلْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ، وَالْهَيْبَةُ لِلْمُحِبِّينَ، وَالْإِجْلَالُ لِلْمُقَرَّبِينَ، وَعَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ يَكُونُ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وَقَالَ «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 كَثِيرًا، وَلَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى» انْتَهَى. فَالْخَوْفُ سَوْطٌ يَسُوقُ الْمُتَمَادِيَ، وَيُقَوِّمُ الْأَعْوَجَ، وَيُلَيِّنُ الْقَاسِيَ، وَيُطَوِّعُ الْمُسْتَصْعِبَ. وَلَيْسَ هُوَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ بِخِلَافِ الرَّجَاءِ، فَمِنْ ثَمَّ يَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ عَلَى الْخَوْفِ. (الرَّجَا) بِالْمَدِّ، وَقَصْرُهُ لِضَرُورَةِ الْوَزْنِ ضِدُّ الْيَأْسِ. قَالَ فِي الْمَطَالِعِ وَالْجَمْهَرَةِ: فَعَلْت رَجَاءَ كَذَا وَرَجَاءَ كَذَا بِمَعْنَى طَمَعِي فِيهِ وَأَمَلِي. قَالَ وَيَكُونُ أَيْضًا الرَّجَاءُ كَذَلِكَ مَمْدُودًا بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «إنَّا لَنَرْجُو وَنَخَافُ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] أَيْ لَا تَخَافُونَ عَظَمَةً. وَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ أَيْ يَخَافُ. يُقَالُ فِي الْأَمَلِ رَجَوْت وَرَجَيْتُ، وَفِي الْخَوْفِ بِالْوَاوِ لَا غَيْرُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْخَوْفِ أَلْزَمَتْهُ لِأَحْرُفِ النَّفْيِ وَلَمْ تَسْتَعْمِلْهُ مُفْرَدًا إلَّا فِي الْأَمَلِ وَالطَّمَعِ وَفِي ضِمْنِهِ الْخَوْفُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يُؤَمِّلُهُ. قَالَ فِي الْمَطَالِعِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ قَوْلَ هَذَا فَقَدْ اسْتَعْمَلَتْهُ بِغَيْرِ لَا. انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الْخَوْفُ مُسْتَلْزِمٌ لِلرَّجَاءِ، وَالرَّجَاءُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْخَوْفِ، فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ، وَكُلُّ خَائِفٍ رَاجٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا حَسُنَ وُقُوعُ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَحْسُنُ فِيهِ وُقُوعُ الْخَوْفِ. قَالَ تَعَالَى {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى مَا لَكُمْ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً. قَالُوا: وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ. قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُلَازِمٌ لَهُ، فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ مِنْ فَوَاتِ مَرْجُوِّهِ، وَالْخَوْفُ بِلَا رَجَاءٍ يَأْسٌ وَقُنُوطٌ. وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قَالُوا فِي تَفْسِيرِهَا لَا يَخَافُونَ وَقَائِعَ اللَّهِ بِهِمْ كَوَقَائِعِهِ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ. انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا مُتَعَادِلَيْنِ كَجَنَاحَيْ الطَّائِرِ. وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يُغَلَّبُ الْخَوْفُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ يُغَلَّبُ الرَّجَاءُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ يُغَلَّبُ الْخَوْفُ فِي الصِّحَّةِ وَالرَّجَاءُ فِي الْمَرَضِ، وَاخْتَارَهُ النَّاظِمُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (عِنْدَ بَأْسِهِ) أَيْ سَقَمِهِ وَمَرَضِهِ. وَالْبَأْسُ الْعَذَابُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ. وَبَئِسَ كَسَمِعَ بُؤْسًا اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ. وَالْبَأْسَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 الدَّاهِيَةُ. وَالْمُرَادُ هُنَا عِنْدَ ضَعْفِهِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُغَلِّبُ الشَّابُّ الرَّجَاءَ وَالشَّيْخُ الْخَوْفَ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُغَلِّبُ يَعْنِي الْمَرِيضَ رَجَاءَهُ، وَفِي الصِّحَّةِ يُغَلِّبُ الْخَوْفَ لِحَمْلِهِ عَلَى الْعَمَلِ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَهُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ. وَنَصُّ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ رَجَاؤُهُ وَخَوْفُهُ وَاحِدًا. زَادَ فِي رِوَايَةٍ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ صَاحِبَهُ هَلَكَ. قَالَ شَيْخُنَا. وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ، وَلِهَذَا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الْخَوْفِ أَوْقَعَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ، إمَّا فِي نَفْسِهِ، وَإِمَّا فِي أُمُورِ النَّاسِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الرَّجَاءِ بِلَا خَوْفٍ أَوْقَعَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْأَمْنِ لِمَكْرِ اللَّهِ، إمَّا فِي نَفْسِهِ وَإِمَّا فِي النَّاسِ. قَالَ: وَالرَّجَاءُ بِحَسَبِ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ يَجِبُ تَرْجِيحُهُ كَمَا «قَالَ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي خَيْرًا» وَأَمَّا الْخَوْفُ فَيَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى تَفْرِيطِ الْعَبْدِ وَتَعَدِّيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِالذَّنْبِ، انْتَهَى كَلَامُهُ فِي الْفُرُوعِ. مَطْلَبٌ: فِي فَضَائِلِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَضَائِلَ جَمَّةً، وَرَدَتْ عَنْ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ. فَمِمَّا وَرَدَ عَنْهُ فِي فَضَائِلِ الْخَوْفِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ، الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» . وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ، لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ إذَا أَنَا مِتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذُرُّونِي فِي الرِّيحِ، وَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيك فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت؟ قَالَ خَشْيَتُك يَا رَبِّ أَوْ قَالَ مَخَافَتَك فَغَفَرَ لَهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لِأَهْلِهِ: إذَا أَنَا مِتُّ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ ذُرُّوهُ نِصْفَهُ فِي الْبِرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِيُعَذِّبَهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ. فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا بِهِ مَا أَمَرَهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَحْرَ أَنْ يَجْمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لِمَ فَعَلْت هَذَا؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِك يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَشَهُ اللَّهُ مَالًا، فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ أَيَّ أَبٍ كُنْت لَكُمْ؟ قَالُوا خَيْرَ أَبٍ، قَالَ إنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَإِذَا مِتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذُرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ مَا حَمَلَك؟ فَقَالَ مَخَافَتُك، فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ» قَوْلُهُ رَغَشَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهُمَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْنَاهُ أَكْثَرَ لَهُ مِنْهُ وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ ذَكَرَنِي يَوْمًا أَوْ خَافَنِي فِي مَقَامٍ» . وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ قَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ» قَوْلُهُ أَدْلَجَ بِسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ إذَا سَارَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ خَافَ أَلْزَمَهُ الْخَوْفُ السُّلُوكَ إلَى الْآخِرَةِ، وَالْمُبَادَرَةَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، خَوْفًا مِنْ الْقَوَاطِعِ وَالْعَوَائِقِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ دَخَلَتْهُ خَشْيَةُ اللَّهِ فَكَانَ يَبْكِي عِنْدَ ذِكْرِ النَّارِ حَتَّى حَبَسَهُ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَاءَهُ فِي الْبَيْتِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ اعْتَنَقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَّ مَيِّتًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَهِّزُوا صَاحِبَكُمْ فَإِنَّ الْفَرَقَ فَلَذَ كَبِدَهُ» . قَوْلُهُ فَإِنَّ الْفَرَقَ إلَخْ الْفَرَقُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ هُوَ الْخَوْفُ. وَفَلَذَ كَبِدَهُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قَطَعَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ مِنْ رَحْمَتِهِ أَحَدٌ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَخَرَجْتُمْ إلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إلَى اللَّهِ لَا تَدْرُونَ تَنْجُونَ أَوْ لَا تَنْجُونَ» قَوْلُهُ تَجْأَرُونَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ أَيْ تَضِجُّونَ وَتَسْتَغِيثُونَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُطْبَةً مَا سَمِعْت مِثْلَهَا قَطُّ فَقَالَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا. فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ فَخَطَبَ فَقَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا. فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمٌ أَشَدَّ مِنْهُ غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ» قَوْلُهُ وَلَهُمْ خَنِينٌ هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا نُونٌ الْبُكَاءُ مَعَ غُنَّةٍ بِاسْتِنْشَاقِ الصَّوْتِ مِنْ الْأَنْفِ. مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ لِلْخَوْفِ أَسْبَابًا وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] : الْخَوْفُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَهُوَ وَاقِعٌ بِأَسْبَابٍ. فَمِنْهَا الْخَوْفُ بِسَابِقِ الذَّنْبِ، وَمِنْهَا حَذَرُ التَّقْصِيرِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَمِنْهَا الْخَوْفُ مِنْ السَّابِقَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَا يُكْرَهُ، وَمِنْهَا خَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وَمَنْ تَفَكَّرَ فِيمَا عَلَيْهِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 السَّابِقِ لَمْ يَزَلْ مُنْزَعِجًا خَائِفًا خَوْفًا لَا يَمْلِكُ رَدَّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَوْفَ إذَا أَفْرَطَ قَتَلَ، وَالْمَحْمُودُ مِنْهُ الْمُتَوَسِّطُ وَهُوَ الَّذِي يَقْمَعُ الشَّهَوَاتِ، وَيُكَدِّرُ اللَّذَّاتِ، وَيَكُفُّ الْجَوَارِحَ عَنْ الْمَعَاصِي وَيُلْزِمُهَا الطَّاعَةَ. وَقَدْ يَنْحُلُ الْبَدَنَ، وَيُذْهِبُ الْوَسَنَ، وَيَزِيدُ بِهِ الْبُكَاءُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَيْسَ الْخَائِفُ مَنْ بَكَى وَعَصَرَ عَيْنَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخَائِفُ مَنْ تَرَكَ مَا يُعَذَّبُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنْ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] تَلَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَخَرَّ فَتًى مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى فُؤَادِهِ فَإِذَا هُوَ يَتَحَرَّكُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا فَتَى قُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَهَا فَبَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ بَيْنِنَا، فَقَالَ أَوَمَا سَمِعْتُمْ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] » وَلِلْخَوْفِ مَنَاقِبُ وَمَآثِرُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهُوَ سَوْطٌ يَسُوقُ الْمُتَوَانِيَ، وَيُقَوِّمُ الْأَعْوَجَ، وَيَرُدُّ الشَّارِدَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . وَمِمَّا وَرَدَ فِي الرَّجَاءِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتنِي وَرَجَوْتنِي غَفَرْت لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتنِي غَفَرْت لَك» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ كَيْفَ تَجِدُك؟ قَالَ أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ» . قُلْت: الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنْ شِئْتُمْ أَنْبَأْتُكُمْ مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا يَقُولُونَ لَهُ، قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ يَا رَبَّنَا. فَيَقُولُ لِمَ؟ فَيَقُولُونَ رَجَوْنَا عَفْوَك وَمَغْفِرَتَك. فَيَقُولُ قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي» . قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَته: أَسْبَابُ الرَّجَاءِ قَوِيَّةٌ، فَمَنْ خِفْنَا عَلَيْهِ مِنْ غَلَبَةِ الْخَوْفِ قُلْنَا لَهُ عَدِّلْ مَا عِنْدَك بِالرَّجَاءِ، إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجُوَ الْقَبُولَ، وَيَبْذُرَ وَيَرْجُوَ الْحَصَادَ. فَأَمَّا الرَّجَا مَعَ الْعِصْيَانِ فَحَمَاقَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا حَضَرَتْ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْوَفَاةُ قَالَ لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ اُذْكُرْ لِي أَحَادِيثَ الرَّجَاءِ. وَلَمَّا اُحْتُضِرَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَخَلَ عَلَيْهِ الْمُزَنِيّ فَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْت؟ فَقَالَ أَصْبَحْت مِنْ الدُّنْيَا رَاحِلًا، وَلِلْإِخْوَانِ مُفَارِقًا، وَلِعَمَلِي مُلَاقِيًا، وَبِكَأْسِ الْمَنِيَّةِ شَارِبًا، وَعَلَى اللَّهِ وَارِدًا، فَلَا أَدْرِي رُوحِي تَصِيرُ إلَى الْجَنَّةِ فَأُهَنِّيهَا، أَمْ إلَى النَّارِ فَأُعَزِّيهَا. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْت الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِك سُلَّمَا تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِك رَبِّي كَانَ عَفْوُك أَعْظَمَا وَمَا زِلْت ذَا عَفْوٍ عَنْ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ ... تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا مَطْلَبٌ: فِي حُسْنِ الظَّنِّ فَهَذَا حَالُ السَّلَفِ رَجَاءٌ بِلَا إهْمَالٍ، وَخَوْفٌ بِلَا قُنُوطٍ. وَلَا بُدَّ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ (وَلَاقِ) أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (بِحُسْنِ الظَّنِّ) بِاَللَّهِ تَعَالَى رَبَّك) جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ، فَإِنَّهُ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ، فَإِنْ لَقِيته وَأَنْتَ حَسَنُ الظَّنِّ بِهِ (تَسْعَدْ) السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ، وَتَسْلَمْ السَّلَامَةَ السَّرْمَدِيَّةَ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّك إنْ لَمْ تُلَاقِيهِ بِحُسْنِ الظَّنِّ تَشْقَ شَقَاوَةَ الْأَبَدِ، وَتَعْطَبُ عَطَبًا مَا عَطِبَهُ غَيْرُك أَنْتَ وَأَمْثَالُك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ ذَكَرَنِي» الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ الْعِبَادَةُ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ «إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ «حَيَّانَ أَبِي النَّضْرِ قَالَ خَرَجْت عَائِدًا لِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ فَلَقِيت وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ وَهُوَ يُرِيدُ عِيَادَتَهُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى وَاثِلَةَ بَسَطَ يَدَهُ وَجَعَلَ يُشِيرُ إلَيْهِ، فَأَقْبَلَ وَاثِلَةُ حَتَّى جَلَسَ فَأَخَذَ يَزِيدُ بِكَفَّيْ وَاثِلَةَ فَجَعَلَهُمَا عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ وَاثِلَةُ كَيْفَ ظَنُّك بِاَللَّهِ؟ قَالَ ظَنِّي بِاَللَّهِ وَاَللَّهِ حَسَنٌ، قَالَ فَأَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ " وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاَللَّهِ الظَّنَّ إلَّا أَعْطَاهُ ظَنَّهُ وَذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفَتِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنٌ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رُدُّوهُ أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي» . (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَكَّارٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ: أَنْ لَا تَجْمَعَك وَالْفُجَّارَ دَارٌ وَاحِدَةٌ. وَدَعَا رَجُلٌ بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: لَا تُعَذِّبْنَا بِالنَّارِ بَعْدَ أَنْ أَسْكَنْت تَوْحِيدَك قُلُوبَنَا، ثُمَّ بَكَى وَقَالَ مَا إخَالُك تَفْعَلُ بِعَفْوِك، ثُمَّ بَكَى وَقَالَ وَلَئِنْ عَذَّبْتنَا بِذُنُوبِنَا لَتَجْمَعَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَقْوَامٍ طَالَ مَا عَادَيْنَاهُمْ فِيك. وَقَالَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ مَنْ كَانَ يُشْرِكُ بِك بِمَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] قَالَ: وَنَحْنُ نُقْسِمُ بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِنَا لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ أَتُرَاك تَجْمَعُ بَيْنَ أَهْلِ الْقِسْمَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ بَكَى أَبُو حَفْصٍ الصَّيْرَفِيُّ بُكَاءً شَدِيدًا. (الثَّانِي) : ظَنَّ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى سَعَةِ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ مَعَ تَعْطِيلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي كَافٍ، وَهَذَا خَطَأٌ قَبِيحٌ وَجَهْلٌ فَضِيحٌ، فَإِنَّ رَجَاءَك لِمَرْحَمَةِ مَنْ لَا تُطِيعُهُ مِنْ الْخِذْلَانِ وَالْحُمْقِ كَمَا قَالَهُ مَعْرُوفٌ رَحِمَهُ اللَّهِ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْك فِي الدُّنْيَا بِسَرِقَةِ رُبْعِ دِينَارٍ لَا تَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ هَذَا. وَلَمْ يُفَرِّقْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالتَّمَنِّي. وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّجَاءَ يَكُونُ مَعَ بَذْلِ الْجَهْدِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فِي الْإِتْيَانِ بِأَسْبَابِ الظَّفَرِ وَالْفَوْزِ. وَالتَّمَنِّي حَدِيثُ النَّفْسِ بِحُصُولِ ذَلِكَ مَعَ تَعْطِيلِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218] فَطَوَى سُبْحَانَهُ بِسَاطَ الرَّجَاءِ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الرُّوحُ الْكُبْرَى: الرَّجَاءُ لِعَبْدٍ قَدْ امْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَثُلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ وَجَنَّتِهِ، فَامْتَدَّ الْقَلْبُ مَائِلًا إلَى ذَلِكَ شَوْقًا إلَيْهِ وَحِرْصًا عَلَيْهِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَادِّ عُنُقَهُ إلَى مَطْلُوبٍ قَدْ صَارَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ. قَالَ وَعَلَامَةُ الرَّجَاءِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّاجِيَ لِخَوْفِ فَوْتِ الْجَنَّةِ وَذَهَابِ حَظِّهِ مِنْهَا يَتْرُكُ مَا يَخَافُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِهَا. وَأَمَّا الْأَمَانِيُّ فَإِنَّهَا رُءُوسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ، أَخْرَجُوهَا فِي قَالَبِ الرَّجَاءِ، وَتِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، وَهِيَ تَصْدُرُ مِنْ قَلْبٍ تَزَاحَمَتْ عَلَيْهِ وَسَاوِسُ النَّفْسِ فَأَظْلَمَ مِنْ دُخَانِهَا، فَهُوَ يَسْتَعْمِلُ قَلْبَهُ فِي شَهَوَاتِهَا، وَكُلَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنَّتْهُ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ وَالنَّجَاةَ، وَأَحَالَتْهُ عَلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَالْفَضْلِ، وَأَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ وَلَا تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ وَلَا تُنْقِصُهُ الْمَغْفِرَةُ وَيُسَمِّي ذَلِكَ رَجَاءً، وَإِنَّمَا هُوَ وَسَاوِسُ وَأَمَانِيُّ بَاطِلَةٌ تَقْذِفُ بِهَا النَّفْسُ إلَى الْقَلْبِ الْجَاهِلِ فَيَسْتَرْوِحُ إلَيْهَا قَالَ تَعَالَى {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123] فَإِذَا قَالَتْ لَك النَّفْسُ أَنَا فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ فَطَالِبْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 بِالْبُرْهَانِ، وَقُلْ هَذِهِ أُمْنِيَّةٌ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَالْكَيِّسُ يَعْمَلُ أَعْمَالَ الْبِرِّ عَلَى الطَّمَعِ وَالرَّجَاءِ. وَالْأَحْمَقُ الْعَاجِزُ يُعَطِّلُ أَعْمَالَ الْبِرِّ وَيَتَّكِلُ عَلَى الْأَمَانِيِّ الَّتِي يُسَمِّيهَا رَجَاءً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ وَالرَّجَاءِ إنْ حَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ وَحَثَّ عَلَيْهِ وَسَاقَ إلَيْهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَنَافِعٌ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَقَامَاتِ وَرُءُوسِ الْمُعَامَلَاتِ وَإِنْ دَعَا إلَى الْبَطَالَةِ وَالْتَوَانِي وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي وَالْأَمَانِيِّ وَالِانْكِبَابِ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالْأَغَانِي فَهُوَ غُرُورٌ ضَارٌّ مُهْلِكٌ لِصَاحِبِهِ، وَقَاطِعٌ لَهُ عَنْ رَبِّهِ، وَقَامِعٌ لِهِمَّتِهِ عَنْ حُبِّهِ. وَحُسْنُ الظَّنِّ هُوَ الرَّجَاءُ، فَمَنْ كَانَ رَجَاؤُهُ حَادِيًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ زَاجِرًا لَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ رَجَاءٌ صَحِيحٌ، وَمَنْ كَانَتْ بَطَالَتُهُ رَجَاءً، وَرَجَاؤُهُ بِطَالَةً وَتَفْرِيطًا فَهُوَ الْمَغْرُورُ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْأُمُورِ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَرْضٌ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ مُغِلِّهَا مَا يَنْفَعُهُ، فَأَهْمَلَهَا بِلَا حَرْثٍ وَلَمْ يَبْذُرْهَا وَحَسُنَ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مُغِلِّهَا مِثْلُ مَا أَتَى مَنْ حَرَثَ وَبَذَرَ وَسَقَى وَتَعَاهَدَ الْأَرْضَ لَعَدَّهُ النَّاسُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ، وَكَذَا لَوْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، أَوْ يَصِيرَ أَعْلَمَ زَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لِلْعِلْمِ، وَبَذْلِ مَجْهُودِهِ فِي تَحْصِيلِهِ وَتَقْيِيدِ شَوَارِدِهِ وَتَحْقِيقِ فَوَائِدِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَكَذَا مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ، وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ فِي الْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا امْتِثَالٍ لِمَا أَمَرَ تَعَالَى بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ وَيُعَدُّ مِنْ أَحْمَقِ الْحُمَقَاءِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ أُمُورًا: أَحَدُهَا مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ. الثَّانِي خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ. الثَّالِثُ سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ، وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ، وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إذَا خَافَ أَسْرَعَ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ» وَهُوَ جَلَّ شَأْنُهُ إنَّمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ. فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ إنَّمَا يَنْفَعُ إذَا حَثَّ صَاحِبَهُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ حَسُنَ ظَنُّهُ بِاَللَّهِ مَعَ انْهِمَاكِهِ فِي اللَّذَّاتِ وَانْكِبَابِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالشُّبُهَاتِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الْأَوَامِرِ وَالطَّاعَاتِ فَهُوَ مِنْ الْحُمْقِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي عَلَيْهِ أَمَانِيُّ وَغُرُورٌ. وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَقَدْ ذَكَرْت فِي كِتَابِي الْبُحُورِ الزَّاخِرَةِ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا فَإِنْ رَاجَعْته ظَفِرْت بِمُرَادِك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّالِثُ) : الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالرَّغْبَةِ أَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ، وَالرَّغْبَةَ طَلَبٌ، فَهِيَ ثَمَرَةُ الرَّجَاءِ. فَإِنَّهُ إذَا رَجَا الشَّيْءَ طَلَبَهُ، وَالرَّغْبَةُ مِنْ الرَّجَا كَالْهَرَبِ مِنْ الْخَوْفِ. فَمَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَرَغِبَ فِيهِ، وَمَنْ خَافَ شَيْئًا هَرَبَ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 [مَطْلَبٌ: تُشْرَعُ لِلْمَرْضَى الْعِيَادَةُ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ (قَالَ الْمُؤَلِّفُ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنَفَعَنَا بِهِ آمِينَ: وَتُشْرَعُ لِلْمَرْضَى الْعِيَادَةُ فَأْتِهِمْ ... تَخُضْ رَحْمَةً تَغْمُرْ مَجَالِسَ عُوَّدِ (وَتُشْرَعُ) أَيْ: تُسَنُّ وَتُنْدَبُ كَمَا فِي الْمُنْتَهَى، وَالْإِقْنَاعِ (لِلْمَرْضَى) : جَمْعُ مَرِيضٍ، وَهُوَ مَنْ اتَّصَفَ بِالْمَرَضِ، وَالْمَرَضُ حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْلِ وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْآلَامَ، وَالْأَوْرَامَ أَعْرَاضٌ عَنْ الْمَرَضِ، وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْمَرَضُ: كُلُّ مَا خَرَجَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ مِنْ عِلَّةٍ، أَوْ نِفَاقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي أَمْرٍ، وَالْفَاعِلُ مَرِيضٌ وَجَمْعُهُ مَرْضَى، وَفِي الْقَامُوسِ الْمَرَضُ: إظْلَامُ الطَّبِيعَةِ وَاضْطِرَابُهَا بَعْدَ صَفَائِهَا وَاعْتِدَالِهَا. يُقَالُ: مَرِضَ كَفَرِحِ مَرَضًا وَمَرِضًا، فَهُوَ مَرِضٌ وَمَرِيضٌ وَمَارِضٌ، وَالْجَمْعُ مِرَاضٌ وَمَرْضَى وَمِرَاضٍ، أَوْ الْمَرَضُ بِالْفَتْحِ لِلْقَلْبِ خَاصَّةً وَبِالتَّحْرِيكِ، أَوْ كِلَاهُمَا الشَّكُّ وَالنِّفَاقُ انْتَهَى (الْعِيَادَةُ) أَيْ: الزِّيَارَةُ وَالِافْتِقَادُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: سُمِّيَتْ عِيَادَةً؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَكَرَّرُونَ أَيْ يَرْجِعُونَ يُقَالُ: عُدْت الْمَرِيضَ عَوْدًا وَعِيَادَةً الْيَاءُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ ذَكَرَهُ فِي الْمُطْلِعِ. وَفِي الْإِقْنَاعِ عَنْ ابْنِ حَمْدَان عِيَادَةُ الْمَرِيضِ فَرْضُ كِفَايَةٍ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الَّذِي يَقْتَضِيه النَّصُّ وُجُوبَ ذَلِكَ وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ، وَالْمُرَادُ مَرَّةٌ قَالَ: وَظَاهِرُهُ، وَلَوْ مِنْ وَجَعِ ضِرْسٍ وَرَمَدٍ وَدُمَّلٍ خِلَافًا لِأَبِي الْمَعَالِي بْنِ الْمُنَجَّا مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَكَذَا عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وِفَاقًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَ أَيَّامٍ لِخَبَرٍ ضُعِّفَ، وَأَوْجَبَ أَبُو الْفَرَجِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ عِيَادَتَهُ، وَالْمُرَادُ مَرَّةً وَاخْتَارَهُ الْآجُرِّيُّ وَفِي أَوَاخِرِ الرِّعَايَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَوَجْهٍ فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ ذَكَرَهُ شَيْخُنَا وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ: السُّنَّةُ مَرَّةً وَمَا زَادَ نَافِلَةٌ (فَأْتِهِمْ) أَيْ الْمَرْضَى يَعْنِي عُدْهُمْ (تَخُضْ) فِي حَالِ ذَهَابِك لِعِيَادَتِهِمْ وَإِيَابِك مِنْهَا (رَحْمَةً) أَيْ فِي رَحْمَةٍ مِنْ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ (تَغْمُرُ) أَيْ تُغَطِّي لِكَثْرَتِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 مَجَالِسَ) جَمْعُ مَجْلِسٍ (عُوَّدِ) جَمْعُ عَائِدٍ يُشِيرُ إلَى مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ بَلَاغًا، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مُسْنَدًا، وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَا وَرَدَ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ (أَخْرَجَ) الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْأَوْسَطِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ فَإِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ اسْتَنْقَعَ فِيهَا» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَزَادَ: «وَإِذَا قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا يَزَالُ يَخُوضُ فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ» ، وَإِسْنَادُهُ إلَى الْحَسَنِ أَقْرَبُ. وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: أَيُّمَا رَجُلٍ يَعُودُ مَرِيضًا، فَإِنَّمَا يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ فَإِذَا قَعَدَ عِنْدَ الْمَرِيضِ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ قَالَ: فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلصَّحِيحِ الَّذِي يَعُودُ الْمَرِيضَ فَمَا لِلْمَرِيضِ؟ قَالَ: يَحُطُّ عَنْهُ ذُنُوبَهُ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَالْأَوْسَطِ، وَزَادَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» أَشَارَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ إلَى ضَعْفِهِ. فَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مَلَائِكَةِ الرِّضَا ... تُصَلِّي عَلَى مَنْ عَادَ يَمْشِي إلَى الْغَدِ (فَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مَلَائِكَةِ الرِّضَا) يُرْسِلُهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (تُصَلِّي) السَّبْعُونَ أَلْفًا (عَلَى مَنْ) أَيْ إنْسَانٍ مُسْلِمٍ (عَادَ يَمْشِي) فِي حَالِ عِيَادَتِهِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَلَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ أَيْ تَدْعُو وَتَسْتَغْفِرُ لَهُ مِنْ ابْتِدَاءِ إعَادَتِهِ (إلَى الْغَدِ) ، وَهُوَ ثَانِي يَوْمِ الْإِعَادَةِ. وَإِنْ عَادَهُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ وَاصَلَتْ عَلَيْهِ إلَى اللَّيْلِ الصَّلَاةَ فَأَسْنِدْ (وَإِنْ عَادَهُ) أَيْ الْمَرِيضَ (فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ) أَيْ فِي بُكْرَةِ نَهَارِهِ (وَاصَلَتْ) الْمَلَائِكَةُ (عَلَيْهِ) أَيْ الْعَائِدِ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ (إلَى) دُخُولِ (اللَّيْلِ الصَّلَاةَ) أَيْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 الدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ (فَأَسْنِدْ) ذَلِكَ عَنْ حَضْرَةِ صَاحِبِ الرِّسَالَةِ الَّذِي جَاءَنَا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَإِزَاحَةِ الضَّلَالَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَعَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مُحْتَسِبًا بُوعِدَ مِنْ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفًا فَقُلْت: يَا أَبَا حَمْزَةَ مَا الْخَرِيفُ؟ قَالَ: الْعَامُ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ قَالَ وَأُسْنِدَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ صَحِيحٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رَوَاهُ مُسْنَدًا بِمَعْنَاهُ، وَلَفْظُ الْمَوْقُوفِ «مَا مِنْ رَجُلٍ يَعُودُ مَرِيضًا مُمْسِيًا إلَّا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يُصْبِحَ وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَتَاهُ مُصْبِحًا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يُمْسِيَ وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ» ، وَرَوَاهُ بِنَحْوِ هَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ «، إذَا عَادَ الْمُسْلِمُ أَخَاهُ مَشَى فِي خَرَافَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ» الْحَدِيثَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمَا وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ وَرَوَاهُ ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا إلَّا يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي أَيِّ سَاعَاتِ النَّهَارِ حَتَّى يُمْسِيَ وَفِي أَيِّ سَاعَاتِ اللَّيْلِ حَتَّى يُصْبِحَ» ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا بِنَحْوِ التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ صَحِيحٌ. قَوْلُهُ: فِي خِرَافَةِ الْجَنَّةِ بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ فِي اجْتِنَاءِ ثَمَرِ الْجَنَّةِ يُقَالُ: خَرِفَتْ النَّخْلَةُ أَخَرَفَهَا، فَشَبَّهَ مَا يَحُوزُهُ عَائِدُ الْمَرِيضِ مِنْ الثَّوَابِ بِمَا يَحُوزُهُ الْمُخْتَرِفُ مِنْ التَّمْرِ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَفِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ قَوْلُهُ فِي «عَائِدِ الْمَرِيضِ: فِي مَخْرَفَةِ الْجَنَّةِ» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالرَّاءِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ» ، وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ جَنَاهَا يُشِيرُ إلَى مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: جَنَاهَا» وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ أَنَّ التَّفْسِيرَ لِأَبِي قِلَابَةَ وَلَفْظُهُ قُلْت لِأَبِي قِلَابَةَ: مَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 قَالَ: جَنَاهَا، وَهُوَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمَرْفُوعِ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: خُرْفَةُ الْجَنَّةِ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ، هُوَ مَا يُخْتَرَفُ مِنْ نَخْلِهَا أَيْ يُجْتَنَى انْتَهَى. وَفِي الْفَتْحِ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: هِيَ الثَّمَرَةُ إذَا نَضِجَتْ شَبَّهَ مَا يَحُوزُهُ عَائِدُ الْمَرِيضِ مِنْ الثَّوَابِ بِمَا يَحُوزُهُ الَّذِي يَجْتَنِي الثَّمَرَةَ، وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ الْمَخَارِفُ وَاحِدُهَا مُخْرَفٌ، وَهُوَ جَنَى النَّخْلِ؛ لِأَنَّهُ يُخْتَرَفُ أَيْ يُجْتَنَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُخْرَفَةُ: سُلَّمَةٌ بَيْنَ صَفَّيْنِ مِنْ نَخِيلٍ يَخْتَرِفُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ أَيْ يَجْتَنِي، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْمُخْرَفَةُ: الطَّرِيقُ أَيْ طَرِيقٌ تُؤَدِّيه إلَى الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى مِثْلِ مُخْرَفَةِ النَّعَمِ قَالَ: وَعَلَى التَّفْسِيرَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَكُونُ مَعْنَاهُ فِي بَسَاتِينِ الْجَنَّةِ، وَكُلُّهُ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَنَاهَا» ، وَهُوَ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَا: مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَظَلَّهُ اللَّهُ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَدْعُونَ لَهُ وَلَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَفْرُغَ، فَإِذَا فَرَغَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَجَّةً وَعُمْرَةً، وَمَنْ عَادَ مَرِيضًا أَظَلَّهُ اللَّهُ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَرْفَعُ قَدَمًا إلَّا كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً وَلَا يَضَعُ قَدَمًا إلَّا حَطَّ عَنْهُ سَيِّئَةً وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً حَتَّى يَقْعُدَ فِي مَقْعَدِهِ فَإِذَا قَعَدَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى إذَا أَقْبَلَ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَى مَنْزِلِهِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَلَيْسَ فِي أَصْلِي رَفْعُهُ وَرَوَاهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ يُشِيرُ إلَى ضَعْفِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ دَلِيلِ مَنْ أَوْجَبَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ وَأَمَّا دَلِيلُ مَنْ أَوْجَبَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ: رَدُّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ» رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 قَالَ: إذَا لَقِيته فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاك فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ دَلَالَةً بَيِّنَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا بْنَ آدَمَ مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ: يَا رَبُّ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْت أَنَّك لَوْ عُدَّتَهُ لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ يَا بْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُك فَلَمْ تُطْعِمْنِي قَالَ: يَا رَبُّ كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ اسْتَطْعَمَك عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْت أَنَّك لَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُك فَلَمْ تَسْقِنِي قَالَ: يَا رَبُّ كَيْفَ أَسْقِيك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاك عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إنَّك لَوْ سَقَيْته وَجَدَتْ ذَلِكَ عِنْدِي» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُودُوا الْمَرْضَى وَاتَّبِعُوا الْجَنَائِزَ تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» . وَأَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَمْسٌ مَنْ عَمَلَهُنَّ فِي يَوْمٍ كَتَبَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: مَنْ عَادَ مَرِيضًا وَشَهِدَ جِنَازَةً وَصَامَ يَوْمًا وَرَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ وَأَعْتَقَ رَقَبَةً» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ مَنْ فَعَلَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَ مَرِيضًا، أَوْ خَرَجَ مَعَ جِنَازَةٍ، أَوْ خَرَجَ غَازِيًا، أَوْ دَخَلَ عَلَى إمَامٍ يُرِيدُ تَعْزِيرَهُ وَتَوْقِيرَهُ، أَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَسَلِمَ النَّاسُ مِنْهُ وَسَلِمَ مِنْ النَّاسِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا نَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ طِبْت وَطَابَ مَمْشَاك وَتَبَوَّأْت مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ: «إذَا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ، أَوْ زَارَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: طِبْت وَطَابَ مَمْشَاك وَتَبَوَّأْت مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ» . وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ يُجِيبُ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَزِيدِ التَّرْغِيبِ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهَا وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) قَوْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تُصَلِّي عَلَى مَنْ عَادَ يَمْشِي قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ اعْتِبَارُ الْمَشْيِ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَلَعَلَّ مُحْتَرَزَهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي آدَابِ الْعِيَادَةِ (لِلثَّانِي) : فِي جُمْلَةٍ مِنْ آدَابِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ لِحَدِيثِ «إذَا مَرِضَ فَعُدْهُ» وَقِيلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعُودُ مَرِيضًا إلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ» .، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «الْعِيَادَةُ بَعْدَ ثَلَاثٍ سُنَّةٌ» . وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَبَّاسٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: «عِيَادَةُ الْمَرِيضِ بَعْدَ ثَلَاثٍ» ، وَقَالَ عَنْ الْأَعْمَشِ: كُنَّا نَقْعُدُ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِذَا فَقَدْنَا الرَّجُلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَأَلْنَا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عُدْنَاهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «لَا يُعَادُ الْمَرِيضُ إلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ» فَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَتَعَقَّبَهُ السُّيُوطِيّ: بِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّوَاهِدِ تَنْفِي عَنْهُ الْوَضْعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَنْ تَكُونَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَتُكْرَهُ وَسَطَ النَّهَارِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ قُرْبٍ وَسَطُ النَّهَارِ لَيْسَ هَذَا وَقْتَ عِيَادَةٍ، وَنَصُّ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعِيَادَةُ فِي رَمَضَانَ تَكُونُ لَيْلًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا رَأَى مِنْ الْمَرِيضِ مَا يُضْعِفُهُ وَلِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالْعَائِدِ، وَلَا يُعَادُ مُبْتَدِعٌ وَمُجَاهِرٌ بِمَعْصِيَةٍ وَتُحَرَّمُ عِيَادَةُ الذِّمِّيِّ، وَتَقَدَّمَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: الْعِيَادَةُ غِبًّا فَمِنْهُمْ مُغِبًّا عُدْهُ خَفِّفْ وَمِنْهُمْ ... الَّذِي يُؤْثِرُ التَّطْوِيلَ مِنْ مُتَوَرِّدٍ (فَمِنْهُمْ) أَيْ الْمَرْضَى مَنْ يُثْقِلُهُ كَثْرَةُ الْعِيَادَةِ فَعُدْهُ (مُغِبًّا عُدْهُ) أَنْتَ مُرَاعَاةً لِحَالِهِ لِعَدَمِ إيثَارِهِ كَثْرَةَ التَّرَدُّدِ عَلَيْهِ وَالزِّيَارَةِ لَهُ فِي الْإِقْنَاعِ قَالَ جَمَاعَةٌ: وَيَغِبُّ بِهَا وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى، وَفِي الْفُرُوعِ مِثْلُهُ، ثُمَّ قَالَ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ جَمَاعَةٍ خِلَافَهُ وَيُتَوَجَّهُ اخْتِلَافُهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَالْعَمَلِ بِالْقَرَائِنِ وَظَاهِرِ الْحَالِ وَمُرَادِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَهِيَ تُشْبِهُ الزِّيَارَةَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَالْغِبُّ يَوْمٌ وَيَوْمٌ قَالَ فِي الْمُطْلِعِ فِي قَوْلِهِ: وَيُدْهِنُ غِبًّا أَيْ يُدْهِنُ يَوْمًا وَيَدَعُ يَوْمًا مَأْخُوذٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 مِنْ غِبِّ الْإِبِلِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ هُوَ أَنْ تَرِدَ الْمَاءَ يَوْمًا وَتَدَعَهُ يَوْمًا قَالَ: وَأَمَّا الْغِبُّ فِي الزِّيَارَةِ فَقَالَ الْحَسَنُ: فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا انْتَهَى وَاقْتَصَرَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ عَلَى أَنَّ الْغِبَّ يَوْمٌ بَعْدَ يَوْمٍ وَفِي لَامِيَّةِ ابْنِ الْوَرْدِيِّ: غِبْ وَزُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا فَمَنْ ... أَكْثَرَ التَّرْدَادَ أَصْمَاهُ الْمَلَلُ قَالَ شَارِحُهُ: أَيْ غِبْ عَنْ صَدِيقِك بُرْهَةً مِنْ الزَّمَانِ لِيُحَرِّكَ كُلًّا مِنْكُمَا الشَّوْقُ إلَى الْآخَرِ وَزُرْ غِبًّا اقْتَبَسَ الْحَدِيثَ «زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، وَهُمَا وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ. وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ مُسْلِمٍ الْفِهْرِيِّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنُ عَمْرٍو وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَثْرَةُ طُرُقِهِ تُكْسِبُهُ قُوَّةً يَبْلُغُ بِهَا دَرَجَةَ الْحَسَنِ انْتَهَى. وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا الْغِبُّ فِي أَوْرَادِ الْإِبِلِ أَنْ تَرِدَ الْمَاءَ يَوْمًا وَتَدَعَهُ يَوْمًا، ثُمَّ تَعُودُ فَنَقَلَهُ إلَى الزِّيَارَةِ، وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي قَوْلِ الْبُخَارِيِّ بَابٌ هَلْ يَزُورُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَنَقَلَ حَدِيثَ غَشَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ بُكْرَةً وَعَشِيًّا كَأَنَّ الْبُخَارِيَّ رَمَزَ بِالتَّرْجَمَةِ إلَى تَوْهِينِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا» قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ أَكْثَرُهَا غَرَائِبُ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ. وَقَدْ جَمَعَ طُرُقَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ قَالَ: وَقَدْ جَمَعْتهَا فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ قَالَ: وَأَقْوَى طُرُقِهِ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ وَجَزَمَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْثَالِ بِأَنَّهُ مِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ، وَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ شَائِعًا فِي الْمُتَقَدِّمِينَ، ثُمَّ أَنْشَدَ لِأَبِي الْهِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ: اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي ... لَك أَخْلَصُ الثَّقَلَيْنِ قَلْبًا لَكِنْ لِقَوْلِ نَبِيِّنَا ... زُورُوا عَلَى الْأَيَّامِ غِبًّا وَلِقَوْلِهِ مَنْ زَارَ غِبًّا ... مِنْكُمْ يَزْدَادُ حُبًّا قَالَ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوجِزَ فَيَقُولُ: لَكِنْ لِقَوْلِ نَبِيِّنَا ... مَنْ زَارَ غِبًّا زَادَ حُبًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 ثُمَّ أَنْشَدَ لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْقُرْطُبِيِّ رَاوِي الْمُوَطَّأِ) أَقِلَّ زِيَارَةَ الْإِخْوَانِ ... تَزْدَدْ عِنْدَهُمْ قُرْبًا فَإِنَّ الْمُصْطَفَى قَدْ قَالَ ... زُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا وَمِنْهُ حَدِيثُ: «أَغِبُّوا فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ» أَيْ لَا تَعُودُوهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ لِمَا يَجِدُ مِنْ ثِقَلِ الْعُوَّادِ انْتَهَى. (وَفِي الْفُرُوعِ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ الصَّيْرَفِيِّ الْحَرَّانِيُّ فِي نَوَادِرِهِ الشِّعْرَ الْمَشْهُورَ) لَا تَضَجَّرْنَ عَلِيلًا فِي مُسَاءَلَةٍ ... إنَّ الْعِيَادَةَ يَوْمٌ بَيْنَ يَوْمَيْنِ بَلْ سَلْهُ عَنْ حَالِهِ وَادْعُ الْإِلَهَ لَهُ ... وَاجْلِسْ بِقَدْرِ فَوَاقٍ بَيْنَ حَلْبَيْنِ مَنْ زَارَ غِبًّا أَخًا دَامَتْ مَوَدَّتُهُ ... وَكَانَ ذَاكَ صَلَاحًا لِلْخَلِيلَيْنِ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَ (خَفِّفْ) فِي الْعِيَادَةِ وَلَا تُطِلْ الْجُلُوسَ عِنْدَهُ لِإِضْجَارِهِ، وَمَنْعِ بَعْضِ تَصَرُّفَاتِهِ وَعَنْهُ كَبَيْنَ خُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ وَيَتَوَجَّهُ اخْتِلَافُهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالْعَمَلِ بِالْقَرَائِنِ وَظَاهِرِ الْحَالِ وَمُرَادِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ النَّاظِمِ؛ وَلِذَا قَالَ: (وَمِنْهُمْ) أَيْ الْمَرْضَى (الَّذِي) لَا يُحِبُّ التَّخْفِيفَ، بَلْ (يُؤْثِرُ) أَيْ يَطْلُبُ وَيُحِبُّ وَيُقَدِّمُ (التَّطْوِيلَ) أَيْ تَطْوِيلَ الْجُلُوسِ عِنْدَهُ الْكَائِنِ (مِنْ) صَدِيقٍ وَنَحْوِ (مُتَوَرِّدٍ) أَيْ طَالِبِ الْوُرُودِ إلَيْهِ مِنْ وَرَدَ الْمَاءَ، وَالْمُرَادُ مِنْ صَدِيقٍ عَائِدٍ. فَفَكِّرْ وَرَاعِ فِي الْعِيَادَةِ حَالَ مَنْ ... تَعُودُ وَلَا تُكْثِرْ سُؤَالًا تُنَكِّدْ (فَ) إذَا فَهِمْت هَذَا مَعَ مَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ فَ (فَكِّرْ) أَيْ اسْتَعْمِلْ فِكْرَك فِي إطَالَةِ الْجُلُوسِ عِنْدَ مَنْ عُدْته وَعَدَمِهَا يَدُلُّك صَحِيحُ الْفِكْرِ مَعَ الْقَرِينَةِ عَلَى الْأَصْلَحِ مِنْهَا، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْفِكْرُ بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ إعْمَالُ النَّظَرِ فِي الشَّيْءِ كَالْفِكْرَةِ، وَالْفِكْرِيِّ انْتَهَى. وَفِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ الْفِكْرُ هُوَ إحْضَارُ مَعْرِفَتَيْنِ فِي الْقَلْبِ يَسْتَثْمِرُ مِنْهُمَا مَعْرِفَةً ثَالِثَةً، وَمِثَالُ ذَلِكَ أَحْضَرَ فِي قَلْبِهِ الْعَاجِلَةَ وَعَيْشَهَا وَنَعِيمَهَا وَمَا تَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْآفَاتِ وَانْقِطَاعِهِ وَزَوَالِهِ، ثُمَّ أَحْضَرَ فِي قَلْبِهِ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا وَلَذَّتَهَا وَدَوَامَهُ وَفَضَّلَهُ عَلَى نَعِيمِ الدُّنْيَا وَجَزَمَ بِهَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ، أَثْمَرَ لَهُ ذَلِكَ عِلْمًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّ الْآخِرَةَ وَنَعِيمَهَا الْفَاضِلَ الدَّائِمَ أَوْلَى عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ بِإِيثَارِهِ مِنْ الْعَاجِلَةِ الْمُنَغَّصَةِ (وَ) إذَا وَصَلَ بِك صَحِيحُ الْفِكْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 إلَى الْمَطْلُوبِ (رَاعِ) مِنْ الْمُرَاعَاةِ أَيْ لَاحِظْ وَرَاقِبْ بِحِسِّ فِكْرِك (فِي الْعِيَادَةِ) لِلْمَرِيضِ (حَالَ مَنْ) أَيْ مَرِيضٍ عُدْته، أَوْ الَّذِي (تَعُودُ) . فَإِنْ كَانَ يُؤْثِرُ تَكْرَارَ الزِّيَارَةِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَا مَشَقَّةَ عَلَيْك فَلَا بَأْسَ بِإِتْيَانِهِ وَإِلَّا فَبِحَسَبِ مَا يَقْدَحُ فِكْرُك مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا الْإِطَالَةُ فِي الْجُلُوسِ وَعَدَمُهَا فَزِنْ ذَلِكَ بِمِيزَانِ فِكْرِك الصَّحِيحِ دُونَ الْوَهْمِ، وَالْخَيَالِ وَاعْتَبِرْ قَرَائِنَ الْأَحْوَالِ وَضَعْ يَدَك عَلَيْهِ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يُقَالُ لِلْمَرِيضِ حَالَ الْعِيَادَةِ مِنْ الدُّعَاءِ وَتِلَاوَةِ السُّوَرِ، وَأَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى. فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ «مِنْ تَمَامِ الْعِيَادَةِ أَنْ تَضَعَ يَدَك عَلَى الْمَرِيضِ» ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَتَعَقَّبَهُ السُّيُوطِيّ وَغَيْرُهُ وَخُذْ بِيَدِ الْمَرِيضِ وَقُلْ: لَا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُ بَعْضَ أَهْلِهِ وَيَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبْ الْبَأْسَ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَيَدْعُو لِلْمَرِيضِ بِالْعَافِيَةِ وَالصَّلَاحِ، وَمِمَّا وَرَدَ «أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَك سَبْعًا» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَيَقُولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَك إلَّا عُوفِيَ، وَأَنْ يَقْرَأَ عِنْدَهُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَالْإِخْلَاصَ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَقَوْلَ اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك يَنْكَأُ لَك عَدُوًّا، أَوْ يَمْشِي لَك إلَى صَلَاةٍ» . وَصَحَّ «أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَادَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيك مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيك مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيك بِاسْمِهِ أَرْقِيك» . (وَلَا تُكْثِرْ) أَيُّهَا الْعَائِدُ عَلَى الْمَرِيضِ (سُؤَالًا) ، فَإِنَّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ (تُنَكِّدْ) عَلَيْهِ عَيْشَهُ يُقَالُ: نَكَدَ عَيْشُهُمْ كَفَرِحَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 اشْتَدَّ وَعَسِرَ وَنَاكَدَهُ عَاسَرَهُ وَتَنَاكُدًا تَعَاسُرًا، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّ كَثْرَةَ سُؤَالِ الْمَرِيضِ تَعْسُرُ عَلَيْهِ وَتَصْعُبُ وَتُضْجِرُهُ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مَشْغُولًا بِحَالِهِ مُتَنَصِّلًا مِنْ ذَنْبِهِ وَضَلَالِهِ. رَاجِيًا عَفْوَ رَبِّهِ. خَائِفًا مِنْ وَصْمَةِ ذَنْبِهِ، بَلْ يَسْأَلُ الْعَائِدُ الْمَرِيضَ عَنْ حَالِهِ نَحْوُ كَيْفَ تَجِدُك؟ وَيُنَفِّسُ لَهُ فِي أَجَلِهِ بِمَا يُطَيِّبُ بِهِ نَفْسَهُ إدْخَالًا لِلسُّرُورِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ» لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ كَمَا فِي الْفُرُوعِ. مَطْلَبٌ: ثَلَاثَةٌ لَا يُعَادُ صَاحِبُهُنَّ (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : ظَاهِرُ إطْلَاقِ النَّظْمِ اسْتِحْبَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَلَوْ مِنْ وَجَعِ ضِرْسٍ أَوْ رَمَدٍ، أَوْ دُمَّلٍ خِلَافًا لِأَبِي الْمَعَالِي بْنِ الْمُنَجَّا، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُعَادُونَ وَلَا يُسَمُّونَ مَرْضَى وَاحْتَجَّ بِخَبَرٍ ضَعِيفٍ رَوَاهُ النِّجَادُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ لَا يُعَادُ صَاحِبُهُنَّ الرَّمَدُ وَالضِّرْسُ وَالدُّمَّلُ» قُلْت، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَتَعَقَّبَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا مَوْضُوعٌ. (الثَّانِي) : قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ الصَّيْرَفِيِّ نُقِلَ عَنْ إمَامِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَهُ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ إنَّ جَارَنَا فُلَانًا مَرِيضٌ فَمَا تَعُودُهُ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ مَا عَادَنَا فَنَعُودُهُ قَالَ: وَيُشْبِهُ هَذَا مَا نَقَلَ عَنْهُ ابْنَاهُ فِي السَّلَامِ عَلَى الْحُجَّاجِ. وَفِي كِتَابِ الْعُزْلَةِ لِلْخَطَّابِيِّ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَيَعُودُ الْمَرْضَى وَيُعْطِي الْإِخْوَانَ حُقُوقَهُمْ فَتَرَكَ وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى تَرَكَهَا كُلَّهَا، وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَتَهَيَّأُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُخْبِرَ بِكُلِّ عُذْرٍ. وَعَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: لَا تَعُدْ مَنْ لَا يَعُودُك وَلَا تَشْهَدْ جِنَازَةَ مَنْ لَا يَشْهَدُ جِنَازَتَك وَلَا تُؤَدِّ حَقَّ مَنْ لَا يُؤَدِّي حَقَّك، وَإِنْ عَدَلْت عَنْ ذَلِكَ فَأَبْشِرْ بِالْجَوْرِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرَادُ بِهَذَا التَّأْدِيبُ وَالتَّقْوِيمُ دُونَ الْمُكَافَأَةِ، وَالْمُجَازَاةِ، وَبَعْضُ هَذَا مِمَّا يُرَاضُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنْ الْمَرِيضِ، وَأَنَّهُ مُجَابُ الدَّعْوَةِ. (تَتِمَّةٌ) رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ إلَّا أَنَّ مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَخَلْت عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ يَدْعُو لَك، فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 الْمَلَائِكَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «سَلُوهُ الدُّعَاءَ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ» . قَالَ فِي الْفُرُوعِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُدْرِكْهُ قَالَ: وَمِنْ الْعَجَبِ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ، وَتَقْلِيدُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ لَهُ وَاسْتَحَبَّهُ الْآجُرِّيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْأَمْرَاضُ تُمَحِّصُ الذُّنُوبَ، وَقَالَ لِمَرِيضٍ تَمَاثَلْ يَهْنِيكَ الطَّهُورُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عُودُوا الْمَرْضَى وَمُرُوهُمْ فَلْيَدْعُوا لَكُمْ، فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَرِيضِ مُسْتَجَابَةٌ وَذَنْبَهُ مَغْفُورٌ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَرْضَى، وَالْكَفَّارَاتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُرَدُّ دَعْوَةُ الْمَرِيضِ حَتَّى يَبْرَأَ» ذَكَرَهُمَا الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ إشَارَةً لِضَعْفِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْفُرُوعِ رَوَى جَمَاعَةٌ فِي تَرْجَمَةِ مُوسَى بْنِ عُمَيْرٍ، وَهُوَ كَذَّابٌ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا: «دَاوَوْا مَرَضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ وَأَعِدُّوا لِلْبَلَاءِ الدُّعَاءَ» ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ يَفْعَلُونَ هَذَا، وَهُوَ حَسَنٌ وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ انْتَهَى. قُلْت: أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ وَدَاوُوا مَرَضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَأَعِدُّوا لِلْبَلَاءِ الدُّعَاءَ» ، وَكَذَا أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «حَرِّزُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوَوْا مَرَضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَادْفَعُوا عَنْكُمْ طَوَارِقَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ: مَا نَزَلَ يَكْشِفُهُ وَمَا لَمْ يَنْزِلْ يَحْبِسُهُ» ، وَلَهُ شَوَاهِدُ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالَ: إنَّهَا مُنْكَرَةٌ، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَأَبِي الشَّيْخِ مَرْفُوعًا «مَا عُولِجَ مَرِيضٌ بِدَوَاءٍ أَفْضَلَ مِنْ الصَّدَقَةِ» وَأَخْرَجَهُ الدَّيْلَمِيُّ أَيْضًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَعْنَى الذِّمَّةِ وَبَيَانِ أَهْلِهَا وَفِي تَسْمِيَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالسَّامِرَةِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَمَكْرُوهٌ اسْتِئْمَانُنَا أَهْلَ ذِمَّةٍ ... لِإِحْرَازِ مَالٍ أَوْ لِقِسْمَتِهِ اشْهَدْ (وَمَكْرُوهٌ) شَرْعًا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا (اسْتِئْمَانُنَا) مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَيْ اتِّخَاذُنَا أَمِينًا (أَهْلَ ذِمَّةٍ) أَيْ أَحَدًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاؤُنَا فِي الدِّينِ فَكَيْفَ نَأْمَنُهُمْ وَنَرْكَنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 إلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ أَهْلُ الْعَقْدِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الذِّمَّةُ الْأَمَانُ فِي قَوْلِهِمْ: يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَالذِّمَّةُ الضَّمَانُ، وَالْعَهْدُ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسُ إذْ لَا تُعْقَدُ الذِّمَّةُ إلَّا لَهُمْ، فَإِنَّ الْيَهُودَ وَمِنْهُمْ السَّامِرَةُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ، وَوَاحِدُ الْيَهُودِ يَهُودِيٌّ وَلَكِنَّهُمْ حَذَفُوا يَاءَ النَّسَبِ فِي الْجَمْعِ كَزِنْجِيٍّ وَزِنْجٍ جَعَلُوا الْيَاءَ فِيهِ كَتَاءِ التَّأْنِيثِ فِي نَحْوِ شَعِيرَةٍ وَشَعِيرٍ. وَفِي تَسْمِيَتِهِمْ بِذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] . الثَّانِي: أَنَّهُمْ هَادُوا مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ أَيْ تَابُوا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ مَالُوا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدِينِ مُوسَى. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ يَتَهَوَّدُونَ عِنْدَ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ أَيْ يَتَحَرَّكُونَ وَيَقُولُونَ: السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ تَحَرَّكَتْ حِينَ آتَى اللَّهُ مُوسَى التَّوْرَاةَ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. (الْخَامِسُ) : نِسْبَتُهُمْ إلَى يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ فَقِيلَ لَهُمْ: يَهُوذُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، ثُمَّ عُرِّبَ بِالْمُهْمَلَةِ نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْمُطْلِعِ. وَأَمَّا السَّامِرَةُ فَهُمْ قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ بَنْيِ إسْرَائِيلَ إلَيْهِمْ نُسِبَ السَّامِرِيُّ قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُمْ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ فِي الشَّامِ يُعْرَفُونَ بِالسَّامِرِيِّينَ هَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَهُمْ فِي زَمَانِنَا يُسَمَّوْنَ السَّمَرَةَ بِوَزْنِ الشَّجَرَةِ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْيَهُودِ مُتَشَدِّدُونَ فِي دِينِهِمْ، وَهُمْ مُقِيمُونَ بِقَصَبَةِ نَابُلُسَ، لَهُمْ دُورٌ وَأَمْلَاكٌ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ خَالَفَتْ جَمِيعَ الْمِلَلِ فَزَعَمَتْ أَنَّ نَابُلُسَ هِيَ الْقُدْسُ وَهُمْ يُصَلُّونَ إلَى الْجَبَلِ الَّذِي قِبْلِيَّ نَابُلُسَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الصُّخَيْرَاتِ لَهَا فَضْلٌ عَظِيمٌ وَيُزَخْرِفُونَ مِنْ عُقُولِهِمْ السَّخِيفَةِ وَضَلَالَاتِهِمْ الْبَاطِلَةِ أَشْيَاءَ يُرَوِّجُونَهَا عَلَى جُهَّالِهِمْ. وَأَمَّا النَّصَارَى فَوَاحِدُهُمْ نَصْرَانُ، وَالْأُنْثَى نَصْرَانَةٌ بِمَعْنَى نَصْرَانِيٍّ وَنَصْرَانِيَّةٍ نِسْبَةً إلَى قَرْيَةٍ بِالشَّامِ يُقَالُ لَهَا نَصْرَانُ، وَيُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ صَفْدٍ وَالنَّصَارَى يُعَظِّمُونَهَا؛ لِأَنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى نَشَأَ بِهَا، وَالْإِفْرِنْجُ فِرْقَةٌ مِنْ النَّصَارَى وَهُمْ الرُّومُ وَيُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَصْفَرِ قَالَ فِي الْمُطْلِعِ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا نَصَّ عَلَى هَذِهِ اللَّفْظِيَّةِ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا مُوَلَّدَةٌ وَلَعَلَّ ذَلِكَ نِسْبَةٌ إلَى فَرَنْجَةَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ وَسُكُونِ ثَالِثَةٍ، وَهِيَ جَزِيرَةٌ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا فَرَنْجِيٌّ، ثُمَّ حُذِفَتْ الْيَاءُ كَزِنْجِيٍّ وَزِنْجٍ، فَالْيَهُودُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالنَّصَارَى أَهْلُ الْإِنْجِيلِ. وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَلَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَيُكْرَهُ لَنَا أَنْ نَسْتَأْمِنَ أَحَدًا مِنْهُمْ لِإِحْرَازِ أَبْدَانِنَا فِي الطِّبِّ، فَإِنَّهُمْ أَعْدَاؤُنَا، وَمَنْ كَانَ عَدُوًّا لَنَا فَكَيْفَ نَأْمَنُهُ عَلَى أَرْوَاحِنَا سِيَّمَا وَهُمْ يَطْلُبُونَا بِالثَّارَّاتِ الْقَدِيمَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا بِأَيْدِينَا مِنْ أَمْلَاكِهِمْ، وَأَنَّا سَلَبْنَاهُمْ مِلْكَهُمْ وَدَوْلَتَهُمْ فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَيْفَ يُؤْمَنُ عَلَى بَدَنٍ، أَوْ غَيْرِهِ؟ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ مُنَبِّهًا بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ بَابِ أَوْلَى (لِ) أَجْلِ (إحْرَازٍ) أَيْ حِفْظِ (مَالٍ) مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ (أَوْ) أَيْ وَمَكْرُوهٌ اسْتِئْمَانُنَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ (لِ) أَجْلِ (قِسْمَتِهِ) أَيْ الْمَالِ (اشْهَدْ) بِذَلِكَ وَاعْتَقِدْهُ وَإِيَّاكَ، وَالْعُدُولَ عَنْهُ. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ اسْتِخْدَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ: يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ كِتَابَةٍ وَعِمَالَةٍ وَجِبَايَةِ خَرَاجٍ وَقِسْمَةِ فَيْءٍ وَغَنِيمَةٍ وَحِفْظِ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَا يَكُونُ بَوَّابًا وَلَا جَلَّادًا وَنَحْوَهُمَا. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قُلْت لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنَّ لِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا قَالَ: مَالَكَ قَاتَلَك اللَّهُ، أَمَا سَمِعْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] أَلَا اتَّخَذْت حَنِيفًا؟ قَالَ: قُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي كِتَابَتُهُ وَلَهُ دِينُهُ قَالَ: لَا أُكْرِمُهُمْ إذْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ وَلَا أُدْنِيهِمْ إذْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: فَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَجْعَلُوا فِي دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا انْتَهَى. وَلِأَنَّ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ مَا لَا يَخْفَى، وَهُوَ مَا يَلْزَمُ عَادَةً أَوْ يُفْضِي إلَيْهِ مِنْ تَصْدِيرِهِمْ فِي الْمَجَالِسِ، وَالْقِيَامِ لَهُمْ وَجُلُوسِهِمْ وَوُقُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَابْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ مَعَ تَذَلُّلِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ أَيْدِيهمْ وَخُضُوعِهِمْ لَدَيْهِمْ وَالتَّمَلُّقِ وَإِظْهَارِ الْحُبِّ، وَالْإِعْزَازِ لَهُمْ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهِمْ لِكَوْنِ الدِّيوَانِ فِي أَيْدِيهِمْ. وَذَكَرَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ فِي كِتَابِهِ دُرَرِ الْآدَابِ وَمَحَاسِنِ ذَوِي الْأَلْبَابِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى جَمِيعِ عُمَّالِهِ فِي الْآفَاقِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عُمَرَ يُقْرِئُ عَلَيْكُمْ السَّلَامَ وَيَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الْمُبِينِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] الْآيَةَ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ مَنْ هَلَكَ قَبْلَكُمْ إلَّا بِمَنْعِهِ الْحَقَّ وَبَسْطِ يَدِ الظُّلْمِ، وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا مَضَى، إذَا قَدِمُوا بَلَدًا أَتَاهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَاسْتَعَانُوا بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ وَكِتَابَتِهِمْ لِعِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ، وَالْحِسَابِ وَالتَّدْبِيرِ وَلَا خِيَرَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وَلَا تَدْبِيرَ فِيمَا يُغْضِبُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مُدَّةٌ، وَقَدْ قَضَاهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا نَعْلَمَنَّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُمَّالِ أَبْقَى فِي عَمَلِهِ رَجُلًا مُتَصَرِّفًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَّا نُكِّلَ بِهِ، وَلْيَكْتُبْ كُلٌّ مِنْكُمْ بِمَا فَعَلَهُ فِي عَمَلِهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُمْنَعَ النَّصَارَى، وَالْيَهُودُ مِنْ الرُّكُوبِ عَلَى السُّرُوجِ إلَّا عَلَى الْأَكُفِّ. قَالَ: وَكَتَبَ إلَى حَيَّانَ عَامِلِهِ بِمِصْرَ بِاعْتِمَادِ ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَيْهِ حَيَّانُ: أَمَّا بَعْدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنْ دَامَ هَذَا الْأَمْرُ فِي مِصْرَ أَسْلَمَتْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَبَطَلَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْخَرَاجِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ خَالِدًا، وَقَالَ لَهُ: ائْتِ مِصْرَ فَاضْرِبْ حَيَّانَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثِينَ سَوْطًا أَدَبًا عَلَى قَوْلِهِ وَقُلْ لَهُ: وَيْلَك يَا حَيَّانُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَضَعْ عَنْهُ الْجِزْيَةَ فَوَدِدْت أَنْ أَسْلَمُوا كَافَّةً، اللَّهُ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاعِيًا لَا جَابِيًا. قَالَ: وَكَتَبَ فِي أَيَّامِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ بَعْضُ الزُّهَّادِ لَمَّا رَأَى تَمَكُّنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِهْمَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَيَّامِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: بِأَبِي وَأُمِّي ضَاعَتْ الْأَحْلَامُ ... أَمْ ضَاعَتْ الْأَذْهَانُ وَالْأَفْهَامُ مَنْ حَادَ عَنْ دِينِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... أَلَهُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ قِيَامُ إلَّا تَكُنْ أَسْيَافُهُمْ مَشْهُورَةً ... فِينَا فَتِلْكَ سُيُوفُهُمْ أَقْلَامُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّك تَحَمَّلْت أَمَانَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا فَتُسْلِمُ أَنْتَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ الَّتِي قَدْ تَدَرَّكْتَ بِهَا وَخَصَّك اللَّهُ بِهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَا سَمِعْت تَفْسِيرَ جَدِّك عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] ، وَأَنَّ الصَّغِيرَةَ التَّبَسُّمُ، وَالْكَبِيرَةَ الضَّحِكُ فَمَا ظَنُّك بِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَانَتِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَقَدْ نَصَحْتُك وَهَذِهِ النَّصِيحَةُ حُجَّةٌ عَلَيَّ مَا لَمْ تَصِلْ، فَإِذَا وَصَلَتْ إلَيْك صَارَتْ حُجَّةً عَلَيْك فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقَدَّمَ إلَى جَمِيعِ الْعُمَّالِ فِي الْبِلَادِ أَنْ لَا يُتْرَكَ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ يَكْتُبُ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُمَّالِ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ اسْتَكْتَبَ أَحَدًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قُطِعَتْ يَدُهُ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ مِنْ قَصِيدَةٍ يَمْدَحُ بِهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَحُثُّهُ عَلَى قَتْلِ الْقِبْطِ وَيُغْرِيه بِهِمْ وَأَنْشَدَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِلْمَأْمُونِ لَمَّا اسْتَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ الْقِبْطِ فَقَالَ: هُمْ بَقِيَّةُ الْفَرَاعِنَةِ الَّذِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 كَانُوا بِمِصْرَ. وَقَالَ لَهُ: وَقَدْ نَهَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ اسْتِخْدَامِهِمْ فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: صِفْ لِي كَيْفَ كَانَ شَأْنُهُمْ فِي مِصْرَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا أَخَذَتْ الْفُرْسُ الْمُلْكَ مِنْ أَيْدِي الْفَرَاعِنَةِ قَتَلُوا الْقِبْطَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ اصْطَنَعَتْهُ أَيْدِي الْهَرَبِ وَاخْتَفَى وَتَعَلَّمُوا كُتَّابًا وَأَطِبَّاءً وَحُسَّابًا، فَلَمَّا مَلَكَتْ الرُّومُ كَانُوا هُمْ سَبَبًا لِإِخْرَاجِ الْفُرْسِ عَنْ مُلْكِهِمْ، وَأَقَامُوا فِي مَمْلَكَةِ الرُّومِ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ، وَهِيَ: يَا عَمْرُو قَدْ مَلَكَتْ يَمِينُك مِصْرَنَا ... وَمَلَكْت فِيهَا الْعَدْلَ وَالْإِقْسَاطَا فَاقْتُلْ بِسَيْفِك مَنْ تَعَدَّى طَوْرَهُ ... وَاجْعَلْ فَتُوحَ سُيُوفِك الْأَقْبَاطَا فِيهِمْ أُقِيمَ الْجَوْرُ فِي جَنَبَاتِهَا ... وَرَأَى الْأَنَامُ النَّفْيَ وَالْإِفْرَاطَا عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَثَلَّثُوا لَاهُوتَهمْ ... وَتَوَازَرُوا وَتَعَدَّوْا الْأَشْرَاطَا لَا تَرْكَنَنَّ إلَى النَّصَارَى إنَّهُمْ ... شَعْبٌ عَلَى دِينِ الْإِلَهِ تَعَاطَا وَاذْكُرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلَهُ ... إنْ كُنْت فِي طَاعَاتِهِ مُحْتَاطًا لَا تَقْبَلَنْ لِمُشْرِكٍ عَهْدًا وَلَا ... تَرْعَى لَهُ ذِمَمًا وَلَا أَخْلَاطَا فَأَوْغَرَ صَدْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا عَادَ إلَى بَغْدَادَ اتَّفَقَ أَنَّهُمْ أَسَاءُوا إلَى الْكِسَائِيّ الِاعْتِمَادَ وَجَاهَرُوهُ بِالْبَغْيِ، وَالْفَسَادِ، فَلَمَّا قَرَأَ الْمَأْمُونُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] . فَقَالَ لَهُ الْكِسَائِيُّ: أَيَقْرَأُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِصَرْفِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِالْمَمْلَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَاتَّفَقَ فِي أَيَّامِ ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْمَأْمُونِ وَعِنْدَهُ ذِمِّيٌّ فِي مَجْلِسِهِ لَهُ حُرْمَةٌ وَوَقَارٌ، فَاسْتَأْذَنَهُ الْفَاضِلُ فِي إنْشَادِ بَيْتَيْنِ مِنْ الشِّعْرِ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَنْشَدَ: يَا ابْنَ الَّذِي طَاعَتُهُ فِي الْوَرَى ... وَحُبُّهُ مُفْتَرَضٌ وَاجِبُ إنَّ الَّذِي شُرِّفْت مِنْ أَجْلِهِ ... يَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبُ فَقَالَ: أَصَحِيحٌ مَا يَقُولُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ وَذَكَرَ السُّلْطَانُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ الْمَزْبُورِ: أَنَّ النَّصَارَى فِي زَمَنِ الْآمِرِ بِاَللَّهِ اشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ وَامْتَدَّتْ أَيْدِيهمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذِيَّةِ وَإِيصَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 الْأَذَى إلَيْهِمْ لَا سِيَّمَا أَرْبَابُ الدِّينِ، وَأَجْلَسَ كَاتِبًا مِنْهُمْ يُعْرَفُ بِالرَّاهِبِ، وَيُلَقَّبُ بِالْأَبِ الْقِدِّيسِ، فَصَادَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ مِصْرَ وَامْتَدَّتْ يَدُهُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَامَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ عَلَى قَبِيحِ فِعْلِهِ وَمَا يَبْدُو مِنْهُ لِلْخَاصَّةِ، وَالْعَامَّةِ إشْفَاقًا عَلَيْهِ، فَكَانَ جَوَابُهُ نَحْنُ مُلَّاكُ هَذِهِ الْبِلَادِ حَرْثًا وَخَرَاجًا، وَإِنَّمَا مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَّا وَتَغَلَّبُوا عَلَيْنَا وَغَصَبُونَا وَاسْتَمْسَكُوهَا مِنْ أَيْدِينَا. فَنَحْنُ مَهْمَا فَعَلْنَا بِالْمُسْلِمِينَ فَهُوَ قُبَالَةُ مَا فَعَلُوهُ بِنَا، وَجَمِيعُ مَا نَأْخُذُهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ حِلٌّ لَنَا وَبَعْضُ مَا نَسْتَحِقُّهُ، فَإِذَا حَمَلْنَا إلَيْهِمْ مَالًا كَانَتْ الْمِنَّةُ لَنَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْشَدَ: بِنْتَ كَرَمٍ غَصَبُوهَا أَهْلَهَا ... وَأَهَانُوهَا بِدَوْسِ بِالْقَدَمْ ثُمَّ عَادُوا حَكَّمُوهَا فِيهِمْ ... وَلَهَا أَمْرٌ بِخَصْمٍ يُحْتَكَمْ وَنُقِلَ مِنْ مِثْلِ هَذَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ جِدًّا فَرَاجِعْهُ إنْ شِئْت، ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَحْسَن قَوْلَ الْجَاحِظِ: الْخِيَانَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ: تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا عَسَى أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ مَحَاسِنُهُمْ مَسَاوِي السِّفَلِ وَمَسَاوِيهِمْ فَضَائِحُ الْمِلَلِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ. (تَنْبِيهٌ) : اقْتَصَرَ النَّاظِمُ عَلَى كَوْنِ اسْتِئْمَانِنَا أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي مَالٍ وَقِسْمَتِهِ مَكْرُوهًا، وَظَاهِرُ مَا اعْتَمَدَهُ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ حُرْمَةُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي الْغَزْوِ وَبِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَحْرُمُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِكُفَّارٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ إلَّا خَوْفًا قَالَ الشَّيْخُ: وَمَنْ تَوَلَّى مِنْهُمْ دِيوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَ عَهْدُهُ وَيَحْرُمُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَزْوٍ وَعِمَالَةٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ مُسْلِمٌ بِذِمِّيٍّ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ كِتَابَةٍ وَعِمَالَةٍ وَجِبَايَةِ خَرَاجٍ وَقِسْمَةِ فَيْءٍ وَغَنِيمَةٍ وَحِفْظِ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ وَنَقْلِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالضَّرُورَةِ الْحَاجَةَ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ زَوَالُ الْكَرَاهَةِ بِأَدْنَى حَاجَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَكُونُ بَوَّابًا وَلَا جَلَّادًا وَجَهْبَذًا، وَهُوَ النَّقَّادُ الْخَبِيرُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ: وَيَحْرُمُ تَوْلِيَتُهُمْ الْوِلَايَاتِ مِنْ دِيوَانِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُسْتَشَارُوا أَوْ يُؤْخَذَ بِرَأْيِهِمْ قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى فَارِقًا بَيْنَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالذِّمَّةِ: إنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ دُعَاةٌ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ،. وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يَدْعُونَ إلَى أَدْيَانِهِمْ نَصًّا، وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَحْرُمُ وَيُتَوَجَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِكُفَّارٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ لِحَاجَةٍ، وَعَنْهُ: يَجُوزُ مَعَ حُسْنِ رَأْيٍ فِينَا، زَادَ جَمَاعَةٌ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ وَقُوَّتُهُ بِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 بِالْعَدُوِّ. وَفِي الْوَاضِحِ رِوَايَتَانِ: الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ بِلَا ضَرُورَةٍ وَبَنَاهُمَا عَلَى الْإِسْهَامِ لَهُ، كَذَا قَالَ: وَفِي الْبُلْغَةِ: يُحَرَّمُ إلَّا لِحَاجَةٍ بِحُسْنِ الظَّنِّ قَالَ: وَقِيلَ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَأَطْلَقَ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تَخْتَلِفُ أَنَّهُ لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ وَلَا يُعَاوَنُونَ وَأَخَذَ الْقَاضِي مِنْ تَحْرِيمِ الِاسْتِعَانَةِ تَحْرِيمَهَا فِي الْعِمَالَةِ، وَالْكِتَابَةِ وَسَأَلَهُ أَبُو طَالِبٍ عَنْ مِثْلِ الْخَرَاجِ قَالَ: لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ وَأَخَذَ الْقَاضِي مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُ عَامِلًا فِي الزَّكَاةِ، فَدَلَّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَالْأَوْلَى الْمَنْعُ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ مَفَاسِدُ أَوْ يُفْضِي إلَيْهَا، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ مَسْأَلَةِ الْجِهَادِ. وَقَالَ شَيْخُنَا: مَنْ تَوَلَّى مِنْهُمْ دِيوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الصِّغَارِ وَفِي الرِّعَايَةِ يُكْرَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَحْرِيمُ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَعْظَمَ الضَّرَرِ؛ لِأَنَّهُمْ دُعَاةٌ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَدْعُونَ إلَى أَدْيَانِهِمْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ فِي الْفُرُوعِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ الْمَذْهَبِ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ كَمَا عَلَيْهِ النَّاظِمُ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ يَحْرُمُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قُلْت: وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْبَاقِي الْأَثَرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي رِسَالَةٍ لَهُ مُتَعَلِّقَةٍ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَاَللَّهُ يُؤَيِّدُ دِينَهُ وَيَنْصُرُ مِلَّةَ نَبِيِّهِ إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. . مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ اسْتِطْبَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَحِكَايَةِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ مَعَ الْيَهُودِيِّ: وَمَكْرُوهٌ اسْتِطْبَابُهُمْ لَا ضَرُورَةً ... وَمَا رَكَّبُوهُ مِنْ دَوَاءٍ مُوَصَّدٍ ، (وَمَكْرُوهٌ اسْتِطْبَابُهُمْ) أَيْ طَلَبُ كَوْنِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ طَبِيبًا وَاِتِّخَاذَ أَحَدِهِمْ طَبِيبًا؛ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَافْتِقَادِ النَّصِيحَةِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَرِجَالِهِمْ. قَالَ السُّلْطَانُ الْعَادِلُ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ فِي دُرَرِ الْآدَابِ يُقَالُ: إنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ جَمَعَتْهُ الطَّرِيقُ مَعَ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ، وَهُوَ رَاكِبٌ، وَالْيَهُودِيُّ رَاجِلٌ، فَلَمَّا وَصَلَا إلَى بَابِ الْمَدِينَةِ مَسَكَ الْمِقْدَادُ الْيَهُودِيَّ، وَقَالَ لَهُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا صَحِبَ مُسْلِمٌ يَهُودِيًّا وَلَا عَامَلَهُ إلَّا غَشَّهُ» وَأَنْتَ قَدْ سَايَرْتَنِي إلَى بَابِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ فَبِمَ غَشَشْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: الْغِشُّ يَكُونُ فِي الْمُعَامَلَةِ، أَوْ فِي الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ، فَشَدَّدَ عَلَيْهِ الْمِقْدَادُ، وَأَنَّهُ لَا يُخَلِّيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 دُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُ فَلَمَّا ضَايَقَهُ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: تُؤَمِّنُنِي عَلَى نَفْسِي وَأَصْدُقُك؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ الْيَهُودِيُّ: صَدَقَ وَاَللَّهِ نَبِيُّك إنَّهُ لَمَّا أَعْيَانِي الْأَمْرُ فِي غِشِّك، وَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى مَكْرُوهٍ أُوصِلُهُ إلَيْك كُنْت أَمْشِي عَلَى ظِلِّك الْمُمْتَدِّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَثْقُلُ عَلَيْهِ فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ مَثَابَتَهُمْ فِينَا وَسِيرَتَهُمْ فِي أَذِيَّتِنَا، فَهَلْ يَسُوغُ لِعَاقِلٍ أَنْ يُسْلِمَ إلَيْهِمْ بَدَنَهُ ". مَطْلَبٌ: لَا يُكْرَهُ اسْتِطْبَابُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلضَّرُورَةِ. (لَا) يُكْرَهُ اسْتِطْبَابُ أَهْلِ الذِّمَّةِ (ضَرُورَةً) أَيْ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ إدْخَالَ الضَّرَرِ مِنْ اسْتِطْبَابِهِ مُتَوَهَّمٌ، وَالْعِلَّةَ مَعْلُومَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ اتِّخَاذِ مَا يُزِيلُ الْمَعْلُومَ مِنْ الضَّرَرِ بِخَوْفِ إدْخَالِ ضَرَرٍ مُتَوَهَّمٍ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إذَا كَانَ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ خَبِيرًا بِالطِّبِّ ثِقَةً عِنْدَ الْإِنْسَانِ جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَطِبَّهُ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُودِعَهُ الْمَالَ وَأَنْ يُعَامِلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ أَنْ يَسْتَطِبَّ الْحَارِثَ بْنَ كِلْدَةَ» وَكَانَ كَافِرًا، وَإِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَطِبَّ مُسْلِمًا فَهُوَ كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُودِعَهُ، أَوْ يُعَامِلَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ، وَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَى ائْتِمَانِ الْكِتَابِيِّ وَاسْتِطْبَابِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَايَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَلَيْسَ الْكِتَابِيُّ بِقَيْدٍ فَالْمَجُوسِيُّ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ أَخْذُ دَوَاءٍ مِنْ ذِمِّيٍّ لَمْ يُبَيِّنْ مُفْرَدَاته الْمُبَاحَةَ (وَ) مَكْرُوهٌ (مَا) أَيْ شَيْءٌ أَوْ الَّذِي (رَكَّبُوهُ) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ الَّتِي لَمْ يَقِفْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَخْلِطَهُ شَيْئًا مِنْ الْمَسْمُومَاتِ، أَوْ النَّجَاسَاتِ (مِنْ دَوَاءٍ) بِتَثْلِيثِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مَا دَاوَيْت بِهِ (مُوَصَّدٍ) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مَنْسُوجٍ وَمُرَكَّبٍ قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْوَصْدُ بِحَرَكَةٍ النَّسْجُ، وَالْوَصَّادُ النَّسَّاجُ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: يُكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ يَعْنِي الذِّمِّيَّ دَوَاءً لَمْ يُبَيِّنْ مُفْرَدَاتِهِ الْمُبَاحَةَ، وَكَذَا مَا وَصَفَهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ، أَوْ عَمِلَهُ. وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: أَدْخَلْت عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ نَصْرَانِيًّا فَجَعَلَ يَصِفُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَكْتُبُ مَا وَصَفَهُ، ثُمَّ أَمَرَنِي فَاشْتَرَيْته لَهُ قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا يُرْجَعُ إلَى قَوْلِهِ فِي الدَّوَاءِ الْمُبَاحِ، فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلدَّاءِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ فَلَا حَرَجَ فِي تَنَاوُلِهِ، وَهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 بِخِلَافِ مَا لَوْ أَشَارَ بِالْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ جَالِسًا وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ فَلَا يُقْبَلُ، وَإِذَا خَاطَبَ الْكَافِرَ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كَانَ حَسَنًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: لَا تَطِبُّ ذِمِّيَّةٌ مُسْلِمَةً وَلَا تَقْبَلُهَا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمَةٍ (تَتِمَّةٌ) قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: إنَّهُ لَا تَطِبُّ ذِمِّيَّةٌ مُسْلِمَةً وَلَا تَقْبَلُهَا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمَةٍ تَطِبُّهَا أَوْ تَقْبَلُهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَحْرِيمِ نَظَرِ الذِّمِّيَّةِ لِلْمُسْلِمَةِ، وَإِلَّا جَازَ وَعَنْهُ إلَّا أَنَّهَا لَا تَقْبَلُهَا وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ وَيُكْرَهُ أَنْ تَطِبَّ ذِمِّيَّةٌ مُسْلِمَةً، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا تَقْبَلَهَا فِي وِلَادَتِهَا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمَةٍ فَظَهَرَ الْجَوَازُ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَيَأْتِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يَطِبُّ الرَّجُلُ الْأُنْثَى، وَالْأُنْثَى الرَّجُلَ لِلضَّرُورَةِ وَإِنْ مَرِضَتْ أُنْثَى وَلَمْ يَجِدُوا لَهَا طَبِيبًا سِوَى فَحْلٍ أَجِزْهُ وَمَهِّدْ (وَإِنْ مَرِضَتْ أُنْثَى) دَاوَتْهَا وَطَبَّتْهَا أُنْثَى مِثْلُهَا، وَلَوْ كَافِرَةً فِيمَا يَظْهَرُ (وَ) إنْ (لَمْ يَجِدُوا لَهَا) أَيْ الْأُنْثَى (طَبِيبًا سِوَى فَحْلٍ) ، يُفْهَمُ مِنْ نِظَامِهِ أَنَّهُ إنْ وُجِدَ خَصِيٌّ يُقَدَّمُ عَلَى الْفَحْلِ وَيُتَّجَهُ، وَكَذَا خُنْثَى، فَإِنْ عَدِمْنَا الْأُنْثَى، وَالْخَصِيَّ، وَالْخُنْثَى بِمَعْنَى تَعَذُّرِ تَأَتِّي الْمَقْصُودِ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَتَأَتَّ إلَّا مِنْ ذَكَرٍ فَحْلٍ (أَجِزْهُ) وَلَا تَمْنَعْهُ (وَمَهِّدْ) جَوَازَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، وَحَيْثُ جَازَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مِنْهَا نَظَرُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى نَظَرِهِ حَتَّى الْفَرْجِ، وَكَذَا اللَّمْسُ لِلضَّرُورَةِ، وَكَذَا الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ. قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ يَطِبُّهُ سِوَى امْرَأَةٍ فَلَهَا نَظَرُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى نَظَرِهِ مِنْهُ حَتَّى فَرْجِهِ قَالَ الْقَاضِي: يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَا إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ نَصًّا، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ خِدْمَةُ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَيُشَاهِدُ مِنْهَا الْعَوْرَةَ فِي حَالِ الْمَرَضِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَحْرَمٌ نَصًّا. وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَنْ يَلِيَ بَعْضُهُمْ عَوْرَةَ بَعْضٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ نَصًّا، وَحَيْثُ جَازَ لِلطَّبِيبِ مُدَاوَاةُ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَا تَجُوزُ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهَا فِي بَيْتٍ أَوْ نَحْوِهِ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكَحَّالِ: يَخْلُو بِالْمَرْأَةِ، وَقَدْ انْصَرَفَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 مِنْ عِنْدِهِ النِّسَاءُ هَلْ هَذِهِ الْخَلْوَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا؟ قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ قِيلَ: بَلَى قَالَ: إنَّمَا الْخَلْوَةُ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ. مَطْلَبٌ: تُكْرَهُ الْحُقْنَةُ بِلَا حَاجَةٍ وَيُكْرَهُ حَقْنُ الْمَرْءِ إلَّا ضَرُورَةً وَيَنْظُرُ مَا يَحْتَاجُهُ حَاقِنٌ قَدْ (وَيُكْرَهُ حَقْنُ الْمَرْءِ) أَيْ الْإِنْسَانِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (إلَّا ضَرُورَةً) يَعْنِي حَاجَةً، إذْ الْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِأَدْنَى حَاجَةٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْمَذْهَبِ يُقَالُ: حَقَنْت الْمَرِيضَ إذَا أَوْصَلْت الدَّوَاءَ إلَى بَاطِنِهِ مِنْ مَخْرَجِهِ بِالْحِقْنَةِ بِالْكَسْرِ وَاحْتَقَنَ هُوَ وَالِاسْمُ الْحُقْنَةُ مِثْلُ الْفُرْقَةِ مِنْ الِافْتِرَاقِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى مَا يَتَدَاوَى بِهِ، وَالْجَمْعُ حُقَنٌ مِثْلُ غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ قَالَ الْقَاضِي هَلْ تُكْرَهُ الْحِقْنَةُ، عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: تُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ وَغَيْرِهَا، وَالثَّانِيَةُ: لَا تُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ. وَقَالَ الْخَلَّالُ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كَرِهَهَا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، ثُمَّ أَبَاحَهَا عَلَى مَعْنَى الْعِلَاجِ، وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وُصِفَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَفَعَلَ يَعْنِي الْحِقْنَةَ وَاحْتَجَّ الْقَاضِي لِلْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ يَعْنِي كَرَاهَةَ الْحِقْنَةِ مُطْلَقًا بِمَا رَوَى وَكِيعٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْحُقْنَةِ» وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ. وَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَجُلٌ احْتَقَنَ قَالَ: لَا تُبْدِ الْعَوْرَةَ وَلَا تَسْتَنَّ بِسُنَّةِ الْمُشْرِكِينَ رَوَاهُ الْخَلَّالُ. وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْحِقْنَةُ كُفْرٌ وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْحِقْنَةِ وَكَرِهَهَا عَلِيٌّ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ، وَقَالَ: هِيَ سُنَّةُ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُعْتَمَدُ كَرَاهَتُهَا بِلَا حَاجَةٍ وَلَهَا تُبَاحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يَجُوزُ نَظَرُ الْعَوْرَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فِي مَوَاضِعَ (وَيَنْظُرُ مَا) أَيْ شَيْئًا أَوْ الَّذِي (يَحْتَاجُهُ حَاقِنٌ) ، فَالضَّمِيرُ فِي يَحْتَاجُهُ لِلْحَاقِنِ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ رُتْبَةً، وَإِنْ تَأَخَّرَ لَفْظًا أَيْ وَيَنْظُرُ الْحَاقِنُ يَعْنِي الَّذِي يَحْقِنُ الْمَرِيضَ مَا يَحْتَاجُ النَّظَرَ إلَيْهِ مِنْ عَوْرَةِ الْمُحْتَقِنِ (قَدْ) أَيْ حَسَب يَعْنِي لَيْسَ لَهُ النَّظَرُ إلَّا إلَى مَحَلِّ الْحَاجَةِ. كَقَابِلَةٍ حِلٌّ لَهَا نَظَرٌ إلَى مَكَانِ وِلَادَاتِ النَّسَا فِي التَّوَلُّدِ (كَقَابِلَةٍ) ، فَإِنَّهَا تَنْظُرُ إلَى مَا تَحْتَاجُ النَّظَرَ إلَيْهِ فَقَطْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (حِلٌّ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 أَيْ حَلَالٌ (لَهَا) أَيْ الْقَابِلَةِ (نَظَرٌ) أَيْ: أَنْ تَنْظُرَ (إلَى) مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ (مَكَانِ وِلَادَاتِ النَّسَا فِي التَّوْلِيدِ) فَتَنْظُرُ إلَى مَوْضِعِ الْوِلَادَةِ وَنَحْوِهِ لِلْحَاجَةِ، وَلَا تَقْبَلُ الذِّمِّيَّةُ الْمُسْلِمَةَ مَعَ وُجُودِ مُسْلِمَةٍ تَقْبَلُهَا وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا. (تَتِمَّةٌ) يَجُوزُ نَظَرُ الْعَوْرَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا لِلطَّبِيبِ فِي الْحِقْنَةِ وَغَيْرِهَا وَمِنْهَا لِلْقَابِلَةِ. وَمِنْهَا لِلْخِتَانِ. وَمِنْهَا النَّظَرُ لِمَعْرِفَةِ الْبُلُوغِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ. وَمِنْهَا حَلْقُ عَانَةِ مَنْ لَا يُحْسِنُ حَلْقَ عَانَتِهِ. وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي فِي كِتَابِ الْجِهَادِ: إذَا وَقَفَتْ امْرَأَةٌ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ، أَوْ عَلَى حِصْنِهِمْ فَتَكَشَّفَتْ لَهُمْ يَعْنِي لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ رَمْيُهَا قَصْدًا، وَالنَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى رَمْيِهَا. وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «لَمَّا حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ الطَّائِفِ أَشْرَفَتْ امْرَأَةٌ فَكَشَفَتْ عَنْ قُبُلِهَا فَقَالَ: هَادُونَكُمْ فَارْمُوهَا فَرَمَاهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَمَا أَخْطَأَ ذَاكَ مِنْهَا» . وَمِنْهَا مَنْ يَلِي خِدْمَةَ مَرِيضٍ. وَمِنْهَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي عَبَالَةِ ذَكَرِهِ بِأَنْ ادَّعَتْ الزَّوْجَةُ عَبَالَةَ ذَكَرِهِ وَضِيقَ فَرْجِهَا، وَخَافَتْ مِنْهُ الْإِفْضَاءَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَتَلْزَمُهَا الْبَيِّنَةُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ فِي ضِيقِ فَرْجِهَا وَعَبَالَةِ ذَكَرِهِ وَنَحْوِهِ، وَتَنْظُرُهُمَا وَقْتَ اجْتِمَاعِهِمَا لِلْحَاجَةِ، وَكَذَا كُلُّ مَا شَابَهُ ذَلِكَ مِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْبَكَارَةِ وَعَدَمِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ قَطْعِ الْبَوَاسِيرِ وَيُكْرَهُ إنْ لَمْ يَسْرِ قَطْعُ بَوَاسِرٍ ... وَبَطُّ الْأَذَى حِلٌّ كَقَطْعِ مُجَوَّدٍ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (إنْ لَمْ يَسْرِ) أَيْ إنْ لَمْ يَخَفْ سِرَايَتَهُ (قَطْعُ بَوَاسِرٍ) جَمْعُ بَاسُورٍ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْبَاسُورُ عِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ وَجَمْعُهُ بَوَاسِيرُ. وَفِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ الْبَاسُورُ وَاحِدُ الْبَوَاسِيرِ، وَهِيَ عِلَّةٌ تَحْدُثُ فِي الْمَقْعَدَةِ وَفِي دَاخِلِ الْأَنْفِ أَيْضًا، وَقَدْ تُبْدَلُ السِّينُ صَادًا فَيُقَالُ بَاصُورٌ، وَلَمْ أَرَ مَنْ جَعَلَ جَمْعَهُ بَوَاسِرُ كَمَا فِي النَّظْمِ فَتَفَطَّنْ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ كَغَيْرِهِ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ عَلَى كَرَاهَةِ قَطْعِ الْبَوَاسِيرِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ: أَكْرَهُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً أَخْشَى أَنْ يَمُوتَ فَيَكُونَ قَدْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَقَدَّمَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى الْإِبَاحَةَ، وَعِبَارَتُهُ: وَيُبَاحُ قَطْعُ الْبَوَاسِيرِ وَقِيلَ: يُكْرَهُ، وَإِنْ خِيفَ مِنْهُ التَّلَفُ حَرُمَ، وَإِنْ خِيفَ مِنْ تَرْكِ قَطْعِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 التَّلَفُ جَازَ إنْ لَمْ يَسْرِ الْقَطْعُ غَالِبًا، ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى قَالَ السَّامِرِيُّ: وَالنَّهْيُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ: أَكْرَهُهُ شَدِيدًا كَمَا قَدَّمْنَا (وَبَطُّ) مِنْ بَابِ قَتَلَ شَقَّ (الْأَذَى) يَعْنِي أَنَّ بَطَّ نَحْوَ الْجُرْحِ مِنْ الْبُثُورِ وَمَا يَطْلُعُ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ لِيَخْرُجَ مِنْهَا الْأَذَى مِنْ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ (حِلٌّ) أَيْ حَلَالٌ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، وَيُبَاحُ الْبَطُّ ضَرُورَةً مَعَ ظَنِّ السَّلَامَةِ، (كَمَا) يَحِلُّ (قَطْعُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ (مُجَوَّدِ) أَيْ مُمَكَّنٍ الدَّاءُ فِيهِ فَيُقْطَعُ. . مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ بَطِّ الْجُرْحِ وَقَطْعِ الْعُضْوِ خَوْفَ السَّرَيَانِ لِآكِلَةٍ تَسْرِي بِعُضْوٍ أَبِنْهُ إنْ ... تَخَافَنَّ عُقْبَاهُ وَلَا تَتَرَدَّدْ (لِ) أَجْلِ زَوَالِ (آكِلَةٍ تَسْرِي) مِنْ السَّرَيَانِ أَيْ تَزِيدُ (بِعُضْوٍ) هِيَ فِيهِ (أَبِنْهُ) أَيْ اقْطَعْهُ وَافْصِلْهُ عَنْك (إنْ) كُنْت (تَخَافَنَّ عُقْبَاهُ) أَيْ عَاقِبَتَهُ إنْ لَمْ تَقْطَعْهُ بِأَنْ خِفْت زِيَادَةَ الْأَلَمِ وَسَرَيَانَ الْأَذَى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَبِنْهُ عَنْك (وَلَا تَتَرَدَّدْ) فِي قَطْعِهِ، فَإِنَّهُ حَلَالٌ جَائِزٌ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: كَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُ الْبَطَّ وَلَكِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَخَّصَ فِيهِ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: وَكَذَا مُعَالَجَةُ الْأَمْرَاضِ الْمَخُوفَةِ كُلِّهَا وَمُدَاوَاتُهَا وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «دَخَلْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَجُلٍ نَعُودُهُ بِظَهْرِهِ وَرَمٌ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ مِدَّةٌ قَالَ: بُطُّوا عَنْهُ قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا بَرِحْت حَتَّى بُطَّتْ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاهِدُ» . وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ طَبِيبًا أَنْ يُبْطِنَ بَطْنَ رَجُلٍ أَحَوَى الْبَطْنِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَنْفَعُ الطِّبُّ؟ قَالَ: الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ أَنْزَلَ الشِّفَاءَ فِيمَا شَاءَ» وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ «بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ خَرَجَ فِي بَعْضِ أُصْبُعِي بَثْرَةٌ فَقَالَ: عِنْدَك ذَرِيرَةٌ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: ضَعِيهَا وَقَوْلِي: اللَّهُمَّ مُصَغِّرَ الْكَبِيرِ وَمُكَبِّرَ الصَّغِيرِ صَغِّرْ مَا بِي» . الْبَثْرُ، وَالْبُثُورُ خُرَاجٌ صِغَارٌ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَاحِدَتُهَا بَثْرَةٌ، وَقَدْ بَثِرَ وَجْهُهُ يَبْثَرُ بِتَثْلِيثِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَالذَّرِيرَةُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ دَوَاءٌ هِنْدِيٌّ يُتَّخَذُ مِنْ قَصَبٍ طَيِّبٍ يُجَاءُ بِهِ مِنْ الْهِنْدِ حَارَّةً يَابِسَةً تَنْفَعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 مِنْ وَرَمِ الْمَعِدَةِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِي بِذَرِيرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ، وَالْإِحْرَامِ» (لَطِيفَةٌ) : ذَكَرَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ فِي شَرْحِ حُكْمِ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُمَا: أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اُبْتُلِيَ بِقُرْحَةٍ فِي سَاقِهِ فَبَلَغَتْ إلَى أَنْ نُشِرَ سَاقُهُ فِي الْمَوْضِعِ الصَّحِيحِ مِنْهَا فَقَالَ لَهُ الْأَطِبَّاءُ: أَلَا نَسْقِيك مُرْقِدًا فَلَا تَحُسُّ بِمَا نَصْنَعُ بِك فَقَالَ: لَا وَلَكِنْ شَأْنُكُمْ فَنَشَرُوا مِنْهُ السَّاقَ، ثُمَّ حَسَمُوهَا بِالزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ فَمَا حَرَّكَ عُضْوًا وَلَا أَنْكَرُوا مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى مَسَّهُ الزَّيْتُ فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ حَسَنٌ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ الْكَيِّ إلَّا لِحَاجَةٍ وَقَبْلَ الْأَذَى لَا بَعْدَهُ الْكَيَّ فَاكْرَهَنْ ... وَعَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُقَيَّدِ (وَقَبْلَ) حُصُولِ (الْأَذَى) الْمُحْوِجِ إلَى الْكَيِّ بِالنَّارِ، وَكَذَا قَبْلَ حُصُولِ الدَّاءِ الْمُوجِبِ لِقَطْعِ بَعْضِ الْعُرُوقِ مَكْرُوهٌ الْكَيُّ وَقَطْعُ الْعُرُوقِ، (لَا) يُكْرَهُ ذَلِكَ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ وُجُودِ الدَّاءِ الْمُوجِبِ (لِلْكَيِّ) وَنَحْوُهُ ضَرُورَةً، وَأَمَّا قَبْلَ حُصُولِ الدَّاءِ الْكَيَّ (فَاكْرَهَنْ) أَيْ فَاكْرَهَنْ الْكَيَّ بِالنَّارِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ، وَقَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ (فَاكْرَهَنْ) فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٍ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ، وَالْكَيُّ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَرَاهَةُ الْكَيِّ (عَلَى) سَبِيلِ (الْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ) بِحُصُولِ الْأَذَى، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُكْرَهُ الْكَيُّ مُطْلَقًا قَبْلَ حُصُولِ الْأَذَى وَبَعْدَهُ لِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ اكْتَوَى أَوْ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِيءَ مِنْ التَّوَكُّلِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عِمْرَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْكَيِّ فَاكْتَوَيْنَا فَمَا أَفْلَحْنَا وَلَا أَنْجَحْنَا» . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي مَوْضِعٍ يُكْرَهُ الْكَيُّ وَقَطْعُ الْعُرُوقِ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى لَا يُكْرَهُ، وَفِي الْفُرُوعِ وَفِي كَرَاهَةِ مَوْتِ الْفَجْأَةِ رِوَايَتَانِ، وَالْأَخْبَارُ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَذَا الرِّوَايَتَانِ فِي حِقْنَةٍ لِحَاجَةٍ وَقَطْعِ الْعُرُوقِ وَفَصْدِهَا. وَكَذَا الْخِلَافُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 فِي كَيٍّ وَرَقْيَةٍ وَتَعْوِيذَةٍ وَتَمِيمَةٍ، وَعَنْهُ يُكْرَهُ قَبْلَ الْأَلَمِ فَقَطْ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ فِي الْمَذْهَبِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالًا. ثَالِثُهَا: انْتِفَاءُ الْكَرَاهَةِ بَعْدَ حُصُولِ الدَّاءِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ عَسَلٍ أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ خَبَّابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: وَقَدْ اكْتَوَى فِي بَطْنِهِ سَبْعَ كَيَّاتٍ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَقِيت، وَكَأَنَّهُ قَالَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَسْلِيَةً لِلْمُؤْمِنِ الْمُصَابِ لَا عَلَى وَجْهِ الشِّكَايَةِ. قُلْت: وَإِذَا عَلِمْت ثُبُوتَ النَّهْيِ عَنْ الْكَيِّ وَتَحَقَّقْت أَنَّهُ نَهْيُ كَرَاهَةٍ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ، وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ الْأَخْيَارِ، ظَهَرَ لَك أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَزُولُ بِنُزُولِ الضَّرَرِ إذْ الْقَاعِدَةُ: زَوَالُهَا بِأَدْنَى حَاجَةٍ. فَظَهَرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ كَرَاهَةِ الْكَيِّ لِلْحَاجَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَوَاهُ» . وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَوَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ مَرَّتَيْنِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلِمُسْلِمٍ «رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ فَحَسَمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ بِمِشْقَصٍ، ثُمَّ وَرِمَتْ فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ» . قَوْلُهُ فَحَسَمَهُ أَيْ كَوَاهُ «وَكَوَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنْ الشَّوْكَةِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُكْرَهُ بِلَا حَاجَةٍ لِلنَّهْيِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي جَوَازِ الرُّقْيَةِ بِالْقُرْآنِ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ وَأَخْذِ الْجُعْلِ عَلَيْهَا كَذَاك الرُّقَى إلَّا بِآيٍ وَمَا رَوَى ... فَتَعْلِيقُ ذَا حِلٌّ كَكَتْبٍ لِوُلَّدِ (كَذَاك) أَيْ فِي الْكَرَاهَةِ قَبْلَ حُصُولِ الدَّاءِ وَعَدَمِهَا بَعْدَهُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 مَذْهَبًا وَخِلَافًا (الرُّقَى) جَمْعُ رُقْيَةٍ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ رَقَى يَرْقِي، وَهُوَ التَّعْوِيذُ كَمَا فِي الْمَطَالِعِ، وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ الرُّقَى جَمْعٌ مُفْرَدُهُ رُقْيَةٌ، وَهِيَ الْعَزَائِمُ فَتُكْرَهُ (إلَّا بِآيٍ) جَمْعُ آيَةٍ وَتُجْمَعُ عَلَى آيَاتٍ أَيْضًا، وَهِيَ لُغَةُ الْعَلَامَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا آيُ الْقُرْآنِ، وَهِيَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ إلَى انْقِطَاعِهِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِدَلَالَتِهَا عَلَى نُبُوَّةِ مَنْ جَاءَ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَوْنِهَا عَلَامَةً عَلَى صِدْقِهِ إذْ لَيْسَ فِي طَوْقِ الْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهَا، فَلَا تُكْرَهُ الرُّقَى بِآيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ (وَ) إلَّا (مَا) أَيْ شَيْءٍ أَوْ الَّذِي (رُوِيَ) عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (فَ) الرُّقَى بِذَلِكَ حَلَالٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَ (تَعْلِيقُ ذَا) يَعْنِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ وَالسُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالتَّوَسُّلِ إلَيْهِ بِسَعَةِ كَرَمِهِ وَعَفْوِهِ وَحِلْمِهِ (حِلٌّ) أَيْ حَلَالٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ (كَ) حِلِّ (كَتْبٍ) حَمْلًا وَشُرْبًا (لِوُلَّدِ) جَمْعُ وَالِدَةٍ فَلَا بَأْسَ بِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ وَمَا وَرَدَ وَالتَّعْوِيذِ بِهِ وَتَعْلِيقِهِ. نَعَمْ يُكْرَهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ، وَقَدْ رَقَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ سَيِّدَ ذَلِكَ الْحَيِّ لَمَّا لُدِغَ بِالْفَاتِحَةِ فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَأَلَهُ وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ وَكَانُوا قَدْ جَعَلُوا لَهُ جُعْلًا لَمَّا رَقَى ثَلَاثِينَ مِنْ الْغَنَمِ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْجُعْلِ فِي الرُّقْيَةِ لِهَذَا الْخَبَرِ الصَّحِيحِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُعَلِّقُ عَلَى مَنْ لَا يَعْقِلُ مِنْ بَنِيهِ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينَ وَأَنْ يَحْضُرُونَ «، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الْفَزَعِ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ لِلْحُمَّى وَالنَّمْلَةِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ وَالصُّدَاعِ، وَالْعَيْنِ مَا يَجُوزُ وَيُرْقَى مِنْ ذَلِكَ بِقُرْآنٍ وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ دُعَاءٍ وَذِكْرٍ وَيُكْرَهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا. مَطْلَبٌ: يُحَرَّمُ الرُّقَى وَالتَّعَوُّذُ بِطَلْسَمٍ وَعَزِيمَةٍ وَيُحَرَّمُ الرُّقَى وَالتَّعَوُّذُ بِطَلْسَمٍ وَعَزِيمَةٍ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: قَالَ الْمَأْمُونُ، وَهُوَ صَاحِبُ الرُّمْحِ الْمَيْمُونِ: لَوْ صَحَّ الْكِيمْيَاءُ مَا احْتَجْنَا إلَى الْخَرَاجِ، وَلَوْ صَحَّ الطَّلْسَمُ مَا احْتَجْنَا إلَى الْأَجْنَادِ وَالْحَرَسِ، وَلَوْ صَحَّتْ النُّجُومُ مَا احْتَجْنَا إلَى الْبَرِيدِ. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 فَائِدَةٌ فِيمَا يُكْتَبُ لِلْمَرْأَةِ إذَا عَسُرَ عَلَيْهَا الْوَلَدُ (فَائِدَةٌ) : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُكْتَبُ لِلْمَرْأَةِ إذَا عَسُرَ عَلَيْهَا الْوَلَدُ فِي جَامٍ أَوْ شَيْءٍ نَظِيفٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ} [الأحقاف: 35] ، ثُمَّ تُسْقَى مِنْهُ وَيُنْضَحُ مَا بَقِيَ عَلَى صَدْرِهَا، رَوَى أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا الْكَلَامَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَرَفَعَ ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَفِي كِتَابِ الْمُجَالَسَةِ لِلدِّينَوَرِيِّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَرَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِبَقَرٍ قَدْ اعْتَرَضَ وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا فَقَالَتْ: يَا كَلِمَةَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي فَقَالَ: يَا خَالِقَ النَّفْسِ مِنْ النَّفْسِ وَمُخْرِجَ النَّفْسِ مِنْ النَّفْسِ خَلِّصْهَا فَأَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا قَالَ: فَإِذَا عَسُرَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَدُهَا فَلْيُكْتَبْ لَهَا هَذَا، وَذَكَرَ التَّتَّائِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي شَرْحِ خُطْبَةِ الْمُخْتَصَرِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَنْ كَتَبَ هَذَا الْبَيْتَ وَعَلَّقَهُ عَلَى مَنْ تَعَسَّرَتْ فِي وِلَادَتِهَا وَضَعَتْ فِي الْحَالِ، وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْمَجَامِيعِ يُعَلَّقُ عَلَى فَخْذِهَا الْأَيْسَرِ وَهَذِهِ صِفَةُ وَضْعِ الْبَيْتِ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] gizaa0002-0128-0001.jpg. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 مَطْلَبٌ: فِيمَا يُكْتَبُ لِلْحُمَّى، وَالْوَحْشَةِ (تَتِمَّةٌ) فِي أَشْيَاءَ تُكْتَبُ لِأَشْيَاءَ مِنْهَا مَا كَتَبَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْحُمَّى قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَتَبَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْحُمَّى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بِسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70] اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ اشْفِ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِك وَقُوَّتِك وَجَبَرُوتِك إلَهَ الْحَقِّ آمِينَ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ يُونُسَ بْنَ حِبَّانَ كَانَ يَكْتُبُ هَذَا مِنْ حُمَّى الرِّبْعِ. وَمِمَّا يُكْتَبُ لِلْوَحْشَةِ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 مُسْتَوْحِشَةٌ فِي بَيْتٍ وَحْدَهَا فَكَتَبَ لَهَا رُقْعَةً بِخَطِّهِ بِسْمِ اللَّهِ وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي الرَّجُلِ يَكْتُبُ الْقُرْآنَ فِي إنَاءٍ، ثُمَّ يَسْقِيه لِلْمَرِيضِ قَالَ: لَا بَأْسَ، وَقَالَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: رُبَّمَا اعْتَلَلْت، فَيَأْخُذُ أَبِي قَدَحًا فِيهِ مَاءٌ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ لِي: اشْرَبْ مِنْهُ، وَاغْسِلْ وَجْهَك وَيَدَيْك. . مَطْلَبٌ: فِيمَا يُرْقَى بِهِ الْمَلْدُوغُ مِنْ الْعَقْرَبِ وَغَيْرِهَا وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي إذْ سَجَدَ فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فِي إصْبَعِهِ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ مَا يَدَعُ نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَمِلْحٌ فَجَعَلَ يَضَعُ مَوْضِعَ اللَّدْغَةِ مِنْ الْمَاءِ، وَالْمِلْحِ وَيَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَدَغَتْ رَجُلًا عَقْرَبٌ وَنَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْقِيه قَالَ: مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ» . وَفِي رِوَايَةٍ «جَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ، وَإِنَّك نَهَيْت عَنْ الرُّقَى فَقَالَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقْيَاكُمْ لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ» . وَمِنْ الرُّقَى الْمُجَرَّبَةِ النَّافِعَةِ أَنْ يَسْأَلَ الرَّاقِي الْمَلْدُوغَ عَنْ مَكَانِ اللَّدْغَةِ مِنْ الْعُضْوِ فَيَضَعُ عَلَى أَعْلَاهُ حَدِيدَةً وَيَقْرَأُ الْعَزِيمَةَ وَيُكَرِّرُهَا، وَهُوَ يُجَرِّدُ مَوْضِعَ الْأَلَمِ بِالْحَدِيدَةِ حَتَّى يُنْهَى وَيُكَرَّ السُّمَّ إلَى أَسْفَلِ الْوَجَعِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي أَسْفَلِهِ جَعَلَ يَمُصُّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ حَتَّى يَذْهَبَ جَمِيعُ ذَلِكَ الْأَلَمِ وَلَا اعْتِبَارَ بِفُتُورِ الْعُضْوِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْعَزِيمَةُ (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، وَعَلَى مُحَمَّدٍ فِي الْمُرْسَلِينَ مِنْ حَامِلَاتِ السُّمِّ أَجْمَعِينَ لَا دَابَّةٌ بَيْنَ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضِ إلَّا رَبِّي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أَجْمَعِينَ، كَذَلِكَ يَجْزِي عِبَادَهُ الْمُحْسِنِينَ. إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ نُوحٌ نُوحٌ قَالَ لَكُمْ نُوحٌ مَنْ ذَكَرَنِي لَا تَأْكُلُوهُ إنَّ رَبِّي بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ) . وَفِي رِحْلَةِ الْإِمَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ رُقْيَةُ الْعَقْرَبِ قَالَ: ذَكَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُرْقَى بِهَا فَلَا تَلْدَغُهُ عَقْرَبٌ، وَإِنْ أَخَذَهَا بِيَدِهِ لَا تَلْدَغُهُ، وَإِنْ لَدَغَتْهُ لَا تَضُرُّهُ، وَهِيَ هَذِهِ: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 بِاسْمِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ كازم كازم زين آدَم فنيزا إلَى مزن يشامر يشامر اهودا اهودا هِيَ ولمظا أَنَا الرَّاقِي وَاَللَّهُ الشَّافِي. . مَطْلَبٌ: فِيمَا يُقَالُ لِلْحِفْظِ مِنْ الْعَقْرَبِ، وَالْحَيَّةِ وَيَدِ السَّارِقِ وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، مَنْ قَالَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوَّلِ النَّهَارِ: عَقَدْت زُبَانَى الْعَقْرَبِ وَلِسَانَ الْحَيَّةِ وَيَدَ السَّارِقِ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَمِنَ مِنْ الْعَقْرَبِ، وَالْحَيَّةِ وَالسَّارِقِ. وَرَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيت مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ فَقَالَ: أَمَا إنَّك لَوْ قُلْت حِينَ أَمْسَيْت: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» . وَفِي كَامِلِ ابْنِ عَدِيٍّ فِي تَرْجَمَةِ وَهْبِ بْنِ رَاشِدٍ الرَّاقِي أَنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ بِلَالٌ. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِيَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ تَضُرَّهُ حَيَّةٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ» . قَالَ شُمَيْلٌ فَكَانَ أَهْلُنَا يَقُولُونَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، فَلُدِغَتْ جَارِيَةٌ مِنْهُمْ، فَلَمْ تَجِدْ لَهَا وَجَعًا، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ، وَمَعْنَى تَمَامِهَا أَنْ لَا يَدْخُلَهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ كَمَا يَدْخُلُ كَلَامَ النَّاسِ وَقِيلَ: هِيَ النَّافِعَاتُ الْكَافِيَاتُ الشَّافِيَاتُ مِنْ كُلِّ مَا يُتَعَوَّذُ بِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا تَامَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِهِ عَيْبٌ وَلَا نَقْصٌ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَبَلَغَنِي عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، لَمْ تَلْدَغْهُ عَقْرَبٌ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: إنَّ مِمَّا أُخِذَ عَلَى الْعَقْرَبِ أَنْ لَا تَضُرَّ أَحَدًا قَالَ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَيَّةَ، وَالْعَقْرَبَ أَتَيَا نُوحًا فَقَالَا: احْمِلْنَا فَقَالَ نُوحٌ: لَا أَحْمِلُكُمَا فَأَنْتُمَا سَبَبُ الضَّرَرِ وَالْبَلَاءِ فَقَالَا: احْمِلْنَا وَنَحْنُ نَضْمَنُ لَك أَنْ لَا نَضُرَّ أَحَدًا ذَكَرَك، فَمَنْ قَرَأَ حِينَ يَخَافُ مَضَرَّتَهُمَا: سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ مَا ضَرَّتَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 فَائِدَةٌ فِيمَا يُكْتَبُ لِلْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ وَقَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: مَنْ كَانَ هَارِبًا مِنْ عَدُوِّهِ فَلْيَكْتُبْ بِسَوْطِهِ بَيْنَ أُذُنَيْ دَابَّتِهِ {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77] آمَنَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْخَوْفِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْله تَعَالَى {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص: 32] : الْمَعْنَى اُضْمُمْ يَدَك إلَى صَدْرِك لِيَذْهَبَ عَنْك الْخَوْفُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ مَنْ فَزِعَ فَضَمَّ جَنَاحَهُ إلَيْهِ ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، وَالْخَوَاصُّ كَثِيرَةٌ، وَالْفَوَائِدُ غَزِيرَةٌ وَكُلُّهَا، أَوْ غَالِبُهَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ الْحَبْلُ بَيْنَ اللَّهِ وَخَلْقِهِ؛ وَلِذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: الْأَدْوِيَةُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ وَالرُّقَى أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْأَدْوِيَةِ حَتَّى قَالَ بُقْرَاطُ: نِسْبَةُ طِبِّنَا إلَى طِبِّ أَصْحَابِ الْهَيَاكِلِ كَنِسْبَةِ طِبِّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبِّنَا قَالَ بَعْضُهُمْ: طِبُّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ كَطِبِّ الطَّرْقِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى طِبِّهِمْ، وَإِنَّ نِسْبَةَ طِبِّهِمْ إلَى طِبِّ الْأَنْبِيَاءِ كَنِسْبَةِ عُلُومِهِمْ إلَى عُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ طِبَّ الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ قَطْعِيٌّ وَطِبُّهُمْ إمَّا قِيَاسٌ أَوْ تَجْرِبَةٌ، أَوْ وَهْمٌ، أَوْ إلْهَامٌ أَوْ حَدْسٌ، أَوْ مَنَامٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالْوَحْيِ، كَمَا بَيْنَ الْهُدَى وَالْغَيِّ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: فِي جَوَازِ الْوَسْمِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ وَحَلَّ بِغَيْرِ الْوَجْهِ وَسْمُ بَهَائِمَ ... وَفِي الْأَشْهَرِ اكْرَهْ جَزَّ ذَيْلٍ مُمَدَّدِ (وَحَلَّ) أَيْ أُبِيحَ (بِ) أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْحَيَوَانِ (غَيْرِ الْوَجْهِ وَسْمُ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَيُّ قَالَ عِيَاضٌ: وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: بِمُهْمَلَةٍ وَبِمُعْجَمَةٍ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: بِمُهْمَلَةٍ فِي الْوَجْهِ وَبِمُعْجَمَةٍ فِي بَقِيَّةِ سَائِرِ الْجَسَدِ (بَهَائِمَ) جَمْعُ بَهِيمَةٍ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ، وَقَدْ عَلِمْت مِنْ كَلَامِ النَّاظِمِ حِلَّ الْوَسْمِ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ، وَمَفْهُومُ نِظَامِهِ عَدَمُ الْحِلِّ فِي الْوَجْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّعَايَةِ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: لَا يَسِمُ فِي الْوَجْهِ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي غَيْرِهِ قَالَ جَابِرٌ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ وَعَنْ وَسْمِ الْوَجْهِ» . وَفِي لَفْظٍ «مَرَّ عَلَيْهِ بِحِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ وَسَمَهُ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا مَوْسُومَ الْوَجْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَسِمُهُ إلَّا فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ الْوَجْهِ وَأَمَرَ بِحِمَارِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 فَكَوَى عَلَى جَاعِرَتَيْهِ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَوَى الْجَاعِرَتَيْنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجَاعِرَتَانِ مَوْضِعُ الرَّقْمَتَيْنِ مِنْ اسْتِ الْحِمَارِ، وَهُوَ مَضْرِبُ الْفَرَسِ بِذَنَبِهِ عَلَى فَخْذَيْهِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُمَا حَرْفَا الْوَرِكَيْنِ الْمُشْرِفَانِ عَلَى الْفَخِذَيْنِ، وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْجَاعِرَتَانِ مَوْضِعُ الرَّقْمَتَيْنِ مِنْ اسْتِ الْحِمَارِ وَمَضْرِبُ الْفَرَسِ بِذَنَبِهِ عَلَى فَخْذَيْهِ أَوْ حَرْفَا الْوَرِكَيْنِ الْمُشْرِفَيْنِ عَلَى الْفَخِذَيْنِ، وَقَالَ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ: قَوْلُهُ فَكَانَ يَسِمُ فِي الْجَاعِرَتَيْنِ رَقْمَتَيْنِ يَكْتَنِفَانِ ذَنَبَ الْحِمَارِ انْتَهَى. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى صَرَّحَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي مَوْضِعٍ: أَنَّ السِّمَةَ فِي الْوَجْهِ مَكْرُوهَةٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الرِّعَايَةِ أَنَّ السِّمَةَ فِي الْوَجْهِ لَا تَجُوزُ قَالَ: وَهُوَ أَوْلَى انْتَهَى. قَالَ فِي الْآدَابِ وَغَيْرِهِ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْغَنَمِ تُوسَمُ قَالَ: تُوسَمُ وَلَا تُعْمَلُ فِي اللَّحْمِ يَعْنِي يُجَزُّ الصُّوفُ، نَقَلَهُ ابْنُ هَانِئٍ قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ، وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّة: الضَّرْبُ فِي الْوَجْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ لَكِنَّهُ فِي الْآدَمِيِّ أَشَدُّ قَالَ: وَالْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إجْمَاعًا، فَأَمَّا الْآدَمِيُّ فَوَسْمُهُ حَرَامٌ، وَأَمَّا غَيْرُ الْآدَمِيِّ فَكَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ الْبَغَوِيّ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَغَيْرُ الْآدَمِيِّ فَوَسْمُهُ فِي وَجْهِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَأَمَّا غَيْرُ الْوَجْهِ فَيُسْتَحَبُّ فِي نَعَمِ الزَّكَاةِ، وَالْجِزْيَةِ «؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَسَمَهَا فِي آذَانِهَا» ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَ لَيْسَتْ مِنْ الْوَجْهِ لِنَهْيِهِ عَنْ وَسْمِ الْوَجْهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِمَا يَعْنِي غَيْرَ نَعَمِ الزَّكَاةِ، وَالْجِزْيَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُسْتَحَبُّ الْوَسْمُ، بَلْ يُكْرَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَسْمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي آدَمِيٍّ، أَوْ لَا الْأَوَّلُ حَرَامٌ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْوَجْهِ، أَوْ لَا، الْأَوَّلُ حَرَامٌ أَيْضًا، وَعَلَى الثَّانِي: إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْسُومُ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ أَوْ الْجِزْيَةِ، وَمِثْلُهَا فَرَسٌ حَبِيسٌ، وَنَحْوُهَا فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا وَيَجُوزُ فِيمَا عَدَاهَا. هَذَا مَفْهُومُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْآدَابِ، وَالْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ: تَحْرِيمُ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ، وَهُوَ فِي الْآدَمِيِّ أَشَدُّ حُرْمَةً قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يَجُوزُ الْوَسْمُ إلَّا لِمُدَاوَاةٍ، وَقَالَ: يُحَرَّمُ لِقَصْدِ الْمُثْلَةِ وَيَجُوزُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْوَسْمُ مُسْتَحَبًّا، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ الْجَوَازُ وَفِعْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَيَانِ الْجَوَازِ لَا الِاسْتِحْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 مَطْلَبٌ: فِي حُكْم جَزِّ ذَيْلِ الْخَيْلِ (وَفِي) الْقَوْلِ (الْأَشْهَرِ) مِنْ غَيْرِهِ (اكْرَهْ) أَيْ اعْتَقِدْ كَرَاهَةَ (جَزِّ) أَيْ قَطْعِ شَعْرِ (ذَيْلٍ) أَيْ ذَنَبٍ (مُمَدَّدٍ) أَيْ طَوِيلٍ يُقَالُ: جَزَّ الشَّعْرَ جَزًّا وَجَزَّهُ فَهُوَ مَجْزُوزٌ وَجَزِيزٌ أَيْ قَطَعَهُ كَاجْتَزَّهُ. وَأَشْعَرَ نِظَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ قَوْلٍ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، وَهَلْ يُكْرَهُ جَزُّ ذَنَبِهَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ: نَقَلَ مُهَنَّا الْكَرَاهَةَ، ذَكَرَهَا صَاحِبُ النَّظْمِ، وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ نَفْيَ الْكَرَاهَةِ جَزَمَ بِهِ فِي الْفُصُولِ قَالَ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ: إنَّمَا رُخِّصَ فِي جَزِّ الْأَذْنَابِ، فَأَمَّا الْأَعْرَافُ فَلَا، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ يَعْمَلُ بِالْمَصْلَحَةِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ: وَهِيَ مُتَّجِهَةٌ، وَسَأَلَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ حَذْفِ الْخَيْلِ فَقَالَ: إنْ كَانَ أَبْهَى وَأَجْوَدَ لَهُ قُلْت: إنَّهُ يَنْفَعُهُ فِي الشِّتَاءِ، وَهُوَ أَجْوَدُ لِرَكْضِهِ فَكَأَنَّهُ سَهَّلَ فِيهِ، وَقَالَ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ النَّاسُ يَكْرَهُونَ حَذْفَ الْخَيْلِ وَنَتْفَ أَذْنَابِهَا وَجَزَّ نَوَاصِيهَا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: حَذَفَهُ يَحْذِفُهُ أَسْقَطَهُ وَمِنْ شَعْرِهِ أَخَذَهُ وَحَذَّفَهُ تَحْذِيفًا هَيَّأَهُ وَصَنَعَهُ، فَالْمُرَادُ هُنَا بِحَذْفِ الْخَيْلِ أَخْذُ شَعْرِهَا. . مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ جَزُّ أَعْرَافِ الْخَيْلِ كَمَعْرَفَةٍ حَتْمًا لِإِضْرَارِهَا بِهِ ... لِقَطْعِك مَا تَدْرَأُ بِهِ لِلْمُنَكِّدِ (كَ) مَا يُكْرَهُ جَزُّ شَعْرِ (مَعْرَفَةٍ) كَمَرْحَلَةٍ مَوْضِعُ الْعَرْفِ مِنْ الْفَرَسِ، وَهُوَ شَعْرُ عُنُقِهَا وَتُضَمُّ رَاؤُهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ جَزُّ شَعْرِ الْمَعْرَفَةِ أَصْلًا وَقَاسَ جَزَّ الذَّيْلِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَخَّصَ فِي جَزِّ الذَّنَبِ فِي رِوَايَةٍ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي جَزِّ الْمَعْرَفَةِ قَالَ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ: إنَّمَا رُخِّصَ فِي جَزِّ الْأَذْنَابِ، فَأَمَّا الْأَعْرَافُ فَلَا. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ جَزِّ أَعْرَافِ الْخَيْلِ وَنَتْفِ أَذْنَابِهَا وَجَزِّ نَوَاصِيهَا، وَقَالَ: أَمَّا أَذْنَابُهَا، فَإِنَّهَا مَذَابُّهَا، وَأَمَّا أَعْرَافُهَا، فَإِنَّهَا أَدِفَاؤُهَا، وَأَمَّا نَوَاصِيهَا، فَإِنَّ الْخَيْرَ مَعْقُودٌ فِيهَا» . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ نَصْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَنْ عُتْبَةَ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 قَالَ حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلْقَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقُصُّوا نَوَاصِيَ الْخَيْلِ، فَإِنَّ فِيهَا الْبَرَكَةَ وَلَا تَجُزُّوا أَعْرَافَهَا، فَإِنَّهَا أَدِفَاؤُهَا وَلَا تَقُصُّوا أَذْنَابَهَا، فَإِنَّهَا مَذَابُّهَا» . فَرِجَالٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ جَمَاعَةٌ يَبْعُدُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ ثِقَةٌ لَا سِيَّمَا، وَالْمُتَقَدِّمُونَ حَالُهُمْ حَسَنٌ. وَبَاقِي الْإِسْنَادِ جَيِّدٌ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ يُقَالُ: «لَا تَقُودُوا الْخَيْلَ بِنَوَاصِيهَا فَتُذِلُّوهَا وَلَا تَجُزُّوا أَعْرَافَهَا، فَإِنَّهَا أَدِفَاؤُهَا وَلَا تَجُزُّوا أَذْنَابَهَا، فَإِنَّهَا مَذَابُّهَا» . قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا. مَطْلَبٌ: فِي الْحَثِّ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخَيْلِ، وَأَنَّهَا مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَمَعْنَى عَقْدُ الْخَيْرِ بِنَوَاصِيهَا أَيْ مُلَازَمَتُهُ لَهَا كَأَنَّهُ مَعْقُودٌ فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِالنَّاصِيَةِ الشَّعْرُ الْمُسْتَرْسِلُ عَلَى الْجَبْهَةِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا، وَكَنَّى بِالنَّاصِيَةِ عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْفَرَسِ يُقَالُ: فُلَانٌ مُبَارَكُ النَّاصِيَةِ مَيْمُونُ الْغُرَّةِ أَيْ الذَّاتِ. وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ السَّكُونِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ إذَالَةِ الْخَيْلِ، وَهُوَ امْتِهَانُهَا فِي الْحَمْلِ عَلَيْهَا وَاسْتِعْمَالِهَا» ، وَأَنْشَدَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَحِبُّوا الْخَيْلَ وَاصْطَبِرُوا عَلَيْهَا ... فَإِنَّ الْعِزَّ فِيهَا وَالْجَمَالَا إذَا مَا الْخَيْلُ ضَيَّعَهَا أُنَاسٌ ... رَبَطْنَاهَا فَأَشْرَكَتْ الْعِيَالَا نُقَاسِمُهَا الْمَعِيشَةَ كُلَّ يَوْمٍ ... وَنَكْسُوهَا الْبَرَاقِعَ وَالْجِلَالَا وَقَالَ الْإِمَامُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَلَيْكُمْ بِإِنَاثِ الْخَيْلِ، فَإِنَّ بُطُونَهَا كَنْزٌ وَظُهُورَهَا حِرْزٌ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا. . مَطْلَبٌ: أَوَّلُ مَنْ رَكِبَ الْخَيْلَ إسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ارْكَبُوا الْخَيْلَ، فَإِنَّهَا مِيرَاثُ أَبِيكُمْ إسْمَاعِيلَ» . وَذَلِكَ أَنَّ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلُ مَنْ رَكِبَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْعِرَابُ وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَحْشًا كَسَائِرِ الْوُحُوشِ، فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بِرَفْعِ الْقَوَاعِدِ مِنْ الْبَيْتِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إنِّي مُعْطِيكُمَا كَنْزًا ادَّخَرْته لَكُمَا، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 إسْمَاعِيلَ: أَنْ اُخْرُجْ فَادْعُ بِذَلِكَ الْكَنْزِ، فَخَرَجَ إلَى أَجْيَادٍ، وَكَانَ لَا يَدْرِي مَا الدُّعَاءُ، وَالْكَنْزُ فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الدُّعَاءَ، فَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَرَسٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ إلَّا أَجَابَتْهُ وَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَوَاصِيهَا وَتَذَلَّلَتْ لَهُ «، وَكَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ بَعْدَ النِّسَاءِ مِنْ الْخَيْلِ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِالْجُمْلَةِ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، وَالْآثَارُ الصَّحِيحَةُ فِي الْخَيْلِ وَفَضِيلَتِهَا وَسِبَاقِهَا وَسِيَاسَتِهَا وَفَضِيلَةِ اتِّخَاذِهَا وَبَرَكَتِهَا وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا وَخِدْمَتِهَا وَمَسْحِ نَوَاصِيهَا، وَالْتِمَاسِ نَسْلِهَا وَنَمَائِهَا وَالنَّهْيِ عَنْ خِصَائِهَا وَجَزِّ نَوَاصِيهَا وَأَذْنَابِهَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ؛ وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ (حَتْمًا) أَيْ حَتِّمْهُ حَتْمًا أَيْ اقْضِ بِهِ وَاحْكُمْ أَمْرَهُ وَاجْزِمْ بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِقَوْلِهِ: حَتْمًا يَعْنِي لِكَوْنِ الْكَرَاهَةِ فِيهِ مُحَقَّقَةً بِخِلَافِ الذَّيْلِ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ عَلَى الْأَشْهَرِ فِي ذَلِكَ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُكْرَهُ جَزُّ مَعْرَفَةٍ وَنَاصِيَةٍ، وَفِي جَزِّ ذَنَبِهَا رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا يُكْرَهُ لِلْخَبَرِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (لِإِضْرَارِهَا) أَيْ الدَّابَّةِ (بِهِ) أَيْ جَزِّ مَعْرَفَتِهَا وَذَيْلِهَا (لِقَطْعِك) أَنْتَ أَيْ؛ لِأَنَّك قَطَعْت (مَا) أَيْ الشَّعْرَ الَّذِي (تَدْرَأُ) أَيْ تَدْفَعُ وَتَذُبُّ (بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الشَّعْرِ (لِلْمُنَكَّدِ) أَيْ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُنَكِّدُ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَدْفَعُهُ بِذَيْلِهَا، فَإِذَا جَزَزْته فَقَدْ آذَيْتهَا بِإِزَالَتِك الَّذِي تَدْفَعُ بِهِ الْمُؤْذِيَ عَنْهَا إذْ هُوَ مِنْ أَقْوَى أَسْلِحَتِهَا وَأَوْقِيَتِهَا الدَّافِعَةِ عَنْهَا مَا يُؤْلِمُهَا وَيُنَكِّدُ عَلَيْهَا مِنْ الذُّبَابِ وَغَيْرِهِ. وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَمَّا أَذْنَابُهَا، فَإِنَّهَا مَذَابُّهَا أَيْ الَّتِي تَذُبُّ بِهَا عَنْهَا نَحْوَ الذُّبَابِ، وَأَمَّا أَعْرَافُهَا، فَإِنَّهَا أَدِفَاؤُهَا الَّتِي يَحْصُلُ لَهَا بِهَا الدِّفْءُ وَيُدْفَعُ عَنْهَا بِهَا أَلَمُ الْبَرْدِ» . قَالَ فِي الْقَامُوسِ الدِّفْءُ بِالْكَسْرِ وَيُحَرَّكُ نَقِيضُ حِدَّةِ الْبَرْدِ كَالدَّفَّاءَةِ، وَجَمْعُهُ أَدْفَاءٌ يُقَالُ دَفِيءَ كَفَرِحَ وَكَرُمَ وَتَدَفَّأَ وَاسْتَدْفَأَ وَأَدْفَأَهُ أَلْبَسَهُ الدِّفَاءَ لِمَا يُدْفِئُهُ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يَجُوزُ خِصَاؤُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ وَفِيمَا سِوَى الْأَغْنَامِ قَدْ كَرِهُوا الْخِصَا ... لِتَعْذِيبِهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمُسْنَدِ (وَفِيمَا) أَيْ حَيَوَانٍ غَيْرِ آدَمِيٍّ فَيُحَرَّمُ كَمَا نُبَيِّنُهُ (سِوَى الْأَغْنَامِ) جَمْعُ غَنَمٍ، وَهِيَ الشَّاةُ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْغَنَمُ اسْمٌ يُؤَنَّثُ يُوضَعُ لِلْجِنْسِ يَقَعُ عَلَى الذُّكُورِ، وَالْإِنَاثِ، وَإِذَا صَغَّرْتهَا لَحِقَتْهَا الْهَاءُ فَقُلْت غُنَيْمَةٌ؛ لِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 أَسْمَاءَ الْجُمُوعِ الَّتِي لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا إذَا كَانَتْ لِغَيْرِ الْآدَمِيِّينَ، فَالتَّأْنِيثُ لَهَا لَازِمٌ يُقَالُ لَهَا خَمْسٌ مِنْ الْغَنَمِ ذُكُورٌ فَتُؤَنِّثُ الْعَدَدَ، وَإِنْ عَنَيْت الْكِبَاشَ إذَا كَانَ ثَلَاثَةً مِنْ الْغَنَمِ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ يَجْرِي فِي تَذْكِيرِهِ وَتَأْنِيثِهِ عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْمَعْنَى، وَالْإِبِلُ كَالْغَنَمِ فِيمَا ذَكَرْنَا (قَدْ كَرِهُوا) أَيْ مَشَايِخُ الْمَذْهَبِ (الْخِصَا لِتَعْذِيبِهِ) أَيْ الْمَخْصِيِّ أَيْ عِلَّةُ الْكَرَاهَةِ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ (الْمَنْهِيِّ) مِنْ حَضْرَةِ الرِّسَالَةِ (عَنْهُ) أَيْ عَنْ التَّعْذِيبِ (بِمُسْنَدِ) الْأَخْبَارِ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» . وَهَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ وَإِتْلَافٌ لِنَفْسِهِ وَتَضْيِيعٌ لِمَالِيَّتِهِ وَتَفْوِيتٌ لِذَكَاتِهِ إنْ كَانَ يُذَكَّى أَوْ لِمَنْفَعَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ يُذَكَّى بِخِلَافِ الْخِصَاءِ، فَإِنَّهُ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ فَلَا يُحَرَّمُ وَلِأَنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ تَعْذِيبٌ لَهُ، وَهُوَ مُبَاحٌ لِمَصْلَحَةِ الْأَكْلِ وَنَحْوِهَا. نَعَمْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إخْصَاءِ الْخَيْلِ، وَالْبَهَائِمِ» قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ خِصَاءَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِهِمْ فِي غَيْرِ الْقِصَاصِ وَالتَّمْثِيلَ بِهِمْ حَرَامٌ. وَفِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا وَيُكْرَهُ خِصَاءُ غَيْرِ غَنَمٍ وَدُيُوكٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُبَاحُ خِصَاءُ الْغَنَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إصْلَاحِ لَحْمِهَا، وَهَذَا الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَرَاهَةُ الْخِصَاءِ مِنْ غَنَمٍ وَغَيْرِهَا إلَّا خَوْفَ غَضَاضَةٍ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي الرَّجُلُ أَنْ يَخْصِيَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَكْرَهُ ذَلِكَ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ، وَالشَّدْخُ فِي الْخِصَاءِ أَهْوَنُ مِنْ الْجُبِّ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا يَجُوزُ إخْصَاءُ الْبَهَائِمِ وَلَا كَيُّهَا بِالنَّارِ لِلْوَسْمِ، وَيَجُوزُ لِلْمُدَاوَاةِ حَسْبَمَا أَجَزْنَا فِي حَقِّ النَّاسِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ ذَلِكَ وَخَزْمَهَا فِي أَنْفِهَا لِقَصْدِ الْمُثْلَةِ إثْمٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ جَازَ قَالَ: وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ فِي الْآدَمِيِّينَ فَيَحْصُلُ بِهِ الْفِسْقُ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَوْلَ ابْنِ عَقِيلٍ الْأَوَّلَ، وَقَالَ: فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ وَسْمُهَا بِحَالٍ، وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 ضَعِيفٌ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُنَاظَرَاتِهِ: لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الْأَضْرَارِ بِمِثْلِهِ وَلَا جِرَاحِهِ وَلَا كيه وَلَا وَسْمِهِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَذْهَبَ جَوَازُ خِصَاءِ الْغَنَمِ وَالدُّيُوكِ وَيُحَرَّمُ فِي الْآدَمِيِّ، وَيُكْرَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُحَرَّمُ خِصَاءُ الْآدَمِيِّ وَمِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ، وَكَذَا مَا يُؤْكَلُ فِي كِبَرِهِ لَا فِي صِغَرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي قَطْعِ الْقُرُونِ، وَالْآذَانِ وَشَقِّهَا وَقَطْعُ قُرُونٍ وَالْآذَانِ وَشَقُّهَا ... بِلَا ضَرَرٍ تَغْيِيرُ خَلْقٍ مُعَوَّدِ (وَ) يُكْرَهُ (قَطْعُ قُرُونٍ) جَمْعُ قَرْنٍ، وَهُوَ الرَّوَقُ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَمَوْضِعُهُ مِنْ رَأْسِنَا الْجَانِبُ الْأَعْلَى مِنْ الرَّأْسِ. (وَ) يُكْرَهُ قَطْعُ (الْآذَانِ) جَمْعُ أُذْنٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا مُؤَنَّثَةُ الْعُضْوِ الْمَعْرُوفِ (وَ) يُكْرَهُ (شَقُّهَا) أَيْ الْآذَانِ (بِلَا ضَرَرٍ) يُحْوِجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَاعْوِجَاجِ قَرْنِ الدَّابَّةِ عَلَى عَيْنِهَا بِحَيْثُ يَخَافُ الضَّرَرَ عَلَى عَيْنِهَا مِنْهُ، وَكَوْنِ الْأُذُنِ فِي طَرَفِهَا جُرْحٌ مُدَوِّدٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَا يَدْعُو إلَى الْقَطْعِ وَالشَّقِّ فَيُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَلَمِ وَلِأَنَّهُ (تَغْيِيرُ خَلْقٍ مُعَوَّدِ) أَيْ مُعْتَادٍ أَيْ تَغْيِيرُ الْخَلْقِ الْمُعْتَادِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الصُّورَةِ، وَالْهَيْئَةِ الَّتِي خَلَقَهُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَيْهَا وَتَشْوِيهُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٍ عَنْ إبْلِيسَ {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [النساء: 119] أَيْ يَقْطَعُونَهَا وَيَشُقُّونَهَا، وَهِيَ الْبَحِيرَةُ انْتَهَى. يُقَالُ: بَحَرْت أُذُنَ النَّاقَةِ بَحْرًا إذَا شَقَقْتهَا وَخَرَقْتهَا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ فِي قَوْلِهِ: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] بِالْخِصَاءِ، وَالْوَسْمِ وَقَطْعِ الْآذَانِ. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ تَعْلِيقُ جَرَسٍ أَوْ قِلَادَةٍ عَلَى الدَّابَّةِ وَيُحَرَّمُ لَعْنُهَا (تَتِمَّةٌ) يُكْرَهُ تَعْلِيقُ جَرَسٍ عَلَى الدَّابَّةِ وَوَتَرٍ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ أَوْ جَرَسٌ» وَعَنْهُ أَيْضًا عِنْدَهُ «الْجَرَسُ مِنْ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَرْسَلَ رَسُولًا لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةٌ مِنْ وَتَرٍ إلَّا قُطِعَتْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَدْفَعُ الْعَيْنَ» . وَيُحَرَّمُ لَعْنُ الدَّابَّةِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 الصَّالِحُونَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَنْ شَتَمَ دَابَّةً: قَالَ الصَّالِحُونَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ هَذِهِ عَادَتُهُ. وَرَوَى هُوَ وَمُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي سَفَرٍ فَلَعَنَتْ امْرَأَةٌ نَاقَةً فَقَالَ: خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا مَكَانَهَا مَلْعُونَةً، فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ» وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ «لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ» . مَطْلَبٌ: يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْحَيَوَانِ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ وَجَازَ الِانْتِفَاعُ بِالْحَيَوَانِ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ كَالْبَقَرِ لِلْحَمْلِ أَوْ الرُّكُوبِ، وَالْإِبِلِ، وَالْحُمُرِ لِلْحَرْثِ كَمَا فِي الْفُرُوعِ وَعَزَاهُ لِلْمُوَفَّقِ قَالَ: لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمِلْكِ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِيمَا يُمْكِنُ، وَهَذَا مُمْكِنٌ كَاَلَّذِي خُلِقَ لَهُ وَجَرَتْ بِهِ عَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ أَكْلُ الْخَيْلِ وَاسْتِعْمَالُ اللُّؤْلُؤِ فِي الْأَدْوِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَهَا قَالَتْ: إنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِذَلِكَ إنَّمَا خُلِقْت لِلْحَرْثِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْ أَنَّهُ مُعْظَمُ النَّفْعِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَنْعُ غَيْرِهِ. . مَطْلَبٌ: فِي إنْزَاءِ الْخَيْلِ عَلَى الْحُمُرِ وَالْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ (تَنْبِيهٌ) : إنْزَاءُ الْخَيْلِ عَلَى الْحُمُرِ، وَالْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ كَرِهَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبُو دَاوُد صَاحِبُ السُّنَنِ، وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ الْإِمَامِ وَنَقَلَةِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَجْدُ فِي مُنْتَقَى الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدًا مَأْمُورًا مَا اخْتَصَّنَا بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ إلَّا بِثَلَاثٍ: أَمَرَنَا أَنْ نَسْبُغُ الْوُضُوءَ، وَأَنْ لَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وَأَنْ لَا نُنَزِّيَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ» حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَغْلَةٌ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنْزَيْنَا الْحُمُرَ عَلَى خَيْلِنَا فَجَاءَتْنَا بِمِثْلِ هَذِهِ فَقَالَ: إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ قَالَ فِي الْآدَابِ: وَلِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَمْ يُخَالِفْهُ هَلْ يَكُونُ مَذْهَبًا لَهُ؟ قَالَ: وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ نَصًّا بِخِلَافِهَا، وَقَدْ حَكَى عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: وَزَعْمُ اخْتِصَاصِ بَنِي هَاشِمٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 بِالنَّهْيِ غَيْرُ نَاهِضٍ يُعَضِّدُهُ عَدَمُ الْقَائِلِ بِالْخُصُوصِيَّةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِي اقْتِنَائِهَا الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَلَحْمُهَا مَأْكُولٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، فَالْعُدُولُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ، وَالْفَضَائِلِ مَعَ عَدَمِ التَّنَاسُلِ وَالنَّمَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا كَرَاهَةَ فِي إنْزَاءِ الْخَيْلِ عَلَى الْحُمُرِ وَعَكْسِهِ. وَاخْتَارَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ عَنْ إنْزَاءِ الْخَيْلِ عَلَى الْحُمُرِ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ إلَّا أَنْ يَتَأَوَّلَ مُتَأَوِّلٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ صِيَانَةُ الْخَيْلِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ عَلَى إبَاحَةِ إيجَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَمِنْ الْمُتَوَاتِرِ «رُكُوبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَغْلَةً وَاقْتِنَاؤُهَا» ، فَدَلَّ عَلَى إبَاحَةِ السَّبَبِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (فَائِدَةٌ) : أَوَّلُ مَنْ أَنْتَجَ الْبِغَالَ قَارُونُ وَقِيلَ أَفْرِيدُونُ قَالَ عَلِيٌّ دَدَهْ فِي أَوَائِلِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي قَتْلِ مَا انْطَوَى عَلَى ضَرَرٍ بِلَا نَفْعٍ كَنَمِرٍ وَنَحْوِهِ وَيَحْسُنُ فِي الْإِحْرَامِ، وَالْحِلِّ قَتْلُ مَا ... يَضُرُّ بِلَا نَفْعٍ كَنَمِرٍ وَمَرْثَدِ (وَيَحْسُنُ) يَحِلُّ لِلشَّخْصِ حَتَّى (فِي) حَالِ (الْإِحْرَامِ) بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ؛ وَلِذَا قَالَ (وَالْحِلِّ) فَيُحْتَمَلُ إرَادَةُ الْحِلِّ الَّذِي يُقَابِلُ الْحَرَمَ أَوْ إرَادَةُ صِفَةِ الْقَاتِلِ أَيْ أَنَّهُ حَلَالٌ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ (قَتْلُ) أَيْ إزْهَاقُ رُوحٍ (مَا) أَيْ حَيَوَانٍ (يَضُرُّ) بِنَحْوِ افْتِرَاسِهِ فَهُوَ مُشْتَمِلٌ وَمُنْطَوٍ عَلَى ضَرَرٍ (بِلَا نَفْعٍ) . وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّ كُلَّ مَا يُؤْذِي طَبْعًا، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ شَرْعًا، نَعَمْ، يُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ ذَلِكَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِمَا قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ إلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُ لِلْمُحْرِمِ، وَفِي الْحَرَمِ تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَالَ الشَّيْخُ يَعْنِي الْمُوَفَّقَ: وَيَفْدِي مَا تَوَلَّدَ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ تَغْلِيبًا لِتَحْرِيمِ قَتْلِهِ، كَمَا غَلَّبُوا تَحْرِيمَ أَكْلِهِ. انْتَهَى. وَذَلِكَ كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الضَّبُعِ وَالذِّئْبِ، ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ؛ وَلِعَدَمِ اسْتِيعَابِهِ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ أَدْخَلَ عَلَيْهِ كَافَ التَّشْبِيهِ فَقَالَ (كَنَمِرٍ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ إسْكَانُ الْمِيمِ مَعَ فَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا كَنَظَائِرِهِ كَمَا فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ. هُوَ ضَرْبٌ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 السِّبَاعِ فِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْأَسَدِ غَيْرَ أَنَّهُ شَرِسُ الْأَخْلَاقِ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ حَتَّى يَبْلُغَ مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَنْمَارٍ وَأَنْمُرٍ وَنُمُرٍ وَنِمَارٍ وَنُمُورٍ، وَالْأُنْثَى نَمِرَةٌ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ تَنَمَّرَ فُلَانٌ أَيْ تَفَكَّرَ وَتَغَيَّرَ؛ لِأَنَّ النَّمِرَ لَا تَلْقَاهُ أَبَدًا إلَّا مُتَفَكِّرًا غَضْبَانًا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ: قَوْمٌ إذَا لَبِسُوا الْجُلُودَ ... تَنَمَّرُوا خُلُقًا وَقَدًّا يُرِيدُ تَشَبَّهُوا بِالنَّمِرِ لِاخْتِلَافِ أَلْوَانِ الْقَدِّ، وَالْحَدِيدِ. قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: مِزَاجُ النَّمِرِ كَمِزَاجِ السَّبْعِ، وَهُوَ صِنْفَانِ: عَظِيمُ الْجُثَّةِ قَصِيرُ الذَّنَبِ، وَعَكْسُهُ، وَكُلُّهُ ذُو قَهْرٍ وَقُوَّةٍ وَسَطَوَاتٍ صَادِقَةٍ وَوَثَبَاتٍ شَدِيدَةٍ، وَهُوَ أَعْدَى عَدُوِّ الْحَيَوَانَاتِ لَا تَرْدَعُهُ سَطْوَةُ أَحَدٍ، وَهُوَ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا شَبِعَ نَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَنَكْهَتُهُ طَيِّبَةٌ بِخِلَافِ السَّبْعِ، وَإِذَا مَرِضَ فَأَكَلَ الْفَأْرَ زَالَ مَرَضُهُ، وَفِي طَبْعِهِ عَدَاوَةٌ لِلْأَسَدِ، وَعِنْدَهُ شَرَفُ النَّفْسِ يُقَالُ: إنَّهُ لَا يَأْكُلُ جِيفَةً وَلَا يَأْكُلُ مِنْ صَيْدِ غَيْرِهِ، وَأَدْنَى وَثْبَتِهِ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَأَكْثَرُهَا أَرْبَعُونَ. وَفِيهِ أَلْغَزَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: (هَاكَ قُلْ لِي مَا اسْمُ شَيْءٍ، حَيَوَانٍ فِيهِ شَرُّ؟ إنْ تُصَحِّفْهُ فَحُلْوٌ، لَكِنْ الثُّلْثَانِ مُرُّ) مُرَادُهُ بِالتَّصْحِيفِ تَمْرٌ بَدَلُ نَمِرٍ. (وَ) كَ (مَرْثَدٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَسَدِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: مَرْثَدٌ كَمَسْكَنٍ: الرَّجُلُ الْكَرِيمُ، وَالْأَسَدُ قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: الْأَسَدُ لَهُ خَمْسُمِائَةِ اسْمٍ وَصِفَةٍ، وَزَادَ عَلَيْهِ ابْنُ جَعْفَرٍ اللُّغَوِيُّ مِائَةً وَثَلَاثِينَ اسْمًا. فَمِنْ أَشْهَرِهَا أُسَامَةُ، وَالْحَارِثُ، وَحَيْدَرَةُ. وَالدَّوْكَسُ وَالرِّئْبَالُ، وَزُفَرُ، وَالسَّبُعُ، وَالْهِزَبْرُ، وَالضِّرْغَامُ، وَالضَّيْغَمُ، وَالْعَنْبَسُ، وَالْغَضَنْفَرُ، وَالْقَسْوَرَةُ، وَالْهِرْمَاسُ، وَاللَّيْثُ، وَالْوَرْدُ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ أَرِسْطُو: رَأَيْت نَوْعًا مِنْهَا يُشْبِهُ وَجْهَ الْإِنْسَانِ، وَجَسَدُهُ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ، وَذَنَبُهُ شَبِيهٌ بِذَنَبِ الْعَقْرَبِ. قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْوَرْدُ، وَفِيهِ مَا يَكُونُ عَلَى شَكْلِ الْبَقَرِ لَهُ قُرُونٌ سُودٌ نَحْوُ شِبْرٍ، وَأَمَّا السَّبْعُ الْمَعْرُوفُ فَأَصْحَابُ الْكَلَامِ فِي طَبَائِعِ الْحَيَوَانِ يَقُولُونَ: الْأُنْثَى لَا تَضَعُ إلَّا جَرْوًا وَاحِدًا، وَتَضَعُهُ لَحْمَةً لَيْسَ فِيهِ حِسٌّ وَلَا حَرَكَةٌ، فَتَحْرُسُهُ حَتَّى يَتَنَفَّسَ وَتَنْفَرِجَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 أَعْضَاؤُهُ وَتَتَشَكَّلَ صُورَتُهُ، ثُمَّ تَأْتِي أُمُّهُ فَتُرْضِعُهُ، وَلَا يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ إلَّا بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ تَخَلُّقِهِ، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهِ مِقْدَارُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّفَ الِاكْتِسَابَ لِنَفْسِهِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّدْرِيبِ قَالُوا: وَلِلْأَسَدِ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ وَقِلَّةِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَاءِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْ السِّبَاعِ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ فَرِيسَةِ غَيْرِهِ، وَإِذَا شَبِعَ مِنْ فَرِيسَةٍ تَرَكَهَا وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهَا، وَإِذَا جَاعَ سَاءَتْ أَخْلَاقُهُ، وَإِذَا امْتَلَأَ بِالطَّعَامِ ارْتَاضَ، وَلَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ؛ وَلِذَا قِيلَ: سَأَتْرُكُ حُبَّهَا مِنْ غَيْرِ بُغْضٍ ... وَلَكِنْ كَثْرَةُ الشُّرَكَاءِ فِيهِ إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى طَعَامٍ ... رَفَعْتُ يَدِي وَنَفْسِي تَشْتَهِيهِ وَتَجْتَنِبُ الْأُسُودُ وُرُودَ مَاءٍ ... إذَا كَانَ الْكِلَابُ وَلَغْنَ فِيهِ وَيَرْتَجِعُ الْكَرِيمُ خَمِيصَ بَطْنٍ ... وَلَا يَرْضَى مُنَاهَمَةَ السَّفِيهِ وَسُمِّيَ حَمْزَةُ عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسَدَ اللَّهِ لَجُرْأَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. مَطْلَبٌ: فِيمَا يُقَالُ لِلْحِفْظِ مِنْ الْأَسَدِ وَشَرِّهِ (فَائِدَةٌ) : رَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ حَدِيثِ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا كُنْت بِوَادٍ تَخَافُ فِيهِ السَّبْعَ فَقُلْ: أَعُوذُ بِدَانْيَالَ وَبِالْجُبِّ مِنْ شَرِّ الْأَسَدِ، أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ أَنَّ دَانْيَالَ طُرِحَ فِي الْجُبِّ وَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ السِّبَاعُ فَجَعَلَتْ السِّبَاعُ تَلْحَسُهُ وَتُبَصْبِصُ إلَيْهِ، فَأَتَاهُ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ فَقَالَ: يَا دَانْيَالُ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ فَقَالَ: رَسُولُ رَبِّك إلَيْك أَرْسَلَنِي إلَيْك بِطَعَامٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَنْسَى مَنْ ذَكَرَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ بُخْتَ نَصَّرَ ضَرَّى أَسَدَيْنِ وَأَلْقَاهُمَا فِي جُبٍّ وَجَاءَ بِدَانْيَالَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِمَا فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اشْتَهَى الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى أَرْمِيَاءَ، وَهُوَ بِالشَّامِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى دَانْيَالَ بِطَعَامٍ، وَهُوَ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، فَذَهَبَ إلَيْهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِ الْجُبِّ فَقَالَ دَانْيَالُ دَانْيَالُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَرْمِيَاءُ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِك؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي إلَيْك رَبُّك فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَنْسَى مَنْ ذَكَرَهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَخِيبُ مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 رَجَاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَكِلْهُ إلَى غَيْرِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَجْزِي بِالْإِحْسَانِ إحْسَانًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَجْزِي بِالصَّبْرِ نَجَاةً وَغُفْرَانًا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَكْشِفُ حُزْنَنَا بَعْدَ كَرْبِنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ ثِقَتُنَا حِينَ يَسُوءُ ظَنُّنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ رَجَاؤُنَا حِينَ تَنْقَطِعُ الْحِيَلُ عَنَّا، ثُمَّ رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ الْمَلِكَ الَّذِي كَانَ دَانْيَالُ فِي سُلْطَانِهِ جَاءَهُ مُنَجِّمُوهُ وَأَصْحَابُ الْعِلْمِ فَقَالُوا: إنَّهُ يُولَدُ لَيْلَةَ كَذَا، وَكَذَا غُلَامٌ يُفْسِدُ مُلْكَك، فَأَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ مَنْ وُلِدَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا وُلِدَ دَانْيَالُ أَلْقَتْهُ أُمُّهُ فِي أَجَمَةِ أَسَدٍ، فَبَاتَ الْأَسَدُ وَلَبْوَتُه يَلْحَسَانِهِ، فَنَجَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ، وَكَانَ مَا قَدَّرَهُ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْت فِي يَدِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى خَاتَمًا نَقْشُ فَصِّهِ أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ، وَهُمَا يَلْحَسَانِ ذَلِكَ الرَّجُلَ، قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: هَذَا خَاتَمُ دَانْيَالَ نَقَشَ صُورَتَهُ وَصُورَةَ الْأَسَدَيْنِ يَلْحَسَانِهِ فِي فَصِّ خَاتَمِهِ؛ لِئَلَّا يَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ انْتَهَى. قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: فَلَمَّا اُبْتُلِيَ دَانْيَالُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلًا وَآخِرًا بِالسِّبَاعِ جَعَلَ اللَّهُ الِاسْتِعَاذَةَ بِهِ فِي ذَلِكَ تَمْنَعُ شَرَّهَا الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ وَمِثْلُ الْأَسَدِ فِي حَالِ قَتْلِهِ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ. مَطْلَبٌ: يُقْتَلُ الْكَلْبُ الْعَقُورُ وَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ يَتَمَيَّزُ عَلَى الْكِلَابِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ قَالَ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ سَيِّدُنَا عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فِي الْغُنْيَةِ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ يُحَرَّمُ اقْتِنَاؤُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَجِبُ قَتْلُهُ لِدَفْعِ شَرِّهِ عَنْ النَّاسِ، وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ يَتَمَيَّزُ عَنْ بَقِيَّةِ الْكِلَابِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: قَطْعُ الصَّلَاةِ بِمُرُورِهِ، وَتَحْرِيمُ صَيْدِهِ وَاقْتِنَائِهِ، وَجَوَازُ قَتْلِهِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: الْبَهِيمُ الَّذِي لَا يُخَالِطُ سَوَادَهُ شَيْءٌ مِنْ الْبَيَاضِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ فَلَيْسَ بِبَهِيمِ وَلَا تُعَلَّقُ بِهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، هَذَا قَوْلُ ثَعْلَبٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى بَهِيمٌ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» . الطُّفْيَةُ خُوصُ الْمُقِلِّ شَبَّهَ الْخَطَّيْنِ الْأَبْيَضَيْنِ مِنْهُ بِالْخُوصَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ مِنْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَلَيْسَ بِبَهِيمٍ رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الِاشْتِقَاقِ وَلَمْ يَرِدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 فِيهِ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، وَهَلْ يُقْتَلُ الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ وُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُوَفَّقُ أَوْ اسْتِحْبَابًا، أَوْ إبَاحَةً، أَقْوَالٌ آخِرُهَا أَصَحُّهَا. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَيَّةِ، وَالْفَأْرِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَنَحْوِهَا: يُسْتَحَبُّ قَتْلُهَا وَقَتْلُ كُلُّ مَا كَانَ طَبْعُهُ الْأَذَى، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَذًى كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ، وَالْفَهْدِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا انْتَهَى. وَقَدَّمَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى يُبَاحُ قَتْلُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ، وَالْوَزَغِ، كَذَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ: وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ حَقِيقَةَ الْإِبَاحَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْتِحْبَابِ أَوْلَى، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَكَذَا كُلُّ مَا فِيهِ أَذًى فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ» ، وَالْإِحْرَامِ، وَعَبَّرَ بِالِاسْتِحْبَابِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْأَحَادِيثِ. وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ إبَاحَةَ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَصَرَّحَ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَا مُعَلَّمَيْنِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا قَتْلُ مَا لَا يُبَاحُ إمْسَاكُهُ مِنْ الْكِلَابِ بِأَنْ كَانَ أَسْوَدَ بَهِيمًا، أَوْ عَقُورًا أُبِيحَ قَتْلُهُ، وَإِنْ كَانَا مُعَلَّمَيْنِ قَالَ: وَعَلَى قِيَاسِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ كُلُّ مَا آذَى النَّاسَ وَضَرَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ صَرَّحَ الْمُوَفَّقُ بِوُجُوبِ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: الْأَمْرُ بِالْقَتْلِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ إمْسَاكِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَالِاصْطِيَادِ بِهِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَذْهَبَ عَدَمُ حِلِّ صَيْدِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي قَتْلِ غِرْبَانِ غَيْرِ الزَّرْعِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَغِرْبَانُ غَيْرِ الزَّرْعِ أَيْضًا وَشِبْهُهَا ... كَذَا حَشَرَاتُ الْأَرْضِ دُونَ تَقَيُّدِ (وَ) يَحْسُنُ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ لِلْحَلَالِ، وَالْمُحْرِمِ قَتْلُ (غِرْبَانٍ) جَمْعُ غُرَابٍ (غَيْرِ) غُرَابِ (الزَّرْعِ) فَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي الْحَرَمِ وَلَا لِلْمُحْرِمِ لِإِبَاحَةِ أَكْلِهِ (أَيْضًا) مَصْدَرُ آضَ إذَا رَجَعَ أَيْ كَمَا يَحْسُنُ قَتْلُ النَّمِرِ، وَالْأَسَدُ يَحْسُنُ قَتْلُ غِرْبَانِ غَيْرِ الزَّرْعِ، وَالْمُرَادُ بِاَلَّذِي يَحْسُنُ قَتْلُهُ غُرَابُ الْبَيْنِ، وَالْأَبْقَعُ بِخِلَافِ غُرَابِ الزَّرْعِ، وَهُوَ ذُو الْمِنْقَارِ الْأَحْمَرِ، وَكَذَا الزَّاغُ فَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي الْحَرَمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 لِلْمُحْرِمِ لِإِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِي قَتْلِهِ وَسُمِّيَ الْغُرَابُ غُرَابًا لِسَوَادِهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] وَهُمَا لَفْظَتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَفِي حَدِيثِ رُشْدِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الشَّيْخَ الْغِرْبِيبَ» فَسَّرَهُ رُشْدٌ بِاَلَّذِي يَخْضِبُ. وَيُجْمَعُ الْغُرَابُ عَلَى غِرْبَانٍ كَمَا فِي النَّظْمِ وَأَغْرِبَةٍ وَغَرَابِينَ وَغُرُبٍ، وَقَدْ جَمَعَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: بِالْغُرْبِ اجْمَعْ غُرَابًا وَأَغْرِبَةً ... وَأَغْرُبٍ وَغَرَابِينَ وَغِرْبَانًا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى قَاتِلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ، وَالْحَيَّةُ» . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَيَّةُ فَاسِقَةٌ، وَالْفَأْرَةُ فَاسِقَةٌ، وَالْغُرَابُ فَاسِقٌ» ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَيُؤْكَلُ الْغُرَابُ قَالَ: وَمَنْ يَأْكُلُهُ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهُ فَاسِقٌ» قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إنَّمَا سُمِّيَ الْغُرَابُ فَاسِقًا فِيمَا أَرَى لِتَخَلُّفِهِ حِينَ أَرْسَلَهُ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَرْضِ فَتَرَكَ أَمْرَهُ وَوَقَعَ عَلَى جِيفَةٍ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُجَالَسَةِ: سُمِّيَ غُرَابُ الْبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بَانَ عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا وَجَّهَهُ لِيَنْظُرَ الْمَاءَ فَذَهَبَ وَلَمْ يَرْجِعْ؛ فَلِذَلِكَ الْعَرَبُ تَشَاءَمُوا بِهِ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ إذَا نَعَبَ الْغُرَابُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُك وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُك وَلَا إلَهَ غَيْرُك، وَإِنَّمَا تَشَاءَمَتْ الْجَاهِلِيَّةُ بِالْغُرَابِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَانَ أَهْلُ مَنْزِلَةٍ عَنْهَا وَقَعَ مَوْضِعَهُمْ يَلْتَمِسُ وَيَتَقَمْقَمُ فَتَشَاءَمُوا بِهِ لِذَلِكَ وَتَطَيَّرُوا مِنْهُ إذْ كَانَ لَا يَعْتَرِي مَنَازِلَهُمْ إلَّا إذَا بَانُوا عَنْهَا؛ فَلِذَا سَمَّوْهُ غُرَابَ الْبَيْنِ، قَالَ فِيهِ شَاعِرُهُمْ: وَصَاحَ غُرَابٌ فَوْقَ أَعْوَادِ بَانَةٍ ... بِأَخْبَارِ أَحْبَابِي فَقَسَّمَنِي الْفِكْرُ فَقُلْت غُرَابٌ بِاغْتِرَابٍ وَبَانَةٌ ... بِبَيْنِ النَّوَى تِلْكَ الْعِيَافَةُ وَالزَّجْرُ وَهَبَّ جَنُوبٌ بِاجْتِنَابِي مِنْهُمْ ... وَهَاجَتْ صَبًّا قُلْت الصَّبَابَةُ وَالْهَجْرُ (تَنْبِيهٌ) : الْغُرَابُ أَصْنَافٌ: مِنْهَا غُرَابُ الزَّرْعِ وَالزَّاغُ، وَهُمَا حَلَالٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ قَرِيبًا، وَمِنْهَا الْغُدَافُ بَالِغِينَ الْمُعْجَمَةِ غُرَابُ الْقَيْظِ، وَهُوَ الْغُرَابُ الضَّخْمِ لَوْنُهُ كَلَوْنِ الرَّمَادِ وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْقَاقُ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 ، وَالْعَقْعَقُ كَجَعْفَرٍ طَائِرٌ نَحْوُ الْحَمَامَةِ طَوِيلُ الذَّنَبِ فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْغِرْبَانِ وَيُسَمَّى الْقَاقُ، وَالْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِهِ انْتَهَى. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْعَقْعَقُ كَثَعْلَبٍ وَيُسَمَّى كُنْدُشًا بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَصَوْتُهُ الْعَقْعَقَةُ، وَهُوَ طَائِرٌ عَلَى قَدْرِ الْحَمَامَةِ عَلَى شَكْلِ الْغُرَابِ، وَجَنَاحَاهُ أَكْبَرُ مِنْ جَنَاحَيْ الْحَمَامَةِ، وَهُوَ ذُو لَوْنَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ طَوِيلُ الذَّنَبِ، وَيُقَالُ لَهُ الْقُعْقُعُ أَيْضًا، وَهُوَ لَا يَأْوِي تَحْتَ سَقْفٍ وَلَا يَسْتَظِلُّ بِهِ وَيُوصَفُ بِالسَّرِقَةِ، وَالْخُبْثِ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ بِهِ الْمَثَل فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. قَالَ شَاعِرُهُمْ: إذَا بَارَكَ اللَّهُ فِي طَائِرٍ ... فَلَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْعَقْعَقِ قَصِيرُ الْجَنَاحِ طَوِيلُ الذِّنَابِ ... مَتَى مَا يَجِدْ غَفْلَةً يَسْرِقْ يُقَلِّبُ عَيْنَيْنِ فِي رَأْسِهِ ... كَأَنَّهُمَا قَطْرَتَا زِئْبَقِ وَمِنْهَا الْأَكْحَلُ، وَالْأَوْرَقُ، وَالْغُرَابُ الْأَعْصَمُ عَزِيزُ الْوُجُودِ قَالَتْ الْعَرَبُ: أَعَزُّ مِنْ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ، وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَثَلُ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ النِّسَاءِ كَمَثَلِ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ فِي مِائَةِ غُرَابٍ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْغُرَابُ الْأَعْصَمُ قَالَ: الَّذِي إحْدَى رِجْلَيْهِ بَيْضَاءُ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ فِي آخِرِ مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا بِغِرْبَانٍ كَثِيرَةٍ فِيهَا غُرَابٌ أَعْصَمُ أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ فَقَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مِثْلُ هَذَا الْغُرَابِ فِي هَذِهِ الْغِرْبَانِ» وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: الْأَعْصَمُ الْأَبْيَضُ الْبَطْنِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأَعْصَمُ الْأَبْيَضُ الْجَنَاحَيْنِ وَقِيلَ: أَبْيَضُ الرِّجْلَيْنِ أَرَادَ قِلَّةَ الصَّالِحَةِ فِي النِّسَاءِ وَقِلَّةَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ. وَفِيهِ بَحْثٌ ذَكَرْته مَعَ جَوَابِهِ فِي كِتَابِي الْبُحُورِ الزَّاخِرَةِ فِي عُلُومِ الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) يَحْسُنُ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ لِلْحَلَالِ، وَالْمُحْرِمِ قَتْلُ (شِبْهِهَا) أَيْ شِبْهِ الْغِرْبَانِ كَالْحِدَأَةِ وَاللَّقْلَقِ، وَهُوَ طَائِرٌ نَحْوُ الْإِوَزَّةِ طَوِيلُ الْعُنُقِ يَأْكُلُ الْحَيَّاتِ وَمِثْلُ ذَلِكَ النَّيْصُ، وَالْقُنْفُذُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ عَنْهُ فَقَرَأَ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: «ذُكِرَ الْقُنْفُذُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: خَبِيثٌ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 الْخَبَائِثِ» فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إنْ كَانَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (كَذَا) أَيْ كَمَا يَحْسُنُ قَتْلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ يَحْسُنُ قَتْلُ (حَشَرَاتٍ) وَاحِدَتُهَا حَشَرَةٌ قَدَّمَ فِي الْمُطْلِعِ أَنَّهَا صِغَارُ دَوَابِّ (الْأَرْضِ) كَالضَّبِّ، وَالْيَرْبُوعِ وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا وَقِيلَ هَوَامُّ الْأَرْضِ مِمَّا لَا اسْمَ لَهُ؛ وَلِذَا قَالَ (دُونَ تَقَيُّدِ) بِاسْمِ نَوْعٍ خَاصٍّ، وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: الْحَشَرَاتُ صِغَارُ دَوَابِّ الْأَرْضِ وَصِغَارُ هَوَامِّهَا الْوَاحِدَةُ حَشَرَةٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَمُرَادُ النَّاظِمِ هُنَا بِهَا هَوَامُّ الْأَرْضِ، وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْهَا غَيْرَ مُسْتَوْفٍ لِجَمِيعِهَا؛ فَلِذَا أَدْخَلَ عَلَيْهَا كَافَ التَّشْبِيهِ فَقَالَ: كَبَقٍّ وَبُرْغُوثٍ وَفَارٍ وَعَقْرَبٍ ... وَدَبْرٍ وَحَيَّاتٍ وَشِبْهِ الْمُعَدَّدِ (كَبَقٍّ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْبَقَّةُ الْبَعُوضَةُ، وَالْجَمْعُ الْبَقُّ، وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ الْبَقَّةُ الْبَعُوضَةُ وَدُوَيْبَّةٌ مُفَرْطَحَةٌ حَمْرَاءُ مُنْتِنَةٌ يُقَالُ: إنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ النَّفَسِ الْحَارِّ وَلِشِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِي الْإِنْسَانِ لَا يَتَمَالَكُ إذَا شَمَّ رَائِحَتَهُ إلَّا رَمَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمِصْرَ كَثِيرٌ وَمَا شَاكَلَهَا مِنْ الْبِلَادِ. فَائِدَةٌ لِإِذْهَابِ الْبَقِّ (فَائِدَةٌ) : قَالَ الْقَزْوِينِيُّ: إذَا بُخِّرَ الْبَيْتُ بِالْقَلْقَنْدُ وَالشُّونِيزِ لَمْ يَدْخُلْهُ بَقٌّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِذَا بُخِّرَ بِنُشَارَةِ الصَّنَوْبَرِ طَرَدَهُ عَنْهُ، وَقَالَ حُنَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ إذَا بُخِّرَ الْبَيْتُ بِحَبِّ الْمِحْلَبِ هَرَبَ مِنْهُ الْبَقُّ أَجْمَعُ، وَكَذَلِكَ إذَا بُخِّرَ بِالْعَلَقِ، أَوْ الْعَاجِ وَبِجِلْدِ الْجَامُوسِ وَبِأَغْصَانِ شَجَرِ السَّرْوِ. وَفِي تَارِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَصْبَغَ بْنِ نَبَاتَةَ الْحَنْظَلِيِّ قَالَ: سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: " ابْنَ آدَمَ وَمَا ابْنُ آدَمَ؟ تُؤْلِمُهُ بَقَّةٌ، وَتُنْتِنُهُ عِرْقَةٌ. وَتَقْتُلُهُ شَرْقَةٌ ". قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَأَصْبَغُ بْنُ نَبَاتَةَ هَذَا يَرْوِي أَشْيَاءَ لَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهَا أَحَدٌ فَاسْتَحَقَّ مِنْ أَجْلِهَا التَّرْكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) كَ (بُرْغُوثٍ) بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَاحِدُ الْبَرَاغِيثِ، وَضَمُّ بَائِهِ أَكْثَرُ مِنْ كَسْرِهَا يَتَوَلَّدُ أَوَّلًا مِنْ التُّرَابِ لَا سِيَّمَا فِي الْأَمَاكِنِ الْمُظْلِمَةِ، ثُمَّ يَسْفِدُ وَيُطِيلُ السِّفَادَ وَيَبِيضُ وَيُفْرِخُ، وَسُلْطَانُهُ فِي أَوَاخِرِ الشِّتَاءِ وَأَوَّلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ وَيُقَالُ: إنَّهُ عَلَى صُورَةِ الْفِيلِ وَلَهُ أَنْيَابٌ يَعَضُّ بِهَا وَخُرْطُومُهُ يَمُصُّ بِهِ، وَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي جُزْءٍ لَهُ لَطِيفٍ سَمَّاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الطُّرْثُوثَ فِي خَبَرِ الْبُرْغُوثِ: الْبُرْغُوثُ بِضَمِّ الْبَاءِ أَكْثَرُ مِنْ كَسْرِهَا وَفَتْحِهَا وَثَاؤُهُ مُثَلَّثَةٌ، وَالْوَاحِدَةُ بُرْغُوثَةٌ وَجَمْعُهُ بَرَاغِيثُ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْقُذَّةُ، وَالْقُذَذُ، وَالْجَمْعُ قِذَّانٌ بِالْكَسْرِ، وَالْقِدَّانُ بِالْكَسْرِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ الرَّاجِزُ: يَا أَبَتَا أَرَّقَنِي الْقِدَّانُ ... فَالنَّوْمُ لَا تَطْعَمُهُ الْعَيْنَانِ وَيُقَالُ لَهُ طَامِرُ بْنُ طَامِرٍ وَيُكْنَى أَبَا طَامِرٍ وَأَبَا عَدِيٍّ وَأَبَا الْوَثَّابِ، وَهُوَ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ الْوَثْبُ الشَّدِيدُ وَيَثِبُ إلَى وَرَائِهِ. وَذَكَرَ الْجَاحِظُ عَنْ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ أَنَّهُ مِنْ الْخَلْقِ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ الطَّيَرَانُ كَمَا يَعْرِضُ لِلنَّمْلِ. مَطْلَبٌ: فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الْبُرْغُوثِ وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَبِّ الْبُرْغُوثِ» رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَسُبُّ بُرْغُوثًا فَقَالَ: لَا تَسُبَّهُ، فَإِنَّهُ أَيْقَظَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ذُكِرَتْ الْبَرَاغِيثُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّهَا لَتُوقِظُ لِلصَّلَاةِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَزَلْنَا مَنْزِلًا فَآذَتْنَا الْبَرَاغِيثُ فَسَبَبْنَاهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَسُبُّوهَا فَنِعْمَتْ الدَّابَّةُ، فَإِنَّهَا أَيْقَظَتْكُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَعَنَ رَجُلٌ بُرْغُوثًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا تَلْعَنْهُ، فَإِنَّهُ أَيْقَظَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِلصَّلَاةِ» وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسُبَّ الْبُرْغُوثَ إنَّ اسْمَهُ ... بِرٌّ وَغَوْثٌ لَك لَوْ تَدْرِي فَبِرُّهُ مَصُّ دَمٍ فَاسِدِ ... وَغَوْثُهُ الْإِيقَاظُ فِي الْفَجْرِ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَتَأَلَّمُ مِنْ الْبَرَاغِيثِ، وَالْبَعُوضِ، وَالْبَقِّ وَأَحْسَنَ) بَعُوضٌ وَبُرْغُوثٌ وَبَقٌّ لَزِمْنَنِي ... حَسِبْنَ دَمِي خَمْرًا فَلَذَّ لَهَا الْخَمْرُ فَيَرْقُصُ بُرْغُوثٌ لِزَمْرِ بَعُوضَةٍ ... وَبَقُّهُمْ سَكْتٌ لِيُسْتَمَعَ الزَّمْرُ (وَقَالَ آخَرُ) رَقَصَتْ بَرَاغِيثُ الشِّتَا فَأَجَابَهَا ... النَّامُوسُ مِنْهُ بِالْغِنَاءِ الْمُعَلَّمِ وَتَوَاجَدَ الْبَقُّ الْكَثِيفُ لِطَبْعِهِ ... طَرَبًا عَلَى شُرْبِ الْمُدَامَةِ مِنْ دَمِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وَقَالَ بَعْضُهُمْ) وَلَيْلٍ بِتُّهُ رَهْنَ اكْتِئَابٍ ... أُقَاسِي فِيهِ أَنْوَاعَ الْعَذَابِ إذَا شَرِبَ الْبَعُوضُ دَمِي وَغَنَّى ... فَلِلْبُرْغُوثِ رَقْصٌ فِي ثِيَابِي (وَقَالَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ، وَقَدْ سَكَنَ مِصْرًا يَصِفُ بَرَاغِيثَهَا) تَطَاوَلَ بِالْفُسْطَاطِ لَيْلِي وَلَمْ أَكَدْ ... بِأَرْضِ الْغَضَى لَيْلِي عَلَيَّ يَطُولُ أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... وَلَيْسَ لِبُرْغُوثٍ عَلَيَّ سَبِيلُ وَالْبَرَاغِيثُ عِنْدَنَا كَالْقُمَّلِ وَدَمُهُمَا وَجِلْدُهُمَا وَكُلُّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ مِنْ بَقٍّ وَبَعُوضٍ وَعَقْرَبٍ وَنَحْوِهَا طَاهِرٌ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ. نَعَمْ يَحْرُمُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهَا لِاسْتِقْذَارِهَا. وَيُسْتَحَبُّ قَتْلُهَا لِلْحَلَالِ، وَالْمُحْرِمِ إلَّا الْقُمَّلَ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلُهُ، وَكَذَا صِئْبَانُهُ مِنْ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ، وَلَوْ بِنَحْوِ زِئْبَقٍ، وَكَذَا رَمْيُهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَفُّهٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَرَاغِيثِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْبَدَنِ بِخِلَافِ الْبَرَاغِيثِ، فَإِنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ التُّرَابِ كَمَا مَرَّ وَلَا شَيْءَ فِي قَتْلِ الْقُمَّلِ وَصِئْبَانِهِ وَرَمْيِهِمَا. قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: وَالْقُمَّلُ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْعَرَقِ، وَالْوَسَخِ. قَالَ الْجَاحِظُ: وَرُبَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ قُمَّلَ الطِّبَاعِ، وَإِنْ تَنَظَّفَ وَتَعَطَّرَ وَبَدَّلَ الثِّيَابَ كَمَا عَرَضَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ «اسْتَأْذَنَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ فَأَذِنَ لَهُمَا فِيهِ» ، وَلَوْلَا الضَّرُورَةُ لَمَا أَذِنَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي لُبْسِ ذَلِكَ مِنْ التَّشْدِيدِ. فَائِدَةٌ لِطَرْدِ الْبَرَاغِيثِ (فَائِدَتَانِ) : (الْأُولَى) رَوَى الْمُسْتَغْفِرِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا آذَاك الْبُرْغُوثُ فَخُذْ قَدَحًا مِنْ مَاءٍ وَاقْرَأْ عَلَيْهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ {وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} [إبراهيم: 12] الْآيَةَ. فَإِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَكُفُّوا شَرَّكُمْ وَآذَاكُمْ عَنَّا، ثُمَّ تَرُشُّهُ حَوْلَ فِرَاشِك، فَإِنَّك تَبِيت آمِنًا مِنْ شَرِّهَا» . وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي التَّوَكُّلِ أَنَّ عَامِلَ أَفْرِيقِيَّةَ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَشْكُو إلَيْهِ الْهَوَامَّ، وَالْعَقَارِبَ فَكَتَبَ إلَيْهِ وَمَا عَلَى أَحَدِكُمْ إذَا أَمْسَى وَأَصْبَحَ أَنْ يَقُولَ {وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} [إبراهيم: 12] الْآيَةَ قَالَ زُرْعَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ رُوَاتِهِ وَيَنْفَعُ مِنْ " الْبَرَاغِيثِ، وَقَالَ حُنَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحِيلَةُ فِي طَرْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الْبَرَاغِيثِ أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الْكِبْرِيتِ وَالرَّاوَنْدِ فَتُدَخِّنَ بِهِ فِي الْبَيْتِ، فَإِنَّهُنَّ يَهْرُبْنَ وَيَمُتْنَ، أَوْ تَحْفِرَ فِي الْبَيْتِ حُفْرَةً وَتُلْقِيَ فِيهَا وَرَقَ الدِّفْلَى، فَإِنَّهُنَّ يَأْوِينَ إلَى تِلْكَ الْحُفْرَةِ كُلُّهُنَّ فَيَقَعْنَ فِيهَا، وَقَالَ الرَّازِيّ يَرُشُّ الْبَيْتَ بِطَبِيخِ الشُّونِيزِ، فَإِنَّهُ يَقْتُلُ بَرَاغِيثَه، وَقَالَ غَيْرُهُ: إذَا نَقَعَ السَّذَابَ فِي مَاءٍ وَرَشَّ فِي الْبَيْتِ مَاتَتْ بَرَاغِيثُهُ. قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَإِذَا دَخَلَ الْبُرْغُوثُ فِي أُذُنِ الْإِنْسَانِ الْيُمْنَى فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ الْيَمِينِ خُصْيَةَ نَفْسِهِ الْيُسْرَى وَإِذَا دَخَلَ فِي الْأُذُنِ الْيُسْرَى فَلْيُمْسِكْ الْخُصْيَةَ الْيُمْنَى بِالْيَدِ الْيُسْرَى، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ سَرِيعًا، وَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي الطُّرْثُوثِ قَالَ الصَّلَاحُ الصَّفَدِيُّ فِي أَعْيَانِ الْعَصْرِ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْخَوَاصِّ أَنَّ الْبُرْغُوثَ إذَا دَخَلَ فِي أُذُنِ أَحَدٍ وَضَعَ الْإِنْسَانُ أُصْبُعَهُ فِي سُرَّتِهِ، وَقَالَ سَبَقْتُك، فَإِنَّ الْبُرْغُوثَ يَخْرُجُ مِنْهَا. (الثَّانِيَةُ) : ذَكَرَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ جَالِسًا عَلَى الْخَلَاءِ فَوَجَدَ قَمْلَةً لَا يَقْتُلُهَا، بَلْ يَدْفِنُهَا فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ قَمْلَةً، وَهُوَ عَلَى رَأْسِ خَلَائِهِ بَاتَ مَعَهُ فِي شِعَارِهِ شَيْطَانٌ يُنْسِيهِ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» . وَأَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَوَائِحُ الْوَضْعِ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ بِالْآثَارِ السَّائِرَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ الْقَمْلَةَ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَصُرَّهَا فِي ثَوْبِهِ حَتَّى يَخْرُجَ نَعَمْ قَالَ الرَّسُولُ: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ الْقَمْلَةَ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَصُرَّهَا فِي ثَوْبِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ فِي الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ: «وَجَدَ رَجُلٌ فِي ثَوْبِهِ قَمْلَةً فَأَخَذَهَا لِيَطْرَحَهَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَفْعَلْ رُدَّهَا فِي ثَوْبِك حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنَّهُ مُرْسَلٌ حَسَنٌ، ثُمَّ رَوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَأَى قَمْلَةً فِي ثَوْبِ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَأَخَذَهَا فَدَفَنَهَا فِي الْحَصَى، ثُمَّ قَالَ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَيُذْكَرُ نَحْوُ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ يَدْفِنُهَا كَالنُّخَامَةِ. قَالَ: وَرَوَيْنَا عَنْ مَالِكِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْت مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقْتُلُ الْبَرَاغِيثَ، وَالْقُمَّلَ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي لَفْظٍ رَأَيْت مُعَاذًا يَقْتُلُ الْقُمَّلَ، وَالْبَرَاغِيثَ فِي الْمَسْجِدِ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَعَنْ الْحَسَنِ لَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْقَمْلَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَكِنْ لَا يَعْبَثُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 مَطْلَبٌ: فِيمَا يُورِثُ النِّسْيَانَ وَقَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَإِذَا أَلْقَيْت الْقَمْلَةَ حَيَّةً أُورِثْت النِّسْيَانَ كَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَيْلِيِّ أَنَّهُ رَوَى بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سِتٌّ مِنْهَا النِّسْيَانُ: سُؤْرُ الْفَأْرِ، وَإِلْقَاءُ الْقَمْلَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَالْبَوْلُ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَقَطْعُ الْقِطَارِ، وَمَضْغُ الْعِلْكِ وَأَكْلُ التُّفَّاحِ الْحَامِضِ. وَيُحِلُّ ذَلِكَ اللِّبَانُ الذَّكَرُ» . وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْجَاحِظُ بِقَوْلِهِ إنَّ أَكْلَ الْحَامِضِ وَسُؤْرِ الْفَأْرِ وَنَبْذَ الْقَمْلِ يُورِثُ النِّسْيَانَ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَنَّ الَّذِي يُلْقِي الْقَمْلَةَ لَا يُكْفَى الْهَمَّ» وَعِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ لُبْسَ النِّعَالِ السُّودِ يُورِثُ النِّسْيَانَ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. (وَ) (كَفَأْرٍ) بِالْهَمْزِ جَمْعُ فَأْرَةٍ قَالَهُ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ تُهْمَزُ وَلَا تُهْمَزُ، وَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْجَمْعُ فَأْرٌ مِثْلُ تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ. قَالَ وَفَأْرَةُ الْمِسْكِ مَهْمُوزَةٌ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ فَارِسٍ فِي بَابِ الْمَهْمُوزِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَارَةُ الْمِسْكِ غَيْرُ مَهْمُوزٍ مِنْ فَارَ يَفُورُ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ: الْأَوَّلُ أَثْبَتُ. وَفِي الْقَامُوسِ الْفَأْرُ مَعْرُوفٌ جَمْعُهُ فِئْرَانٌ وَفِئَرَةٌ كَعِنَبَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَنَافِجَةُ الْمِسْكِ وَبِلَا هَاءٍ الْمِسْكُ، أَوْ الصَّوَابُ إيرَادُ فَأْرَةِ الْمِسْكِ فِي " فَ وَرَ " يَعْنِي فِي مَادَّةِ " فَوَرَ " مِنْ الْفَوْرِ لَا فِي فَأَرَ فِي الْمَهْمُوزِ لِفَوَرَانِ رَائِحَتِهَا أَوْ يَجُوزُ هَمْزُهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى هَيْئَةِ الْفَأْرَةِ. وَقِيلَ لَأَعْرَابِيٍّ: أَتَهْمِزُ الْفَأْرَةَ؟ فَقَالَ: الْهِرَّةُ تَهْمِزُهَا، فَجَوَّزَ الْهَمْزَ وَعَدَمَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ الْفَأْرَةِ فُوَيْسِقَةً وَالْمُرَادُ بِالْفَأْرَةِ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ فَأْرَةُ الْبَيْتِ، وَكَذَا الْجُرَذُ وَمِنْهُ الْخُلْدُ. وَفَأْرَةُ الْبَيْتِ هِيَ الْفُوَيْسِقَةُ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِهَا فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ. وَأَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ، وَالْجَوْرُ وَبِهِ سُمِّيَ الْعَاصِي فَاسِقًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ فَوَاسِقَ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ لِخُبْثِهِنَّ وَقِيلَ لِخُرُوجِهِنَّ عَنْ الْحُرْمَةِ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ أَيْ لَا حُرْمَةَ لَهُنَّ بِحَالٍ. وَقِيلَ سُمِّيَتْ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً؛ لِأَنَّهَا عَمَدَتْ إلَى سَفِينَةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَطَعَتْهَا. فَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا سَعِيدٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 الْخُدْرِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَ سُمِّيَتْ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً؟ قَالَ: «اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَقَدْ أَخَذَتْ فَأْرَةٌ فَتِيلَةً لِتُحَرِّقَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْتَ فَقَامَ إلَيْهَا وَقَتَلَهَا وَأَحَلَّ قَتْلَهَا لِلْحَلَالِ، وَالْمُحْرِمِ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا قَدْرَ مَوْضِعِ دِرْهَمٍ» ، وَالْخُمْرَةُ هِيَ السَّجَّادَةُ الَّتِي يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّي سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْوَجْهَ أَيْ تُغَطِّيه وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «جَاءَتْ فَأْرَةٌ فَأَخَذَتْ تَجُرُّ الْفَتِيلَةَ فَذَهَبَتْ الْجَارِيَةُ تَزْجُرُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعِيهَا فَجَاءَتْ بِهَا فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُمْرَةِ الَّتِي كَانَ قَاعِدًا عَلَيْهَا فَأَحْرَقَتْ مِنْهَا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ عَلَى هَذَا فَتُحْرِقُكُمْ» ، ثُمَّ قَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِطْفَاءِ النَّارِ عِنْدَ النَّوْمِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ» . قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَلَيْسَ فِي الْحَيَوَانِ أَفْسَدُ مِنْ الْفَأْرِ لَا يُبْقِي عَلَى خَطِيرٍ وَلَا جَلِيلٍ إلَّا أَهْلَكَهُ وَأَتْلَفَهُ وَلَعَلَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّاهَا فُوَيْسِقَةً كَمَا سَمَّاهَا نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَوْ يَكُونُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَى قَوْلَهُمْ بِحُرُوفِهِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تُعْرَفُ مِنْ حِينَئِذٍ بِالْفُوَيْسِقَةِ وَخَاطَبَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِتَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «خَمِّرُوا الْآنِيَةَ، وَأَوْكِئُوا الْأَسْقِيَةَ وَأَجِيفُوا الْأَبْوَابَ وَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ لِلْجِنِّ سَيَّارَةً خَطْفَةً وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ عِنْدَ الرُّقَادِ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا أَخَذَتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ» . قِيلَ سُمِّيَتْ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا عَلَى النَّاسِ وَاغْتِيَالِهَا إيَّاهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ بِالْفَسَادِ. وَأَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَمِنْ هَذَا سُمِّيَ الْخَارِجُ عَنْ الطَّاعَةِ فَاسِقًا يُقَالُ فَسَقَتْ الرُّطَبَةُ عَنْ قِشْرِهَا إذَا خَرَجَتْ عَنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 مَطْلَبٌ: فِي قَتْلِ الْعَقْرَبِ وَبَيَانِ أَنْوَاعِهِ الْعَجِيبَةِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ الْغُرَابُ، وَالْحَدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (وَ) كَ (عَقْرَبٍ) ، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ قَتْلُهَا فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ لِلْحَلَالِ، وَالْمُحْرِمِ، وَالْعَقْرَبُ وَاحِدُ الْعَقَارِبِ، وَهِيَ تُؤَنَّثُ، وَالْأُنْثَى عَقْرَبَةٌ وَعَقْرَبَاءُ مَمْدُودَةٌ غَيْرُ مَصْرُوفَةٍ، وَالذَّكَرُ عُقْرُبَانٌ، وَهِيَ دَابَّةٌ لَهَا أَرْجُلٌ طِوَالٌ لَيْسَ ذَنَبُهُ كَذَنَبِ الْعَقَارِبِ، وَكُنْيَتُهَا أُمُّ عُرَيْطَ، وَاسْمُهَا بِالْفَارِسِيَّةِ رَشَك، وَلَهَا ثَمَانِيَةُ أَرْجُلٍ، وَعَيْنَاهَا فِي ظَهْرِهَا، وَلَا تَضْرِبُ الْمَيِّتَ وَلَا النَّائِمَ حَتَّى يَتَحَرَّكَ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ فَتَضْرِبَهُ، وَمِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا إذَا لَسَعَتْ الْإِنْسَانَ فَرَّتْ فِرَارَ مُسِيءٍ يَخْشَى الْعِقَابَ، وَرُبَّمَا ضَرَبَتْ الْعَقْرَبَةُ الْحَجَرَ، وَالْمَدَرَ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: رَأَيْتُ عَلَى صَخْرَةٍ عَقْرَبًا ... وَقَدْ جَعَلَتْ ضَرْبَهَا دَيْدَنًا فَقُلْت لَهَا إنَّهَا صَخْرَةٌ ... وَطَبْعُكِ مِنْ طَبْعِهَا أَلْيَنَا فَقَالَتْ صَدَقْتَ وَلَكِنَّنِي ... أُرِيدُ أُعَرِّفُهَا مَنْ أَنَا وَالْعَقَارِبُ الْقَاتِلَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ بِشَهْرَ زُورَ وَبِعَسْكَرِ مُكْرَمٍ. فَرُبَّمَا تَنَاثَرَ لَحْمُ مَنْ تَلْسَعُهُ، أَوْ بَعْضُ لَحْمِهِ وَاسْتَرْخَى حَتَّى أَنَّهُ لَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إلَّا وَهُوَ يُمْسِكُ أَنْفَهُ مَخَافَةَ أَعْدَائِهِ. وَبِنَصِيبِينَ عَقَارِبُ قَتَّالَةٌ يُقَالُ: إنَّ أَصْلَهَا مِنْ شَهْرِ زُورِ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيّ فِي ثِمَارِ مُنْتَهَى الْعُقُولِ فِي مُنْتَهَى النُّقُولِ أَنَّ مُنْتَهَى الْحَشَرَاتِ عَقْرَبٌ اسْمُهَا كُرُورٌ وَتُسَمَّى الْجَرَّارَةَ إذَا لَدَغَتْ ثُعْبَانًا قَدْرَ النَّخْلَةِ الْبَاسِقَةِ يَذُوبُ جِسْمُهُ مِنْ لَدْغَتِهَا. تَمُوتُ الْأَفَاعِي مِنْ سَمُومِ الْعَقَارِبِ. قَالَ: وَقَدْرُ جِسْمِ هَذِهِ الْعَقْرَبِ ثَلَاثُ أُرْزَاتٍ مَوْزُونَاتٍ فِي مِيزَانِ الذَّهَبِ وَلَدَغَتْ هَذِهِ الْعَقْرَبُ طَسْتَ نُحَاسٍ فَغُسِلَ بِالطِّينِ مَرَّاتٍ فَسَقَطَتْ يَدُ الَّذِي غَسَلَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُغْسَلُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُوضَعَ فِي النَّارِ عَلَى كِيرِ الْحَدَّادِ أَوْ النَّحَّاسِ حَتَّى يَذْهَبَ أَثَرُهُ بِزَوَالِ جِسْمٍ مِنْ النُّحَاسِ، قَالَ: وَهَذِهِ الْعَقَارِبُ بِالْكَثْرَةِ فِي عَسْكَرِ مَكْرَمٍ. وَلَدَغَتْ إنْسَانًا بِهِ الْفَالِجُ فَعُوفِيَ وَخَلَصَ مِنْهُ. وَرُبَّمَا صَحَّتْ الْأَجْسَامُ بِالْعِلَلِ. وَتَقَدَّمَتْ رُقْيَةُ الْعَقْرَبِ وَبَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا هُنَاكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 مَطْلَبٌ: فِي سَبَبِ قَوْلِهِمْ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ حَمِيُّ الدَّبْرِ. (وَ) كَ (دَبْرٍ) ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ كَنَظَائِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالدَّبْرِ هُنَا الزُّنْبُورُ قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الدَّبْرُ بِفَتْحِ الدَّالِ جَمَاعَةُ النَّحْلِ وَأَمَّا بِكَسْرِ الدَّالِ فَصِغَارُ الْجَرَادِ وَيُجْمَعُ عَلَى دُبُورٍ قَالَ وَيُقَالُ أَيْضًا لِلزَّنَابِيرِ دَبْرٌ. وَفِي الْقَامُوسِ الدَّبْرُ بِالْفَتْحِ جَمَاعَةُ النَّحْلِ وَالزَّنَابِيرُ وَبِالْكَسْرِ فِيهِمَا وَجَمْعُهُ أَدْبُرٌ وَدُبُورٌ انْتَهَى وَمِنْهُ قِيلَ لِعَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ حَمِيُّ الدَّبْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا قَتَلُوهُ أَرَادُوا أَنْ يُمَثِّلُوا بِهِ فَحَمَاهُ اللَّهُ بِالدَّبْرِ فَارْتَدَعُوا عَنْهُ حَتَّى أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ فَدَفَنُوهُ، وَكَانَ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَمَسَّ مُشْرِكًا وَلَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ فَحَمَاهُ اللَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَفِي السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا قَتَلُوا عَاصِمًا أَرَادَتْ هُذَيْلٌ أَخْذَ رَأْسِهِ لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ سُهَيْلٍ - أَسْلَمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ - وَكَانَتْ نَذَرَتْ حِينَ قَتَلَ ابْنَيْهَا مُسَافِعًا، وَالْجَلَّاسَ ابْنَيْ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيِّ وَكَانَ عَاصِمٌ قَتَلَهُمَا يَوْمَ أُحُدٍ لَئِنْ قَدَرَتْ عَلَى رَأْسِ عَاصِمٍ لَتَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ فِي قِحْفِهِ وَجَعَلَتْ لِمَنْ جَاءَ بِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ فَمَنَعَتْهُ الدَّبْرُ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إلَى عَاصِمٍ لِيُؤْتُوا بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لَعَلَّهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَإِنَّ عَاصِمًا قَتَلَهُ صَبْرًا بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ انْصَرَفُوا مِنْ بَدْرٍ وَكَأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تَشْعُرْ بِمَا جَرَى لِهُذَيْلٍ مِنْ مَنْعِ الدَّبْرِ لَهَا مِنْ أَخْذِ رَأْسِ عَاصِمٍ فَأَرْسَلَتْ مَنْ يَأْخُذُهُ، أَوْ عَرَفُوا بِذَلِكَ وَرَجَوْا أَنْ تَكُونَ الدَّبْرُ تَرَكَتْهُ فَيُمْكِنُهُمْ أَخْذُهُ انْتَهَى. فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ يَطِيرُ فِي وُجُوهِهِمْ وَيَلْدَغُهُمْ، فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ انْتَهَى. فَلَمَّا حَالَتْ الدَّبْرُ بَيْنَ هُذَيْلٍ وَبَيْنَ رَأْسِ عَاصِمٍ قَالُوا: دَعُوهُ حَتَّى يُمْسِيَ فَيَذْهَبَ عَنْهُ فَنَأْخُذَهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْوَادِيَ فَاحْتَمَلَهُ فَذَهَبَ بِهِ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَدْ أَعْطَى اللَّهَ تَعَالَى عَهْدًا أَنْ لَا يَمَسَّ مُشْرِكًا وَلَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ، فَبَرَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَسَمَهُ، فَلَمْ يَرَوْهُ وَلَا وَصَلُوا مِنْهُ إلَى شَيْءٍ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ خَبَرُهُ: يَحْفَظُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا يَحْفَظُهُ فِي حَيَاتِهِ. قَالَ فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ: الدَّبْرُ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وَبِالرَّاءِ، وَهُوَ هُنَا الزَّنَابِيرُ، أَوْ النَّحْلُ انْتَهَى. وَفِي الْمَطَالِعِ قَوْلُهُ كَالظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ وَبِفَتْحِ الدَّالِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ جَمَاعَةُ النَّحْلِ وَقِيلَ جَمَاعَةُ الزَّنَابِيرِ، وَالظُّلَّةُ السَّحَابُ انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي حِلِّ قَتْلِ الْحَيَّةِ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ. (وَ) كَ (حَيَّاتٍ) جَمْعُ حَيَّةٍ فَتُقْتَلُ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ مُطْلَقًا قَالَ فِي الْقَامُوسِ: يُقَالُ: لَا تَمُوتُ إلَّا بِعَرْضِ. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْحَيَّةُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْهَاءُ لِلْوَحْدَةِ كَبَطَّةٍ وَدَجَاجَةٍ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ رَأَيْت حَيًّا عَلَى حَيَّةٍ أَيْ ذَكَرًا عَلَى أُنْثَى، وَذَكَرَ ابْنُ خَالَوَيْهِ لَهَا مِائَةَ اسْمٍ. وَنَقَلَ السُّهَيْلِيُّ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ الْحَيَّةَ إلَى الْأَرْضِ أَنْزَلَهَا بِسِجِسْتَانَ فَهِيَ أَكْثَرُ الْأَرْضِ حَيَّاتٌ، وَلَوْلَا الْعِرْبَدُّ يُفْنِي كَثِيرًا مِنْهَا لَخَلَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِكَثْرَةِ الْحَيَّاتِ، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَهْبَطَ اللَّهُ الْحَيَّةَ بِأَصْبَهَانَ وَإِبْلِيسَ بِجُدَّةِ وَحَوَّاءَ بِعَرَفَةَ وَأَهْبَطَ آدَمَ بِجَبَلِ سَرَنْدِيبَ، وَهُوَ بِأَعْلَى الصِّينِ فِي بَحْرِ الْهِنْدِ عَالٍ يَرَاهُ الْبَحْرِيُّونَ مِنْ مَسَافَةِ أَيَّامٍ وَفِيهِ أَثَرُ قَدَمِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَغْمُوسَةٌ فِي الْحَجَرِ وَيُرَى عَلَى هَذَا الْجَبَلِ كُلَّ لَيْلَةٍ كَهَيْئَةِ الْبَرْقِ مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْمَطَرِ يَغْسِلُ مَحَلَّ قَدَمِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. مَطْلَبٌ: الرَّيْحَانُ الْفَارِسِيُّ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ كِسْرَى. وَفِي عَجَائِبِ الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّ الرَّيْحَانَ الْفَارِسِيَّ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ كِسْرَى أَنُو شُرْوَانَ، وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي زَمَانِهِ وَسَبَبُهُ أَنَّهُ كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا لِلْمَظَالِمِ إذْ أَقْبَلَتْ حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَنْسَابُ تَحْتَ سَرِيرِهِ فَهَمُّوا بِقَتْلِهَا فَقَالَ كِسْرَى: كُفُّوا عَنْهَا فَإِنِّي أَظُنُّهَا مَظْلُومَةً فَمَرَّتْ تَنْسَابُ حَتَّى اسْتَدَارَتْ عَلَى فُوَّهَةِ بِئْرٍ فَنَزَلَتْ فِيهَا، ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَتَطَلَّعُ فَإِذَا فِي قَعْرِ الْبِئْرِ حَيَّةٌ مَقْتُولَةٌ، وَعَلَى مَتْنِهَا عَقْرَبٌ أَسْوَدُ فَأَدْلَى بَعْضُ الْأَسَاوِرَةِ رُمْحَهُ إلَى الْعَقْرَبِ وَنَخَسَهَا بِهِ وَأَتَى الْمَلِكَ يُخْبِرُ بِحَالِ الْحَيَّةِ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ أَتَتْ الْحَيَّةُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي كَانَ فِيهِ كِسْرَى جَالِسًا لِلْمَظَالِمِ وَجَعَلَتْ تَنْسَابُ حَتَّى وَقَفَتْ وَنَفَضَتْ مِنْ فِيهَا بَذْرًا أَسْوَدَ فَأَمَرَ الْمَلِكُ أَنْ يُزْرَعَ فَنَبَتَ مِنْهُ الرَّيْحَانُ وَكَانَ الْمَلِكُ كَثِيرَ الزُّكَامِ وَأَوْجَاعِ الدِّمَاغِ فَاسْتَعْمَلَ مِنْهُ فَنَفَعَهُ جِدًّا. ، وَالْعِرْبَدُّ حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَأْكُلُ الْحَيَّاتِ وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الْيُسْرِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْهَدْمِ وَالتَّرَدِّي وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْهَرَمِ، وَالْغَرَقِ وَأَعُوذُ بِك أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِك مُدْبِرًا وَأَعُوذُ بِك مِنْ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» . قَالَ الْجَاحِظُ: وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَتَّفِقُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ بِأَكْلِ هَذَا الْعَدُوِّ إلَّا وَهُوَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ، بَلْ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً، فَكَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَوَّذُ مِنْهُ لِذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَدْ أَمَرَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ الْحَيَّةِ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ، وَأَمْرُهُ فِي ذَلِكَ لِلنَّدَبِ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَارٍ بِمِنًى، وَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] فَنَحْنُ نَأْخُذُهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً إذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ: اُقْتُلُوهَا فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا فَسَبَقَتْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَاهَا اللَّهُ شَرَّكُمْ كَمَا وَقَاكُمْ شَرَّهَا» . وَعَدَاوَةُ الْحَيَّةِ لِلْإِنْسَانِ مَعْلُومَةٌ وَمَعْرُوفَةٌ. وَفِي التَّنْزِيلِ {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] قَالَ الْجُمْهُورُ: الْخِطَابُ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ، وَالْحَيَّةِ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ: مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ عَادَيْنَاهُنَّ» . وَقِصَّةُ ابْنِ حِمْيَرٍ مَشْهُورَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ تَرَكَهُنَّ فَلَيْسَ مِنَّا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: مَنْ تَرَكَ حَيَّةً خَشْيَةً مِنْ ثَأْرِهَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ رَجُلًا مُشْرِكًا، وَمَنْ تَرَكَ حَيَّةً مَخَافَةَ عَاقِبَتِهَا فَلَيْسَ مِنَّا» (وَ) يَحْسُنُ قَتْلُ (شِبْهِ) أَيْ مِثْلِ (الْمُعَدِّدِ) مِنْ أَنْوَاعِ الْحَشَرَاتِ فَكُلُّ مَا شَابَهُ ذَلِكَ يُقْتَلُ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ مِنْ الْحَلَالِ، وَالْمُحْرِمِ كَالْوَزَغَةِ بِالتَّحْرِيكِ، وَهِيَ سَامٌّ أَبْرَصُ. قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَزَغَ مِنْ الْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَاتِ، وَجَمْعُ الْوَزَغَةِ وَزَغٌ وَأَوْزَاغٌ وَوَزَغَاتٌ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهَا اسْتَأْمَرَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ الْوَزَغَاتِ فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 مَطْلَبٌ: فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً مِنْ ضَرْبَةٍ فَلَهُ كَذَا، وَكَذَا حَسَنَةً. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا، وَقَالَ كَانَ يَنْفُخُ النَّارَ عَلَى إبْرَاهِيمَ» ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً مِنْ أَوَّلِ ضَرْبَةٍ فَلَهُ كَذَا، وَكَذَا حَسَنَةً، وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً دُونَ الْأُولَى» . وَفِيهِ أَيْضًا «مَنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى فَلَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ فَلَهُ دُونَ ذَلِكَ وَفِي الثَّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «اُقْتُلُوا الْوَزَغَ، وَلَوْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ» لَكِنْ فِي إسْنَادِهِ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ ضَعِيفٌ. وَفِي سُنَنِ ابْن مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهُ كَانَ فِي بَيْتِهَا رُمْحٌ مَوْضُوعٌ فَقِيلَ لَهَا: مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ الْوَزَغَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرْنَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إلَّا أَطْفَأَتْ عَنْهُ النَّارَ غَيْرَ الْوَزَغِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْفُخُ عَلَيْهِ فَأَمَرَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِهَا» ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ. وَفِي تَارِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً مَحَا اللَّهُ عَنْهُ سَبْعَ خَطِيئَاتٍ» . وَفِي الْكَامِلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فَكَأَنَّمَا قَتَلَ شَيْطَانًا» . وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَزَغَ فُوَيْسِقًا كَالْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ أَصْلَ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِدَالِ، وَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ خَرَجَتْ عَنْ خَلْقِ مُعْظَمِ الْحَشَرَاتِ بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ، وَالْأَذَى وَتَقْيِيدِ الْحَسَنَاتِ بِأَنَّ فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى مِائَةَ حَسَنَةٍ وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعِينَ مُخَرَّجٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَبْعٌ وَعِشْرُونَ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ» مِنْ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَا يُعْمَلُ بِهِ، فَذِكْرُ السَّبْعِينَ لَا يَمْنَعُ الْمِائَةَ أَوْ لَعَلَّهُ أَخْبَرَ بِالسَّبْعِينَ، ثُمَّ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِالزِّيَادَةِ فَأَخْبَرَ بِهَا، أَوْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَاتِلِ مِنْ حَيْثُ إخْلَاصُ النِّيَّةِ وَكَثْرَةُ الْحَسَنَاتِ فِي الْمُبَادَرَةِ أَنْ تَكُونَ الضَّرَبَاتُ فِي الْقَتْلِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، إذْ لَوْ قَوِيَ عَزْمُهُ وَاشْتَدَّتْ حَمِيَّتُهُ لَقَتَلَهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَعَدَمُ قَتْلِهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى دَلَّ عَلَى ضَعْفِ عَزْمِهِ فَلِذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 نَقَصَ أَجْرُهُ عَنْ الْمِائَةِ إلَى السَّبْعِينَ. وَعَلَّلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ كَثْرَةَ الْحَسَنَاتِ فِي الْأُولَى بِأَنَّهُ إحْسَانٌ فِي الْقَتْلِ فَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ» ، أَوْ لِأَنَّهُ مُبَادَرَةٌ إلَى الْخَيْرِ فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] قَالَ: وَعَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ فَالْحَيَّةُ، وَالْعَقْرَبُ أَوْلَى بِذَلِكَ لِعَظْمِ مَفْسَدَتِهِمَا. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ حَيَّةً فَلَهُ سَبْعُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَتَلَ وَزَغًا فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ تَرَكَ حَيَّةً مَخَافَةَ عَاقِبَتِهَا فَلَيْسَ مِنَّا» . (فَائِدَةٌ) : ذَكَرَ أَصْحَابُ الْآثَارِ أَنَّ الْوَزَغَ أَصَمُّ. قَالُوا وَالسَّبَبُ فِي صَمَمِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَفْخِهِ النَّارَ فَصُمَّ بِذَلِكَ وَبَرِصَ، وَمِنْ طَبْعِهِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ رَائِحَةُ الزَّعْفَرَانِ وَيَأْلَفُ الْحَيَّاتِ كَمَا تَأْلَفُ الْعَقَارِبُ الْخَنَافِسَ. وَلَمَّا ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ أَنْوَاعِ الْحَشَرَاتِ الَّتِي تُقْتَلُ فِي الْحِلِّ، وَالْحَرَمِ لِلْحَلَالِ، وَالْمُحْرِمِ، وَأَنَّ فِي قَتْلِهَا مَزِيدَ الثَّوَابِ، خَشِيَ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ عُمُومَ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ كَالنَّمْلِ، فَنَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ بِقَوْلِهِ: مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ قَتْلِ النَّمْلِ إذَا لَمْ يُؤْذِ: وَيُكْرَهُ قَتْلُ النَّمْلِ إلَّا مَعَ الْأَذَى ... بِهِ وَاكْرَهَنْ بِالنَّارِ إحْرَاقَ مُفْسِدِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (قَتْلُ النَّمْلِ) وَاحِدَتُهُ نَمْلَةٌ، وَقَدْ تُضَمُّ الْمِيمُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (إلَّا مَعَ الْأَذَى) الصَّادِرِ (بِهِ) أَيْ بِالنَّمْلِ فَلَا يُكْرَهُ حِينَئِذٍ قَتْلُهُ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُكْرَهُ قَتْلُ النَّمْلِ إلَّا مِنْ أَذِيَّةٍ شَدِيدَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُنَّ يَعْنِي حَيْثُ حَصَلَ الْأَذَى. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «نَزَلَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَحْرَقَ قَرْيَةَ النَّمْلِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَمِنْ أَجْلِ أَنْ لَدَغَتْك نَمْلَةٌ أَحْرَقْت أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ، وَالْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ، فَهَذَا نَهْيٌ وَأَقَلُّ أَحْوَالِ النَّهْيِ الْكَرَاهَةُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ أَنَّ قَتْلَ النَّمْلِ وَالنَّحْلِ وَالضُّفْدَعِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِرِ الْفُصُولِ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ النَّمْلِ وَلَا تَخْرِيبُ أَجْحُرِهِنَّ بِمَا يَضُرُّهُنَّ انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ إحْرَاقِ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ. وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ مَعَ عَدَمِ الْأَذَى، وَأَمَّا إذَا حَصَلَ مِنْ النَّمْلِ أَذًى فَيُبَاحُ قَتْلُهُ نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: إذَا آذَاك النَّمْلُ فَاقْتُلْهُ وَرَأَى أَبُو الْعَالِيَةِ نَمْلًا عَلَى بِسَاطٍ فَقَتَلَهُنَّ. وَعَنْ طَاوُوسٍ إنَّا لَنُغْرِقُ النَّمْلَ بِالْمَاءِ يَعْنِي إذَا آذَتْنَا (وَاكْرَهَنْ) فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٌ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ أَيْ اكْرَهْ أَيُّهَا الْمُتَشَرِّعُ (بِالنَّارِ إحْرَاقَ مُفْسِدٍ) فَالْجَارُ، وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِإِحْرَاقٍ أَيْ اكْرَهْ إحْرَاقَ مُفْسِدٍ بِالنَّارِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ. فَيُكْرَهُ حَرْقُ كُلِّ ذِي رُوحٍ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ كَالنَّمْلِ، وَالْقَمْلِ، وَالْبَرَاغِيثِ، وَالْبَقِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبَ بِهَا إلَّا اللَّهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَقْنَاهَا فَقَالَ: مَنْ حَرَقَ هَذِهِ قُلْنَا: نَحْنُ قَالَ: إنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: هَلْ يَجُوزُ إحْرَاقُ بُيُوتِ النَّمْلِ؟ فَقَالَ: يُدْفَعُ ضَرَرُهُ بِغَيْرِ الْحَرِيقِ انْتَهَى. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ التَّحْرِيمُ، وَقَطَعَ بِهِ النَّوَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّة؛ وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَلَوْ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ ثُمَّ أُجِيزَ مَعَ ... أَذًى لَمْ يَزُلْ إلَّا بِهِ لَمْ أُبَعِّدْ (وَلَوْ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ) أَيْ تَحْرِيمِ إحْرَاقِ الْمُفْسِدِ بِالنَّارِ (ثُمَّ أُجِيزَ) أَيْ، ثُمَّ قِيلَ بِالْجَوَازِ (مَعَ) حُصُولِ (أَذًى) مِنْهُ وَ (لَمْ يَزُلْ) الْأَذَى الْحَاصِلُ مِنْ النَّمْلِ (إلَّا بِهِ) أَيْ بِالتَّحْرِيقِ (لَمْ أُبَعِّدْ) أَنَا ذَلِكَ، بَلْ أَرَاهُ قَرِيبًا لِلصَّوَابِ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ، وَالْكِتَابِ هَذَا عَلَى رَأْيِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ - وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ النَّاظِمِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ تَزُولَ الْحُرْمَةُ إذَا لَمْ يَزُلْ الضَّرَرُ الْحَاصِلُ مِنْهُ دُونَ مَشَقَّةٍ غَالِبَةٍ إلَّا بِالنَّارِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَمَيْلُ صَاحِبِ النَّظْمِ إلَى تَحْرِيمِ إحْرَاقِ كُلِّ ذِي رُوحٍ بِالنَّارِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَاقُ مَا يُؤْذِي بِلَا كَرَاهَةٍ إذَا لَمْ يَزُلْ ضَرَرُهُ دُونَ مَشَقَّةٍ غَالِبَةٍ إلَّا بِالنَّارِ، وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ النَّبِيِّ الَّذِي أَحْرَقَ قَرْيَةَ النَّمْلِ، فَهَذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ وَكَأَنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْهُ، وَقَالَ: إنَّهُ سَأَلَ عَمَّا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ الشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ صَاحِبَ الشَّرْحِ فَقَالَ: مَا هُوَ بِبَعِيدٍ انْتَهَى. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا جَوَازُ إحْرَاقِ الزَّنَابِيرِ إذَا حَلَّ بِهَا ضَرَرٌ شَدِيدٌ وَلَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِهِ انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِهِ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتِيَارُ الْحُرْمَةِ، ثُمَّ زَوَالُهَا لِلْحَاجَةِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ إحْرَاقَ نَحْوِ النَّمْلِ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ وَحَيْثُ عَلِمْت أَنَّهُ مَكْرُوهٌ عَلِمْت زَوَالَ الْكَرَاهَةِ لِلْحَاجَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي اسْمِ نَمْلَةِ سُلَيْمَانَ وَبَيَانِ فِطْنَتِهَا وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُهَا مِنْ الْبَلَاغَةِ. (فَوَائِدُ: الْأُولَى) اسْمُ النَّمْلَةِ الَّتِي قَالَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] صطاخية قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ اسْمُهَا خَرْمَى، فَإِنَّ قِيلَ: كَيْف يُتَصَوَّرُ الْحَطْمُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ وَهُمْ عَلَى الْبِسَاطِ، وَالرِّيحُ تَحْمِلُهُمْ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا قَبْلَ تَسْخِيرِ الرِّيحِ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَوْ بَعْدَهُ وَيَكُونُ بَعْضُ جُنْدِهِ رَاكِبًا تُطْوَى لَهُمْ الْأَرْضُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ نَزَلُوا عَنْ الْبِسَاطِ لِقَصْدِ الْفُرْجَةِ وَالتَّبَيُّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِيَةُ) : قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: وَيَكْفِي مِنْ فِطْنَتِهَا يَعْنِي النَّمْلَةَ مَا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهَا لِجَمَاعَةِ النَّمْلِ، وَقَدْ رَأَتْ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَجُنُودَهُ {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] فَتَكَلَّمَتْ بِعَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ النَّصِيحَةِ: النِّدَاءُ، وَالتَّنْبِيهُ وَالتَّسْمِيَةُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالتَّحْذِيرُ، وَالتَّخْصِيصُ، وَالتَّعْمِيمُ، وَالِاعْتِذَارُ. فَاشْتَمَلَتْ نَصِيحَتُهَا مَعَ الِاخْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْعَشَرَةِ، وَلِذَلِكَ أَعْجَبَ سُلَيْمَانَ قَوْلُهَا وَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْهُ وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُوزِعَهُ شُكْرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَهَا. قَالَ: وَلَا تُسْتَبْعَدُ هَذِهِ الْفِطْنَةُ مِنْ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ بِحَمْدِ رَبِّهَا، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ الَّذِي نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يُقَالُ لِإِخْرَاجِ النَّمْلِ. (الثَّالِثَةُ) : ذَكَرَ الْخَلَّالُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ عَنْ وَالِدِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَوَّازِ قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَبِيبَةُ مَوْلَاةُ الْأَحْنَفِ أَنَّهَا رَأَتْ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ وَرَآهَا تَقْتُلُ نَمْلَةً فَقَالَ: لَا تَقْتُلِيهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 ثُمَّ دَعَا بِكُرْسِيٍّ فَجَلَسَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكُنَّ إلَّا خَرَجْتُنَّ مِنْ دَارِي فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ تُقْتَلْنَ فِي دَارِي قَالَ: فَخَرَجْنَ فَمَا رُئِيَ مِنْهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَاحِدَةٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: رَأَيْت أَبِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَ ذَلِكَ حَرَّجَ عَلَى النَّمْلِ وَأَكْبَرُ عِلْمِي أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيٍّ كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ لِوُضُوءِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ رَأَيْت النَّمْلَ قَدْ خَرَجْنَ بَعْدَ ذَلِكَ نَمْلٌ كِبَارٌ سُودٌ فَلَمْ أَرَهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي جَوَازِ تَشْمِيسِ دُودِ الْقَزِّ، وَأَنَّهُ مِنْ أَعْجَبِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبَيَانِ تَرْبِيَتِهِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحَرِيرِ مِنْهُ: وَقَدْ جَوَّزَ الْأَصْحَابُ تَشْمِيسَ قَزِّهِمْ ... وَتَدْخِينَ زُنْبُورٍ وَشَيًّا بِمَوْقِدِ (وَقَدْ جَوَّزَ الْأَصْحَابُ) مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الْمُعْتَدِّ بِأَقْوَالِهِمْ، وَالْمُعَوَّلِ عَلَى نَقْلِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ (تَشْمِيسَ قَزِّهِمْ) أَيْ الْإِبْرَيْسَمِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْتُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ تَشْمِيسِ الْقَزِّ يَمُوتُ الدُّودُ فِيهِ قَالَ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ؟ قُلْت يَجِفُّ الْقَزُّ، وَإِنْ تَرَكَهُ كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ كَثِيرٌ قَالَ: إذَا لَمْ يَجِدُوا مِنْهُ بُدًّا وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنْ يُعَذِّبُوا بِالشَّمْسِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ النَّاظِمُ جَوَازَ ذَلِكَ لِلْأَصْحَابِ مَعَ أَنَّهُ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِضِيقِ النَّظْمِ وَلِأَنَّ مَا أُسْنِدَ إلَيْهِمْ يَكُونُ مُسْنَدًا إلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَسْتَمِدُّونَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ صَرِيحًا أَوْ تَلْوِيحًا، أَوْ قِيَاسًا عَلَى كَلَامِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ دُودَةَ الْقَزِّ يُقَالُ لَهَا الدُّودَةُ الْهِنْدِيَّةُ، وَهِيَ مِنْ أَعْجَبِ الْمَخْلُوقَاتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ أَوَّلًا بَزْرًا فِي قَدْرِ حَبِّ التِّينِ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ فَصْلِ الرَّبِيعِ وَيَكُونُ عِنْدَ الْخُرُوجِ أَصْغَرَ مِنْ الذُّرَةِ فِي لَوْنِهِ وَيَخْرُجُ فِي الْأَمَاكِنِ الدَّفِئَةِ مِنْ غَيْرِ حَضْنٍ إذَا كَانَ مَصْرُورًا فِي حُقٍّ، وَرُبَّمَا تَأَخَّرَ خُرُوجُهُ فَتَجْعَلُهُ النِّسَاءُ تَحْتَ ثَدْيِهِنَّ وَإِبِطِهِنَّ وَغِذَاؤُهُ وَرَقُ التُّوتِ الْأَبْيَضِ وَلَا يَزَالُ يَكْبُرُ وَيَعْظُمُ إلَى أَنْ يَصِيرَ فِي قَدْرِ الْإِصْبَعِ وَيَنْتَقِلُ مِنْ السَّوَادِ إلَى الْبَيَاضِ أَوَّلًا فَأَوَّلًا، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ سِتِّينَ يَوْمًا فِي الْأَكْثَرِ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النَّسْجِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُخْرِجُهُ مِنْ فِيهِ إلَى أَنْ يَنْفَدَ مَا فِي جَوْفِهِ مِنْهُ وَيَكْمُلَ عَلَيْهِ مَا يَبْنِيه فَيَكُونُ كَهَيْئَةِ الْجَوْزَةِ فَيَبْقَى فِيهِ مَحْبُوسًا قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَنْقُبُ عَلَى نَفْسِهِ تِلْكَ الْجَوْزَةَ وَيَخْرُجُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 مِنْهَا فَرَاشًا أَبْيَضَ لَهُ جَنَاحَانِ لَا يَسْكُنَانِ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ يَهِيجُ إلَى السِّفَادِ فَيُلْصِقُ الذَّكَرُ ذَنَبَهُ بِذَنَبِ الْأُنْثَى وَيَلْتَحِمَانِ مُدَّةً، ثُمَّ يَفْتَرِقَانِ وَتُبْرِزُ الْأُنْثَى الْبَزْرَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى خِرَقٍ بِيضٍ تُفْرَشُ لَهُ قَصْدًا إلَى أَنْ يَنْفَدَ مَا فِيهَا مِنْهُ، ثُمَّ يَمُوتَانِ. هَذَا إذَا أُرِيدَ مِنْهُمَا الْبِزْرُ، وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ الْحَرِيرُ تُرِكَ فِي الشَّمْسِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ النَّسْجِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَيَمُوتُ. وَفِيهِ مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ أَنَّهُ يَهْلِكُ مِنْ صَوْتِ الرَّعْدِ وَضَرْبِ الطَّسْتِ، وَالْهَاوُنِ وَمِنْ شَمِّ الْخَلِّ وَالدُّخَانِ وَمَسِّ الْحَائِضِ، وَالْجُنُبِ وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْفَأْرِ، وَالْعُصْفُورِ وَالنَّمْلِ، وَالْوَزَغِ وَكَثْرَةِ الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ. قَالَ فِي قُوتِ الْقُلُوبِ: مَثَّلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ ابْنَ آدَمَ بِدُودَةِ الْقَزِّ لَا يَزَالُ يَنْسِجُ عَلَى نَفْسِهِ بِجَهْلِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ مَخْلَصٌ فَيَقْتُلَ نَفْسَهُ وَيَصِيرَ الْقَزُّ لِغَيْرِهِ وَرُبَّمَا قَتَلُوهُ إذَا فَرَغَ مِنْ نَسْجِهِ؛ لِأَنَّ الْقَزَّ يَلْتَفُّ عَلَيْهِ فَيَرُومُ الْخُرُوجَ فَيُشَمَّسُ وَرُبَّمَا غُمِزَ بِالْأَيْدِي حَتَّى يَمُوتَ لِئَلَّا يُقَطِّعَ الْقَزَّ وَلِيَخْرُجَ الْقَزُّ صَحِيحًا فَهَذِهِ صُورَةُ الْمُكْتَسِبِ الْجَاهِلِ الَّذِي أَهْلَكَهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ فَتَنْعَمَ وَرَثَتُهُ بِمَا شَقِيَ هُوَ بِهِ، فَإِنْ أَطَاعُوا بِهِ كَانَ أَجْرُهُ لَهُمْ وَحِسَابُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَصَوْا بِهِ كَانَ شَرِيكَهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ فِي ارْتِكَابِهِمْ لَهَا بِهِ فَلَا يُدْرَى أَيُّ الْحَسْرَتَيْنِ عَلَيْهِ أَعْظَمُ: إذْهَابُهُ عُمْرَهُ لِغَيْرِهِ، أَوْ نَظَرُهُ لِمَا لَهُ فِي مِيزَانِ غَيْرِهِ. مَطْلَبٌ: إذَا تَرَكَ الْمَوْرُوثُ مَالًا وَعَصَى بِهِ الْوَرَثَةُ هَلْ يَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ أَمْ لَا؟ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَلَفَ مَالًا فَعَصَى بِهِ الْوَرَثَةُ يَكُونُ الْمُوَرِّثُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْمَعْصِيَةِ، فَأَجَبْت عَنْهَا بِأَنَّهُ إنْ كَانَ اكْتَسَبَ الْمَالَ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ وَأَدَّى الْحُقُوقَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يَكُنْ وَجْهٌ لِمُشَارَكَةِ الْوَرَثَةِ فِي مَعْصِيَتِهِمْ بِالْمَالِ بِلَا مُحَالٍ. وَأَمَّا إذَا جَمَعَهُ مِنْ حِلٍّ وَحَرَمٍ وَمَنَعَ مِنْهُ الْحُقُوقَ الْمَطْلُوبَةَ شَرْعًا، فَهَذَا يُعَذَّبُ بِنَفْسِ الْجَمْعِ، وَالْمَنْعِ، لَا بِمَعْصِيَةِ غَيْرِهِ. وَمِنْ ثَمَّ يُقَالُ: أَشَدُّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ جَمَعَ مَالَهُ مِنْ حِلٍّ وَحَرَمٍ وَمَنَعَ مِنْهُ حُقُوقَ اللَّهِ، ثُمَّ مَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَجَاءَ وَارِثُهُ فَوَجَدَ مَالًا حَاصِلًا مُجْتَمِعًا فَصَرَفَهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، ثُمَّ مَاتَ فَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ فَذَاكَ جَمَعَهُ وَصَرَفَ فِي جَمْعِهِ عُمُرَهُ، ثُمَّ دَخَلَ بِهِ النَّارَ، وَهَذَا وَجَدَهُ مَجْمُوعًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 لَمْ يَصْرِفْ مِنْ عُمُرِهِ فِي جَمْعِهِ لَحْظَةً وَاحِدَةً وَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ. وَمِثْلُ هَذَا عَالِمٌ عَلَّمَ النَّاسَ الْعِلْمَ فَانْتَفَعُوا بِعِلْمِهِ فَدَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَهُوَ دَخَلَ النَّارَ لِعَدَمِ عَمَلِهِ بِمَا يَعْلَمُ، وَكَذَا رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا كَافِرًا فَأَسْلَمَ وَدَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَوْلَاهُ دَخَلَ النَّارَ بِإِسَاءَتِهِ إلَيْهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَشَارَ أَبُو الْفَتْحِ الْبُسْتِيُّ إلَى قَضِيَّةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَشْبِيهِ الْإِنْسَانِ بِدُودِ الْقَزِّ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرْءَ طُولَ حَيَاتِهِ ... مُعَنًّى بِأَمْرٍ لَا يَزَالُ يُعَالِجُهْ كَدُودِ الْقَزِّ يَنْسِجُ دَائِمًا ... وَيَهْلِكُ غَمًّا وَسْطَ مَا هُوَ نَاسِجُهْ (وَقَالَ آخَرُ) يُفْنِي الْحَرِيصُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوَادِثِ مَا يُبْقِي وَمَا يَدَعُ كَدُودَةِ الْقَزِّ مَا تَبْنِيهِ يُهْلِكُهَا ... وَغَيْرُهَا بِاَلَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ مَطْلَبٌ: فِي جَوَازِ التَّدْخِينِ لِلزُّنْبُورِ وَفِيهِ حِكَايَتَانِ لَطِيفَتَانِ. (وَ) قَدْ جَوَّزَ الْأَصْحَابُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (تَدْخِينَ زُنْبُورٍ) ، وَهُوَ الدَّبْرُ وَيُؤَنَّثُ وَرُبَّمَا سُمِّيَتْ النَّحْلَةُ زُنْبُورًا، وَالْجَمْعُ الزَّنَابِيرُ، وَهُوَ مَقْسُومٌ مِنْ وَسَطِهِ وَلِذَلِكَ لَا يَتَنَفَّسُ مِنْ جَوْفِهِ أَلْبَتَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: قَدْ يُجْعَلُ الْمُتَوَقَّعُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ دَخَلَ عَلَى أَبِيهِ، وَهُوَ طِفْلٌ يَبْكِي فَقَالَ: لَهُ مَا أَبْكَاك فَقَالَ: لَسَعَنِي طَائِرٌ كَأَنَّهُ مُلْتَفٌّ فِي بَرَدَى حَبَرَةٍ فَقَالَ حَسَّانُ: يَا بُنَيَّ قُلْتَ الشِّعْرَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ يَعْنِي سَتَقُولُهُ جَعَلَ الْمُتَوَقَّعَ كَالْوَاقِعِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي الزُّنْبُورِ: وَلِلزُّنْبُورِ وَالْبَازِي جَمِيعًا ... قُوَى الطَّيَرَانِ أَجْنِحَةٌ وَخَفْقٌ وَلَكِنْ بَيْنَ مَا يَصْطَادُ بَازٌ ... وَمَا يَصْطَادُهُ الزُّنْبُورُ فَرْقُ وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ التَّيْمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ وَمَعَنَا رَجُلٌ يَشْتُمُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَنَهَيْنَاهُ فَلَمْ يَنْتَهِ فَخَرَجَ لِبَعْضِ حَاجَاتِهِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الزَّنَابِيرُ فَاسْتَغَاثَ فَأَغَثْنَاهُ فَحَمَلَتْ عَلَيْنَا فَتَرَكْنَاهُ، فَمَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ حَتَّى قَطَّعَتْهُ قِطَعًا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ سَبُعٍ فِي شِفَاءِ الصُّدُورِ وَزَادَ عَلَيْهِ فَحَفَرْنَا لَهُ قَبْرًا فَصَلُبَتْ الْأَرْضُ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى حَفْرِهَا فَأَلْقَيْنَاهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا عَلَيْهِ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ، وَالْحِجَارَةِ وَجَلَسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَبُولُ فَوَقَعَ عَلَى ذَكَرِهِ زُنْبُورٌ مِنْ تِلْكَ الزَّنَابِيرِ فَلَمْ يَضُرَّهُ بِشَيْءٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ مَأْمُورَةً، وَقَدْ سُئِلَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا نَقَلَهُ الْمَرُّوذِيُّ يُدَخَّنُ لِلزَّنَابِيرِ؟ قَالَ إذَا خَشِيَ أَذَاهُمْ فَلَا بَأْسَ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ تَحْرِيقِهِ؛ لِأَنَّ فِي التَّدْخِينِ لَهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْهَا وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. وَيُسْتَحَبُّ قَتْلُهَا لِمَا رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَتَلَ زُنْبُورًا اكْتَسَبَ ثَلَاثَ حَسَنَاتٍ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَكِنْ يُكْرَهُ إحْرَاقُ بُيُوتِهَا بِالنَّارِ، فَإِنْ كَانَتْ بُيُوتُ الزَّنَابِيرِ فِي نَحْوِ حَائِطٍ لَا يُمْكِنُ هَدْمُهُ أَوْ يُمْكِنُ لَكِنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ ضَرَرٌ جَازَ حَرْقُهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَ) جَوَّزَ الْأَصْحَابُ أَيْضًا (شَيًّا) هُوَ مِنْ قَوْلِك شَوَيْت اللَّحْمَ شَيًّا قَالَ فِي الْقَامُوسِ: شَوَى اللَّحْمَ شَيًّا فَانْشَوَى وَأَشْوَى، وَهُوَ الشِّوَاءُ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ (بِمَوْقِدٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ مَوْضِعُ الْوَقُودِ، وَالْمُرَادُ إبَاحَةُ وَقُودِ النَّارِ عَلَى الزَّنَابِيرِ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِ نِظَامِهِ، وَلَوْ بِلَا حَاجَةٍ وَقَيَّدَهُ الْحَجَّاوِيُّ بِالضَّرُورَةِ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِالضَّرُورَةِ الْحَاجَةُ إذْ حَرْقُ الزُّنْبُورِ مَكْرُوهٌ، وَالْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِأَدْنَى حَاجَةٍ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ الْمَذْهَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الدَّوَاءِ مُضِرٌّ: وَيُكْرَهْ لِنَهْيِ الشَّرْعِ عَنْ قَتْلِ ضِفْدَعٍ ... وَصِرْدَانِ طَيْرٍ قَتْلُ ذَيْنِ وَهُدْهُدِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (لِ) أَجْلِ (نَهْيِ الشَّرْعِ) يَعْنِي الشَّارِعَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عَنْ قَتْلِ) أَيْ إزْهَاقِ رُوحِ (ضِفْدِعٍ) مِثَالُ خِنْصِرٍ وَاحِدُ الضَّفَادِعُ، وَالْأُنْثَى ضِفْدِعَةٌ، وَنَاسٌ يَقُولُونَ: ضِفْدَعٌ بِفَتْحِ الدَّالِ، قَالَ الْخَلِيلُ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعْلَلٌ إلَّا أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ: دِرْهَمٌ وَهِجْرَعٌ، وَهُوَ الطَّوِيلُ، وَهِبْلَعٌ، وَهُوَ الْأَعْزَلُ، وَقِلْعَمٌ، وَهُوَ اسْمٌ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: الْأَشْهَرُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ كَسْرُ الدَّالِ وَفَتْحُهَا أَشْهُرُ فِي أَلْسِنَةِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ ضِفْدِعٌ كَزِبْرِجٍ وَجَعْفَرٍ وَجُنْدُبٍ وَدِرْهَمٍ وَهَذَا أَقَلُّ أَوْ مَرْدُودٌ، دَابَّةٌ نَهْرِيَّةٌ. فَيُكْرَهُ قَتْلُ الضَّفَادِعِ كَمَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَعَبَّرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِلَا يَجُوزُ فَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد «أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا» . وَقَدْ تَرَكَ الْأَطِبَّاءُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 اسْتِعْمَالَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ الشَّدِيدِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الضِّفْدَعُ لَا تُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ. قَالَ فِي الْقَانُونِ مَنْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الضِّفْدَعِ أَوْ جُرْحِهِ وَرِمَ بَدَنُهُ وَكَمِدَ لَوْنُهُ وَقَذَفَ الْمَنِيَّ حَتَّى يَمُوتَ وَلِذَلِكَ تَرَكَ الْأَطِبَّاءُ اسْتِعْمَالَهُ خَوْفًا مِنْ ضَرَرِهِ. وَالضَّفَادِعُ نَوْعَانِ مَائِيَّةٌ وَتُرَابِيَّةٌ وَالتُّرَابِيَّةُ يَقْتُلُ أَكْلُهَا. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الضَّفَادِعُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ وَتَكُونُ مِنْ سِفَادٍ وَغَيْرِ سِفَادِ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْمِيَاهِ الْقَائِمَةِ الضَّعِيفَةِ الْجَرْيِ وَمِنْ الْعُفُونَاتِ وَغِبِّ الْأَمْطَارِ الْغَزِيرَةِ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ يَقَعُ مِنْ السَّحَابِ لِكَثْرَةِ مَا يُرَى مِنْهُ عَلَى الْأَسْطِحَةِ عَقِبَ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَإِنَّمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنْ طِبَاعِ تِلْكَ التُّرْبَةِ، وَهِيَ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا عِظَامَ لَهَا، وَمِنْهَا مَا يَنِقُّ، وَمِنْهَا مَا لَا يَنِقُّ وَاَلَّذِي يَنِقُّ مِنْهَا يَخْرُجُ صَوْتُهُ مِنْ قُرْبِ أُذُنِهِ وَيُوصَفُ بِحِدَةِ السَّمْعِ، وَإِذَا أَرَادَتْ النَّقِيقَ أَدْخَلَتْ فَكَّهَا الْأَسْفَلَ فِي الْمَاءِ وَمَتَى دَخَلَ الْمَاءُ فِي فَكِّهَا لَا تَنِقُّ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَقَدْ عُوتِبَ عَلَى قِلَّةِ كَلَامِهِ: قَالَتْ الضِّفْدَعُ قَوْلًا ... فَسَّرَتْهُ الْحُكَمَاءُ فِي فَمِي مَاءٌ وَهَلْ يَنْطِقُ مَنْ فِي فِيهِ مَاءُ مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ نَقِيقَ الضِّفْدَعِ تَسْبِيحٌ لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ سُفْيَانُ: يُقَالُ: إنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ مِنْ الضِّفْدَعِ. وَفِي الْكَامِلِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ ضِفْدَعًا أَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَثَابَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى بَرْدَ الْمَاءِ وَجَعَلَ نَقِيقَهُنَّ التَّسْبِيحَ. وَفِي كِتَابِ الزَّاهِرِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: لَأُسَبِّحَنَّ اللَّهَ تَسْبِيحًا مَا سَبَّحَهُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ فَنَادَتْهُ ضِفْدَعٌ مِنْ سَاقِيَةٍ فِي دَارِهِ يَا دَاوُد تَفْخَرُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَسْبِيحِك، وَإِنَّ لِي لَسَبْعِينَ سَنَةً مَا جَفَّ لِسَانِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّ لِي لَعَشْرَ لَيَالٍ مَا طَعِمْت خَضْرَاءَ وَلَا شَرِبْت مَاءً اشْتِغَالًا بِكَلِمَتَيْنِ فَقَالَ: مَا هُمَا فَقَالَتْ: يَا مُسَبَّحًا بِكُلِّ لِسَانٍ، وَمَذْكُورًا بِكُلِّ مَكَان، فَقَالَ دَاوُد فِي نَفْسِهِ وَمَا عَسَى أَنْ أَقُولَ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا. وَفِي شُعَبِ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ظَنَّ فِي نَفْسِهِ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَمْدَحْ خَالِقَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا مَدَحَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا، وَهُوَ قَاعِدٌ فِي مِحْرَابِهِ، وَالْبِرْكَةُ إلَى جَانِبِهِ فَقَالَ: يَا دَاوُد افْهَمْ مَا تُصَوِّتُ بِهِ الضِّفْدَعُ فَأَنْصَتَ إلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ تَقُولُ: سُبْحَانَك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وَبِحَمْدِك مُنْتَهَى عِلْمِك فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: كَيْفَ تَرَى فَقَالَ وَاَلَّذِي جَعَلَنِي نَبِيًّا إنِّي لَمْ أَمْدَحْهُ بِهَا. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَا تَقْتُلُوا الضِّفْدَعَ، فَإِنَّهَا مَرَّتْ بِنَارِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَحَمَلَتْ فِي أَفْوَاهِهَا الْمَاءَ وَرَشَّتْ بِهِ عَلَى النَّارِ» . مَطْلَبٌ: فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالضُّفْدَعِ وَالصُّرَدِ، وَالْهُدْهُدِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ خَمْسَةٍ النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ وَالضِّفْدَعُ وَالصُّرَدُ، وَالْهُدْهُدُ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ» (وَ) يُكْرَهُ قَتْلُ (صِرْدَانٍ) جَمْعُ صُرَدٍ لِنَهْيِ الشَّرْعِ عَنْ قَتْلِهَا وَالصِّرْدَانُ (طَيْرٌ) قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الصُّرَدُ كَرُطَبٍ هُوَ فَوْقَ الْعُصْفُورِ يَصِيدُ الْعَصَافِيرَ، وَالْجَمْعُ صِرْدَانٌ قَالَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَهُوَ أَبْقَعُ ضَخْمُ الرَّأْسِ يَكُونُ فِي الشَّجَرِ نِصْفُهُ أَبْيَضُ وَنِصْفُهُ أَسْوَدُ ضَخْمُ الْمِنْقَارِ لَهُ بُرْثُنٌ عَظِيمٌ يَعْنِي أَصَابِعُهُ عَظِيمَةٌ لَا يُرَى إلَّا فِي شَعَفَةِ الْجِبَالِ، أَوْ فِي شَجَرَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ شِرِّيرُ النَّفْسِ شَدِيدُ النَّفْرَةِ، غِذَاؤُهُ مِنْ اللَّحْمِ وَلَهُ صَفِيرٌ مُخْتَلِفٌ يُصَفِّرُ لِكُلِّ طَائِرٍ يُرِيدُ صَيْدَهُ بِلُغَتِهِ فَيَدْعُوهُ إلَى التَّقَرُّبِ مِنْهُ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ شَدَّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَلَهُ مِنْقَارٌ شَدِيدٌ، فَإِذَا نَقَرَ وَاحِدًا قَدَّهُ مِنْ سَاعَتِهِ وَأَكَلَهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ قَانِعٍ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ أَبِي غَلِيظٍ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ قَالَ: «رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى يَدِي صُرَدٌ فَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ طَيْرٍ صَامَ عَاشُورَاءَ» ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى قَالَ الْحَاكِمُ: وَهُوَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَضَعَهَا قَتَلَةُ الْحُسَيْنِ. قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ هُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ رُوَاتُهُ مَجْهُولُونَ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ لَطَائِفِ الْمَعَارِفِ وَمِنْ أَعْجَبِ مَا وَرَدَ فِي عَاشُورَاءَ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ الْوَحْشُ، وَالْهَوَامُّ. رُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ «الصُّرَدَ أَوَّلُ طَيْرٍ صَامَ عَاشُورَاءَ» خَرَّجَهُ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَإِسْنَادُهُ غَرِيبٌ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَحُكْمُ هَذَا الطَّيْرِ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ لِمَا رَوَى سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ قَتْلِ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ، وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ» . وَالنَّهْيُ عَنْ الْقَتْلِ دَلِيلٌ عَلَى الْحُرْمَةِ، إذَا عَلِمْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 مَا ذَكَرْت لَك مِنْ الدَّلِيلِ وَالتَّعْلِيلِ ظَهَرَ لَك أَنَّهُ يُكْرَهُ (قَتْلُ ذَيْنِ) يَعْنِي الضِّفْدَعَ وَالصُّرَدَ (وَ) يُكْرَهُ أَيْضًا قَتْلُ (هُدْهُدٍ) بِضَمِّ الْهَاءَيْنِ) وَإِسْكَانِ الدَّالِ بَيْنَهُمَا هُوَ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ ذُو خُطُوطٍ وَأَلْوَانٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْأَخْبَارِ وَأَبُو ثُمَامَةَ وَأَبُو عِبَادٍ وَيُقَالُ لَهُ الْهَدَاهِدُ قَالَ الرَّاعِي: كَهَدَاهِدَ كَسَرَ الرُّمَاةُ جُنَاحَهُ. وَالْجَمْعُ الْهَدَاهِدُ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ طَيْرٌ مُنْتِنُ الرِّيحِ طَبْعًا وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ يَرَى الْمَاءَ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ كَمَا يَرَاهُ الْإِنْسَانُ فِي بَاطِنِ الزُّجَاجِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ دَلِيلَ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْمَاءِ، وَبِهَذَا السَّبَبِ تَفَقَّدَهُ وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي فَوَائِدِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ. حِكَايَةٌ فِي قَوْلِ الْهُدْهُدِ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَنْتَ وَعَسْكَرُك فِي ضِيَافَتِي (نُكْتَةٌ) حَكَى الْقَزْوِينِيُّ أَنَّ الْهُدْهُدَ قَالَ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فِي ضِيَافَتِي. قَالَ: أَنَا وَحْدِي؟ قَالَ: لَا أَنْتَ وَأَهْلُ عَسْكَرِك فِي جَزِيرَةِ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا. فَحَضَرَ سُلَيْمَانُ بِجُنُودِهِ فَطَارَ الْهُدْهُدُ فَاصْطَادَ جَرَادَةً وَخَنَقَهَا وَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ: كُلُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ فَاتَهُ اللَّحْمُ نَالَهُ الْمَرَقُ، فَضَحِكَ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ مِنْ ذَلِكَ حَوْلًا وَفِي ذَلِكَ قِيلَ شَعْرٌ: جَاءَتْ سُلَيْمَانَ يَوْمَ الْعَرْضِ هُدْهُدَةٌ ... أَهْدَتْ لَهُ مِنْ جَرَادٍ كَانَ فِي فِيهَا وَأَنْشَدَتْ بِلِسَانِ الْحَالِ قَائِلَةً ... إنَّ الْهَدَايَا عَلَى مِقْدَارِ هَادِيهَا لَوْ كَانَ يُهْدَى إلَى الْإِنْسَانِ قِيمَتُهُ ... لَكَانَ يُهْدَى لَك الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ قَتْلِ الْهِرِّ: وَيُكْرَهُ قَتْلُ الْهِرِّ إلَّا مَعَ الْأَذَى ... وَإِنْ مُلِكَتْ فَاحْظُرْ إذَنْ غَيْرَ مُفْسِدِ (وَيُكْرَهُ) أَيْضًا تَنْزِيهًا (قَتْلُ) أَيْ إرْهَاقُ رُوحِ (الْهِرِّ) بِالْكَسْرِ، وَهُوَ السِّنَّوْرُ، وَالْجَمْعُ هِرَرَةٌ كَقِرْدٍ وَقِرَدَةٍ، وَالْأُنْثَى هِرَّةٌ. وَيُرْوَى أَنَّ الْهِرَّةَ خُلِقَتْ مِنْ عَطْسَةِ الْأَسَدِ، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَرِجَالُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَأَى رَجُلًا يَشْرَبُ قَائِمًا فَقَالَ لَهُ: أَيَسُرُّك أَنْ يَشْرَبَ مَعَك الْهِرُّ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَقَدْ شَرِبَ مَعَك الشَّيْطَانُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 [مَطْلَبٌ: دُعَاءٌ لِتَفْرِيجِ الْكَرْبِ] دُعَاءٌ لِتَفْرِيجِ الْكَرْبِ وَفِي تَارِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَنْبَلِيِّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ ": كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أُبَشِّرُهَا بِالْبَرَاءَةِ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ لَقَدْ هَجَرَنِي الْقَرِيبُ، وَالْبَعِيدُ حَتَّى هَجَرَتْنِي الْهِرَّةُ، وَمَا عُرِضَ عَلَيَّ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ فَكُنْت أَرْقُدُ وَأَنَا جَائِعَةٌ فَرَأَيْت فِي مَنَامِي فَتًى فَقَالَ لِي: مَا لَكِ فَقُلْت حَزِينَةٌ مِمَّا ذَكَرَ النَّاسُ فَقَالَ: اُدْعِي بِهَذِهِ يُفَرِّجْ اللَّهُ عَنْك فَقُلْت: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قُولِي يَا سَابِغَ النِّعَمِ، وَيَا دَافِعَ النِّقَمِ، وَيَا فَارِجَ الْهَمِّ، وَيَا كَاشِفَ الظُّلَمِ، وَيَا أَعْدَلَ مَنْ حَكَمَ، وَيَا حَسِيبَ مَنْ ظَلَمَ، وَيَا وَلِيَّ مَنْ ظُلِمَ، وَيَا أَوَّلُ بِلَا بِدَايَةٍ، وَيَا آخِرُ بِلَا نِهَايَةٍ، وَيَا مَنْ لَهُ اسْمٌ بِلَا كُنْيَةٍ اجْعَلْ لِي مِنْ أَمْرِي فَرَجًا وَمَخْرَجًا قَالَتْ: فَانْتَبَهْتُ وَأَنَا رَيَّانَةٌ شَبْعَانَةٌ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فَرَجِي. [مَطْلَبٌ: فِي تَحْقِيقِ قَوْلِ النَّبِيِّ دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّة] مَطْلَبٌ: فِي تَحْقِيقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْصَى بِالْهِرِّ، وَقَالَ: إنَّ امْرَأَةً عُذِّبَتْ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضَ» بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِشِينَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ: هَوَامُّ الْأَرْضِ وَحَشَرَاتُهَا. وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فَتْحَ الْخَاءِ وَكَسْرَهَا وَضَمَّهَا، وَالْفَتْحُ هُوَ الْمَشْهُورُ. وَفِي الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا «رَأَيْتهَا فِي النَّارِ، وَهِيَ تَنْهَشُ قُبُلَهَا وَدُبُرَهَا» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْمَرْأَةُ الْمُعَذَّبَةُ كَمَا كَانَتْ كَافِرَةً كَمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَاسْتَحَقَّتْ التَّعْذِيبَ بِكُفْرِهَا وَظُلْمِهَا، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً وَنَفَى النَّوَوِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَطَّلِعَا عَلَى الْمَنْقُولِ فِي ذَلِكَ. وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَمَعَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْتَ الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ امْرَأَةَ عُذِّبَتْ بِالنَّارِ مِنْ أَجْلِ هِرَّةٍ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَعَمْ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ عَائِشَةُ الْمُؤْمِنُ أَكْرَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُ مِنْ أَجْلِ هِرَّةٍ إنَّمَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ ذَلِكَ كَافِرَةً يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إذَا حَدَّثْتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْظُرْ كَيْفَ تُحَدِّثُ ". وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» . مَطْلَبٌ: فِي جَوَازِ قَتْلِ الْهِرَّةِ إذَا كَانَتْ مُفْسِدَةً، وَلَوْ مَمْلُوكَةً إذَا عَلِمْت هَذَا فَيُكْرَهُ قَتْلُهَا. (إلَّا مَعَ الْأَذَى) الصَّادِرِ مِنْهَا كَأَكْلِ الطُّيُورِ وَكَفْءِ الْقُدُورِ، فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ فِي قَتْلِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْأَصْحَابِ فِي قَتْلِهَا قَوْلَيْنِ: الْحُرْمَةُ، وَالْكَرَاهَةُ. قَدَّمَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى الْحُرْمَةَ وَعِبَارَتُهُ: وَيَحْرُمُ قَتْلُ الْهِرِّ، وَقِيلَ يُكْرَهُ. (وَإِنْ مُلِكَتْ) الْهِرَّةُ بِأَنْ كَانَ لَهَا مَالِكٌ (فَاحْظُرْ) أَيْ امْنَعْ مِنْ الْقَتْلِ (إذَنْ) أَيْ حَيْثُ كَانَتْ مَمْلُوكَةً. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَإِنْ مُلِكَتْ حَرُمَ قَتْلُهَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ النَّظْمِ (غَيْرَ مُفْسِدِ) مِنْهَا، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَلَوْ مَمْلُوكًا قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ: وَلَهُ قَتْلُ هِرٍّ بِأَكْلِ لَحْمٍ وَنَحْوِهِ كَالْفَوَاسِقِ. وَقَيَّدَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَنَصَرَهُ الْحَارِثِيُّ حِينَ أَكْلِهَا فَقَطْ. وَفِي الْفُرُوعِ: وَيَضْمَنُ بِاقْتِنَاءِ سِنَّوْرٍ يَأْكُلُ فِرَاخًا عَادَةً مَعَ عِلْمِهِ كَالْكَلْبِ، وَلَهُ قَتْلُهَا بِأَكْلِ لَحْمٍ وَنَحْوِهِ كَالْفَوَاسِقِ، وَفِي الْفُصُولِ حِينَ أَكْلِهِ. وَفِي التَّرْغِيبِ إنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِهِ كَصَائِلٍ انْتَهَى. وَالْمَذْهَبُ خِلَافُ مَا فِي التَّرْغِيبِ فَظَهَرَ أَنَّ فِي الْمَذْهَبِ قَوْلَيْنِ فِي قَتْلِ الْهِرِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فَيَحْرُمُ، أَوْ يَكُنْ مُفْسِدًا فَيُبَاحُ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ فَقَطْ فَقَتْلُ الْكَلْبِ أَوْلَى. قَالَ النَّاظِمُ: وَكَذَا يَعْنِي يُبَاحُ قَتْلُهَا لَوْ كَانَ يَبُولُ عَلَى الْأَمْتِعَةِ، أَوْ يَكْسِرُ الْآنِيَةَ وَيَخْطِفُ الْأَشْيَاءَ غَالِبًا إلَّا قَلِيلًا لِمَضَرَّتِهِ، وَالْمُرَادُ بِمُلَاحَظَةِ قَيْدٍ فِي حَالَةِ الْإِفْسَادِ مِنْ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ إنْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ، وَمَنْ تَعَدَّى بِقَتْلِهَا فَضَمَانُهَا مُخَرَّجٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا. قَدَّمَ فِي الْإِقْنَاعِ الْجَوَازَ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ لَا يَجُوزُ، اخْتَارَهُ فِي الْهَدْيِ، وَالْفَائِقِ وَصَحَّحَهُ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ انْتَهَى. وَفِي الْفُرُوعِ: وَفِي بَيْعِ هِرٍّ وَمَا يُعَلَّمُ الصَّيْدَ أَوْ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ كَفِيلٍ وَفَهْدٍ وَبَازٍ وَصَقْرٍ وَعُقَابٍ وَشَاهِينَ وَنَحْوِهَا رِوَايَتَانِ انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 مَطْلَبٌ: هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْهِرِّ وَمَا يُعَلَّمُ الصَّيْدَ أَوْ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ أَمْ لَا؟ قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: بَيْعُ الْهِرِّ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ أُطْلِقَ الْخِلَافُ، وَأَطْلَقَهُ فِي الْهِدَايَةِ، وَالْمُذْهَبِ، وَالْمُسْتَوْعِبِ، وَالْخُلَاصَةِ، وَالْمُقْنِعِ وَالتَّلْخِيصِ، وَالْبُلْغَةِ، وَالْمُحَرَّرِ وَالرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ وَالزَّرْكَشِيِّ وَتَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهِمْ إحْدَاهُمَا يَجُوزُ وَيَصِحُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ صَحَّحَهُ فِي التَّصْحِيحِ، وَالْكَافِي وَالنَّظْمِ وَغَيْرِهِمْ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَابْنُ رَزِينٍ فِي شَرْحِهِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدَّمَهُ فِي الْحَاوِي الْكَبِيرِ، وَقَطَعَ بِهِ الْخِرَقِيُّ وَصَاحِبُ الْوَجِيزِ، وَالْمُنَوِّرِ وَمُنْتَخَبِ الْأَدَمِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى وَصَاحِبُ الْهَدْيِ، وَالْفَائِقِ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْهِرِّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لِلنَّهْيِ الصَّحِيحِ عَنْ بَيْعِهِ انْتَهَى. فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَذْهَبَ الصِّحَّةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالنَّهْيُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي قَوَاعِدِهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «سَأَلْت جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ فَقَالَ: زَجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْهِرِّ» وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ وُجِدَ فِيهِ جَمِيعُ شُرُوطِ الْبَيْعِ فَجَازَ بَيْعُهُ كَالْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ. وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: بِحَمْلِهِ عَلَى الْهِرِّ الْبَرِّيِّ الْوَحْشِيِّ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: لَا تُقْتَلُ حَيَّاتُ الْبُيُوتِ حَتَّى تُنْذَرَ ثَلَاثًا وَبَيَانُ عِلَّةِ الْإِنْذَارِ: وَقَتْلُكَ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ وَلَمْ تَقُلْ ... ثَلَاثًا لَهُ اذْهَبْ سَالِمًا غَيْرَ مُعْتَدِ (وَ) يُكْرَهُ (قَتْلُك) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ الْمُتَشَرِّعُ (حَيَّاتِ) جَمْعُ حَيَّةٍ، وَهِيَ النَّاشِئَةُ فِي (الْبُيُوتِ) جَمْعُ بَيْتٍ (وَ) الْحَالُ أَنَّك قَبْلَ قَتْلِك لَهَا (لَمْ تَقُلْ) أَنْتَ (ثَلَاثًا) مِنْ الْمَرَّاتِ (لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الثُّعْبَانِ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْحَيَّةَ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وَالْأُنْثَى فَالْمُرَادُ وَلَمْ تَقُلْ لِذَلِكَ الْفَرْدِ مِنْ الْحَيَّاتِ (اذْهَبْ سَالِمًا) مِنَّا فَلَا نُؤْذِيك وَلَا تُؤْذِينَا (غَيْرَ مُعْتَدٍ) أَنْتَ عَلَيْنَا وَغَيْرَ مُعْتَدِينَ نَحْنُ عَلَيْك فَكُلٌّ مِنَّا وَمِنْك يَرْبَحُ السَّلَامَةَ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْمُطَالَبِ فِي الدَّارَيْنِ وَمَا زَادَ عَنْهَا فَرِبْحٌ وَفَائِدَةٌ. وَإِنَّمَا شُرِعَ مَا ذُكِرَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَحَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ بَلَدٍ لَا تُقْتَلُ حَتَّى تُنْذَرَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَمَالِكٌ فِي آخِرِ الْمُوَطَّأِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ «أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ قَالَ: فَوَجَدْته يُصَلِّي فَجَلَسْت لِأَنْتَظِرَ فَرَاغَهُ فَسَمِعْت حَرَكَةً تَحْتَ سَرِيرٍ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْت لِأَقْتُلَهَا فَأَشَارَ إلَيَّ أَنْ اجْلِسْ فَجَلَسْت، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ قُلْت: نَعَمْ قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْخَنْدَقِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، وَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذْ عَلَيْك سِلَاحَك فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً، فَأَهْوَى إلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: اُكْفُفْ عَنْك رُمْحَك وَادْخُلْ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ، فَإِذَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مُطَوَّقَةٌ عَلَى الْفِرَاشِ فَأَهْوَى إلَيْهَا بِرُمْحِهِ فَانْتَظَمَهَا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ، فَرَكَّزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ وَخَرَّ الْفَتَى مَيِّتًا فَمَا نَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمْ الْفَتَى قَالَ: فَجِئْنَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْنَاهُ بِذَلِكَ وَقُلْنَا: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُحْيِيَهُ فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لِصَاحِبِكُمْ، ثُمَّ قَالَ إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِنْذَارِ هَلْ هُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، أَوْ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ وَكَلَامُ النَّاظِمِ صَالِحٌ لِكُلِّ مِنْهُمَا. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُسَنُّ أَنْ يُقَالَ لِلْحَيَّةِ الَّتِي فِي الْبُيُوتِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ. وَفِي الْمُجَرَّدِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ انْتَهَى. وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْيُونِينِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 الْمَذْهَبِ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ: يُسَنُّ أَنْ يُقَالَ لِلْحَيَّةِ فِي الْبُيُوتِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَفْظُهُ فِي الْفُصُولِ ثَلَاثًا وَلَفْظُهُ فِي الْمُجَرَّدِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِئْذَانِ كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهَا اذْهَبْ بِسَلَامٍ لَا تُؤْذِنَا. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ تَقُولُ: أَنْشُدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْكُنَّ نُوحٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَنْ لَا تَبْدُوا لَنَا وَلَا تُؤْذُونَا. وَفِي أُسْدِ الْغَابَةِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا ظَهَرَتْ الْحَيَّةُ فِي الْمَسْكَنِ فَقُولُوا لَهَا: إنَّا نَسْأَلُك بِعَهْدِ نُوحٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِعَهْدِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تُؤْذِينَا، فَإِنْ عَادَتْ فَاقْتُلُوهَا» ، فَإِنْ ذَهَبَتْ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَإِلَّا قَتَلَهُ إنْ شَاءَ، وَإِنْ رَآهُ ذَاهِبًا كُرِهَ قَتْلُهُ وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي قَتْلِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرِ مِنْ الْحَيَّاتِ بِدُونِ اسْتِئْذَانٍ: وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ اُقْتُلْ وَأَبْتَرَ حَيَّةٍ ... وَمَا بَعْدَ إيذَانٍ تُرَى أَوْ بِفَدْفَدِ (وَذَا) أَيْ صَاحِبَ (الطُّفْيَتَيْنِ) ، وَهُوَ الَّذِي فِي ظَهْرِهِ خَطٌّ أَسْوَدُ، وَهُوَ حَيَّةٌ خَبِيثَةٌ، وَالطُّفْيَةُ خُوصَةُ الْمُقْلِ فِي الْأَصْلِ وَجَمْعُهَا طُفَى شَبَّهَ الْخَطَّيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ بِخُوصَتَيْنِ مِنْ خُوصِ الْمُقْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ: الطُّفْيَةُ حَيَّةٌ لَيِّنَةٌ خَبِيثَةٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اُقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرَ، فَإِنَّهُمَا يُسْقِطَانِ الْحُبْلَى وَيَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ» قَالَ النَّوَوِيُّ: الطُّفْيَتَانِ الْخَطَّانِ الْأَبْيَضَانِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ: (اُقْتُلْ) أَيْ اُقْتُلْ ذَا الطُّفْيَتَيْنِ، فَذَا مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ وَالطُّفْيَتَيْنِ مُضَافٌ إلَيْهِ (وَ) اُقْتُلْ (أَبْتَرَ) ، وَهُوَ (حَيَّةٌ) غَلِيظَةُ الذَّنْبِ كَأَنَّهُ قُطِعَ ذَنْبُهُ. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ الْأَبْتَرُ قَصِيرُ الذَّنْبِ، وَقَالَ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ: هُوَ صِنْفٌ مِنْ الْحَيَّاتِ أَزْرَقُ مَقْطُوعُ الذَّنْبِ لَا تَنْظُرُ إلَيْهِ حَامِلٌ إلَّا أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا غَالِبًا. وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَرَى ذَلِكَ مِنْ سُمِّهَا فَهَاتَانِ الْحَيَّتَانِ يُقْتَلَانِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ (وَمَا بَعْدَ إيذَانِ) لِحَيَّاتِ الْبُيُوتِ اُقْتُلْ إذَا كَانَتْ بَعْدَ الْإِيذَانِ (تُرَى) أَيْ تَظْهَرُ؛ لِأَنَّك قَدْ فَعَلْت مَا طُلِبَ مِنْك، وَهُوَ الْإِيذَانُ (أَوْ) كَانَتْ الْحَيَّةُ (بِفَدْفَدِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْفَدْفَدُ الْفَلَاةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وَالْمَكَانُ الصُّلْبُ الْغَلِيظُ، وَالْمُرْتَفِعُ، وَالْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ. وَالْمُرَادُ إذَا كَانَتْ الْحَيَّةُ تَظْهَرُ لَك فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ مِنْ الصَّحْرَاءِ فَاقْتُلْهَا بِلَا إيذَانٍ لَك مِنْهَا. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَاَلَّتِي فِي الصَّحْرَاءِ يَعْنِي مِنْ الْحَيَّاتِ يَجُوزُ قَتْلُهَا بِدُونِ إنْذَارِهَا. قَالَ الطَّحَاوِيُّ لَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْكُلِّ مِنْ الْحَيَّاتِ، وَالْأَوْلَى هُوَ الْإِنْذَارُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ قَتْلِ مَا فِيهِ إضْرَارٌ وَنَفْعٌ وَعَدَمِ قَتْلِهِ: وَمَا فِيهِ إضْرَارٌ وَنَفْعٌ كَبَاشِقٍ ... وَكَلْبٍ وَفَهْدٍ لِاقْتِصَادِ التَّصَيُّدِ (وَمَا) أَيْ حَيَوَانٌ أَوْ طَيْرٌ (فِيهِ إضْرَارٌ) مِنْ وَجْهٍ (وَ) فِيهِ (نَفْعٌ) مِنْ وَجْهٍ (كَبَاشَقٍ) وَصَقْرٍ وَبَازِيٍّ وَشَاهِينَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَمْلُوكًا، فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالتَّرْكِ، فَأَمَّا مَضَرَّةُ مَا ذُكِرَ فَاصْطِيَادُهُ لِطُيُورِ النَّاسِ، وَأَمَّا مَنْفَعَتُهُ فَكَوْنُهُ يَصْطَادُ لِلنَّاسِ. وَإِنَّمَا خَصَّ النَّاظِمُ الْبَاشَقَ مِنْ بَيْنِ كَوَاسِرِ الطَّيْرِ تَنْبِيهًا مِنْهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَمِنْ ثَمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ كَافَ التَّشْبِيهِ فَكُلُّ مَا وُجِدَ فِيهِ نَفْعٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الِاصْطِيَادُ بِهِ فِي نَحْوِ الْبَاشَقِ وَضَرَرٌ، وَهُوَ كَوْنُهُ يَصْطَادُ طُيُورَ النَّاسِ صَدَقَ عَلَيْهِ النَّظْمُ وَعَمَّهُ الْحُكْمُ. وَالْبَاشَقُ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْآخِذِ، وَهُوَ حَارُّ الْمِزَاجِ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْقَلَقُ وَالزَّعَارَةُ يَأْنَسُ وَقْتًا وَيَسْتَوْحِشُ وَقْتًا، وَهُوَ قَوِيُّ النَّفَسِ، فَإِذَا أُنِسَ مِنْهُ الصَّغِيرُ بَلَّغَ صَاحِبَهُ مِنْ صَيْدِهِ الْمُرَادَ؛ لِأَنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ ظَرِيفُ الشَّمَائِلِ يَلِيقُ بِالْمُلُوكِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيدُ أَفْخَرَ مَا يَصِيدُهُ الْبَازِي، وَهُوَ الدَّرَّاجُ، وَالْحَمَامُ، وَالْوَرَشَانُ. وَأَحْمَدُ أَوْصَافِهِ أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا فِي الْمَنْظَرِ ثَقِيلًا فِي الْمِيزَانِ طَوِيلَ السَّاقَيْنِ قَصِيرَ الْفَخِذَيْنِ. وَأَمَّا الْبَازِي فَأَفْصَحُ لُغَاتِهِ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَاللُّغَةُ الثَّانِيَةُ بَازٍ بِلَا يَاءٍ وَالثَّالِثَةُ بَازِيٌّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ. مَطْلَبٌ: فِي كَوْنِ الْكَلْبِ حَيَوَانًا شَدِيدَ الرِّيَاضَةِ كَثِيرَ الْوَفَاءِ، وَبَيَانُ مَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ الْكِلَابِ وَمَا لَا يَجُوزُ. (وَ) كَ (كَلْبٍ) هُوَ حَيَوَانٌ شَدِيدُ الرِّيَاضَةِ كَثِيرُ الْوَفَاءِ، وَهُوَ لَا سَبُعٌ وَلَا بَهِيمَةٌ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ الْخَلْقِ الْمُرَكَّبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ لَهُ طِبَاعُ السَّبُعِيَّةِ مَا أَلِفَ النَّاسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وَلَوْ تَمَّ لَهُ طِبَاعُ الْبَهِيمِيَّةِ مَا أَكَلَ لَحْمَ الْحَيَوَانِ. نَعَمْ فِي الْحَدِيثِ إطْلَاقُ الْبَهِيمَةِ عَلَيْهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَمَا امْرَأَةٌ تَمْشِي بِفَلَاةٍ اشْتَدَّ عَلَيْهَا الْعَطَشُ فَنَزَلَتْ بِئْرًا فَشَرِبَتْ، ثُمَّ صَعِدَتْ، فَوَجَدَتْ كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَتْ لَقَدْ بَلَغَ بِهَذَا الْكَلْبِ مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، ثُمَّ نَزَلَتْ فَمَلَأَتْ خُفَّهَا فَأَمْسَكَتْهُ بِفِيهَا، ثُمَّ صَعِدَتْ فَسَقَتْهُ فَشَكَرَ اللَّهَ لَهَا ذَلِكَ وَغَفَرَ لَهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: نَعَمْ فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّاءَ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلْبَ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ بَهِيمًا، أَوْ لَا. الْأَوَّلُ يُسْتَحَبُّ قَتْلُهُ. وَالثَّانِي: إمَّا أَنْ يَكُونَ عَقُورًا، أَوْ لَا، الْأَوَّلُ يَجِبُ قَتْلُهُ، وَلَوْ كَانَ الْأَسْوَدُ الْبَهِيمُ، وَالْعَقُورُ مُعَلَّمَيْنِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا قَرِيبًا. وَالثَّانِي: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا، أَوْ لَا. الْأَوَّلُ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ، وَكَذَا الثَّانِي عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَقِيلَ يُكْرَهُ فَقَطْ اخْتَارَهُ الْمَجْدُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ انْتَهَى. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَهْلِيِّ وَالسَّلُوقِيِّ نِسْبَةً إلَى سَلُوقَ مَدِينَةٌ بِالْيَمَنِ تُنْسَبُ إلَيْهَا الْكِلَابُ السَّلُوقِيَّةُ وَكِلَا النَّوْعَيْنِ فِي الطَّبْعِ سَوَاءٌ. حُكْمُ اقْتِنَاءِ الْكِلَابِ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يَجُوزُ اقْتِنَاءُ كَلْبٍ كَبِيرٍ لِصَيْدٍ يَعِيشُ بِهِ، أَوْ لِحِفْظِ مَاشِيَةٍ يَرُوحُ مَعَهَا إلَى الْمَرْعَى وَيَتْبَعُهَا، أَوْ لِحِفْظِ زَرْعٍ وَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقِيلَ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ لِحِفْظِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَفِي الرِّعَايَةِ قِيلَ وَبُسْتَانٍ، فَإِنْ اقْتَنَى كَلْبَ الصَّيْدِ مَنْ لَا يَصِيدُ احْتَمَلَ الْجَوَازَ، وَالْمَنْعَ، وَهَكَذَا الِاحْتِمَالَانِ فِيمَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لِيَحْفَظَ بِهِ حَرْثًا أَوْ مَاشِيَةً إنْ حَصَلَتْ، أَوْ يَصِيدَ بِهِ إنْ احْتَاجَ. وَيَجُوزُ تَرْبِيَةُ الْجَرْوِ الصَّغِيرِ لِأَجْلِ الثَّلَاثَةِ فِي أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ، وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ، وَفِي الرِّعَايَةِ لَا يُكْرَهُ عَلَى الْأَصَحِّ اقْتِنَاءُ جَرْوٍ صَغِيرٍ حَيْثُ يُقْتَنَى الْكَبِيرُ وَأَمَّا اقْتِنَاءُ الْكِلَابِ لِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَجُوزُ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ قِيرَاطَانِ وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ عَمَلِهِ وَحَمَلَ ذَلِكَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْكِلَابِ بَعْضُهَا أَشَدُّ أَذًى مِنْ بَعْضٍ، أَوْ لِمَعْنًى فِيهَا، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ فَتَكُونُ الْقِيرَاطَانِ فِي الْمَدَائِنِ وَنَحْوِهَا، وَالْقِيرَاطُ فِي الْبَوَادِي أَوْ يَكُونُ فِي زَمَنَيْنِ فَذَكَرَ الْقِيرَاطَ أَوَّلًا، ثُمَّ زَادَ فِي التَّغْلِيظِ فَذَكَرَ الْقِيرَاطَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْقِيرَاطِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي نِسْبَةِ هَذَا الْقِيرَاطِ لِمَاذَا يَكُونُ؟ فَقِيلَ: لِمَا مَضَى مِنْ عَمَلِهِ، وَقِيلَ مِنْ مُسْتَقْبَلِهِ، وَقِيلَ: قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ اللَّيْلِ وَقِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ وَقِيلَ: قِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ الْفَرْضِ وَقِيرَاطٌ مِنْ عَمَلِ النَّفْلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي رِسَالَةٍ حَرَّرْنَا فِيهَا الْكَلَامَ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فَلَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ قِيرَاطٌ وَلَهُ بِتَمَامِ دَفْنِهِ قِيرَاطَانِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ نِسْبَةُ ذَلِكَ لِمَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْمُصِيبَةِ مِنْ أَجْرِ الْمُصِيبَةِ وَلَوَاحِقِهَا عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ مُصِيبَتِهِمْ شَيْءٌ، وَأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَصْبِرُوا، بَلْ جَزِعُوا وَتَسَخَّطُوا حَتَّى حَصَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ وِزْرٌ يَكُونُ لِهَذَا الْمُصَلِّي، وَالْمُتَّبِعِ الْجِنَازَةَ قِيرَاطٌ، أَوْ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ وَلَوَاحِقِهَا أَنْ لَوْ وُجِدَ عَلَى أَتَمِّ حَالٍ. وَأَمَّا فِي مَقَتَنِي الْكَلْبِ الَّذِي اعْتَمَدْنَاهُ فِيهَا تَبَعًا لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ، وَالْإِمَامِ ابْنِ عَقِيلٍ فِي فَنُونِهِ وَابْنِ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ أَنَّ الْقِيرَاطَ، أَوْ الْقِيرَاطَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَمَلِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَكَأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْكَلِمِ الطَّيِّبِ دِينَارًا فَبِاقْتِنَائِهِ هَذَا الْكَلْبَ يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ الدِّينَارِ قِيرَاطَانِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْعَمَلِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَمَلِ نَفْسِهِ وَيَكُونُ عِظَمُ الْقِيرَاطِ وَنَقْصُهُ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي أَوَّلِ مَنْ اتَّخَذَ الْكَلْبَ (فَوَائِدُ) : (الْأُولَى) : أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ الْكَلْبَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: يَا رَبِّ أَمَرْتَنِي أَنْ أَصْنَعَ الْفُلْكَ وَأَنَا فِي صِنَاعَتِهِ أَصْنَعُ أَيَّامًا، فَيَجِيئُونَنِي بِاللَّيْلِ فَيُفْسِدُونَ كُلَّ مَا عَمِلْت فَمَتَى يَتِمُّ لِي مَا أَمَرْتَنِي بِهِ قَدْ طَالَ عَلَيَّ أَمْرِي فَأَوْحَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 اللَّهُ إلَيْهِ يَا نُوحُ اتَّخِذْ كَلْبًا يَحْرُسْك فَاتَّخَذَ نُوحٌ كَلْبًا، وَكَانَ يَعْمَلُ بِالنَّهَارِ، وَيَنَامُ بِاللَّيْلِ، فَإِذَا جَاءَ قَوْمُهُ لِيُفْسِدُوا بِاللَّيْلِ نَبَحَهُمْ الْكَلْبُ فَيَنْتَبِهُ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَأْخُذُ الْهِرَاوَةَ فَيَثِبُ لَهُمْ فَيَهْرُبُونَ مِنْهُ فَالْتَأَمَ لَهُ مَا أَرَادَ. . مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ. (الثَّانِيَةُ) : ثَبَتَ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «احْتَبَسَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَا حَبَسَك؟ فَقَالَ: إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ» وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي سَبَبِ امْتِنَاعِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ صُورَةٌ كَوْنُهَا مَعْصِيَةً فَاحِشَةً، وَفِيهَا مُضَاهَاةٌ لِخَلْقِ اللَّهِ، وَبَعْضُهَا فِي صُورَةِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَمَّا سَبَبُ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ كَلْبٌ فَكَثْرَةُ أَكْلِهِ النَّجَاسَاتِ، وَكَوْنُ بَعْضِ الْكِلَابِ يُسَمَّى شَيْطَانًا كَمَا جَاءَ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ، وَالْمَلَائِكَةُ ضِدُّ الشَّيَاطِينِ وَلِقُبْحِ رَائِحَةِ الْكَلْبِ، وَالْمَلَائِكَةُ تَكْرَهُ الرَّائِحَةَ الْقَبِيحَةَ الْخَبِيثَةَ، وَلِأَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْ اتِّخَاذِهَا فَعُوقِبَ مُتَّخِذُهَا بِحِرْمَانِ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ بَيْتَهُ وَصَلَاتِهَا فِيهِ وَاسْتِغْفَارِهَا لَهُ وَتَبَرُّكِهَا عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ وَدَفْعِهَا أَذَى الشَّيَاطِينِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ مَلَائِكَةٌ يَطُوفُونَ بِالرَّحْمَةِ وَالتَّبَرُّكِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَهُمْ مَلَائِكَةُ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَأَمَّا الْحَفَظَةُ، وَالْمُوَكَّلُونَ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ فَيَدْخُلُونَ كُلَّ بَيْتٍ وَلَا يُفَارِقُونَ بَنِي آدَمَ فِي حَالٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِهِمْ وَكِتَابَتِهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ مِمَّا يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ مِنْ الْكِلَابِ وَالصُّوَرِ، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ مِنْ كَلْبِ الصَّيْدِ وَالزَّرْعِ، وَالْمَاشِيَةِ وَالصُّورَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبِسَاطَةِ، وَالْوِسَادَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْمَلَائِكَةِ بِسَبَبِهِ وَأَشَارَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ كَلْبٍ وَصُورَةٍ لِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 مَطْلَبٌ: رِحْلَةُ الْإِمَامِ إلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. (الثَّالِثَةُ) : ذَكَرَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ عَنْ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ وَرَاءِ النَّهْرِ مَعَهُ أَحَادِيثُ ثُلَاثِيَّةٌ فَرَحَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَيْهِ فَوَجَدَ شَيْخًا يُطْعِمُ كَلْبًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثُمَّ اشْتَغَلَ الشَّيْخُ بِإِطْعَامِ الْكَلْبِ، فَوَجَدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي نَفْسِهِ إذْ أَقْبَلَ الشَّيْخُ عَلَى الْكَلْبِ وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ الشَّيْخُ مِنْ طُعْمَةِ الْكَلْبِ الْتَفَتَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ لَهُ كَأَنَّك وَجَدْت فِي نَفْسِك إذْ أَقْبَلْت عَلَى الْكَلْبِ وَلَمْ أُقْبِلْ عَلَيْك؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَطَعَ رَجَاءَ مَنْ ارْتَجَاهُ قَطَعَ اللَّهُ مِنْهُ رَجَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَلِجْ الْجَنَّةَ» ، وَأَرْضُنَا هَذِهِ لَيْسَتْ بِأَرْضِ كِلَابٍ، وَقَدْ قَصَدَنِي هَذَا الْكَلْبُ فَخِفْت أَنْ أَقْطَعَ رَجَاءَهُ فَقَالَ الْإِمَامُ هَذَا الْحَدِيثُ يَكْفِينِي، ثُمَّ رَجَعَ. . مَطْلَبٌ: فِي أَوْصَافِ الْفَهْدِ وَتَشْبِيهِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا بِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ. (وَ) (كَفَهْدِ) وَاحِدُ الْفُهُودِ وَفَهِدَ الرَّجُلُ أَشْبَهَ الْفَهْدَ فِي كَثْرَةِ نَوْمِهِ وَتَمَدُّدِهِ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ قَالَتْ الْخَامِسَةُ زَوْجِي إنْ دَخَلَ فَهْدٌ، وَإِنْ خَرَجَ أَسَدٌ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْكُلُ مَا وَجَدَ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ وَلَا يَرْفَعُ الْيَوْمَ لِغَدٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَيْ نَامَ وَغَفَلَ كَالْفَهْدِ لِكَثْرَةِ نَوْمِهِ يُقَالُ أَنْوَمُ مِنْ فَهْدٍ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ تَصِفُهُ بِكَثْرَةِ النَّوْمِ، وَالْغَفْلَةِ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُ. وَقَوْلُهَا، وَإِنْ خَرَجَ أَسَدٌ تَمْدَحُهُ بِالشَّجَاعَةِ أَيْ صَارَ كَالْأَسَدِ يُقَالُ أَسِدَ الرَّجُلُ وَاسْتَأْسَدَ إذَا صَارَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهَا عَمَّا عَهِدَ أَيْ رَأَى فِي الْبَيْتِ وَعَرَفَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا يَتَفَقَّدُ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَعَايِبِ الْبَيْتِ وَمَا فِيهِ فَكَأَنَّهُ سَاءَ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَصَفَتْهُ بِأَنَّهُ فِي اللِّينِ وَالدَّعَةِ، وَالْغَفْلَةِ عِنْدَهَا كَالْفَهْدِ، وَإِذَا خَرَجَ كَانَ كَالْأَسَدِ فِي شَجَاعَتِهِ، وَلَمْ تُرِدْ النَّوْمَ كَمَا قَالَ شَارِح الْعِرَاقِيِّينَ. قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ هَذَا فِي وَصْفِ عَلِيٍّ وَذَمِّ مَنْ كَانَ بِخِلَافِهِ فَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الذَّوَّاقَ الْمِطْلَاقَ الَّذِي أَرَاهُ لَا يَأْكُلُ مَا وَجَدَ وَيَسْأَلُ عَمَّا فَقَدَ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ كَالْأَسَدِ، وَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 خَارِجًا كَالثَّعْلَبِ، لَكِنْ عَلِيٌّ لِفَاطِمَةَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا فَقَدَ، وَهُوَ عِنْدَهَا كَالثَّعْلَبِ وَخَارِجًا كَالْأَسَدِ» قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ فَهْدٍ هُنَا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ جَعَلَتْ كَثْرَةَ تَغَافُلِهِ كَالنَّوْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ وُصِفَ الْفَهْدُ بِالْحَيَاءِ وَقِلَّةِ الشَّرَهِ وَهَذِهِ كُلُّهَا خُلُقُ مَدْحٍ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ. قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: وَزَعَمَ أَرِسْطُو أَنَّ الْفَهْدَ مُتَوَلِّدٌ بَيْنَ أَسَدٍ وَنَمِرٍ وَمِزَاجُهُ مِثْلُ النَّمِرِ، وَفِي طَبْعِهِ مُشَابَهَةٌ بِالْكَلْبِ فِي أَدَوَاتِهِ وَذَاتِهِ وَيُقَالُ: إنَّ الْفَهْدَةَ إذَا أَثْقَلَتْ بِالْحَمْلِ حَنَّ عَلَيْهَا كُلُّ ذَكَرٍ يَرَاهَا مِنْ الْفُهُودِ وَيُوَاسِيهَا مِنْ صَيْدِهِ، فَإِذَا أَرَادَتْ الْوِلَادَةَ هَرَبَتْ إلَى مَوْضِعٍ قَدْ أَعَدَّتْهُ لِذَلِكَ وَيُوصَفُ الْفَهْدُ بِكَثْرَةِ النَّوْمِ وَكَثْرَةِ الْغَضَبِ، فَإِذَا وَثَبَ عَلَى فَرِيسَةٍ لَا يَتَنَفَّسُ حَتَّى يَنَالَهَا فَيَحْمَى لِذَلِكَ وَتَمْتَلِئُ رِئَتُهُ مِنْ الْهَوَاءِ الَّذِي حَبَسَهُ، فَإِذَا أَخْطَأَ صَيْدَهُ رَجَعَ مُغْضَبًا وَرُبَّمَا قَتَلَ سَائِسَهُ. وَمِنْ طَبْعِهِ الْإِسَاءَةُ إلَى مَنْ يُحْسِنُ إلَيْهِ. وَكِبَارُ الْفُهُودِ أَقْبَلُ لِلتَّأْدِيبِ مِنْ صِغَارِهَا. وَأَوَّلُ مَنْ صَادَ بِالْفَهْدِ كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ وَأَوَّلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْخَيْلِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ. وَأَكْثَرُ مَنْ اُشْتُهِرَ بِاللَّعِبِ بِهَا أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ. وَحُكْمُهُ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ ذُو نَابٍ كَالْأَسَدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (لِ) أَجْلِ (اقْتِصَادِ) مِنْ الْقَصْدِ يُقَالُ قَصَدَ الْأَمْرَ وَقَصَدَ لَهُ وَإِلَيْهِ يَقْصِدُهُ إذَا يَمَّمَهُ، وَالْجَارُ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْعٍ وَ (التَّصَيُّدُ) مُضَافٌ إلَيْهِ أَيْ لِقَصْدِ الصَّيْدِ بِهَذِهِ الْكَوَاسِرِ الْمَذْكُورَةِ. إذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ، وَإِنْ مُلِكَتْ فَاحْظُرْ، وَإِنْ تُؤْذِ فَاقْدُدْ (وَإِذَا لَمْ يَكُنْ) شَيْءٌ مِنْهَا (مِلْكًا) لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ (فَأَنْتَ) حِينَ خُلُوِّ مِلْكِ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا عَنْهَا (مُخَيَّرٌ) بَيْنَ إتْلَافِهَا وَعَدَمِهِ (وَ) أَمَّا (إنْ مُلِكَتْ) بِأَنْ جَرَى عَلَيْهَا مِلْكٌ لِمُسْلِمٍ، أَوْ مُسْتَأْمَنٍ (فَاحْظُرْ) أَيْ امْنَعْ وَحَرِّمْ قَتْلَهَا ذُكِرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ فَحَرُمَ إتْلَافُهُ كَالشَّاةِ. قَالَ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. قَالَ: وَإِنَّمَا حَرُمَ إتْلَافُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْبَازِي يَعْنِي الْمُعَلَّمَ وَنَحْوَهُ كَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَأَوْلَى، وَقَدْ يُقَالُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 بِكَرَاهَةِ الْقَتْلِ فَتَصِيرُ الْأَقْوَالُ ثَلَاثَةً. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَضَرَّةٌ مِنْ وَجْهٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: التَّخْيِيرُ وَتَرْكُهُ، وَالْكَرَاهَةُ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالشَّاهَيْنِ وَكَأَنَّ مُرَادَهُ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا مَمْلُوكًا فَيَحْرُمُ قَتْلُهُ إلَّا إذَا عَدَّى عَلَى مَعْصُومٍ، أَوْ آدَمِيٍّ، أَوْ مَالٍ، وَهُوَ مُرَادُ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ تُؤْذِ) هَذِهِ الْكَوَاسِرُ الْمَذْكُورَةُ مَعْصُومًا مِنْ آدَمِيٍّ، أَوْ غَيْرِهِ (فَاقْدُدْ) أَيْ اُقْتُلْ. وَحَاصِلُ كَلَامِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّك مُخَيَّرٌ فِيهَا أَوَّلًا بَيْنَ إتْلَافِهَا وَتَخْلِيَتِهَا إلَّا إذَا مُلِكَتْ فَيَحْرُمُ إتْلَافُهَا إلَّا إذَا عَدَتْ عَلَى مَعْصُومٍ مِنْ مَالٍ، أَوْ آدَمِيٍّ فَيَحِلُّ قَتْلُهَا، وَلَعَلَّ مُرَادَهُمْ بِالْمِلْكِ مِلْكُ الْمُسْلِمِ، أَوْ الْمُسْتَأْمَنِ لَا الْحَرْبِيِّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي حِلِّ النَّظْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ بَيْعِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : يَجُوزُ بَيْعُ سِبَاعِ بَهَائِمِ وَجَوَارِحِ طَيْرٍ يَصْلُحَانِ لِصَيْدٍ إذَا كَانَتْ مُعَلَّمَةً، أَوْ لَمْ تَكُنْ وَلَكِنْ تَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَوَلَدِهِ وَفَرْخِهِ وَبِيضِهِ لِاسْتِفْرَاخِهِ لَا بَيْعُ كَلْبٍ، وَلَوْ مُبَاحَ الِاقْتِنَاءِ، وَمَنْ قَتَلَهُ، وَهُوَ مُعَلَّمٌ أَسَاءَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ لَا يُمْلَكُ، وَأَمَّا إذَا أَتْلَفَ نَحْوَ الْبَاشَقِ، وَالْبَازِي، وَالْفَهْدِ، فَإِنَّهُ يَغْرَمَ قِيمَتَهُ لِإِبَاحَةِ اقْتِنَائِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَوْ ضَرُورَةٍ، وَأَمَّا الْكَلْبُ فَلَا يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَالْقَاعِدَةُ حِلُّ بَيْعِ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ فَخَرَجَ بِقَيْدِ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلًا كَالْحَشَرَاتِ وَبِمُبَاحَةٍ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْخَمْرِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلْحَاجَةِ كَالْكَلْبِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَيْتَةِ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ، وَالْخَمْرِ لِدَفْعِ مَا غَصَّ بِهِ. (الثَّانِي) : مَنْ مَنَعَ جَوَازَ بَيْعِ الْهِرِّ مِنْ الْأَصْحَابِ مِمَّنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُمْ مَنَعَ جَوَازَ بَيْعِ الْبَاشَقِ، وَالْفَهْدِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا صَاحِبَ الْهَدْيِ، وَالْفَائِقِ وَالْحَافِظَ بْنَ رَجَبٍ وَشَيْخَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ اخْتَارُوا عَدَمَ الْجَوَازِ فِي الْهِرِّ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِهِ. وَهُنَا اخْتَارُوا الْجَوَازَ لِوُجُودِ مُقْتَضَى الْبَيْعِ وَخُلُوِّهِ عَنْ الْمَانِعِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ قَتْلِ مَا خَلَا مِنْ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَدُودِ ذُبَابٍ: وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ انْتِفَاعٌ وَلَا أَذًى ... كَدُودِ ذُبَابٍ لَمْ يَضِرْ كُرْهَهُ طَدِ (وَمَا) أَيْ شَيْءٌ أَوْ الَّذِي (لَمْ يَكُنْ) يُوجَدُ (فِيهِ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءِ (انْتِفَاعٌ وَلَا أَذَى) ، بَلْ خَلَا عَنْ النَّفْعِ، وَالْأَذَى مَعًا (كَدُودِ ذُبَابٍ) بِإِضَافَةِ دُودٍ إلَى ذُبَابٍ احْتِرَازًا عَنْ مُطْلَقِ الدُّودِ الشَّامِلِ لِدُودِ الْقَزِّ، وَالْقِرْمِزِ الَّذِي يَصْبُغُ بِهِ، وَهُوَ دُودٌ أَحْمَرُ يُوجَدُ فِي شَجَرَةِ الْبَلُّوطِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ صَدَفِيٌّ شَبِيهٌ بِالْحَلَزُونِ يَجْمَعُهُ نِسَاءُ تِلْكَ الْبِلَادِ بِأَفْوَاهِهِنَّ وَالدِّيدَانُ الْمَمْلُوكُ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِصَيْدِ سَمَكٍ، وَالْعَلَقُ لِمَصِّ دَمٍ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا، فَإِنَّ قَتْلَهُ مُحَرَّمٌ بِخِلَافِ دُودِ الذُّبَابِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْلَكُ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِهِ. وَالدُّودُ جَمْعُ دُودَةٍ وَجَمْعُ الدُّودِ دِيدَانٌ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: كَانَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مِحْرَابِهِ فَأَبْصَرَ دُودَةً صَغِيرَةً قَالَ فَفَكَّرَ فِي خَلْقِهَا، وَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي خَلْقِ هَذِهِ قَالَ: فَأَنْطَقَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَتْ: يَا دَاوُد تُعْجِبُك نَفْسُك لَأَنَا عَلَى قَدْرِ مَا آتَانِي اللَّهُ أَذْكُرُ اللَّهَ وَأَشْكَرُ لَهُ مِنْك عَلَى مَا آتَاك اللَّهُ. قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] . وَالذُّبَابُ وَاحِدَتُهُ ذُبَابَةٌ وَلَا تَقُلْ ذِبَّانَةً وَجَمْعُهُ فِي الْقِلَّةِ أَذِبَّةٌ، وَفِي الْكَثْرَةِ ذِبَّانٍ بِكَسْرِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ مِثْلُ غُرَابٍ وَأَغْرِبَةٍ وَغِرْبَانٍ. سُمِّيَ ذُبَابًا لِكَثْرَةِ حَرَكَتِهِ وَاضْطِرَابِهِ، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «الذُّبَابُ كُلُّهُ فِي النَّارِ إلَّا النَّحْلَ» قِيلَ كَوْنُهُ فِي النَّارِ لَيْسَ بِعَذَابٍ لَهُ، بَلْ لِيُعَذَّبَ بِهِ أَهْلُ النَّارِ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِمْ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ وَابْنِ مَاجَهْ وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَمْقُلْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» . وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَابْنِ مَاجَهْ «إنَّ أَحَدَ جَنَاحَيْ الذُّبَابِ سُمٌّ، وَالْآخَرَ شِفَاءٌ، فَإِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلْهُ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ» . قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: وَقَدْ تَأَمَّلْت الذُّبَابَ فَوَجَدْته يَتَّقِي بِجُنَاحِهِ الْأَيْسَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِلدَّاءِ كَمَا أَنَّ الْأَيْمَنَ مُنَاسِبٌ لِلدَّوَاءِ. وَاسْتُفِيدَ مِنْ الْحَدِيثِ عَدَمُ تَنْجِيسِهِ لِلْمَائِعِ، وَلَوْ مَاتَ فِيهِ كَسَائِرِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ مِنْ الْبَقِّ، وَالْبَعُوضِ، وَالْعَقْرَبِ وَأَشْبَاهِهَا فَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَفْعٌ وَلَا أَذًى مِنْ الذُّبَابِ وَنَحْوِهِ (لَمْ يَضُرَّ) أَحَدًا (كُرْهُهُ) وَإِتْلَافُهُ (طَدِ) أَمْرٌ مِنْ وَطَدَ الشَّيْءَ يَطِدُهُ وَطْدًا إذَا أَثْبَتَهُ وَثَقَّلَهُ يَعْنِي أَنَّ مَا خَلَا عَنْ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَانَ إتْلَافُهُ وَعَدَمُ إتْلَافِهِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فَيَرْجِعُ إلَى قِسْمٍ مَا فِيهِ نَفْعٌ وَضُرٌّ حَيْثُ خَلَا عَنْ مِلْكِيَّةِ مَعْصُومٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّصَفَ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ تَعَادَلَ ضُرُّهُ وَنَفْعُهُ فَتَسَاقَطَا فَصَارَ كَمَا لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ. وَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْبُولًا عَلَى الْأَذَى وَالضَّرَرِ طَبْعًا بِلَا نَفْعٍ فَيُقْتَلُ، أَوْ ضِدَّهُ، وَهُوَ مَا فِيهِ نَفْعٌ بِلَا ضَرَرٍ فَلَا، أَوْ مَا فِيهِ ضَرَرٌ وَنَفْعٌ وَخَلَا عَنْ مِلْكِيَّةِ مَعْصُومٍ، أَوْ خَلَا عَنْ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ فَيُبَاحُ قَتْلُهُمَا وَعَدَمُهُ، وَالْمُرَادُ مَا لَمْ يَكُنْ نَهْيُ الشَّارِعِ عَنْ إتْلَافِهِ كَالضُّفْدَعِ وَالنَّمْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ، وَمَا لَا يَحِلُّ: وَمَا حَلَّ لِلْمُضْطَرِّ حَلَّ لِمُكْرَهٍ ... وَمَا لَا فَلَا غَيْرَ الْخُمُورِ بِأَوْكَدِ (وَمَا) أَيْ كُلُّ شَيْءٍ (حَلَّ لِلْمُضْطَرِّ) مِنْ أَكْلِ الْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ، وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهَا (حَلَّ) أَيْ: فَإِنَّهُ يُحِلُّهُ (لِمُكْرَهٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ وَخَرَّجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ. وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُضْطَرِّ، وَالْمُكْرَهِ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ اتِّقَاءَ تَلَفِ نَفْسِهِ وَإِبْقَاءً لَهَا، وَالْمُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نَوْعُ اخْتِيَارٍ كَالْمُضْطَرِّ إلَّا أَنَّ غَرَضَهُ لَيْسَ نَفْسَ الْفِعْلِ، وَالْعَمَلِ، بَلْ دَفْعَ الضَّرَرَ عَنْهُ، وَالْأَذَى فَهُمَا مُخْتَارَانِ مِنْ وَجْهٍ غَيْرُ مُخْتَارَيْنِ مِنْ وَجْهٍ؛ وَلِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفٌ فِي حَالِ إكْرَاهِهِ، أَوْ لَا. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ ظَاهِرَ النَّظْمِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا فِيهِ إتْلَافٌ لِمَعْصُومٍ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ: (وَمَا) أَيْ كُلُّ شَيْءٍ (لَا) يَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ (فَلَا) يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ كَمَا لَوْ اُضْطُرَّ إلَى قَتْلِهِ وَأَكْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 بَحْثٌ فِي حُكْمِ الْمُكْرَهِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ لَمْ يُبَحْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقْتُلُهُ بِاخْتِيَارِهِ افْتِدَاءً لِنَفْسِهِ مِنْ الْقَتْلِ، هَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَدِّ بِهِمْ، فَإِذَا قَتَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ، وَالْمُكْرِهَ يَشْتَرِكَانِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقَتْلِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ وَأَحْمَدَ. وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ صَارَ كَالْآلَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَإِنْ أَكْرَهَ مُكَلَّفًا عَلَى قَتْلِ مُعَيَّنٍ فَقَتَلَهُ فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا يَعْنِي الْمُكْرَهَ، وَالْمُكْرِهَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِهِ: اُقْتُلْ زَيْدًا، أَوْ عَمْرًا، أَوْ أَحَدَ هَذَيْنِ فَلَيْسَ إكْرَاهًا، فَإِنْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا قُتِلَ بِهِ، وَإِنْ أَكْرَهَ سَعْدٌ زَيْدًا عَلَى أَنْ يُكْرِهَ عَمْرًا عَلَى قَتْلِ بِكْرٍ فَقَتَلَهُ قُتِلَ الثَّلَاثَةُ جَزَمَ بِهِ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى انْتَهَى، وَكَذَا لَوْ أَكْرَهَ عَلَى الزِّنَا، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ كَمَا لَا يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ بِالِاضْطِرَارِ إلَى الْجِمَاعِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: يُرَخِّصُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَأَكْلِ الْمَيِّتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبِهِ تَعْلَمْ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ النَّاظِمِ الْخَمْرَ بِقَوْلِهِ: (غَيْرَ الْخُمُورِ) فَلَا تَحِلُّ بِالْإِكْرَاهِ فَعَلَى هَذَا يُحَدُّ شَارِبُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا (بِأَوْكَدَ) مَبْنِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي الْمَذْهَبِ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَةَ تُبَاحُ لِمُضْطَرٍّ لِإِسَاغَةِ نَحْوِ لُقْمَةٍ بِهَا إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا حَيْثُ خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُقَدِّمُ بَوْلًا يَعْنِي عَلَى الْمُسْكِرِ إذَا غَصَّ وَعَلَيْهِمَا مَاءٌ مُتَنَجِّسًا وَاَللَّهُ أَعْلَم. حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا (تَنْبِيهٌ) : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إكْرَاهِ الرَّجُلِ عَلَى الزِّنَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَصِحُّ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ وَلَا إثْمَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَصِحُّ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْإِثْمُ وَالْحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَتَأَتَّى الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّهَا فَلَا إثْمَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَشَارَ النَّاظِمُ إلَى إيضَاحِ مَا أَفْهَمُهُ مِنْ الْقَاعِدَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُصَرِّحًا بِأَنَّ أَفْعَالَ الْمُكْرَهِ لَغْوٌ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ أَفْعَالَ وَأَقْوَالَ الْمُكْرَهِ لَغْوٌ إلَّا فِي الْقَتْلِ، وَالْإِسْلَامِ وَالزِّنَا: وَلَغْوٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَفْعَالُ مُكْرَهٍ ... سِوَى الْقَتْلِ وَالْإِسْلَامِ ثُمَّ الزِّنَا قَدْ (وَلَغْوٌ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: اللَّغْوُ وَاللَّغَا كَالْفَتَى السَّقَطُ، وَمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ كَلَامٍ وَغَيْرِهِ كَاللَّغْوَى كَسَكْرَى (مَعَ الْإِكْرَاهِ) مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ (أَفْعَالُ مُكْرَهٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَكَذَا أَقْوَالُهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى، فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّ التَّقِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالضَّحَّاكِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، فَإِذَا قَالَ: أَوْ فَعَلَ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ فَقَوْلُهُ وَفِعْلُهُ لَغْوٌ، وُجُودُ ذَلِكَ وَعَدَمُهُ مِنْهُ سَوَاءٌ. فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْوُضُوءِ، أَوْ الْغُسْلِ فَفَعَلَ ذَلِكَ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ أُكْرِهَ الصَّائِمُ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ فَأَكَلَ، أَوْ شَرِبَ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ، أَوْ عَلَى الْكُفْرِ فَفَعَلَ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ مَعَ سَلَامَةِ قَلْبِهِ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى السُّجُودِ لِصَنَمٍ، فَإِنْ كَانَ الصَّنَمُ تُجَاهَ الْقِبْلَةِ، أَوْ غَيْرِهَا فَلْيَسْجُدْ وَيَجْعَلْ نِيَّتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْمَذْهَبُ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكْفُرْ إذَا سَجَدَ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ وَلَكِنَّ النِّيَّةَ أَوْلَى خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَقْوَالِ فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَوْلٍ مُحَرَّمٍ إكْرَاهًا مُعْتَبَرًا أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْتَدِيَ نَفْسَهُ بِهِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إنْ عَادُوا فَعُدْ» وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ عَذَّبُوهُ حَتَّى يُوَافِقَهُمْ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ مِنْ قَوْلِ الْكُفْرِ، فَفَعَلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 ثُمَّ اسْتَثْنَى النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثَلَاثَ صُوَرٍ: الْأُولَى مَا أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ (سِوَى الْقَتْلِ) لَا يَكُونُ فِعْلُ الْمُكْرَهِ إذَا فَعَلَهُ لَغْوًا، بَلْ مُؤَاخَذًا بِهِ، فَلَوْ أُكْرِهَ مُكَلَّفٌ عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ يُكَافِئُهُ فَقَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ الْمُكْرَهُ وَالْمُكْرِهُ مَعًا هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ، وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الْمَنْصُورُ، وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْآمِرِ، وَالْمَذْهَبُ عَلَيْهِمَا مَعَ الْإِكْرَاهِ الْمُعْتَبَرِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ يَقَعُ التَّعَارُضُ عِنْدَهُ بَيْنَ تَفْوِيتِ نَفْسِهِ وَنَفْسِ غَيْرِهِ وَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَدْلِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ، فَإِذَا أَقْدَمَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ فَقَدْ آثَرَ بَقَاءَ نَفْسِهِ عَلَى فَوَاتِهَا وَفَنَاءِ نَفْسِ غَيْرِهِ فَصَارَ مُخْتَارًا، وَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، وَهُوَ مُكَلَّفٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خِلَافًا لِلطُّوفِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ. وَمِثْلُهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: اُقْتُلْ نَفْسَك وَإِلَّا قَتَلْتُك فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فَلَا يُبَاحُ لَهُ قَتْلُ نَفْسِهِ. وَاخْتَارَهُ فِي الرِّعَايَةِ أَنَّهُ يَكُونُ إكْرَاهًا، وَالْمَذْهَبُ لَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَ) الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ مَا أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَسِوَى (الْإِسْلَامِ) فِيمَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ غَيْرَ ذِمِّيٍّ وَلَا مُسْتَأْمَنٍ وَأُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، فَإِنَّ إسْلَامَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَلَوْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ، أَوْ مُسْتَأْمَنٌ عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ يَعْنِي الْإِسْلَامَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا، مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْكُفْرِ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ حَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ إكْرَاهُهُمَا عَلَيْهِ وَيَصِحُّ ظَاهِرًا، فَإِنْ مَاتَ الْحَرْبِيُّ، أَوْ الْمُرْتَدُّ قَبْلَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْبَاطِنِ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ بَاطِنًا وَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ فِي الْمُغْنِي: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَقَامَ عَلَى مَا عُوهِدَ عَلَيْهِ، وَالْمُسْتَأْمَنَ لَا يَجُوزُ نَقْضُ عَهْدِهِ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى مَا لَا يَلْزَمُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ) : عِبَارَةُ الْفُرُوعِ: وَإِنْ أُكْرِهَ حَرْبِيٌّ عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِيهِ، وَالْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ فِي تَصْحِيحِهِ. قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِنْ أُكْرِهَ حَرْبِيٌّ، كَذَا فِي النُّسَخِ، وَصَوَابُهُ: وَإِنْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ وَبَعْضُهُمْ أَصْلَحَهَا كَذَلِكَ، انْتَهَى. وَفِي قَوَاعِدِ ابْن اللَّحَّامِ صَحَّحَ إسْلَامَ الْمُرْتَدِّ، وَالْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وَلَوْ أُكْرِهَ الذِّمِّيُّ لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَهُ ظُلْمٌ، وَفِي الِانْتِصَارِ احْتِمَالٌ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْت لَك هَذَا حِرْصًا عَلَيْك مِنْ أَنْ يَسْبِقَ إلَى ذِهْنِك أَنَّ مَا فِي الْفُرُوعِ قَوْلٌ فِي الْمَذْهَبِ، بَلْ سَبْقُ قَلَمٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالصُّورَةُ الثَّالِثَةُ مَا ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ (ثُمَّ) ، وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرْتِيبٍ، وَالْمُرَادُ بِالتَّرْتِيبِ هُنَا فِي الذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْحَامِلَ لِلْإِتْيَانِ بِهَا ضَرُورَةُ النَّظْمِ (الزِّنَا) ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ (قَدْ) أَيْ حَسْبَ بِمَعْنَى فَقَطْ، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ بِإِكْرَاهٍ كَمَا قَدَّمْنَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِانْتِشَارِ، وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِيه، فَإِذَا وُجِدَ الِانْتِشَارُ انْتَفَى الْإِكْرَاهُ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَالْإِثْمُ، كَذَا قَالُوا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا حَدَّ عَلَيْهِ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي: وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِ الْأَصْحَابِ أَنَّ التَّخْوِيفَ يُنَافِي الِانْتِشَارَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ التَّخْوِيفَ بِتَرْكِ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يُخَافُ مِنْهُ فَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ انْتَهَى. وَأَيْضًا الْإِكْرَاهُ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَفِي الْفُرُوعِ: وَإِنْ أُكْرِهَ رَجُلٌ فَزَنَى فَعَنْهُ يُحَدُّ اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ، وَعَنْهُ لَا كَامْرَأَةٍ مُكْرَهَةٍ، أَوْ غُلَامٍ يَعْنِي عَلَى الْفِعْلِ فِيهِ بِإِلْجَاءٍ، أَوْ تَهْدِيدٍ، أَوْ مَنْعِ طَعَامٍ مَعَ اضْطِرَارٍ وَنَحْوِهِ، انْتَهَى. وَأَلْحَقَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ اللَّحَّامِ بِذَلِكَ مَسَائِلَ مِنْهَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى وَطْءِ الْحَائِضِ. وَمِنْهَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى وَطْءِ امْرَأَتِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. وَمِنْهَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى إفْسَادِ وُضُوئِهِ. وَمِنْهَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الرَّضَاعِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مَحَلَّ وِفَاقٍ. وَمِنْهَا لَوْ أَكْرَهَ الْمُؤْلِي عَلَى الْمُؤْلَى مِنْهَا فَوَطِئَ فَقَدْ فَاءَ إلَيْهَا. قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: إذْ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْوَطْءِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ: فَإِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا ذَكَرَهُ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِكْرَاهُ. (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : الْإِكْرَاهُ يَحْصُلُ بِالضَّرْبِ، أَوْ الْحَبْسِ، أَوْ أَخْذِ الْمَالِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ كَمَا أَشَرْنَا إلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَإِنْ هَدَّدَ وَتَوَعَّدَ وَغَلَبَ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 ظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ بِهِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَكْرَهُوهُ عَلَى فِعْلِهِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَكَذَا لَوْ شَتَمُوهُ، أَوْ سَبُّوهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ قَدَّسَ اللَّهَ رُوحَهُ: إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ، أَوْ مَالِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُكْرَهًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْإِكْرَاهِ مِنْ سُلْطَانٍ، أَوْ لِصٍّ، أَوْ مُتَغَلِّبٍ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِتَعْذِيبِ وَلَدِهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَكُونُ إكْرَاهًا، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ بَلَى وَيُتَّجَهُ، مِثْلُ وَلَدِهِ كُلُّ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَعْذِيبُهُ مَشَقَّةً عَظِيمَةً مِنْ وَالِدٍ وَزَوْجَةٍ وَصَدِيقٍ كَمَا فِي الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّةِ لابن اللَّحَّامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. [مَطْلَبٌ: هَلْ الْأَفْضَلُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ أَنْ يُجِيبَ أَوْ يَصْبِرَ] (الثَّانِي) : هَلْ الْأَفْضَلُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَنْ يُجِيبَ إلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، أَوْ يَصْبِرَ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَسِيرٍ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ إنْ صَبَرَ فَلَهُ الشَّرَفُ، وَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ فَلَهُ الرُّخْصَةُ، وَقَالَ الْقَاضِي: الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُعْطِيَ التَّقِيَّةَ وَلَا يُظْهِرَ الْكُفْرَ حَتَّى يُقْتَلَ. وَاحْتَجَّ بِقِصَّةِ عَمَّارٍ وَخُبَيْبٍ، فَإِنَّ خُبَيْبًا لَمْ يُعْطِ أَهْلَ مَكَّةَ التَّقِيَّةَ حَتَّى قُتِلَ فَكَانَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي قَوَاعِدِ الْأُصُولِ. وَلَمَّا فَرَغَ النَّاظِمُ مِنْ أَحْكَامِ الدَّوَابِّ وَمِنْ وَسْمِهَا، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَمَا يُبَاحُ قَتْلُهُ، وَمَا يَحْرُمُ، وَمَا يُكْرَهُ، وَمَا يُسْتَحَبُّ وَذَكَرَ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ، وَأَنَّهُ مَا يَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ يَحِلُّ لِلْمُكْرَهِ، وَأَنَّ الْمُكْرَهَ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ الصَّادِرَةَ مِنْهُ لِدَاعِي الْإِكْرَاهِ لَغْوٌ إلَّا مَا اسْتَثْنَى أَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ طَرَفٍ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي آدَابِ الْأَكْلِ: وَيُكْرَهُ نَفْخٌ فِي الْغَدَا وَتَنَفُّسٌ ... وَجَوْلَانُ أَيْدٍ فِي طَعَامٍ مُوَحَّدِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا، وَقَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْمَكْرُوهَ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ (نَفْخٌ) مَصْدَرُ نَفَخَ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ نَفَخَ بِفِيهِ أَخْرَجَ مِنْهُ الرِّيحَ (فِي الْغَدَا) مُتَعَلِّقٌ بِ نَفْخٌ. أَصْلُ الْغَدَا طَعَامُ الْغَدْوَةِ وَجَمْعُهُ أَغْدِيَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وَتَغَدَّى أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَغَدَّيْته تَغْدِيَةً فَهُوَ غَدْيَانُ، وَهِيَ غَدْيَا، وَالْغُدْوَةُ بِالضَّمِّ الْبُكْرَةُ، أَوْ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ كَالْغَدَاةِ، وَالْغَدِيَّةِ. وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْغَدَاءُ مَا كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالْعَشَاءُ بَعْدَهُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ. فَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَأَكَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ، أَوْ لَا يَتَعَشَّى فَأَكَلَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، أَوْ لَا يَتَسَحَّرُ فَأَكَلَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَلَا نِيَّةَ لَمْ يَحْنَثْ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ مُطْلَقُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ هَذَا إنْ كَانَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَصَوَابُهُ بِالْغَيْنِ الْمَكْسُورَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْغِذَاءُ كَكِسَاءٍ مَا بِهِ نَمَاءُ الْجِسْمِ وَقِوَامُهُ وَغَذَاهُ غَذْوًا وَغَذَّاهُ وَاغْتَذَى وَتَغَذَّى، فَإِنَّ لَفْظَهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ يَدُلُّ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كُلَّ وَقْتٍ بِالْمُطَابَقَةِ بِخِلَافِ الْغَدَاءِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْأَكْلِ قَبْلَ الزَّوَالِ خَاصَّةً وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَا دَلَّ بِالْمُطَابَقَةِ أَوْلَى مِمَّا لَا دَلَالَةَ عَلَى شَيْءٍ إلَّا بِطَرِيقِ الْحَمْلِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْمُعْجَمَةَ هِيَ الصَّوَابُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَ) يُكْرَهُ أَيْضًا فِي الْغَدَا يَعْنِي فِي الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ (تَنَفُّسٌ) أَيْ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي فِيهِ الْغِذَاءُ قَبْلَ إبَانَتِهِ عَنْ فِيهِ بِأَنْ يَخْرُجَ نَفَسُ الشَّارِبِ وَنَحْوُهُ فِي الْإِنَاءِ. وَالنَّفَسُ بِالتَّحْرِيكِ وَاحِدُ الْأَنْفَاسِ، وَتَنَفَّسَ الصُّبْحُ تَبَلَّجَ. مَطْلَبٌ: فِيمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ النَّفْخِ فِي الْإِنَاءِ وَالتَّنَفُّسِ فِيهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الْإِنَاءِ وَالتَّنَفُّسِ فِيهِ» . رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ، أَوْ يَنْفُخَ فِيهِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ فَقَالَ رَجُلٌ: الْقَذَاةُ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ فَقَالَ أَهْرِقْهَا قَالَ: فَإِنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ، قَالَ فَأَبِنْ الْقَدَحَ إذَنْ عَنْ فِيك» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ» . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ «النَّهْيَ عَنْ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَأَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ» يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبُ مِنْهَا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَأُنْبِئْت أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا دُونَ قَوْلِهِ: فَأُنْبِئْت إلَى آخِرِهِ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِتَمَامِهِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ، وَأَنَّ رَجُلًا بَعْدَ مَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ إلَى سِقَاءٍ فَاخْتَنَثَهُ فَخَرَجَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ حَيَّةٌ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، وَبَقِيَّةُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وَقَوْلُهُ: عَنْ اخْتِنَاثِ السِّقَاءِ يُقَالُ خَنَثَ السِّقَاءَ وَأَخْنَثه إذَا كَسَرَ فَمَه إلَى خَارِجٍ فَشَرِبَ مِنْهُ. مَطْلَبٌ: فِي إبَانَةِ الشَّابِّ الْقَدَحَ عَنْ فِيهِ ثَلَاثًا. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: هُوَ أَمْرَأُ وَأَرْوَى» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا» ، وَقَالَ: هَذَا صَحِيحٌ، قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُبِينُ الْقَدَحَ عَنْ فِيهِ كُلَّ مَرَّةٍ، ثُمَّ يَتَنَفَّسُ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ لَا أَنَّهُ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي نِهَايَتِهِ: وَفِيهِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّفَسِ فِي الْإِنَاءِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا، يَعْنِي فِي الشُّرْبِ، الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ وَهُمَا بِاخْتِلَافِ تَقْدِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْرَبَ، وَهُوَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبِينَهُ عَنْ فِيهِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَالْآخَرُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ الْإِنَاءِ بِثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ يَفْصِلُ فِيهَا فَاهُ عَنْ الْإِنَاءِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 الثَّانِي) : رَوَى أَبُو دَاوُد، وَالْبَيْهَقِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا بِإِدَاوَةٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: اخْتَنَثَ فَمَ الْإِدَاوَةِ، ثُمَّ شَرِبَ مِنْ فِيهَا» فَمَا هَذَا الْأَمْرُ بَعْدَ النَّهْيِ الصَّحِيحِ وَالزَّجْرِ عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ؟ فَظَاهِرُ صَنِيعِ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ كَانَ بَعْدَ هَذَا فَيَكُونُ مَنْسُوخًا، وَأَمَّا التِّرْمِذِيُّ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ، وَقَالَ: لَيْسَ إسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ فَيَكُونُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الزَّجْرَ لَا الْأَمْرَ، وَهُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ الْحَافِظِ الْمُنْذِرِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: لَا بَأْسَ بِنَفْخِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إذَا كَانَ حَارًّا لِحَاجَةٍ. (الثَّالِثُ) : قَالَ الْآمِدِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهِ: لَا بَأْسَ بِنَفْخِ الطَّعَامِ إذَا كَانَ حَارًّا وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ حَارًّا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِقْنَاعِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَيُكْرَهُ نَفْخُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالتَّنَفُّسُ فِي إنَائِهِمَا وَأَكْلُهُ حَارًّا إنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ، فَقَوْلُهُ: إنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ رَاجِعٌ إلَى النَّفْخِ وَالتَّنَفُّسِ وَأَكْلِ الْحَارِّ. وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: النَّفْخُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْكِتَابِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، قَالَ الْآمِدِيُّ: لَا يُكْرَهُ النَّفْخُ وَالطَّعَامُ حَارٌّ وَصَوَّبَهُ فِي الْإِنْصَافِ إنْ كَانَ ثَمَّ حَاجَةٍ إلَى الْأَكْلِ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الرَّابِعُ) : مُرَادُ النَّاظِمِ بِالْغَدَا مَا يَشْمَلُ الشَّرَابَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُكْرَهُ نَفْخُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ، وَبِذَلِكَ سَوَّى الشَّارِعُ بَيْنَ النَّفْخِ وَالتَّنَفُّسِ فِيهِ انْتَهَى. فَيَشْمَلُ نَحْوَ قَهْوَةِ الْبُنِّ مَعَ أَنَّهَا إنَّمَا تُشْرَبُ، وَفِيهَا حَرَارَةٌ لَكِنْ غَيْرُ مُؤْذِيَةٍ، فَإِذَا احْتَاجَ إلَى النَّفْخِ فَلَا كَرَاهَةَ وَإِلَّا كُرِهَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ جَوَلَانِ الْأَيْدِي فِي الطَّعَامِ إذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا وَعَدَمِهَا إذَا تَعَدَّدَ. (وَ) يُكْرَهُ (جَوَلَانُ) مَصْدَرٌ مِنْ جَالَ فِي الْحَرْبِ جَوْلَةً، وَفِي الطَّوَافِ جَوْلًا وَيُضَمُّ وَجَوْلًا وَجَوَلَانًا مُحَرَّكَةً وَجِيلَانًا بِالْكَسْرِ وَاجْتَالَ طَافَ، وَالْمُرَادُ هُنَا إذَا طَاشَتْ يَدُهُ فِي الصَّحْفَةِ، وَأَمَّا الْجَوْلَانُ بِالسُّكُونِ فَجَبَلٌ بِالشَّامِ، وَإِنَّمَا نُسَكِّنُ الْوَاوَ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ لِلْوَزْنِ (أَيْدٍ فِي طَعَامٍ مُوَحَّدِ) النَّوْعِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ مِمَّا يَلِي غَيْرَهُ وَالطَّعَامُ نَوْعٌ وَاحِدٌ. ذَكَرَ هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الْقَيْدَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا، وَإِطْلَاقُ النَّاظِمِ يَشْمَلُ مَا إذَا كَانَ الْآكِلُ وَحْدَهُ، وَعِبَارَةُ الْآدَابِ الْكُبْرَى تَأْبَاهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِذَا أَكَلْت مَعَ غَيْرِك فَكُلْ مِمَّا يَلِيك. وَفِي الْفُرُوعِ: وَيَأْكُلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِمَّا يَلِيه. قَالَ جَمَاعَةٌ: وَالطَّعَامُ نَوْعٌ وَاحِدٌ. قَالَ الْآمِدِيُّ: لَا بَأْسَ أَيْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ غَيْرِ مَا يَلِيه، وَهُوَ وَحْدَهُ انْتَهَى. وَدَلِيلُ كَرَاهَةِ جَوَلَانِ الْيَدِ فِي الطَّعَامِ «قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ كُلْ مِمَّا يَلِيك» أَخْرَجَاهُ. فَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا فَلَا بَأْسَ فَاَلَّذِي ... نَهَى فِي اتِّحَادٍ قَدْ عَفَا فِي التَّعَدُّدِ (فَإِنْ كَانَ) الْآكِلُ وَحْدَهُ، أَوْ كَانَ مَعَ جَمَاعَةٍ وَكَانَ الطَّعَامُ (أَنْوَاعًا فَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ فِي جَوَلَانِ الْيَدِ حِينَئِذٍ (فَاَلَّذِي نَهَى) النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جَوَلَانِ الْيَدِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ (فِي اتِّحَادٍ) أَيْ نَهْيُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا هُوَ مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ وَ (قَدْ عَفَا) عَنْ جَوَلَانِ الْيَدِ (فِي) أَيْ مَعَ (التَّعَدُّدِ) فِي أَنْوَاعِ الطَّعَامِ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ التَّمِيمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَخَذَ بِيَدِهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى مَنْزِلِ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ: هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟ فَأَتَيْنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الطَّعَامِ، وَالْوَدَكِ فَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَعَلْت أَخْبِطُ فِي نَوَاحِيهَا فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانٌ مِنْ رُطَبٍ، أَوْ تَمْرٍ شَكَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ قَالَ عِكْرَاشٌ: فَجَعَلْت آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّبَقِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت، فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ لَوْنٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ أُتِينَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِبَلِّ كَفَّيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عِكْرَاشُ هَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ» . رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشٍ مَجْهُولٌ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَثْبُتُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ الْأَكْلِ مِنْ ذُرْوَةِ الطَّعَامِ وَمِنْ وَسَطِهِ. (تَتِمَّةٌ) يُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْ ذُرْوَةِ الطَّعَامِ وَمِنْ وَسَطِهِ، بَلْ يَأْكُلُ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَيْلُ، قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيُكْرَهُ مِنْ وَسَطِ الْقَصْعَةِ وَالصَّحْفَةِ وَأَعْلَاهَا، وَكَذَلِكَ الْكَيْلُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى الصَّفْحَةِ وَلَكِنْ لِيَأْكُلْ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْعَةٌ يُقَالُ لَهَا الْغَرَّاءُ يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فَلَمَّا أَضْحَوْا وَسَجَدُوا الضُّحَى أَتَى بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ يَعْنِي، وَقَدْ أَثْرَدَ فِيهَا فَالْتَفُّوا عَلَيْهَا فَلَمَّا كَثُرُوا جَثَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا وَذَرُوا ذِرْوَتَهَا يُبَارَكُ فِيهَا» ذِرْوَتُهَا بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَعْلَاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ الْأَخْذِ، وَالْإِعْطَاءِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْيَدِ الْيُسْرَى: وَأَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَأَكْلٌ وَشُرْبُهُ ... بِيُسْرَاهُ فَاكْرَهْهُ وَمُتَّكِئًا دَدْ (وَ) يُكْرَهُ تَنْزِيهًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ (أَخْذٌ) بِالْيَدِ الْيُسْرَى (وَ) يُكْرَهُ أَيْضًا (إعْطَاءٌ) بِالْيَدِ الْيُسْرَى (وَ) يُكْرَهُ أَيْضًا (أَكْلٌ وَشُرْبُهُ) أَيْ شُرْبُ الشَّارِبِ (بِيُسْرَاهُ) أَيْ بِيَدِهِ الْيُسْرَى (فَاكْرَهْهُ) أَيْ اكْرَهْ كُلَّ ذَلِكَ لِنَهْيِ الشَّارِعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا قَالَ: وَكَانَ نَافِعٌ يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَأْخُذْ بِهَا وَلَا يُعْطِ بِهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 بِنَحْوِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ أَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ، وَمَنْ شَرِبَ بِشِمَالِهِ شَرِبَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ» . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْأَكْلَ بِالشِّمَالِ مُحَرَّمٌ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى مِنْ أَصْحَابِنَا: وَإِذَا أَكَلْت، أَوْ شَرِبْت فَوَاجِبٌ عَلَيْك أَنْ تَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ وَتَنَاوَلَ بِيَمِينِك. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَلَامُ ابْنِ أَبِي مُوسَى فِيهِ وُجُوبُ التَّسْمِيَةِ وَالتَّنَاوُلِ بِالْيَمِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: يَجِبُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْيُسْرَى وَمَسُّ الْفَرْجِ بِهَا دُونَ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ النَّهْيَ فِي كِلَيْهِمَا وَارِدٌ، انْتَهَى. وَفِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ: وَتُسَنُّ التَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَأَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ وَمِمَّا يَلِيه وَيُكْرَهُ تَرْكُهُمَا، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِشِمَالِهِ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، وَمُرَادُهُ كَغَيْرِهِ بِالضَّرُورَةِ الْحَاجَةُ إذْ الْكَرَاهَةُ تَزُولُ بِالْحَاجَةِ. وَفِي الْإِقْنَاعِ كَالْآدَابِ الْكُبْرَى، وَإِنْ جَعَلَ بِيَمِينِهِ خُبْزًا وَبِشِمَالِهِ شَيْئًا يَأْتَدِمُ بِهِ، وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا كُرِهَ. وَعِبَارَةُ الْآدَابِ: وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا وَمِنْ هَذَا كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ بِشِمَالِهِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الشَّرَهِ وَغَيْرِهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَرِهَ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ لُقْمَةً حَتَّى يَبْلَعَ مَا قَبْلَهَا. وَذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ، وَكَذَا الْقَاضِي وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ أَنَّ تَنَاوُلَ الشَّيْءِ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ بِالْيُمْنَى مُسْتَحَبٌّ قَالُوا: وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُنَاوِلَ إنْسَانًا تَوْقِيعًا، أَوْ كِتَابًا فَلْيَقْصِدْ بِيَمِينِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَم. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا، وَأَنَّهُ احْتِقَارٌ لِلنِّعْمَةِ. (وَ) يُكْرَهُ أَكْلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حَالَ كَوْنِهِ (مُتَّكِئًا) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا» قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَّكِئُ هُوَ الْمَائِلُ يَعْنِي فِي جِلْسَتِهِ عَلَى جَنْبِهِ وَفَسَّرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِمُطْمَئِنٍّ. قَالَ الْعَلَامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا» أَيْ لَا آكُلُ أَكْلَ رَاغِبٍ فِي الدُّنْيَا مُتَمَكِّنٍ، بَلْ آكُلُ مُسْتَوْفِزًا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: ضَرَبَهُ فَأَتْكَأَهُ كَأَخْرَجَهُ أَلْقَاهُ عَلَى هَيْئَةِ الْمُتَّكِئِ أَوْ عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لَا آكُلُ مُتَّكِئًا " الْمُتَّكِئُ هُنَا الْجَالِسُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى شَيْءٍ تَحْتَهُ قَالَ وَأَرَادَ أَنَّهُ لَا يَقْعُدُ عَلَى الْوِطَاءِ، وَالْوَسَائِدِ كَفِعْلِ مَنْ يُرِيدُ الْإِكْثَارَ مِنْ الطَّعَامِ، بَلْ يَقْعُدُ مُسْتَوْفِزًا لَا مُسْتَوْطِئًا وَيَأْكُلُ بُلْغَةً. انْتَهَى. وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الشُّرْبِ، وَالْأَكْلِ قَائِمًا فِي مَحَلِّهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ كَرَاهَةُ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا، وَعِبَارَةُ الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ صَرِيحَةٌ فِي الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ بَعْدَ قَوْلِهِ، وَيُكْرَهُ عَيْبُ طَعَامٍ وَأَكْلُهُ مِنْ وَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَمُتَّكِئًا، وَفِي الْغُنْيَةِ وَعَلَى طَرِيقِ وَعِبَارَةِ الْآدَابِ: وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ مُتَّكِئًا وَمُضْطَجِعًا. زَادَ فِي الْإِقْنَاعِ كَالْآدَابِ، أَوْ مُنْبَطِحًا انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ هُبَيْرَةَ: أَكْلُ الرَّجُلِ مُتَّكِئًا يَدُلُّ عَلَى اسْتِخْفَافِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ فِيمَا قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رِزْقِهِ فِيمَا يَرَاهُ اللَّهُ عَلَى تَنَاوُلِهِ وَيُخَالِفُ عَوَائِدَ النَّاسِ عِنْدَ أَكْلِهِمْ الطَّعَامَ مِنْ الْجُلُوسِ إلَى أَنْ يَتَّكِئَ عَنْهُ، فَإِنَّ هَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ سُوءِ الْأَدَبِ، وَالْجَهْلِ وَاحْتِقَارِ النِّعْمَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّكِئًا لَا يَصِلُ الْغِذَاءُ إلَى قَعْرِ الْمَعِدَةِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْهَضْمِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَبَّهَ عَلَى كَرَاهَتِهِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ شُرِبَ عَلَيْهَا الْخَمْرُ وَأَنْ يَأْكُلَ، وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى بَطْنِهِ» . وَذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ مُتَّكِئًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُتَّكِئًا كَذَا قَالُوا، وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ، وَهُوَ ثِقَةٌ لَكِنَّهُ مُدَلِّسٌ، وَفِي رِجَالِهِ عُمَرُ الشَّامِيُّ مَجْهُولٌ، وَلَفْظُهُ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ جُعِلَتْ لَهُ مَائِدَةٌ فَأَكَلَ مُتَّكِئًا وَأَصَابَتْهُ الشَّمْسُ فَلَبِسَ الظُّلَّةَ» قُلْت: وَعَلَى فَرْضِ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ يَدُلُّ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ وَاثِلَةَ نَفْسِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 مُتَّكِئًا وَقْتًا يَسِيرًا، ثُمَّ تَرَكَهُ» . ذَكَرَهُ أَصْحَابُ السِّيَرِ مِنْهُمْ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الشَّامِيُّ فِي سِيرَتِهِ هَذَا مَعَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «مَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مُتَّكِئًا» . وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَعَامٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَكَلْت وَأَنْتَ مُتَّكِئٌ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْك فَأَصْغَى بِجَبْهَتِهِ إلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ: بَلْ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَنَا جَالِسٌ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَفِزُ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ هَدِيَّةً فَجَعَلَ يَقْسِمُهُ، وَهُوَ مُحْتَفِزٌ يَأْكُلُ مِنْهُ أَكْلًا ذَرِيعًا» وَفِي رِوَايَةٍ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا مُقْعِيًا يَأْكُلُ تَمْرًا» . نَعَمْ فِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ فَرَأَيْته يَأْكُلُ مُتَّكِئًا» ، وَهَذَا كَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا، ثُمَّ نُسِخَ يَدُلُّ لَهُ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مَا رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ إلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ الْمَلَكُ: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُخَيِّرُك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ فَأَشَارَ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا» فَمَا أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُقَاوِمُ حَدِيثَ مُسْلِمٍ، قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنْ صَرَّحَ الصَّحَابِيُّ بِمَا يَخُصُّ إطْلَاقَ ذَاكَ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ بِالزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَعَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ يَكُونُ فِعْلُهُ بَعْدَ النَّهْيِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ (دَدْ) أَيْ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ الدَّدُ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ كَالدَّدِ يَعْنِي أَنَّهُ إنَّمَا أَكَلَ مُتَّكِئًا لِأَجْلِ اللَّهْوِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالْآدَابِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ الْأَكْلِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، أَوْ أَكْثَرَ: وَأَكْلَكَ بِالثِّنْتَيْنِ وَالْأُصْبُعِ اكْرَهْنَ ... وَمَعْ أَكْلِ شَيْنِ الْعَرْفِ إتْيَانَ مَسْجِدِ (وَ) أَكْرَهُ أَيْضًا (أَكْلُك) أَيُّهَا الْآكِلُ (بِالثِّنْتَيْنِ) مِنْ أَصَابِعِك؛ لِأَنَّهُ كِبْرٌ (وَ) كَذَا الْأَكْبَرُ بِ (الْأُصْبُعِ) الْوَاحِدَةِ (اكْرَهَنْ) فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٌ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ؛ لِأَنَّهُ مَقْتٌ، وَكَذَا بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ وَبِخَمْسٍ؛ لِأَنَّهُ شَرَهٌ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْبَنَّا عَنْ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ: وَلِأَنَّ الْأَكْلَ بِأُصْبُعَيْنِ يَطُولُ حَتَّى يَشْبَعَ وَلَا تَفْرَحُ الْمَعِدَةُ، وَالْأَعْضَاءُ بِذَلِكَ لِقِلَّتِهِ كَمَنْ يَأْخُذُ حَقَّهُ قَلِيلًا قَلِيلًا لَا يَسْتَلِذُّ بِهِ وَلَا يُمْرِئُهُ، وَبِأَرْبَعِ أَصَابِعَ قَدْ يَغَصُّ بِهِ لِكَثْرَتِهِ، وَالْمُرَادُ أَلَّا يَتَنَاوَلَ عَادَةً وَعُرْفًا بِأُصْبُعٍ، أَوْ أُصْبُعَيْنِ، فَإِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِيهِ. وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ مُنْتَفٍ فِيهِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ؛ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا» وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ» . مَطْلَبٌ: أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ الْمِلْعَقَةَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. (فَائِدَةٌ) : لَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ بِالْمِلْعَقَةِ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. وَذَكَرَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي الْأَوَائِلِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ الْمِلْعَقَةَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ. . مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ أَكْلِ كُلِّ ذِي رَائِحَةٍ خَبِيثَةٍ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ. ثُمَّ ذَكَرَ النَّاظِمُ مَسْأَلَةَ كَرَاهَةِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ لِذِي رِيحٍ مُنْتِنَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ الْأَكْلِ غَالِبًا. فَقَالَ (وَمَعَ أَكْلِ) شَيْءٍ (شَيْنٍ) مَأْخُوذٌ مِنْ شَانَهُ يَشِينُهُ ضِدَّ زَانَهُ يَزِينُهُ أَيْ قَبِيحٍ (الْعَرْفُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ الرِّيحُ طَيِّبَةٌ، أَوْ مُنْتِنَةٌ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الطَّيِّبَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ هَكَذَا فِي عِدَّةِ نُسَخٍ. وَفِي النُّسْخَةِ الَّتِي شَرَحَ عَلَيْهَا الْحَجَّاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَعَ نَتِنٍ بَدَلُ شَيْنٍ بِإِسْقَاطِ لَفْظَةِ أَكْلِ وَبَعْدَهَا اكْرَهْ (إتْيَانَ مَسْجِدٍ) فَتَصِيرُ عَلَى الَّتِي شَرَحَ عَلَيْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 الْحَجَّاوِيُّ وَمَعَ نَتِنِ الْعَرْفِ وَاكْرَهْ إتْيَانَ مَسْجِدٍ وَالنَّتْنُ الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ وَاَلَّتِي فِي النَّسْخِ سِوَاهَا أَوْلَى مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا اللَّفْظُ، فَإِنَّهُ أَرْشَقُ فِي الْعِبَارَةِ وَأَسْلَسُ فِي النَّظْمِ، وَالْوَزْنِ وَأَسْلَمُ مِنْ الْعِلَلِ، فَإِنَّ وَزْنَهُ مُسْتَقِيمٌ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَمَّا الْمَعْنَى، فَإِنَّ تَكْرَارَ الْكَرَاهَةِ فِي الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ غَيْرُ رَشِيقٍ فِي الْمَعْنَى. نَعَمْ هُوَ أَشْمَلُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ الرِّيحِ الْكَرِيهِ نَاشِئًا عَنْ أَكْلٍ، أَوْ غَيْرِهِ لَكِنَّ هَذَا يُفْهَمُ مِنْ عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ وَحَاصِلُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُ كُلِّ ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ مِنْ ثُومٍ وَبَصَلٍ وَفُجْل وَكُرَّاتٍ لِأَجْلِ رَائِحَتِهِ الْخَبِيثَةِ سَوَاءٌ أَرَادَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ، أَوْ لَمْ يُرِدْ. نَعَمْ تَتَأَكَّدُ الْكَرَاهَةُ لِمُرِيدِ الْمَسْجِدِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى بِمَا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، فَإِذَا أَكَلَهُ فَيَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ لَا يَقْرَبَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ زَوَالِ رَائِحَتِهِ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَا يَقْرَبْنَا فِي مَسَاجِدِنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَلَيْسَ أَكْلُ ذَلِكَ بِمُحَرَّمٍ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ إلَيْهِ بِطَعَامٍ لَمْ يَأْكُلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ الثُّومُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ مِنْ أَجْلِ رِيحِهِ» . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةٍ مَرْجُوحَةٍ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ لِأَنَّ أَذَى الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ، وَفِي أَكْلِهِ أَذَاهُمْ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي وَالْمَذْهَبُ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَنْضَجُ بِطَبْخٍ، وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى آدَابِ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ قَوْلِ النَّاظِمِ وَافْتَقَدَهَا عِنْدَ أَبْوَابِ مَسْجِدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ مُبَاشَرَةِ الْأَذَى بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَأَنَّهَا لِمَا شَرُفَ، وَالْيُسْرَى لِمَا خَبُثَ. وَيُكْرَهُ بِالْيُمْنَى مُبَاشَرَةُ الْأَذَى وَأَوْسَاخِهِ مَعَ نَثْرِ مَاءِ أَنْفِهِ الرَّدِي (وَيُكْرَهُ) لِكُلِّ أَحَدٍ (بِ) الْيَدِ (الْيُمْنَى مُبَاشَرَةُ الْأَذَى) مِنْ النَّجَاسَاتِ وَالِاسْتِنْجَاءِ بِلَا حَاجَةٍ، وَالْجَارُ، وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمُبَاشَرَةُ (وَ) يُكْرَهُ أَيْضًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 بِالْيُمْنَى مُبَاشَرَةُ (أَوْسَاخِهِ) أَيْ دَرَنِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذَرِ مِثْلُ الِامْتِخَاطِ (مَعَ) أَيْ كَمَا يُكْرَهُ مُبَاشَرَةُ (نَثْرِ مَاءِ أَنْفِهِ) أَيْ اسْتِنْثَارِ الْمَاءِ مِنْ أَنْفِهِ (الرَّدِي) أَيْ الْقَذِرِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَكَذَا مَاءُ الْوُضُوءِ، فَإِنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِنْثَارُهُ بِالْيُسْرَى وَيُكْرَهُ بِالْيُمْنَى، وَكَذَا تَنْقِيَةُ وَسَخِ الْأُذُنِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ. كَذَا خَلْعُ نَعْلَيْهِ بِهَا وَاتِّكَاؤُهُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَرَا ظَهْرِهِ اشْهَدْ وَ (كَذَا) يُكْرَهُ لِكُلِّ أَحَدٍ خَلْعُ نَعْلَيْهِ: تَثْنِيَةُ نَعْلٍ، وَهُوَ مَا وُقِيَتْ بِهِ الْقَدَمُ مِنْ الْأَرْضِ كَالنَّعْلَةِ مُؤَنَّثَةٍ وَجَمْعُهُ نِعَالٌ، وَنَعِلَ كَفَرِحَ وَتَنَعَّلَ وَانْتَعَلَ لَبِسَهَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: النَّعْلُ مُؤَنَّثَةٌ، وَهِيَ الَّتِي تُلْبَسُ فِي الْمَشْيِ تُسَمَّى الْآنَ تَاسُومَةً. وَمِثْلُ النَّعْلَيْنِ فِي الْحُكْمِ الْخُفَّيْنِ، وَالْجُرْمُوقَيْنِ فَيُكْرَهُ خَلْعُ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ (بِهَا) أَيْ بِالْيَدِ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْيُمْنَى يُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَتُهَا لِلْخَيْرَاتِ وَتَقْدِيمُهَا فِي الْقُرُبَاتِ فَهِيَ لِمَا شَرُفَ، وَالْيُسْرَى لِمَا خَبُثَ فَيُنْدَبُ تَقْدِيمُ الْيُمْنَى فِي الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَالنَّعْلِ وَالسَّرَاوِيلِ، وَالْخُفِّ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالِاكْتِحَالِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَالسَّلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالْمُصَافَحَةِ وَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ الْخَلَاءِ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ نَحْوِ السُّلُوكِ فَيَبْتَدِئُ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ مِنْ فَمِهِ، وَأَمَّا إمْسَاكُ السِّوَاكِ حَالَ التَّسَوُّكِ فَبِالْيُسْرَى عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْقَاذُورَاتِ. وَأَمَّا مَا خَبُثَ مِنْ نَحْوِ تَقْدِيمِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى لِلْخَلَاءِ، وَالْحَمَّامِ وَالِامْتِخَاطِ وَالِاسْتِنْجَاءِ، وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ فَيُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ بِالْيُسْرَى. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا وَعَلَى أَبِيهَا «كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيُمْنَى لِطَهُورِهِ وَطَعَامِهِ، وَالْيُسْرَى لِخَلَائِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَقَالَتْ أَيْضًا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا انْتَعَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ لِتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) يُكْرَهُ أَيْضًا لِكُلِّ أَحَدٍ (اتِّكَاؤُهُ) سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالَةِ الْأَكْلِ، أَوْ غَيْرِهِ (عَلَى يَدِهِ) أَيْ يَدِ نَفْسِهِ (الْيُسْرَى) حَالَ كَوْنِهَا (وَرَاءَ) أَيْ خَلْفَ (ظَهْرِهِ) ؛ لِأَنَّهَا جِلْسَةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (اشْهَدْ) ذَلِكَ وَاعْتَقِدْهُ مَكْرُوهًا فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ شَهِدَ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الرَّشِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا، وَقَدْ وَضَعْت يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأَتْ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي فَقَالَ: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَقْعُدُ قِعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. (تَنْبِيهٌ) : هَذَانِ الْبَيْتَانِ ذَكَرَهُمَا الْحَجَّاوِيُّ هُنَا فَقَلَّدْنَاهُ وَإِلَّا فَهُمَا فِي اللِّبَاسِ كَمَا فِي النُّسَخِ فَتَفَطَّنْ لَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ الْقِرَانِ بَيْنَ تَمْرَتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَفِيهِ تَحْقِيقٌ مُهِمٌّ: وَيُكْرَهُ فِي التَّمْرِ الْقِرَانُ وَنَحْوُهُ ... وَقِيلَ مَعَ التَّشْرِيكِ لَا فِي التَّفَرُّدِ (وَيُكْرَهُ) لِكُلِّ أَحَدٍ بِلَا حَاجَةٍ (فِي التَّمْرِ) ، وَهُوَ جَنَى النَّخْلِ وَاحِدَتُهُ تَمْرَةٌ (الْقِرَانُ) بِأَنْ يَجْمَعَ فِي حَالِ أَكْلِهِ بَيْنَ تَمْرَتَيْنِ فَأَكْثَرَ (وَنَحْوُهُ) أَيْ نَحْوُ التَّمْرِ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَنَاوُلِهِ أَفْرَادًا مِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَالْقِرَانُ بَيْنَ غَيْرِ التَّمْرِ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُقْصَدُ وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي الْفَوَاكِهِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَعَلَى قِيَاسِ التَّمْرِ كُلُّ مَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِتَنَاوُلِهِ أَفْرَادًا. وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْقِرَانِ إلَّا أَنْ تَسْتَأْذِنَ أَصْحَابَك» فَالْقِرَانُ بِكَسْرِ الْقَافِ هُوَ أَنْ يَقْرِنَ التَّمْرَةَ مَعَ أُخْتِهَا وَيَرْفَعَهُمَا إلَى فِيهِ جَمِيعًا (وَقِيلَ) الْكَرَاهَةُ إنَّمَا تَكُونُ (مَعَ التَّشْرِيكِ) بِأَنْ كَانَ شَرِيكًا مَعَ غَيْرِهِ؛ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهِ ذَلِكَ اخْتِصَاصُهُ بِأَزْيَدَ عَنْ شَرِيكِهِ. فَعَلَى هَذَا (لَا) يُكْرَهُ الْقِرَانُ (فِي التَّفَرُّدِ) أَيْ فِي أَكْلِهِ مُنْفَرِدًا عَنْ شَرِيكٍ وَلَا مَعَ أَهْلِهِ وَلَا مَعَ مَنْ أَطْعَمَهُمْ ذَلِكَ كَمَا فِي الرِّعَايَةِ، وَالْمُسْتَوْعِبِ وَزَادَ: وَتَرْكُهُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَأَحْسَنُ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي التَّرْغِيبِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 فَإِنْ قُلْت: النَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَمَا لَكُمْ لَمْ تَقُولُوا بِالْحُرْمَةِ هَهُنَا؟ فَالْجَوَابُ كَمَا فِي وَاضِحِ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا النَّهْيَ قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَقْلًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ فَقَدْ نَهَى الشَّارِعُ عَنْ أَشْيَاءَ الْأَوْلَى تَرْكُهَا لَا لِقُبْحِهَا كَالْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ وَكَنْسِ الْبَيْتِ بِالْخِرْقَةِ، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَنَارَةِ وَالشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْإِنَاءِ كَذَا قَالَ. وَمُرَادُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَفْيُ كَوْنِ الْعَقْلِ يُحَسِّنُ، أَوْ يُقَبِّحُ قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: وَالْحَسَنُ شَرْعًا، وَالْقَبِيحُ شَرْعًا مَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا رَاجِعٌ لِلْحُسْنِ، وَمَا نَهَى عَنْهُ، وَهَذَا رَاجِعٌ لِلْقَبِيحِ قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَلِ: إذَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِفِعْلٍ فَهُوَ حَسَنٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا نَهَى عَنْ فِعْلٍ فَقَبِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قِرَانِ التَّمْرِ التَّحْرِيمُ وَعَنْ غَيْرِهِمْ لِلْكَرَاهَةِ، وَالْأَدَبِ. وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الصَّوَابَ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَالْقِرَانُ حَرَامٌ إلَّا بِرِضَاهُمْ بِقَوْلٍ، أَوْ قَرِينَةٍ يَحْصُلُ بِهَا عِلْمٌ، أَوْ ظَنٌّ، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِغَيْرِهِمْ، أَوْ لِأَحَدِهِمْ اُشْتُرِطَ رِضَاهُ وَحْدَهُ، فَإِنْ قَرَنَ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَحَرَامٌ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْآكِلِينَ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ ضَيَّفَهُمْ فَحَسَنٌ أَنْ لَا يَقْرِنَ لِيُسَاوِيَهُمْ إنْ كَانَ فِيهِ قِلَّةٌ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يَفْضُلُ عَنْهُمْ فَلَا بَأْسَ لَكِنَّ الْإِذْنَ مُطْلَقًا الْأَدَبُ وَتَرْكُ الشَّرَهِ. نَعَمْ يَطْلُبُ إذْنَهُمْ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ إنْ كَانَ مُسْتَعْجِلًا وَيُرِيدُ الْإِسْرَاعَ لِشُغْلٍ آخَرَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إنَّمَا كَانَ هَذَا فِي زَمَنِهِمْ حِينَ كَانَ الطَّعَامُ ضَيِّقًا، فَأَمَّا الْيَوْمَ مَعَ اتِّسَاعِ الْحَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِذْنِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْجُلُوسِ لِلطَّعَامِ: وَكُلْ جَالِسًا فَوْقَ الْيَسَارِ وَنَاصِبَ ... الْيَمِينِ وَبَسْمِلْ ثُمَّ فِي الِانْتِهَا أَحْمَدُ (وَكُلْ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ أَكَلَ، وَهُوَ لِلنَّدْبِ فَيُسَنُّ أَكْلُك حَالَ كَوْنِك (جَالِسًا فَوْقَ) رِجْلِك (الْيَسَارِ وَنَاصِبَ) الرِّجْلِ (الْيَمِينِ) مِنْك وَمُسْنِدًا بَطْنَك إلَى فَخِذِك الْيَمِينِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ: لِئَلَّا يَحْصُلَ الِامْتِلَاءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بِإِسْنَادِ فَخِذِهِ لِبَطْنِهِ لَا يَحْصُلُ تَمَامُ امْتِلَاءٍ لِعَدَمِ افْتِرَاشِ الْبَطْنِ، وَفِي الرِّعَايَةِ، أَوْ يَتَرَبَّعُ وَذَكَرَ ابْنُ الْبَنَّا عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ أَنَّ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ يَجْلِسَ مُفْتَرِشًا، وَإِنْ تَرَبَّعَ فَلَا بَأْسَ، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: الْمُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ أَنْ يَكُونَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَظُهُورِ قَدَمَيْهِ، أَوْ يَجْلِسَ وَيَنْصِبَ الرِّجْلَ الْيُمْنَى وَيَجْلِسَ عَلَى الْيُسْرَى. وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ: وَيُذْكَرُ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ مُتَوَرِّكًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَضَعُ بَطْنَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِ الْيُمْنَى تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَأَدَبًا بَيْنَ يَدَيْهِ» قَالَ: وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ أَنْفَعُ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ وَأَفْضَلُهَا؛ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تَكُونُ عَلَى وَضْعِهَا الطَّبِيعِيِّ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ انْتَهَى (وَبَسْمِلْ) أَمْرٌ مِنْ بَسْمَلَ يُبَسْمِلُ أَيْ قُلْ فِي ابْتِدَاءِ أَكْلِك وَشُرْبِك بِسْمِ اللَّهِ، وَفِي نُسْخَةٍ وَسَمِّ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ بَسْمَلَ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ، وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ: قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعَالِبِيُّ فِي كِتَابِهِ فِقْهِ اللُّغَةِ: الْبَسْمَلَةُ حِكَايَةُ قَوْلِ بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّبْحَلَةُ حِكَايَةُ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْهَيْلَلَةُ حِكَايَةُ قَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَالْحَوْقَلَةُ، وَالْحَوْلَقَة حِكَايَةُ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَالْحَمْدَلَةُ حِكَايَةُ قَوْلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْحَيْعَلَةُ حِكَايَةُ قَوْلِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَالطَّبْلَقَةُ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاكَ، وَالدَّمْعَزَةُ: أَدَامَ اللَّهُ عِزَّك، وَالْجَعْلَفَةُ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك انْتَهَى. فَمِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ إرَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ فِي الطَّعَامِ وَقَبْلَ أَنْ يَضَعَ الْإِنَاءَ عَلَى فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ وَهِيَ بَرَكَةُ الطَّعَامِ فَيَكْفِي الْقَلِيلُ بِهَا وَبِدُونِهَا لَا يَكْفِي كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَرَّبَ طَعَامًا فَلَمْ أَرَ طَعَامًا كَانَ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ أَوَّلَ مَا أَكَلْنَا وَلَا أَقَلَّ بَرَكَةً فِي أَخِرِهِ فَقُلْنَا: كَيْفَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِأَنَّا ذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ حِينَ أَكَلْنَا، ثُمَّ قَعَدَ بَعْدَنَا مَنْ أَكَلَ وَلَمْ يُسَمِّ فَأَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ» رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَدُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: لَوْ زَادَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ عِنْدَ الْأَكْلِ - يَعْنِي وَالشُّرْبِ - كَانَ حَسَنًا، فَإِنَّهُ أَكْمَلُ بِخِلَافِ الذَّبْحِ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 لَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَنَقَلَ ابْنُ هَانِئٍ أَنَّهُ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ يُسَمِّي وَيَحْمَدُ، وَقَالَ أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْت. وَدَلِيلُ سُنِّيَّةِ الْإِتْيَانِ بِالْبَسْمَلَةِ فِي ابْتِدَاءِ الطَّعَامِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ طَعَامَهُ فِي سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَمَا أَنَّهُ لَوْ سَمَّى كَفَّاكُمْ» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَزَادَ «، فَإِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ مُفْرَدَةٌ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: الشَّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ: قَالَ الشَّيْطَانُ أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ، وَالْعَشَاءَ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا إذَا حَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا لَمْ يَضَعْ أَحَدُنَا يَدَهُ حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّا حَضَرْنَا مَعَهُ طَعَامًا فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يَدْفَعُ فَذَهَبَ لِيَضَعَ يَدَهُ فِي الطَّعَامِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ، ثُمَّ جَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّمَا تَدْفَعُ فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطَّعَامِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهَا، وَقَالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ جَاءَ بِهَذَا الْأَعْرَابِيِّ يَسْتَحِلُّ بِهِ فَأَخَذْت بِيَدِهِ، وَجَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ يَسْتَحِلُّ بِهَا فَأَخَذْت بِيَدِهَا، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ يَدَهُ لَفِي يَدِي مَعَ أَيْدِيهِمَا» . فَإِذَا نَسِيَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلْيَقُلْ فِي آخِرِهِ: بِسْمِ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وَأَخْرَجَ) أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ فَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ حَتَّى كَانَ فِي آخِرِ طَعَامِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ حَتَّى سَمَّى فَمَا بَقِيَ فِي بَطْنِهِ شَيْءٌ حَتَّى قَاءَهُ» قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَقِيلَ: تَجِبُ التَّسْمِيَةُ هُنَا وَذَكَرَ وُجُوبَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى. وَحَكَى ابْنُ الْبَنَّا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: فِي الْأَكْلِ أَرْبَعَةٌ فَرِيضَةٌ: أَكْلُ الْحَلَالِ، وَالرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّعَامِ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْبَنَّا: وَتَحْقِيقُ الْفِقْهِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْأَكْلِ، وَالْحَمْدَ كِلَاهُمَا مَسْنُونَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: التَّسْمِيَةُ هُنَا مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا يَعْنِي فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يَنْبَغِي لِلْآكِلِ أَنْ يَجْهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ لِيُنَبِّهَ غَيْرَهُ. (فَوَائِدُ) : الْأُولَى يَنْبَغِي لِلْآكِلِ، وَكَذَا الشَّارِبُ أَنْ يَجْهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ لِيُنَبِّهَ غَيْرَهُ وَلِيُسْمِعَ الشَّيْطَانَ ذِكْرَ اللَّهِ فَيَهْرُبَ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْأَصْحَابُ قَالَ: وَلَهُ مُنَاسَبَةٌ انْتَهَى. قُلْت: وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ حَيْثُ لَا مَانِعَ. قَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُد فِي كِتَابِهِ (تُحْفَةِ الْعُبَّادِ وَأَدِلَّةِ الْأَوْرَادِ) : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ لِلذَّاكِرِ شَيْءٌ مِنْ الْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ إذَا كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ انْتَهَى. (الثَّانِيَةُ) : قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: " نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إذَا سَمَّى وَاحِدٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ " قُلْت وَظَاهِرُ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَأْبَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِأَنَّهُ حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ دُونَ مَنْعِ الشَّيْطَانِ مِنْ الْأَكْلِ مِنْ الطَّعَامِ مَعَ مَنْ لَمْ يُسَمِّ. مَطْلَبٌ: يُسَمِّي الشَّارِبُ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ وَيَحْمَدُ عِنْدَ كُلِّ قَطْعٍ. (الثَّالِثَةُ) : ذَكَرَ السَّامِرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّارِبَ يُسَمِّي اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ وَيَحْمَدُهُ عِنْدَ كُلِّ قَطْعٍ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ فِعْلٍ كَالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ آكَدُ. وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ الشَّارِبَ إمَّا لِقِلَّتِهِ فَلَا يَشُقُّ التَّكْرَارُ، وَإِمَّا لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ مَأْمُورٌ بِهَا فَاسْتُحِبَّ فِيهَا مَا اُسْتُحِبَّ فِي الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْأَكْلِ، فَإِنَّهُ يَطُولُ فَيَشُقُّ التَّكْرَارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 وَالْقَطْعُ فِيهِ أَمْرٌ عَادِيٌّ، وَقَدْ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَكْلِ كُلِّ لُقْمَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَدَّمْنَا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ تَعَشَّيْت مَرَّةً أَنَا وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَرَابَةٌ لَهُ فَجَعَلَنَا لَا نَتَكَلَّمُ، وَهُوَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَبِسْمِ اللَّهِ، قَالَ: أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ ". قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَلَمْ أَجِدْ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خِلَافَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا وَلَمْ أَجِدْهَا فِي كَلَامِ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتَّبَعَ الْأَثَرَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ فَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمٍ أَكَلُوا مَعَهُ " يَا بَنِيَّ لَا تَدَعُوا أَنْ تَأْدِمُوا أَوَّلَ طَعَامِكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ. أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ "، وَكَذَا قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ التَّابِعِيُّ الثِّقَةُ الْفَقِيهُ الصَّالِحُ " أَكْلٌ وَحَمْدٌ خَيْرٌ مِنْ أَكْلٍ وَصَمْتٍ "، ثُمَّ قَالَ فِي الْآدَابِ: وَجْهُ الْأَوَّلِ يَعْنِي الِاكْتِفَاءَ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَالْحَمْدَلَةُ فِي الِانْتِهَاءِ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى التَّسْمِيَةِ أَوَّلًا، وَالْحَمْدِ أَخِيرًا، وَلَوْ كَانَ يَعْنِي تَكْرَارَ ذَلِكَ مَعَ كُلِّ لُقْمَةٍ مُسْتَحَبًّا لَنُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا، أَوْ فِعْلًا، وَلَوْ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، بَلْ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَهُوَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَايَةُ فِي فِعْلِ الْفَضَائِلِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يَقُولُهُ الْآكِلُ وَالشَّارِبُ آخِرَ طَعَامِهِ مِنْ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (ثُمَّ) بَعْدَ فَرَاغِك مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ (فِي الِانْتِهَاءِ) مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا (احْمَدْ) اللَّهَ تَعَالَى فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ حَمِدَ يَحْمَدُ يَعْنِي اثْنِ عَلَى اللَّهِ وَاشْكُرْهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ الَّذِي أَسْدَى لَك هَذِهِ النِّعَمَ وَسَوَّغَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ حَتَّى حَصَلَ لَك بِهِمَا الْغِذَاءَ فَهُوَ جَلَّ شَأْنُهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُحْمَدَ لِذَاتِهِ فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْحَمْدُ لَهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ مَعَ نِعَمِهِ الْمُتَرَادِفَةِ وَمِنَنِهِ الْمُتَوَاصِلَةِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ: مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا، ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» الْأَكْلَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْأَكْلِ وَقِيلَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ اللُّقْمَةُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ وَبُسْرٌ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ هَذَا هُوَ النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: بَلْ إذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا فَضَرَبْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَقُولُوا بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا شَبِعْتُمْ فَقُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْبَعَنَا وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا فَأَفْضَلُ، فَإِنَّ هَذَا كَفَافٌ بِهَذَا» . «وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ، وَقَالَ مَرَّةً إذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَآوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ رَبَّنَا» وَمَكْفِيٍّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْفَصِيحَةُ وَرَوَاهُ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ بِالْهَمْزِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْكِفَايَةِ أَوْ مِنْ كَفَافِ الْإِنَاءِ كَمَا لَا يُقَالُ فِي مَقْرُوٍّ مُقْرِئٍ وَلَا فِي مَرْمِيٍّ مُرْمِئٍ بِالْهَمْزِ. قَالَ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْمَذْكُورِ كُلِّهِ الطَّعَامُ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ الضَّمِيرُ. قَالَ الْحَرْبِيُّ: فَالْمَكْفِيُّ الْإِنَاءُ الْمَقْلُوبُ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ كَمَا قَالَ غَيْرَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، أَوْ لِعَدَمِهِ. وَقَوْلُهُ غَيْرَ مَكْفُورٍ أَيْ غَيْرَ مَجْحُودَةٍ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، بَلْ مَشْكُورَةٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ الِاعْتِرَافُ بِهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَيْهَا، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِهَذَا الدُّعَاءِ كُلِّهِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلَيْهِ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 غَيْرَ مَكْفِيٍّ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ كَأَنَّهُ عَلَى هَذَا مِنْ الْكِفَايَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ غَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُسْتَغْنٍ مِنْ مُعِينٍ وَظَهِيرٍ. قَالَ: وَقَوْلُهُ وَلَا مُودَعٍ أَيْ غَيْرَ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ وَيُنْتَصَبُ " رَبَّنَا " عَلَى هَذَا بِالِاخْتِصَاصِ، وَالْمَدْحِ، أَوْ بِالنِّدَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ يَا رَبَّنَا اسْمَعْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا، وَمَنْ رَفَعَهُ قَطَعَهُ وَجَعَلَهُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ ذَلِكَ هُوَ رَبُّنَا، أَوْ أَنْتَ رَبُّنَا، وَيَصِحُّ كَسْرُهُ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي نِهَايَتِهِ نَحْوَ هَذَا الْخِلَافِ مُخْتَصَرًا قَالَ: وَمَنْ رَفَعَ " رَبَّنَا فَعَلَى الِابْتِدَاءِ الْمُؤَخَّرِ أَيْ رَبُّنَا غَيْرُ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَعٍ وَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ " غَيْرُ " قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ رَاجِعًا إلَى الْحَمْدِ كَأَنَّهُ حَمْدٌ كَثِيرٌ غَيْرُ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْ هَذَا الْحَمْدِ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا مُودَعٍ أَيْ غَيْرِ مَتْرُوكِ الطَّاعَةِ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ الْوَدَاعِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا» . وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَكِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ التَّابِعِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ «رَجُلٌ خَدَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَانِيَ سِنِينَ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَرَّبَ إلَيْهِ طَعَامًا يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَطْعَمْت وَسَقَيْت وَأَغْنَيْت وَأَقْنَيْت وَهَدَيْت وَاجْتَبَيْت فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْت. » وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الطَّعَامِ إذَا فَرَغَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا وَهَدَانَا وَاَلَّذِي أَشْبَعَنَا وَأَرْوَانَا وَكُلَّ الْإِحْسَانِ آتَانَا» ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَكِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا» . وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ «مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَبَنًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ سَبْقُ الْقَوْمِ بِالْأَكْلِ، وَأَنَّهُ دَنَاءَةٌ وَيُكْرَهُ سَبْقُ الْقَوْمِ لِلْأَكْلِ نَهْمَةً ... وَلَكِنَّ رَبَّ الْبَيْتِ إنْ شَاءَ يَبْتَدِي (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الَّذِينَ قَدَّمَ لَهُمْ الزَّادَ (سَبْقُ الْقَوْمِ) الَّذِينَ هُوَ مَعَهُمْ فَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ (لِلْأَكْلِ) قَبْلَ أَنْ يَمُدَّ الْآكِلُونَ أَيْدِيَهُمْ (نَهْمَةً) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: النَّهَمُ مُحَرَّكَةٌ وَالنَّهَامَةُ كَسَحَابَةٍ إفْرَاطُ الشَّهْوَةِ فِي الطَّعَامِ وَأَنْ لَا تَمْتَلِئَ عَيْنُ الْآكِلِ وَلَا يَشْبَعَ وَالنَّهِمَةُ الْحَاجَةُ وَبُلُوغُ الْهِمَّةِ وَالشَّهْوَةُ فِي الشَّيْءِ، وَهُوَ مَنْهُومٌ بِكَذَا مُولَعٌ فِيهِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: النَّهِمَة بُلُوغُ الْهِمَّةِ فِي الشَّيْءِ وَمِنْهُ أَنْهَمَ مِنْ الْجُوعِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا» انْتَهَى. وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دَنَاءَةٌ وَجَشَاعَةٌ، وَهِيَ أَشَدُّ الْحِرْصِ قَالَ الشَّنْفَرَى يَمْدَحُ نَفْسَهُ فِي لَامِيَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ بِلَامِيَّةِ الْعَرَبِ، وَهِيَ قَصِيدَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ فِيهَا: وَكُلٌّ أَبِيٌّ بَاسِلٌ غَيْرَ أَنَّنِي ... إذَا عَرَضَتْ أُولَى الطَّرَائِدِ أَبْسَلُ وَإِنْ مُدَّتْ الْأَيْدِي إلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ ... بِأَعْجَلِهِمْ إذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ وَمَا ذَاكَ إلَّا بَسْطَةٌ عَنْ تَفَضُّلٍ ... عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْأَفْضَلَ الْمُتَفَضِّلُ فَقَوْلُهُ: وَكُلُّ أَبِيٍّ إلَخْ الْأَبِيُّ هُوَ حَمِيُّ الْأَنْفِ الَّذِي لَا يُقِرُّ لِلضَّيْمِ، وَالْبَاسِلُ الْكَرِيهُ وَالطَّرَائِدُ الَّتِي تَطْرُدُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَكُلُّ أَيْ كُلُّهُمْ أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَهُوَ يُرِيدُهُ وَبَقِيَ حُكْمُ الْإِضَافَةِ، وَهُوَ تَعْرِيفُ كُلٍّ وَلِذَلِكَ تَقُولُ: مَرَرْت بِكُلِّ قَائِمًا وَبِكُلِّ قَاعِدًا فَتَنْصِبُ عَنْهُ الْحَالَ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ} [الأنعام: 132] {وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ} [هود: 120] فَكُلٌّ مُبْتَدَأٌ وَأَبِيٌّ خَبَرُهُ وَبَاسِلٌ خَبَرٌ ثَانٍ، أَوْ وَصْفُ الْخَبَرِ، وَقَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّنِي اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ أَنَا أَبْسَلُ مِنْهُمْ أَيْ أَشْجَعُ وَقْتَ ظُهُورِ الطَّرِيدَةِ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ أَيْ فُرْسَانِ الْخَيْلِ، أَوْ بِمَعْنَى مَطْرُودَةٍ أَيْ الْخَيْلِ الَّتِي يَطْرُدُهَا فُرْسَانٌ أُخَرُ، وَقَوْلُهُ أَجْشَعُ أَيْ أَحْرَصُ وَبِأَعْجَلِهِمْ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِشَيْءٍ وَحَسُنَتْ زِيَادَتُهَا مِنْ أَجْلِ النَّفْيِ بِلَمْ، وَهِيَ بِمَعْنَى مَا كُنْت وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ وَمَا ذَاكَ إلَّا بَسْطَةٌ أَيْ سَعَةٌ وَذَاكَ كِنَايَةٌ عَنْ أَخْلَاقِهِ الَّتِي شَرَحَهَا، وَالْمَعْنَى مَالِي حَالٌ أَوْ خُلُقٌ إلَّا كَذَا، وَكَذَا " وَعَنْ تَفَضُّلٍ " مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ خَبَرُ ذَاكَ وَعَلَيْهِمْ يَتَعَلَّقُ بِتَفَضُّلٍ، وَ " الْأَفْضَلَ " خَبَرُ كَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى اسْمِهَا، وَالْمَعْنَى: وَكَانَ الْمُتَفَضِّلُ الْأَفْضَلَ يَعْنِي أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِمْ بِإِيثَارِهِمْ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ يَتَفَضَّلُ عَلَى أَقْرَانِهِ بِذَلِكَ يَكُونُ هُوَ الْأَفْضَلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يَبْتَدِئُ رَبُّ الطَّعَامِ بِالْأَكْلِ مَا لَمْ يَكُنْ أَفْضَلُ مِنْهُ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، وَيَبْدَأُ بِهِمْ الْأَكْبَرُ، وَالْأَعْلَمُ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا إذَا حَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا لَمْ نَضَعْ أَيْدِيَنَا حَتَّى يَبْدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَضَعَ يَدَهُ» وَتَقَدَّمَ. (وَلَكِنَّ رَبَّ) أَيْ صَاحِبَ (الْبَيْتِ) الْمُقَدِّمَ لِإِخْوَانِهِ الطَّعَامَ (إنْ شَاءَ يَبْتَدِئُ) بِالْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ طَعَامُهُ فَلَا يُحْرَجُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَعَلَّ الْأَوْلَى لَهُ عَدَمُ الِابْتِدَاءِ إذَا كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ حَتَّى يَبْتَدِئَ الْأَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، فَإِنَّ عُمُومَهُ يَشْمَلُ مَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ غَيْرِهِ. وَعَلَى الْحَالَتَيْنِ الْمُبْتَدِئُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسَلُّمِ لَمَّا قَدَّمَ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ الْعِجْلَ الْحَنِيذَ يَعْنِي الْمَشْوِيَّ عَلَى الْحَنْذِ، وَهُوَ الرَّضْفُ السَّمِينُ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَدَّ يَدَهُ وَأَكَلَ وَلَمْ تَأْكُلْ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: يَا إبْرَاهَامُ مَا بَالُ أَضْيَافِك لَا يَأْكُلُونَ؟ فَقَالَ لَهُمْ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَلَا تَأْكُلُونَ؛ بِصِيغَةِ الْعَرْضِ وَالتَّلَطُّفِ، فَلَمَّا امْتَنَعُوا مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ خَافَ مِنْهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُمْ ذَلِكَ فَعَلِمَتْ الْمَلَائِكَةُ مَا أَوْجَسَهُ مِنْ الْخَوْفِ فِي نَفْسِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. فَأَظْهَرَتْ لَهُ ذَلِكَ وَبَشَّرُوهُ بِالْغُلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: لَا بَأْسَ مِنْ الشِّبَعِ الْغَيْرِ الْمُفْرِطِ وَلَا بَأْسَ عِنْدَ الْأَكْلِ مِنْ شِبَعِ الْفَتَى ... وَمَكْرُوهٌ الْإِسْرَافُ وَالثُّلْثَ أَكِّدْ (وَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا إثْمَ وَلَا كَرَاهَةَ (عِنْدَ الْأَكْلِ) ، وَكَذَا الشُّرْبُ لِنَحْوِ اللَّبَنِ (مِنْ شِبَعِ الْفَتَى) تَقَدَّمَ مَعْنَى الْفَتَى، وَالْمُرَادُ مِنْ شِبَعِ الْآكِلِ كَبِيرًا كَانَ، أَوْ صَغِيرًا ذَكَرًا، أَوْ أُنْثَى. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: لَوْ أَكَلْت كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 الْحَسَنُ: لَيْسَ فِي الطَّعَامِ إسْرَافٌ وَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ فَلِلتَّأْدِيبِ لَا التَّحْدِيدِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يَقُولُ لَمَّا جَاءَهُ قَدَحٌ مِنْ لَبَنٍ وَأَمَرَ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَسَقَاهُمْ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ اشْرَبْ فَشَرِبَ، ثُمَّ أَمَرَهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسَاغًا» ، وَقَالَ فِي التَّرْغِيبِ: لَوْ أَكَلَ كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يُؤْذِيهِ جَازَ. وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجُوعِ عَلَى رَأْيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَشْتَهِي الْخُبْزَ وَحْدَهُ فَمَتَى طَلَبَ الْأُدْمَ فَلَيْسَ بِجَائِعٍ. ثَانِيهِمَا أَنَّهُ إذَا وَقَعَ رِيقُهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الذُّبَابُ ذَكَرَهُ فِي الْإِحْيَاءِ. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ الْإِسْرَافُ فِي الْأَكْلِ وَالشِّبَعِ الْمُفْرِطِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآكِلَ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَاتٍ أَرْبَعٍ: إحْدَاهَا الشِّبَعُ غَيْرُ الْمُفْرِطِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْأَثْلَاثَ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الْحَدِيثِ مُجَاوَزَةً غَيْرَ مُضِرَّةٍ لِلْآكِلِ فِي بَدَنِهِ وَلَا إسْرَافَ. الثَّانِيَةُ: الشِّبَعُ الْمُفْرِطُ وَإِلَيْهَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ (وَمَكْرُوهٌ) تَنْزِيهًا عَلَى الْأَصَحِّ (الْإِسْرَافُ) فِي الْأَكْلِ وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: اعْلَمْ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ شُؤْمٌ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي النَّفْرَةُ عَمَّنْ عُرِفَ بِذَلِكَ وَاشْتُهِرَ بِهِ وَاِتَّخَذَهُ عَادَةً. وَلِهَذَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: «رَأَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِسْكِينًا فَجَعَلَ يَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ كَثِيرًا فَقَالَ: لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيَّ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . قُلْت وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلًا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ «أَضَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَيْفًا كَافِرًا فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أُخْرَى فَشَرِبَ حِلَابَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ، ثُمَّ إنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَاةٍ فَشَرِبَ حِلَابَهَا، ثُمَّ أُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ الْمُؤْمِنَ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَإِنَّ الْكَافِرَ يَشْرَبُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» . وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ «فَإِنْ غَلَبَتْ الْآدَمِيَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ» الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ كُفَّ عَنَّا جُشَاءَك، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ أَنَّ الرَّجُلَ هُوَ أَبُو جُحَيْفَةَ. «فَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَكَلْت ثَرِيدَةً مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ، ثُمَّ أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلْت أَتَجَشَّأُ فَقَالَ: يَا هَذَا كُفَّ عَنَّا مِنْ جُشَائِك، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَكْثَرُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَاعْتَرَضَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ، ثُمَّ قَالَ لَكِنْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادَيْنِ: أَحَدُهُمَا ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ «فَمَا أَكَلَ أَبُو جُحَيْفَةَ مِلْءَ بَطْنِهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا كَانَ إذَا تَغَدَّى لَا يَتَعَشَّى وَإِذَا تَعَشَّى لَا يَتَغَدَّى» . وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: فَمَا مَلَأْت بَطْنِي مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَهْلَ الشِّبَعِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ الْجُوعِ غَدًا فِي الْآخِرَةِ» وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُرَقَّعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ، وَهِيَ بِخَضِرَةٍ مِنْ الْفَوَاكِهِ فَوَاقَعَ النَّاسُ الْفَاكِهَةَ فَمَعَثَتْهُمُ الْحُمَّى فَشَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّمَا الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ وَسِجْنُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ، فَإِذَا أَخَذَتْكُمْ فَبَرِّدُوا الْمَاءَ فِي الشِّنَانِ فَصُبُّوهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 عَلَيْكُمْ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ يَعْنِي بَيْنَ الْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ قَالَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَذَهَبَتْ عَنْهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ وِعَاءً إذَا مُلِئَ شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فَاجْعَلُوا ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلرِّيحِ» . وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ: وَمَكْرُوهٌ الْإِسْرَافُ وَالثُّلْثَ أَكِّدْ. مَطْلَبٌ: يَنْبَغِي لِلْآكِلِ أَنْ يَجْعَلَ ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلْهَوَاءِ (وَالثُّلْثُ) أَيْ اقْصِدْ جَعْلَك بَطْنَك أَثْلَاثًا، وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ (أَكِّدْ) امْتِثَالًا لِمَا قَالَ الرَّسُولُ الشَّفِيقُ النَّاصِحُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ الْمُرْشِدُ لِلْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْمُنْقِذُ مِنْ الْهَلَاكِ، وَالْمَفَاسِدِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ الْحَكِيمُ النَّاصِحُ، وَالْعَلِيمُ الَّذِي أَتَى بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْحَقِّ الْوَاضِحِ. وَلِهَذَا قَالَ الْحَافِظ ابْنُ رَجَبٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ: إنَّهُ أَصْلٌ عَظِيمٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ الطِّبِّ كُلِّهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَاسَوَيْهِ الطَّبِيبَ لَمَّا قَرَأَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ أَبِي خَيْثَمَةَ قَالَ: لَوْ اسْتَعْمَلَ النَّاسُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَسْبَ ابْنَ آدَمَ أَكَلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ» إلَى آخِرِهِ لَسَلِمُوا مِنْ الْأَمْرَاضِ، وَالْأَسْقَامِ وَلَتَعَطَّلَتْ الْمَارَسْتَانَاتُ وَدَكَاكِينُ الصَّيَادِلَةِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ أَصْلَ كُلِّ دَاءٍ التَّخَمِ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبُرْدَةُ وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ.، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ: لَوْ سَمِعَ بُقْرَاطُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ لَعَجِبَ مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَفِي الْإِحْيَاءِ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ يَعْنِي تَقْسِيمَ الْبَطْنِ أَثْلَاثًا لِبَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ فَقَالَ: مَا سَمِعْت كَلَامًا فِي قِلَّةِ الْأَكْلِ أَحْكَمَ مِنْ هَذَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَثَرَ الْحِكْمَةِ فِيهِ وَاضِحٌ، وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهَا أَسْبَابُ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْبَطْنَ سِوَاهَا وَهَلْ الْمُرَادُ بِالثُّلُثِ التَّسَاوِي عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ أَوْ التَّقْسِيمِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُتَقَارِبَةٍ. قَالَ فِي الْفَتْحِ مَحَلُّ احْتِمَالٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَالَ (الْحَارِثُ بْنُ كِلْدَةَ) طَبِيبُ الْعَرَبِ: " الْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَالْبِطْنَةُ رَأْسُ الدَّاءِ) وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا قَالَ الْحَافِظُ، وَقَالَ الْحَارِثُ أَيْضًا: الَّذِي قَتَلَ الْبَرِّيَّةَ، وَأَهْلَك السِّبَاعَ فِي الْبَرِّيَّةِ، إدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ، قَبْلَ الِانْهِضَامِ. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 مَطْلَبٌ: مَرَاتِبُ الْغِذَاءِ ثَلَاثَةٌ ، وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: مَرَاتِبُ الْغِذَاءِ ثَلَاثَةٌ: (أَحَدُهَا) : مَرْتَبَةُ الْحَاجَةِ. (وَالثَّانِيَةُ) : مَرْتَبَةُ الْكِفَايَةِ. (وَالثَّالِثَةُ) : مَرْتَبَةُ الْفَضِيلَةِ. فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ يَكْفِيهِ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ» فَلَا تَسْقُطُ قُوَّتُهُ وَلَا يَضْعُفُ، فَإِنْ تَجَاوَزَهَا فَلْيَأْكُلْ ثُلُثَ بَطْنِهِ وَيَدَعْ الثُّلُثَ الْآخَرَ لِلْمَاءِ وَالثَّالِثَ لِلنَّفَسِ، وَهَذَا أَنْفَعُ لِلْبَدَنِ، وَالْقَلْبِ، فَإِنَّ الْبَدَنَ إذَا امْتَلَأَ مِنْ الطَّعَامِ وَضَاقَ عَنْ الشَّرَابِ، فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الشَّرَابُ ضَاقَ عَنْ النَّفَسِ وَعَرَضَ لَهُ الْكَرْبُ وَالتَّعَبُ بِحَمْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمْلِ الثَّقِيلِ هَذَا مَعَ مَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْقَلْبِ وَكَسَلِ الْجَوَارِحِ عَنْ الطَّاعَاتِ، وَالْعِبَادَاتِ، فَالِامْتِلَاءُ مُضِرٌّ لِلْقَلْبِ، وَالْبَدَنِ، هَذَا إذَا كَانَ دَائِمًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الْأَحْيَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَاسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبِشِبَعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِرَارًا بِحَضْرَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذَا بَعْضُ مَنَافِعِ تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَتَرْكِ التَّمَلِّي مِنْ الطَّعَامِ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَلَاحِ الْبَدَنِ وَصِحَّتِهِ. وَأَمَّا مَنَافِعُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَلْبِ وَصَلَاحِهِ، فَإِنَّ قِلَّةَ الْغِذَاءِ تُوجِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ وَقُوَّةَ الْفَهْمِ وَانْكِسَارَ النَّفْسِ وَضَعْفَ الْهَوَى، وَالْغَضَبِ، وَكَثْرَةَ الْغِذَاءِ تُوجِبُ ضِدَّ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ كُلْ فِي ثُلُثِ بَطْنِك وَاشْرَبْ فِي ثُلُثٍ وَدَعْ ثُلُثَ بَطْنِك لِلنَّفَسِ لِتَتَفَكَّرَ، وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: جَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُعَظِّمُ أَمْرَ الْجُوعِ، وَالْفَقْرِ فَقُلْت: يُؤْجَرُ الرَّجُلُ فِي تِلْكَ الشَّهَوَاتِ؟ فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا يُؤْجَرُ وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَا شَبِعْت مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؟ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: يَجِدُ الرَّجُلُ مِنْ قَلْبِهِ رِقَّةً، وَهُوَ يَشْبَعُ؟ قَالَ: مَا أَرَى. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَلَا أَجِيئُك بِجُوَارِشٍ قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَهْضِمُ الطَّعَامَ إذَا أَكَلْته قَالَ: مَا شَبِعْت مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ أَدْرَكْت أَقْوَامًا يَجُوعُونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْبَعُونَ. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» قَالَ: ثُلُثٌ لِلطَّعَامِ هُوَ الْقُوتُ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ هُوَ الْقُوَى وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ هُوَ الرُّوحُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: إيَّاكُمْ، وَالْبِطْنَةَ، فَإِنَّهَا مُكَسِّلَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ مُؤْذِيَةٌ لِلْجِسْمِ وَعَلَيْكُمْ بِالْفَضْلِ فِي قُوَّتِكُمْ، فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْأَشَرِّ وَأَصَحُّ لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ، وَإِنَّ امْرَأً لَنْ يَهْلِكَ حَتَّى يُؤْثِرَ شَهْوَتَهُ عَلَى دِينِهِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: خَصْلَتَانِ يُقْسِيَانِ الْقَلْبَ: كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ. وَرَوَى الْمَرْوَزِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَلَّ طَعْمُهُ فَهِمَ وَأَفْهَمَ وَصَفَا وَرَقَّ، وَإِنَّ كَثْرَةَ الطَّعَامِ لَيُثْقِلُ صَاحِبَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يُرِيدُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْخَوَّاصُ: حَتْفُك فِي شِبَعِك وَحَظُّك فِي جُوعِك إذَا أَنْتَ شَبِعْت ثَقُلْت فَنِمْت اسْتَمْكَنَ مِنْك الْعَدُوُّ فَجَثَمَ عَلَيْك وَإِذَا أَنْتَ تَجَوَّعْت كُنْت لِلْعَدُوِّ بِمَرْصَدٍ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُعَيَّرُ بِالْبِطْنَةِ كَمَا يُعَيَّرُ بِالذَّنْبِ يَعْمَلُهُ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: مَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَطْنُهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ وَأَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ. وَكَانَ يُقَالُ: لَا تَسْكُنُ الْحِكْمَةُ مَعِدَةً مَلْأَى. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ مَا شَبِعْت مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً، وَقَالَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْبَعَ الْيَوْمَ مِنْ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَبِعَ مِنْ الْحَلَالِ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْحَرَامِ. فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ هَذِهِ الْهِمَمَ الْعَلِيَّةَ، وَالْأَنْفُسَ الزَّكِيَّةَ، وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، نَتَضَلَّعُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْذَارِ، وَلَا نَتَزَوَّدُ لِتِلْكَ الدَّارِ. عِيَاذًا بِك اللَّهُمَّ مِنْ مُرِّ الْأَقْدَارِ، وَالْخُلُودِ إلَى نَيْلِ الشَّهَوَاتِ الْمُوجِبَةِ إلَى دُخُولِ النَّارِ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الرَّحِيمِ الْغَفَّارِ. . مَطْلَبٌ: يَحْرُمُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْلِيلِ الطَّعَامِ الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ فِي الْمُبَالَغَةِ مِنْ التَّقْلِيلِ فِي الطَّعَامِ. اعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ بَالَغَ فِي تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ فَأَضَرَّ بِبَدَنِهِ أَوْ قَصَّرَ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ كَالتَّكَسُّبِ لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِلَّا يَضُرُّ بِبَدَنِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا قَصَّرَ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ كُرِهَ لَهُ إنْ خَرَجَ مِنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ. وَرَوَى الْخِلَالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ قَالَ: مَا يُعْجِبُنِي سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 يَقُولُ: فَعَلَ قَوْمٌ هَكَذَا فَقَطَعَهُمْ عَنْ الْفَرْضِ انْتَهَى، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إسْرَافٌ وَلَا مَخِيلَةٌ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» وَهُمْ الْمُبَالِغُونَ فِي الْأُمُورِ. وَمِنْ التَّنَطُّعِ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ كَاَلَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ اللَّحْمِ، وَالْخُبْزِ، أَوْ لُبْسِ الْكَتَّانِ، أَوْ شُرْبِ الْمَاءِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ نِكَاحِ النِّسَاءِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الزُّهْدِ الْمُسْتَحَبِّ وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ لَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ لَا أَنَامُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطِيبًا فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا، وَكَذَا لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . نَعَمْ التَّقْلِيلُ مِنْ الطَّعَامِ وَمِنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ، وَالِاقْتِصَادُ فِي ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ الِانْهِمَاكِ فِي اللَّذَّاتِ وَالطَّرْحِ لِلتَّكَلُّفِ هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَحْمُودُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: أَكْلُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّحْمَ مَطْبُوخًا وَمَشْوِيًّا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : ثَبَتَ فِيمَا لَا يُحْصَى إلَّا بِكُلْفَةٍ عَنْ سَيِّدِ الْعَالَمِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْلُهُ اللَّحْمَ مَطْبُوخًا وَمَشْوِيًّا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَكَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمًا قَدْ شُوِيَ فَمَسَحْنَا أَيْدِيَنَا بِالْحَصْبَاءِ، ثُمَّ قُمْنَا نُصَلِّي وَلَمْ نَتَوَضَّأْ» . وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَشْهَدُ لَكُنْت أَشْوِي لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَطْنَ الشَّاةِ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ لَحْمَ دَجَاجٍ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ، وَجَعَلَ الْفِرْدَوْسَ مَأْوَاهُ، فِي كِتَابِهِ زَادِ الْمَعَادِ، فِي هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ «أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحْمَ الْجَزُورِ وَالضَّأْنِ وَالدَّجَاجِ وَلَحْمَ الْحُبَارَى وَلَحْمَ حِمَارِ الْوَحْشِ، وَالْأَرْنَبِ وَطَعَامَ الْبَحْرِ.» قُلْت: وَكَذَا أَكَلَ لَحْمَ الْحَجَلِ. فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَلٌ مَشْوِيٌّ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ الْخَلْقِ إلَيْك يَأْكُلْ مَعِي هَذَا الطَّيْرَ فَجَاءَ عَلِيٌّ فَأَكَلَ مَعَهُ. » وَكَذَا أَكَلَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ لَحْمِ شَاةٍ مِنْ الْأَرْوَى، فَقَدْ رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي فِي أَمَالِيهِ انْتَقَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ حَازِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَيْدٍ صِدْتُهُ شَاةً مِنْ الْأَرْوَى فَأَهْدَيْتهَا إلَيْهِ فَقَبِلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكَلَ مِنْهَا وَكَسَانِي عِمَامَةً عَدَنِيَّةً، وَقَالَ لِي: مَا اسْمُك؟ قُلْت: حَازِمٌ قَالَ: لَسْت بِحَازِمٍ وَلَكِنَّك مُطْعِمٌ» . وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ الْمَالِكِيُّ الدِّينَوَرِيُّ فِي الْمُجَالَسَةِ عَنْ مَعْنِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَحْفَةٍ، أَوْ جَفْنَةٍ مَمْلُوءَةٍ مُخًّا فَقَالَ: يَا أَبَا ثَابِتٍ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَقَدْ نَحَرْت وَذَبَحْت أَرْبَعِينَ ذَاتَ كَبِدٍ فَأَحْبَبْت أَنْ أُشْبِعَك مِنْ الْمُخِّ قَالَ: فَأَكَلَ وَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْرٍ» . قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ حَبِيبٍ: سَمِعْت أَنَّ الْخَيْزُرَانَ حُدِّثَتْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَسَمَتْ قِسْمًا مِنْ مَالِهَا عَلَى وَلَدِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَقَالَتْ أُكَافِئُ وَلَدَ سَعْدٍ عَنْ فِعْلِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْت: الْخَيْزُرَانُ هِيَ أُمُّ هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَهِيَ أَمَةٌ بَرْبَرِيَّةٌ وَلَهَا خَيْرَاتٌ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا تُبَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ الطَّيِّبَاتِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ إنَّمَا النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ الِانْهِمَاكِ وَاِتِّخَاذِ اللَّذَّاتِ دَيْدَنًا كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتْرَفُونَ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إلَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّرِيدَ. مَطْلَبٌ: أَحَبُّ الطَّعَامِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّرِيدُ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّرِيدَ مِنْ الْخُبْزِ وَالثَّرِيدَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الْحَيْسِ وَكَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْحَلْوَى، وَالْعَسَلَ» . كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْحَلْوَى، وَالْعَسَلَ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ «ابْنَيْ بُسْرٍ السُّلَمِيَّيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْهُمَا قَالَا: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدَّمْنَا لَهُ زُبْدًا وَتَمْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ لَحْمَ الذِّرَاعِ وَلَحْمَ الظَّهْرِ وَعُرَاقَ الشَّاةِ» . رَوَى النَّسَائِيُّ «كَانَ أَحَبُّ الْعُرَاقِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرَاقَ الشَّاةِ الْجَنْبِ» . الْعُرَاقُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَضْمُومَةٍ فَرَاءٍ فَأَلِفٍ فَقَافٍ جَمْعُ عَرْقٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ هُوَ الْعَظْمُ إذَا أُخِذَ عَنْهُ مُعْظَمُ اللَّحْمِ، وَهُوَ جَمْعٌ نَادِرٌ. «وَكَانَ يُحِبُّ مِنْ الشَّاةِ مُقَدَّمَهَا. وَكَانَ أَحَبُّ الْفَوَاكِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّطَبَ، وَالْبِطِّيخَ» . رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ سِوَى سَعْدِ بْنِ عُتَيْبَةَ الْقَطَّانِ فَيَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَتَجْرِيمٍ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا «سَيِّدُ الْإِدَامِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ وَسَيِّدُ الشَّرَابِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ الْمَاءُ وَسَيِّدُ الرَّيَاحِينِ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ الْفَاغِيَةُ» ، وَالْفَاغِيَةُ نَوْرُ الْحِنَّاءِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْخِضَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ حَرَامٌ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ (الثَّانِي) : قَالَ فِي الْآدَابِ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ حَرَامٌ. قَالَ الْمَشَايِخُ مِنْهُمْ: إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ لِيَتَقَوَّى لِصَوْمِ الْغَدِ. (الثَّانِي) : إذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ، وَقَدْ تَنَاهَى أَكْلُهُ وَلَمْ يَشْبَعْ ضَيْفُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى أَمْسَكَ أَمْسَكَ الضَّيْفُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ لِئَلَّا يَصِيرَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ مَنْ أَسَاءَ الْقِرَى قَالَ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَثْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالُوا مِنْ السَّرَفِ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْمَائِدَةِ مِنْ الْخُبْزِ أَضْعَافُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآكِلُونَ. وَمِنْهُ أَنْ يَصْنَعَ لِنَفْسِهِ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِنَا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الْبَطْنُ أَثْلَاثًا كَمَا مَرَّ وَيَجُوزُ أَكْلُهُ أَكْثَرَ بِحَيْثُ لَا يُؤْذِيهِ وَمَعَ خَوْفِ أَذًى وَتُخَمَةٍ يَحْرُمُ. وَظَاهِرُ الْمُنْتَهَى، وَالْغَايَةِ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ. قَالَ فِي الْغَايَةِ: وَيُكْرَهُ أَكْلُهُ مِنْ أَعْلَى الصَّحْفَةِ إلَى أَنْ قَالَ: وَأَكْلُهُ حَارًّا، أَوْ كَثِيرًا بِحَيْثُ يُؤْذِيهِ أَوْ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَضُرُّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وَلَمْ يُشِرْ لِلْخِلَافِ. وَيُكْرَهُ إدْمَانُ أَكْلِ اللَّحْمِ وَتَقْلِيلُ الطَّعَامِ بِحَيْثُ يَضُرُّهُ. وَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَاوَلَ فَوْقَ حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قُوتُهُ وَقُوتُ غَيْرِهِ. قِيلَ لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: إنَّ ابْنَك بَاتَ بَشِمًا فَقَالَ: لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامُ بْنُ تَيْمِيَّةَ: يَعْنِي أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَقَاتِلِ نَفْسِهِ انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ الْآفَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ الشِّبَعِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ تَرْكُ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ. وَلَا بَأْسَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ طَعَامَيْنِ وَمِنْ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّمَا اشْتَهَيْت. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَته: الشِّبَعُ يُوجِبُ تَرَهُّلَ الْبَدَنِ وَتَكَاسُلَهُ وَكَثْرَةَ النَّوْمِ وَبَلَادَةَ الذِّهْنِ، وَذَلِكَ بِتَكْثِيرِ الْبُخَارِ فِي الرَّأْسِ حَتَّى يُغَطِّيَ مَوْضِعَ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ.، وَالْبِطْنَةُ تُذْهِبُ الْفَطِنَةَ وَتَجْلُبُ أَمْرَاضًا عَسِرَةً وَمَقَامُ الْعَدْلِ أَنْ لَا يَأْكُلَ حَتَّى تُصَدَّ الشَّهْوَةُ وَأَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ، وَهُوَ يَشْتَهِي الطَّعَامَ. وَنِهَايَةُ الْمَقَامِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثُلُثٌ طَعَامٌ وَثُلُثٌ شَرَابٌ وَثُلُثٌ نَفَسٌ» . وَالْأَكْلُ عَلَى مَقَامِ الْعَدْلِ يُصِحُّ الْبَدَنَ وَيُبْعِدُ الْمَرَضَ وَيُقَلِّلُ النَّوْمَ وَيُخَفِّفُ الْمُؤْنَةَ وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ وَيُصَفِّيهِ فَتَحْسُنُ فِكْرَتُهُ وَتَسْهُلُ الْحَرَكَاتُ وَالتَّعَبُّدَاتُ وَيَحْصُلُ الْإِيثَارُ، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ضَبَطَ بَطْنَهُ ضَبَطَ دِينَهُ وَمَنْ مَلَكَ جُوعَهُ مَلَكَ الْأَخْلَاقَ الصَّالِحَةَ، وَإِنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ بَعِيدَةٌ مِنْ الْجَائِعِ قَرِيبَةٌ مِنْ الشَّبْعَانِ، وَالشِّبَعُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَمِنْهُ يَكُونُ الْفَرَحُ، وَالْمَرَحُ وَالضَّحِكُ. ثُمَّ أَنْشَدَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ: تَجَوَّعْ فَإِنَّ الْجُوعَ يُورِثُ أَهْلَهُ ... مَصَادِرَ بِرٍّ خَيْرُهَا الدَّهْرَ دَائِمُ وَلَا تَكُ ذَا بَطْنٍ وَعَيْبٍ وَشَهْوَةٍ ... فَتُصْبِحَ فِي الدُّنْيَا وَقَلْبُك هَائِمُ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ كَثْرَةَ الْأَلْوَانِ؛ لِأَنَّهَا تَدْعُو إلَى كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَمَا زَالُوا يَذُمُّونَ الشِّبَعَ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ وَتَجَشِّيهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا قِيلَ لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: إنَّ ابْنَك لَمْ يَنَمْ اللَّيْلَةَ قَالَ: أَبَشِمًا؟ قِيلَ بَشِمًا، قَالَ: لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. قَالَ: وَعُيِّرَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَبَاك مَاتَ بَشِمًا وَمَاتَتْ أُمُّك بَغِرًا فَالْبَشَمُ فِي الطَّعَامِ، وَالْبَغَرُ فِي الْمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيّ: وَقَدْ تَقَلَّلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَزَهِّدِينَ فَضَعَفُوا عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا قَدْ لَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ الْحَلَالَ فِي وَقْتٍ فَيَصْبِرَ، وَقَدْ يُؤْثِرُ. فَأَمَّا الدَّوَامُ عَلَى مَا يُضْعِفُ الْبَدَنَ وَيُوجِبُ تَنَشُّفَ الرُّطُوبَاتِ وَيُبْسَ الدِّمَاغِ فَيُخْرِجُ إلَى الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ فَذَاكَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْجُهَّالُ، وَأَمَّا تَرْكُ الشَّهَوَاتِ فَقَدْ اعْتَمَدَهُ خَلْقٌ مِنْ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ وَلَا يَحْتَمِلُهَا كَسْبُ الْوَرَعِ. عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ مُطْلَقًا إنَّمَا يَتْرُكُ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ التَّرَفِ مِنْ أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْحَلْوَى، وَالْعَسَلَ وَأَكْلَ الدَّجَاجِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْغَفْلَةِ فَيَأْكُلُونَ شَرَهًا وَلَا يَنْظُرُونَ فِي حِلِّ الْمَطْعَمِ وَيَتَعَدَّى أَمْرُهُمْ إلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْتَنِبُوا أُمَّ الْخَبَائِثِ» . وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ النَّصِيبِيِّ قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ انْتَبَهَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَهُوَ فَزِعٌ فَقِيلَ لَهُ: مَالَك؟ فَقَالَ: أَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي هَذَا وَرَدَّدَ عَلَيَّ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى حَفِظْته، وَهُوَ: جَدَّ بِكَ الْأَمْرُ أَبَا عَمْرٍو ... وَأَنْتَ مَعْكُوفٌ عَلَى الْخَمْرِ تَشْرَبُ صَهْبَاءَ صُرَاحِيَّةٍ ... سَالَ بِك السَّيْلُ وَمَا تَدْرِي فَلَمَّا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ مَاتَ فَجْأَةً، ثُمَّ أَنْشَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَلُومُ لَمَّا خَلَتْ أَمَامَهْ ... قُلْت لَهَا لَا وَلَا كَرَامَهْ كِسْرَةُ خُبْزٍ وَقَعْبُ مَاءٍ ... وَسَحْقُ ثَوْبٍ مَعَ السَّلَامَهْ خَيْرٌ مِنْ الْعَيْشِ فِي نَعِيمٍ ... يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ نَدَامَهْ وَلَوْ أَخَذْنَا نَتَكَلَّمُ عَلَى الْجُوعِ وَضِدِّهِ، وَمَقْبُولِ مَا قِيلَ فِيهِ وَرَدِّهِ لَمَلَّ الطَّبْعُ. وَخَرَجْنَا عَنْ الْوَضْعِ لَكِنْ فِي الْإِشَارَةِ. مَا يُغْنِي عَنْ بَسْطِ الْعِبَارَةِ. مَطْلَبٌ: مَنْ أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَاسْتَمْتَعَ بِهَا نَقَصَتْ دَرَجَاتُهُ (الثَّالِثُ) : قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ فِي إقْنَاعِهِ، وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهِمَا: وَمَنْ أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعَ بِهَا نَقَصَتْ دَرَجَاتُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَدَلِيلُ هَذَا مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَقِيَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقَدْ ابْتَعْت لَحْمًا بِدِرْهَمٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 فَقَالَ: قُلْت قَرِمَ أَهْلِي فَابْتَعْت لَهُمْ لَحْمًا بِدِرْهَمٍ فَجَعَلَ عُمَرُ يُرَدِّدُ قَرِمَ أَهْلِي حَتَّى تَمَنَّيْت أَنَّ الدِّرْهَمَ سَقَطَ مِنِّي وَلَمْ أَلْقَ عُمَرَ قَوْلُهُ قَرِمَ أَهْلِي أَيْ اشْتَدَّتْ شَهْوَتُهُمْ اللَّحْمَ. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَمَعَهُ حَامِلُ لَحْمٍ فَقَالَ عُمَرُ: " أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ لِجَارِهِ وَابْنِ عَمِّهِ فَأَيْنَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ مُرْسَلًا وَمَوْصُولًا قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ: قَالَ الْحَلِيمِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْوَعِيدُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لِلْكُفَّارِ الَّذِي يَقْدُمُونَ عَلَى الطَّيِّبَاتِ الْمَحْظُورَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20] . فَقَدْ يُخْشَى مِثْلُهُ عَلَى الْمُنْهَمِكِينَ فِي الطَّيِّبَاتِ الْمُبَاحَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَعَوَّدَهَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى الدُّنْيَا فَلَمْ يُؤْمِنْ أَنْ يَرْتَبِكَ فِي الشَّهَوَاتِ أَيْ يَقَعَ وَيَنْشَبَ وَلَا يَتَخَلَّصَ مِنْهَا، وَالْمَلَاذُ كُلَّمَا أَجَابَ نَفْسَهُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا دَعَتْهُ إلَى غَيْرِهَا فَيَصِيرُ إلَى أَنْ لَا يُمْكِنَهُ عِصْيَانُ نَفْسِهِ فِي هَوًى قَطُّ وَيَنْسَدُّ بَابُ الْعِبَادَةِ دُونَهُ، فَإِذَا آلَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى هَذَا لَمْ يَبْعِدْ أَنْ يُقَالَ لَهُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20] فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُعَوَّدَ النَّفْسُ بِمَا تَمِيلُ بِهِ إلَى الشَّرَهِ، ثُمَّ يَصْعُبُ تَدَارُكهَا، وَلْتَرْضَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى السَّدَادِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُدَرَّبَ عَلَى الْفَسَادِ، ثُمَّ يَجْتَهِدَ فِي إعَادَتِهَا إلَى الصَّلَاحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] : أَيْ مِنْ الشُّكْرِ عَنْ النَّعِيمِ فَيُطَالَبُ الْعَبْدُ، فَإِذَا شَكَرَ اللَّهَ عَلَى النَّعِيمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ عَلَى مَا أَبَاحَ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ وَفِعْلِ مَحْذُورٍ. قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ، فَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ النَّعِيمِ فَقِيلَ مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ وَيُعَذَّبُونَ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ وَقِيلَ عَامٌّ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ هَذَا هُوَ النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ثُمَّ قَوْلُهُ «إذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا فَضَرَبْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَقُولُوا بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 شَبِعْتُمْ فَقُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْبَعَنَا وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا فَأَفْضَلُ، فَإِنَّ هَذَا كَفَافٌ بِهَذَا» . قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: ثُمَّ النَّعِيمُ هَلْ هُوَ عَامٌّ، أَوْ خَاصٌّ قَوْلَانِ: الظَّاهِرُ الْعُمُومُ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ الصَّحِيحُ فَالْكَافِرُ يُسْأَلُ تَوْبِيخًا، وَالْمُؤْمِنُ عَنْ الشُّكْرِ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: سُؤَالُ تَعْدَادِ النِّعَمِ وَإِعْلَامٍ بِالِامْتِنَانِ بِهَا لَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَمُحَاسَبَةٍ. (الرَّابِعُ) : قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: مَنْ تَفَكَّرَ فِي أَقَلِّ نِعْمَةٍ عَلِمَ أَنَّ شُكْرَهَا لَا يَسْتَوْعِبُهَا قَالَ: وَلَوْ ذَكَرْنَا نِعْمَةً وَاحِدَةً لَمَا أَحَطْنَا بِحَوَاشِيهَا. . مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ سَبَبَ بَقَاءِ الْآدَمِيِّ الْقُوتُ وَلَكِنْ اُنْظُرْ إلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ سَبَبَ بَقَاءِ الْآدَمِيِّ الْقُوتَ فَمِنْ النِّعْمَةِ: الْمُتَنَاوَلُ، وَالْمُتَبَادَلُ، فَأَمَّا الْمُتَنَاوَلُ فَالْحَبُّ مَثَلًا، فَلَوْ أَنَّك تَنَاوَلْت الْمَوْجُودَ فَنِيَ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ نَاشِئًا بِالزَّرْعِ، فَإِذَا بَذَرَهُ الْحُرَّاثُ افْتَقَرُوا إلَى الْمِيرَةِ وَتَنْقِيَةِ الْأَرْضِ مِنْ الْحَشِيشِ وَجَعَلَ فِي الزَّرْعِ قُوَّةً يَجْتَذِبُ بِهَا الْغِذَاءَ إلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ وَعُرُوقِهِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَجْتَذِبُ ذَلِكَ فِي الْعُرُوقِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَظْهَرُ غَلِيظَةَ الْأُصُولِ فِي الْوَرَقَةِ، ثُمَّ يُسْتَدَقُّ إلَى عُرُوقٍ شِعْرِيَّةٍ تَنْبَسِطُ فِي جَمِيعِ الْوَرَقَةِ، وَكَمَا أَنَّك تَغْتَذِي بِطَعَامٍ مَخْصُوصٍ إذْ الْخَشَبُ لَا يُغَذِّيَك، فَكَذَلِكَ النَّبَاتُ يَفْتَقِرُ إلَى الْمَاءِ، وَالْهَوَاءِ وَالتُّرَابِ، وَالْحَرَارَةِ. فَانْظُرْ كَيْفَ سَخَّرَ لَهُ الْغُيُومَ وَبَعَثَ الرِّيَاحَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ وَسَخَّرَ حَرَارَةَ الشَّمْسِ، فَلَمَّا افْتَقَرَتْ الْأَغْذِيَةُ إلَى رُطُوبَةٍ خَلَقَ الْقَمَرَ فَهُوَ يُنْضِجُ الْفَوَاكِهَ وَيَصْبُغُهَا فَإِذَا تَكَامَلَ الْبَذْرُ افْتَقَرَ إلَى الْحَصَادِ، وَالْفَرْكِ وَالتَّنْقِيَةِ وَالطَّحْنِ، وَالْعَجْنِ، وَالْخَبْزِ، وَلَوْ تَأَمَّلْت مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَطَالَ؛ لِأَنَّك إذَا نَظَرْت فِي آلَاتِ الْحِرَاثِ رَأَيْتهَا مُحْتَاجَةً إلَى نَجَّارٍ وَحَدَّادٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَا يَسْتَدِيرُ رَغِيفٌ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمَلَكِ الَّذِي يَسُوقُ السَّحَابَ إلَى أَنْ تَأْكُلَهُ. مَطْلَبٌ: لَا يَسْتَدِيرُ الرَّغِيفُ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَانِعًا وَفِي الْإِحْيَاءِ لِلْغَزَالِيِّ لَا يَسْتَدِيرُ الرَّغِيفُ وَيُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْك حَتَّى يَعْمَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 فِيهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَانِعًا أَوَّلُهُمْ مِيكَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ الَّذِي يَكِيلُ الْمَاءَ مِنْ خَزَائِنِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَزْجُرُ السَّحَابَ وَالشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ، وَالْأَفْلَاكَ وَدَوَابَّ الْأَرْضِ، وَآخِرُ ذَلِكَ الْخَبَّازُ انْتَهَى. وَلَمَّا تَمَّ ذَلِكَ جَعَلَ لَك مَيْلًا إلَيْهِ وَشَوْقًا فِي الطَّبْعِ؛ لِأَنَّك لَوْ رَأَيْته وَلَمْ يَكُنْ لَك إلَيْهِ شَوْقٌ لَمْ تَطْلُبْهُ فَجَعَلَ شَهْوَتَك لَهُ كَالْمُتَقَاضِي، فَإِذَا أَخَذْت مِقْدَارَ الْحَاجَةِ سَكَنَتْ تِلْكَ الشَّهْوَةُ، وَكَذَلِكَ شَهْوَةُ الْوِقَاعِ لِيَبْقَى النَّسْلُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَلَدِك فَيُلْقِي الْحِرْصَ فِي قُلُوبِ التُّجَّارِ فَيَنْقُلُونَهُ إلَيْك، فَإِذَا تَنَاوَلْت الطَّعَامَ أَلْقَيْته فِي دِهْلِيزِ الْفَمِ وَبِذَلِكَ لَا يَتَهَيَّأُ ابْتِلَاعُهُ فَخَلَقَ الْأَسْنَانَ تَقْطَعُهُ، وَالْأَضْرَاسَ تَطْحَنُهُ وَجَعَلَ الرَّحَى الْأَسْفَلَ يَدُورُ دُونَ الْأَعْلَى لِئَلَّا يُخَاطِرَ بِالْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ وَلَسْت تَرَى رَحَى قَطُّ يَدُورُ أَسْفَلَهَا. وَلَمَّا كَانَ الْمَطْحُونُ يَفْتَقِرُ إلَى تَقْلِيبٍ لِيُطْحَنَ بِهِ مَا لَمْ يُطْحَنْ خَلَقَ اللِّسَانَ لِيُقَلِّبَهُ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى، بَلْعِهِ إلَّا أَنْ يُزْلَقَ بِنَوْعِ رُطُوبَةٍ، فَانْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ تَحْتَ اللِّسَانِ عَيْنًا يَفِيضُ اللُّعَابُ مِنْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَيَعْجِنُ بِهَا الطَّعَامَ، أَلَا تَرَاهَا إذَا دَنَا مِنْك الطَّعَامُ تَنْهَضُ لِلْخِدْمَةِ فَتَتَحَلَّبُ، ثُمَّ هَيَّأَ الْمَرِيءَ، وَالْحَنْجَرَةَ لِبَلْعِهِ، فَيَهْوَى فِي دِهْلِيزِ الْمَرِيءِ إلَى الْمَعِدَةِ، فَيُطْبَخُ هُنَاكَ وَيَصِيرُ مَائِعًا، ثُمَّ تَصْبُغُهُ الْكَبِدُ بِلَوْنِ الدَّمِ، وَتُنْضِجُهُ فَيَنْبَعِثُ إلَى الْأَعْضَاءِ فِي الْعُرُوقِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَتَبْقَى فَضْلَتَانِ إحْدَاهُمَا شَبِيهٌ بِالدُّرْدِيِّ، وَالْعَكِرِ، وَهُوَ الْخَلْطُ السَّوْدَاوِيُّ، وَالْأُخْرَى شَبِيهٌ بِالرَّغْوَةِ، وَهِيَ الصَّفْرَاءُ فَيَبْقَى الدَّمُ صَافِيًا، وَإِنَّمَا يَثْقُلُ الشُّكْرُ أَوْ تُقَالُ لَفْظَةُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " عَلَى سَبِيلِ الْغَفْلَةِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِالْمُنْعِمِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِمِقْدَارِ النِّعْمَةِ وَيَدُلُّك عَلَى الْجَهْلِ أَنَّك لَوْ حُبِسْت فِي حَمَّامٍ فَخَرَجْت إلَى الْهَوَاءِ الْبَارِدِ وَجَدْت لَذَّةً لَمْ تَجِدْهَا وَذَلِكَ النَّفَسُ هُوَ الدَّائِمُ غَيْرَ أَنَّ الضِّدَّ عَرَّفَك قَدْرَهُ. وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ، ثُمَّ قَالَ: فَيَا غَافِلًا عَنْ النِّعَمِ زَاحَمْت فِي الْغَفْلَةِ النَّعَمَ مَا تَعْرِفُ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا الْأَكْلَ وَلَا مِنْ الْمَاءِ إلَّا الشُّرْبَ. وَتَتَكَاسَلُ فِي لَفْظِ الْحَمْدِ، ثُمَّ تُنْفِقُ النِّعَمَ فِي مَعَاصِي الْمُنْعِمِ. يَا عَدِيمَ الْعَقْلِ وَلَيْسَ بِمَجْنُونٍ. يَا رَاقِدًا فِي غَفْلَتِهِ وَلَيْسَ بِنَائِمٍ، يَا مَيِّتًا فِي حَيَاتِهِ وَلَيْسَ بِمَقْبُورٍ افْتَحْ بَصَرَ الْبَصِيرَةِ تَرَ الْعَجَائِبَ، وَإِنْ تَرَقَّيْت بِفَهْمِك عَلِمْت أَنَّ مَا بَيْنَ يَدَيْك أَعْجَبُ. وَإِنَّمَا هِيَ الدَّارُ كَالْمَكْتَبِ يَخْرُجُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ بَيْنَ حَاذِقٍ وَبَيْنَ غَافِلٍ وَمُتَعَلِّمٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ النِّعَمِ الْمُسَهِّلَةِ لِهَضْمِ الطَّعَامِ، وَأَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ مَدْخَلَهُ وَمُسْتَقَرَّهُ وَمَخْرَجَهُ رَأَى فِيهِ الْعَجَائِبَ، وَالْعِبَرَ وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: وَإِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ إلَى غِذَائِهِ فَقَطْ فِي مَدْخَلِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ وَمَخْرَجِهِ رَأَى فِيهِ الْعِبَرَ، وَالْعَجَائِبَ كَيْفَ جُعِلَتْ لَهُ آلَةٌ يَتَنَاوَلُهُ بِهَا، ثُمَّ بَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ، ثُمَّ آلَةٌ تَقْطَعُهُ صِغَارًا، ثُمَّ طَاحُونٌ تَطْحَنُهُ، ثُمَّ أَعْيُنٌ بِمَاءٍ تَعْجِنُهُ، ثُمَّ جُعِلَ لَهُ مَجْرَى وَطَرِيقٌ إلَى جَانِبِ مَجْرَى النَّفَسِ يَنْزِلُ هَذَا وَيَصْعَدُ هَذَا فَلَا يَلْتَقِيَانِ مَعَ غَايَةِ الْقُرْبِ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ حَوَايَا وَطُرُقًا تُوَصِّلُهُ إلَى الْمَعِدَةِ فَهِيَ خِزَانَتُهُ وَمَوْضِعُ اجْتِمَاعِهِ، وَلَهَا بَابَانِ: بَابٌ أَعْلَى يَدْخُلُ مِنْهُ الطَّعَامُ وَبَابٌ أَسْفَلُ يَخْرُجُ مِنْهُ ثُفَلُهُ، وَالْبَابُ الْأَعْلَى أَوْسَعُ مِنْ الْأَسْفَلِ إذْ الْأَعْلَى مَدْخَلٌ لِلْحَاصِلِ، وَالْأَسْفَلُ مُصَرِّفٌ لِلضَّارِّ مِنْهُ، وَالْأَسْفَلُ مُنْطَبِقٌ دَائِمًا لِيَسْتَقِرَّ الطَّعَامُ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِذَا انْتَهَى الْهَضْمُ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَابَ يَنْفَتِحُ إلَى انْقِضَاءِ الدَّفْعِ وَيُسَمَّى الْبَوَّابُ لِذَلِكَ، وَالْأَعْلَى يُسَمَّى فَمُ الْمَعِدَةِ يَنْزِلُ إلَى الْمَعِدَةِ مُتَلَمِّسًا، فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِيهَا انْمَاعَ وَذَابَ وَيُحِيطُ بِالْمَعِدَةِ مِنْ دَاخِلِهَا وَخَارِجِهَا حَرَارَةٌ نَارِيَّةٌ، بَلْ رُبَّمَا تَزِيدُ عَلَى حَرَارَةِ النَّارِ يَنْضَجُ بِهَا الطَّعَامُ فِيهَا كَمَا يَنْضَجُ الطَّعَامُ فِي الْقِدْرِ بِالنَّارِ الْمُحِيطَةِ بِهِ وَلِذَلِكَ تُذِيبُ مَا هُوَ مُسْتَحْجَرٌ كَالْحَصَى وَغَيْرِهِ حَتَّى تَتْرُكَهُ مَائِعًا، فَإِذَا أَذَابَتْهُ عَلَا صَفْوُهُ إلَى فَوْقٍ وَرَسَا كَدَرُهُ إلَى أَسْفَلَ. وَمِنْ الْمَعِدَةِ عُرُوقٌ مُتَّصِلَةٌ بِسَائِرِ الْبَدَنِ يَنْبَعِثُ فِيهَا مَعْلُومُ كُلِّ عُضْوٍ وَقِوَامُهُ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَقَبُولِهِ فَيَبْعَثُ أَشْرَفَ مَا فِي ذَلِكَ وَأَلْطَفَهُ وَأَحَبَّهُ إلَى الْأَرْوَاحِ، فَتَبْعَثُ إلَى الْبَصَرِ بَصَرًا وَإِلَى السَّمْعِ سَمْعًا وَإِلَى الشَّمِّ شَمًّا وَإِلَى كُلِّ حَاسَّةٍ بِحَسْبِهَا، فَهَذَا أَلْطَفُ مَا يَتَوَلَّدُ عَنْ الْغِذَاءِ، ثُمَّ يَنْبَعِثُ مِنْهُ إلَى الدِّمَاغِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي اللَّطَافَةِ وَالِاعْتِدَالِ، ثُمَّ يَنْبَعِثُ مِنْ الْبَاقِي إلَى الْأَعْضَاءِ فِي تِلْكَ الْمَجَارِي بِحَسْبِهَا وَيَنْبَعِثُ مِنْهُ إلَى الْعِظَامِ وَالشُّعُورِ، وَالْأَظْفَارِ مَا يُغَذِّيهَا وَيَحْفَظُهَا فَيَكُونُ الْغِذَاءُ دَاخِلًا الْمَعِدَةَ مِنْ طُرُقٍ وَمَجَارٍ، هَذَا وَارِدٌ إلَيْهَا وَهَذَا صَادِرٌ عَنْهَا. حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَنِعْمَةٌ سَابِغَةٌ. وَلَمَّا كَانَ الْغِذَاءُ إذَا اسْتَحَالَ فِي الْمَعِدَةِ اسْتَحَالَ دَمًا وَمِرَّةً سَوْدَاءَ وَمِرَّةً صَفْرَاءَ وَبَلْغَمًا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاطِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 مَصْرِفًا يَنْصَبُّ إلَيْهِ وَيَجْتَمِعُ فِيهِ وَلَا يَنْبَعِثُ إلَى الْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ إلَّا أَكْمَلُهُ فَوَضَعَ الْمَرَارَةَ مَصَبًّا لِلْمِرَّةِ الصَّفْرَاءِ وَوَضَعَ الطِّحَالَ مَقَرًّا لِلْمِرَّةِ السَّوْدَاءِ، وَالْكَبِدُ يَمْتَصُّ أَشْرَفَ مَا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الدَّمُ يَبْعَثُهُ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ مِنْ عِرْقٍ وَاحِدٍ يَنْقَسِمُ عَلَى مَجَارٍ كَثِيرَةٍ يُوَصِّلُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّعُورِ، وَالْأَعْصَابِ، وَالْعِظَامِ، وَالْعُرُوقِ مَا يَكُونُ بِهِ قِوَامُهُ. ثُمَّ إذَا نَظَرْت إلَى مَا فِي هَذَا الْجِسْمِ مِنْ الْقُوَى الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي أَنْفُسِهَا وَمَنَافِعِهَا رَأَيْت الْعَجَبَ الْعُجَابَ كَقُوَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ وَذَوْقِهِ وَلَمْسِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِدْرَاكِ، وَالْإِرَادَةِ، وَكَذَلِكَ الْقُوَى الْمُتَصَرِّفَةُ فِي غِذَائِهِ كَالْقُوَّةِ الْمُنْضِجَةِ لَهُ وَكَالْقُوَّةِ الْمَاسِكَةِ لَهُ وَالدَّافِعَةِ لَهُ إلَى الْأَعْضَاءِ، وَالْقُوَّةِ الْهَاضِمَةِ لَهُ بَعْدَ أَخْذِ الْأَعْضَاءِ حَاجَتَهَا مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: فَتَأَمَّلْ حَالَ الطَّعَامِ فِي وُصُولِهِ إلَى الْمَعِدَةِ وَكَيْفَ يَسْرِي مِنْهَا فِي الْبَدَنِ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَقَرَّ فِيهَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ فَتَطْبُخُهُ وَتُجِيدُ صَنْعَتَهُ، ثُمَّ تَبْعَثُهُ إلَى الْكَبِدِ فِي مَجَارٍ دِقَاقٍ، وَقَدْ جَعَلَ بَيْنَ الْكَبِدِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْمَجَارِي غِشَاءً رَقِيقًا كَالْمِصْفَاةِ الضَّيِّقَةِ الْأَبْخَاشِ تُصَفِّيهِ فَلَا يَصِلُ إلَى الْكَبِدِ مِنْهُ شَيْءٌ غَلِيظٌ خَشِنٌ فَلَا يَنْكَأَهَا؛ لِأَنَّ الْكَبِدَ رَقِيقَةٌ لَا تَحْمِلُ الْغَلِيظَ، فَإِذَا قَبِلَتْهُ الْكَبِدُ أَنْفَذَتْهُ إلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ فِي مَجَارٍ مُهَيَّأَةٍ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَارِي الْمُعَدَّةِ لِلْمَاءِ لِيَسْلُكَ فِي الْأَرْضِ فَيَعُمَّهَا بِالسَّقْيِ، ثُمَّ يَبْعَثُ مَا بَقِيَ مِنْ الْخَبَثِ، وَالْفُضُولِ إلَى مَغَايِضَ وَمَصَارِفَ قَدْ أُعِدَّتْ لَهَا فَمَا كَانَ مِنْ مِرَّةٍ صَفْرَاءَ بَعَثَتْ بِهِ إلَى الْمَرَارَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ مِرَّةٍ سَوْدَاءَ بَعَثَتْ بِهِ إلَى الطِّحَالِ، وَمَا كَانَ مِنْ الرُّطُوبَةِ الْمَائِيَّةِ بَعَثَتْ بِهِ إلَى الْمَثَانَةِ فَمَنْ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ وَأَحْكَمَهُ، وَدَبَّرَهُ وَقَدَّرَهُ أَحْسَنَ تَقْدِيرٍ وَأَتَمَّهُ. انْتَهَى. فَانْظُرْ لَوْ قُمْت اللَّيْلَ وَصُمْت النَّهَارَ بِقَلْبٍ لَا يَغْفُلُ، وَلِسَانٍ عَنْ الذِّكْرِ لَا يَعْقِلُ هَلْ أَدَّيْت شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ؟ وَلَا يَذْهَبُ عَنْك أَنَّهُ لَوْ انْسَدَّ مَجْرَى مِنْ تِلْكَ الْمَجَارِي الدِّقَاقِ الَّتِي تَنْبَعِثُ مِنْهَا تِلْكَ الْأَغْذِيَةُ لَجَفَّ مَا تُؤَدِّيهِ إلَيْهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ، وَالْعُرُوقِ، وَالْأَعْصَابِ كَالشَّجَرَةِ الَّتِي حُبِسَ عَنْهَا الْمَاءُ فَلَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 لِلْعَاقِلِ إلَّا الِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ عَنْ تَأْدِيَةِ شُكْرِ أَقَلِّ نِعْمَةٍ، وَمَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ الْعَجْزِ فَقَدْ أَهْلَكَهَا وَحَدَّثَهَا بِالْمُحَالِ، وَلَوْ أَخَذْنَا نَتَكَلَّمُ عَلَى مَصَارِفِ الْأَغْذِيَةِ وَكَيْفِيَّةِ إنْضَاجِهَا وَتَفْرِقَتِهَا فِي الْبَدَنِ لَطَالَ الْكِتَابُ وَخَرَجْنَا عَنْ الْمَقْصُودِ، وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِمِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ، فَإِنَّهُ تَكَفَّلَ بِحَلِّ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي اسْتِحْبَابِ تَصْغِيرِ اللُّقْمَةِ: وَيَحْسُنُ تَصْغِيرُ الْفَتَى لُقْمَةَ الْغِذَا ... وَبَعْدَ ابْتِلَاعٍ ثَنِّ وَالْمَضْغَ جَوِّدْ (وَيَحْسُنُ) بِمَعْنَى يَنْدُبُ وَيُسْتَحَبُّ (تَصْغِيرُ الْفَتَى) أَيْ كُلِّ آكِلٍ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ (لُقْمَةَ الْغِذَا) أَيْ لُقَمَ مَا يَتَغَذَّى بِهِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى يُسَنُّ أَنْ يُصَغِّرَ اللُّقَمَ وَيُجِيدَ الْمَضْغَ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ إطَالَةِ الْأَكْلِ، وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَمْ أَجِدْهَا مَأْثُورَةً، وَلَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَذْكُورَةً، لَكِنْ فِيهَا مُنَاسَبَةٌ، وَقَالَ أَيْضًا: نَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ اسْتِحْبَابِ تَصْغِيرِ الْأَرْغِفَةِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا اسْتِحْبَابَ تَصْغِيرِ الْكَبِيرِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْخَبْزِ وَعِنْدَ الْوَضْعِ وَعِنْدَ الْأَكْلِ انْتَهَى. قُلْت: قَدْ يُسْتَدَلُّ لِتَصْغِيرِ الْأَرْغِفَةِ بِمَا رَوَى الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «قُوتُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجُنَيْدِ أَحَدُ رُوَاتِهِ: سَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفَسِّرُ هَذَا قَالَ هَذَا تَصْغِيرُ الْأَرْغِفَةِ. وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ: وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ تَصْغِيرُ الْأَرْغِفَةِ. قَالَ فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ الْخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَتَبَّعْت هَلْ كَانَتْ أَقْرَاصُ خُبْزِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِغَارًا أَمْ كِبَارًا فَلَمْ أَجِدْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ الْفَحْصِ، وَأَمَّا حَدِيثُ «صَغِّرُوا الْخُبْزَ وَأَكْثِرُوا عَدَدَهُ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» فَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ وَسَنَدُهُ وَاهٍ انْتَهَى. قُلْت: وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَقَالَ الْحَافِظُ: تَتَبَّعْت هَلْ كَانَ خُبْزُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَلَمْ أَرَ فِيهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 شَيْئًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يَمُدُّ يَعْنِي الْآكِلَ يَدَهُ إلَى الْأُخْرَى يَعْنِي إلَى اللُّقْمَةِ الْأُخْرَى حَتَّى يَبْتَلِعَ مَا قَبْلَهَا، وَلِذَا قَالَ فِي الْآدَابِ: وَلَا يَأْكُلُ لُقْمَةً حَتَّى يَبْلَعَ مَا قَبْلَهَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: (وَبَعْدَ ابْتِلَاعٍ) اللُّقْمَةَ الْأُولَى (ثَنِّ) أَيْ تَنَاوَلْ لُقْمَةً ثَانِيَةً وَلَا تَبْلَعْ الْغِذَاءَ إلَّا بَعْدَ إجَادَةِ الْمَضْغِ، وَلِذَا قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْمَضْغَ) . قَالَ فِي الْقَامُوسِ مَضَغَهُ كَمَنَعَهُ لَاكَهُ بِسِنِّهِ، وَالْمَضَاغُ كَسَحَابٍ مَا يُمْضَغُ (جَوِّدْ) أَيْ أَحْكِمْ مَضْغَهُ وَأَحْسِنْهُ حَتَّى يَصِيرَ جَيِّدًا ضِدَّ الرَّدِيءِ، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ شُرَّافَةِ النَّفْسِ وَمُرَاعَاةِ الْمَعِدَةِ، وَالْبُعْدِ عَنْ الِاغْتِصَاصِ بِاللُّقْمَةِ مَعَ التَّأَدُّبِ مَعَ الْجَلِيسِ إنْ كَانَ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. مَطْلَبٌ: يُسَنُّ لَعْقُ الْأَصَابِعِ: وَيَحْسُنُ قَبْلَ الْمَسْحِ لَعْقُ أَصَابِعً ... وَأَكْلُ فُتَاتٍ سَاقِطٍ بِتَثَرُّدِ (وَيَحْسُنُ) أَيْ يُسَنُّ لِمَنْ فَرَغَ مِنْ أَكْلِهِ (قَبْلَ الْمَسْحِ) أَيْ قَبْلَ مَسْحِ يَدِهِ بِنَحْوِ الْمِنْدِيلِ (لَعْقُ) أَيْ لَحْسُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: لَعِقَهُ كَسَمِعَهُ لَعْقَةً وَيُضَمُّ لَحِسَهُ (أَصَابِعَ) جَمْعُ أُصْبُعٍ وَذَلِكَ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلِهِ. فَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَيَلْعَقُهُنَّ إذَا فَرَغَ» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَجْرَةَ. وَالْحُسَيْنُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْأَدْنَى وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ بِالْإِبْهَامِ وَاَلَّتِي تَلِيهَا، وَالْوُسْطَى، ثُمَّ رَأَيْته يَلْعَقُ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَمْسَحَهَا قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا وَيَلْعَقَ الْوُسْطَى، ثُمَّ الَّتِي تَلِيهَا، ثُمَّ الْإِبْهَامَ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا بِسَنَدِ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ لَعِقَ أَصَابِعَهُ، وَقَالَ: إنَّ لَعْقَ الْأَصَابِعِ بَرَكَةٌ» وَرَوَى مُسْلِمٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ سَعْدٍ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَإِذَا فَرَغَ لَعِقَهَا» ، وَلَفْظُ أَبِي بَكْرٍ «يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا» . وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ الْإِبْهَامَ وَاللَّتَيْنِ يَلِيَانِهَا» وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ أَصَابِعَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ» ، وَقَالَ: «إذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ» «وَأَمَرَ بِسَلْتِ الْقَصْعَةِ، وَقَالَ: إنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ» وَذَكَرَ فِي الْآدَابِ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «إذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذَى وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ أَوْ يُلْعِقَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْمِنْدِيلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّدْلِ، وَهُوَ النَّقْلُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ وَقِيلَ: لِأَنَّ الْوَسَخَ يَنْدَلُّ بِهِ يُقَالُ: تَنَدَّلْت بِالْمِنْدِيلِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَيُقَالُ أَيْضًا تَمَنْدَلْتُ وَأَنْكَرَهَا الْكِسَائِيُّ وَفِي الْقَامُوسِ الْمِنْدِيلُ بِالْكَسْرِ، وَالْفَتْحِ، وَكَمِنْبَرٍ الَّذِي يُتَمَسَّحُ بِهِ وَتَنَدَّلَ بِهِ وَتَمَنْدَلَ تَمَسَّحَ. وَعَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ، وَقَالَ: إنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ: كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا، وَمَا قُرِّبَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا أَكَلَهُ إلَّا أَنْ تَعَافَهُ نَفْسُهُ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ، وَمَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبْسُ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَغْذِيَةِ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالطَّبِيعَةِ جِدًّا، وَلَوْ أَنَّهُ أَطْيَبُ، بَلْ كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِأَكْلِهِ مِنْ اللَّحْمِ، وَالْفَاكِهَةِ، وَالْخُبْزِ وَالتَّمْرِ كَمَا مَرَّ. وَكَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَاعِي صِفَةَ الْأَطْعِمَةِ وَطَبَائِعَهَا وَاسْتِعْمَالَهَا عَلَى قَاعِدَةِ الطِّبِّ، فَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الطَّعَامَيْنِ مَا يَحْتَاجُ إلَى كَسْرٍ وَتَعْدِيلٍ كَسَرَهُ وَعَدَّلَهُ بِضِدِّهِ إنْ أَمْكَنَ كَتَعْدِيلِهِ حَرَارَةَ الرُّطَبِ بِالْبِطِّيخِ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ وَكَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ لَعِقَ أَصَابِعَهُ وَلَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 تَكُنْ لَهُمْ مَنَادِيلُ يَمْسَحُونَ بِهَا أَيْدِيَهُمْ وَلَمْ تَكُنْ عَادَتُهُمْ غَسْلَ أَيْدِيهِمْ كُلَّمَا أَكَلُوا انْتَهَى. وَقَالَ فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ: وَلَا عِبْرَةَ بِكَرَاهَةِ الْجُهَّالِ لِلَعْقِ الْأَصَابِعِ اسْتِقْذَارًا. نَعَمْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ فَيَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُ أَصَابِعَهُ وَعَلَيْهَا أَثَرُ رِيقِهِ وَعَزَاهُ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ جَيِّدٌ جِدًّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي أَكْلِ السَّاقِطِ مِنْ الطَّعَامِ (وَ) يَحْسُنُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْآكِلِينَ وَغَيْرِهِمْ (أَكْلُ فُتَاتٍ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْفُتَاتُ مَا تَفَتَّتَ (سَاقِطٍ) مِنْ الطَّعَامِ عَلَى مَحَلٍّ طَاهِرٍ أَوَّلًا وَكَانَا جَافَّيْنِ (بِ) سَبَبِ (تَثَرُّدِ) الْخُبْزِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ ثَرَدَ الْخُبْزَ فَتَّهُ كَأَثْرَدَهُ وَتَثَرَّدَهُ بِالتَّاءِ وَالثَّاءِ عَلَى افْتَعَلَهُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْتَ فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَأَخَذَهَا فَمَسَحَهَا، ثُمَّ أَكَلَهَا، وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَحْسَنِي جِوَارَ نِعَمِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا مَا نَفَرَتْ عَنْ قَوْمٍ فَعَادَتْ إلَيْهِمْ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي سُكَيْنَةَ، وَهُوَ، وَالْبَزَّارُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ حَرَامٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ» زَادَ أَبُو سُكَيْنَةَ «، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَهُ، فَمَنْ أَكْرَمَ الْخُبْزَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ» . زَادَ عَبْدُ اللَّهِ «، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَسَخَّرَ لَهُ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ مَا يَسْقُطُ مِنْ السُّفْرَةِ غُفِرَ لَهُ» قُلْت: أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَبُرَيْدَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ حَرَامٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ وَتَعَقَّبَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ بِأَنَّ الْحَاكِمَ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سُكَيْنَةَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَقَالَ ابْنُ الدَّيْبَعِ تِلْمِيذُ الْحَافِظِ السَّخَاوِيِّ فِي كِتَابِهِ التَّمْيِيزِ: حَدِيثُ «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ» لَهُ طُرُقٌ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ مُضْطَرِبَةٌ، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ فِي الضَّعْفِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَلَا يَتَهَيَّأُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ لَا سِيَّمَا وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ» انْتَهَى. (لَطِيفَةٌ) أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وَذَكَرَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي تَارِيخِ الْخُلَفَاءِ عَنْ «هَدِيَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: حَضَرْت عِنْدَ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا رُفِعَتْ الْمَائِدَةُ جَعَلْت أَلْتَقِطُ مَا فِي الْأَرْضِ فَنَظَرَ إلَيَّ الْمَأْمُونُ فَقَالَ: أَمَا شَبِعْت؟ قُلْت بَلَى وَلَكِنِّي حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ أَكَلَ مَا تَحْتَ مَائِدَتِهِ أَمِنَ مِنْ الْفَقْرِ فَأَمَرَ لِي بِأَلْفِ دِينَارٍ» . مَطْلَبٌ: فِي اسْتِحْبَابِ تَخْلِيلِ مَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ وَإِلْقَاءِ مَا يُخْرِجُهُ الْخِلَالُ مِنْ الْخُلَالَةِ وَتَخْلِيلُ مَا بَيْنَ الْمَوَاضِعِ بَعْدَهُ ... وَأَلْقِ وَجَانِبْ مَا نَهَى اللَّهُ تَهْتَدِ (وَ) يَحْسُنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَكْلِ (تَخْلِيلُ مَا) أَيْ بَقَايَا الطَّعَامِ الْكَائِنِ (بَيْنَ الْمَوَاضِعِ) مِنْ أَسْنَانِهِ فَيُسْتَحَبُّ تَتَبُّعُ ذَلِكَ بِالْخِلَالِ وَإِخْرَاجُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الْأَكْلِ، وَالْفَرَاغِ مِنْهُ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالْخِلَالُ نَافِعٌ لِلِّثَةِ، وَالْأَسْنَانِ حَافِظٌ لِصِحَّتِهَا نَافِعٌ مِنْ تَغَيُّرِ النَّكْهَةِ قَالَ: وَأَجْوَدُ مَا اُتُّخِذَ مِنْ عِيدَانِ الْأَخِلَّةِ وَخَشَبِ الزَّيْتُونِ، وَالْخِلَافِ انْتَهَى، وَقَالَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: يُكْرَهُ التَّخَلُّلُ عَلَى الطَّعَامِ وَلَا يُخَلَّلُ بِقَصَبٍ وَلَا رُمَّانٍ وَلَا رَيْحَانٍ وَلَا طَرْفَاءَ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُضِرٌّ. وَفِي آدَابِ ابْنِ مُفْلِحٍ: وَيُخَلِّلُ أَسْنَانَهُ يَعْنِي بَعْدَ الْأَكْلِ إنْ عَلِقَ بِهَا شَيْءٌ. رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: " تَرْكُ الْخِلَالِ يُوهِنُ الْأَسْنَانَ، وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ وَاصِلِ بْنِ السَّائِبِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا «حَبَّذَا الْمُتَخَلِّلُونَ مِنْ الطَّعَامِ وَتَخَلَّلُوا مِنْ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَى الْمَلَكِ الَّذِي عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجِدَ مِنْ أَحَدِكُمْ رِيحَ الطَّعَامِ» . وَفِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ وَرَدَ فِي الْخِلَالِ حَدِيثَانِ لَمْ يَصِحَّا وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ، وَقَالَ عَلِيٌّ الْقَارِئُ: حَدِيثُ «حَبَّذَا الْمُتَخَلِّلُونَ مِنْ أُمَّتِي» قَالَ الصَّغَانِيُّ وَضْعُهُ ظَاهِرٌ وَفَسَّرَهُ بِتَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ وَبِالتَّخْلِيلِ بَعْدَ الطَّعَامِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ (وَأَلْقِ) مَا يُخْرِجُهُ الْخِلَالُ مِنْ الْخُلَالَةِ كَثُمَامَةٍ يَعْنِي بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ أَكَلَ فَمَا تَخَلَّلَ فَلْيَلْفِظْهُ، وَمَنْ لَاكَ بِلِسَانِهِ فَلْيَبْتَلِعْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» فَيُكْرَهُ ابْتِلَاعُ مَا يُخْرِجُهُ الْخِلَالُ لَا مَا يُخْرِجُ بِاللِّسَانِ وَعُمُومُ إطْلَاقِهِمْ، وَلَوْ مُنْتِنًا وَلَعَلَّهُ يُكْرَهُ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ فِي الْإِقْنَاعِ مِنْ كَرَاهَةِ أَكْلِ اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ خِلَافًا لِلْمُنْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَجَانِبِ) فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لَا سِيَّمَا فِي الْمَأْكُولَاتِ (مَا) أَيْ الشَّيْءَ الَّذِي (نَهَى اللَّهُ) جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ عَنْ إتْيَانِهِ فَلَا تَأْتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَهَى عَنْهُ سُبْحَانَهُ إلَّا لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ فِي الْبَدَنِ، أَوْ الدِّينِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ أَنْتَ فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ الْمُجَانَبَةِ لِمَا نَهَى اللَّهُ (تَهْتَدِ) لِطُرُقِ الْخَيْرَاتِ، وَتَنْجُ مِنْ الْمُوبِقَاتِ. وَتَسْلَمُ مِنْ الْعَذَابِ. وَتَخْلُصْ مِنْ الْعِقَابِ. وَكَأَنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشَارَ بِهَذِهِ التَّكْمِلَةِ إلَى مُجَانَبَةِ نَحْوِ الْخُمُورِ، أَوْ مُجَالَسَةِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، أَوْ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ، أَوْ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ فَتَكُونُ تَكْمِلَةً لِلْبَيْتِ، وَهِيَ مِنْ الْحَشْوِ اللَّذِيذِ. إذْ هِيَ أَلَذُّ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ التَّقْوَى مِنْ اللَّحْمِ الْحَنِيذِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يُسَنُّ غَسْلُ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَغَسْلُ يَدٍ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ ... وَيُكْرَهُ بِالْمَطْعُومِ غَيْرَ مُقَيَّدِ (وَ) يَحْسُنُ يَعْنِي يُسَنُّ وَيَنْدُبُ (غَسْلُ يَدٍ) أَيْ غَسْلُ الْيَدَيْنِ إنْ أَرَادَ الْأَكْلَ (قَبْلَ) تَنَاوُلِ (الطَّعَامِ) لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ وَقَيْسٌ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ «سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَرَأْت فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ بَرَكَةَ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ بَعْدَهُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرْته بِمَا قَرَأْت فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ، وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ» . قَالَ فِي الْآدَابِ: ذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: مَا حَدَّثَ بِهِ إلَّا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ ضَعَّفَ قَيْسًا هَذَا جَمَاعَةٌ وَوَثَّقَهُ آخَرُونَ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ صَدُوقٌ وَفِيهِ كَلَامٌ لِسُوءِ حِفْظِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 لَا يَخْرُجُ الْإِسْنَادُ عَنْ حَدِّ الْحَسَنِ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ يَكْرَهُ الْوُضُوءَ قَبْلَ الطَّعَامِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، وَكَذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ كَرِهَهُ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُنَا الشَّافِعِيُّ اسْتَحَبَّ تَرْكَهُ وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى الْخَلَاءَ، ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ فَأَتَى الطَّعَامَ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ قَالَ: لَمْ أُصَلِّ فَأَتَوَضَّأَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا: فَقَالَ: «إنَّمَا أُمِرْت بِالْوُضُوءِ إذَا قُمْت لِلصَّلَاةِ» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ: يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ. وَعَنْهُ يُكْرَهُ قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ وَعَنْهُ يُكْرَهُ قَبْلَهُ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدِ لِلطَّعَامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْيَدِ أَوَّلًا قَذَرٌ، أَوْ يَبْقَى عَلَيْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ رَائِحَةٌ. وَقِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِمَ كَرِهَ سُفْيَانُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ. قَالَ مُهَنَّا ذَكَرْتُهُ: لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ (وَ) يَحْسُنُ يَعْنِي يُسَنُّ غَسْلُ يَدٍ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الطَّعَامِ طَلَبًا لِلنَّظَافَةِ وَلِلْإِنْقَاءِ مِنْ الْغَمَرِ وَالزُّهُومَةِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْثِرَ اللَّهُ خَيْرَ بَيْتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ إذَا حَضَرَ غِذَاؤُهُ وَإِذَا رُفِعَ» . . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . الْغَمَرُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ بَعْدَهُمَا رَاءٌ هُوَ رِيحُ اللَّحْمِ وَزُهُومَتُهُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْبَغَوِيُّ، وَقَالَ الْبَغَوِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الشَّيْطَانَ حَسَّاسٌ لَحَّاسٌ فَاحْذَرُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ فَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْوَضَحُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ جَمِيعًا بَعْدَهُمَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْبَرَصُ. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ، وَالْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ وَغَيْرُهُمَا: الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ لَا الْوُضُوءُ. قَالَ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا اسْتَحَبَّ الْوُضُوءَ لِلْأَكْلِ إلَّا إذَا كَانَ جُنُبًا. قُلْت: الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْأَصْحَابِ اسْتِحْبَابُهُ، وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ: الْوُضُوءُ فِي كَلَامِ رَسُولِنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَرِدْ قَطُّ إلَّا وُضُوءُ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى يَعْنِي مُرَادًا بِهِ غَسْلَ الْيَدَيْنِ، وَالْفَمِ فِي لُغَةِ الْيَهُودِ. كَمَا رُوِيَ «أَنَّ سُلَيْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ فَقَالَ مِنْ بَرَكَةِ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ، وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ» فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ تُنُوزِعَ فِي صِحَّتِهِ، وَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَقَدْ أَجَابَ سُلَيْمَانُ بِاللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَهُ بِهَا أَعْنِي لُغَةَ التَّوْرَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) : غَسْلُ الْيَدَيْنِ بَعْدَ الطَّعَامِ مَسْنُونٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ وَقَبْلَهُ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ. وَعِبَارَةُ الْغَايَةِ: يُسْتَحَبُّ، وَلَوْ لِمُتَوَضِّئٍ غَسْلُ يَدَيْهِ قَبْلَ أَكْلٍ مُتَقَدِّمًا بِهِ أَيْ بِالْغَسْلِ رَبُّهُ أَيْ رَبُّ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ أَيْ بَعْدَ الْأَكْلِ مُتَأَخِّرًا بِهِ أَيْ الْغَسْلِ رَبُّهُ أَيْ رَبُّ الطَّعَامِ وَغَسْلُ فَمِهِ بَعْدَهُ وَأَنْ يَتَوَضَّأَ الْجُنُبُ قَبْلَهُ. وَمُنَاسَبَةُ ابْتِدَاءِ رَبِّ الطَّعَامِ بِالْغَسْلِ قَبْلَ الْأَكْلِ وَتَأَخُّرِهِ بَعْدَهُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ يُذَكِّرُهُمْ الْغَسْلَ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ غَيْرِ قَوْلِهِ: اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ فَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْمُرُوءَةِ وَأَمَّا تَأَخُّرُهُ بَعْدَ الْأَكْلِ لِكَوْنِهِ رَبَّ الطَّعَامِ وَأَضْيَافُهُ أَحَقُّ بِالْإِكْرَامِ وَمِنْ إكْرَامِهِمْ تَقْدِيمُهُمْ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ. وَفِي الرِّعَايَةِ يُسَنُّ غَسْلُ يَدَيْهِ وَفَمِهِ مِنْ ثُومٍ وَبَصَلٍ وَرَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي عَدَمِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ وَاسْتِحْبَابِ جَعْلِ مَاءِ الْأَيْدِي فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ (الثَّالِثُ) : لَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: قَالَ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُمْ مِنْهُمْ أَبُو حَسَنٍ الْآمِدِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: لَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي أُكِلَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ وَلَمْ تَزَلْ الْعُلَمَاءُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ، وَإِنَّمَا تُنْكِرُهُ الْعَامَّةُ. (الرَّابِعُ) : يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَلَ مَاءَ الْأَيْدِي فِي طَسْتٍ وَاحِدٍ لِلْخَبَرِ «لَا تُبَدِّدُوا يُبَدِّدْ اللَّهُ شَمْلَكُمْ» ذَكَرَهُ فِي الْآدَابِ، وَقَالَ: رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُرْفَعَ الطَّسْتُ حَتَّى يَطُفَّ» يَعْنِي يَمْتَلِئَ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلُهَا ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَيُكْرَهُ) غَسْلُ الْيَدَيْنِ (بِ) الشَّيْءِ (الْمَطْعُومِ) كَالدَّقِيقِ مِنْ الْبُرِّ، وَالْحِمَّصِ، وَالْعَدَسِ وَنَحْوِهَا وَلِذَا قَالَ (غَيْرَ مُقَيَّدِ) بِمَطْعُومٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَاتِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يُسْتَدَلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِاغْتِسَالِ بِالْأَقْوَاتِ بِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى خَلْطِهَا بِالْأَدْنَاسِ، وَالْأَنْجَاسِ فَنَهَى عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِهَا قَالَ: وَالْمِلْحُ لَيْسَ قُوتًا، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ، وَأَمَّا إنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى اسْتِعْمَالِ الْأَقْوَاتِ كَاللَّبَنِ وَالدَّقِيقِ لِلْجَرَبِ وَنَحْوِهِ وَالدَّبْغِ بِدَقِيقِ الشَّعِيرِ رَخَّصَ فِيهِ كَمَا رَخَّصَ فِي قَتْلِ دُودِ الْقَزِّ بِالتَّشْمِيسِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إذْ لَا تَكُونُ حُرْمَةُ الْقُوتِ أَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ الْحَيَوَانِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَبِهَذَا قَدْ يُجَابُ عَنْ الْمِلْحِ بِأَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْأَصْلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إهَانَتِهَا بِوَضْعِ الْإِدَامِ فَوْقَهَا كَمَا ذَكَرَهُ سَيِّدُنَا عَبْدُ الْقَادِرِ. وَدَلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ وَأَخْذِ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ وَإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْهَا كُلُّ ذَلِكَ لِئَلَّا يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ الْقُوتِ، وَالتَّدَلُّكُ بِهِ إضَاعَةٌ لِقِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، وَهُوَ مِنْ نَوْعِ التَّبْذِيرِ الَّذِي هُوَ مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ: وَسُئِلْت عَنْ غَسْلِ الْأَيْدِي بِالْمِسْكِ فَقُلْت: إنَّهُ إسْرَافٌ بِخِلَافِ تَتَبُّعِ الدَّمِ بِالْفُرْصَةِ الْمَسْكَةِ، فَإِنَّهُ يَسِيرٌ لِلْحَاجَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي غَيْرِ التَّطَيُّبِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَاسْتِعْمَالِ الْقُوتِ فِي غَيْرِ التَّقَوُّتِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَحَدِيثُ الْبَقَرَةِ إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِلرُّكُوبِ يُسْتَأْنَسُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ غَسْلُ الْيَدِ بِطِيبٍ، وَلَوْ كَثُرَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ انْتَهَى. وَعَدَمُ الْكَرَاهَةِ الْمَذْهَبُ، وَكَذَا الْغُسْلُ بِالنُّخَالَةِ الْخَالِصَةِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ نَصَّ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 مَطْلَبٌ: فِي أَكْلِ الطِّيبِ، وَمَا خَشُنَ وَلُبْسِ الرَّقِيقِ، وَالْغَلِيظِ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ، وَأَنَّ تَرْكَ الطَّيِّبَاتِ لَيْسَ مِنْ الزُّهْدِ فِي شَيْءٍ وَكُلْ طَيِّبًا أَوْ ضِدَّهُ وَالْبَسْ الَّذِي ... تُلَاقِيهِ مِنْ حِلٍّ وَلَا تَتَقَيَّدْ (وَكُلْ) أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمُقْتَفِي سُنَنَ نَبِيِّك الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (طَيِّبًا) مِنْ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ كَاللَّحْمِ وَالسَّمْنِ، وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ، وَالْخُبْزِ الرَّقِيقِ وَأَنْوَاعِ الْحَلْوَى وَلَا تَتْرُكْهُ تَزَهُّدًا فَلَيْسَ تَرْكُ الطَّيِّبَاتِ مِنْ الزُّهْدِ فِي شَيْءٍ، نَعَمْ لَا يَنْبَغِي الِانْهِمَاكُ فِي اللَّذَّاتِ كَمَا قَدَّمْنَا (أَوْ) كُلْ (ضِدَّهُ) أَيْ ضِدَّ الطَّيِّبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا خَشُنَ مِنْ الْعَيْشِ لَا الْخَبَائِثُ، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ (وَالْبَسْ الَّذِي تُلَاقِيهِ) مِنْ أَنْوَاعِ اللِّبَاسِ مِنْ الرَّقِيقِ النَّاعِمِ، وَالْغَلِيظِ الْخَشِنِ حَيْثُ كَانَ الطَّيِّبُ وَضِدُّهُ مِنْ الْمَأْكَلِ، وَالْمَشْرَبِ، وَالْمَلْبَسِ (مِنْ) وَجْهِ (حِلٍّ) . وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ مُحَرَّمٍ فَلَا يَسُوغُ لَك أَنْ تَأْكُلَ وَلَا تَلْبَسَ مِنْهُ، فَإِنَّ وَبَالَهُ عَلَيْك وَعَاقِبَتَهُ الْوَخِيمَةَ بَيْنَ يَدَيْك فَلَا يَسُوغُ لَك أَنْ تَعْصِيَ مَوْلَاك وَتُرْضِيَ نَفْسَك وَتُطِيعَ هَوَاك (وَلَا تَتَقَيَّدْ) بِنَوْعٍ فَقَطْ بِأَنْ لَا تَأْكُلَ إلَّا نَاعِمًا طَيِّبًا، أَوْ لَا تَلْبَسَ إلَّا نَاعِمًا رَقِيقًا وَعَكْسُهُ، فَإِنَّ سِيرَةَ الْمُصْطَفَى أَكْمَلُ السِّيَرِ، وَهُوَ خُلَاصَةُ الْعَالَمِ وَنِهَايَةُ الْبَشَرِ. وَكَانَ يَكُونُ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا. جَوَابُ الْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الزُّهَّادِ لَا آكُلُ؛ لِأَنَّ نَفْسِي تَشْتَهِيهِ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ (صَيْدِ الْخَاطِرِ) : بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ زُهَّادِ زَمَانِنَا أَنَّهُ قُدِّمَ إلَيْهِ طَعَامٌ فَقَالَ: لَا آكُلُ فَقِيلَ لَهُ لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ نَفْسِي تَشْتَهِيهِ وَأَنَا مُنْذُ سِنِينَ مَا بَلَغَتْ نَفْسِي مَا تَشْتَهِي فَقُلْت: لَقَدْ خَفِيَتْ طَرِيقُ الصَّوَابِ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ وَسَبَبُ خَفَائِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَا وَلَا أَصْحَابُهُ، وَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجِ وَيُحِبُّ الْحَلْوَى، وَالْعَسَلَ وَدَخَلَ فَرْقَدُ السِّنْجِيُّ عَلَى الْحَسَنِ، وَهُوَ يَأْكُلُ الْفَالُوذَجَ فَقَالَ: يَا فَرْقَدُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: لَا آكُلُهُ وَلَا أُحِبُّ مَنْ أَكَلَهُ فَقَالَ الْحَسَنُ: لُعَابُ النَّحْلِ بِلُبَابِ الْبُرِّ مَعَ سَمْنِ الْبَقَرِ هَلْ يَعِيبُهُ مُسْلِمٌ؟ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ فَقَالَ: إنَّ لِي جَارًا لَا يَأْكُلُ الْفَالُوذَجَ فَقَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: يَقُولُ لَا أُؤَدِّي شُكْرَهُ فَقَالَ: إنَّ جَارَك جَاهِلٌ وَهَلْ يُؤَدِّي شُكْرَ الْمَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الْبَارِدِ؟ وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَحْمِلُ فِي سَفَرِهِ الْفَالُوذَجَ وَاللَّحْمَ الْمَشْوِيَّ، وَيَقُولُ: إنَّ الدَّابَّةَ إذَا أُحْسِنَ إلَيْهَا عَمِلَتْ، وَمَا حَدَثَ فِي الزُّهَّادِ بَعْدَهُمْ أُمُورٌ مِنْ هَذَا الْفَنِّ مَسْرُوقَةٌ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ. وَأَنَا خَائِفٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87] وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْأَوَّلِ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ هَذَا الْفَنِّ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ وَسَبَبٍ، مِثْلُ مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ اشْتَهَى شَيْئًا فَآثَرَ بِهِ فَقِيرًا وَأَعْتَقَ جَارِيَتَهُ رُمَيْثَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا أَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ إيثَارٌ بِمَا هُوَ أَجْوَدُ عِنْدَ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِهِ وَأَكْثَرُ لَهَا مِنْ سِوَاهُ، فَإِذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَسَرْت بِذَلِكَ الْفِعْلِ سَوْرَةَ هَوَاهَا أَنْ تَطْغَى بِنَيْلِ كُلِّ طَرِيدٍ، فَأَمَّا مَنْ دَامَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّهُ يُعْمِي قَلْبَهَا وَيُبَلِّدُ خَوَاطِرَهَا وَيُشَتِّتُ عَزَائِمَهَا فَيُؤْذِيهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَنْفَعُهَا، وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: إنَّ الْقَلْبَ إذَا أُكْرِهَ عَمِيَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَتَحْتَ مَقَالَتِهِ سِرٌّ لَطِيفٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَضَعَ طَبِيعَةَ الْآدَمِيِّ عَلَى مَعْنًى عَجِيبٍ، وَهُوَ أَنَّهَا تَخْتَارُ الشَّيْءَ مِنْ الشَّهَوَاتِ مَا يُصْلِحُهَا فَيَعْلَمُ بِاخْتِيَارِهَا لَهُ صَلَاحَهُ لَهَا وَصَلَاحَهَا بِهِ. وَقَدْ قَالَ حُكَمَاءُ الطِّبِّ: يَنْبَغِي أَنْ يُفَسِّحَ النَّفْسَ فِيمَا تَشْتَهِي مِنْ الْمَطَاعِمِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَخْتَارُ مَا يُلَائِمُهَا، فَإِذَا قَمَعَهَا الزَّاهِدُ فِي مِثْلِ هَذَا عَادَ عَلَى بَدَنِهِ بِالضَّرَرِ، وَلَوْلَا جَوَاذِبُ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الطَّبِيعَةِ مَا بَقِيَ الْبَدَنُ، فَإِنَّ الشَّهْوَةَ لِلطَّعَامِ تَثُورُ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْغَنِيمَةُ بِمَا يُتَنَاوَلُ كَفَّتْ الشَّهْوَةُ، فَالشَّهْوَةُ نِعْمَ الْبَاعِثُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبَدَنِ غَيْرَ أَنَّهَا إذَا أَفْرَطَتْ وَقَعَ الْأَذَى وَمَتَى مُنِعَتْ مَا تُرِيدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَعَ الْأَمْنِ مِنْ فَسَادِ الْعَاقِبَةِ عَادَ ذَلِكَ بِفَسَادِ أَحْوَالِ النَّفْسِ وَوَهْنِ الْجِسْمِ وَاخْتِلَافِ السَّقَمِ الَّذِي يَتَدَاعَى بِهِ الْجَهَلَةُ مِثْلُ أَنْ مَنَعَهَا الْمَاءَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْعَطَشِ، وَالْغِذَاءَ عِنْدَ الْجُوعِ، وَالْجِمَاعَ عِنْدَ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالنَّوْمَ عِنْدَ غَلَبَتِهِ، حَتَّى أَنَّ الْمُغْتَمَّ إذَا لَمْ يَتَرَوَّحْ بِالشَّكْوَى قَتَلَهُ الْكَمَدُ. فَهَذَا أَصْلٌ إذَا فَهِمَهُ هَذَا الزَّاهِدُ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ طَرِيقَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ وَخَالَفَ الْمَوْضُوعَ فِي الْحِكْمَةِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يَلْزَمُ: عَلَى هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ مِنْ أَيْنَ يَصْفُو الْمَطْعَمُ؟ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصْفُ كَانَ التَّرْكُ وَرَعًا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْمَطْعَمِ الَّذِي لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 فِيهِ مَا يُؤْذِي فِي بَابِ الْوَرَعِ وَكَانَ مَا شَرَحْته جَوَابًا لِلْقَائِلِ مَا أُبَلِّغُ نَفْسِي شَهْوَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالَ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنِّي أَخَافُ عَلَى الزَّاهِدِ أَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ انْقَلَبَتْ إلَى التَّرْكِ فَصَارَ يَشْتَهِي أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ وَلِلنَّفْسِ فِي هَذَا مَكْرٌ خَفِيٌّ وَرِيَاءٌ دَقِيقٌ، فَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ الرِّيَاءِ لِلْخَلْقِ كَانَتْ الْآفَةُ مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِهَا بِمِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ وَإِدْلَالِهَا فِي الْبَاطِنِ بِهِ، فَهَذِهِ مُخَاطَرَةٌ قَالَ وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ هَذَا صَدٌّ عَنْ الْخَيْرِ وَالزُّهْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرَّ بِعِبَادَةِ فُلَانٍ وَلَا بِتَقْوَى فُلَانٍ، إلَى أَنْ قَالَ: أَصْلُ الْأُصُولِ الْعِلْمُ، وَأَنْفَعُ الْعِلْمِ النَّظَرُ فِي سِيَرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] . وَقَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ مِنْ صَيْدِ الْخَاطِرِ: عَلَفُ النَّاقَةِ مُتَعَيَّنٌ لِقَطْعِ الْمَنْزِلِ، أَلَا تَرَى إلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْمَعْرِفَةِ، وَالْخَوْفِ وَكَانَ يَأْكُلُ اللَّذِيذَ وَيَقُولُ: إنَّ الدَّابَّةَ إذَا لَمْ يُحْسِنْ إلَيْهَا لَمْ تَعْمَلْ. قَالَ: وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامِي هَذَا يَقُولُ هَذَا مَيْلٌ عَلَى الزُّهَّادِ فَأَقُولُ كُنْ مَعَ الْعُلَمَاءِ وَانْظُرْ إلَى طَرِيقِ الْحَسَنِ وَسُفْيَانَ، وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَهَؤُلَاءِ أُصُولُ الْإِسْلَامِ وَلَا تُقَلِّدْ فِي دِينَك مَنْ قَلَّ عِلْمُهُ، وَإِنْ قَوِيَ زُهْدُهُ وَاحْمِلْ أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُطِيقُ هَذَا وَلَا تَقْتَدِ بِهِمْ فِيمَا لَا تُطِيقُهُ فَلَيْسَ أَمْرُنَا إلَيْنَا وَالنَّفْسُ وَدِيعَةٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: وَأَمَّا الْمَطْعَمُ فَالْمُرَادُ بِهِ تَقْوِيَةُ هَذَا الْبَدَنِ لِخِدْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَقٌّ عَلَى ذِي النَّاقَةِ أَنْ يُكْرِمَهَا لِتَحْمِلَهُ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْكُلُ مَا وَجَدَ، فَإِنْ وَجَدَ اللَّحْمَ أَكَلَهُ وَيَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجِ، وَأَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ الْحَلْوَى، وَالْعَسَلُ، وَمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ مُبَاحٍ قَالَ: وَجِيءَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِفَالُوذَجٍ فَأَكَلَ مِنْهُ، وَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمَ النَّيْرُوزِ فَقَالَ: نَوْرِزُونَا كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ، وَاللُّبْسُ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَالِ، وَالْبَطَرِ. وَقَدْ اقْتَنَعَ أَقْوَامٌ بِالدُّونِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ الصَّافِيَ لَا يَكَادُ يُمْكِنُ فِيهِ تَحْصِيلُ الْمُرَادِ وَإِلَّا فَقَدْ لَبِسَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةً اُشْتُرِيَتْ بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَعِيرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وَكَانَ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حُلَّةٌ اُشْتُرِيَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُصَلِّي فِيهَا بِاللَّيْلِ فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتْبَعَ الدَّلِيلَ لَا أَنْ يَتْبَعَ طَرِيقًا وَيَطْلُبَ دَلِيلَهَا، ثُمَّ قَالَ: الْإِنْسَانُ أَعْرَفُ بِصَلَاحِ نَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَتْ رَابِعَةُ: إنْ كَانَ صَلَاحُ قَلْبِك فِي الْفَالُوذَجِ فَكُلْهُ وَلَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ يَرَى صُوَرَ الزُّهْدِ فَرُبَّ مُتَنَعِّمٍ لَا يُرِيدُ التَّنَعُّمَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْمَصْلَحَةَ وَلَيْسَ كُلُّ بَدَنٍ يَقْوَى عَلَى الْخُشُونَةِ خُصُوصًا مَنْ قَدْ لَاقَى الْكَلَّ وَأَجْهَدَ الْفِكْرَ انْتَهَى. فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَمْ تَذْكُرْ أَكْلَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَالُوذَجَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا سَمِعْنَا بِالْفَالُوذَجِ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» الْحَدِيثَ. قُلْت هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَتَعَقَّبَهُ السُّيُوطِيّ قَائِلًا: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ الْحَسَنِ، ثُمَّ قَالَ: إنْ وَجَدْت لَهُ مُتَابِعًا جَزَمْت بِحُسْنِهِ فَعَلَى كَلَامِ السُّيُوطِيِّ الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، وَعَلَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ مَوْضُوعٌ، وَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ الْفَالُوذَجَ دِيَارَ الْعَرَبِ (فَائِدَةٌ) : أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ الْفَالُوذَجَ دِيَارَ الْعَرَبِ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَطْعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ ذَلِكَ بِالشَّامِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ فَوَجَّهَ إلَى الْيَمَنِ مَنْ جَاءَ لَهُ بِمَنْ يَعْمَلُ الْفَالُوذَجَ بِالْعَسَلِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيّ فِي الْأَوَائِلِ. وَقَالَ السُّيُوطِيّ أَيْضًا: «أَوَّلُ مَنْ خَبَّصَ الْخَبِيصَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَلَطَ الْعَسَلَ وَالنَّقِيَّ مِنْ الدَّقِيقِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مَنْزِلِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: مَنْ بَعَثَ بِهَذَا؟ قَالُوا: عُثْمَانُ قَالَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ إنَّ عُثْمَانَ يَسْتَرْضِيك فَارْضَ عَنْهُ» . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي تَرْكِ مَا تَعَافُهُ النَّفْسُ بِلَا تَعْنِيفٍ وَلَا عَيْبٍ: وَمَا عِفْتَهُ فَاتْرُكْهُ غَيْرَ مُعَنِّفٍ ... وَلَا عَائِبٍ رِزْقًا وَبِالشَّارِعِ اقْتَدِ (وَمَا) أَيُّ طَعَامٍ (عُفْتَهُ) أَيْ كَرِهْته، يُقَالُ عَافَ الطَّعَامَ أَوْ الشَّرَابَ، وَقَدْ يُقَالُ فِي غَيْرِهِمَا يَعَافُهُ إذَا كَرِهَهُ (فَاتْرُكْهُ) وَلَا تُلْزِمْ نَفْسَك أَكْلَهُ وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 تُكَلِّفُهَا تَنَاوُلَهُ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ إنَّمَا تَخْتَارُ مَا يُصْلِحُهَا وَتَعَافُ مَا يُفْسِدُهَا غَالِبًا حَالَ كَوْنِك (غَيْرَ مُعَنِّفٍ) أَيْ مُوَبِّخٍ وَمُقَرِّعٍ. وَفِي الْحَدِيثِ «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَحُدَّهَا وَلَا يُعَنِّفْهَا» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: التَّعْنِيفُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ وَاللَّوْمُ يُقَالُ أَعْنَفْته وَعَنَّفْته. أَرَادَ النَّاظِمُ أَنَّك إذَا عُفْتَ شَيْئًا فَاتْرُكْ أَكْلَهُ وَلَكِنْ لَا تُعَنِّفْ مَنْ أَكَلَهُ فَرُبَّ شَيْءٍ يَعَافُهُ قَوْمٌ دُونَ آخَرِينَ هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ وَإِلَّا بِأَنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ، وَاَلَّذِي يَأْكُلُهُ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ عُنِّفَ وَوُبِّخَ عَلَى ذَلِكَ وَأُنْكِرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ، فَمَنْ عَافَ شَيْئًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ تَنَاوُلُهُ وَلَيْسَ لَهُ الْإِنْكَارُ عَلَى مُتَنَاوِلِهِ «. وَقَدْ امْتَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَكْلِ الضَّبِّ» كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقِيلَ لَهُ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «لَمَّا رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضَّبَّيْنِ الْمَشْوِيَّيْنِ بَزَقَ فَقَالَ خَالِدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَاك تَقَذَّرْتَهُ» وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ كُلُوهُ، فَإِنَّهُ حَلَالٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي» وَمِنْ ثَمَّ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى حِلِّ الضَّبِّ (وَلَا) أَيْ وَغَيْرُ (عَائِبٍ رِزْقًا) سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْك وَرَزَقَك إيَّاهُ (وَبِالشَّارِعِ) الْمُقْتَفَى، وَالْمُبَيِّنِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اقْتَدِ) فِي سَائِرِ أَقْوَالِك وَأَفْعَالِك، فَإِنَّ ذَلِكَ أَسْلَمُ لَك وَأَقْوَى لَك، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ. فَقَدْ رَوَى الْخَمْسَةُ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا سَكَتَ» ، وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ إلَّا أَنَّهَا قَالَتْ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ ". وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ هِنْدَ بْنِ أَبِي هَالَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَذُمُّ ذَوَّاقًا وَلَا يَمْدَحُهُ أَيْ كَانَ لَا يَصِفُ الطَّعَامَ بِطِيبٍ، أَوْ فَسَادٍ إنْ كَانَ فِيهِ» . قَالَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا، وَمَا قُرِّبَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا أَكَلَهُ إلَّا أَنْ تَعَافَهُ نَفْسُهُ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ، وَمَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ وَثُلْمَةِ الْإِنَاءِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَلَا تَشْرَبَنْ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَثُلْمَةِ الْ ... إنَاءِ وَانْظُرَنْ فِيهِ وَمَصًّا تَزَرَّدِ (وَلَا تَشْرَبَنْ) نَهْيُ كَرَاهَةٍ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (مِنْ فِي) أَيْ فَمِ (السِّقَاءِ) الْقِرْبَةِ وَنَحْوِهَا قَالَ فِي الْقَامُوسِ السِّقَاءُ كَكِسَاءٍ جِلْدُ السَّخْلَةِ إذَا أَجْذَعَ يَكُونُ لِلْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَجَمْعُهُ أَسْقِيَةٌ. وَذَلِكَ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشَّرَابِ مِنْ فِي السِّقَاءِ. فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ» زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ " فَأُنْبِئْت أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ " وَلِأَنَّ الشُّرْبَ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ رُبَّمَا يُقَذِّرُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيُنَتِّنُهُ بِتَرَدُّدِ أَنْفَاسِهِ وَرُبَّمَا غَلَبَهُ الْمَاءُ فَتَضَرَّرَ بِهِ مِنْ شَرْقٍ وَنَحْوِهِ. وَعَنْ أُمِّ ثَابِتٍ كَبْشَةَ بِنْتِ ثَابِتٍ أُخْتِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ شَاعِرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا فَقُمْت إلَى فِيهَا فَقَطَعْتُهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا قَطَعَتْهُ لِتَحْفَظَ مَوْضِعَ فَمِهِ الشَّرِيفِ وَتَتَبَرَّكَ بِهِ وَتَصُونَهُ عَنْ الِابْتِذَالِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ. فَالْأَفْضَلُ، وَالْأَكْمَلُ عَدَمُ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ، وَالْجَرَّةِ وَنَحْوِهِمَا وَيُكْرَهُ ذَلِكَ إلَّا لِحَاجَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) لَا تَشْرَبَنْ مِنْ (ثُلْمَةِ الْإِنَاءِ) أَيْ الْوِعَاءِ وَالثُّلْمَةُ الْكَسْرُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ الثُّلْمَةُ بِالضَّمِّ حَرْفُهُ الْمَكْسُورُ، وَالْمَهْدُولُ يَعْنِي الْإِنَاءَ فَيُكْرَهُ لِلشَّارِبِ أَنْ يَقْصِدَ الثُّلْمَةَ فَيَشْرَبَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ اجْتِمَاعِ الْوَسَخِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ غَسْلِهَا تَامًّا وَخُرُوجِ الْقَذَى وَنَحْوِهِ مِنْهَا وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ حُسْنِ الشُّرْبِ مِنْهَا وَرُبَّمَا انْجَرَحَ بِحَدِّهَا وَلِأَنَّهُ يُقَالُ: الرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ» . وَفِيهِ قُرَّةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جِبْرِيلَ الْمِصْرِيُّ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا فَيُتَوَجَّهُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ وَتَرْكُهُ أَوْلَى انْتَهَى وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا وَضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَصَحَّحَ حَدِيثَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ مَعْلُولٌ وَمُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تَرْكُ الشُّرْبِ مِنْ الثُّلْمَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ وَحُسْنِ الِامْتِثَالِ سِيَّمَا وَالرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ رَأَى مَنْ يَشْتَرِي حَاجَةً رَدِيئَةً فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ أَمَا عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ نَزَعَ الْبَرَكَةَ مِنْ كُلِّ رَدِيءٍ. وَمِثْلُ الثُّلْمَةِ الشُّرْبُ مُحَاذِيًا لِلْعُرْوَةِ. قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَلَا يَشْرَبُ مُحَاذِيًا لِلْعُرْوَةِ وَيَشْرَبُ مِمَّا يَلِيهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّ هَذَا وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَصَاحِبُ الرِّعَايَةِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ ذَكَرَ أَدَبَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71] وَاحِدُهَا كُوبٌ إنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ لَا عُرْوَةَ لَهُ أَيْ لَا أُذُنَ لَهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لِأَنَّ الْعُرْوَةَ تَرُدُّ الشَّارِبَ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ. قُلْت: وَذَكَرَ فِي الْإِقْنَاعِ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَعِبَارَتُهُ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِيهِ أَيْ الْإِنَاءِ وَأَنْ يَشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَثُلْمَةِ الْإِنَاءِ أَوْ مُحَاذِيًا لِلْعُرْوَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِرَأْسِ الْإِنَاءِ انْتَهَى (وَانْظُرَنْ) فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (فِيهِ) أَيْ الْإِنَاءِ الَّذِي تَشْرَبُ مِنْهُ لِئَلَّا يَكُونَ فِيهِ قَذَاةٌ وَنَحْوُهَا (وَ) مُصَّ الْمَاءَ (مَصًّا) ، وَهُوَ الشُّرْبُ بِرِفْقٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: مَصِصْتُهُ بِالْكَسْرِ أَمُصُّهُ وَمَصَصْته أَمُصُّهُ كَخَصَصْتُهُ أَخُصُّهُ شَرِبْته شُرْبًا رَقِيقًا كَامْتَصَصْتهُ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ الْمَاءَ مَصًّا وَلَا يَعُبَّهُ عَبًّا، فَإِنَّ مِنْهُ الْكُبَادَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ مِنْهُ أَيْ مِنْ الشُّرْبِ عَبَّا.، وَالْكُبَادُ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ أَيْ وَجَعُ الْكَبِدِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالتَّجْرِبَةِ.، وَالْعَبُّ شُرْبُ الْمَاءِ جَرْعًا وَتَتَابُعُهُ وَكَرْعُهُ وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا وَلَا تَعُبُّوهُ عَبًّا» الْعَبُّ الشُّرْبُ بِلَا تَنَفُّسٍ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «الْكُبَادُ مِنْ الْعَبِّ» قَالَ: وَالْكُبَادُ دَاءٌ يَعْرِضُ لِلْكَبِدِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْكُبَادُ مِنْ الْعَبِّ هُوَ بِالضَّمِّ وَجَعُ الْكَبِدِ وَالْعَبُّ شُرْبُ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ مَصٍّ انْتَهَى. وَقَوْلُ النَّاظِمِ (تَزَرَّدِ) هُوَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ مِنْ الِازْدِرَادِ، وَهُوَ الْبَلْعُ أَيْ مُصَّ الْمَاءَ مَصًّا وَابْتَلِعْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وَلَا تَعُبَّهُ عَبًّا فَتَفُوزَ بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَسْلَمَ مِنْ دَاءِ الْكَبِدِ وَكُلِّ مَا أَلَمَّ، فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ بَهْزٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَاكُ عَرَضًا وَيَشْرَبُ مَصًّا وَيَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ هُوَ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ» . وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَكْتَمَ وَلَفْظُهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَاكُ عَرَضًا وَيَشْرَبُ مَصًّا وَيَقُولُ هُوَ أَهْنَأُ» . مَطْلَبٌ: فِي تَنْحِيَةِ الْإِنَاءِ عَنْ الْفَمِ وَالشُّرْبِ ثَلَاثًا وَنَحِّ الْإِنَاءَ عَنْ فِيكَ وَاشْرَبْ ثَلَاثَةً ... هُوَ أَهْنَا وَأَمْرَا ثُمَّ أَرْوَى لِمَنْ صَدِي (وَنَحِّ) أَيْ افْصِلْ وَأَبِنْ (الْإِنَاءَ) أَيْ الْوِعَاءَ الَّذِي فِيهِ مَاءُ شُرْبِك (عَنْ فِيك) أَيْ فَمَك، اقْتِدَاءً بِالْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ (وَاشْرَبْ ثَلَاثَةً) أَيْ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ (هُوَ) أَيْ الشُّرْبُ كَذَلِكَ (أَهْنَأُ) لِلشَّارِبِ، وَالْهَنِيءُ، وَالْمُهَنَّأُ مَا أَتَاك بِلَا مَشَقَّةٍ، وَهُوَ هَنِيءٌ سَائِغٌ (وَأَمْرَأُ) لِلشَّارِبِ مِنْ غَيْرِهِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَمَرَأَ الطَّعَامُ مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ مَرَاءَةً فَهُوَ مَرِيءٌ هَنِيءٌ حَمِيدُ الْمَغَبَّةِ بَيِّنُ الْمَرَاءَةِ، وَهَنَّأَنِي وَمَرَأَنِي، وَإِنْ أُفْرِدَ فَأَمْرَأَنِي، يَعْنِي أَنَّ لَفْظَةَ مَرَأَنِي لِلْمُشَاكَلَةِ وَإِلَّا فَحَقِيقَتُهَا أَمْرَأَنِي وَكَلَأٌ مَرِيءٌ غَيْرُ وَخِيمٍ. (ثُمَّ) الشُّرْبُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ كَمَا وُصِفَ (أَرْوَى) أَيْ أَكْثَرُ رِيًّا وَأَحْسَنُ رِيًّا، وَهُوَ مِنْ الرِّيِّ بِكَسْرِ الرَّاءِ غَيْرِ مَهْمُوزٍ (لِمَنْ) أَيْ لِشَخْصٍ (صَدِي) عَطِشٍ. وَفِي الْحَدِيثِ «لَتَرِدُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَوَادِيَ» أَيْ عِطَاشًا. صَدِي كَرَضِي، صَدًى فَهُوَ صَدٍ وَصَادٍ وَصَدْيَانُ، وَهِيَ صَدْيَا وَصَادِيَةٌ إذَا كَانَ عَطْشَانَ. وَدَلِيلُ مَا ذُكِرَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَنَفَّسُ إذَا شَرِبَ ثَلَاثًا» زَادَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ «وَيَقُولُ إنَّهُ أَرْوَى وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ» وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد أَهْنَأُ بَدَلَ أَرْوَى ". وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ يَوْمًا فَشَرِبَ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَشْرَبُ الْمَاءَ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ أَشْفَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ» . وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ جَرْعَةً، ثُمَّ قَطَعَ، ثُمَّ سَمَّى، ثُمَّ جَرَعَ، ثُمَّ قَطَعَ، ثُمَّ سَمَّى الثَّالِثَةَ، ثُمَّ جَرَعَ، ثُمَّ مَضَى فِيهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ، فَلَمَّا شَرِبَ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهِ» . وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ شَرَابًا قَطُّ إلَّا تَنَفَّسَ فِيهِ ثَلَاثًا كُلُّهَا يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ» . . وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ، وَالْبَزَّارُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ بِثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِهَا إذَا أَدْنَى الْإِنَاءَ مِنْ فِيهِ وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهَا إذَا أَخَّرَهُ» . إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَك الِاقْتِدَاءُ بِمَعْدِنِ التَّقْوَى وَيَنْبُوعِ الْهُدَى، وَلَا تَشْرَبْ كَشُرْبِ الْبَعِيرِ، بَلْ تَنَفَّسْ خَارِجَ الْإِنَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ الْمَسْنُونُ. وَصِفَةُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّق أَنْ تَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ وَتَشْرَبَ، ثُمَّ تُبِينَ الْإِنَاءَ عَنْ فِيك وَتَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَتَتَنَفَّسَ خَارِجَهُ كَمَا مَرَّ، ثُمَّ تَفْعَلَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ كَذَلِكَ. إلَّا أَنَّ الشُّرْبَ فِي النَّفَسِ الْأَوَّلِ يَكُونُ أَقَلَّ مِمَّا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْأَبْخِرَةَ تَتَصَاعَدُ مِنْهُ أَكْثَرُ مِمَّا بَعْدَهُ. قَالَ السَّامِرِيُّ: بِسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ يَعْنِي الشَّارِبَ، وَيَحْمَدَهُ عِنْدَ كُلِّ قَطْعٍ انْتَهَى. . (تَتِمَّةٌ) قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ: وَلَا يَشْرَبْ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ أَجْوَدُ فِي الطِّبِّ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَّا أَنْ تَكُونَ ثَمَّ عَادَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ فِي تَدْبِيرِ الشُّرْبِ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْرَبَ مَاءً عَلَى الْمَائِدَةِ وَلَا عَلَى الرِّيقِ، وَلَا بَعْدَ الْأَكْلِ إلَّا أَنْ يَخِفَّ أَعَالِي الْبَطْنِ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَسْكُنُ بِهِ الْعَطَشُ. وَلَا يُرْوَى مِنْهُ رِيًّا وَاسِعًا. وَلَا يَصْلُحُ شُرْبُ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الرِّيقِ إلَّا لِمَنْ بِهِ الْتِهَابٌ شَدِيدٌ. وَيَتَوَقَّى الشُّرْبَ مِنْ الْمَاءِ وَالتَّكْثِيرَ مِنْهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً عَقِبَ الْحَمَّامِ، وَالْجِمَاعِ، وَالْحَرَكَةِ الْعَنِيفَةِ. وَيَتَجَرَّعُ قَلِيلًا قَلِيلًا سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ إلَى أَنْ يَبْطُلَ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 الْعَارِضِ، وَلَا يَشْرَبُ بِاللَّيْلِ إذَا كَانَ الْعَطَشُ كَاذِبًا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُصَابِرَ نَفْسَهُ وَيُمْسِكَ عَنْهُ مُدَّةً وَيَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَطَشَ يَسْكُنُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ الشُّرْبِ قَائِمًا وَلَا تَكْرَهَنَّ الشُّرْبَ مِنْ قَائِمٍ وَلَا ... انْتِعَالَ الْفَتَى فِي الْأَظْهَرِ الْمُتَأَكِّدِ (وَلَا تَكْرَهَنَّ الشُّرْبَ) لِلْمَاءِ وَنَحْوِهِ (مِنْ) شَخْصٍ (قَائِمٍ) خِلَافًا لِابْنِ أَبِي مُوسَى مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ مُسْتَدِلًّا بِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَجَرَ وَفِي لَفْظٍ نَهَى عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا» وَرُوِيَ أَيْضًا بِاللَّفْظَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قِيلَ لِأَنَسٍ: فَالْأَكْلُ؟ قَالَ ذَاكَ أَشَرُّ وَأَخْبَثُ. . وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فَإِذَا نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ» وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا، وَهُوَ قَائِمٌ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ «عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ، وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ» . . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ قَائِمًا وَقَاعِدًا» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ «عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَئِنْ شَرِبْتُ قَائِمًا لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ قَائِمًا وَلَئِنْ شَرِبْت قَاعِدًا لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ قَاعِدًا» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْرَبُ قَائِمًا وَقَاعِدًا» . وَأَبُو يَعْلَى بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَشْرَبُ قَائِمًا» . فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَأَضْعَافُهَا مِمَّا فِيهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَشْرَبُ قَائِمًا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَتَوَجَّهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا لِيُبَيِّنَ بِهِ الْجَوَازَ، وَأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ. وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ، أَوْ لِتَرْكِ الْأَوْلَى. قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَمْشِي وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَقَدْ مَرَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا شَرِبَ قَائِمًا فَقَالَ لَهُ: قِهْ، قَالَ: وَلِمَهْ؟ قَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَك الْهِرُّ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَشْرَبُ قَائِمًا مَا يَجْعَلُ فِي بَطْنِهِ لَاسْتَقَاءَ» . فَإِنْ قُلْت: بَيْنَ النَّهْيِ مِنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْفِعْلِ مُعَارَضَةٌ. قُلْتُ: لَا مُعَارَضَةَ، وَالْأَخْبَارُ صَحِيحَةٌ وَلَا عِبْرَةَ بِزَعْمِ دَعْوَى النَّسْخِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ فَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى، وَالْكَرَاهَةُ التَّنْزِيهِيَّةُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا مَكْرُوهٌ. وَشُرْبُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَمَتَى كَانَ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ لَا مَكْرُوهٌ، بَلْ الْبَيَانُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ " قِه " مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ. وَمِنْ نَظْمِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلُهُ: إذَا رُمْتَ تَشْرَبُ فَاقْعُدْ تَفُزْ ... بِسُنَّةِ صَفْوَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَقَدْ صَحَّحُوا شُرْبَهُ قَائِمًا ... وَلَكِنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ مَطْلَبٌ: وَلِلشُّرْبِ قَائِمًا آفَاتٌ، وَلَا يُسَوَّغُ شُرْبُ الْمَاءِ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ. وَفِي زَادِ الْمَعَادِ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ: مِنْ هَدْيِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشُّرْبُ قَاعِدًا. كَانَ هَدْيُهُ الْمُعْتَادَ. وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا. وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا، فَإِنَّمَا شَرِبَ قَائِمًا لِلْحَاجَةِ.، فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 مِنْهَا فَاسْتَقَى، فَنَاوَلَهُ الدَّلْوَ فَشَرِبَ، وَهُوَ قَائِمٌ. وَهَذَا كَانَ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ. قَالَ وَلِلشُّرْبِ قَائِمًا آفَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا لَا يَحْصُلُ الرِّيُّ التَّامُّ بِهِ وَلَا يَسْتَقِرُّ فِي الْمَعِدَةِ حَتَّى يَقْسِمَهُ الْكَبِدُ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَيُنْزِلُهُ بِسُرْعَةٍ وَحِدَّةٍ إلَى الْمَعِدَةِ. فَيُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُبْرِدَ حَرَارَتَهَا وَيُسْرِعَ النُّفُوذُ إلَى أَسْفَلِ الْبَدَنِ بِغَيْرِ تَدْرِيجٍ. وَكُلُّ هَذَا يَضُرُّ بِالشَّارِبِ، فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ نَادِرًا أَوْ لِحَاجَةٍ فَلَا. وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِالْعَوَائِدِ، فَإِنَّ الْعَوَائِدَ لَهَا طَبَائِعُ ثَوَانٍ وَلَهَا أَحْكَامٌ أُخْرَى، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (فَوَائِدُ: الْأُولَى) ذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ لَا يُسَوَّغُ شُرْبُ الْمَاءِ طِبًّا فِي عَشَرَةِ أَشْيَاءَ: بَعْدَ الطَّعَامِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْحَلْوَى، وَالْجِمَاعِ، وَالتَّعَبِ، وَشُرْبِ دَوَاءٍ مُسْهِلٍ، وَأَكْلِ فَاكِهَةٍ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ النَّوْمِ، وَبَعْدَ أَكْلٍ سُخْنٍ، وَالشُّرْبُ وَهُوَ جَائِعٌ. وَأَمَّا الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ شُرْبَ الْمَاءِ عَلَى الرِّيقِ، وَبَعْدَ الْحَمَّامِ، وَعَقِبَ الْجِمَاعِ، وَبَعْدَ الْفَاكِهَةِ، وَعِنْدَ الِانْتِبَاهِ مِنْ النَّوْمِ. وَأَمَّا عَلَى الطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ. وَلَا يُكْثِرُ مِنْهُ، بَلْ يَمُصُّ مَصًّا، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ أَلْبَتَّةَ. . مَطْلَبٌ: إذَا شَرِبَ يُنَاوِلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ (الثَّانِيَةُ) : يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إذَا شَرِبَ أَنْ يُنَاوِلَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ. وَهَذَا فِي جَمِيعِ الْمَشْرُوبَاتِ عَنْ اللَّبَنِ، وَالْحَلْوَى، وَالْمَاءِ وَنَحْوِهَا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهِمَا: وَكَذَا غَسْلُ يَدِهِ وَرَشُّ الْمَاوَرْدِ وَنَحْوِهِ انْتَهَى. كَالْبَخُورِ وَالصَّابُونِ. وَيَبْدَأُ فِي ذَلِكَ بِالْأَفْضَلِ، ثُمَّ بِمَنْ عَلَى الْيَمِينِ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهَا حُلِبَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاةٌ دَاجِنٌ، وَهُوَ فِي دَارِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ شِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ فَأَعْطَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَشْرَبَ مِنْهُ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَلَى يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ. فَجَاءَ عُمَرُ وَخَافَ أَنْ يُعْطِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَعْرَابِيَّ. فَقَالَ أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ» وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَارِنَا هَذِهِ فَحَلَبْنَا لَهُ شَاةً، ثُمَّ شُبْتُهُ مِنْ مَاءِ بِئْرِنَا هَذِهِ فَأَعْطَيْتُهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ وَعُمَرُ تُجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ، وَقَالَ: الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ» ، قَالَ أَنَسٌ: فَهِيَ سُنَّةٌ. . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْحُمَيْدِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَجَاءَتْنَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبِنٍ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ أَلَا أَسْقِيكُمْ مِنْ لَبَنٍ أَهْدَتْهُ لَنَا أُمُّ عَقِيقٍ؟ قَالَ: بَلَى، فَجِيءَ بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَخَالِدٌ عَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ: الشَّرْبَةُ لَك فَإِنْ شِئْتَ آثَرْتَ بِهَا خَالِدًا. فَقُلْتُ مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِسُؤْرِكَ أَحَدًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يَجْزِي مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرَهُ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ اللَّبَنُ، وَالْوِسَادَةُ وَالدُّهْنُ» . وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: قَدْ كَانَ مِنْ سِيرَةِ خَيْرِ الْوَرَى ... صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ طُولَ الزَّمَنِ أَنْ لَا يُرَدَّ الطِّيبَ وَالْمُتَّكَأَ ... وَاللَّحْمَ أَيْضًا يَا أَخِي وَاللَّبَنِ مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ أَطْيَبِ الْمِيَاهِ وَأَعْذَبِهَا وَأَنْفَعِهَا وَبَيَانِ امْتِحَانِ أَيُّ الْمَاءَيْنِ أَخَفُّ (الثَّالِثَةُ) : أَطْيَبُ الْمِيَاهِ وَأَعْذَبُهَا وَأَنْفَعُهَا كَمَا فِي الْهَدْيِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى عَشَرَةِ أَوْصَافٍ: أَنْ يَكُونَ صَافِيًا. وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ رَائِحَةٌ. وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ طَعْمٌ وَأَنْ يَكُونَ خَفِيفًا فِي الْوَزْنِ رَقِيقَ الْقَوَامِ. وَامْتِحَانُ ذَلِكَ أَنْ تُبَلَّ قُطْنَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ فِي الْوَزْنِ بِمَاءَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، ثُمَّ يُجَفَّفَانِ تَجْفِيفًا بَالِغًا، ثُمَّ يُوزَنَانِ فَأَيُّهُمَا كَانَتْ أَخَفَّ كَانَ مَاؤُهَا كَذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ طَيِّبَ الْمَجْرَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وَالْمَسْلَكِ. وَأَنْ يَكُونَ بَعِيدَ الْمَنْبَعِ. وَأَنْ يَكُونَ بَارِزًا لِلشَّمْسِ وَالرِّيحِ، وَأَنْ يَكُونَ سَرِيعَ الْحَرَكَةِ، وَالْجَرْيِ، وَأَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَتَدْفَعُ كَثْرَتُهُ الْفَضَلَاتِ الْمُخَالِطَةَ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ آخِذًا مِنْ الشَّمَالِ إلَى الْجَنُوبِ وَمِنْ الْمَغْرِبِ إلَى الْمَشْرِقِ. وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ فَلَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ: النِّيلُ، وَالْفُرَاتُ وَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَهِيَ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ. وَأَرْدَأُ الْمَاءِ مَا كَانَ مَجْرَاهُ فِي رَصَاصٍ، أَوْ كَانَتْ بِئْرُهُ مُعَطَّلَةً لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ تُرْبَتُهَا رَدِيئَةً فَهَذَا الْمَاءُ وَبِيءٌ وَخِيمٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي الِانْتِعَالِ حَالَ الْقِيَامِ (وَلَا) تَكْرَهَنَّ (انْتِعَالَ الْفَتَى) ، وَهُوَ قَائِمٌ (فِي) الْقَوْلِ (الْأَظْهَرِ) مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ (الْمُتَأَكِّدِ) الْعَمَلُ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُكْرَهُ ذَلِكَ قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَنْتَعِلُ قَائِمًا. وَزَادَ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، وَالْأَثْرَمِ: الْأَحَادِيثُ فِيهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى الْأَحَادِيثِ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: كَتَبَ إلَيَّ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الِانْتِعَالِ قَائِمًا قَالَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ. قَالَ الْقَاضِي وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ ضَعَّفَ الْأَحَادِيثَ فِي النَّهْيِ. انْتَهَى. قُلْت: وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ، وَهُوَ قَائِمٌ» . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنَّ مِنْ السُّنَّةِ لِمَنْ أَرَادَ الْأَكْلَ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ، وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا. وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ ذِكْرِ الْكَلَامِ عَلَى النِّعَالِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِمُنَاسَبَةِ عَدَمِ كَرَاهَةِ الشُّرْبِ قَائِمًا، وَكَذَا الِانْتِعَالُ قَائِمًا غَيْرُ مَكْرُوهٍ فِي الْأَصَحِّ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى النِّعَالِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 مَطْلَبٌ: فِي آدَابِ مُؤَاكَلَةِ الْإِخْوَانِ (تَتِمَّةٌ) فِي ذِكْرِ بَقِيَّةِ أَشْيَاءَ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالضِّيَافَةِ وَلَوَاحِقِ ذَلِكَ وَفِي ذَلِكَ أَنْوَاعٌ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي آدَابِ مُؤَاكَلَةِ الْإِخْوَانِ: يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُبَاسِطَ الْإِخْوَانَ بِالْحَدِيثِ الطَّيِّبِ، وَالْحِكَايَاتِ اللَّائِقَةِ بِالْحَالِ، وَيَأْكُلَ بِالْأَدَبِ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَبِالْإِيثَارِ مَعَ الْفُقَرَاءِ وَبِالِانْبِسَاطِ مَعَ الْإِخْوَانِ، وَبِالتَّعَلُّمِ مَعَ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَأْكُلُ بِالسُّرُورِ مَعَ الْإِخْوَانِ، وَبِالْإِيثَارِ مَعَ الْفُقَرَاءِ، وَبِالْمَرُوءَةِ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا. وَيُسَنُّ أَنْ يَغُضَّ طَرْفَهُ عَنْ جَلِيسِهِ وَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُحْتَاجَ، وَإِذَا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ إنْسَانٌ قَائِمٌ أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ، فَإِنْ أَبَى عَلَيْهِ، أَوْ قَامَ مَمْلُوكُهُ وَخَادِمُهُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ وَسَقْيِهِ الْمَاءَ أَخَذَ مِنْ أَطَايِبِ الطَّعَامِ فَلَقَمَهُ. وَإِنْ أَكَلَ مَعَ ضَرِيرٍ أَعْلَمَهُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَرُبَّمَا فَاتَهُ أَطْيَبُ الطَّعَامِ لِعَمَاهُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَمِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُلْقِمَ أَحَدًا يَأْكُلُ مَعَهُ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِ الطَّعَامِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ عَمَلًا بِالْعَادَةِ، وَالْعُرْفِ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ الْأَدَبَ، وَالْأَوْلَى الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ صَرِيحٍ. وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ تَقْدِيمُ بَعْضِ الضِّيفَانِ مَا لَدَيْهِ وَنَقْلُهُ إلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِفَاعِلِ ذَلِكَ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ جَلِيسِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْقَرِينَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ مُوَفَّقُ الدِّينِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ فِي الْمُغْنِي: أَنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْلِكُ الصَّدَقَةَ بِمَا أُذِنَ لَهُ فِي أَكْلِهِ. وَقَالَ: إنْ حَلَفَ لَا يَهَبُهُ فَأَضَافَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَبَاحَهُ الْأَكْلَ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ خُولِفَ فِي أَكْلِهِ مِنْهُ لِإِذْنِهِ فِيهِ فَيَبْقَى مَا سِوَاهُ عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِذْنِ فِي الْأَدْنَى الْإِذْنُ فِي الْأَعْلَى. وَحَقُّ الْآدَمِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ. وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ. لَكِنَّ كَلَامَهُمْ صَرِيحٌ بِالْكَرَاهَةِ فَقَطْ. . مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ أَنْ يُلْقِمَ الضَّيْفُ مَنْ حَضَرَ مَعَهُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الطَّعَامِ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: يُكْرَهُ أَنْ يُلْقِمَ مَنْ حَضَرَ مَعَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 لِأَنَّهُ يَأْكُلُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَمْلِيكٍ. وَوُجِّهَتْ رِوَايَةُ الْجَوَازِ فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِأَنَّهُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْمُسَامَحَةِ فِيهِ، وَالْإِذْنِ عُرْفًا فَجَازَ كَصَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا. وَهَذَا التَّعْلِيلُ جَارٍ فِي مَسْأَلَةِ الضَّيْفِ فَيُتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِهِ فِيهَا حَيْثُ جَازَ. وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي التَّفْصِيلُ كَمَا فِي الْمَرْأَةِ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ شُحَّ رَبِّ الطَّعَامِ. قَالَ الْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ: وَتَلْخِيصُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْلِكُ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِفِعْلِهِ وَلَمْ تُخَالِفْهُ قَرِينَةٌ؛ كَتَلْقِيمِ بَعْضٍ بَعْضًا وَتَقْدِيمِ طَعَامٍ وَإِطْعَامِ سِنَّوْرٍ وَكَلْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ عَلِمَ رِضَا رَبِّهِ بِذَلِكَ جَازَ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَالْأَوْلَى جَوَازُهُ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ مَنْ نَاوَلَ، أَوْ قَدَّمَ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْمَائِدَةِ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: سَأَلَ سَائِلٌ حَنْبَلِيًّا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ الضُّيُوفُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: كُنْتُ أَقُولُ لَا يَجُوزُ وَلَا لِسِنَّوْرٍ حَتَّى وَجَدْتُ فِي الْبُخَارِيِّ قَوْلَ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الصَّحْفَةِ. فَجَعَلْتُ أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ» . قُلْت: وَالْخَبَرُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» الْحَدِيثَ وَلِرَبِّ الطَّعَامِ، أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الضِّيفَانِ بِشَيْءٍ طَيِّبٍ إذَا لَمْ يَتَأَذَّ غَيْرُهُ، وَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَخْصُوصِ، أَوْ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ، وَأَنَّهُ لَا يُفْضِلُ مِنْهُ شَيْئًا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُفْضِلَ شَيْئًا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِفَضْلَتِهِ، أَوْ كَانَ ثَمَّ حَاجَةٌ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَتَسَاوِي الْقَوْمِ فِيمَا حَضَرَ أَوْلَى، بَلْ قَدْ يُتَوَجَّهُ لَوْ بَادَرَ بَعْضُهُمْ إلَى أَكْلِ مَا حَضَرَ مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ. قُلْت: وَكَذَا لَا يَجُوزُ لِبَقِيَّتِهِمْ تَنَاوُلُ مَا عَلِمَ اخْتِصَاصَهُ بِمُعَيَّنٍ كَمَا هِيَ عَادَةُ النَّاسِ مِنْ نَحْوِ تَرْبِيَةِ لَحْمَةٍ كَبِيرَةٍ تُجْعَلُ عَلَى ذُرْوَةِ الطَّعَامِ. فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 أَنَّهَا لِلرَّئِيسِ فَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ فِيمَا يَظْهَرُ تَنَاوُلُهَا عَمَلًا بِالْعُرْفِ، وَالْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ. وَالْمُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الطَّعَامِ إلَى الْإِخْوَانِ لَا أَنَّهُ يُوضَعُ وَيُدْعَوْنَ إلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ الْآنَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ سِيَّمَا الشَّامُ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَيُقَدِّمُ مَا حَضَرَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا يَسْتَأْذِنُهُمْ فِي التَّقْدِيمِ. وَمِنْ التَّكَلُّفِ أَنْ يُقَدِّمَ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ. وَلَا يَقْتَرِحُ الزَّائِرُ طَعَامًا يُعَيِّنُهُ، وَإِنْ خُيِّرَ بَيْنَ طَعَامَيْنِ يَخْتَارُ الْأَيْسَرَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَهُ يُسَرُّ بِمَا اقْتَرَحَهُ. مَطْلَبٌ: فِي آدَابِ الضِّيَافَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَيَّفَ الضِّيفَانَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النَّوْعُ الثَّانِي فِي آدَابِ الضِّيَافَةِ: اعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَيَّفَ الضِّيفَانَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُوَ الْأَبُ الثَّالِثُ، وَعَامُودُ الْعَالَمِ، وَأَبُو الْآبَاءِ، وَإِمَامُ الْحُنَفَاءِ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، وَجَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ، وَالْكِتَابَ، وَهُوَ شَيْخُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ. فَإِنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَجَدَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ صَوَّرُوا فِيهَا صُورَتَهُ وَصُورَةَ إسْمَاعِيلَ ابْنِهِ، وَهُمَا يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ. فَقَالَ: قَاتَلَهُمْ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ شَيْخَنَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ. فَهُوَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلُ مَنْ ضَيَّفَ الضَّيْفَ، وَأَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ أَبَا الضِّيفَانِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: كَانَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا أَرَادَ الْأَكْلَ خَرَجَ مِيلًا، أَوْ مِيلَيْنِ يَلْتَمِسُ مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ فَبِصِدْقِ نِيَّتِهِ دَامَتْ ضِيَافَتُهُ فِي مَشْهَدِهِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى دَارَ الضِّيَافَةِ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْعَسْكَرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَى خَلِيلِهِ فِي الْمَالِ، وَالْخَدَمِ فَاتَّخَذَ بَيْتًا لِلضِّيَافَةِ لَهُ بَابَانِ؛ يَدْخُلُ الْغَرِيبُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَخْرُجُ مِنْ الْآخَرِ وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ كِسْوَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَمَائِدَةً مَنْصُوبَةً عَلَيْهَا طَعَامٌ فَيَأْكُلُ الضَّيْفُ وَيَلْبَسُ إنْ كَانَ عُرْيَانًا، وَيُجَدِّدُ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَفْد أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي إكْرَامِ ضَيْفِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24] {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25] {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26] {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 27] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 فَفِي هَذَا مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى سَيِّدِنَا إبْرَاهِيمَ وُجُوهٌ مُتَعَدِّدَةٌ: أَحَدُهَا: وَصْفُ ضَيْفِهِ بِأَنَّهُمْ مُكْرَمُونَ، وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ إكْرَامُ إبْرَاهِيمَ لَهُمْ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ الْمُكْرَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات: 25] فَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِئْذَانَهُمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِإِكْرَامِ الضِّيفَانِ وَاعْتَادَ قِرَاهُمْ فَبَقِيَ مَنْزِلُ ضَيْفِهِ مَطْرُوقًا لِمَنْ وَرَدَهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانٍ، بَلْ اسْتِئْذَانُ الدَّاخِلِ دُخُولُهُ. وَهَذَا غَايَةُ مَا يَكُونُ مِنْ الْكَرَمِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ لَهُمْ (سَلَامٌ) بِالرَّفْعِ وَهُمْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالنَّصْبِ. وَالسَّلَامُ بِالرَّفْعِ أَكْمَلُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثُّبُوتِ وَالدَّوَامِ، وَالْمَنْصُوبُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، فَقَدْ حَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةٍ أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمْ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ سَلَامًا يَدُلُّ عَلَى سَلَّمْنَا سَلَامًا. وَقَوْلَهُ سَلَامٌ أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ حَذَفَ الْمُبْتَدَأَ مِنْ قَوْلِهِ {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25] فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَهُمْ وَلَمْ يَعْرِفْهُمْ احْتَشَمَ مِنْ مُوَاجَهَتِهِمْ بِلَفْظٍ يُنَفِّرَ الضَّيْفَ لَوْ قَالَ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. الْخَامِسُ: بِنَاءُ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِلْمَجْهُولِ وَلَمْ يَقُلْ إنِّي أُنْكِرُكُمْ: وَهُوَ أَحْسَنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَأَبْعَدُ مِنْ التَّنْفِيرِ، وَالْمُوَاجَهَةِ بِالْخُشُونَةِ. (السَّادِسُ) : أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَاغَ إلَى أَهْلِهِ لِيَجِيئَهُمْ بِنُزُلِهِمْ. وَالرَّوَغَانُ هُوَ الذَّهَابُ فِي اخْتِفَاءٍ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَشْعُرُ بِهِ الضَّيْفُ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَسْتَحْيِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ إلَّا وَقَدْ جَاءَهُ بِالطَّعَامِ. (السَّابِعُ) : أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِالضِّيَافَةِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُعَدًّا عِنْدَهُمْ مُهَيَّأً لِلضِّيَافَةِ، وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَذْهَبَ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ جِيرَانِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَشْتَرِيَهُ، أَوْ يَسْتَقْرِضَهُ. (الثَّامِنُ) : قَوْلُهُ {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26] دَلَّ عَلَى خِدْمَتِهِ لِلضَّيْفِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَقُلْ فَأَمَرَ لَهُمْ، بَلْ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ وَجَاءَ بِهِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ مَعَ خَادِمِهِ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي إكْرَامِ الضَّيْفِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 التَّاسِعُ: أَنَّهُ جَاءَ بِعِجْلٍ كَامِلٍ وَلَمْ يَأْتِ بِبَعْضٍ مِنْهُ. وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَرَمِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الْعَاشِرُ: وَصْفُ الْعِجْلِ بِكَوْنِهِ سَمِينًا لَا هَزِيلًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْخَرِ أَمْوَالِهِمْ وَمِثْلُهُ يُتَّخَذُ لِلِاقْتِنَاءِ وَالتَّرْبِيَةِ فَآثَرَ بِهِ ضِيفَانَهُ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ قَرَّبَهُ إلَيْهِمْ وَلَمْ يُقَرِّبْهُمْ إلَيْهِ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْكَرَامَةِ أَنْ يَجْلِسَ الضَّيْفُ، ثُمَّ تُقَرِّبَ الطَّعَامَ إلَيْهِ وَتَحْمِلَهُ إلَى حَضْرَتِهِ وَلَا تَضَعَ الطَّعَامَ فِي نَاحِيَةٍ، ثُمَّ تَأْمُرَ ضَيْفَك بِأَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ. الثَّانِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 27] وَهَذَا عَرْضٌ وَتَلَطُّفٌ فِي الْقَوْلِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِ: كُلُوا وَمُدُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَنَحْوِهِمَا، وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ حُسْنَهُ وَلُطْفَهُ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ: بِسْمِ اللَّهِ، أَوْ أَلَا تَتَصَدَّقُوا، أَوْ أَلَا تُجْبِرُوا، وَمَا أَلْطَفَ مَا اعْتَادَهُ أَهْلُ بِلَادِنَا عَمَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَالتَّقْوَى مِنْ قَوْلِهِمْ لِلضِّيفَانِ إذَا قَدَّمُوا إلَيْهِمْ الطَّعَامَ: تَفَضَّلُوا أَيْ عَلَيْنَا بِأَكْلِ طَعَامِنَا، وَهَذَا فِي غَايَةِ اللُّطْفِ، وَالْحُسْنِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ جَلَاءِ الْأَفْهَامِ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ: فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آدَابَ الضِّيَافَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْآدَابِ، وَمَا عَدَاهَا مِنْ التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي هِيَ تَخَلُّفٌ وَتَكَلُّفٌ إنَّمَا هِيَ مِنْ أَوْضَاعِ النَّاسِ وَعَوَائِدِهِمْ، وَكَفَى بِهَذِهِ الْآدَابِ شَرَفًا وَفَخْرًا، فَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا، وَعَلَى إبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِهِمَا، وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقِرَى إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَأَوَّلُ مَنْ هَشَّمَ الثَّرِيدَ هَاشِمٌ. وَأَوَّلُ مَنْ فَطَرَ جِيرَانُهُ عَلَى طَعَامِهِ فِي الْإِسْلَامِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ مَوَائِدَهُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَكَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ طَعَامٌ لَا يُعَاوَدُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَأْكُلُهُ تَرَكَهُ عَلَى الطَّرِيقِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: مِنْ آدَابِ الْمُضِيفِ أَنْ يَخْدُمَ أَضْيَافَهُ وَيُظْهِرَ لَهُمْ الْغِنَى، وَالْبَسْطَ بِوَجْهِهِ، فَقَدْ قِيلَ: الْبَشَاشَةُ خَيْرٌ مِنْ الْقِرَى. فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي بِهِ، وَهُوَ ضَاحِكٌ. وَرَحِمَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ضَمَّنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 إذَا الْمَرْءُ وَافَى مَنْزِلًا مِنْكَ طَالِبًا ... قِرَاكَ وَأَرْمَتْهُ إلَيْكَ الْمَسَالِكُ فَكُنْ بَاسِمًا فِي وَجْهِهِ مُتَهَلِّلًا ... وَقُلْ مَرْحَبًا أَهْلًا وَيَوْمٌ مُبَارَكُ وَقَدِّمْ لَهُ مَا تَسْتَطِيعُ مِنْ الْقِرَى ... عُجُولًا وَلَا تَبْخَلْ بِمَا هُوَ هَالِكُ فَقَدْ قِيلَ بَيْتًا سَالِفًا مُتَقَدِّمًا ... تَدَاوَلَهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَمَالِكُ بَشَاشَةُ وَجْهِ الْمَرْءِ خَيْرٌ مِنْ الْقِرَى ... فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي بِهِ وَهُوَ ضَاحِكُ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: مِنْ تَمَامِ الْمُرُوءَةِ خِدْمَةُ الرَّجُلِ ضَيْفَهُ كَمَا خَدَمَهُمْ أَبُونَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ. وَمِنْ آدَابِ الْمُضِيفِ أَيْضًا أَنْ يُحَدِّثَهُمْ بِمَا تَمِيلُ إلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَلَا يَنَامَ قَبْلَهُمْ، وَلَا يَشْكُوَ الزَّمَانَ بِحُضُورِهِمْ، وَيَبَشُّ عِنْدَ قُدُومِهِمْ، وَيَتَأَلَّمُ عِنْدَ وَدَاعِهِمْ، وَأَنْ لَا يَتَحَدَّثَ بِمَا يُرَوِّعُهُمْ بِهِ، بَلْ لَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بِحَضْرَتِهِمْ لِيُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَ. وَعَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَأْمُرَ بِحِفْظِ نِعَالِ أَضْيَافِهِ، وَيَتَفَقَّدَ غِلْمَانَهُمْ بِمَا يَكْفِيهِمْ، وَأَنْ لَا يَنْتَظِرَ مَنْ يَحْضُرُ مِنْ عَشِيرَتِهِ إذَا قَدَّمَ الطَّعَامَ إلَى أَضْيَافِهِ فَقَدْ قِيلَ: ثَلَاثَةٌ تُضْنِي: سِرَاجٌ لَا يُضِيءُ، وَرَسُولٌ بَطِيءٌ، وَمَائِدَةٌ يُنْتَظَرُ إلَيْهَا مَنْ يَجِيءُ. وَأَمَّا آدَابُ الضَّيْفِ فَهُوَ أَنْ يُبَادِرَ إلَى مُوَافَقَةِ الْمُضِيفِ فِي أُمُورٍ: مِنْهَا أَكْلُ الطَّعَامِ، وَلَا يَعْتَذِرُ بِشِبَعٍ، وَأَنْ لَا يَسْأَلَ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دَارِهِ سِوَى الْقِبْلَةِ وَمَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَلَا يَتَطَلَّعُ إلَى نَاحِيَةِ الْحَرِيمِ، وَلَا يُخَالِفُ إذَا أَجْلَسَهُ فِي مَكَان وَأَكْرَمَهُ بِهِ. وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ غَسْلِ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَأَى صَاحِبَ الْمَنْزِلِ قَدْ تَحَرَّكَ بِحَرَكَةٍ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهَا، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْآدَابِ أَحْدَثَهَا النَّاسُ وَإِلَّا فَفِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ آدَابِ أَضْيَافِ الْخَلِيلِ كِفَايَةٌ غَيْرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ مُكَمِّلَاتٌ وَمُحَسِّنَاتٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي الْأَكْلِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ خَصْلَةً النَّوْعُ الثَّالِثُ: حَكَى بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّ فِي الْأَكْلِ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ خَصْلَةً أَرْبَعٌ فَرِيضَةٌ: أَكْلُ الْحَلَالِ، وَالرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الطَّعَامِ، وَالشُّكْرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَأَرْبَعٌ سُنَنٌ: أَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ، وَمِمَّا يَلِيهِ، وَيَغُضَّ طَرْفَهُ عَنْ جَلِيسِهِ، وَيُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُحْتَاجَ. وَعِشْرُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 أَدَبًا، وَهِيَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مُتَّكِئًا وَلَا مُنْبَطِحًا، وَلَا مِنْ وَسَطِ الصَّحْفَةِ، وَيَأْكُلَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ، وَيَلْعَقَ أَصَابِعَهُ إذَا فَرَغَ، وَيَمْسَحَ الصَّحْفَةَ، وَيُصَغِّرَ اللُّقَمَ، وَيُجِيدَ الْمَضْغَ، وَيُطِيلَ الْبَلْعَ، وَلَا يَأْكُلَ إلَّا عِنْدَ حُضُورِ صَاحِبِ الطَّعَامِ، وَلَا يَأْكُلَ إلَّا مُطْمَئِنًّا وَيَأْكُلَ مَا يَنْثُرُ وَيَلْفِظَ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَيُلْقِيَهُ، وَلَا يَنْفُخَ الطَّعَامَ، بَلْ يَدَعَهُ حَتَّى يَبْرُدَ وَلَا يَتَنَفَّسَ فِيهِ، وَيَجْلِسَ مُفْتَرِشًا. وَإِنْ تَرَبَّعَ فَلَا بَأْسَ، وَيُوَسِّعَ لِجَلِيسِهِ. وَلَا يُلْقِمَ أَحَدًا مَعَهُ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الطَّعَامِ، وَيَغْسِلَ يَدَهُ إذَا أَكَلَ، وَيَأْكُلَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ غَلَبَتْ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ.، وَقَدْ تَقَدَّمَ كُلُّهُ أَوْ قَلِيلٌ مِنْهُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ وَالشُّكْرَ سُنَّةٌ لَا فَرِيضَةٌ. نَعَمْ شُكْرُ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ. وَأَمَّا الْمَسْنُونُ فَالْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ فِي أَوَاخِرِ الطَّعَامِ. وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِنْعَامِ. . مَطْلَبٌ: فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ وَالصَّدِيقِ مِنْ مَالٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ الرَّابِعُ: قَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ: يُبَاحُ الْأَكْلُ مِنْ بَيْتِ الْقَرِيبِ وَالصَّدِيقِ مِنْ مَالٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ إذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ رِضَا صَاحِبِهِ بِذَلِكَ نَظَرًا إلَى الْعَادَةِ، وَمَا يُذْكَرُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الِاسْتِئْذَانِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الشَّكِّ فِي رِضَا صَاحِبِهِ أَوْ عَلَى الْوَرَعِ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِ الْقَرَابَاتِ الْمَذْكُورِينَ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِبَذْلِ طَعَامِهِمْ. فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ وَرَاءَ حِرْزٍ لَمْ يَجُزْ هَتْكُ الْحِرْزِ. وَمِثْلُهُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ يَرَيَانِ الْأَكْلَ مِنْ طَعَامِ الصَّدِيقِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ جَائِزًا. قُلْت: وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى، وَالْغَايَةِ. وَعِبَارَتُهُمْ: وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ بِغَيْرِ إذْنٍ صَرِيحٍ، أَوْ قَرِينَةٍ، وَلَوْ مِنْ بَيْتِ قَرِيبِهِ، أَوْ صَدِيقِهِ، وَلَوْ لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْهُ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ فَلَا يُبَاحُ أَكْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ يَجُوزُ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا قَالَ: وَهُوَ أَظْهَرُ، وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ، وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ فِي آخِرِ الْغَصْبِ فِيمَنْ كَتَبَ مِنْ مِحْبَرَةِ غَيْرِهِ يَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ يَنْبَسِطُ إلَيْهِ. وَالدُّعَاءُ إلَى الْوَلِيمَةِ، أَوْ تَقْدِيمُ الطَّعَامِ إذْنٌ فِي الْأَكْلِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَذَلِكَ إذْنٌ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إذَا دُعِيتَ فَقَدْ أُذِنَ لَك. وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلَيْسَ إذْنًا فِي الدُّخُولِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ. جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى خِلَافًا لِلْمُغْنِي. وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ صَرِيحَةٌ فِي اعْتِبَارِ الْإِذْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ مَسْحِ الْأَصَابِعِ وَالسِّكِّينِ فِي الْخُبْزِ الْخَامِسُ: يُكْرَهُ مَسْحُ الْأَصَابِعِ وَالسِّكِّينِ فِي الْخُبْزِ. وَأَنْ يَأْكُلَ مَا انْتَفَخَ مِنْ الْخُبْزِ وَوَجْهَهُ وَيَتْرُكَ الْبَاقِيَ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يُحْوِجُ رَفِيقَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُلْ، بَلْ يَنْبَسِطُ وَلَا يَتَصَنَّعُ بِالِانْقِبَاضِ. وَلَا يَفْعَلُ مَا يَسْتَقْذِرُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَنْفُضُ يَدَهُ فِي الْقَصْعَةِ، وَلَا يُقَدِّمُ رَأْسَهُ إلَيْهَا عِنْدَ وَضْعِ اللُّقْمَةِ فِي فِيهِ. وَإِذَا خَرَجَ مِنْ فَمِهِ شَيْءٌ لِيَرْمِيَ بِهِ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الطَّعَامِ وَأَخَذَهُ بِيَسَارِهِ، وَلَا يَغْمِسُ بَقِيَّةَ اللُّقْمَةِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا فِي الْمَرَقَةِ، وَلَا يَغْمِسُ اللُّقْمَةَ الدَّسِمَةَ فِي الْخَلِّ وَلَا الْخَلَّ فِي الدَّسِمَةِ فَقَدْ يَكْرَهُهُ غَيْرُهُ انْتَهَى. وَكَذَا هَنْدَسَةُ اللُّقْمَةِ، وَهُوَ أَنْ يَقْضِمَ بِأَسْنَانِهِ بَعْضَ أَطْرَافِهَا، ثُمَّ يَضَعَهَا فِي الْإِدَامِ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: وَمِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُكْثِرَ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ الْآكِلِينَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْشِمُهُمْ، وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا: وَغَضُّ بَصَرِهِ عَنْ جَلِيسِهِ، وَكَذَا يُكْرَهُ الْكَلَامُ بِمَا يَقْذُرُ، أَوْ يُضْحِكُ، أَوْ يُحْزِنُ. مَطْلَبٌ: لَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ الْخُبْزِ وَفِي بَعْضِ آدَابِ إحْضَارِ الطَّعَامِ لَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ الْخُبْزِ كَمَا جَزَمَ بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: لَا يُشْرَعُ تَقْبِيلُ الْجَمَادَاتِ إلَّا مَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ مِنْ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. وَلَا بَأْسَ بِوَضْعِ الْخَلِّ، وَالْبُقُولِ عَلَى الْمَائِدَةِ غَيْرَ الثُّومِ، وَالْبَصَلِ وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (السَّادِسُ) : فِي بَعْضِ آدَابِ إحْضَارِ الطَّعَامِ مِنْ آدَابِهِ تَعْجِيلُهُ، وَتَقْدِيمُ الْفَاكِهَةِ قَبْلَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ فِي بَابِ الطِّبِّ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة: 20] {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21] قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْمِلْحِ وَيَخْتِمَ بِهِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَقَدْ زَادَ الْمِلْحَ وَلَا يَرْفَعُ صَاحِبُ الطَّعَامِ يَدَهُ مِنْهُ حَتَّى يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ مِنْهُمْ الِانْبِسَاطَ إلَيْهِ، وَالْأَكْلُ عَلَى السُّفْرَةِ أَوْلَى مِنْ الْأَكْلِ عَلَى الْخُوَانِ. قَالَهُ ابْنُ حَامِدٍ قَالَ الْآمِدِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ تَحْتَ الصَّحْفَةِ شَيْءٌ مِنْ الْخُبْزِ. نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَمُرَادُهُ بِمَا لَا يَجُوزُ هُنَا الْكَرَاهَةُ. وَلَا يُكْرَهُ قَطْعُ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ لَا يَصِحُّ. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ «رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . وَرَوَى نَحْوَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ «ضِفْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَمَرَ بِجَنْبٍ فَشُوِيَ، فَأَخَذَ فَجَعَلَ يَحُزُّ لِي مِنْهُ فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَأَلْقَى الشَّفْرَةَ، وَقَالَ: مَا لَهُ تَرِبَتْ يَدَاهُ» الْحَدِيثَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَضَعَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ عَلَى الطَّبَقِ، وَبَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ (السَّابِعُ) : رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ عَلَى الطَّبَقِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَلْقَتْ لَهُ أُمِّي قَطِيفَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَا، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ بِالنَّوَى هَكَذَا يَضَعُ النَّوَى عَلَى السَّبَّابَةِ، وَالْوُسْطَى» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَمْرٍ عَتِيقٍ، فَجَعَلَ يُفَتِّشُهُ يُخْرِجُ السُّوسَ مِنْهُ» . وَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ بَحْثَانِ: (الْأَوَّلُ) : فِي إلْقَائِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّوَى بِأُصْبُعَيْهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ نَهْيُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْعَلَ الْآكِلُ النَّوَى عَلَى الطَّبَقِ، وَعَلَّلَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ بِأَنَّهُ قَدْ يُخَالِطُهُ الرِّيقُ وَرُطُوبَةُ الْفَمِ: فَإِذَا خَالَطَ مَا فِي الطَّبَقِ عَافَتْهُ الْأَنْفُسُ. انْتَهَى. قَالَ فِي الْآدَابِ: قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي آدَابِ الْأَكْلِ: لَا يَجْمَعُ بَيْنَ النَّوَى وَالتَّمْرِ فِي طَبَقٍ، وَلَا يَجْمَعُهُ فِي كَفِّهِ، بَلْ يَضَعُهُ مِنْ فِيهِ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ، ثُمَّ يُلْقِيهِ، وَكَذَا كُلُّ مَا لَهُ عَجَمٌ وَثُفْلٌ. وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْآمِدِيِّ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: الْعَجَمُ بِالتَّحْرِيكِ النَّوَى وَكُلُّ مَا كَانَ فِي جَوْفِ مَأْكُولٍ كَالزَّبِيبِ، الْوَاحِدَةُ عَجَمَةٌ مِثْلُ قَصَبَةٍ وَقَصَبٍ. قَالَ يَعْقُوبُ: الْعَامَّةُ تَقُولُ عَجْمٌ بِالتَّسْكِينِ. وَالثُّفْلُ بِضَمِّ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ مَا ثَقُلَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ الْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ: وَهَذَا الْأَدَبُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الرُّطُوبَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَالْعُرْفُ، وَالْعَادَةُ خِلَافُ ذَلِكَ، لَكِنَّ الْحُكْمَ لِلشَّرْعِ لَا لِلْعُرْفِ الْحَادِثِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمَّادٍ: رَأَيْتُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَأْكُلُ وَيَأْخُذُ النَّوَى عَلَى ظَهْرِ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ، وَالْوُسْطَى وَرَأَيْته يَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ النَّوَى مَعَ التَّمْرِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي جَامِعِهِ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ. مَطْلَبٌ: لَا بَأْسَ بِتَفْتِيشِ التَّمْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ إنْ ظَهَرَ أَوْ ظَنَّ أَنَّ فِيهِ دُودًا (الثَّانِي) : فِي تَفْتِيشِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّمْرَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنْ شَقِّ التَّمْرَةِ عَمَّا فِي جَوْفِهَا. فَإِنْ صَحَّ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إذَا كَانَ التَّمْرُ جَدِيدًا. وَاَلَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي الْعَتِيقِ: قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ الْآمِدِيُّ: لَا بَأْسَ بِتَفْتِيشِ التَّمْرِ وَتَنْقِيَتِهِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَكَلَامُهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِيهِ شَيْءٌ، وَهُوَ الْعَتِيقُ. قَالَ الْيُونِينِيُّ: مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ مَعَهُ شَرْعًا وَعُرْفًا. وَمِثْلُهُ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ فَاكِهَةٍ وَغَيْرِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 قَالَ الْيُونِينِيُّ: قَدْ دَلَّ الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَحَرَّى وَيُقْصَدُ غَالِبًا، بَلْ إنْ ظَهَرَ شَيْءٌ أَوْ ظَنَّهُ أَزَالَهُ وَإِلَّا بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ السَّلَامَةُ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا أَعْلَمُ بِتَفْتِيشِ التَّمْرِ إذَا كَانَ فِيهِ الدُّودُ بَأْسًا، وَيُبَاحُ أَكْلُ فَاكِهَةٍ مُسَوِّسَةٍ وَمُدَوِّدَةٍ بِدُودِهَا، وَبَاقِلَّا بِذُبَابِهِ، وَخِيَارٍ وَقِثَّاءٍ وَحُبُوبٍ وَخَلٍّ. ذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي التَّلْخِيصِ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ أَكْلُهُ مُفْرَدًا. قَالَهُ فِي الْآدَابِ، وَقَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ وَجْهَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ: الْإِبَاحَةَ وَعَدَمَهَا. وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي بَحْثِ مَسْأَلَةِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ أَنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. انْتَهَى قُلْت: الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ إبَاحَةُ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ وَنَحْوِهَا بِدُودِهَا تَبَعًا. وَيَحْرُمُ أَكْلُ دُودِهَا مُنْفَرِدًا عَنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: هَلْ يُكْرَهُ أَكْلُ اللَّحْمِ نِيئًا أَمْ لَا ؟ . (النَّوْعُ الثَّامِنُ) : هَلْ يُكْرَهُ أَكْلُ اللَّحْمِ نِيئًا، أَوْ لَا؟ جَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ بِالْكَرَاهِيَةِ وَعِبَارَتُهُ: وَتُكْرَهُ مُدَاوَمَةُ أَكْلِ لَحْمٍ وَأَكْلُ لَحْمٍ مُنْتِنٍ وَنِيءٍ انْتَهَى. وَصَرَّحَ فِي الْمُنْتَهَى بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ فِي النِّيءِ، وَالْمُنْتِنِ. قَالَ شَارِحُهُ نَصًّا وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ الْإِقْنَاعِ، وَكَذَا الْغَايَةُ صَرَّحَ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ وَلَمْ يُشِرْ لِلْخِلَافِ، وَكَانَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِاشْتِرَاطِهِ ذَلِكَ فِي خُطْبَتِهِ، وَفِي الْفُرُوعِ: وَلَا بَأْسَ بِلَحْمٍ نِيءٍ نَقَلَهُ مُهَنَّا، وَلَحْمٍ مُنْتِنٍ. نَقَلَهُ أَبُو الْحَارِثِ. وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ فِيهِمَا: يُكْرَهُ وَجَعَلَهُ فِي الِانْتِصَارِ فِي الثَّانِيَةِ اتِّفَاقًا. وَذَكَرَ فِي الْإِنْصَافِ عِبَارَةَ الْفُرُوعِ بِحُرُوفِهَا وَزَادَ: قُلْت: الْكَرَاهَةُ فِي اللَّحْمِ الْمُنْتِنِ أَشَدُّ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يُقَالُ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ التَّاسِعُ: فِيمَا يُقَالُ لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ: قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ: أَمَّا الدُّعَاءُ لِلْآكِلِ أَوْ الشَّارِبِ فَلَمْ أَجِدْ الْأَصْحَابَ ذَكَرُوهُ وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْأَخْبَارِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 لَا يُسْتَحَبُّ.، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُتَجَشِّئَ لَا يُجَابُ بِشَيْءٍ، فَإِنْ حَمِدَ اللَّهَ دُعِيَ لَهُ. وَقَوْلُ الْإِمَامِ ابْنِ عَقِيلٍ لَا يُعْرَفُ فِيهِ سُنَّةٌ، وَهُوَ عَادَةٌ مَوْضُوعَةٌ يُوَافِقُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ. وَلَكِنَّ ذِكْرَهُمْ أَنَّ الْحَامِدَ يُدْعَى لَهُ، مَعَ قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ مَا قَالَ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُدْعَى لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ بِمَا يُنَاسِبُ الْحَالَ. فَظَهَرَ أَنَّهُ هَلْ يُدْعَى لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ أَمْ لَا؟ أَمْ إنْ حَمِدَ اللَّهَ، أَمْ لِلشَّارِبِ؟ أَقْوَالٌ مُتَوَجِّهَةٌ. وَطَرِيقُ السَّلَفِ هِيَ الصَّوَابُ، وَالْقَوْلُ بِالِاسْتِحْبَابِ مُطْلَقًا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ يَوْمَ الْعِيدِ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك. فَعَنْهُ لَا بَأْسَ، وَهِيَ أَشْهَرُ كَالْجَوَابِ وَعَنْهُ مَا أَحْسَنَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ الشُّهْرَةَ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ حَمَّامٍ بِمَا يُنَاسِبُ الْحَالَ. وَرَدُّ الْجَوَابِ مَبْنِيٌّ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الِابْتِدَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْهَلُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رَدِّ الْجَوَابِ الدَّاعِي يَوْمَ الْعِيدِ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ يُتَوَجَّهُ فِي التَّهْنِئَةِ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ. وَفِي كِتَابِ الْهَدْيِ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ -: يَجُوزُ. فَأَمَّا التَّهْنِئَةُ بِنِعْمَةٍ دِينِيَّةٍ تَجَدَّدَتْ فَتُسْتَحَبُّ، لِقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] الْآيَاتِ، قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ هَنِيئًا مَرِيئًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي الدُّعَاءِ لِرَبِّ الطَّعَامِ الْعَاشِرُ: فِي الدُّعَاءِ لِرَبِّ الطَّعَامِ. وَتَقَدَّمَ بَعْضُهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ» وَكَلَامُهُ فِي التَّرْغِيبِ أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا دُعَاءً. وَاسْتُحِبَّ الدُّعَاءُ لِكُلِّ مَنْ أَكَلَ طَعَامَهُ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ سَيِّدِي عَبْدِ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ إنَّمَا يَقُولُ هَذَا إذَا أَفْطَرَ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ أَظْهَرُ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يُوَافِقُ مَا فِي التَّرْغِيبِ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ: يُسْتَحَبُّ إذَا أَكَلَ عِنْدَ الرَّجُلِ طَعَامًا أَنْ يَدْعُوَ لَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ «مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي تَحْرِيضِ النَّبِيلِ عَلَى عَدَمِ التَّثْقِيلِ، وَأَنَّ التَّثْقِيلَ أَثْقَلُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ الْحِمْلِ الثَّقِيلِ الْحَادِي عَشَرَ: فِي تَحْرِيضِ النَّبِيلِ عَلَى عَدَمِ التَّثْقِيلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53] الْآيَةَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أُنْزِلَتْ فِي الثُّقَلَاءِ. قَالَ السُّدِّيُّ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الثُّقَلَاءَ فِيهَا، فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ أَنْ لَا يُثَقِّلَ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَذًى لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَالْمُؤْمِنُ سَهْلٌ هَيِّنٌ لَيِّنٌ. وَقَدْ سُئِلَ جَعْفَرٌ هَلْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَغِيضًا؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ يَكُونُ ثَقِيلًا. وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا اسْتَثْقَلَ رَجُلًا قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ وَأَرِحْنَا مِنْهُ، وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ إذَا رَأَى مَنْ يَسْتَثْقِلُهُ قَالَ: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إنَّا مُؤْمِنُونَ ". وَقِيلَ لِأَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ: لِأَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الثَّقِيلُ أَثْقَلَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ الْحِمْلِ الثَّقِيلِ؟ قَالَ: لِأَنَّ الثَّقِيلَ يَقْعُدُ عَلَى الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ لَا يَحْتَمِلُ مَا يَحْمِلُ الرَّأْسُ، وَقَالَتْ فَلَاسِفَةُ الْهِنْدِ: النَّظَرُ إلَى الثَّقِيلِ يُورِثُ الْمَوْتَ فَجْأَةً، وَقَالَ ثَقِيلٌ لِمَرِيضٍ: مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: أَنْ لَا أَرَاك. فَعَلَيْك بِالتَّخْفِيفِ وَدَعْ التَّثْقِيلَ عَلَى الْمُضِيفِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ رَذَالَةٌ وَوَبَالٌ، نَعَمْ إنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْجُلُوسِ بَعْدَ الطَّعَامِ جَازَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي وُجُوبِ ضِيَافَةِ الْمُسْلِمِ الْمُسَافِرَ النَّازِلَ بِهِ فِي الْقُرَى دُونَ الْأَمْصَارِ الثَّانِيَ عَشَرَ: ضِيَافَةُ الْمُسْلِمِ الْمُسَافِرَ الْمُجْتَازَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ النَّازِلِ بِهِ فِي الْقُرَى لَا الْأَمْصَارِ مَجَّانًا يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَذَلِكَ قَدْرُ كِفَايَتِهِ مَعَ عَدَمٍ. وَفِي الْوَاضِحِ. وَلِفَرَسِهِ تِبْنٌ لَا شَعِيرٌ، وَلَا تَجِبُ لِذِمِّيٍّ عَلَى مُسْلِمٍ إذَا اجْتَازَ بِهِ، فَإِنْ أَبَى الْمُسْلِمُ مِنْ ضِيَافَةِ الْمُسْلِمِ فَلِلضَّيْفِ طَلَبُهُ بِالضِّيَافَةِ عِنْدَ حَاكِمٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْحَاكِمُ جَازَ لِلضَّيْفِ الْأَخْذُ مِنْ مَالِ الْمُضِيفِ بِقَدْرِ ضِيَافَتِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، هَذَا الْمَذْهَبُ بِلَا رَيْبٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وَتُسَنُّ الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالْمُرَادُ يَوْمَانِ مَعَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، وَمَا زَادَ عَنْ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَدَقَةٌ. وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ. قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» أَيْ لِزُوَّارِك وَأَضْيَافِك. يُقَالُ لِلزَّائِرِ زَوْرٌ بِفَتْحِ الزَّايِ، سَوَاءٌ فِيهِ الْوَاحِدُ، وَالْجَمْعُ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ. وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ» قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لِلضَّيْفِ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ مِنْهُ حَتَّى يَضِيقَ صَدْرُهُ فَيَبْطُلَ أَجْرُهُ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لِلضَّيْفِ عَلَى مَنْ نَزَلَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ ثَلَاثٌ، فَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ. وَعَلَى الضَّيْفِ أَنْ يَرْتَحِلَ لَا يُؤَثِّمُ أَهْلَ الْمَنْزِلِ» وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ» وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي كَرِيمَةَ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. فَمَنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ فَهُوَ عَلَيْهِ دَيْنٌ إنْ شَاءَ قَضَى، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ خَلَا ابْنَ لَهِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا خَيْرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 فِيمَنْ لَا يُضِيفُ» . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الصَّرِيحَةِ، وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ النَّاطِقَةِ بِوُجُوبِ الضِّيَافَةِ. قُلْت: وَلَا أَعْلَمُ فِي زَوَايَا الْأَرْضِ وَجِهَاتِهَا أَشَدَّ إكْرَامًا لِلضَّيْفِ وَأَكْبَرَ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَاعْتِنَاءً بِالضِّيَافَةِ مَا خَلَا الْأَعْرَابَ مِنْ بِلَادِنَا وَمَا حَازَاهَا، وَذَلِكَ مِنْ حُدُودِ مِصْرَ إلَى صَفَدَ، وَكَذَا بِلَادُ حُورَانَ وَعَجْلُونَ، فَإِنَّك تَلْقَى فِي كُلِّ بَلْدَةٍ بَيْتًا مُخْتَصًّا بِالضِّيفَانِ. وَأَهْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ أَبَدًا مُجْتَمَعُونَ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ مُعْتَدُّونَ لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِمْ، فَإِذَا نَزَلَ بِهِمْ الضَّيْفُ أَحْضَرُوا لَهُ نُزُلَهُ فِي الْحَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِالِاهْتِمَامِ بِالِاحْتِفَالِ لَهُ وَيُكْرِمُونَهُ وَيَتَكَلَّفُونَ لَهُ مَا لَا يَتَكَلَّفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ. ثُمَّ يُهَيِّئُونَ لَهُ بَعْدَ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ الْمَنَامَ بِالْغِطَاءِ، وَيَعْلِفُونَ دَابَّتَهُ إنْ كَانَتْ مِنْ خَالِصِ الشَّعِيرِ، هَذَا لِمَنْ يَعْرِفُونَهُ وَلِمَنْ لَا يَعْرِفُونَهُ، فَهَذَا دَأْبُهُمْ أَبَدًا. أَغْدَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ. وَصَبَّ عَلَيْهِمْ الرَّحْمَةَ، فَإِنَّهُمْ عَلَى مِيرَاثِ أَبِيهِمْ الْخَلِيلِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ. وَأَشَدُّ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ اعْتِنَاءً بِذَلِكَ جَمَاعَةُ الْحَنَابِلَةِ أَتْبَاعُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ خِدْمَةً لِلضَّيْفِ وَأَكْبَرُ اهْتِمَامًا وَأَعْظَمُ احْتِرَامًا، حَتَّى إنَّهُمْ يَخُصُّونَ الضَّيْفَ بِالطَّيِّبَاتِ وَيُهَيِّئُونَهَا لَهُ. وَفِي أَكْثَرِ الْمَحَالِّ لَا يَأْكُلُ أَكْثَرُ أَوْلَادِ الْكُرَمَاءِ إلَّا مَعَ الْأَضْيَافِ. وَأَعْرِفُ مَنْ لَا يَهْنَأُ لَهُ الْأَكْلُ وَحْدَهُ دَائِمًا أَبَدًا. فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِجَزِيلِ الرِّزْقِ وَكَثْرَتِهِ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ آمِينَ. . مَطْلَبٌ: يَنْبَغِي لِلْمُضِيفِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ ضَيْفِهِ إلَى بَابِ الدَّارِ الثَّالِثَ عَشَرَ: يَنْبَغِي لِلْمُضِيفِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ ضَيْفِهِ إلَى بَابِ الدَّارِ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ مَعَ ضَيْفِهِ إلَى بَابِ الدَّارِ» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " مِنْ السُّنَّةِ إذَا دَعَوْتَ أَحَدًا إلَى مَنْزِلِك أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُ حَتَّى يَخْرُجَ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 قُلْت: وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ مِنْ أَعْمَالِ الْجَنَّةِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: زُرْتُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ، فَلَمَّا دَخَلْتُ قَامَ فَاعْتَنَقَنِي وَأَجْلَسَنِي فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ، فَقُلْت: أَلَيْسَ يُقَالُ: صَاحِبُ الْبَيْتِ أَوْ الْمَجْلِسِ أَحَقُّ بِصَدْرِ بَيْتِهِ أَوْ مَجْلِسِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَقْعُدُ وَيُقْعِدُ مَنْ يُرِيدُ. قَالَ: قُلْت فِي نَفْسِي خُذْ يَا أَبَا عُبَيْدٍ فَائِدَةً، ثُمَّ قُلْت: لَوْ كُنْت آتِيك عَلَى قَدْرِ مَا تَسْتَحِقُّ لَأَتَيْتُك كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لِي إخْوَانًا مَا أَلْقَاهُمْ كُلَّ سَنَةٍ إلَّا مَرَّةً أَنَا أَوْثَقُ فِي مَوَدَّتِهِمْ مِمَّنْ أَلْقَى كُلَّ يَوْمٍ قُلْت: هَذِهِ أُخْرَى يَا أَبَا عُبَيْدٍ، فَلَمَّا أَرَدْت الْقِيَامَ قَامَ مَعِي، قُلْت: لَا تَفْعَلْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: مِنْ تَمَامِ زِيَارَةِ الزَّائِرِ أَنْ تَمْشِيَ مَعَهُ إلَى بَابِ الدَّارِ وَتَأْخُذَ بِرِكَابِهِ. قَالَ: قُلْت: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَنْ عَنْ الشَّعْبِيِّ؟ قَالَ: ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ. قُلْت: هَذِهِ ثَالِثَةٌ يَا أَبَا عُبَيْدٍ. ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: مَنْ أَخَذَ بِرِكَابِ رَجُلٍ لَا يَرْجُوهُ وَلَا يَخَافُهُ غُفِرَ لَهُ. وَمَسَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رِكَابَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: أَتُمْسِكُ لِي وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: إنَّا هَكَذَا نَصْنَعُ بِالْعُلَمَاءِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُ مَنْ يَشَاءُ. وَفُرُوعُ ذَلِكَ يَصْعُبُ اسْتِقْصَاؤُهَا. وَآدَابُهُ يَعْسُرُ إحْصَاؤُهَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، لِمَنْ لَاحَظَتْهُ الْعِنَايَةُ. وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ التَّوْفِيقَ، وَالْهِدَايَةَ لِأَقْوَمِ طَرِيقٍ. وَلَمَّا فَرَغَ النَّاظِمُ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، شَرَعَ فِي آدَابِ اللِّبَاسِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهِيَةِ لِبَاسِ مَا فِيهِ شُهْرَةٌ عِنْدَ النَّاسِ وَيُكْرَهُ لُبْسٌ فِيهِ شُهْرَةُ لَابِسٍ وَوَاصِفُ جِلْدٍ لَا لِزَوْجٍ وَسَيِّدٍ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ يَحْرُمُ (لُبْسُ) أَيْ لُبْسُ مَلْبُوسٍ (فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَلْبُوسِ (شُهْرَةُ لَابِسٍ) لَهُ بِمُخَالَفَةِ زِيِّ بَلَدِهِ وَنَحْوِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 ذَلِكَ، فَالْمُعْتَمَدُ مِنْ الْمَذْهَبِ كَرَاهِيَةُ لِبَاسِ مَا فِيهِ شُهْرَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، لِمَا فِي كِتَابِ التَّوَاضُعِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَكِتَابِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الشُّهْرَتَيْنِ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الشُّهْرَتَانِ؟ قَالَ: رِقَّةُ الثِّيَابِ وَغِلَظُهَا، وَلِينُهَا وَخُشُونَتُهَا، وَطُولُهَا وَقِصَرُهَا، وَلَكِنْ سَدَادًا بَيْنَ ذَلِكَ وَاقْتِصَادًا» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ قُلْت: وَرَوَاهُ رَزِينٌ فِي جَامِعِهِ بِلَفْظِ «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ إيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ النَّارَ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» ، قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: لَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي جَمَعَهَا، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا» وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ جَهْمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى يَضَعَهُ مَتَى وَضَعَهُ» ؛ وَلِأَنَّ لِبَاسَ الشُّهْرَةِ رُبَّمَا يُزْرِي بِصَاحِبِهِ وَيَنْقُصُ مُرُوءَتَهُ. وَفِي الْغُنْيَةِ لِسَيِّدِنَا الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: مِنْ اللِّبَاسِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ كُلُّ لِبْسَةٍ يَكُونُ بِهَا مُشْتَهِرًا بَيْنَ النَّاسِ كَالْخُرُوجِ عَنْ عَادَةِ بَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْبَسَ مَا يَلْبَسُونَ لِئَلَّا يُشَارَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى حَمْلِهِمْ عَلَى غِيبَتِهِ فَيُشْرِكَهُمْ فِي إثْمِ الْغِيبَةِ لَهُ انْتَهَى. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَدْخُلُ فِي الشُّهْرَةِ خِلَافُ الْمُعْتَادِ مَنْ لَبِسَ شَيْئًا مَقْلُوبًا أَوْ مُحَوَّلًا كَجُبَّةٍ وَقَبَاءٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالسَّخَافَةِ وَالِانْخِلَاعِ. وَفِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: يُكْرَهُ فِي غَيْرِ حَرْبٍ إسْبَالُ بَعْضِ لِبَاسِهِ فَخْرًا وَخُيَلَاءَ، وَبَطَرًا وَشُهْرَةً وَخِلَافُ زِيِّ بَلَدِهِ بِلَا عُذْرٍ. وَقِيلَ يَحْرُمُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَظْهَرُ. انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ خُيَلَاءَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ الْمَذْهَبُ قَطَعَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا، وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ: وَيَحْرُمُ، وَهُوَ كَبِيرَةٌ إسْبَالُ شَيْءٍ مِنْ ثِيَابِهِ، وَلَوْ عِمَامَةً خُيَلَاءَ فِي غَيْرِ حَرْبٍ، فَإِنْ أَسْبَلَ ثَوْبَهُ لِحَاجَةٍ كَسَتْرِ سَاقٍ قَبِيحٍ مِنْ غَيْرِ خُيَلَاءَ أُبِيحَ، مَا لَمْ يُرِدْ التَّدْلِيسَ عَلَى النِّسَاءِ، وَمِثْلُهُ قَصِيرَةٌ اتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ فَلَمْ تُعْرَفْ انْتَهَى. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ ثَوْبُ الشُّهْرَةِ، فَإِنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَابِسًا بُرْدًا مُخَطَّطًا بَيَاضًا وَسَوَادًا، فَقَالَ: ضَعْ هَذَا، وَالْبَسْ لِبَاسَ أَهْلِ بَلَدِك، وَقَالَ: لَيْسَ هُوَ بِحَرَامٍ، وَلَوْ كُنْت بِمَكَّةَ، أَوْ الْمَدِينَةِ لَمْ أَعِبْ عَلَيْك. قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِأَنَّهُ لِبَاسُهُمْ هُنَاكَ انْتَهَى. وَفِي الْفُرُوعِ: وَتُكْرَهُ شُهْرَةٌ وَخِلَافُ زِيِّ بَلَدِهِ، وَقِيلَ يَحْرُمُ وَنَصُّهُ لَا. قَالَ شَيْخُنَا، يَعْنِي بِهِ شَيْخَ الْإِسْلَامِ: تَحْرُمُ شُهْرَةٌ، وَهُوَ مَا قُصِدَ بِهِ الِارْتِفَاعُ وَإِظْهَارُ التَّوَاضُعِ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الشُّهْرَتَيْنِ مِنْ اللِّبَاسِ الْمُرْتَفِعِ، وَالْمُنْخَفِضِ؛ وَلِهَذَا فِي الْخَبَرِ «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ» فَعَاقَبَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ. قَالَ: وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ يُكْرَهُ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ الرِّيَاءِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ وَلِيًّا. وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا مَعْنَاهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا: كَانَ يُقَالُ: كُلْ مِنْ الطَّعَامِ مَا اشْتَهَيْتَ، وَالْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا اشْتَهَى النَّاسُ. وَعَقَدَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: إنَّ الْعُيُونَ رَمَتْكَ مُذْ فَاجَأْتَهَا ... وَعَلَيْكَ مِنْ شَهْرِ اللِّبَاسِ لِبَاسُ أَمَّا الطَّعَامُ فَكُلْ لِنَفْسِكَ مَا اشْتَهَتْ ... وَاجْعَلْ لِبَاسَك مَا اشْتَهَاهُ النَّاسُ وَكَانَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ يَقُولُ: الْبَسُوا ثِيَابَ الْمُلُوكِ وَأَمِيتُوا قُلُوبَكُمْ بِالْخَشْيَةِ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إنَّ قَوْمًا جَعَلُوا خُشُوعَهُمْ فِي لِبَاسِهِمْ، وَكِبْرَهُمْ فِي صُدُورِهِمْ وَشَهَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِلِبَاسِ الصُّوفِ، حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ بِمَا يَلْبَسُ مِنْ الصُّوفِ أَعْظَمُ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ - وَقَدْ أَحْسَنَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 تَصَوَّفَ فَازْدَهَى بِالصُّوفِ جَهْلًا ... وَبَعْضُ النَّاسِ يَلْبَسُهُ مَجَانَهْ يُرِيدُ مُهَانَةً وَيُرِيدُ كِبْرًا ... وَلَيْسَ الْكِبْرُ مِنْ شَأْنِ الْمَهَانَهْ تَصَنَّعَ كَيْ يُقَالَ لَهُ أَمِينٌ ... مَا يُغْنِي التَّصَنُّعُ لِلْأَمَانَهْ وَلَمْ يُرِدْ الْإِلَهَ بِهَا وَلَكِنْ ... أَرَادَ بِهَا الطَّرِيقَ إلَى الْخِيَانَهْ وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ: قُلْت لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: مَا الْمُرُوءَةُ؟ قَالَ: أَمَّا فِي بَلَدِك فَالتَّقْوَى، وَأَمَّا حَيْثُ لَا تُعْرَفُ فَاللِّبَاسُ. وَرَوَى بَقِيَّةُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ لِبَاسَ الصُّوفِ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ وَفِي الْحَضَرِ بِدْعَةٌ مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ لُبْسِ مَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ (وَ) يُكْرَهُ لِبَاسٌ (وَاصِفٌ) - ذَلِكَ اللِّبَاسَ - لَوْنَ (جِلْدٍ) لِلَابِسِهِ مِنْ بَيَاضِ الْجِلْدِ وَسَوَادِهِ وَحُمْرَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ، وَلَوْ فِي بَيْتِهَا (لَا) يُكْرَهُ لَهَا إنْ وَصَفَ بَشَرَتَهَا (لِزَوْجٍ) لَهَا لِإِبَاحَةِ نَظَرِهِ إلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا (وَ) كَذَا لَا يُكْرَهُ لُبْسُهَا رَقِيقًا يَصِفُ بَشَرَتَهَا لِ (سَيِّدٍ) لَهَا حَيْثُ كَانَ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِعَدَمِ الْمَحْذُورِ وَإِبَاحَةِ النَّظَرِ إذَنْ لِجَمِيعِ بَدَنِهَا. وَفِي غَايَةِ الْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ مَرْعِيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَكُرِهَ لَهُمَا يَعْنِي الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَى لُبْسُ مَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ. وَلَهَا يَعْنِي وَكُرِهَ لِلْمَرْأَةِ لُبْسُ مَا يَصِفُ الْحَجْمَ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ: وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ مَا يَصِفُ اللِّينَ، وَالْخُشُونَةَ، وَالْحَجْمَ. وَاسْتَوْجَهَ فِي الْغَايَةِ تَحْرِيمَ لُبْسِ مَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ مُفْرَدًا انْتَهَى. قُلْت: وَصَرَّحَ بِعَدَمِ جَوَازِ لُبْسِهِ أَبُو الْمَعَالِي كَمَا فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَكْرَهُ الرَّقِيقَ لِلْحَيِّ، وَالْمَيِّتِ. وَإِنْ كَانَ يُبْدِي عَوْرَةً لِسِوَاهُمَا ... فَذَلِكَ مَحْظُورٌ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ (وَإِنْ كَانَ) اللِّبَاسُ خَفِيفًا (يُبْدِي) لِرِقَّتِهِ وَعَدَمِ سَتْرِهِ (عَوْرَةً) لِلَابِسِهِ مِنْ ذَكَرٍ، أَوْ أُنْثَى (لِسِوَاهُمَا) يَعْنِي لِسِوَى الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ الَّذِي تَحِلُّ لَهُ (فَذَلِكَ) اللِّبَاسُ (مَحْظُورٌ) أَيْ مَمْنُوعٌ مُحَرَّمٌ عَلَى لَابِسِهِ لِعَدَمِ سَتْرِهِ لِلْعَوْرَةِ الْمَأْمُورِ بِسَتْرِهَا شَرْعًا (بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ) أَيْ بِلَا شَكٍّ وَلَا خِلَافٍ. قَالَ فِي الشَّرْحِ: إذَا كَانَ خَفِيفًا يَصِفُ لَوْنَ الْبَشَرَةِ فَيَبِينُ مِنْ وَرَائِهِ بَيَاضُ الْجِلْدِ، أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 حُمْرَتُهُ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ يَسْتُرُ اللَّوْنَ وَيَصِفُ الْخِلْقَةَ جَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَةَ مَسْتُورَةٌ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ انْتَهَى، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَّةُ أَخْبَارٍ فِي النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ النِّسَاءِ الرَّقِيقَ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي تَصِفُ الْبَشَرَةَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي نِسَاءٌ يَرْكَبْنَ عَلَى سُرُجٍ كَأَشْبَاهِ الرِّجَالِ يَنْزِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ. الْعَنُوهُنَّ، فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ لَوْ كَانَ وَرَاءَكُمْ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ خَدَمَتْهُنَّ نِسَاؤُكُمْ كَمَا خَدَمَكُمْ نِسَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا، وَكَذَا» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: يَا أَسْمَاءُ إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا بَلَغَتْ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إلَّا هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: هَذَا مُرْسَلٌ خَالِدُ بْنُ دُرَيْكٍ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَخَيْرَ خِلَالِ الْمَرْءِ جَمْعًا تَوَسُّطُ ... الْأُمُورِ وَحَالٌ بَيْنَ أَرْدَى وَأَجْوَدِ وَ (خَيْرُ) مُبْتَدَأٌ (خِلَالِ) جَمْعُ خَلَّةٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ الْخَصْلَةُ، أَيْ خَيْرُ خِصَالِ (الْمَرْءِ) أَيْ الْإِنْسَانِ مِنْ الذُّكُورِ، وَالْإِنَاثِ (جَمْعًا) أَيْ كُلِّهَا (تَوَسُّطُ) خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَ (الْأُمُورِ) مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ أَيْ أَفْضَلُ شُؤُونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 الْإِنْسَانِ مُرَاعَاةُ الْوَسَطِ بَيْنَ الْخُشُونَةِ وَالنُّعُومَةِ، وَالرَّقِيقِ الشَّفَّافِ مِنْ الثِّيَابِ، وَالصَّفِيقِ الْخَشِنِ مِنْهَا، فَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا (وَحَالٌ بَيْنَ) حَالَيْنِ (أَرْدَى وَأَجْوَدِ) فَيَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْوَسَطُ مُحَرَّكَةً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: أَعْدَلُهُ. قَالَ تَعَالَى {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أَيْ عَدْلًا. وَذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا، وَقَالَ: وَوَسَطُ الشَّيْءِ مُحَرَّكَةً، مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ كَأَوْسَطِهِ، فَإِذَا سُكِّنَتْ كَانَتْ ظَرْفًا، أَوْ هُمَا فِيمَا هُوَ مُصْمَتٌ كَالْحَلْقَةِ، فَإِذَا كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مُتَبَايِنَةً فَبِالْإِسْكَانِ فَقَطْ، أَوْ كُلُّ مَوْضِعٍ صَلُحَ فِيهِ بَيْنٌ فَهُوَ بِالتَّسْكِينِ وَإِلَّا فَبِالتَّحْرِيكِ. انْتَهَى. وَدَلِيلُ هَذَا يَعْنِي اخْتِيَارَ حَالَةِ التَّوَسُّطِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي شُؤُونٍ شَتَّى، مِثْلُ {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: 110] {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] . {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19] ، وَالْقَصْدُ مَا بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِيرِ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَسْأَلُهُ رَجُلٌ مَا أَلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ؟ قَالَ: مَا لَا يَزْدَرِيكَ فِيهِ السُّفَهَاءُ وَيَعِيبُكَ بِهِ الْحُكَمَاءُ. قَالَ مَا هُوَ؟ قَالَ: بَيْنَ الْخَمْسَةِ دَرَاهِمَ إلَى الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا. وَفِي كِتَابِ الْغِيبَةِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «شِرَارُ أُمَّتِي الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ» هَذَا لَفْظُ حَدِيثِ سَيِّدَتِنَا فَاطِمَةَ. وَلَفْظُ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ «سَيَكُونُ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَشْرَبُونَ أَلْوَانَ الشَّرَابِ وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي» وَهُمَا ضَعِيفَانِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِمَا الْمُنْذِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدٌ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 الْإِرْفَاهِ» قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: الْإِرْفَاهُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِفَاءٍ آخِرَهُ هَاءٌ، التَّنَعُّمُ وَالرَّاحَةُ. وَمِنْهُ الرَّفَهُ بِفَتْحَتَيْنِ. وَقُيِّدَ فِي الْحَدِيثِ بِالْكَثْرَةِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْوَسَطَ الْمُعْتَدِلَ مِنْهُ لَا يُذَمُّ. وَبِذَلِكَ جُمِعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَوَسَّطَ فِي مَلْبَسِهِ وَنَفَقَتِهِ وَلْيَكُنْ إلَى التَّقْلِيلِ أَمْيَلَ، فَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ. وَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِمَّا يُقْتَدَى فِيهِ بِهِ، فَإِنَّهُ مَتَى تَرَخَّصَ فِي الدُّخُولِ عَلَى السَّلَاطِينِ وَجَمْعِ الْحُطَامِ فَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ كَانَ الْإِثْمُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا سَلِمَ هُوَ فِي دُخُولِهِ وَلَمْ يَفْقَهُوا كَيْفِيَّةَ سَلَامَتِهِ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ الْبَنَّا أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ لُبْسِ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ وَلُبْسَ مِثَالِ الْحَيِّ فَاحْظُرْ بِأَجْوَدِ ... وَمَا لَمْ يُدَسْ مِنْهَا لِوَهْنٍ فَشَدِّدْ (وَلُبْسَ) لِبَاسٌ فِيهِ صُوَرُ (مِثَالِ) الْحَيَوَانِ (الْحَيِّ) بِمَا يُشْبِهُ مَا فِيهِ رُوحٌ مِنْ طَيْرٍ وَغَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ مَعَ سَلَامَةِ رَأْسِ الصُّورَةِ (فَاحْظُرْ) أَيْ امْنَعْ ذَلِكَ لِحُرْمَتِهِ (بِأَجْوَدِ) الْقَوْلَيْنِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَحْرُمُ عَلَى الْكُلِّ - يَعْنِي الذُّكُورَ، وَالْإِنَاثَ - لُبْسُ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَنْبَغِي كَتَعْلِيقِهِ وَسَتْرِ الْجُدُرِ بِهِ وَتَصْوِيرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَرْبَعَةِ. وَقِيلَ: لَا يَحْرُمُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَشَيْخُنَا. انْتَهَى يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْحُرْمَةُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا. وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ: وَيَحْرُمُ عَلَى ذَكَرٍ وَأُنْثَى لُبْسُ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ وَتَعْلِيقُهُ وَسَتْرُ الْجُدُرِ بِهِ وَتَصْوِيرُهُ: بَلْ هُوَ كَبِيرَةٌ حَتَّى فِي سِتْرٍ وَسَقْفٍ وَحَائِطٍ وَسَرِيرٍ وَنَحْوِهَا انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ طَرَفٌ مِنْ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَاسْتِعْمَالِ الصُّوَرِ. وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ وَعُذِّبَ» . مَطْلَبٌ: فِي عَدَمِ حُرْمَةِ اسْتِعْمَالِ مَا فِيهِ صُورَةٌ إذَا كَانَتْ مُمْتَهَنَةً (وَمَا) أَيْ الَّذِي (لَمْ يُدَسْ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الصُّوَرِ، أَوْ الْفُرُشِ، وَالْمَخَادِّ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ (لِوَهْنٍ) أَيْ لِضَعْفٍ وَإِهَانَةٍ وَاحْتِقَارٍ. هَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 بِالْوَهْنِ هُنَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَدَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ اكْرَهَنَّ (فَشَدِّدْ) وَعَلَى النُّسْخَةِ الْأُخْرَى بِتَشَدُّدِ. وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ الصُّورَةَ إنَّمَا تَحْرُمُ إذَا لَمْ تَكُنْ مُمْتَهَنَةً، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُمْتَهَنَةً كَمَا إذَا كَانَتْ فِي الْبُسُطِ وَالزُّلَالِيِّ الَّتِي يُدَاسُ عَلَيْهَا وَتُمْتَهَنُ، أَوْ كَانَتْ رَقْمًا فِي مَدَاسٍ يُوطَأُ عَلَيْهَا فَلَا تَحْرُمُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا فِيهِ تَصَاوِيرُ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَعَهُ. قَالَتْ: فَقَطَعْته وِسَادَتَيْنِ يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا» . وَفِي لَفْظٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: «فَقَطَعْته مِرْفَقَتَيْنِ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُتَّكِئًا عَلَى إحْدَاهُمَا وَفِيهَا صُورَةٌ» . فَإِذَا مَنَعَ مِنْ نَصْبِهِ سِتْرًا عَلَى الْحَائِطِ وَتَعْلِيقِهِ فَلَأَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ لُبْسِهِ أَوْلَى. فَإِذَا زَالَ الْإِكْرَامُ وَخَلَفَهُ الِامْتِهَانُ بِأَنْ صَارَ يُدَاسُ مَا فِيهِ الصُّوَرُ زَالَتْ الْحُرْمَةُ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: لَا افْتِرَاشُهُ، أَيْ لَا يَحْرُمُ افْتِرَاشُ مَا فِيهِ الصُّوَرُ وَجَعْلُهُ مِخَدًّا بِلَا كَرَاهَةٍ. وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى مَا فِيهِ صُورَةٌ، وَلَوْ عَلَى مَا يُدَاسُ، وَالسُّجُودُ عَلَيْهَا أَشَدُّ كَرَاهَةً. وَلَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ يَعْنِي مُحَرَّمَةً عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْكَلْبِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ» يَعْنِي مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ، وَالْبَرَكَةِ كَمَا مَرَّ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصُّورَةِ فِي الْبَيْتِ، وَنَهَى أَنْ يُصْنَعَ ذَلِكَ» فَإِنْ أُزِيلَ مِنْ الصُّورَةِ مَا لَا تَبْقَى مَعَهُ حَيَاةٌ لَمْ تُكْرَهْ فِي الْمَنْصُوصِ، بِأَنْ أُزِيلَ مِنْهَا رَأْسُهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَأْسٌ، لَا أَنْ فَصَلَ رَأْسَهَا عَنْ بَدَنِهَا بِمَا يُشَابِهُ الطَّوْقَ مِمَّا يَزِيدُهَا حُسْنًا فَهَذَا لَا تَزُولُ بِهِ الْحُرْمَةُ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ: وَتُبَاحُ صُورَةُ غَيْرِ حَيَوَانٍ كَشَجَرٍ وَكُلِّ مَا لَا رُوحَ فِيهِ، وَقَالَ فِي الْغَايَةِ: وَجَازَ تَصْوِيرُ غَيْرِ حَيَوَانٍ كَشَجَرٍ. انْتَهَى. وَفِي الْفُرُوعِ: وَإِنْ أُزِيلَ مِنْ الصُّورَةِ مَا لَا تَبْقَى مَعَهُ حَيَاةٌ لَمْ تُكْرَهْ. وَمِثْلُهُ صُورَةُ شَجَرٍ وَنَحْوِهِ وَتِمْثَالٌ، وَكَذَا تَصْوِيرُهُ فَأَطْلَقَ بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ التَّصْوِيرِ خِلَافًا لِلثَّلَاثَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وَفِي الْوَجِيزِ: يَحْرُمُ التَّصْوِيرُ وَاسْتِعْمَالُهُ. وَفِي الْفُصُولِ: تُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ صُورَةٌ، وَلَوْ عَلَى مَا يُدَاسُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ» وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ هُنَا وَفِي الْوَلِيمَةِ ظَاهِرٌ، وَبَعْضُهُ صَرِيحٌ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ تَخْصِيصًا لِلنَّهْيِ. وَذَكَرَهُ فِي التَّمْهِيدِ فِي تَخْصِيصِ الْأَخْبَارِ. وَفِي تَتِمَّةِ الْخَبَرِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وَلَا كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ» إسْنَادُهُ حَسَنٌ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ، أَوْ صَرِيحُ بَعْضِهِمْ الْمُرَادُ كَلْبٌ مَنْهِيٌّ عَنْ اقْتِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ نَهْيًا، كَرِوَايَةِ النَّسَائِيّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جَرَسٌ، وَلَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً بِهَا جَرَسٌ» قَالَ: وَيُتَوَجَّهُ احْتِمَالُ: وَكَذَا الْجُنُبُ. وَذَكَرَ شَيْخُنَا: لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ. وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَفِي الْإِرْشَادِ: الصُّوَرُ وَالتَّمَاثِيلُ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُ فِي الْأَسِرَّةِ، وَالْجُدْرَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا فِي الرَّقْمِ أَيْسَرُ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُعْتَمَدَ الْحُرْمَةُ. وَكَأَنَّ النَّاظِمَ أَشَارَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَمَا لَمْ يُدَسْ مِنْهَا اكْرَهَنَّ بِتَشَدُّدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَتِمَّةٌ) يُكْرَهُ الصَّلِيبُ فِي الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ، جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى. وَظَاهِرُ نَقْلِ صَالِحٍ تَحْرِيمُهُ، وَصَوَّبَهُ فِي الْإِنْصَافِ، وَذَكَرَهُ فِي الْفُرُوعِ احْتِمَالًا. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ تَشْبِيهِ الرَّجُلِ بِالْأُنْثَى وَعَكْسِهِ وَلِلرَّجُلِ اكْرَهْ لُبْسَ أُنْثَى وَعَكْسَهُ ... وَمَا حَظْرُهُ لِلَّعْنِ فِيهِ بِمُبْعَدِ (وَلِلرَّجُلِ) ، وَهُوَ الذَّكَرُ الْبَالِغُ (اكْرَهْ) كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا (لُبْسَ أُنْثَى وَعَكْسَهُ) بِأَنْ تَلْبَسَ أُنْثَى لُبْسَ رَجُلٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَشَبُّهِ الرَّجُلِ بِالْأُنْثَى وَعَكْسُهُ فِي اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ فَقَدَّمَ النَّاظِمُ الْكَرَاهَةَ، ثُمَّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَمَا حَظْرُهُ) أَيْ مَنْعُهُ وَحُرْمَتُهُ (لِ) أَجْلِ الـ (لَّعْنِ) الْوَارِدِ عَنْ حَضْرَةِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ، وَالْآخِرِينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فِيهِ) أَيْ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَتَشَبُّهِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 بِمُبْعَدِ) ، بَلْ هُوَ قَرِيبٌ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «وَلَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَ الرَّجُلِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ امْرَأَةً مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَقَلِّدَةً قَوْسًا فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْمُخَنَّثُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا مَنْ فِيهِ انْخِنَاثٌ، وَهُوَ التَّكَسُّرُ وَالتَّثَنِّي كَمَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ لَا الَّذِي يَأْتِي الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَنَّثِي الرِّجَالِ الَّذِينَ يَتَشَبَّهُونَ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنْ النِّسَاءِ الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ، وَرَاكِبَ الْفَلَاةِ وَحْدَهُ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «أَرْبَعَةٌ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ وَأَمَّنَتْ الْمَلَائِكَةُ: رَجُلٌ جَعَلَهُ اللَّهُ ذَكَرًا فَأَنَّثَ نَفْسَهُ وَتَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ، وَامْرَأَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ أُنْثَى فَتَذَكَّرَتْ وَتَشَبَّهَتْ بِالرِّجَالِ، وَاَلَّذِي يُضِلُّ الْأَعْمَى، وَرَجُلٌ حَصُورٌ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ حَصُورًا إلَّا يَحْيَى ابْنَ زَكَرِيَّا» . وَرَوَى الْبَزَّارُ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ» . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الدَّيُّوثُ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الْفَاحِشَةَ فِي أَهْلِهِ وَيُقِرُّهُمْ عَلَيْهَا. قُلْت: وَهُوَ فِي حَدِيثِ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُفَسَّرٌ فِي الْمَرْفُوعِ وَلَفْظُهُ «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَبَدًا: الدَّيُّوثُ، وَالرَّجُلَةُ مِنْ النِّسَاءِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَمَّا مُدْمِنُ الْخَمْرِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الدَّيُّوثُ؟ قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 الَّذِي لَا يُبَالِي مَنْ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ. قُلْنَا: فَمَا الرَّجُلَةُ مِنْ النِّسَاءِ؟ قَالَ: الَّتِي تَتَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَرُوَاتُهُ لَا أَعْلَمُ فِيهِمْ مَجْرُوحًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ أَحْسَنَ مَا يُلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ الْبَيَاضُ: وَأَحْسَنُ مَلْبُوسٍ بَيَاضٌ لِمَيِّتٍ ... وَحَيٍّ فَبَيِّضْ مُطْلَقًا لَا تُسَوِّدْ (وَأَحْسَنُ) بِمَعْنَى أَفْضَلُ (مَلْبُوسٍ) مِنْ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا مَا لَوْنُهُ (بَيَاضٌ لِ) إنْسَانٍ (مَيِّتٍ) بِأَنْ يُكَفَّنَ فِي ثِيَابٍ بِيضٍ (وَ) لِ (حَيٍّ) بِأَنْ يَلْبَسَ الثِّيَابَ الْبِيضَ دُونَ غَيْرِهَا لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَسُوا الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَحْسَنُ مَا زُرْتُمْ اللَّهَ بِهِ فِي قُبُورِكُمْ وَمَسَاجِدِكُمْ الْبَيَاضُ» . (فَبَيِّضْ) ثِيَابَك أَيْ اتَّخِذْهَا بِيضًا (مُطْلَقًا) أَيْ فِي الْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَالْبَيَاضُ أَفْضَلُ اتِّفَاقًا. وَفِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى فِي الْخُرُوجِ لِلْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ: وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَأَفْضَلُهَا الْبَيَاضُ. وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى: وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَهُوَ الْبَيَاضُ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ وَأَفْضَلُهَا الْبَيَاضُ. (لَا) نَاهِيَةٌ (تُسَوِّدْ) هَا فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِلَا النَّاهِيَةِ وَمُرَادُهُ بِالنَّهْيِ خِلَافُ الْأَفْضَلِ وَإِلَّا فَلُبْسُ السَّوَادِ مُبَاحٌ، وَلَوْ لِلْجُنْدِ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. قَالَ فِي الْآدَابِ: يُبَاحُ لُبْسُ السَّوَادِ مِنْ عِمَامَةٍ نَصًّا وَثَوْبٍ وَقَبَاءٍ وَقِيلَ إلَّا لِمُصَابٍ، أَوْ جُنْدِيٍّ فِي غَيْرِ حَرْبٍ. وَعَنْهُ يُكْرَهُ لِلْجُنْدِيِّ مُطْلَقًا. وَيُرْوَى عَنْ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ ثِيَابًا سُودًا يُحْرِقُهَا الْوَصِيُّ قِيلَ لَهُ: فِي الْوَرَثَةِ صِبْيَانٌ تَرَى أَنْ يُحْرِقَ؟ قَالَ: نَعَمْ يُحْرِقُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 الْوَصِيُّ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَهَذَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ. وَعَلَّلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّهُ لِبَاسُ الْجُنْدِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ وَالظَّلَمَةِ. وَسَأَلَ أَحْمَدُ الْمُتَوَكِّلَ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنْ لُبْسِ السَّوَادِ فَأَعْفَاهُ. وَسَلَّمَ رَجُلٌ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَكَانَ عَلَيْهِ جُبَّةٌ سَوْدَاءُ وَاسْتَبْعَدَ فِي الْفُرُوعِ الْأَمْرَ بِحَرْقِهِ. ، وَقَدْ سَأَلَ الرَّشِيدُ الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ لُبْسِ السَّوَادِ فَقَالَ لَا أُحَرِّمُهُ وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ قَالَ وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا تُجَلَّى فِيهِ عَرُوسٌ، وَلَا يُلَبِّي فِيهِ مُحْرِمٌ، وَلَا يُكَفَّنُ فِيهِ مَيِّتٌ، وَقِيلَ لِنَمْلَةٍ: لِمَ تَلْبَسُونَ السَّوَادَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِثِيَابِ أَهْلِ الْمُصِيبَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي فَتًى فِيمَنْ لَبِسَ السَّوَادَ (شِعْرًا) : رَأَيْتُكَ فِي السَّوَادِ فَقُلْتُ بَدْرٌ ... بَدَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ وَأَلْقَيْت السَّوَادَ فَقُلْتُ شَمْسٌ ... مَحَتْ بِشُعَاعِهَا ضَوْءَ النُّجُومِ مَطْلَبٌ: أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ السَّوَادَ لِلْحُزْنِ (فَائِدَةٌ) : أَوَّلُ مَا لَبِسَ الْعَبَّاسِيُّونَ السَّوَادُ حِينَ قَتَلَ مَرْوَانُ الْأُمَوِيُّ إبْرَاهِيمَ الْإِمَامَ لَمَّا تَنَسَّمَ مِنْهُ دَعْوَى الْخِلَافَةِ لَبِسُوهُ حُزْنًا قَالُوا: لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِثِيَابِ أَهْلِ الْمُصِيبَةِ وَفِي الْمُحْكَمِ: الْبَسْ الْبَيَاضَ وَالسَّوَادَ، فَإِنَّ الدَّهْرَ كَذَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ. وَأَوَّلُ مَنْ لَبِسَ السَّوَادَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ذَكَرَهُ السُّيُوطِيّ فِي أَوَائِلِهِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ لُبْسِ مَا صَبَغَهُ الْيَهُودُ قَبْلَ غَسْلِهِ وَلَا بَأْسَ بِالْمَصْبُوغِ مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ مَعَ الْجَهْلِ فِي أَصْبَاغِ أَهْلِ التَّهَوُّدِ (وَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا حُرْمَةَ (بِ) لُبْسِ الثَّوْبِ (الْمَصْبُوغِ) وَاسْتِعْمَالِهِ حَالَ كَوْنِ اللُّبْسِ وَالِاسْتِعْمَالِ (مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ) أَيْ غَسْلِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ وَنَحْوِهِ مِنْ الصِّبْغِ الَّذِي عَلِقَ عَلَيْهِ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ (مَعَ الْجَهْلِ فِي) حَالِ (أَصْبَاغِ أَهْلِ التَّهَوُّدِ) وَنَحْوِهِمْ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ الصَّابِغِ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا، أَوْ يَهُودِيًّا، أَوْ مُشْرِكًا وَنَحْوَهُمْ مِنْ بَقِيَّةِ الْكُفَّارِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالنَّجَاسَةِ، بَلْ يُبَاحُ اللُّبْسُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ وَمَا عَدَاهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمُعْتَمَدِ. وَقِيلَ اكْرَهَنَّهُ مِثْلَ مُسْتَعْمَلِ الْإِنَا ... وَإِنْ تَعْلَمْ التَّنْجِيسَ فَاغْسِلْهُ تَهْتَدِ (وَقِيلَ اكْرَهَنَّهُ) أَيْ اكْرَهْ مَا صَبَغَهُ الْكُفَّارُ (مِثْلَ) مَا يُكْرَهُ (مُسْتَعْمَلُ) أَيْ اسْتِعْمَالُ (الْإِنَاءِ) أَيْ أَوَانِي الْكُفَّارِ عَلَى الْقَوْلِ بِكَرَاهَتِهَا.، وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَثِيَابُ الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ وَأَوَانِيهِمْ طَاهِرَةٌ إنْ جُهِلَ حَالُهَا حَتَّى مَا وَلِيَ عَوْرَاتِهِمْ، كَمَا لَوْ عُلِمَتْ طَهَارَتُهَا، وَكَذَا مَا صَبَغُوهُ، أَوْ نَسَجُوهُ. وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى: وَمَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهُ مِنْ آنِيَةِ كُفَّارٍ، وَلَوْ لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُمْ كَالْمَجُوسِ وَمَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهُ مِنْ ثِيَابِهِمْ، وَلَوْ وَلِيَتْ عَوْرَاتِهِمْ، وَكَذَا مَنْ لَابَسَ النَّجَاسَةَ كَثِيرًا طَاهِرٌ مُبَاحٌ فَصَرَّحَ بِالطَّهَارَةِ، وَالْإِبَاحَةِ كَالْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. قَالَ شَارِحُهُ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وَهُوَ يَتَنَاوَلُ مَا لَا يَقُومُ إلَّا بِآنِيَةٍ «وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ. وَبَدَنُ الْكَافِرِ طَاهِرٌ، وَكَذَا طَعَامُهُ وَمَاؤُهُ وَمَا صَبَغُوهُ، أَوْ نَسَجُوهُ. ثُمَّ قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْغَايَةِ: وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ، وَالْحَائِضِ وَالصَّبِيِّ مَعَ الْكَرَاهَةِ، مَا لَمْ تَعْلَمْ نَجَاسَتَهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَائِضِ، وَالْمُرْضِعَةِ، وَبَيْنَ ثِيَابِ الْكُفَّارِ وَمُلَابِسِي النَّجَاسَةِ فَجَعَلَهَا فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَكْرُوهَةٌ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِمْ. وَعِبَارَةُ الْفُرُوعِ: وَثِيَابُ الْكُفَّارِ وَآنِيَتُهُمْ مُبَاحَةٌ إنْ جُهِلَ حَالُهَا وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَعَنْهُ الْكَرَاهَةُ وِفَاقًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَعَنْهُ الْمَنْعُ وَعَنْهُ فِيمَا وَلِيَ عَوْرَاتِهِمْ وَعَنْهُ الْمَنْعُ مِمَّنْ تَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ، وَكَذَا حُكْمُ مَا صَبَغُوهُ وَآنِيَةُ مَنْ لَابَسَ النَّجَاسَةَ كَثِيرًا وَثِيَابُهُ. وَقِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ صَبْغِ الْيَهُودِ بِالْبَوْلِ؟ فَقَالَ: الْمُسْلِمُ، وَالْكَافِرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَلَا تَسْأَلْ عَنْ هَذَا وَلَا تَبْحَثْ عَنْهُ، فَإِنْ عَلِمْت فَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 تُصَلِّ فِيهِ حَتَّى تَغْسِلَهُ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ (وَإِنْ تَعْلَمْ التَّنْجِيسَ) فِي الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ (فَاغْسِلْهُ) الْغَسْلَ الشَّرْعِيَّ الَّذِي يُذْهِبُ النَّجَاسَةَ بِالْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ إنْ قُلْنَا بِهِ، أَوْ بِمَا يُذْهِبُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ وَطَعْمَهَا، وَكَذَا رِيحُهَا، وَلَوْنُهَا مَا لَمْ تَعْجِزْ عَنْ إزَالَتِهِمَا (تَهْتَدِ) مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ، وَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَلَا يَضُرُّكَ أَثَرُهُ» . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَاحْتَجَّ غَيْرُ وَاحِدٍ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ: نَهَانَا اللَّهُ عَنْ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ. وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي ذَلِكَ: نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَمُّقِ وَسَأَلَهُ - يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَبُو الْحَارِثِ عَنْ اللَّحْمِ يُشْتَرَى مِنْ الْقَصَّابِ، قَالَ: يُغْسَلُ، وَقَالَ شَيْخُنَا يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ: بِدْعَةٌ، يَعْنِي غَسْلَ اللَّحْمِ. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ وَمَا اشْتَدَّتْ حُمْرَتُهُ وَأَحْمَرُ قَانٍ وَالْمُعَصْفَرُ فَاكْرَهَنْ ... لِلُبْسِ رِجَالٍ حَسْبُ فِي نَصِّ أَحْمَدَ (وَأَحْمَرُ قَانٍ) فَاكْرَهَنْ لُبْسَهُ لِلرِّجَالِ. نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى كَرَاهَةِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ الْمُصْمَتِ. قَالَ فِي الْمُغْنِي: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَوَى أَنَّهُ اشْتَرَى ثَوْبًا فَرَأَى فِيهِ خَيْطًا أَحْمَرَ فَرَدَّهُ. وَقَوْلُ النَّاظِمِ: قَانٍ، أَيْ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ يُقَالُ قَنَأَ كَمَنَعَ قُنُوءًا اشْتَدَّتْ حُمْرَتُهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَالَ فِي بَابِ الْمَقْصُورِ: وَأَحْمَرُ قَانِئٌ صَوَابُهُ بِالْهَمْزِ وَوَهِمَ الْجَوْهَرِيُّ انْتَهَى. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ لُبْسُ أَحْمَرَ مُصْمَتٍ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُوَفَّقُ الدِّينِ: لَا يُكْرَهُ. وَعَنْهُ يُكْرَهُ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ دُونَ خَفِيفِهَا.، وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ الْمَذْهَبِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ، وَلَوْ بِطَانَةً. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَأَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الثِّيَابَ الْحُمْرَ آلُ قَارُونَ أَوْ آلُ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ قَرَأَ {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79] قَالَ فِي ثِيَابٍ حُمْرٍ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقِيلَ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الثَّوْبُ الْأَحْمَرُ تُغَطَّى بِهِ الْجِنَازَةُ، فَكَرِهَهُ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ عَلَيْهِ بُرْدَانِ أَحْمَرَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ الْحَسَنِ «الْحُمْرَةُ زِينَةُ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ» وَوَصَلَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ السَّكَنِ وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ كَمَا فِي الْفَتْحِ. وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيّ فِي الشُّعَبِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ. وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ يَزِيدَ الثَّقَفِيِّ رَفَعَهُ «أَنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ الْحُمْرَةَ فَإِيَّاكُمْ وَالْحُمْرَةَ وَكُلَّ ثَوْبٍ ذِي شُهْرَةٍ» وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَنْدَهْ. وَقَوْلُ الْجُورَقَانِيِّ: " إنَّهُ بَاطِلٌ " بَاطِلٌ، بَلْ الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَوَاحِلِنَا أَكْسِيَةً فِيهَا خُيُوطُ عِهْنٍ أَحْمَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا أَرَى هَذِهِ الْحُمْرَةَ قَدْ عَلَتْكُمْ فَقُمْنَا سِرَاعًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَفَرَ بَعْضُ إبِلِنَا وَأَخَذْنَا الْأَكْسِيَةَ فَنَزَعْنَاهَا عَنْهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ مِنْ الْأَلْوَانِ الْخُضْرَةَ، وَيَكْرَهُ الْحُمْرَةَ وَيَقُولُ: هِيَ زِينَةُ الشَّيْطَانِ» انْتَهَى. وَقَوْلُهُمْ: الْأَحْمَرُ الْمُصْمَتُ أَيْ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ لَوْنٌ غَيْرُ الِاحْمِرَارِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَثَوْبٌ مُصْمَتٌ لَا يُخَالِطُ لَوْنَهُ لَوْنٌ. فَإِنْ قُلْت: أَلَيْسَ مُوَفَّقُ الدِّينِ، وَهُوَ الْإِمَامُ فِي النَّقْلِ وَالتَّمْكِينِ قَالَ: ثُمَّ دَعْ عَنْك مَا قَالَهُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَاسْمَعْ لِمَا جَاءَ مِنْ سَيِّدِ الْبَشَرِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ،، ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى الظُّهْرَ» . وَفِيهِمَا عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ " مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لُمَّةٍ وَحُلَّةٍ حَمْرَاءَ أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَالتِّرْمِذِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وَحَسَّنَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ» وَأَبُو دَاوُد عَنْ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَغْلَةٍ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ» أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهِ النَّجَاةُ وَالِانْتِفَاعُ. وَحَدِيثُ رَافِعٍ فِي إسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ مُعَصْفَرَةً فَكَرِهَهَا لِذَلِكَ، وَإِنْ قُدِّرَ التَّعَارُضُ فَأَحَادِيثُ الْإِبَاحَةِ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ، وَالْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى وَأَرْجَحُ. قُلْت: مَا قُلْته غَيْرُ بَعِيدِ الصَّوَابِ، وَلَكِنْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: غَلِطَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحُلَّةَ كَانَتْ حَمْرَاءَ بَحْتًا لَا يُخَالِطُهَا غَيْرُهَا، وَإِنَّمَا الْحُلَّةُ الْحَمْرَاءُ بُرْدَانِ يَمَانِيَّانِ مَنْسُوجَانِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ مَعَ الْأَسْوَدِ كَسَائِرِ الْبُرُودِ الْيَمَنِيَّةِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنْ الْخُطُوطِ وَإِلَّا فَالْأَحْمَرُ الْبَحْتُ نُهِيَ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ انْتَهَى. فَهَذَا يُبَيِّنُ لَك بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُلَّةِ الْحَمْرَاءِ مَا كَانَ فِيهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا كَوْنَهُ أَحْمَرَ مُصْمَتًا حَتَّى يَكُونَ مَكْرُوهًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) الثَّوْبُ (الْمُعَصْفَرُ) ، وَهُوَ الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ، وَهُوَ كَمَا فِي الْقَامُوسِ نَبْتٌ يَهْرِي اللَّحْمَ الْغَلِيظَ وَبَذْرُهُ الْقُرْطُمُ، قَالَ: وَعَصْفَرَ ثَوْبَهُ صَبَغَهُ بِهِ فَتَعَصْفَرَ، انْتَهَى. (فَاكْرَهَنْ) فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (لِلُبْسِ رِجَالٍ حَسْبُ) أَيْ فَقَطْ دُونَ النِّسَاءِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُنَّ لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ (فِي نَصِّ) الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ فِي الْأَصَحِّ، قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: إلَّا فِي إحْرَامٍ فَلَا يُكْرَهُ انْتَهَى. وَدَلِيلُ الْكَرَاهَةِ مَا رَوَى الْإِمَامُ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا أَرْكَبُ الْأُرْجُوَانَ، وَلَا أَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْمُعَصْفَرَ لِلرِّجَالِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً. قَالَهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ أُمُّك أَمَرَتْك بِهَذَا؟ قُلْت: أَغْسِلُهُمَا قَالَ: بَلْ أَحْرِقْهُمَا» . وَعِنْدَ الْإِمَامِ الْمُوَفَّقِ لَا يُكْرَهُ الْمُعَصْفَرُ وِفَاقًا لِلثَّلَاثَةِ. وَاسْتَظْهَرَهُ فِي الْفُرُوعِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمَذْهَبُ يُكْرَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ، وَهِيَ الْمَصْبُوغَةُ بِعُصْفُرٍ، فَأَبَاحَهَا جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَلَكِنَّهُ قَالَ: غَيْرُهَا أَفْضَلُ مِنْهَا. وَجَاءَتْ رِوَايَةٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ لِبَاسَهَا فِي الْبُيُوتِ وَأَفْنِيَةِ الدُّورِ وَكَرِهَهُ فِي الْمَحَافِلِ، وَالْأَسْوَاقِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى هَذَا وَلَمَّا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. قَالَ: فَلَوْ بَلَغَ الشَّافِعِيَّ لَقَالَ بِهِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ كَعَادَتِهِ انْتَهَى. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَقَدْ كَرِهَ الْمُعَصْفَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَرَخَّصَ فِيهِ جَمَاعَةٌ. وَمِمَّنْ قَالَ بِكَرَاهَتِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْحَلِيمِيُّ. وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ هُوَ الْأَوْلَى، وَقَالَ: قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَتْقَنَ الْبَيْهَقِيُّ الْمَسْأَلَةَ انْتَهَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا تَكْرَهَنْ فِي نَصِّهِ مَا صَبَغْتَهُ ... مِنْ الزَّعْفَرَانِ الْبَحْتِ لَوْنَ الْمُوَرَّدِ (وَلَا) نَاهِيَةٌ (تَكْرَهَنْ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِلَا مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (فِي نَصِّهِ) أَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (مَا) أَيْ الثَّوْبَ الَّذِي (صَبَغْتَهُ) أَيْ أَنْتَ أَوْ غَيْرُك، فَالْمُرَادُ عَدَمُ كَرَاهَةِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ (مِنْ) أَيْ بِ (الزَّعْفَرَانِ) هُوَ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَإِذَا كَانَ فِي بَيْتٍ لَا يَدْخُلُهُ سَامٌّ أَبْرَصُ، وَزَعْفَرَهُ: صَبَغَهُ بِالزَّعْفَرَانِ. (الْبَحْتِ) أَيْ الْمَحْضِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ (لَوْنَ الْمُوَرَّدِ) وَمِنْ أَسْمَاءِ الزَّعْفَرَانِ الْوَرْدُ،، وَالْوَرْدُ مِنْ الْخَيْلِ مَا بَيْنَ الْكُمَيْتِ، وَالْأَشْقَرِ. فَاللَّوْنُ الْمُوَرَّدُ مَا كَانَ بَيْنَ الْحُمْرَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وَالصُّفْرَةِ هَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ هُنَا، وَقَدْ جَزَمَ بِعَدَمِ كَرَاهَةِ لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ لِلرِّجَالِ عَلَى نَصِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ وَيَدْهُنُ بِالزَّعْفَرَانِ، فَقِيلَ لَهُ لِمَ تَصْبُغُ ثِيَابَك وَتَدْهُنُ بِالزَّعْفَرَانِ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي رَأَيْته أَحَبَّ الْأَصْبَاغِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يَدْهُنُ بِهِ وَيَصْبُغُ بِهِ ثِيَابَهُ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَفِي لَفْظِهِمَا «وَلَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ بِهِ كُلَّهَا حَتَّى عِمَامَتَهُ» . وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُبَاحُ الْمِسْكُ، وَالْمُوَرَّدُ وَيُكْرَهُ لَهُ الْمُعَصْفَرُ. زَادَ فِي الرِّعَايَةِ: فِي الْأَصَحِّ، وَكَذَا الْمُزَعْفَرُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَفِيهِ وَجْهٌ يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَطْ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي التَّلْخِيصِ، وَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ. وَقَطَعَ فِي الشَّرْحِ يَعْنِي شَرْحِ الْمُقْنِعِ لِلْإِمَامِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ أَبِي عُمَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَرَاهَةِ. وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ لُبْسُ الْمُزَعْفَرِ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَالْأَحْمَرِ الْمُصْمَتِ، وَقِيلَ لَا، وَنَقَلَهُ الْأَكْثَرُ فِي الْمُزَعْفَرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وِفَاقًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ. وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا تَحْرِيمَ التَّزَعْفُرِ لَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ الْآنَ كَرَاهِيَةُ لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ، جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى، وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهَا. (تَنْبِيهَانِ) : نَفْسُ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ مَكْرُوهٌ وَجْهًا وَاحِدًا،؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى الرِّجَالَ عَنْ التَّزَعْفُرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: حَمَلَ الْخَلَّالُ النَّهْيَ عَنْ التَّزَعْفُرِ عَلَى بَدَنِهِ فِي صَلَاتِهِ، وَحَمَلَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ عَلَى التَّطَيُّبِ بِهِ وَالتَّخَلُّقِ بِهِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ طِيبِ الرِّجَالِ مَا خَفِيَ لَوْنُهُ وَظَهَرَ رِيحُهُ. انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَذْهَبَ كَرَاهِيَةُ لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ كَالتَّزَعْفُرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) : لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُزَعْفَرِ، وَالْمُعَصْفَرِ، وَالْأَحْمَرِ الْمُصْمَتِ لِلنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الزِّينَةِ، وَهِيَ مِنْهَا مَطْلُوبَةٌ. وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ كَلَامِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ أَلْبِسَةِ الصُّوفِ وَمَا شَاكَلَهَا وَلَيْسَ بِلُبْسِ الصُّوفِ بَأْسٌ وَلَا الْقَبَا ... وَلَا لِلنِّسَا وَالْبُرْنُسِ افْهَمْهُ وَاقْتَدِ (وَلَيْسَ بِلُبْسِ) الْإِنْسَانِ لِ (لصُّوفِ) بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ - قُلْت: وَيُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِهِ مَا كَانَ أَحْمَرَ مُصْمَتًا وَمُزَعْفَرًا وَمُعَصْفَرًا فَيُكْرَهُ لِذَلِكَ لَا لِكَوْنِهِ صُوفًا - (بَأْسٌ) اسْمُ لَيْسَ " وَخَبَرُهُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ، وَالْمَجْرُورِ، أَيْ لَيْسَ بَأْسٌ كَائِنًا بِلُبْسِ الصُّوفِ يَعْنِي لَا حَرَجَ وَلَا حُرْمَةَ وَلَا كَرَاهَةَ، فَيُبَاحُ لُبْسُ ثِيَابِ الصُّوفِ، وَكَذَا الْوَبَرُ وَالشَّعْرُ حَيْثُ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكَلَ خَشِنًا وَلَبِسَ خَشِنًا، لَبِسَ الصُّوفَ وَاحْتَذَى بِالْمَخْصُوفِ» . قِيلَ لِلْحَسَنِ: مَا الْخَشِنُ؟ قَالَ: غَلِيظُ الشَّعِيرِ، مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسِيغُهُ إلَّا بِجَرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ. وَفِي سَنَدِهِ يُوسُفُ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ نُوحِ بْنِ ذَكْوَانَ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: يُوسُفُ لَا يُعْرَفُ، وَنُوحُ بْنُ ذَكْوَانَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ يَعْنِي بُطْلَانَ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ لَهُ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَانَ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ كِسَاءُ صُوفٍ وَجُبَّةُ صُوفٍ وَكُمَّةُ صُوفٍ وَسَرَاوِيلُ صُوفٍ، وَكَانَ نَعْلَاهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: تَوَهَّمَ الْحَاكِمُ أَنَّ حُمَيْدًا الْأَعْرَجَ هُوَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إنَّمَا هُوَ (حُمَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ) وَقَيْسُ بْنُ عَمَّارٍ أَحَدُ الْمَتْرُوكِينَ. وَقَوْلُهُ فِي الْخَبَرِ: الْكُمَّةُ هِيَ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْقَلَنْسُوَةُ الصَّغِيرَةُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مَوْقُوفًا عَنْ الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَلْبَسُوا الصُّوفَ، وَيَحْتَلِبُوا الْغَنَمَ، وَيَرْكَبُوا الْحُمُرَ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَشَارَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ إلَى ضَعْفِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «بَرَاءَةٌ مِنْ الْكِبْرِ لَبُوسُ الصُّوفِ وَمُجَالَسَةُ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَرُكُوبُ الْحِمَارِ، وَاعْتِقَالُ الْعَنْزِ، وَالْبَعِيرِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ، فَصَلَّى بِنَا فِيهَا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ غَيْرُهَا» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا وَفِي سَنَدِهِ لِينٌ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فِي مُرُوطِ نِسَاءٍ وَكَانَتْ أَكْسِيَةٌ مِنْ صُوفٍ مِمَّا يُشْتَرَى بِالسِّتَّةِ وَالسَّبْعَةِ وَكُنَّ نِسَاؤُهُ يَتَّزِرْنَ بِهَا» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ الْمِرْطُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ كِسَاءٌ يُؤْتَزَرُ بِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ تَكُونُ مِنْ صُوفٍ وَمِنْ خَزٍّ. وَقَوْلُهُمَا مُرَحَّلٌ هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مُشَدَّدَةٌ أَيْ فِيهِ صُوَرُ رِحَالِ الْجَمَالِ، وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ: قَوْلُهُ مِرْطٌ مُرَجَّلٌ، كَذَا لِلْهَرَوِيِّ بِالْجِيمِ وَلِغَيْرِهِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مُوَشًّى بِصُوَرِ الرِّجَالِ، وَالْمَرَاجِلِ، وَقَدْ جَاءَ ثَوْبٌ مُرَاجَلٌ وَمُمَرْجَلٌ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسُرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ عَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ» ، وَفِي لَفْظٍ «رُومِيَّةُ الْكُمَّيْنِ، فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا فَضَاقَتْ فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أَسْفَلِهَا» . قُلْت: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ أَنَّ الْجُبَّةَ كَانَتْ مِنْ صُوفٍ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مِنْ صُوفٍ وَعَزَا الْحَدِيثَ لِلشَّيْخَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي أَنْوَاعِ جُبَبِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أُهْدِيَ إلَيْهِ (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : «كَانَ يَلْبَسُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةً رُومِيَّةً ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ فِي السَّفَرِ» . رَوَى أَبُو الشَّيْخِ «عَنْ دِحْيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةً مِنْ الشَّامِ» . وَالرُّومِيَّةُ وَالشَّامِيَّةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ،؛ لِأَنَّ الشَّامَ يَوْمَئِذٍ فِي حُكْمِ الرُّومِ. «وَكَانَ يَلْبَسُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةً كِسْرَوَانِيَّةً غَيْرَ رُومِيَّةٍ» . فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «أَخْرَجَتْ إلَيْنَا أَسْمَاءُ جُبَّةً مِنْ طَيَالِسَةٍ لَهَا لَبِنَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ كِسْرَوَانِيٍّ. وَفِي لَفْظٍ كِسْرَوَانِيَّةٍ وَفُرُوجُهَا مَكْفُوفَةٌ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِالدِّيبَاجِ فَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَلْبَسُهَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ عَائِشَةُ قَبَضْتُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرِيضِ مِنَّا إذَا اشْتَكَى وَفِي لَفْظٍ لِلْمَرْضَى وَنَسْتَشْفِي» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَهُ جُبَّةُ صُوفٍ فِي الْحِيَاكَةِ» . وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قَالَ «خِيطَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةٌ مِنْ صُوفِ أَنْمَارَ فَلَبِسَهَا فَمَا أُعْجِبَ بِثَوْبٍ مَا أُعْجِبَ بِهِ، فَجَعَلَ يَمَسُّهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ اُنْظُرُوا مَا أَحْسَنَهُ، وَفِي الْقَوْمِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَبْهَا لِي فَخَلَعَهَا فَدَفَعَهَا فِي يَدِهِ» . «وَأَهْدَى لَهُ أُكَيْدِرُ دَوْمَةَ جُبَّةً مِنْ سُنْدُسٍ مَنْسُوجٍ فِيهَا الذَّهَبُ، فَلَبِسَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذِهِ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا وَأَهْدَاهَا إلَى عُمَرَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكْرَهُهَا وَأَلْبَسُهَا؟ فَقَالَ يَا عُمَرُ إنَّمَا أَرْسَلْتُ بِهَا إلَيْك وَجْهًا تُصِيبُ بِهَا. وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ. «وَأَهْدَى مَلِكُ الرُّومِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُقَّةً مِنْ سُنْدُسٍ فَلَبِسَهَا قَالَ أَنَسٌ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى يَدَيْهَا ثَدْيَانِ مِنْ طُولِهِمَا، فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُنْزِلَتْ عَلَيْك مِنْ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: وَمَا تَعْجَبُونَ مِنْهَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ مِنْدِيلًا مِنْ مَنَادِيلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَلَبِسَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا لِتَلْبَسَهَا. قَالَ فَمَا أَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: ابْعَثْ بِهَا إلَى أَخِيك النَّجَاشِيِّ» . رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرَوَى ابْنُ قَانِعٍ عَنْ دَاوُد بْنِ دَاوُد «أَنَّ قَيْصَرَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةً مِنْ سُنْدُسٍ، فَاسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 نَرَى أَنْ تَلْبَسَهَا يَكْبِتُ اللَّهُ بِهَا عَدُوَّك وَيُسَرُّ الْمُسْلِمُونَ، فَلَبِسَهَا وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ وَكَانَ جَمِيلًا يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ فِيهَا، ثُمَّ نَزَلَ فَخَلَعَهَا فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ جَعْفَرٌ وَهَبَهَا لَهُ» . . مَطْلَبٌ: فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي نِسْبَةِ الصُّوفِيَّةِ (الثَّانِي) : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نِسْبَةِ الصُّوفِيَّةِ لِمَاذَا؟ فَقِيلَ: لِلُبْسِهِمْ الصُّوفَ لِاخْتِيَارِهِمْ الْفَقْرَ. وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ تَلْبِيسِ إبْلِيسَ: نُسِبَتْ الصُّوفِيَّةُ إلَى صُوفَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ انْفَرَدَ بِخِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ صُوفَةُ، وَاسْمُهُ الْغَوْثُ بْنُ مَرْصُوفَةَ فَنُسِبُوا إلَيْهِ لِمُشَابِهَتِهِمْ إيَّاهُ فِي الِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْحَافِظِ قَالَ: سَأَلْت وَلِيدَ بْنَ قَاسِمٍ إلَى أَيِّ شَيْءٍ يُنْسَبُ الصُّوفِيَّةُ؟ فَقَالَ: كَانَ قَوْمٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهُمْ صُوفَةُ انْقَطَعُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَطَنُوا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ فَهُوَ الصُّوفِيُّ. وَقِيلَ عَلَى الْأَوَّلِ إنَّمَا سُمِّيَ الْغَوْثُ بْنُ مَرْصُوفَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَعِيشُ لِأُمِّهِ أَوْلَادٌ، فَنَذَرَتْ لَئِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُعَلِّقَنَّهُ بِرَأْسِهِ وَلَتَجْعَلَنَّهُ رَبِيطًا بِالْكَعْبَةِ، فَفَعَلَتْ فَقِيلَ لَهُ صُوفَةُ وَلِوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ مَنْسُوبُونَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ، وَهِيَ سَقِيفَةٌ اتَّخَذَهَا ضُعَفَاءُ الصَّحَابَةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَيٌّ يُقَالُ لَهُمْ صُوفَةُ يَخْدُمُونَ الْكَعْبَةَ فَقِيلَ الصُّوفَةُ نِسْبَةٌ لَهُمْ يَعْنِي أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ لَزِمُوا الْقُطُونَ فِي الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ كَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَزِمُوا الْمُقَامَ لِخِدْمَةِ الْكَعْبَةِ. وَقِيلَ لِتَجَمُّعِهِمْ كَمَا يَتَجَمَّعُ الصُّوفُ، وَقِيلَ لِخُشُوعِهِمْ كَصُوفَةٍ مَطْرُوحَةٍ، أَوْ لِلِينِهِمْ كَالصُّوفَةِ. وَقِيلَ إنَّهُ مِنْ صَفَاءِ قُلُوبِهِمْ، أَوْ مِنْ الْمُصَافَاةِ، وَصَحَّحَ هَذَا الْقَوْلَ السَّبْتِيُّ فَقَالَ: تَخَالَفَ النَّاسُ فِي الصُّوفِيِّ وَاخْتَلَفُوا ... جَهْلًا فَظَنُّوهُ مُشْتَقًّا مِنْ الصُّوفِ وَلَسْت أَنْحَلُ هَذَا الِاسْمَ غَيْرَ فَتًى ... صَافَى فَصُوفِيَ حَتَّى سُمِّيَ الصُّوفِيَّ مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ لُبْسِ الْقَبَاءِ (وَلَا) بِلُبْسِ (الْقَبَاءِ) ، وَهُوَ بِالْمَدِّ وَقَصَرَهُ النَّاظِمُ ضَرُورَةً. قَالَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الْمَطْلَعِ: الْقَبَاءُ مَمْدُودٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: هُوَ مِنْ قَبَوْت إذَا صَمَّمْت، وَهُوَ ثَوْبٌ ضَيِّقٌ مِنْ ثِيَابِ الْعَجَمِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْقَبْوَةُ انْضِمَامُ مَا بَيْنَ الشَّفَتَيْنِ، وَمِنْهُ الْقَبَاءُ مِنْ الثِّيَابِ جَمْعُهُ أَقْبِيَةٌ، أَيْ لَيْسَ بِلُبْسِهِ بَأْسٌ وَلَا حَرَجٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَهُ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْفَرُّوجُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَبِالْجِيمِ هُوَ الْقَبَاءُ الَّذِي شُقَّ مِنْ خَلْفِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا قَبَاءَ دِيبَاجٍ أُهْدِيَ لَهُ، ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ، فَأَرْسَلَ بِهِ إلَى عُمَرَ، فَقِيلَ: قَدْ أَوْشَكَ مَا نَزَعْته يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ، فَجَاءَهُ عُمَرُ يَبْكِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَرِهْتَ أَمْرًا وَأَعْطَيْتَنِيهِ فَمَا لِي؟ فَقَالَ: إنِّي لَمْ أُعْطِكَهُ لِتَلْبَسَهُ إنَّمَا أَعْطَيْتُكَهُ لِتَبِيعَهُ، فَبَاعَهُ عُمَرُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ» وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْبِيَةً وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَانْطَلَقْت مَعَهُ فَقَالَ: اُدْخُلْ فَادْعُهُ لِي، فَدَعَوْتُهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ. وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ فَقَالَ: خَبَّأْتُ هَذَا لَك. قَالَ: فَنَظَرَ إلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ» ، وَإِنَّمَا نَزَعَ الْقَبَاءَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ لِكَوْنِهِ حَرِيرًا، وَكَانَ لُبْسُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ، فَلَمَّا حُرِّمَ نَزَعَهُ؛ وَلِذَا قَالَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ» . (فَائِدَةٌ) : سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ طَرْحِ الْقَبَاءِ عَلَى الْكَتِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ، هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ ذَكَرُوا جَوَازَ ذَلِكَ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ السَّدْلِ الْمَكْرُوهِ، لِأَنَّ هَذِهِ اللِّبْسَةَ لَيْسَتْ لِبْسَةَ الْيَهُودِ. انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 (وَلَا) بَأْسَ بِلُبْسِ الصُّوفِ، وَالْقَبَاءِ (لِلنِّسَاءِ) حَيْثُ لَا تَشْبِيهَ. وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي فِي مُرُوطِ نِسَائِهِ وَكَانَتْ أَكْسِيَةً مِنْ صُوفٍ» . وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ الْأَثْرَمُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الدُّرَّاعَةُ يَكُونُ لَهَا فَرْجٌ؟ فَقَالَ كَانَ لِخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ: دُرَّاعَةٌ لَهَا فَرْجٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا قَدْرُ ذِرَاعٍ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَيَكُونُ لَهَا فَرْجٌ مِنْ خَلْفِهَا؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي أَمَّا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا فَقَدْ سَمِعْت، وَأَمَّا مِنْ خَلْفِهَا فَلَمْ أَسْمَعْ قَالَ: أَلَا إنَّ فِي ذَلِكَ سَعَةً لَهُ عِنْدَ الرُّكُوبِ، وَمَنْفَعَةً انْتَهَى. قُلْت: وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ الْفُرُوجِ، وَأَنَّهُ الْقَبَاءُ الَّذِي شُقَّ مِنْ خَلْفِهِ. قَالَ فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ: هُوَ أَصْلٌ فِي لُبْسِ الْخُلَفَاءِ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ لُبْسِ الْبُرْنُسِ (وَ) لَا بَأْسَ بِلُبْسِ (الْبُرْنُسِ) ، وَهُوَ بِالضَّمِّ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ، أَوْ كُلُّ ثَوْبٍ رَأْسُهُ مِنْهُ، دُرَّاعَةً كَانَ أَوْ جُبَّةً قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ: فَيُبَاحُ لُبْسُ الْبُرْنُسِ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا السَّرَاوِيلَ» الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، دَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى حُرْمَةِ لُبْسِ الْبُرْنُسِ لِلْمُحْرِمِ وَبِمَفْهُومِهِ عَلَى إبَاحَتِهِ لِغَيْرِهِ. (افْهَمْهُ) أَيْ احْفَظْهُ وَافْهَمْ مَعْنَاهُ، وَالْمُرَادَ مِنْهُ (وَاقْتَدِ) بِالْمُصْطَفَى وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ فِي سَائِرِ شُؤُونِك، فَإِنَّهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالطَّرِيقِ الْقَوِيمِ. {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] . وَإِيَّاكَ وَمَا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ مِنْ التَّنَطُّعِ حَتَّى فِي اللِّبَاسِ، فَإِنَّ السَّلَامَةَ السَّرْمَدِيَّةَ، وَالْغَنِيمَةَ، وَالْفَوْزَ فِي اتِّبَاعِ الْعِصَابَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ السُّنِّيَّةِ السَّنِيَّةِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالسَّلَامَةُ بِلَا مُحَالٍ فِي حُسْنِ الِاتِّبَاعِ، وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِاقْتِفَاءِ أَثَرِ الرَّسُولِ، وَالْقُرُونِ الْأُوَلِ، وَأَنْ يُسَدِّدَنَا فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْقَوْلِ، وَالْعَمَلِ، إنَّهُ وَلِيُّ النِّعَمِ. وَمِنْهُ الْجُودُ وَالتَّكَرُّمُ. لَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ. وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 مَطْلَبٌ: يَحْرُمُ لُبْسُ الْحَرِيرِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلُبْسَ الْحَرِيرِ اُحْظُرْ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ ... سِوَى لِضَنًى أَوْ قَمْلٍ أَوْ حَرْبِ جُحَّدِ (وَلُبْسَ) ثَوْبِ (الْحَرِيرِ) وَعِمَامَتِهِ وَتِكَّةِ سَرَاوِيلَ وَشِرَابَةٍ مُفْرَدَةٍ كَشِرَابَةِ الْبَرِيدِ لَا تَبَعًا فَحُكْمُهَا مَعَ التَّبَعِيَّةِ الْإِبَاحَةُ كَالزِّرِّ، وَكَذَا بِطَانَةُ نَحْوِ ثَوْبٍ مِنْ حَرِيرٍ (اُحْظُرْ) أَيْ امْنَعْ وَحَرِّمْ (عَلَى كُلِّ) ذَكَرٍ، وَلَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَمِثْلُ اللُّبْسِ افْتِرَاشُهُ وَاسْتِنَادُهُ وَاتِّكَاؤُهُ عَلَيْهِ وَتَوَسُّدُهُ وَتَعْلِيقُهُ وَسَتْرُ الْجُدُرِ بِهِ غَيْرَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ. وَكَلَامُ أَبِي الْمَعَالِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ. وَذَكَرَ فِي الْفُرُوعِ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ م ص فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ وَيَحْرُمُ اسْتِنَادٌ إلَيْهِ وَتَعْلِيقُهُ يَدْخُلُ فِيهِ بِشِخَابَةٍ وَخَيْمَةٌ وَنَحْوُهُمَا. قَالَ: وَحَرَّمَ الْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالَهُ مُطْلَقًا، فَدَخَلَ فِيهِ تِكَّةٌ وَشِرَابَةٌ مُفْرَدَةٌ وَخَيْطُ سُبْحَةٍ انْتَهَى. وَفِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ لِلْعَلَّامَةِ ابْنِ قُنْدُسٍ بَعْدَ ذِكْرِ مَسْأَلَةِ حَشْوِ الْجِبَابِ قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الدَّمِيرِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ قَالَ: فُرُوعٌ يَجُوزُ حَشْوُ الْجُبَّةِ، وَالْمِخَدَّةِ مِنْهُ أَيْ الْحَرِيرِ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ إذَا بُسِطَ فَوْقَهُ ثَوْبٌ، وَلَوْ نُظِمَ سُبْحَةٌ فِي خَيْطِ حَرِيرٍ لَمْ يَحْرُمْ اسْتِعْمَالُهَا، وَلَا يَجُوزُ لُبْسُ جُبَّةٍ بِطَانَتُهَا حَرِيرٌ انْتَهَى فَكَأَنَّهُ مُرْتَضٍ لِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (بَالِغٍ) فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ إلْبَاسُ الصَّغِيرِ ثِيَابَ الْحَرِيرِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ قَالَ سَعِيدٌ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ الْعَوَّامِ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: كَانُوا يُرَخِّصُونَ لِلصَّبِيِّ فِي خَاتَمِ الذَّهَبِ فَإِذَا بَلَغَ أَلْقَاهُ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: هُشَيْمٌ مُدَلِّسٌ، وَهَذَا قَوْلٌ مَرْجُوحٌ،، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَحْرُم عَلَى الْوَلِيِّ إلْبَاسُ ذَلِكَ لِلصَّبِيِّ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ النَّاظِمِ. مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ، عَنْ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، عِدَّةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، وَبِتَحْرِيمِهِ، وَالْمَنْعِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ صَرِيحَةٌ. مِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَزَادَ: وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ «مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] » . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ» زَادَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا «مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» . . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» . وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا يَسْتَمْتِعُ بِالْحَرِيرِ مَنْ يَرْجُو أَيَّامَ اللَّهِ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا يَرْجُو أَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ» . قَالَ الْحَسَنُ: فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَبْلُغُهُمْ هَذَا عَنْ نَبِيِّهِمْ يَجْعَلُونَ حَرِيرًا فِي ثِيَابِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَلْبَسُ حَرِيرًا وَلَا ذَهَبًا» . وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «قَالَ اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 تَعَالَى: مَنْ تَرَكَ الْحَرِيرَ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَأَكْسَوْتُهُ إيَّاهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ» وَقَوْلُ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (سِوَى) لُبْسِ الْحَرِيرِ (لِ) أَجْلِ (ضَنًى) أَيْ مَرَضٍ، وَهُوَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ مَقْصُورًا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: ضَنِيَ كَرَضِيَ ضَنًى فَهُوَ ضَنِيٌّ، وَضَنٍ كَحَرِيٍّ وَحَرٍ، مَرِضَ مَرَضًا مُخَامِرًا كُلَّمَا ظُنَّ بُرْؤُهُ نُكِسَ، وَأَضْنَاهُ الْمَرَضُ. انْتَهَى. اسْتَثْنَاهُ مِنْ الْحَظْرِ، أَيْ حَرُمَ لُبْسُ الْحَرِيرِ عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ بَالِغٍ سِوَى لُبْسِهِ لِمَرَضٍ (أَوْ) أَيْ وَسِوَى لُبْسِهِ لِ (قَمْلٍ) وَاحِدَتُهُ قَمْلَةٌ، وَيُقَالُ لَهُ قَمَالٌ قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ. وَيَتَوَلَّدُ مِنْ الْعَرَقِ، وَالْوَسَخِ إذَا أَصَابَ ثَوْبًا أَوْ رِيشًا، أَوْ شَعْرًا حَتَّى يَصِيرَ الْمَكَانُ عَفِنًا. قَالَ الْجَاحِظُ: وَرُبَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَمِلَ الطِّبَاعِ، وَإِنْ تَنَظَّفَ وَتَعَطَّرَ وَبَدَّلَ الثِّيَابَ، كَمَا «عَرَضَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حِينَ اسْتَأْذَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ فَأَذِنَ لَهُمَا فِيهِ» ، وَلَوْلَا الْحَاجَةُ مَا أَذِنَ لَهُمَا فِيهِ لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. وَقِصَّةُ إبَاحَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُبْسَ الْحَرِيرِ لِابْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمِثْلُ جَوَازِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِقَمْلٍ لُبْسُهُ لِأَجْلِ حَكَّةٍ، وَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي زَوَالِهَا، جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى. قَالَ فِي الْفُرُوعِ خِلَافًا لِمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ الدَّمِيرِيُّ: قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ يَعْنِي الْحَرِيرَ مُطْلَقًا، لِأَنَّ وَقَائِعَ الْأَحْوَالِ عِنْدَهُ لَا تَعُمُّ. (أَوْ) أَيْ وَسِوَى لُبْسِهِ لِ (حَرْبِ جُحَّدِ) أَيْ كُفَّارٍ. وَالْمُرَادُ لِحَرْبِ مُبَاحٍ إذَا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ. وَيَمْتَدُّ وَقْتُ إبَاحَةِ لُبْسِهِ إلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ، وَلَوْ كَانَ لُبْسُ الْحَرِيرِ الْخَالِصِ فِي حَالِ الْحَرْبِ بِلَا حَاجَةٍ فِي الْأَصَحِّ نَصًّا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ لُبْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُيَلَاءِ، وَالْفَخْرِ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْمُومٍ فِي الْحَرْبِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، وَالْوُسْطَى: يُبَاحُ فِي الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فِي أَرْجَحِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ. وَفِي تَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ: يُبَاحُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَصَحَّحَهُ فِي التَّصْحِيحِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِفَادَاتِ، وَالْوَجِيزِ وَمُنْتَخَبِ الْأَدَمِيِّ وَإِدْرَاكِ الْغَايَةِ وَغَيْرِهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى، وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَدَمُ الْإِبَاحَةِ اخْتَارَهَا ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ. وَقَدَّمَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَالْمُحَرَّرِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَذْهَبَ الْإِبَاحَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِلَى هَذَا الْخِلَافِ أَشَارَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُرَجِّحًا مَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: هَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يُلْبِسَهُ الْحَرِيرَ أَمْ لَا ؟ : فَجَوِّزْهُ فِي الْأَوْلَى وَحَرِّمْهُ فِي الْأَصَحْ ... عَلَى هَذِهِ الصِّبْيَانِ مِنْ مُصْمَتٍ زِدْ (فَجَوِّزْهُ) أَيْ لُبْسَ الْحَرِيرِ (فِي) الْقَوْلِ (الْأَوْلَى) بِالْقَبُولِ وَالصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ (وَحَرِّمْهُ) أَيْ حَرِّمْ إلْبَاسَ الْحَرِيرِ (فِي الْأَصَحِّ) مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ. قَالَ فِي الْآدَابِ: هَلْ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ أَنْ يُلْبِسَهُ الْحَرِيرَ - زَادَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَالذَّهَبَ - عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَشْهَرُهُمَا التَّحْرِيمُ (عَلَى) أَوْلِيَاءِ (هَذِهِ الصِّبْيَانِ) إذْ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ دُونَ الصِّبْيَانِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ بِلَا رَيْبٍ، جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» وَلِقَوْلِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " كُنَّا نَنْزِعُهُ مِنْ الْغِلْمَانِ وَنَتْرُكُهُ عَلَى الْجَوَارِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَكَوْنُ الصِّبْيَانِ مَحَلًّا لِلزِّينَةِ مَعَ تَحْرِيمِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمْ أَبْلَغُ فِي التَّحْرِيمِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَرِهَ إلْبَاسَ الصَّبِيَّانِ الْقَرَامِزَ السُّودَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْفِتْنَةِ. (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ النَّاظِمِ عَلَى هَذِهِ الصِّبْيَانِ فِيهِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَشَارَ بِهِ إلَى الصِّبْيَانِ فَكَانَ حَقُّ الْإِشَارَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانِ وَلَا يَسْتَقِيمُ النَّظْمُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْإِشَارَةَ لِلرِّوَايَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى إذْ " حَرِّمْ " لَا يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ وَحَرِّمْهُ فِي الْأَصَحِّ الصِّبْيَانَ عَلَى هَذِهِ، وَلَعَلَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مِنْ تَصَرُّفِ النُّسَّاخِ. وَرَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِهِ أَسْقَطَ لَفْظَةَ هَذِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَكَانَهَا شَيْئًا. وَيَظْهَرُ لِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 بَعْضَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ رَآهَا مَحْذُوفَةً فَذَكَرَ هَذِهِ لِتَنْسِيقِ النَّظْمِ، فَتَكُونُ اللَّفْظَةُ الْمَحْذُوفَةُ أَوْلِيَاءَ الصِّبْيَانِ، وَقَصْرُ أَوْلِيَاءَ جَائِزٌ لِضَرُورَةِ النَّظْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) : الْقَرَامِزُ السُّودُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الظَّاهِرُ نَوْعٌ مِنْ اللِّبَاسِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79] قَالَ كَالْقِرْمِزِ هُوَ صِبْغٌ أَحْمَرُ، وَيُقَالُ: إنَّهُ حَيَوَانٌ تُصْبَغُ بِهِ الثِّيَابُ فَلَا يَكَادُ يَنْصُلُ لَوْنُهُ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ انْتَهَى. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: الْقِرْمِزُ دُودٌ أَحْمَرُ يُوجَدُ فِي شَجَرِ الْبَلُّوطِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ صَدَفِيٌّ شَبِيهٌ بِالْحِلْزِمَانِ تَجْمَعُهُ نِسَاءُ تِلْكَ الْبِلَادِ بِأَفْوَاهِهِنَّ يُصْبَغُ بِهِ. وَنَحْوُهُ فِي الْقَامُوسِ بِاخْتِصَارٍ. وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَنَّ الْقَرَامِزَ سُودٌ فَحَرِّرْهُ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ فِي كَلَامِهِمْ مُفَسَّرًا. وَقَوْلُ النَّاظِمِ (مِنْ) حَرِيرٍ (مُصْمَتٍ) أَيْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، بَلْ هُوَ حَرِيرٌ صِرْفٌ (زِدْ) هَذَا الْقَيْدَ وَلَا تُطْلِقْ التَّحْرِيمَ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ الْخَالِصِ الَّذِي لَمْ يُخَالِطْهُ غَيْرُهُ، أَوْ خَالَطَهُ غَيْرُهُ وَكَانَ الْحَرِيرُ غَالِبًا فِي الظُّهُورِ. وَأَمَّا إذَا اسْتَوَيَا ظُهُورًا وَوَزْنًا، أَوْ كَانَ الْحَرِيرُ أَكْثَرَ وَزْنًا وَالظُّهُورُ لِغَيْرِهِ فَلَا حُرْمَةَ حِينَئِذٍ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَمَا غَالَبَهُ حَرِيرٌ قِيلَ ظُهُورًا وَقِيلَ وَزْنًا، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَوَجْهَانِ. قَالَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ الْمِرْدَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: قَوْلُهُ وَيَحْرُمُ مَا غَالِبُهُ الْحَرِيرُ قِيلَ وَزْنًا وَقِيلَ ظُهُورًا أَطْلَقَ الْخِلَافَ، وَأَطْلَقَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَصَاحِبُ الْفَائِقِ، وَالْمُصَنِّفُ يَعْنِي ابْنَ مُفْلِحٍ فِي حَوَاشِي الْمُقْنِعِ، وَالْحَاوِيَيْنِ وَغَيْرِهِمْ أَحَدُهُمَا الِاعْتِبَارُ بِمَا غَالِبُهُ الظُّهُورُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَغَيْرِهِ، وَقَدَّمَهُ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الصَّوَابُ. قُلْت: وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى، وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الِاعْتِبَارُ بِالْوَزْنِ، قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَقَالَ: قَوْلُهُ، وَإِنْ اسْتَوَيَا ظُهُورًا، أَوْ وَزْنًا فَهَلْ يَحْرُمُ أَمْ لَا؟ أَطْلَقَ الْخِلَافَ، وَأَطْلَقَهُ فِي الْهِدَايَةِ، وَالْفُصُولِ، وَالْمُسْتَوْعِبِ وَمَسْبُوكِ الذَّهَبِ، وَالْمُغْنِي، وَالْكَافِي، وَالْمُقْنِعِ، وَالْهَادِي وَالتَّلْخِيصِ، وَالْمُحَرَّرِ وَالشَّرْحِ وَغَيْرِهِمْ، أَحَدُهُمَا يَحْرُمُ، وَصَوَّبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَالشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ: الْأَشْبَهُ أَنَّهُ يَحْرُمُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ. قَالَ فِي الْفُصُولِ: لِأَنَّ النِّصْفَ كَثِيرٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وَلَيْسَ تَغْلِيبُ التَّحْلِيلِ بِأَوْلَى مِنْ التَّحْرِيمِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي لَا يَحْرُمُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ، صَحَّحَهُ الْمَجْدُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ وَاعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ. وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (تَتِمَّةٌ) فِي أَبْحَاثٍ وَفَوَائِدَ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ. مَطْلَبٌ: الْحَرِيرُ مُحَرَّمٌ عَلَى الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ (الْبَحْثُ الْأَوَّلُ) إنَّمَا يَحْرُمُ الْحَرِيرُ عَلَى الذُّكُورِ كَمَا عُلِمَ دُونَ الْإِنَاثِ، وَالْخَنَاثَى هُنَا مُلْحَقُونَ بِالرِّجَالِ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْخُنْثَى مِنْ الْحَرِيرِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الذَّكَرِ تَغْلِيبًا لِلْحَظْرِ. قَالَ فِي الْآدَابِ: يُبَاحُ الْحَرِيرُ بِأَنْوَاعِهِ لِلنِّسَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَا إبَاحَةُ الذَّهَبِ لَهُنَّ انْتَهَى. وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْت «الزُّبَيْرَ يَخْطُبُ وَيَقُولُ: لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» . وَزَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ: «وَمَنْ لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] » . وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ الْحِلْيَةَ، وَالْحَرِيرَ وَيَقُولُ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ حِلْيَةَ الْجَنَّةِ وَحَرِيرَهَا فَلَا تَلْبَسُوهَا فِي الدُّنْيَا» . . وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «وَيْلٌ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْأَحْمَرَيْنِ الذَّهَبِ، وَالْمُعَصْفَرِ» . وَأَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «أُرِيتُ أَنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا أَعَالِي أَهْلِ الْجَنَّةِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَذَرَارِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ أَقَلَّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالنِّسَاءِ فَقِيلَ لِي: أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ، فَإِنَّهُمْ عَلَى الْبَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 يُحَاسَبُونَ وَيُمَحَّصُونَ وَأَمَّا النِّسَاءُ فَأَلْهَاهُنَّ الْأَحْمَرَانِ الذَّهَبُ، وَالْحَرِيرُ» الْحَدِيثَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِابْنَتِهِ: لَا تَلْبَسِي الذَّهَبَ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْك مِنْ حَرِّ اللَّهَبِ. فَكُلُّ هَذَا، وَأَضْرَابُهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى تَحْرِيمٍ سَابِقٍ لِصِحَّةِ أَحَادِيثِ الْإِبَاحَةِ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى إبَاحَتِهِ لَهُنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ كِتَابَةِ الْمَهْرِ فِي الْحَرِيرِ (الثَّانِي) : قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَفِي تَحْرِيمِ كِتَابَةِ الْمَهْرِ فِيهِ أَيْ الْحَرِيرِ وَجْهَانِ. قَالَ الْقَاضِي فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: أَحَدُهُمَا لَا يَحْرُمُ، بَلْ يُكْرَهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَتَبِعَهُ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى، وَالْوُسْطَى يَعْنِي الْعَلَّامَةَ ابْنَ مُفْلِحٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي يَحْرُمُ فِي الْأَقْيَسِ قَالَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ. قُلْت: وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى، وَقَدَّمَهُ فِي الْإِقْنَاعِ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ يُكْرَهُ. قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: قُلْت لَوْ قِيلَ بِالْإِبَاحَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَقَالَ م ص فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَعَلَى عَدَمِ الْحُرْمَةِ الْعَمَلُ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يُبَاحُ لِلرِّجَالِ مِنْ الْحَرِيرِ (الثَّالِثُ) : جُمْلَةُ الَّذِي يُبَاحُ لِلرِّجَالِ مِنْ الْحَرِيرِ: يُبَاحُ خَالِصُ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ لِمَرَضٍ، أَوْ حَكَّةٍ، أَوْ قَمْلٍ أَوْ حَرْبٍ مُبَاحٍ، وَلَوْ فِي غَيْرِ حَالَةِ قِتَالٍ كَمَا فِي الْغَايَةِ. وَفِي الْإِقْنَاعِ: إذَا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ إلَى انْقِضَاءِ الْقِتَالِ، وَلَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَيُبَاحُ الْحَرِيرُ الْخَالِصُ وَمَا فِيهِ صُورَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَالْمَنْسُوجُ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ لِحَاجَةٍ بِأَنْ عُدِمَ غَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: مَنْ احْتَاجَ إلَى لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ تَحَصُّنٍ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ أُبِيحَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ كَدِرْعٍ مُمَوَّهٍ بِهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ لُبْسِهِ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ. وَيُبَاحُ مِنْ حَرِيرٍ أَيْضًا كِيسُ مُصْحَفٍ، وَأَزْرَارٌ، وَخِيَاطَةٌ بِهِ " وَحَشْوُ جِبَابٍ، وَحَشْوُ فُرُشٍ، وَعَلَمُ ثَوْبٍ، وَهُوَ طِرَازُهُ، وَلَبِنَةُ جَيْبٍ، وَهِيَ الزِّيقُ وَعِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ هُنَا أَوْلَى مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 عِبَارَةِ الْمُنْتَهَى؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَبِنَةُ الْجَيْبِ، وَهِيَ الزِّيقُ، وَالْجَيْبُ هُوَ الطَّوْقُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الرَّأْسُ إذَا كَانَ - يَعْنِي مِقْدَارَ الْحَرِيرِ - أَرْبَعَ أَصَابِعَ مَضْمُومَةٍ فَمَا دُونَ. وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى: وَالْجَيْبُ مَا يُفْتَحُ عَلَى نَحْرٍ، أَوْ طَوْقٍ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَجَيْبٌ وَنَحْوُهُ بِالْفَتْحِ طَوْقُهُ. وَيُبَاحُ مِنْ الْحَرِيرِ أَيْضًا رِقَاعٌ وَسُجُفٍ، نَحْوُ فِرَاءٍ لَا فَوْقَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ مَضْمُومَةٍ، وَلَوْ لَبِسَ ثِيَابًا، بِكُلِّ ثَوْبٍ قَدْرٌ يَحِلُّ، وَلَوْ جُمِعَ صَارَ ثَوْبًا لَمْ يُكْرَهْ. وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدَّمَ فِي الْآدَابِ أَنَّهُ يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ كَفِّ حَرِيرٍ عَرْضًا وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ. وَقِيلَ، بَلْ أَرْبَعُ أَصَابِعَ مَضْمُومَةٍ فَأَقَلُّ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّلْخِيصِ وَالشَّرْحِ وَابْنِ تَمِيمٍ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ الْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ: وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهُ، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ. قُلْت: هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُبَاحُ مِنْهُ الْعَلَمُ إذَا كَانَ أَرْبَعَ أَصَابِعَ مَضْمُومَةٍ فَأَقَلَّ، نَصَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَفِي الْوَجِيزِ دُونَهَا، وَفِي الْمُحَرَّرِ: قَدْرَ كَفٍّ. فَقَدْ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ كَمَا تَرَى. وَفِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ لِلْعَلَّامَةِ ابْنِ قُنْدُسٍ: لَوْ بَسَطَ عَلَى الْحَرِيرِ شَيْئًا يَجُوزُ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ وَجَلَسَ عَلَيْهِ فَقِيَاسُ مَا ذَكَرُوهُ فِيمَا إذَا بَسَطَ عَلَى نَجَاسَةٍ شَيْئًا طَاهِرًا جَوَازُ الْجُلُوسِ عَلَى الْمُرَجَّحِ. وَقَدْ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْفُرُوعِ عِنْدَ مَسْأَلَةِ الْبَسْطِ عَلَى النَّجِسِ وَوُجِّهَ أَنَّهَا مِثْلُهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهَا كَمَسْأَلَةِ حَشْوِ الْجِبَابِ. انْتَهَى. وَفِي الْمُنْتَهَى، وَالْغَايَةِ لَا يَحْرُمُ افْتِرَاشُ الْحَرِيرِ تَحْتَ حَائِلٍ صَفِيقٍ، قَالَ م ص: فَيَجُوزُ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى الْحَائِلِ وَمُرَادُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمَا فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى، وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهَا فِي بَابِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ أَنَّهُ لَوْ بَسَطَ عَلَى نَجَاسَةٍ، أَوْ حَرِيرٍ - يَحْرُمُ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ - شَيْئًا طَاهِرًا صَفِيقًا بِحَيْثُ لَمْ يَنْفُذْ إلَى ظَاهِرِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ صَحَّتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَيَكُونُ جَعَلُوهُ مِنْ بَابِ بَسْطِ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجِسِ لَا مِنْ بَابِ حَشْوِ الْجِبَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 مَطْلَبٌ: فِي حِكْمَةِ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ. (الرَّابِعُ) : قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: لِبَاسُ الْحَرِيرِ أَنْفَعُ وَأَعْدَلُ اللِّبَاسِ فَلِمَ حَرَّمَهُ الشَّرْعُ؟ فَأَجَابَ قِيلَ لِتَصْبِرَ النَّفْسُ عَنْهُ فَتُثَابَ وَلَهَا عِوَضٌ عَنْهُ وَقِيلَ فِي إبَاحَتِهِ مَفْسَدَةُ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ. وَقِيلَ لِمَا يُورِثُ لُبْسُهُ مِنْ الْأُنُوثَةِ وَالتَّخَنُّثِ. وَقِيلَ لِمَا يُورِثُ لُبْسُهُ مِنْ الْفَخْرِ، وَالْعُجْبِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الْحِكَمَ وَالتَّعْلِيلَ لِلْأَحْكَامِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى جَوَابٍ. وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْأَسْبَابِ جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ مَا يَصْنَعُهُ الْآنَ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْكَرْمَسُوتِ وَالْأَطَالِسِ وَمَا شَاكَلَهَا (الْخَامِسُ) : قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ اعْتِبَارُ الظُّهُورِ، فَإِنْ كَانَ لِلْحَرِيرِ حَرُمَ وَإِلَّا أُبِيحَ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى إبَاحَةِ مَا سُدِّيَ بِالْحَرِيرِ وَأُلْحِمَ بِغَيْرِهِ، مَعَ تَقْدِيمِهِمْ أَوَّلًا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالظُّهُورِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الشَّامِ الْآنَ مِنْ الْبُرُودِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الدَّابُولِيَّ والكرمسوني، وَالْأَطَالِسَ وَنَحْوَهَا يُسَدُّونَهَا بِالْحَرِيرِ وَيُلْحِمُونَهَا بِنَحْوِ الْقُطْنِ، وَالْكَتَّانِ، لَكِنْ يَكُونُ الظُّهُورُ لِلْحَرِيرِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَخَذْنَا بِعُمُومِ اعْتِبَارِ الظُّهُورِ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مَحْظُورًا، وَإِنْ أَخَذْنَا بِعُمُومِ أَنَّ كُلَّ مَا سُدِّيَ بِالْحَرِيرِ وَأُلْحِمَ بِغَيْرِهِ يَكُونُ مُبَاحًا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مُبَاحًا. وَلَمْ يَزُلْ الْإِشْكَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ حَتَّى حَصَلَ بَيْنَ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الْإِمَامِ الْأَوْحَدِ، وَالْقُطْبِ الْفَرْدِ الْأَمْجَدِ مَنْ طَنَّتْ حَصَاتُهُ فِي الْبِلَادِ، وَانْتَفَعَ بِحَالِهِ وَقَالِهِ جُلُّ الْعِبَادِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، مَوْلَانَا الشَّيْخِ أَبِي الْمَوَاهِبِ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْبَاقِي مُفْتِي السَّادَةِ الْحَنَابِلَةِ فِي الدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ وَابْنِ مُفْتِيهَا، وَبَيْنَ أَفْضَلِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَخَاتِمَةِ الْمُحَقِّقِينَ، الشَّيْخِ عُثْمَانَ النَّجْدِيِّ صَاحِبِ شَرْحِ عُمْدَةِ الشَّيْخِ مَنْصُورٍ وَحَاشِيَةِ الْمُنْتَهَى نِزَاعٌ. فَقَالَ مَوْلَانَا أَبُو الْمَوَاهِبِ بِالْإِبَاحَةِ، وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ عُثْمَانُ بِالْحَظْرِ، فَحَصَلَ لِلْمُحَقِّقِ الشَّيْخِ عُثْمَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ زَعَلٌ وَضِيقُ صَدْرٍ، مَعَ مَا جَبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّجْدِيِّينَ مِنْ الْحِدَّةِ أَوْجَبَ خُرُوجَهُ مِنْ الشَّامِ إلَى مِصْرَ وَلَمْ يَزَلْ مُسْتَوْطِنَهَا حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 تُوُفِّيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَتَبَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْهَا مَا كَتَبَهُ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ عَلَى قَوْلِ الْمَاتِنِ: وَيُبَاحُ مَا سُدِّيَ بِإِبْرَيْسَمٍ وَأُلْحِمَ بِغَيْرِهِ أَيْ غَيْرِ الْإِبْرَيْسَمِ مِنْ نَحْوِ صُوفٍ أَوْ قُطْنٍ. قَالَ: لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْحَرِيرُ مُسْتَتِرًا وَغَيْرُ الْحَرِيرِ هُوَ الظَّاهِرَ، وَإِلَّا بِأَنْ ظَهَرَ الْحَرِيرُ وَاسْتَتَرَ غَيْرُهُ فَهُوَ كَالْمُلْحَمِ الْمُحَرَّمِ، كَمَا قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ إبَاحَةُ الْخَزِّ دُونَ الْمُلْحَمِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ، يَعْنِي م ص، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ: الْمُلْحَمُ مَا سُدِّيَ بِغَيْرِ الْحَرِيرِ وَأُلْحِمَ بِهِ انْتَهَى. فَالْمُلْحَمُ عَكْسُ الْخَزِّ صُورَةً وَحُكْمًا، وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ نَحْوُ الثِّيَابِ الْبَغْدَادِيَّةِ مِمَّا يُسَدَّى بِالْحَرِيرِ وَيُلْحَمُ بِالْقُطْنِ، لَكِنْ مَعَ ظُهُورِ الْحَرِيرِ وَاسْتِتَارِ الْقُطْنِ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْخَزِّ الْمُبَاحِ وَغَفَلُوا عَنْ شَرْطِ الْخَزِّ، أَعْنِي اسْتِتَارَ الْحَرِيرِ وَظُهُورَ غَيْرِهِ. وَهَذَا شَرْطٌ لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَوَاضِعُ مِنْ كَلَامِهِمْ كَمَا فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ لِابْنِ قُنْدُسٍ وَغَيْرِهَا. انْتَهَى. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الْإِمَامَ أَبَا الْمَوَاهِبِ وَأَصْحَابَنَا الشَّامِيِّينَ، وَكَذَا كَتَبَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي حَوَاشِي الْمُنْتَهَى وَلَمْ يُطِلْ الْكِتَابَةَ.، ثُمَّ إنَّهُ حَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ فِي رِسَالَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَسَأَذْكُرُهَا جُمْلَةً. قَالَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ، وَالْحَمْدَلَةِ وَالتَّصْلِيَةِ: وَبَعْدُ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَزِّ، وَالْمُلْحَمِ مَعْنًى وَحُكْمًا، وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: فِي الْخَزِّ، وَهُوَ كَمَا عَرَّفَهُ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى، وَغَيْرُهُمَا مَا سُدِّيَ بِإِبْرَيْسَمٍ وَأُلْحِمَ بِوَبَرٍ، أَوْ صُوفٍ وَنَحْوِهِ. الثَّانِي: فِي الْمُلْحَمِ، وَهُوَ كَمَا فِي شَرْحِ الْإِقْنَاعِ مَا سُدِّيَ بِغَيْرِ الْحَرِيرِ وَأُلْحِمَ بِهِ فَهُوَ عَكْسُ الْخَزِّ. الثَّالِثُ: فِي حُكْمِهِمَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْخَزَّ الْمَذْكُورَ مُبَاحٌ، وَأَنَّ الْمُلْحَمَ حَرَامٌ، وَهَذَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ إبَاحَةُ الْخَزِّ دُونَ الْمُلْحَمِ وَغَيْرِهِ وَيُلْبَسُ الْخَزُّ وَلَا يُلْبَسُ الْمُلْحَمُ وَلَا الدِّيبَاجُ انْتَهَى. (الرَّابِعُ) : أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْخَزِّ مَا سُدِّيَ بِإِبْرَيْسَمٍ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ السَّدَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 مُسْتَتِرًا وَلُحْمَتُهُ ظَاهِرَةً، فَلَوْ ظَهَرَ السَّدَى وَاسْتَتَرَتْ اللُّحْمَةُ كَانَ كَالْمُلْحَمِ حُكْمًا فَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَوَاضِعُ مِنْ كَلَامِهِمْ: مِنْهَا مَا قَالَهُ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ وَغَيْرِهِ: الْخَزُّ مَا سُدِّيَ، بِالْإِبْرَيْسَمِ وَأُلْحِمَ بِوَبَرٍ، أَوْ صُوفٍ وَنَحْوِهِ لِغَلَبَةِ اللُّحْمَةِ عَلَى الْحَرِيرِ انْتَهَى. أَيْ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا اسْتَتَرَ لَا يَغْلِبُ مَا ظَهَرَ، بَلْ الْحُكْمُ لِلظَّاهِرِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ: إذَا اسْتَوَى الْحَرِيرُ وَمَا مَعَهُ ظُهُورًا أُبِيحَ. وَعِبَارَةُ الشَّيْخِ مُوسَى فِي شَرْحِ الْآدَابِ: وَإِنْ نُسِجَ أَيْ الْحَرِيرُ مَعَ غَيْرِهِ، فَالْحُكْمُ لِلْأَكْثَرِ ظُهُورًا فَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ ظُهُورًا الْحَرِيرَ حُرِّمَ انْتَهَى. فَانْظُرْ إلَى مَنَاطِ الْحِلِّ؛ إنَّهُ الظُّهُورُ فَقَطْ أَيْ لَا الْوَزْنُ وَلَا غَيْرُهُ، فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَتِرُ كُلُّهُ حَرِيرًا، وَالظَّاهِرُ بَعْضُهُ وَبَرٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُهُ لَكِنْ اسْتَوَيَا ظُهُورًا فَهُوَ مُبَاحٌ لِصِدْقِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَمِنْهَا، وَهُوَ أَصْرَحُهَا، بَلْ الْعُمْدَةُ عَلَيْهِ مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ بَعْدَ كَلَامٍ ذَكَرَهُ عَنْ الِاخْتِيَارَاتِ فِي الْخَزِّ، وَالْمُلْحَمِ قَالَ: وَالْخَزُّ أَخَفُّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ سَدَاهُ حَرِيرٌ وَالسَّدَى أَيْسَرُ مِنْ اللُّحْمَةِ، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَوَازَهُ بِقَوْلِهِ، فَأَمَّا الْعَلَمُ مِنْ الْحَرِيرِ وَالسَّدَى لِلثَّوْبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْخَزَّ ثَخِينٌ، وَالْحَرِيرَ مَسْتُورٌ بِالْوَبَرِ فِيهِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْحَشْوِ، قَالَ: وَالْخَزُّ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: لِلْوَبَرِ الَّذِي يُنْسَجُ مَعَهُ الْحَرِيرُ، وَهُوَ وَبَرُ الْأَرْنَبِ، وَاسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْحَرِيرِ، وَالْوَبَرِ، وَاسْمٌ لِرَدِيءِ الْحَرِيرِ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي حَلَالٌ وَالثَّالِثُ حَرَامٌ انْتَهَى. ثُمَّ قَالَ النَّجْدِيُّ: فَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ الْخَزَّ الْمُبَاحَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحَرِيرُ فِيهِ مَسْتُورًا وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ الْخَزُّ اسْمًا لِمَا سُدِّيَ بِالْإِبْرَيْسَمِ، وَلَوْ ظَهَرَ السَّدَى لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُلْحَمُ اسْمًا لِمَا أُلْحِمَ بِالْإِبْرَيْسَمِ، وَلَوْ اسْتَتَرَتْ اللُّحْمَةُ؛ لِأَنَّهُ عَكْسُ الْخَزِّ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُفْضِي إلَى تَحْرِيمِ ثَوْبٍ سُدِّيَ بِغَيْرِ الْحَرِيرِ وَأُلْحِمَ بِالْحَرِيرِ، وَالظَّاهِرُ كُلُّهُ غَيْرُ الْحَرِيرِ وَإِلَى إبَاحَةِ عَكْسِهِ، وَهُوَ ثَوْبٌ سُدِّيَ بِحَرِيرٍ وَأُلْحِمَ بِغَيْرِهِ وَالظَّاهِرُ كُلُّهُ الْحَرِيرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُعْدِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى كَلَامُهُ بِحُرُوفِهِ. وَأَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ وَمِنْهُ أَسْتَمِدُّ الْمَعُونَةَ وَالتَّحْقِيقَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 كَلَامُ النَّجْدِيِّ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّدْقِيقِ وَمَطْمَحُ نَظَرِهِ إلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وَالْإِبَاحَةِ. وَنَحْنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ نُبَيِّنُ وَجْهَ مَأْخَذِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الْإِمَامِ أَبِي الْمَوَاهِبِ، وَمَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ حُرْمَةِ مَا سُدِّيَ بِالْحَرِيرِ وَأُلْحِمَ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الظُّهُورُ لِلْحَرِيرِ: اعْلَمْ أَنَّ عِبَارَةَ الْإِقْنَاعِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَيَحْرُمُ عَلَى رَجُلٍ، وَلَوْ كَافِرًا وَخُنْثَى لُبْسُ ثِيَابِ حَرِيرٍ إلَخْ، وَكَذَا مَا غَالِبُهُ حَرِيرٌ ظُهُورًا لَا إذَا اسْتَوَيَا ظُهُورًا وَوَزْنًا، أَوْ كَانَ الْحَرِيرُ أَكْثَرَ وَزْنًا وَالظُّهُورُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَحْرُمُ خَزٌّ، وَهُوَ مَا سُدِّيَ بِإِبْرَيْسَمٍ وَأُلْحِمَ بِوَبَرٍ، أَوْ صُوفٍ وَنَحْوِهِ. وَعِبَارَةُ الْمُنْتَهَى: وَيَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ أُنْثَى حَتَّى كَافِرٍ لُبْسُ مَا كُلُّهُ، أَوْ غَالِبُهُ حَرِيرٌ، إلَى أَنْ قَالَ لَا حَرِيرٌ سَاوَى مَا نُسِجَ مَعَهُ ظُهُورًا (وَخَزٌّ) أَيْ وَلَا يَحْرُمُ خَزٌّ قَالَ: وَهُوَ مَا سُدِّيَ بِإِبْرَيْسَمٍ وَأُلْحِمَ بِصُوفٍ، أَوْ وَبَرٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: كَقُطْنٍ وَكَتَّانٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ الْحَرِيرِ أَمَّا عَلَمُ وَسَدَى الثَّوْبِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْأَثْرَمُ، وَكَذَا عِبَارَةُ الْغَايَةِ فَجَعَلُوا مَا نُسِجَ بِالْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ مَسْأَلَةً مُسْتَقِلَّةً وَهَذِهِ اعْتَبَرُوا فِيهَا الظُّهُورَ، فَمَا غَلَبَ ظُهُورُهُ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ وَحِينَئِذٍ تَشْمَلُ ثَلَاثَ صُوَرٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُسَدَّى بِالْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ وَيُلْحَمَ كَذَلِكَ، أَوْ يُسَدَّى بِغَيْرِ الْحَرِيرِ وَيُلْحَمَ بِهِ، أَوْ يُسَدَّى بِغَيْرِ الْحَرِيرِ وَيُلْحَمَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ. فَهَذِهِ الثَّلَاثُ صُوَرٍ نَعْتَبِرُ فِيهَا أَغْلَبِيَّةَ الظُّهُورِ، فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ ظُهُورًا الْحَرِيرَ حَرُمَ وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ قَالُوا: وَلَا يَحْرُمُ خَزٌّ فَجَعَلُوهَا مَسْأَلَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا غَيْرَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَعَطَفُوهَا بِالْوَاوِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا فِيهَا الظُّهُورَ، بَلْ أَطْلَقُوا إبَاحَةَ مَا سُدِّيَ بِالْحَرِيرِ وَأُلْحِمَ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُ النَّجْدِيُّ مُرَادًا لَقَيَّدُوهُ بِمُلَاحَظَةِ قَيْدِ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ كَانَ الشُّرَّاحُ نَبَّهُوا عَلَيْهِ. وَكَانَ الْأَصْوَبُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَأْخِيرَ هَذَا الْقَيْدِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: وَيُبَاحُ الْخَزُّ وَمَا نُسِجَ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ إذَا كَانَ غَيْرُ الْحَرِيرِ أَغْلَبَ ظُهُورًا، أَوْ كَانَ الْحَرِيرُ وَغَيْرُهُ سِيَّانِ. فَلَمَّا فَصَلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَخَّرُوهَا عَنْ الْقَيْدِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ غَيْرُ مُعْتَبِرِينَ هَذَا الْقَيْدَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وَأَيْضًا أَيُّ فَائِدَةٍ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مُلَاحَظَةِ هَذَا الْقَيْدِ، فَإِنَّهَا لَمْ تُفِدْنَا شَيْئًا، إذْ هِيَ نَسْجُ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ، فَيَكُونُ ذِكْرُهَا بَعْدَمَا ذَكَرُوهُ أَوَّلًا تَكْرَارًا بِلَا فَائِدَةٍ، إذْ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا لَا مَعْنًى وَلَا حُكْمًا مَعَ اعْتِنَائِهِمْ بِالِاخْتِصَارِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ حَذَفُوا مَسْأَلَةَ الْمُلْحَمِ لِمَا شَمِلَتْهُ الْعِبَارَةُ الْأُولَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ بِالْإِنْصَافِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ النَّجْدِيِّ بِكَلَامِ الْحَجَّاوِيِّ، فَإِنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ عِنْدَ قَوْلِ النَّاظِمِ مِنْ مُصْمَتٍ زِدْ. قَالَ: يَعْنِي إنَّمَا يَحْرُمُ لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ أَيْ الصِّرْفِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ نُسِجَ مَعَ غَيْرِهِ فَالْحُكْمُ لِلْأَكْثَرِ ظُهُورًا، فَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ ظُهُورًا الْحَرِيرَ حَرُمَ، وَإِنْ اسْتَوَيَا ظُهُورًا، أَوْ وَزْنًا فَفِيهِ وَجْهَانِ، الْمَذْهَبُ الْإِبَاحَةُ انْتَهَى. وَنَحْنُ لَا نَشُكُّ أَنَّ مُرَادَ الْحَجَّاوِيِّ فِي شَرْحِ الْآدَابِ هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي إقْنَاعِهِ، وَحِينَئِذٍ يُرْجَعُ إلَى مَا قَرَّرْنَا مِنْ أَنَّهُ نَسْجُ الْحَرِيرِ مَعَ غَيْرِهِ فِي غَيْرِ مَا إذَا سُدِّيَ بِالْحَرِيرِ وَأُلْحِمَ بِغَيْرِهِ كَمَا فِي إقْنَاعِهِ، ثُمَّ هُوَ مَأْخَذُ كَلَامِهِ مِنْ الْآدَابِ الْكُبْرَى وَعِبَارَتُهُ: قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَيُبَاحُ الْخَزُّ نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَرِيرٌ وَوَبَرٌ طَاهِرٌ مِنْ أَرْنَبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْخَزِّ نَصَّ عَلَيْهِ، وَجَعَلَهُ ابْنُ عَقِيلٍ كَغَيْرِهِ مِنْ الثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ. وَفَرَّقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هَذَا لَبِسَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَاكَ مُحْدَثٌ. ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ. وَفِي رِوَايَةِ بَكْرٍ أَوْمَأَ إلَى فَرْقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْخَزَّ لَا سَرَفَ فِيهِ وَلَا خُيَلَاءَ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَا نُسِجَ أَيْ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ الْخَزِّ الَّذِي سُدِّيَ بِالْحَرِيرِ وَأُلْحِمَ بِغَيْرِهِ. وَعَلَى كَلَامِ النَّجْدِيِّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ خِلَافُ نَصِّ الْإِمَامِ. قُلْت: وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ خَاتِمَةُ الْمُرَجِّحِينَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ قَالَ: قَوْلُهُ: وَكَذَا الْخَزُّ عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَأَبَاحَهُ أَحْمَدُ انْتَهَى، يَعْنِي أَنَّ الْخَزَّ عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ كَالْحَرِيرِ فِي الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ. فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَقِيلٍ يَكُونُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُطْلَقُ إذَا اسْتَوَيَا، وَقَدْ عَلِمْت الصَّحِيحَ مِنْهُ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ إبَاحَتُهُ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي، وَالْكَافِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وَالشَّرْحِ وَالرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهِمْ وَقَدَّمَهُ فِي الْآدَابِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى. وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ الْمَجْدِ فِي شَرْحِهِ فَقَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: الْخَزُّ مَا عُمِلَ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمٍ قَالَهُ فِي الْمَطْلَعِ فِي النَّفَقَاتِ، وَقَالَ فِي الْمُذْهَبِ، وَالْمُسْتَوْعِبِ مَا عُمِلَ مِنْ إبْرَيْسَمٍ وَوَبَرِ طَاهِرٍ كَالْأَرْنَبِ وَغَيْرِهَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الرِّعَايَةِ وَالْآدَابِ. قَالَ الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ وَغَيْرِهِ: الْخَزُّ مَا سُدِّيَ بِالْإِبْرَيْسَمِ وَأُلْحِمَ بِوَبَرٍ، أَوْ صُوفٍ وَنَحْوِهِ لِغَلَبَةِ اللُّحْمَةِ عَلَى الْحَرِيرِ انْتَهَى. فَذَكَرَ كَلَامَهُ مُؤَخَّرًا عَنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، ثُمَّ إنَّ الْمَجْدَ لَمْ يَجْعَلْهُ قَيْدًا، وَإِنَّمَا أَبْدَاهُ حِكْمَةً، وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ النَّجْدِيُّ لَقَالَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْحَرِيرُ مَغْلُوبًا فِي الظُّهُورِ، ثُمَّ إنَّا لَا نَدْرِي عَلَى مَاذَا فَرَّعَهُ، فَإِنَّ لِعُلَمَائِنَا قَوْلَيْنِ فِي الْأَغْلَبِيَّةِ هَلْ هِيَ فِي الْوَزْنِ أَوْ الظُّهُورِ كَمَا أَطْلَقَ الْخِلَافَ فِي الْفُرُوعِ وَأَطْلَقَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَصَاحِبُ الْفَائِقِ وَجَمَاعَةٌ كَمَا مَرَّ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ: الْخَزُّ ثِيَابٌ تُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمٍ، وَهِيَ مُبَاحَةٌ. قَالَ فِي الْمَطْلَعِ: وَالْخَزُّ الْمَعْرُوفُ الْآنَ كُلُّهُ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الذُّكُورِ انْتَهَى. وَأَمَّا مَا جَعَلَهُ عُمْدَةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، وَهُوَ كَلَامُ الْعَلَّامَةِ ابْنِ قُنْدُسٍ فَنَحْنُ نَسُوقُ كَلَامَهُ بِحُرُوفِهِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: وَكَذَا الْخَزُّ عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَأَبَاحَهُ أَحْمَدُ الْخَزُّ تُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَحَرِيرٍ. قَالَ فِي الْمَطْلَعِ: قَالَ أَبُو السَّعَادَاتِ: الْخَزُّ الْمَعْرُوفُ أَوَّلًا ثِيَابٌ تُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمٍ وَالْإِبْرَيْسَمُ هُوَ الْحَرِيرُ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَأَمَّا الْخَزُّ فَقَدْ لَبِسَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: وَقَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْنَا فِي سَدَى ذَلِكَ الْخَزِّ، فَقَالَ قَوْمٌ كَانَ سَدَاه قُطْنًا، وَقَالَ آخَرُونَ حَرِيرًا، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ خَزِّنَا الْيَوْمَ أَنَّ سَدَاهُ حَرِيرٌ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ فَائِدَةٌ: قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ: قُلْنَا لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا الْقَسِّيَّةُ؟ قَالَ: ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنْ الشَّامِ، أَوْ مِنْ مِصْرَ فِيهَا حَرِيرٌ أَمْثَالُ الْأُتْرُجِّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ ثِيَابٌ يُؤْتَى بِهَا مِنْ مِصْرَ فِيهَا حَرِيرٌ، فَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهَا ثِيَابٌ فِيهَا حَرِيرٌ وَلَيْسَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 حَرِيرًا مُصْمَتًا، وَهَذَا هُوَ الْمُلْحَمُ، وَالْخَزُّ أَخَفُّ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ سَدَاهُ حَرِيرٌ وَالسَّدَى أَيْسَرُ مِنْ اللُّحْمَةِ، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَوَازَهُ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا الْعَلَمُ مِنْ الْحَرِيرِ وَالسَّدَى لِلثَّوْبِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَزَّ ثَخِينٌ، وَالْحَرِيرَ مَسْتُورٌ بِالْوَبَرِ فِيهِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْحَشْوِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْخَزُّ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لِلْوَبَرِ الَّذِي يُنْسَجُ مَعَ الْحَرِيرِ، وَهُوَ وَبَرُ الْأَرْنَبِ، وَاسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْحَرِيرِ، وَالْوَبَرِ، وَاسْمٌ لِرَدِيءِ الْحَرِيرِ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي حَلَالٌ، وَالثَّالِثُ حَرَامٌ، وَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُلْحَمَ، وَالْقَسِّيَّ، وَالْخَزَّ مِنْ صُوَرِ الْوَجْهَيْنِ، وَجَعَلَ التَّحْرِيمَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ - لِأَنَّهُ حَرَّمَ الْمُلْحَمَ، وَالْقَسِّيَّ -، وَالْإِبَاحَةَ قَوْلَ ابْنِ الْبَنَّا؛؛ لِأَنَّهُ أَبَاحَ الْخَزَّ. قَالَ وَهَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: وَيُلْبَسُ الْخَزُّ وَلَا يُلْبَسُ الْمُلْحَمُ وَلَا الدِّيبَاجُ. وَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَقُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ فَإِبَاحَةُ الْخَزِّ دُونَ الْمُلْحَمِ وَغَيْرِهِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْخَزِّ خِلَافًا فَقَدْ غَلِطَ، وَأَنَّ الشَّيْخَ ذَكَرَ الْمَنْسُوجَ مِنْ الْحَرِيرِ، وَالْوَبَرِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَنْسُوجَ مِنْ الْحَرِيرِ وَالصُّوفِ وَذَكَرَهُ أَبُو السَّعَادَاتِ فَيَكُونُ قِسْمًا رَابِعًا. انْتَهَى كَلَامُهُ بِحُرُوفِهِ. فَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ النَّجْدِيُّ فِي مَعْرِضِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُلْحَمِ وَبَيْنَهُ، وَأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الْمُلْحَمِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ لَا يَحِلُّ لُبْسُهُ إلَّا بِشَرْطِ اسْتِتَارِ الْحَرِيرِ وَظُهُورِ الْوَبَرِ، ثُمَّ إنَّ دَلَالَةَ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ قُنْدُسٍ عَلَى مَا قَالَهُ النَّجْدِيُّ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ. وَكَلَامُ الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى، وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهَا صَرِيحٌ فِي إبَاحَةِ مَا سُدِّيَ بِالْحَرِيرِ وَأُلْحِمَ بِغَيْرِهِ مَعَ تَأْخِيرِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ الْقَيْدِ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ إبَاحَةُ الْخَزِّ، نَصَّ عَلَيْهِ. وَفَرَّقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَنَّهُ لُبْسُ الصَّحَابَةِ وَبِأَنَّهُ لَا سَرَفَ فِيهِ وَلَا خُيَلَاءَ: وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكَافِي، وَالْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَالرِّعَايَةِ الْكُبْرَى. انْتَهَى. وَأَمَّا مَا عُمِلَ مِنْ سَقَطِ الْحَرِيرِ وَمُشَاقَّتِهِ وَمَا يُلْقِيهِ الصَّانِعُ مِنْ فِيهِ مِنْ تَقْطِيعِ الطَّاقَاتِ إذَا دُقَّ وَغُزِلَ وَنُسِجَ فَهُوَ كَحَرِيرٍ خَالِصٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ سُمِّيَ الْآنَ خَزًّا كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. فَإِنْ قُلْت: أَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَرْجَحُ مَا فَهِمَهُ النَّجْدِيُّ، أَوْ أَبُو الْمَوَاهِبِ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 قُلْت: مَأْخَذُ النَّجْدِيِّ دَقِيقٌ، وَهُوَ يُوَافِقُ مَا عَلَّلُوا بِهِ. وَلَكِنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَالَهُ وَفَهِمَهُ أَبُو الْمَوَاهِبِ هُوَ التَّحْقِيقُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (فَائِدَةٌ) : قَالَ فِي الْمَطَالِعِ: الْخَزُّ مَا خُلِطَ مِنْ الْحَرِيرِ بِالْوَبَرِ وَشِبْهِهِ وَأَصْلُهُ مِنْ وَبَرِ الْأَرْنَبِ، وَيُسَمَّى ذَكَرُهُ الْخُزَزَ فَسُمِّيَ بِهِ، وَإِنْ خَلَطَ بِكُلِّ وَبَرٍ خَزًّا. وَفِي الْقَامُوسِ: الْخَزُّ مِنْ الثِّيَابِ مَعْرُوفٌ جَمْعُهُ خُزُوزٌ، وَالْخُزَزُ كَصُرَدٍ ذَكَرُ الْأَرَانِبِ، جَمْعُهُ خِزَّانٌ وَأَخِزَّةٌ، وَمَوْضِعُهَا مَخَزَّةٌ وَمِنْهُ اُشْتُقَّ الْخَزُّ انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي أَوَّلِ مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ (فَائِدَةٌ أُخْرَى) : أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ وَشَرِبَ الْخُمُورَ فِي الْمَجَالِسِ وَطَوَّلَ الشَّارِبَ وَقَصَّ اللِّحْيَةَ وَلَعِبَ بِالْحَمَامِ قَوْمُ لُوطٍ، ذَكَرَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي أَوَائِلِهِ وَفِي زُبْدَةِ التَّوَارِيخِ، وَنَقَلَهُ عَلِيٌّ دَدَهْ فِي أَوَائِلِهِ، وَغَيْرُهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ اسْتَخْرَجَ الْحَرِيرَ مِنْ دِيدَانِهِ - تَعَلَّمَهُ مِنْ الْجِنِّ، وَكَانُوا مُسَخَّرِينَ لَهُ - جَمْشِيدُ، وَكَانَ فِي أَوَائِلِ مُلْكِهِ مَلِكًا عَادِلًا، ثُمَّ طَغَى وَتَجَبَّرَ وَاِتَّخَذَ الْأَصْنَامَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ فَسُلِبَ مُلْكَهُ، فَغُرِّبَ إلَى الْهِنْدِ وَمَاتَ مَجُوسِيًّا زِنْدِيقًا. قَتَلَهُ الضَّحَّاكُ الْعَلْوَانِيُّ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ شَرَّ قِتْلَةٍ. وَجَمْشِيدُ هَذَا أَوَّلُ مَنْ اسْتَخْرَجَ نَسْجَ أَلْوَانِ اللِّبَاسِ، وَاسْتَخْرَجَ الْقُطْنَ. وَكَانَ مَاهِرًا فِي الْحِرَفِ، وَالْآلَاتِ، وَالْعُدَّةِ قَبْلَ طُغْيَانِهِ. قُلْت: وَذَكَرَ السُّيُوطِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِهِ الدُّرَّ الْمَنْثُورَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ لَبِسَ الْقُطْنَ وَاسْتَخْرَجَهُ إدْرِيسُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَأَمَّا أَوَّلُ اتِّخَاذِ ذُكُورِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِلْحَرِيرِ وَلُبْسِهَا لَهُ فَقَالَ السُّيُوطِيّ: كَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «أَوْشَكَ أَنْ تَسْتَحِلَّ أُمَّتِي فُرُوجَ النِّسَاءِ، وَالْحَرِيرَ وَهَذَا أَوَّلُ حَرِيرٍ رَأَيْته عَلَى الْمُسْلِمِينَ» . قُلْت وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَاَللَّهِ يَمِينًا أُخْرَى مَا كَذَبَنِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ - وَذَكَرَ كَلَامًا - قَالَ: يُمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ إلَى يَوْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 الْقِيَامَةِ» ، وَالْحِرَ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَرْجُ الْمَرْأَةِ لُغَةً فِي الْمُخَفَّفَةِ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ قَوْلُهُ: وَيُسْتَحَلُّ الْحِرُ مُخَفَّفَ الرَّاءِ اسْمٌ لِفَرْجِ الْمَرْأَةِ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَقِيلَ أَصْلُهُ بِالتَّاءِ بَعْدَ الرَّاءِ فَحُذِفَتْ. . مَطْلَبٌ: مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ حَرِيرٍ وَمُذَهَّبٍ وَمُصَوَّرٍ حَرُمَ بَيْعُهُ وَنَسْجُهُ (الْبَحْثُ السَّادِسُ) : مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ حَرِيرٍ وَمُذَهَّبٍ وَمُصَوَّرٍ وَنَحْوِهَا حَرُمَ بَيْعُهُ وَنَسْجُهُ وَخِيَاطَتُهُ وَتَمْلِيكُهُ وَتَمَلُّكُهُ وَأُجْرَتُهُ لِذَلِكَ، وَكَذَا الْأَمْرُ بِهِ. وَأَمَّا إذَا نَسَجَهُ لِمَنْ يَحِلُّ لَهُ كَالنِّسَاءِ فَيُبَاحُ، وَكَذَا بَيْعُهُ وَنَحْوُهُ. وَعُمُومُ إطْلَاقِهِمْ يَشْمَلُ حُرْمَةَ بَيْعِ ثَوْبِ الْحَرِيرِ وَخِيَاطَتِهِ وَنَحْوِهِ لِلْكَافِرِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: يَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ حَرِيرٍ لِكَافِرٍ وَلُبْسُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بَعَثَ بِمَا أَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَخٍ لَهُ مُشْرِكٍ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَذْهَبَ التَّحْرِيمُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ عَنْ خِلَافِهِ قَدْ يَتَوَهَّمُهُ مُتَوَهِّمٌ، وَهُوَ وَهْمٌ بَاطِلٌ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي لُبْسِهَا، وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَذَا بَعَثَ لِجَعْفَرٍ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إبَاحَةُ لُبْسِهِ انْتَهَى. وَأَصْلُ الْمَأْخَذِ أَنَّا نَحْنُ وَالشَّافِعِيَّةَ نَقُولُ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وَفَائِدَةُ ذَلِكَ زِيَادَةُ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْبَحْثُ مَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَفَرَّقَ الشَّيْخُ بَيْنَ بَيْعِ الْحَرِيرِ لِلْكُفَّارِ وَبَيْعِ الْخَمْرِ، بِأَنَّ الْحَرِيرَ لَيْسَ حَرَامًا عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالَ: وَعَلَى قِيَاسِهِ بَيْعُ آنِيَةِ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ لَهُمْ. وَإِذَا جَازَ بَيْعُهَا لَهُمْ جَازَ صُنْعُهَا لِبَيْعِهَا وَجَازَ عَمَلُهَا لَهُمْ بِالْأُجْرَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ. ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمُحَرَّرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ النَّظَرِ إلَى مَلَابِسِ الْحَرِيرِ (السَّابِعُ) : قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ: يُكْرَهُ نَظَرُ مَلَابِسِ حَرِيرٍ وَآنِيَةِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَنَحْوِهَا إنْ رَغَّبَهُ فِي التَّزْيِينِ بِهَا، وَالْمُفَاخَرَةِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّجَمُّلِ بِهَا. وَذَكَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ذَلِكَ فِي الْآدَابِ وَالرِّعَايَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ: رِيحُ الْخَمْرِ كَصَوْتِ الْمَلَاهِي حَتَّى إذَا شَمَّ رِيحَهَا فَاسْتَدَامَ شَمَّهَا كَانَ بِمَثَابَةِ مَنْ سَمِعَ صَوْتَ الْمَلَاهِي فَأَصْغَى إلَيْهَا، وَيَجِبُ سَتْرُ الْمَنْخِرَيْنِ، وَالْإِسْرَاعُ كَسَدِّ الْأُذُنَيْنِ عِنْدَ الِاسْتِمَاعِ. وَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى مَلَابِسِ الْحَرِيرِ وَأَوَانِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ إنْ دَعَتْ إلَى حُبِّ الدُّنْيَا، وَالْمُفَاخَرَةِ وَيَحْجُبُ ذَلِكَ عَنْهُ. وَنَزِيدُ فَنَقُولُ: التَّفَكُّرُ الدَّاعِي إلَى اسْتِحْضَارِ صُوَرِ الْمَحْظُورِ مَحْظُورٌ، حَتَّى إذَا فَكَّرَ الصَّائِمُ فَأَنْزَلَ أَثِمَ وَقَضَى، وَكَانَ عِنْدِي كَالْعَابِثِ بِذَكَرِهِ فَيُمْنِي، وَأَدَقُّ مِنْ هَذَا لَوْ اسْتَحْضَرَ صُورَةَ الْمَعْشُوقِ وَقْتَ جِمَاعِ أَهْلِهِ. قُلْت: الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ عَدَمُ فِطْرِ الصَّائِمِ بِالْفِكْرِ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ، وَالْمُنْتَهَى؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ مُبَاشَرَةٍ وَلَا نَظَرٍ أَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ، وَالْفِكْرَةَ الْغَالِبَةَ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ وَالنَّظَرِ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُمَا. قُلْت: وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ، وَلَوْ تَمَادَى مَعَ الْفِكْرِ، وَهُوَ مُرَادُهُمْ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُرُوعِ قَالَ: وَلَا فِطْرَ وَلَا إثْمَ بِفِكْرٍ غَالِبٍ اتِّفَاقًا، وَقَالَ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ يَعْنِي فِي الْفِطْرِ بِالتَّفَكُّرِ سَوَاءٌ لِدُخُولِ الْفِكْرِ تَحْتَ النَّهْيِ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ لَا يُفْطِرُ خِلَافًا لِمَالِكٍ. قَالَ: وَهُوَ يَعْنِي: عَدَمُ الْفِطْرِ بِالْفِكْرِ أَشْهَرُ؛ لِأَنَّهُ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ وَتَكْرَارِ النَّظَرِ، وَيُخَالِفُ بِالتَّحْرِيمِ إنْ تَعَلَّقَ بِأَجْنَبِيَّةٍ. زَادَ صَاحِبُ الْمُغْنِي، أَوْ الْكَرَاهَةِ إنْ كَانَ فِي زَوْجَةٍ. يَعْنِي أَنَّ تَكْرَارَ النَّظَرِ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ مُحَرَّمٌ سِيَّمَا لِلصَّائِمِ، وَتَكْرَارُهُ فِي زَوْجَتِهِ، وَهُوَ صَائِمٌ مَكْرُوهٌ، وَالْفِكْرُ لَيْسَ يُوَافِقُ وَاحِدًا مِنْهُمَا يَعْنِي لَا هُوَ حَرَامٌ وَلَا مَكْرُوهٌ؛ وَلِذَا قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَا أَظُنُّ مَنْ قَالَ يُفْطِرُ بِهِ، وَهُوَ أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ يَسْلَمُ فِي ذَلِكَ، يَعْنِي عَدَمَ الْحُرْمَةِ، وَالْكَرَاهَةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُقْنِعِ فِيمَا لَا يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ، أَوْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَكَذَا لَوْ فَكَّرَ فَأَمْذَى. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ فِيهِمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: هَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ: يُفْطِرُ بِالْإِنْزَالِ، وَالْمَذْيِ إذَا حَصَلَ بِفِكْرِهِ. وَقِيلَ يُفْطِرُ بِهِمَا إنْ اسْتَدْعَاهُمَا وَإِلَّا فَلَا انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 فَعُلِمَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ عَدَمُ الْفِطْرِ بِالْفِكْرِ، وَلَوْ اسْتَدْعَاهُ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ حُرْمَةَ اسْتِحْضَارِ نَحْوِ الْأَجْنَبِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَرْجُوحٍ، وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ الْحُرْمَةِ. وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا كَالنَّظَرِ إلَى مَلَابِسِ الْحَرِيرِ. وَكَلَامُ الْمُوَفَّقِ فِي الْمُغْنِي يَقْتَضِي عَدَمَ الْكَرَاهَةِ، وَصَرَّحَ بِهِ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ. (الثَّامِنُ) : الَّذِي اعْتَمَدَهُ مُتَأَخِّرُو الْأَصْحَابِ وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْغَايَةِ كَالْمُنْتَهَى أَنَّ مَنْ صَلَّى، وَلَوْ نَفْلًا فِي ثَوْبٍ حَرِيرٍ أَوْ أَكْثَرَهُ مِمَّنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَكَذَا مَغْصُوبٌ أَوْ بَعْضُهُ، أَوْ مَا ثَمَنُهُ الْمُعَيَّنُ حَرَامٌ، أَوْ فِي ذِمَّتِهِ بِنِيَّةِ نَقْدِهِ مِنْ الْحَرَامِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ إنْ كَانَ عَالِمًا ذَاكِرًا، وَإِلَّا صَحَّتْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ دُمْلُجًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ تِكَّةَ سَرَاوِيلَ أَوْ خُفًّا مِنْ حَرِيرٍ وَإِنْ جَهِلَ أَوْ نَسِيَ كَوْنَهُ حَرِيرًا أَوْ غَصْبًا أَوْ حُبِسَ بِمَكَانِ غَصْبٍ أَوْ كَانَ فِي جَيْبِهِ دِرْهَمٌ مَغْصُوبٌ صَحَّتْ. وَعَنْ الْإِمَامِ تَصِحُّ مَعَ التَّحْرِيمِ، اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ وِفَاقًا لِلثَّلَاثَةِ. وَقَالَ بِهِ جُمُوعٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَعُودُ إلَى خَارِجٍ، وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ. وَصَلَاةُ الْمُمَيِّزِ فِي ثَوْبِ الْحَرِيرِ كَالْبَالِغِ. فَإِنْ قُلْت: لَا عَمْدَ لِلصَّبِيِّ بَلْ عَمْدُهُ خَطَأٌ كَمَا فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُحَرَّمٍ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا فَإِنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الصَّغِيرِ كَذَلِكَ بِجَامِعِ عَدَمِ الْإِثْمِ. وَالْجَوَابُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ كَمَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُ النَّجْدِيُّ، وَهُوَ أَنَّ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ فِي الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ أَحَدٌ؛ فَلِذَلِكَ اُغْتُفِرَ صِحَّةُ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الصَّبِيِّ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْوَاقِعَ فِيهَا مَعْصِيَةٌ مُؤَاخَذٌ بِهَا، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِغَيْرِ الْمُصَلِّي، فَكَأَنَّهُ لِشُؤْمِ أَثَرِ الْمَعْصِيَةِ حُكِمَ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ. هَذَا مَا ظَهَرَ فَلْيُحَرَّرْ انْتَهَى. قُلْت: وَفِي هَذَا نَظَرٌ يَظْهَرُ بِمَا إذَا لَبِسَ زَيْدٌ سُتْرَةً مِنْ عِنْدِ عَمْرٍو بِإِذْنِهِ، وَعَمْرٌو كَانَ قَدْ غَصَبَ السُّتْرَةَ، وَلَا عِلْمَ لِزَيْدٍ، فَإِنَّ صَلَاةَ زَيْدٍ صَحِيحَةٌ، وَعَمْرٌو عَاصٍ، وَلَمْ يَعُدْ شُؤْمُ أَثَرِ مَعْصِيَةِ عَمْرٍو عَلَى صَلَاةِ زَيْدٍ بِالْبُطْلَانِ لِعَدَمِ شُعُورِهِ بِذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 مَطْلَبٌ: فِيمَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِمَالٍ حَلَالٍ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا حَرَامٌ وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي سِلْعَةً بِمَالٍ حَلَالٍ وَلَمْ يَعْلَمْ أَصْلَ السِّلْعَةِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ حَلَالٌ، ثُمَّ كَانَتْ حَرَامًا فِي الْبَاطِنِ هَلْ يَأْثَمُ أَمْ لَا؟ . فَأَجَابَ: مَتَى اعْتَقَدَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الَّذِي مَعَ الْبَائِعِ مِلْكُهُ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ قَدْ سَرَقَهُ الْبَائِعُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُشْتَرِي الَّذِي لَا يَعْلَمُ إثْمٌ وَلَا عُقُوبَةٌ، لَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَالضَّمَانُ وَالدَّرَكُ عَلَى الَّذِي غَرَّهُ وَبَاعَهُ. وَإِذَا ظَهَرَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ فِيمَا بَعْدُ رُدَّتْ إلَيْهِ سِلْعَتُهُ، وَرُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي ثَمَنُهُ، وَعُوقِبَ الْبَائِعُ الظَّالِمُ. فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ أَصَابَ، وَمَنْ لَا أَخْطَأَ. انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ) : رَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا بَيْتًا سَاقِطًا فِي أَكْثَرِهَا وَعَدَمُ سُقُوطِهِ أَوْلَى وَهُوَ: وَيَحْرُمُ بَيْعٌ لِلرِّجَالِ لِلُبْسِهِمْ ... وَتَخْيِيطُهُ وَالنَّسْجُ فِي نَصِّ أَحْمَدَ (وَيَحْرُمُ بَيْعٌ) مِنْ مُكَلَّفٍ (لِ) أَحَدٍ مِنْ (الرِّجَالِ) الْبَالِغِينَ، وَكَذَا مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِثْلُ الْخَنَاثَى (لِلُبْسِهِمْ) أَيْ لُبْسِ الرِّجَالِ وَكَذَا لِلُبْسِ الصِّبْيَانِ كَمَا مَرَّ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ لِلُبْسِهِمْ: مَا إذَا اشْتَرَاهُ الرِّجَالُ لِلُبْسِ مَنْ يُبَاحُ لَهُ لُبْسُهُ مِنْ النِّسَاءِ (وَ) كَذَا يَحْرُمُ (تَخْيِيطُهُ) أَيْ تَخْيِيطُ مَا يَحْرُمُ لُبْسُهُ لِمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ. وَأَمَّا تَخْيِيطُ الْحَرِيرِ لِمَنْ يَحِلُّ لَهُ لُبْسُهُ فَلَا يَحْرُمُ (وَ) كَذَا يَحْرُمُ (النَّسْجُ) لِمَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اللُّبْسُ دُونَ غَيْرِهِ (فِي نَصِّ) الْإِمَامِ الْمُبَجَّلِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَهَذَا مَرَّ مَبْسُوطًا. قَالَ النَّاظِمُ: أَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ خَاطَهُ أَوْ نَسَجَهُ لِمَنْ يَحِلُّ لَهُ جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي تَحْرِيمِ لُبْسِ مَا نُسِجَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ: وَيَحْرُمُ لُبْسٌ مِنْ لُجَيْنٍ وَعَسْجَدٍ ... سِوَى مَا قَدْ اسْتَثْنَيْتُهُ فِي الَّذِي اُبْتُدِئَ (وَيَحْرُمُ لُبْسٌ) ثِيَابٍ مَنْسُوجَةٍ (مِنْ لُجَيْنٍ) بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْجِيمِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْفِضَّةِ جَاءَ مُصَغَّرًا كَالثُّرَيَّا وَالْكُمَيْتِ. قَالَ فِي الْمَطْلَعِ: لِلْفِضَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 أَسْمَاءٌ، مِنْهَا: الْفِضَّةُ وَاللُّجَيْنُ، وَالنَّسِيكُ، وَالْغَرَبُ، وَيُطْلَقَانِ عَلَى الذَّهَبِ أَيْضًا. (وَ) يَحْرُمُ أَيْضًا لُبْسُ ثِيَابٍ مَنْسُوجَةٍ مِنْ (عَسْجَدٍ) وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّهَبِ، وَلَهُ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ غَيْرُهُ، مِنْهَا النَّضْرُ، وَالنَّضِيرُ، وَالنُّضَارُ، وَالزِّبْرِجُ. وَالسِّيرَا، وَالزُّخْرُفُ، وَالْعِقْيَانُ، وَالتِّبْرُ غَيْرَ مَضْرُوبٍ، وَبَعْضُهُمْ يُطْلِقُ التِّبْرَ عَلَى الْفِضَّةِ قَبْلَ الضَّرْبِ أَيْضًا. وَجَمَعَ ابْنُ مَالِكٍ أَسْمَاءَ الذَّهَبِ جَمِيعَهَا فِي قَوْلِهِ: نَضْرٌ نَضِيرٌ نُضَارٌ زِبْرِجٌ سِيَرَا ... ءَ زُخْرُفٌ عَسْجَدٌ عِقْيَانُ الذَّهَبُ وَالتِّبْرُ مَا لَمْ يَذُبْ وَشَرَّكُوا ذَهَبًا ... مَعْ فِضَّةٍ فِي نَسِيكٍ هَكَذَا الْغَرَبُ فَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ مَا نُسِجَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مُوِّهَ أَوْ طُلِيَ أَوْ كُفِّتَ أَوْ طُعِّمَ بِأَحَدِهِمَا. وَقِيلَ بَلْ يُكْرَهُ إلَّا فِي مِغْفَرٍ وَجَوْشَنٍ وَخُوذَةٍ أَوْ فِي سِلَاحِهِ لِضَرُورَةٍ. كَذَا فِي الرِّعَايَةِ. وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ تَمْوِيهُ حَائِطٍ وَسَقْفٍ وَسَرِيرٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَيَجِبُ إزَالَتُهُ وَزَكَاتُهُ بِشَرْطِهَا، وَلَوْ فِي مَسْجِدٍ وَقَلَنْسُوَةٍ، وَكَذَا تَحْلِيَةُ سَرْجٍ وَدَوَاةٍ وَلِجَامٍ وَمِحْبَرَةٍ وَمِقْلَمَةٍ وَمِرْآةٍ وَمُكْحُلَةٍ وَشَرْبَةٍ وَمَيْلٍ وَكُرْسِيٍّ وَآنِيَةٍ وَسُبْحَةٍ وَمِحْرَابٍ وَكُتُبِ عِلْمٍ وَقِنْدِيلٍ وَمِجْمَرَةٍ وَمِدْخَنَةٍ وَمِلْعَقَةٍ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ فِي الْكُلِّ. وَالْمَذْهَبُ حُرْمَةُ ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. (سِوَى مَا) أَيْ الَّذِي (اسْتَثْنَيْتُهُ) يَعْنِي فِي الْمَنْظُومَةِ الْكُبْرَى قَالَهُ الْحَجَّاوِيُّ. وَيَحْتَمِلُ مَا قَدْ اسْتَثْنَيْتُهُ فِي الْحَرِيرِ وَهُوَ مُقْتَضَى مَا فِي الْفُرُوعِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ مَنْسُوجٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ. وَفِي الرِّعَايَةِ: وَقِيلَ أَوْ فِضَّةٍ وَالْمُمَوَّهُ بِلَا حَاجَةٍ فَيَلْبَسُهُ، وَالْحَرِيرُ لِحَاجَةِ بَرْدٍ أَوْ حَرٍّ لِعَدَمٍ. وَحُكِيَ الْمَنْعُ رِوَايَةً. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَلْبَسُهُ فِي الْحَرْبِ لِحَاجَةٍ. قَالَ: لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَأَرَادَ بِالْحَاجَةِ مَا احْتَاجَهُ وَإِنْ وَجَدَ غَيْرَهُ. كَذَا قَالَ. فَإِنْ اسْتَحَالَ لَوْنُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ مُطْلَقًا أُبِيحَ فِي الْأَصَحِّ وِفَاقًا لِلثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ: الْمَنْسُوجُ بِذَهَبٍ كَحَرِيرٍ كَمَا سَبَقَ انْتَهَى. وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِقْنَاعِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَحْرُمُ عَلَى ذَكَرٍ وَخُنْثَى بِلَا حَاجَةٍ لُبْسُ مَنْسُوجٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إلَخْ. وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُنْتَهَى بِلَا حَاجَةٍ. وَفِي الْغَايَةِ بَعْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 مَا ذُكِرَ أَنَّ الْحَرِيرَ لَا يَحْرُمُ لِمَرَضٍ أَوْ حَكَّةٍ أَوْ قَمْلٍ أَوْ حَرْبٍ مُبَاحٍ وَلَوْ فِي غَيْرِ حَالَةِ قِتَالٍ. قَالَ: وَلَا الْكُلُّ يَعْنِي الْحَرِيرَ وَالْمَنْسُوجَ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَمَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ لِحَاجَةٍ كَدِرْعٍ مُمَوَّهٍ اُحْتِيجَ لِلُبْسِهِ. انْتَهَى. فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مِنْ الْمَنْسُوجِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إلَّا لِلْحَاجَةِ لِلُبْسِهِ دُونَ الْمُدَاوَاةِ وَحَرْبٍ حَيْثُ لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ؛ وَلِذَا قَالَ (فِي الَّذِي) أَيْ فِي النَّظْمِ الَّذِي (اُبْتُدِئَ) بِالضَّمِّ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ الَّذِي ابْتَدَأْتُهُ فِي الْمَنْظُومَةِ الْكُبْرَى لِتَخَلُّفِ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْحَرِيرِ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ مِنْ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ: فَمِمَّا اعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الَّذِي يُبَاحُ مِنْ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ الْخَاتَمُ وَلَوْ زَادَ عَلَى الْمِثْقَالِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْعَادَةِ. وَلَهُ جَعْلُ فَصِّهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ مِنْ ذَهَبٍ إنْ كَانَ يَسِيرًا. وَقَبِيعَةُ سَيْفٍ، وَحِلْيَةُ مِنْطَقَةٍ، وَحِلْيَةُ جَوْشَنٍ، وَبَيْضَةٍ - وَهِيَ الْخُوذَةُ - وَخُفٍّ وَرَانٍ، وَهُوَ شَيْءٌ يُلْبَسُ تَحْتَ الْخُفِّ. وَحَمَائِلُ سَيْفٍ، وَمِغْفَرٍ، وَرَأْسُ رُمْحٍ، وَشَعِيرَةُ السِّكِّينِ، وَالتِّرْكَاشِ، وَالْكَلَالِيبُ. وَمِنْ الذَّهَبِ قَبِيعَةُ السَّيْفِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ قَبِيعَةَ سَيْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ ثَمَانِيَةَ مَثَاقِيلَ. وَمَا دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ كَأَنْفٍ وَرَبْطِ سِنٍّ أَوْ أَسْنَانٍ بِهِ. وَيُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنْهُمَا مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ، كَطَوْقٍ، وَخَلْخَالٍ، وَسِوَارٍ، وَدُمْلُجٍ، وَقُرْطٍ، وَعِقْدٍ، وَهُوَ الْقِلَادَةُ، وَتَاجٍ، وَخَاتَمٍ، وَمَا فِي الْمُخَانِقِ وَالْمَقَالِدِ مِنْ حُرُوزٍ وَتَعَاوِيذَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَلَوْ زَادَ عَلَى أَلْفِ مِثْقَالٍ، حَتَّى دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ مُعَرَّاةٍ أَوْ فِي مُرْسَلَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: تَحْرِيمُ الْأَوَانِي أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ اللِّبَاسِ الْمَنْسُوجِ بِالْفِضَّةِ. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : تَحْرِيمُ الْأَوَانِي أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ اللِّبَاسِ الْمَنْسُوجِ بِالْفِضَّةِ، لِتَحْرِيمِ الْآنِيَةِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، دُونَ اللِّبَاسِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَمْ أَجِدُهُمْ احْتَجُّوا عَلَى تَحْرِيمِ لِبَاسِ الْفِضَّةِ عَلَى الرِّجَالِ وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 أَعْرِفُ فِي التَّحْرِيمِ نَصًّا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَكَلَامُ شَيْخِنَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ لُبْسِهَا لِلرِّجَالِ إلَّا مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَقَالَ أَيْضًا، يَعْنِي شَيْخَهُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لُبْسُ الْفِضَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَفْظٌ عَامٌّ بِالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مِنْهُ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ. فَإِذَا أَبَاحَتْ السُّنَّةُ خَاتَمَ الْفِضَّةِ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِبَاحَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ فِي تَحْرِيمِهِ. يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَالتَّحْرِيمُ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَأَطَالَ فِي الِاسْتِدْلَالِ. فَعَلَى كَلَامِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُبَاحُ تَحْلِيَةُ الْأَسْلِحَةِ بِالْفِضَّةِ، وَكَذَا الذَّهَبُ فِي مَا نَقَلَهُ عَنْهُ فِي الْفُرُوعِ، وَعِبَارَتُهُ: وَقِيلَ: يُبَاحُ يَعْنِي الذَّهَبَ فِي سِلَاحٍ وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَقِيلَ: كُلُّ مَا أُبِيحَ تَحْلِيَتُهُ بِفِضَّةٍ أُبِيحَ بِذَهَبٍ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَجَزَمَ ابْنُ تَمِيمٍ بِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ تَحْلِيَةُ السِّكِّينِ بِالْفِضَّةِ. وَفِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى بِالْعَكْسِ. وَيَدْخُلُ فِي الْخِلَافِ تِرْكَاشُ النُّشَّابِ وَالْكَلَالِيبُ لِأَنَّهَا يَسِيرٌ تَابِعٌ. وَوَاحِدُ الْكَلَالِيبِ كَلُّوبٌ بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ، وَيُقَالُ أَيْضًا كُلَّابٌ. انْتَهَى. (الثَّانِي) : مَتَى اسْتَهْلَكَ مَا قُلْنَا يَحْرُمُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِيمَا حُلِّيَ بِهِ أَوْ مُوِّهَ بِهِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ مِنْهُ شَيْءٌ لَوْ أُزِيلَ أَوْ عُرِضَ عَلَى النَّارِ فَلَهُ اسْتِدَامَتُهُ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَذَهَابِ الْمَالِيَّةِ. وَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخِلَافَةَ أَرَادَ جَمْعَ مَا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ مِمَّا مُوِّهَ بِهِ مِنْ الذَّهَبِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَرَكَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّالِثُ) : فُهِمَ مِنْ تَنْصِيصِ النَّاظِمِ عَلَى اخْتِصَاصِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْمَنْعِ إبَاحَةُ التَّحَلِّي بِالْجَوْهَرِ وَنَحْوِهِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي بَعْضِ أَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي الزَّجْرِ عَنْ اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالتَّحَلِّي بِهِمَا. (الرَّابِعُ) : فِي بَعْضِ أَحَادِيثَ عَنْ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَدَتْ فِي الزَّجْرِ عَنْ اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالتَّحَلِّي بِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «إنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» . وَفِي أُخْرَى لَهُ «مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ» قَالَ فِي الْمَطَالِعِ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا فَمَنْ نَصَبَ جَعَلَ الْجَرْجَرَةَ بِمَعْنَى الصَّبِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الزَّجَّاجُ. أَيْ إنَّمَا يَصُبُّ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ. وَالْجَرْجَرَةُ الصَّوْتُ الْمُتَرَدِّدُ فِي الْحَلْقِ. وَجَرْجَرَ الْفَحْلُ: إذَا رَدَّدَ صَوْتَهُ فِي حَلْقِهِ. وَقَدْ يَصِحُّ النَّصْبُ عَلَى هَذَا أَيْضًا إذَا عُدِّيَ الْفِعْلُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَزْهَرِيُّ. قَالَ: وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي مُسْلِمٍ «كَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ» قَالَ: وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ النَّصْبِ. انْتَهَى. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا تَلْبِسُوا الْحَرِيرَ، وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الدِّيبَاجُ مَعْرُوفٌ مُعَرَّبٌ يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَرِيرِ، وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنْهُ وَهُوَ مُعَرَّبٌ لَا عَرَبِيٌّ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمٍ أَبَا طَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ وَشَرِبَ فِي الْفِضَّةِ فَلَيْسَ مِنَّا. وَمَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى مَوَالِيهِ فَلَيْسَ مِنَّا» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَلْبَسْ حَرِيرًا، وَلَا ذَهَبًا» رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَيْضًا وَالطَّبَرَانِيُّ وَرُوَاةُ الْإِمَامِ ثِقَاتٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي، وَهُوَ مُتَحَلِّي الذَّهَبِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِبَاسَهُ فِي الْجَنَّةِ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 مَطْلَبٌ: فِي حُرْمَةِ اتِّخَاذِ السِّتْرِ الْمُحْتَوِي عَلَى صُورَةٍ وَيَحْرُمُ سِتْرٌ أَوْ لِبَاسُ الْفَتَى الَّذِي ... حَوَى صُورَةً لِلْحَيِّ فِي نَصِّ أَحْمَدَ (وَيَحْرُمُ) عَلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ (سِتْرٌ) أَيْ اتِّخَاذُهُ حَيْثُ حَوَى صُورَةً (أَوْ) أَيْ وَيَحْرُمُ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ (لِبَاسُ الْفَتَى) أَرَادَ بِالْفَتَى هُنَا مَا يَعُمُّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْكُلِّ مِنْهُمَا لِبَاسُ الثَّوْبِ (الَّذِي حَوَى) هُوَ (صُورَةً) أَيْ مِثَالَ صُورَةٍ (لِلْحَيِّ) مِنْ الْحَيَوَانِ لِيَخْرُجَ الشَّجَرُ وَنَحْوُهُ، وَمَا أُزِيلَ مِنْهُ مَا لَا تَبْقَى مَعَهُ حَيَاةٌ (فِي نَصِّ) أَيْ مَنْصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَحْرُمُ عَلَى الْكُلِّ - يَعْنِي الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ - لُبْسُ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَنْبَغِي كَتَعْلِيقِهِ وَسَتْرِ الْجُدُرِ بِهِ وَتَصْوِيرِهِ لَا افْتِرَاشِهِ أَوْ جَعْلِهِ مِخَدًّا فَلَا يُكْرَهُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ «- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتَّكَأَ عَلَى مِخَدَّةٍ فِيهَا صُورَةٌ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِدُونِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. انْتَهَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ «النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ كُنْت جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَجَعَلَ يُفْتِي وَلَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اُدْنُهُ، فَدَنَا الرَّجُلُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ» وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حَسَنٍ «فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا» وَكَأَنَّ الْقَصْدَ طُولُ تَعْذِيبِهِ وَإِظْهَارُ عَجْزِهِ عَمَّا كَانَ تَعَاطَاهُ مُبَالَغَةً فِي تَوْبِيخِهِ وَبَيَانِ قُبْحِ فِعْلِهِ. فَقَوْلُهُ «لَيْسَ بِنَافِخٍ» أَيْ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُعَذَّبًا دَائِمًا. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْوَعِيدُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ. فَإِنَّ وَعِيدَ الْقَاتِلِ عَمْدًا يَنْقَطِعُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعَ وُرُودِ تَخْلِيدِهِ بِحَمْلِ التَّخْلِيدِ عَلَى مُدَّةٍ مَدِيدَةٍ. وَهَذَا الْوَعِيدُ أَشَدُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُغَيًّا بِمَا لَا يُمْكِنُ، وَهُوَ نَفْخُ الرُّوحِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُعَذَّبُ زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ يَتَخَلَّصُ. وَالْجَوَابُ تَعْيِينُ تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ بِحَمْلِهِ عَلَى إرَادَةِ الزَّجْرِ الشَّدِيدِ بِالْوَعِيدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 بِعِقَابِ الْكَافِرِ فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي الِارْتِدَاعِ، وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ. هَذَا فِي حَقِّ الْعَاصِي بِذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ مُسْتَحِلًّا فَلَا إشْكَالَ فِيهِ. وَالْحَاصِلُ حَمْلُ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إمَّا عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، وَإِمَّا عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَإِمَّا أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ جَزَاءُ هَذَا الْفِعْلِ أَنْ لَوْ جُوزِيَ، وَلَكِنَّ الْكَرَمَ وَالْحِلْمَ أَوْسَعُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَقَدَّمَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ طَرَفٌ مِنْ هَذَا. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ كَتْبِ الْقُرْآنِ فِي السِّتْرِ، وَمَا هُوَ مَظِنَّةُ بَذْلَةٍ وَفِي السِّتْرِ أَوْ مَا هُوَ مَظِنَّةُ بَذْلَةٍ ... لَيُكْرَهُ كَتْبٌ لِلْقُرْآنِ الْمُمَجَّدِ (وَ) تُكْرَهُ كِتَابَةُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ (فِي) نَحْوِ (السِّتْرِ) وَالْجُدْرَانِ (أَوْ) أَيْ وَكُلِّ (مَا) أَيْ الَّذِي (هُوَ مَظِنَّةُ بَذْلَةٍ) وَامْتِهَانٍ كَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا. وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِتَقْدِيرِ الْقَسَمِ يَعْنِي - وَاَللَّهِ - أَوْ التَّأْكِيدِ، وَلِذَا أَدْخَلَ اللَّامَ (لَيُكْرَهُ كَتْبٌ) أَيْ كِتَابَةٌ (لِلْقُرْآنِ) بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ (الْمُمَجَّدِ) أَيْ الْمُشَرَّفِ، فَإِنَّ الْمَجْدَ هُوَ الشَّرَفُ الْوَاسِعُ، وَقِيلَ الْمَاجِدُ هُوَ الْمِفْضَالُ عَلَى الْخَلْقِ الْكَثِيرِ الْعَطَاءِ لَهُمْ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «نَاوِلِينِي الْمَجِيدَ» أَيْ الْمُصْحَفَ هُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21] . مَطْلَبٌ: الذِّكْرُ نَوْعَانِ (فَائِدَةٌ) : ذَكَرَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنَّ الذِّكْرَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا ذِكْرُ أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا وَتَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَهَذَا أَيْضًا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا إنْشَاءُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا مِنْ الذَّاكِرِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَذْكُورِ فِي الْأَحَادِيثِ نَحْوُ (سُبْحَانَ اللَّهِ) وَ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وَ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) وَ (اللَّهُ أَكْبَرُ) إلَى مَا لَا يُحْصَى. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْخَبَرُ عَنْ الرَّبِّ تَعَالَى بِأَحْكَامِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، نَحْوُ قَوْلِك: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَسْمَعُ أَصْوَاتَ عِبَادِهِ، وَيَرَى حَرَكَاتِهِمْ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 قَدِيرٌ، وَهُوَ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ الْفَاقِدِ الْوَاجِدِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَفْضَلُ هَذَا النَّوْعِ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَا أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِمَا أَثْنَى بِهِ عَلَيْهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. وَهَذَا النَّوْعُ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: حَمْدٌ وَثَنَاءٌ وَمَجْدٌ. فَالْحَمْدُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ مَعَ مَحَبَّتِهِ وَالرِّضَا عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ الْمُحِبُّ السَّاكِتُ حَامِدًا. وَلَا الْمُثْنِي بِلَا مَحَبَّةٍ حَامِدًا حَتَّى يَجْتَمِعَ لَهُ الْمَحَبَّةُ وَالثَّنَاءُ، فَإِنْ كَرَّرَ الْمَحَامِدَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَانَتْ ثَنَاءً، فَإِنْ كَانَ الْمَدْحُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْمُلْكِ كَانَ مَجْدًا. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - لِعَبْدِهِ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، «فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي» . النَّوْعُ الثَّانِي: مِنْ الذِّكْرِ ذِكْرُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَهَذَا أَيْضًا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: ذِكْرُهُ بِذَلِكَ إخْبَارًا عَنْهُ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا، وَأَحَبَّ كَذَا وَسَخِطَ كَذَا. وَالثَّانِي: ذِكْرُهُ عِنْدَ أَمْرِهِ فَيُبَادِرُ إلَيْهِ. وَعِنْدَ نَهْيِهِ فَيَهْرُبُ مِنْهُ. فَذِكْرُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ شَيْءٌ وَذِكْرُهُ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ شَيْءٌ آخَرُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ ذَكَرْنَاهَا هُنَا لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْمَجْدِ وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - نَذْكُرُ عِنْدَ قَوْلِ النَّظْمِ، وَقُلْ فِي صَبَاحٍ إلَخْ بَعْضَ فَوَائِدِ فَرَائِدَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ كِتَابَةُ غَيْرِهِ ... مِنْ الذِّكْرِ فِي مَا لَمْ يُدَسْ وَيُمَهَّدْ (وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ كِتَابَةُ) شَيْءٍ مِنْ (غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْقُرْآنِ (مِنْ) بَقِيَّةِ (الذِّكْرِ) وَلَوْ قُدْسِيًّا (فِي مَا) الشَّيْءِ الَّذِي (لَمْ يُدَسْ) مِنْ سِتْرٍ وَجِدَارٍ وَثِيَابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَ) لَمْ (يُمَهَّدْ) أَيْ يُفْرَشْ، فَإِنْ كَانَ يُدَاسُ أَوْ يُفْرَشُ كُرِهَ صَوْنًا لَهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَلَّ لِمَنْ يَسْتَأْجِرُ الْبَيْتَ حَكُّهُ التَّ ... صَاوِيرَ كَالْحَمَّامِ لِلدَّاخِلِ اشْهَدْ (وَحَلَّ لِمَنْ) أَيْ لِلَّذِي (يَسْتَأْجِرُ الْبَيْتَ) وَنَحْوَهُ (حَكُّهُ) أَيْ حَكُّ الْمُسْتَأْجِرِ وَنَحْوُهُ (التَّصَاوِيرَ) الْمُصَوَّرَةَ عَلَى هَيْئَةِ ذِي رُوحٍ كَمَا مَرَّ (كَ) مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 يَحِلُّ حَكُّ التَّصَاوِيرِ الَّتِي عَلَى حِيطَانِ (الْحَمَّامِ) وَالْخَانِ وَنَحْوِهِمَا (لِلدَّاخِلِ) فِيهِمَا لِأَنَّهُ مِنْ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ (اشْهَدْ) بِصِحَّةِ ذَلِكَ وَاعْتَقِدْهُ فَإِنَّهُ فِقْهٌ جَيِّدٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِمَا فِيهِ غُنْيَةٌ. . مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ شِرَاءِ اللُّعْبَةِ لِلْيَتِيمَةِ: وَحَلَّ شِرَاهُ لِلْيَتِيمَةِ لُعْبَةً ... بِلَا رَأْسٍ إنْ تَطْلُبْ وَبِالرَّأْسِ فَاصْدُدْ (وَحَلَّ شِرَاهُ) أَيْ الْوَلِيِّ (لِلْيَتِيمَةِ) الْقَاصِرَةِ عَلَى دَرَجَةِ الْبُلُوغِ (لُعْبَةً) بِالضَّمِّ تِمْثَالًا تَلْعَبُ بِهِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ (بِلَا رَأْسٍ) حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ التَّصَاوِيرِ الْمُحَرَّمَةِ (إنْ تَطْلُبْ) الْيَتِيمَةُ ذَلِكَ فَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْحِلِّ إنْ لَمْ تَطْلُبْهُ وَلَيْسَ مُرَادًا، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِمَا يَأْتِي مِنْ النَّصِّ وَلِيَسْتَقِيمَ الْوَزْنُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (وَ) أَمَّا اللُّعْبَةُ (بِالرَّأْسِ) الَّذِي تَكُونُ بِهِ عَلَى هَيْئَةِ ذِي الرُّوحِ مِنْ الْحَيَوَانِ (فَاصْدُدْ) لَهَا عَنْ اللَّعِبِ بِهَا وَامْنَعْهَا. وَلَا يَشْتَرِي مَا كَانَ مِنْ ذَاكَ صُورَةً ... وَمِنْ مَالِهِ لَا مَالِهَا فِي الْمُجَرَّدِ (وَلَا يَشْتَرِي) الْوَلِيُّ (مَا) أَيْ الَّذِي (كَانَ) هُوَ (مِنْ ذَاكَ) اسْمُ الْإِشَارَةِ يَرْجِعُ إلَى الْمَذْكُورِ أَوْ التِّمْثَالِ، أَيْ وَلَا يَشْتَرِي مَا كَانَ مِنْ التِّمْثَالِ أَوْ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ (صُورَةً) أَيْ ذَا صُورَةٍ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ الْإِذْنُ لَهَا فِي اللَّعِبِ بِلُعَبٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ نَصَّ عَلَيْهِ. فَظَاهِرُ كَلَامِهِ عَدَمُ اخْتِصَاصِهِ بِالْيَتِيمَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلِذَا عَبَّرَ فِي الْإِقْنَاعِ بِقَوْلِهِ: وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لِلصَّغِيرَةِ أَنْ تَلْعَبَ بِلُعَبٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ، أَيْ بِلَا رَأْسٍ انْتَهَى. وَكَذَا فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِهِ، وَكَلَامُ النَّظْمِ يَخُصُّ الْيَتِيمَةَ. وَالْحَقُّ الشُّمُولُ لِقَضِيَّةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. قَالَ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي فَصْلِ وَالِي الْحِسْبَةِ: وَأَمَّا اللَّعِبُ فَلَيْسَ يُقْصَدُ بِهَا الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا إلْفُ الْبَنَاتِ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ، فَفِيهَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ يُقَارِنُهُ مَعْصِيَةٌ بِتَصْوِيرِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ وَمُشَابَهَةِ الْأَصْنَامِ، فَلِلتَّمْكِينِ مِنْهَا وَبِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ يَكُونُ إقْرَارُهُ وَإِنْكَارُهُ، يَعْنِي إنْ كَانَتْ قَرِينَةُ الْحَالِ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةَ أَقَرَّهُ، وَإِلَّا أَنْكَرَهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْإِنْكَارُ إذَا كَانَتْ عَلَى صُورَةِ ذَوَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 الْأَرْوَاحِ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْوَصِيِّ يَشْتَرِي لِلصَّبِيَّةِ لُعْبَةً إذَا طَلَبَتْ، فَقَالَ: إنْ كَانَتْ صُورَةً فَلَا. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كُنْت أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ» ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِلُعَبِ اللَّعِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا صُورَةٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صُورَةٌ فَلَا. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ وَمَعَهَا جَوَارٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ هَذَا خَيْلُ سُلَيْمَانَ قَالَ: فَجَعَلَ يَضْحَكُ مِنْ قَوْلِهَا» قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هُوَ غَرِيبٌ. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّهَا كَانَتْ فِي مَتَاعِ عَائِشَةَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَهُ مَخْصُوصًا مِنْ عُمُومِ الصُّوَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ الصُّوَرِ ثُمَّ نُسِخَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ. قُلْت: وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْخُصُوصِيَّةَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ. قَالَ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَجَائِزٌ لِلصَّبَايَا خَاصَّةً اللَّعِبُ بِالصُّوَرِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِنَّ، وَالصُّوَرُ مُحَرَّمَةٌ إلَّا هَذَا، وَإِلَّا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ. انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْت حُرْمَةَ كَوْنِهِ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ، وَكَذَا لُعْبَةٌ مَا لَمْ تَكُنْ عَلَى غَيْرِ صُورَةِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ مِنْ نَحْوِ شَجَرَةٍ أَوْ بِلَا رَأْسٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) حَيْثُ جَازَ شِرَاءُ الْوَلِيِّ لِلُّعْبَةِ فَثَمَنُهَا (مِنْ مَالِهِ) أَيْ مَالِ الْوَلِيِّ (لَا) مِنْ (مَالِهَا) أَيْ الْيَتِيمَةِ عَلَى مَا (فِي) كِتَابِ الْإِمَامِ الْأَوْحَدِ وَالْهُمَامِ الْأَمْجَدِ، حَامِلِ لِوَاءِ مَذْهَبِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ، وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ الْمُسَمَّى بِ (الْمُجَرَّدِ) . وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: وَلَهُ شِرَاؤُهَا بِمَالِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: بَلْ بِمَالِهِ. وَفِي التَّلْخِيصِ: هَلْ يَشْتَرِيهَا مِنْ مَالِهَا أَوْ مِنْ مَالِهِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ. وَفِي الْإِنْصَافِ: لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لِلصَّغِيرَةِ أَنْ تَلْعَبَ بِاللُّعَبِ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُصَوَّرَةٍ. وَشِرَاؤُهَا لَهَا بِمَالِهَا. نَصَّ عَلَيْهِمَا. وَهَذَا الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ: مِنْ مَالِهِ، وَصَحَّحَهُ النَّاظِمُ فِي آدَابِهِ، وَهُمَا احْتِمَالَانِ مُطْلَقَانِ فِي التَّلْخِيصِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 بَابِ اللِّبَاسِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: الْمُرَادُ بِالصُّورَةِ مَا لَهَا جِسْمٌ مَصْنُوعٌ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ. قُلْت: وَالْمُعْتَمَدُ لَهُ شِرَاؤُهَا مِنْ مَالِهَا كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَفِي نَصِّهِ أَكْرَهُ لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَا الرَّ ... قِيقَ سِوَى لِلزَّوْجِ يَخْلُو وَسَيِّدِ (وَفِي نَصِّهِ) أَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَكْرَهُ) أَيْ يُكْرَهُ (لِلرِّجَالِ) جَمْعُ رَجُلٍ، وَهُوَ الذَّكَرُ الْبَالِغُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَالْمُرَادُ هُنَا مُجَرَّدُ الذُّكُورِ (وَلِلنِّسَاءِ) مُجَرَّدُ الْإِنَاثِ (الرَّقِيقَ) أَيْ لُبْسَهُ مُفْرَدًا (سِوَى) مَا إذَا لَبِسَتْهُ الْمَرْأَةُ (لِلزَّوْجِ) أَيْ زَوْجِهَا (يَخْلُو) أَيْ فِي حَالَ خَلْوَتِهِ بِهَا فَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ (وَ) سِوَى مَا إذَا لَبِسَتْهُ أَمَةٌ لِ (سَيِّدِ) هَا فِي حَالِ خَلْوَتِهِ بِهَا فَكَذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ قَرِيبًا. مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ لُبْسِ الرَّقِيقِ وَتَطْوِيلِ اللِّبَاسِ وَتَقْصِيرِهِ: وَيُكْرَهُ تَقْصِيرُ اللِّبَاسِ وَطُولُهُ ... بِلَا حَاجَةٍ كِبْرًا وَتَرْكُ الْمُعَوَّدِ وَ (يُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (تَقْصِيرُ اللِّبَاسِ) أَيْ الْمَلْبُوسِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُكْرَهُ فَوْقَ نِصْفِ سَاقَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيْضًا: يُشَهِّرُ نَفْسَهُ. وَقَالَ فِي الْآدَابِ: قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ السُّنَّةُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَنَحْوِهِ مِنْ نِصْفِ السَّاقِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، فَلَا يَتَأَذَّى السَّاقُ بِحَرٍّ وَبَرْدٍ، وَلَا يَتَأَذَّى الْمَاشِي بِطُولِهِ وَيَجْعَلُهُ كَالْمُقَيَّدِ. وَيُكْرَهُ مَا نَزَلَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ ارْتَفَعَ عَنْهُ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُ الرَّجُلِ إلَى فَوْقِ نِصْفِ سَاقِهِ وَتَحْتَ كَعْبِهِ بِلَا حَاجَةٍ، وَلَا يُكْرَهُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ: مَطْلَبٌ: فِي حُكْمِ إسْبَالِ اللِّبَاسِ. (وَ) يُكْرَهُ أَيْضًا (طُولُهُ) أَيْ اللِّبَاسِ إلَى تَحْتِ كَعْبَيْهِ (بِلَا حَاجَةٍ) وَأَمَّا إذَا كَانَ لُبْسُهُ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ دَاعِيَةٍ لِذَلِكَ كَسَتْرِ سَاقٍ قَبِيحٍ مِنْ غَيْرِ خُيَلَاءَ، وَلَا تَدْلِيسٍ أُبِيحَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ إسْبَالُهُ لِلِّبَاسِ (كِبْرًا) أَيْ لِأَجْلِ الْكِبْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 فَأَطْلَقَ النَّاظِمُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ، وَالْأَصَحُّ الْحُرْمَةُ بَلْ هُوَ كَبِيرَةٌ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْإِسْبَالَ تَارَةً يَكُونُ خُيَلَاءَ وَتَارَةً لَا يَكُونُ. الْأَوَّلُ حَرَامٌ مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالثَّانِي تَارَةً يَكُونُ لِحَاجَةٍ وَأُخْرَى لَا. الْأَوَّلُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ مَا لَمْ يَقْصِدْ تَدْلِيسًا فَيَحْرُمُ، وَالثَّانِي مَكْرُوهٌ، وَهُوَ الْإِسْبَالُ بِلَا حَاجَةٍ، وَلَا خُيَلَاءَ وَلَا تَدْلِيسٍ، لِقَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ. وَظَاهِرُ النَّظْمِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ لَا خُيَلَاءَ وَلَا كِبْرَ. وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ صَاحِبُ النَّظْمِ وَقَالَ: الْأَوْلَى تَرْكُهُ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِرِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَنْ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ عَنْ جَرِّ الْإِزَارِ: إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ خُيَلَاءَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْحَابِ كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى لِلْعَلَّامَةِ ابْنِ مُفْلِحٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ارْتَدَى بِرِدَاءٍ ثَمِينٍ قِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانَ يَجُرُّهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَقِيلَ لَهُ: أَوَلَسْنَا نُهِينَا عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إنَّمَا ذَلِكَ لِذَوِي الْخُيَلَاءِ، وَلَسْنَا مِنْهُمْ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَدَمَ تَحْرِيمِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَرَاهَةِ، وَلَا عَدَمِهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ طُولُ قَمِيصِ الرَّجُلِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِلَى شِرَاكِ النَّعْلِ. وَهُوَ الَّذِي فِي الْمُسْتَوْعِبِ، وَطُولُ الْإِزَارِ إلَى مَرَاقِّ السَّاقَيْنِ، وَقِيلَ إلَى الْكَعْبَيْنِ انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الرَّدْعِ عَنْ جَرِّ الْإِزَارِ خُيَلَاءَ. وَلْنَذْكُرْ الْآنَ طَرَفًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الرَّدْعِ عَنْ جَرِّ الْإِزَارِ خُيَلَاءَ، وَعَنْ الْعُجْبِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهَذَا الشَّرْحِ، وَإِلَّا فَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي ذَلِكَ فَنَقُولُ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ» وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ قَالَ «إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى عَضَلَةِ سَاقِهِ، ثُمَّ إلَى نِصْفِ سَاقِهِ، ثُمَّ إلَى كَعْبِهِ، وَمَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ» . قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 الْإِزَارِ فَهُوَ فِي الْقَمِيصِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْإِزَارِ فَقَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ بِهَا سَقَطْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَلَا حَرَجَ، أَوْ قَالَ: لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، وَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ وَمَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ حُمَيْدٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ أَحْمَدُ كَأَنَّهُ يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْإِزَارُ إلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ أَوْ إلَى الْكَعْبَيْنِ، لَا خَيْرَ فِي أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْمُسْبِلُ هُوَ الَّذِي يُطَوِّلُ ثَوْبَهُ، وَيُرْسِلُهُ إلَى الْأَرْضِ كَأَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ تَجَبُّرًا وَاخْتِيَالًا. وَفِي لَفْظٍ «الْمُسْبِلُ إزَارَهُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ - وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَوْثِيقِهِ - عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ. مَنْ جَرَّ شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قُلْت: وَفِي ثُلَاثِيَّاتِ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ عَنْهُ جَمَعَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْمُتْقِنُ الْحُجَّةُ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ يَعْنِي بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ ابْنُ ابْنِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ يَقُولُ: يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ» . وَهُمَا وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا» وَهُمَا وَغَيْرُهُمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَيْضًا مَرْفُوعًا «مَنْ جَرَّ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ إزَارِي يَسْتَرْخِي إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّك لَسْت مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ» . وَلَفْظُ مُسْلِمٍ قَالَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ يَقُولُ «مَنْ جَرَّ إزَارَهُ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إلَّا الْمَخِيلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْخُيَلَاءُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا أَيْضًا وَبِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ مَمْدُودٌ هُوَ الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ. وَالْمَخِيلَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ الِاخْتِيَالِ وَهُوَ الْكِبْرُ وَاسْتِحْقَارُ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . قَوْلُهُ يَتَجَلْجَلُ بِجِيمَيْنِ أَيْ يَغُوصُ وَيَنْزِلُ فِيهَا. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ «بَيْنَا رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ يَخْتَالُ فِيهِمَا أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ رَأْسَهُ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَالْبَزَّارُ عَنْ جَابِرٍ أَحْسَبُهُ رَفَعَهُ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ فَتَبَخْتَرَ أَوْ اخْتَالَ فِيهَا فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ عَنْ الطَّبَرِيِّ أَنَّ اسْمَ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ الْهَيْزَنُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَعْرَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 فَارِسَ وَقِيلَ هُوَ قَارُونُ انْتَهَى. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَى اللَّهِ كَرِيمًا» . وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا «أَتَانِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ هَذِهِ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَلِلَّهِ فِيهَا عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ بِعَدَدِ شُعُورِ غَنَمِ كَلْبٍ، لَا يَنْظُرُ اللَّهُ فِيهَا إلَى مُشْرِكٍ، وَلَا إلَى سَاحِرٍ، وَلَا إلَى قَاطِعِ رَحِمٍ، وَلَا إلَى مُسْبِلٍ، وَلَا إلَى عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ، وَلَا إلَى مُدْمِنِ خَمْرٍ» وَأَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَقَالَ وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْهُ مَوْقُوفًا «مَنْ أَسْبَلَ إزَارَهُ فِي صَلَاتِهِ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَمٍ» . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَضْعَافُهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ تَدُلُّ دَلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى تَحْرِيمِ الْخُيَلَاءِ وَالْإِسْبَالِ كِبْرًا. فَإِنْ قُلْت: حَيْثُ كَانَ الْإِسْبَالُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمَا عُذْرُ النَّاظِمِ فِي جَعْلِهِ مَكْرُوهًا مَعَ الْكِبْرِ وَغَيْرَ مَكْرُوهٍ بِلَا كِبْرٍ؟ ،. قُلْت: النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقُولُ إنَّ الْكِبْرَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي نَفْسِ الْإِسْبَالِ هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ أَوْ لَا. وَأَمَّا الْكِبْرُ فَحَرَامٌ بِلَا شَكٍّ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْإِسْبَالَ خُيَلَاءَ حَرَامٌ أَيْضًا. مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ بَعْضِ مَثَالِبِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَاسْتَمِعْ الْآنَ إلَى بَعْضِ مَثَالِبِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمَا وَمِنْ كُلِّ فِعْلٍ يُوجِبُ غَضَبًا وَإِعْرَاضًا، وَعَذَابًا وَانْقِبَاضًا، إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ، رَءُوفٌ رَحِيمٌ. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ» . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْعُتُلُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ هُوَ الْغَلِيظُ الْجَافِي. وَالْجَوَّاظُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَبِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ، وَقِيلَ الضَّخْمُ الْمُخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَقِيلَ: الْقَصِيرُ الْبَطِينُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ» . وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْعِزُّ إزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعْنِي عَذَّبْتُهُ» . وَرَوَاهُ الْبَرْقَانِيُّ مِنْ الطَّرِيقِ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ بِلَفْظٍ «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْعِزُّ إزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحْدَهُ، وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثَةٌ لَا يُسْأَلُ عَنْهُمْ: رَجُلٌ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَهُ فَإِنَّ رِدَاءَهُ الْكِبْرُ، وَإِزَارَهُ الْعِزُّ، وَرَجُلٌ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» . وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةٍ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ عِبَادِ اللَّهِ؟ الْفَظُّ الْمُسْتَكْبِرُ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ؟ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ ذُو الطِّمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ، إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ جَابِرٍ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» . الْعَائِلُ بِالْمَدِّ هُوَ الْفَقِيرُ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى الْمَرْوَةِ فَتَحَدَّثَا، ثُمَّ مَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَبَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَبْكِي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ هَذَا يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ كَبَّهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ فِي النَّارِ» وَرُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ رُوَاةُ الصَّحِيحِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ صَحِيحَةٍ أَيْضًا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إنْسَانٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ فِي السُّوقِ، وَعَلَيْهِ حُزْمَةٌ مِنْ حَطَبٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يَحْمِلُك عَلَى هَذَا، وَقَدْ أَغْنَاك اللَّهُ عَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَدْفَعَ الْكِبْرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ خَرْدَلَةٍ مِنْ كِبْرٍ» وَرَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ «مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ الْمُتَكَبِّرُونَ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الثَّرْثَارُ بِثَاءَيْنِ مُثَلَّثَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَتَكْرِيرِ الرَّاءِ هُوَ الْكَثِيرُ الْكَلَامِ تَكَلُّفًا. وَالْمُتَشَدِّقُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِمِلْءِ فِيهِ تَفَاصُحًا وَتَعَاظُمًا وَاسْتِعْلَاءً. وَهُوَ مَعْنَى الْمُتَفَيْهِقِ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْخُلُقِ الْحَسَنِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَان، يُسَاقُونَ إلَى سَجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ: بُولَسُ تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ» . بُولَسُ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ. وَالْخَبَالُ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي مَرْفُوعِ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 وَفِي الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يُجَاءُ بِالْجَبَّارِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ رِجَالٌ فِي صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُمْ النَّاسُ مِنْ هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: ثُمَّ يُذْهَبُ بِهِمْ إلَى نَارِ الْأَنْيَارِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا نَارُ الْأَنْيَارِ؟ قَالَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» . بَطَرُ الْحَقِّ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمِيعًا هُوَ دَفْعُهُ وَرَدُّهُ. وَغَمْطُ النَّاسِ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ وَكَذَلِكَ غَمْصُهُمْ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَاللَّفْظُ لَهُ وَرُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ أَوْ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ لَقِيَ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ غَرِيبٌ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالِ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا وَلَهَا وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا وَطَغَى وَنَسِيَ الْمُبْتَدَأَ وَالْمُنْتَهَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشَّهَوَاتِ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ» . وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ الْعُجْبُ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - " لَبِسْتُ مَرَّةً دِرْعًا جَدِيدًا فَجَعَلْت أَنْظُرُ إلَيْهِ، وَأَعْجَبُ بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا دَخَلَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 الْعُجْبُ بِزِينَةِ الدُّنْيَا مَقَتَهُ رَبُّهُ حَتَّى يُفَارِقَ تِلْكَ الزِّينَةَ؟ قَالَتْ فَنَزَعْتُهُ فَتَصَدَّقْتُ بِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَسَى ذَلِكَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكِ مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْعُجْبِ، وَبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِبْرِ. تَنْبِيهَاتٌ: (الْأَوَّلُ) : قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْعُجْبُ بِالضَّمِّ: الزَّهْوُ وَالْكِبْرُ. وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْكِبْرِ: هُوَ مُعَظِّمُ الشَّيْءِ وَالشَّرَفُ وَيُضَمُّ، وَالْإِثْمُ الْكَبِيرُ، كَالْكِبْرَةِ، بِالْكَسْرِ الرِّفْعَةِ فِي الشَّرَفِ وَالْعَظَمَةِ، وَالتَّجَبُّرُ كَالْكِبْرِيَاءِ، وَقَدْ تَكَبَّرَ وَاسْتَكْبَرَ وَتَكَابَرَ، وَكَصُرَدٍ جَمْعُ الْكُبْرَى. انْتَهَى. فَقَدْ فَسَّرَ الْعُجْبَ بِالْكِبْرِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا فَسَّرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا دَقِيقًا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ، مِنْهُمْ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ فَقَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ الْكِبْرَ خُلُقٌ بَاطِنٌ يَصْدُرُ عَنْهُ أَعْمَالٌ، وَذَلِكَ الْخُلُقُ هُوَ رُؤْيَةُ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ، وَيُفَارِقُهُ الْعُجْبُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكِبْرَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ، وَالْعُجْبُ يُتَصَوَّرُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ غَيْرُ الْمُعْجَبِ. وَالْمُتَكَبِّرِ يَرَى نَفْسَهُ أَعْلَى مِنْ الْغَيْرِ فَتَحْصُلُ لَهُ هِزَّةٌ وَفَرَحٌ، وَرُكُونٌ لَهُ إلَى مَا اعْتَقَدَهُ، وَذَلِكَ نَفْخُ الشَّيْطَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ الشَّيْطَانِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفْخِهِ قَالَ: هَمْزُهُ الْمَوْتَةُ، وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ الْكِبْرِيَاءُ» . . مَطْلَبٌ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَهَابَةِ وَالْكِبْرِ وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الرَّوْحِ الْكُبْرَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَهَابَةِ وَالْكِبْرِ: إنَّ الْمَهَابَةَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ امْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِجْلَالِهِ، فَإِذَا امْتَلَأَ الْقَلْبُ بِذَلِكَ حَلَّ فِيهِ النُّورُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَأُلْبِسَ رِدَاءَ الْهَيْبَةِ، فَاكْتَسَى وَجْهُهُ الْحَلَاوَةَ وَالْمَهَابَةَ، فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ مَحَبَّةً وَمَهَابَةً، فَحَنَّتْ إلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ، وَقَرَّتْ بِهِ الْعُيُونُ، وَأَنِسَتْ بِهِ الْقُلُوبُ، فَكَلَامُهُ نُورٌ، وَمَدْخَلُهُ نُورٌ، وَمَخْرَجُهُ نُورٌ، وَعِلْمُهُ نُورٌ، إنْ سَكَتَ عَلَاهُ الْوَقَارُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ أَخَذَ بِالْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 قَالَ: وَأَمَّا الْكِبْرُ فَأَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْعُجْبِ وَالْبَغْيِ مِنْ قَلْبٍ قَدْ امْتَلَأَ بِالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، تَرَحَّلَتْ مِنْهُ الْعُبُودِيَّةُ وَنَزَلَ عَلَيْهِ الْمَقْتُ، فَنَظَرُهُ إلَى النَّاسِ شَزْرٌ، وَمَشْيُهُ بَيْنَهُمْ تَبَخْتُرٌ، وَمُعَامَلَتُهُ لَهُمْ مُعَامَلَةُ الِاسْتِيثَارِ لَا الْإِيثَارِ، وَلَا الْإِنْصَافِ، ذَاهِبٌ بِنَفْسِهِ تِيهًا، لَا يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسَّلَامِ، وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ رَأَى أَنَّهُ قَدْ بَالَغَ فِي الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، لَا يَنْطَلِقُ لَهُمْ وَجْهُهُ، وَلَا يَسَعُهُمْ خُلُقُهُ، وَلَا يَرَى لِأَحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا، وَيَرَى حُقُوقَهُ عَلَى النَّاسِ، وَلَا يَرَى فَضْلَهُمْ عَلَيْهِ، وَيَرَى فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَزْدَادُ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا، وَلَا مِنْ النَّاسِ إلَّا صَغَارًا وَبُغْضًا. . مَطْلَبٌ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّيَانَةِ وَالتَّكَبُّرِ وَقَالَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّيَانَةِ وَالتَّكَبُّرِ: إنَّ الصَّائِنَ لِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ قَدْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا نَقِيَّ الْبَيَاضِ ذَا ثَمَنٍ، فَهُوَ يَدْخُلُ بِهِ عَلَى الْمُلُوكِ فَمَنْ دُونَهُمْ، فَهُوَ يَصُونُهُ عَنْ الْوَسَخِ وَالْغُبَارِ، وَالطُّبُوعِ وَأَنْوَاعِ الْآثَارِ إبْقَاءً عَلَى بَيَاضِهِ وَنَقَائِهِ، إلَى آخِرِ كَلَامِهِ قَالَ: بِخِلَافِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ فَإِنَّهُ، وَإِنْ شَابَهُ هَذَا فِي تَعَزُّزِهِ وَتَجَنُّبِهِ فَهُوَ يَقْصِدُ أَنْ يَعْلُوَ رِقَابَهُمْ وَيَجْعَلَهُمْ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَذَاكَ لَوْنٌ، فَجَعَلَ الْكِبْرَ أَثَرًا مِنْ آثَارِ الْعُجْبِ وَثَمَرَةً مِنْ ثَمَرَاتِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْكِبْرِ الْعُجْبَ، فَإِنَّ مَنْ أُعْجِبَ بِشَيْءٍ تَكَبَّرَ بِهِ. قَالَ فِي تَعْرِيفِ التِّيهِ: هُوَ خُلُقٌ مُتَوَلِّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إعْجَابُهُ بِنَفْسِهِ، وَإِزْرَاؤُهُ بِغَيْرِهِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ التِّيهُ. (الثَّانِي) : قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ ذَكَرْت طَرَفًا مِنْهَا «الْعِزُّ إزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي» عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، فَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ؟ قَالَ الْخَطَّابِيُّ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَجُمُوعٌ: إنَّ الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ صِفَتَانِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اُخْتُصَّ بِهِمَا فَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَتَعَاطَاهُمَا، لِأَنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ، وَضَرَبَ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ مَ وَجَلَّ اُخْتُصَّ بِهِمَا فَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَتَعَاطَاهُمَا، لِأَنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ، وَضَرَبَ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ مَثَلًا يَقُولُ كَمَا لَا يَشْرَكُ الْإِنْسَانَ فِي رِدَائِهِ وَإِزَارِهِ أَحَدٌ فَكَذَلِكَ لَا يَشْرَكُنِي فِي الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ مَخْلُوقٌ. . مَطْلَبٌ: التَّكَبُّرُ عَلَى الْخَلْقِ قِسْمَانِ، وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ (الثَّالِثُ) :: التَّكَبُّرُ عَلَى الْخَلْقِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا التَّكَبُّرُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، مِنْ جِهَةِ تَرَفُّعِ النَّفْسِ عَنْ الِانْقِيَادِ لِلْبَشَرِ، وَرُبَّمَا عَرَفَتْ النُّفُوسُ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ وَمَا جَاءُوا بِهِ فَيَمْنَعُهَا الْكِبْرُ عَنْ الِانْقِيَادِ وَالِانْفِعَالِ لَهُمْ، وَهَذَا كُفْرٌ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: التَّكَبُّرُ عَلَى الْخَلْقِ سِوَى مَنْ قَدَّمْنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ عَظِيمٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ لَا تَلِيقُ إلَّا بِالْمَلِكِ الْقَادِرِ لَا بِالْعَبْدِ الْعَاجِزِ. ثُمَّ إنَّهُ يَتَكَبَّرُ بِمَا لَيْسَ لَهُ وَلَا خَلَقَ شَيْئًا مِنْهُ، وَأَمْرُهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَرْبُوبٌ مَقْهُورٌ. إنْ أُعْجِبَ بِجَمَالِهِ فَجَمَالُهُ لَيْسَ هُوَ مَنْ صَنَعَهُ. أَوْ بِعِلْمِهِ فَعِلْمُهُ لَيْسَ مِنْ وُسْعِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَقَّلُ كَيْفَ يَعْلَقُ الْعِلْمُ بِالْقَلْبِ، وَلَا يُدْرِكُ كَيْفَ يَعْقِلُ فِي الْحَافِظَةِ، وَلَا يُحِيطُ بِكُنْهِ حَقَائِقِ الْحُرَّاسِ الْبَاطِنَةِ. وَمَنْ كَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ يَعْجَبُ وَيَتَكَبَّرُ؟ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكِبْرَ يَدْعُو إلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ يَأْنَفُ مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ. وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» وَرُبَّمَا تَكَبَّرَ الْعَالِمُ وَاحْتَقَرَ النَّاسَ، وَيَرَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ أَعْلَى مِنْهُمْ مَنْزِلَةً، وَلَيْسَ هَذَا بِعَالِمٍ بَلْ ظَالِمٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الَّذِي يُعَرِّفُ الْإِنْسَانَ نَفْسَهُ، وَيُعَلِّمُهُ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَزِيدُهُ خَوْفًا. وَلِذَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ ازْدَادَ عِلْمًا ازْدَادَ وَجَعًا. وَرُبَّمَا كَانَ الْعِلْمُ حُجَّةً عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُبَّمَا تَكَبَّرَ الْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ، وَلَعَلَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ. وَرُبَّمَا تَكَبَّرَ صَاحِبُ النَّسَبِ بِنَسَبِهِ وَنَسِيَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَرُبَّمَا تَكَبَّرَ الْغَنِيُّ بِغِنَاهُ، وَلَوْ عَرَفَ الْمِسْكِينُ آفَةَ الْغِنَى وَشَرَفَ الْفَقْرِ، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى الْكَافِرَ مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ، وَأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ إلَى الْجَنَّةِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، لَمَا تَكَبَّرَ بِهَا. . مَطْلَبٌ: الْكِبْرُ الَّذِي لَا يُدْخِلُ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ هُوَ كِبْرُ الْكُفْرِ. (الرَّابِعُ) : تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ. وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: الْكِبْرُ غَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَذُو الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُخَلَّدٍ فِي النَّارِ، وَلَا تُوجِبُ دُخُولَهُ لَهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا إذَا مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّا نَعْنِي بِالْكِبْرِ الَّذِي لَا يُدْخِلُ صَاحِبَهُ الْجَنَّةَ كِبْرَ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَتَكَبَّرُ عَلَى الْخَالِقِ لِفَرْطِ جَهْلِهِ فَيَكْفُرُ بِهِ، وَلَا يَعْبُدُهُ، وَرُبَّمَا تَكَبَّرَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَهَذَا كَافِرٌ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَبَدًا. قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» يَعْنِي كِبْرَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَابَلَهُ فِي نَقِيضِهِ بِالْإِيمَانِ فَقَالَ: وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ، أَرَادَ دُخُولَ تَأْبِيدٍ. وَقِيلَ: أَرَادَ إذَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ نُزِعَ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ الْكِبْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مِنْ بَطَرِ الْحَقِّ» هَذَا الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ ذُو الْكِبْرِ، أَوْ لَكِنْ الْكِبْرُ كِبْرُ مَنْ بَطَرَ الْحَقَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189] . انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَنْشَأِ الْعُجْبِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ. (الْخَامِسُ) : الْعَجَبُ إنَّمَا يَكُونُ وَيُوجَدُ مِنْ الْإِنْسَانِ لِاسْتِشْعَارِ وَصْفِ كَمَالٍ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ اسْتَعْظَمَهُ فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِطَاعَتِهِ، وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّهَا جَعَلَتْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَوْضِعًا، وَأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ بِهَا جَزَاءً، وَيَكُونُ قَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ، فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحُّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» وَرُبَّمَا مَنَعَهُ عُجْبُهُ مِنْ الِازْدِيَادِ، وَلِهَذَا قَالُوا: عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ. وَمَا أَضَرَّ الْعُجْبَ بِالْمَحَاسِنِ. وَسَبَبُ الْعُجْبِ وَعِلَّتُهُ الْجَهْلُ الْمَحْضُ. وَمَنْ أُعْجِبَ بِطَاعَتِهِ مَثَلًا فَمَا فَهِمَ أَنَّهَا بِالتَّوْفِيقِ حَصَلَتْ. فَإِنْ قَالَ: رَآنِي أَهْلًا لَهَا فَوَفَّقَنِي. قِيلَ لَهُ: فَتِلْكَ نِعْمَةٌ مِنْ مَنِّهِ وَفَضْلِهِ فَلَا تُقَابَلُ بِالْإِعْجَابِ. وَفِي صَيْدِ الْخَاطِرِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ -: إذَا تَمَّ عِلْمُ الْإِنْسَانِ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ عَمَلًا، وَلَمْ يُعْجَبْ بِهِ لِأَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّهُ وُفِّقَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَحَبَّبَ إلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ. وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا قِيسَ بِالنِّعَمِ لَمْ يَفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 بِمِعْشَارِ عُشْرِهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا لُوحِظَتْ عَظَمَةُ الْمَخْدُومِ اُحْتُقِرَ كُلُّ عَمَلٍ وَتَعَبُّدٍ. هَذَا إذَا سَلِمَ مِنْ شَائِبَةٍ وَخَلَصَ مِنْ غَفْلَةٍ، فَأَمَّا وَالْغَفَلَاتُ تُحِيطُ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُغَلِّبَ الْحَذَرَ مِنْ رَدِّهِ وَيَخَافَ الْعِقَابَ عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهِ فَيَشْتَغِلَ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهِ، وَتَأَمَّلْ عَلَى الْفُطَنَاءِ أَحْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ. فَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ قَالُوا: مَا عَبَدْنَاك حَقَّ عِبَادَتِك. وَالْخَلِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] وَمَا دَلَّ بِصَبْرِهِ عَلَى النَّارِ وَتَسْلِيمِهِ الْوَلَدَ إلَى الذَّبْحِ. وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَا مِنْكُمْ مَنْ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» . وَعُمَرُ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعًا عَلَى الْأَرْضِ لَافْتَدَيْت بِهَا مِنْ هَوْلِ مَا أَمَامِي قَبْلَ (أَنْ) أَعْلَمَ مَا الْخَبَرُ. وَابْنُ مَسْعُودٍ: يَقُولُ: وَدِدْت إذْ مِتُّ لَا أُبْعَثُ. وَعَائِشَةُ تَقُولُ: لَيْتَنِي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ صُلَحَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مَا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْإِفْهَامِ لِمَا شَرَحْته؛ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى أَعْمَالِهِمْ فَأَدَلُّوا بِهَا. مَطْلَبٌ: حِكَايَةُ الْعَابِدِ. فَمِنْهُ حَدِيثُ الْعَابِدِ الَّذِي تَعَبَّدَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ فِي جَزِيرَةٍ، وَأَخْرَجَ لَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً، وَسَأَلَ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُمِيتَهُ فِي سُجُودِهِ، فَإِذَا حُشِرَ قِيلَ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، قَالَ بَلْ بِعَمَلِي، فَيُوزَنُ جَمِيعُ عَمَلِهِ بِنِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَفِي، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ بِرَحْمَتِك. قُلْت: هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هَرِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. قَالَ جَابِرٌ «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّ لِلَّهِ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ عَبَدَ اللَّهَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ، عَرْضُهُ وَطُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَأَخْرَجَ لَهُ عَيْنًا عَذْبَةً بِعَرْضِ الْأُصْبُعِ تَبِضُّ بِمَاءٍ عَذْبٍ، فَيَسْتَنْقِعُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 أَسْفَلِ الْجَبَلِ، وَشَجَرَةَ رُمَّانٍ تُخْرِجُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً يَتَعَبَّدُ يَوْمَهُ فَإِذَا أَمْسَى نَزَلَ فَأَصَابَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَأَخَذَ تِلْكَ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا ثُمَّ قَامَ لِصَلَاتِهِ فَسَأَلَ رَبَّهُ عِنْدَ وَقْتِ الْأَجَلِ أَنْ يَقْبِضَهُ سَاجِدًا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْأَرْضِ، وَلَا لِشَيْءٍ يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ سَبِيلًا حَتَّى يَبْعَثَهُ، وَهُوَ سَاجِدٌ قَالَ فَفَعَلَ فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إذَا هَبَطْنَا، وَإِذَا خَرَجْنَا فَنَجِدُ لَهُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي فَيَقُولُ اللَّهُ: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ، فَيُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلًا عَلَيْهِ فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ فَيُجَرُّ إلَى النَّارِ فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِك أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: رُدُّوهُ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ يَا عَبْدِي مَنْ خَلَقَك، وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: مَنْ قَوَّاك لِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْزَلَك فِي جَبَلٍ وَسَطَ اللُّجَّةِ، وَأَخْرَجَ لَك الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنْ الْمَاءِ الْمَالِحِ، وَأَخْرَجَ لَك كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، وَسَأَلْتَهُ أَنْ يَقْبِضَك سَاجِدًا فَفَعَلَ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ قَالَ: فَذَلِكَ بِرَحْمَتِي، وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُك الْجَنَّةَ، أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْتَ يَا عَبْدِي فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ جِبْرِيلُ: إنَّمَا الْأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ» . مَطْلَبٌ: حِكَايَةُ مَنْ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ الصَّخْرَةُ. وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْغَارِ الَّذِينَ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ الصَّخْرَةُ وَقَدْ قَدَّمْت حَدِيثَهُمْ. قَالَ: فَإِنَّ أَحَدَهُمْ تَوَسَّلَ بِعَمَلٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى الزِّنَا ثُمَّ خَافَ الْعُقُوبَةَ فَتَرَكَهُ. فَلَيْتَ شِعْرِي بِمَاذَا يُدِلُّ مَنْ خَافَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى شَيْءٍ فَتَرَكَهُ لِخَوْفِ الْعُقُوبَةِ إنَّمَا لَوْ كَانَ مُبَاحًا فَتَرَكَهُ كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ. وَلَوْ فَهِمَ لَشَغَلَهُ خَجَلُ التُّهْمَةِ عَنْ الْإِدْلَالِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَالْآخَرُ تَرَكَ صِبْيَانَهُ يَتَضَاغَوْنَ إلَى الْفَجْرِ لِيَسْقِيَ أَبَوَيْهِ اللَّبَنَ. وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْبِرِّ أَذًى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 لِلْأَطْفَالِ. قَالَ: وَلَكِنَّ الْفَهْمَ عَزِيزٌ. وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا أَحْسَنُوا قَالَ لِسَانُ الْحَالِ: أَعْطُوهُمْ مَا طَلَبُوا فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أُجْرَةَ مَا عَمِلُوا. ثُمَّ قَالَ: وَلَوْلَا عِزَّةُ الْفَهْمِ مَا تَكَبَّرَ مُتَكَبِّرٌ عَلَى جِنْسِهِ، وَلَكَانَ كُلُّ كَامِلٍ خَائِفًا مُحْتَقِرًا لِعَمَلِهِ حَذِرًا مِنْ التَّقْصِيرِ فِي شُكْرِ مَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ. وَفَهْمُ هَذَا الْمَشْرُوحِ يُنَكِّسُ رَأْسَ الْكِبْرِ وَيُوجِبُ مُسَاكَنَةَ الذُّلِّ. وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: عَجِبْت لِمَنْ يَعْجَبُ بِصُورَتِهِ، وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَيَنْسَى مَبْدَأَ أَمْرِهِ، إنَّمَا أَوَّلُهُ لُقْمَةٌ ضَمَّتْ إلَيْهَا جَرْعَةَ مَاءٍ، فَإِنْ شِئْت فَقُلْ كِسْرَةَ خُبْزٍ مَعَهَا تَمَرَاتٌ، وَقِطْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ، وَمَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ، وَجَرْعَةٌ مِنْ مَاءٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، طَبَخَتْهُ الْكَبِدُ، فَأَخْرَجَتْ مِنْهُ قَطَرَاتِ مَنِيٍّ فَاسْتَقَرَّتْ فِي الْأُنْثَيَيْنِ، فَحَرَّكَتْهَا الشَّهْوَةُ، فَبَقِيَتْ فِي بَطْنِ الْأُمِّ مُدَّةً حَتَّى تَكَامَلَتْ صُورَتُهَا، فَخَرَجَتْ طِفْلًا تَتَقَلَّبُ فِي خِرَقِ الْبَوْلِ. وَأَمَّا آخِرُهُ فَإِنَّهُ يُلْقَى فِي التُّرَابِ فَيَأْكُلُهُ الدُّودُ، وَيَصِيرُ رُفَاتًا تَسْفِيهِ السَّوَافِي. وَكَمْ يَخْرُجُ تُرَابُ بَدَنِهِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ، وَيُقَلَّبُ فِي أَحْوَالٍ إلَى أَنْ يَعُودَ فَيُجْمَعَ. وَأَمَّا الرُّوحُ فَإِنْ تَجَوْهَرَتْ بِالْأَدَبِ، وَتَقَوَّمَتْ بِالْعِلْمِ، وَعَرَفَتْ الصَّانِعَ، وَقَامَتْ بِحَقِّهِ، فَلَا يَضُرُّهَا نَقْضُ الْمُرَكَّبِ. وَإِنْ هِيَ بَقِيَتْ عَلَى طَبْعِهَا مِنْ الْجَهَالَةِ شَابَهَتْ الطِّينَ، بَلْ صَارَتْ إلَى أَخَسِّ حَالَةٍ مِنْهُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: اعْتَبَرْتُ عَلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ أَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ الْكِبْرَ. فَهَذَا يَنْظُرُ فِي مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَعُودُ مَرِيضًا فَقِيرًا يَرَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُ، حَتَّى رَأَيْتُ جَمَاعَةً يُومَأُ إلَيْهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا أُدْفَنُ إلَّا فِي دِكَّةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَيَعْلَمُ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَسْرَ عِظَامِ الْمَوْتَى، ثُمَّ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ادْفِنُونِي إلَى جَانِبِ مَسْجِدِي ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَزُورًا كَمَعْرُوفٍ، وَلَا يَعْلَمُونَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ تَكَبَّرَ» وَقَلَّ مَا رَأَيْتُ إلَّا وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ. وَالْعُجْبُ كُلُّ الْعُجْبِ مِمَّنْ يَرَى نَفْسَهُ. أَتُرَاهُ بِمَاذَا رَآهَا. إنْ كَانَ بِالْعِلْمِ فَقَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 سَبَقَهُ الْعُلَمَاءُ. أَوْ بِالتَّعَبُّدِ فَقَدْ سَبَقَهُ الْعُبَّادُ. أَوْ بِالْمَالِ فَالْمَالُ لَا يُوجِبُ بِنَفْسِهِ فَضِيلَةً دِينِيَّةً. فَإِنْ قَالَ: عَرَفْت مَا لَمْ يَعْرِفْ غَيْرِي مِنْ الْعِلْمِ فِي زَمَنِي فَمَا عَلَيَّ مِمَّنْ تَقَدَّمَ. قِيلَ لَهُ: مَا نَأْمُرُك يَا حَافِظَ الْقُرْآنِ أَنْ تَرَى نَفْسَك فِي الْحِفْظِ كَمَنْ يَحْفَظُ النِّصْفَ، وَلَا يَا فَقِيهُ أَنْ تَرَى نَفْسَك فِي الْعِلْمِ كَالْعَامِّيِّ إنَّمَا نَحْذَرُ عَلَيْك أَنْ تَرَى نَفْسَك خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُؤْمِنِ وَإِنْ قَلَّ عِلْمُهُ، فَإِنَّ الْخَيْرِيَّةَ بِالْمَعَانِي لَا بِصُوَرِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ خِصَالَ نَفْسِهِ وَذُنُوبَهَا عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الذُّنُوبِ وَالتَّقْصِيرِ، وَهُوَ مِنْ حَالِ غَيْرِهِ عَلَى شَكٍّ، فَاَلَّذِي نَحْذَرُ مِنْهُ الْإِعْجَابُ بِالنَّفْسِ وَرُؤْيَةُ التَّقَدُّمِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ. وَالْمُؤْمِنُ لَا يَزَالُ يَحْتَقِرُ نَفْسَهُ. وَقَدْ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إنْ مِتَّ نَدْفِنُك فِي حُجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: لَأَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِكُلِّ ذَنْبٍ غَيْرِ الشِّرْكِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى نَفْسِي أَهْلًا لِذَلِكَ. قَالَ - أَيْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -: وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ الرُّهْبَانِ رَأَى فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: فُلَانٌ الْإِسْكَافُ خَيْرٌ مِنْك، فَنَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَجَاءَ إلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ عَمَلِهِ، فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ كَبِيرَ عَمَلٍ. فَقِيلَ لَهُ فِي الْمَنَامِ عُدْ إلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ: مِمَّ صُفْرَةُ وَجْهِك؟ فَعَادَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْت مُسْلِمًا إلَّا وَظَنَنْتُهُ خَيْرًا مِنِّي، فَقِيلَ لَهُ: فَبِذَاكَ ارْتَفَعَ. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: الْعُجْبُ وَالْكِبْرُ مَذْمُومَانِ شَرْعًا وَطَبْعًا (السَّادِسُ) : الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ مَذْمُومَانِ شَرْعًا وَطَبْعًا أَمَّا الشَّرْعُ فَقَدْ عَلِمْتَ دَلِيلَهُ. وَأَمَّا الطَّبْعُ فَقَدْ عُلِمَ أَيْضًا مِمَّا مَرَّ وَنَزِيدُك أَيْضًا وُضُوحًا أَنَّ الْكِبْرَ حَرَكَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَخَطَرَاتٌ نَفْسَانِيَّةٌ يَتَرَكَّبُ مِنْ رُؤْيَةِ قَدْرِهِ، وَنُفُوذِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُصُورِ غَيْرِهِ مِنْ حَالِهِ، وَيُورِثُهُ اسْتِكْبَارًا عَنْ الْحَقِّ إذَا طُولِبَ بِهِ، وَإِقَامَةَ الْمَعَاذِيرِ لِنَفْسِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَالْغَيْبَةَ عَنْ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ الَّذِي هُوَ رَقِيبٌ عَلَيْهِ. فَلَوْ لَاحَظَ ذَلِكَ لَذَلَّتْ نَفْسُهُ، وَاعْتَدَلَ كِبْرُهُ، وَصَارَ عِزَّةً؛ إذْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَظُهُورُ صِفَاتِ النَّفْسِ غَالِبًا لَا يَجْتَمِعَانِ، اللَّهُمَّ إلَّا فِي نَاقِصِ الْبَصِيرَةِ، بِحَيْثُ يُبْصِرُ أَمْرًا وَيَغِيبُ عَنْ آخَرَ، فَقَدْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الْعَمَى مَا يَخْلُفُهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ الْوَاسِطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلِأَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ الْكِبْرِ أَنْ يَطْلُبَ إقَامَةَ جَاهِهِ، وَكَسْرَ غَيْرِهِ، وَالِانْتِقَامَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَا يَذْكُرَ أَحَدًا إلَّا انْتَقَصَهُ، وَذَكَرَ عُيُوبَهُ، وَنَسِيَ فَضَائِلَهُ، وَأَظْهَرَ فَضَائِلَ نَفْسِهِ، وَكُلُّ هَذَا مَذْمُومٌ طَبْعًا. وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي اقْتِفَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: فَجَمَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ نَوْعَيْ الِاسْتِطَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَطِيلَ إنْ اسْتَطَالَ بِحَقٍّ فَهُوَ الْمُفْتَخِرُ، وَإِنْ اسْتَطَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ الْبَاغِي. فَلَا يَحِلُّ لَا هَذَا، وَلَا هَذَا. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (تَتِمَّةٌ) فِي فَوَائِدَ تَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ: مَطْلَبٌ: التَّوَاضُعُ مَحْمُودٌ شَرْعًا وَطَبْعًا. (الْأُولَى) : التَّوَاضُعُ مَحْمُودٌ شَرْعًا وَطَبْعًا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا تَوَاضَعَ لِلَّهِ أَحَدٌ إلَّا رَفَعَهُ» . وَعَنْ نَصِيحٍ الْعَنْسِيِّ عَنْ رَكْبٍ الْمِصْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ فِي غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَذَلَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ وَصَلُحَتْ سَرِيرَتُهُ، وَكَرُمَتْ عَلَانِيَتُهُ، وَعَزَلَ عَنْ النَّاسِ شَرَّهُ طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَقَدْ حَسَّنَهُ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً يَرْفَعُهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً يَضَعُهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ» زَادَ ابْنُ حِبَّانَ «وَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ عَلَيْهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَخَرَجَ مَا غَيَّبَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَرُوَاتُهُمَا مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا أَعْلَمُهُ إلَّا رَفَعَهُ قَالَ «يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ تَوَاضَعَ لِي هَكَذَا، وَجَعَلَ يَزِيدُ بَاطِنَ كَفِّهِ إلَى الْأَرْضِ وَأَدْنَاهَا رَفَعْتُهُ هَكَذَا، وَجَعَلَ بَاطِنَ كَفِّهِ إلَى السَّمَاءِ وَرَفَعَهَا نَحْوَ السَّمَاءِ» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ «قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ أَيُّهَا النَّاسُ تَوَاضَعُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ قَالَ انْتَعِشْ نَعَشَك اللَّهُ فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيمٌ وَفِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ، وَمَنْ تَكَبَّرَ قَصَمَهُ اللَّهُ وَقَالَ اخْسَأْ فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيرٌ وَفِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ» . وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا فِي رَأْسِهِ حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِذَا تَوَاضَعَ قِيلَ لِلْمَلَكِ ارْفَعْ حَكَمَتَهُ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ ضَعْ حَكَمَتَهُ» وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْحَكَمَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْكَافِ هِيَ مَا يُجْعَلُ فِي رَأْسِ الدَّابَّةِ كَاللِّجَامِ وَنَحْوِهِ. وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ تَوَاضَعَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ رَفَعَهُ اللَّهُ. وَمَنْ ارْتَفَعَ عَلَيْهِ وَضَعَهُ اللَّهُ» . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا حَسَبَ إلَّا فِي التَّوَاضُعِ، وَلَا نَسَبَ إلَّا بِالتَّقْوَى، وَلَا عَمَلَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِالْيَقِينِ» . وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلْيَطْلُبْ بِالتَّوَاضُعِ شُكْرَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَكُورًا حَتَّى يَكُونَ مُتَوَاضِعًا» . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " إنَّ مِنْ التَّوَاضُعِ الرِّضَا بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمَجْلِسِ، وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ " كَانَ يُقَالُ: الْغِنَى فِي النَّفْسِ، وَالْكَرَمُ فِي التَّقْوَى، وَالشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ ". وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَجْلِسُ فِي أَوْضَعِ مَجَالِسِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَيَقُولُ: مِسْكِينٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مَسَاكِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وَكَانَ يُقَالُ: ثَمَرَةُ الْقَنَاعَةِ الرَّاحَةُ، وَثَمَرَةُ التَّوَاضُعِ الْمَحَبَّةُ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أَعْقَلَ النَّاسِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إذَا سُئِلَ الشَّرِيفُ تَوَاضَعَ، وَإِذَا سُئِلَ الْوَضِيعُ تَكَبَّرَ. وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرَ: وَجَدْنَا التَّوَاضُعَ مَعَ الْجَهْلِ وَالْبُخْلِ، أَحْمَدَ مِنْ الْكِبْرِ مَعَ الْأَدَبِ وَالسَّخَاءِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ لِلرَّشِيدِ: تَوَاضُعُك فِي شَرَفِك أَفْضَلُ مِنْ شَرَفِك. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: الْكِبْرُ ذُلٌّ وَالتَّوَاضُعُ رِفْعَةٌ ... وَالْمَزْحُ وَالضَّحِكُ الْكَثِيرُ سُقُوطُ وَالْحِرْصُ فَقْرٌ وَالْقَنَاعَةُ عِزَّةٌ ... وَالْيَأْسُ مِنْ صُنْعِ الْإِلَهِ قُنُوطُ وَقِيلَ: التَّوَاضُعُ سُلَّمُ الشَّرَفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ شَمَخَتْ الْجِبَالُ، وَتَوَاضَعَ الْجُودِيُّ فَرَفَعَهُ فَوْقَ الْجِبَالِ وَجَعَلَ قَرَارَ السَّفِينَةِ عَلَيْهِ فَسُبْحَانَ مَنْ تَوَاضَعَ كُلُّ شَيْءٍ لِعِزَّةِ جَبَرُوتِ عَظَمَتِهِ، وَخَضَعَ لِجَلَالِ عَظِيمِ حِكْمَتِهِ. مَطْلَبٌ: التَّوَاضُعُ لِغَنِيٍّ لِأَجْلِ غِنَاهُ مَذْمُومٌ. (الثَّانِيَةُ) مِنْ التَّوَاضُعِ الْمَذْمُومِ تَوَاضُعُك لِغَنِيٍّ لِأَجْلِ غِنَاهُ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِأَجْلِ غِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ خَضَعَ لِغَنِيٍّ وَوَضَعَ لَهُ نَفْسَهُ إعْظَامًا وَطَمَعًا فِيمَا قِبَلَهُ ذَهَبَ ثُلُثَا مُرُوءَتِهِ وَشَطْرُ دِينِهِ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ طُرُقٍ وَاهِيَةٍ حَتَّى ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَكُلُّ مَا يُرْوَى بِمَعْنَى ذَلِكَ فَهُوَ وَاهٍ. قَالَهُ فِي التَّمْيِيزِ. وَفِي الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَجَدْت فِي التَّوْرَاةِ أَرْبَعَةَ أَسْطُرٍ مُتَوَالِيَاتٍ إحْدَاهُنَّ مَنْ قَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَظَنَّ أَنْ لَنْ يَغْفِرَ لَهُ فَهُوَ مِنْ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ. الثَّانِيَةُ: وَمَنْ شَكَا مُصِيبَتَهُ فَإِنَّمَا شَكَا رَبَّهُ. الثَّالِثَةُ: مَنْ حَزِنَ عَلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ فَقَدْ سَخِطَ قَضَاءَ رَبِّهِ. وَالرَّابِعَةُ: مَنْ تَضَعْضَعَ لِغَنِيٍّ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -: التَّكَبُّرُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ تَوَاضُعٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ: أَظْلَمُ النَّاسِ لِنَفْسِهِ مَنْ تَوَاضَعَ لِمَنْ لَا يُكْرِمُهُ. مَطْلَبٌ: فِي بَعْضِ حِكَمٍ وَأَشْعَارٍ. (الثَّالِثَةُ) فِي بَعْضِ حِكَمٍ وَأَشْعَارٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ. قِيلَ - لِبَزَرْجَمْهَرَ -: أَيُّ الْعُيُوبِ أَعْسَرُ؟ قَالَ: الْعُجْبُ وَاللَّجَاجُ. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الْكِبْرُ وَالْإِعْجَابُ يَسْلُبَانِ الْفَضَائِلَ وَيُكْسِبَانِ الرَّذَائِلَ. وَمَرَّ بَعْضُ أَوْلَادِ الْمُهَلَّبِ بِمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا بُنَيَّ لَوْ تَرَكْتَ هَذَا الْخُيَلَاءَ لَكَانَ أَجْمَلَ، فَقَالَ أَوَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: أَعْرِفُك مَعْرِفَةً جَيِّدَةً، أَوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُكَ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَأَنْتَ بَيْنَ ذَلِكَ تَحْمِلُ الْعَذِرَةَ. فَأَرْخَى الْفَتَى رَأْسَهُ وَكَفَّ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْأَحْنَفُ: عَجِبْت لِمَنْ جَرَى فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ. وَنَظَرَ أَفْلَاطُونُ إلَى رَجُلٍ جَاهِلٍ مُعْجَبٍ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي مِثْلُكَ فِي ظَنِّك، وَأَنَّ أَعْدَائِي مِثْلُك فِي الْحَقِيقَةِ. وَرَأَى رَجُلًا يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ فَقَالَ: جَعَلَنِي اللَّهُ مِثْلَك فِي نَفْسِك، وَلَا جَعَلَنِي اللَّهُ مِثْلَك فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: تَتِيهُ وَجِسْمُك مِنْ نُطْفَةٍ ... وَأَنْتَ وِعَاءٌ لِمَا تَعْلَمُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَحْسَنُ أَخْلَاقِ الْفَتَى وَأَتَمُّهَا ... تَوَاضُعُهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ رَفِيعُ وَأَقْبَحُ شَيْءٍ أَنْ يَرَى الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... رَفِيعًا وَعِنْدَ الْعَالَمِينَ وَضِيعُ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ يَسَارًا كَتَبَ إلَى بَعْضِ الْوُلَاةِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ: لَا تَشْرَهَنَّ فَإِنَّ الذُّلَّ فِي الشَّرَهِ ... وَالْعِزَّ فِي الْحِلْمِ لَا فِي الطَّيْشِ وَالسَّفَهِ وَقُلْ لِمُغْتَبِطٍ فِي التِّيهِ مِنْ حُمْقٍ ... لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي التِّيهِ لَمْ تَتِهْ التِّيهُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَنْقَصَةٌ ... لِلْعَقْلِ مَهْلَكَةٌ لِلْعِرْضِ فَانْتَبِهْ وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِقْصَاءِ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي آفَاتِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَمَدْحِ التَّوَاضُعِ مِنْ الْمَنْثُورِ وَالْمَنْظُومِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ مُخَالَفَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ فِي اللِّبَاسِ] قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَ) يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ (تَرْكُ) لُبْسِ اللِّبَاسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 الْمُعَوَّدِ) أَيْ الْمُعْتَادِ لِلُبْسِهِ مِنْ قَمِيصٍ وَإِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَغَيْرِهَا. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ غَيْرِ زِيِّ بَلَدِهِ بِلَا عُذْرٍ كَمَا هُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ مُخَالَفَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ فِي اللِّبَاسِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْبَسَ مَلَابِسَ بَلَدِهِ لِئَلَّا يُشَارَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى غَيْبَتِهِ فَيُشَارِكَهُمْ فِي إثْمِ الْغَيْبَةِ لَهُ. وَفِي كِتَابِ التَّوَاضُعِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا مَرْفُوعًا «نَهَى عَنْ الشُّهْرَتَيْنِ» ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ. (فَائِدَةٌ) : سُئِلَ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيّ عَنْ طَالِبِ عِلْمٍ تَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ قُرَى الْبَرِّ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إلَى بِلَادِهِ وَعَشِيرَتِهِ تَزَيَّا بِزِيِّهِمْ وَتَرَكَ زِيَّ أَهْلِ الْعِلْمِ هَلْ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَجَابَ بِمَا مَعْنَاهُ لَمَّا اتَّصَفَ بِالصِّفَتَيْنِ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي أَيِّ الزِّيَّيْنِ تَزَيَّا، لِأَنَّهُ إنْ تَزَيَّا بِزِيِّ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ بَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ وَلِأَنَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ. وَهَذَا وَاضِحٌ. وَلَعَلَّ كَلَامَ عُلَمَائِنَا لَا يُخَالِفُهُ. وَمُرَادُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: وَيُكْرَهُ خِلَافُ زِيِّ بَلَدِهِ يَعْنِي بِلَا حَاجَةٍ تَدْعُو إلَى خِلَافِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ صَارَ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَزَيَّا بِزِيِّهِمْ فِي أَيِّ مِصْرٍ كَانَ أَوْ بَلْدَةٍ كَانَتْ غَالِبًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَطْوَلُ ذَيْلِ الْمَرْءِ لِلْكَعْبِ وَالنِّسَا ... بِلَا الْأُزُرِ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا لِتَزْدَدْ (وَأَطْوَلُ ذَيْلِ) ثَوْبِ (الْمَرْءِ) يَعْنِي الذَّكَرَ أَيْ يَنْتَهِي طُولُهُ إِ (لَ) ى (الْكَعْبِ) وَاحِدُ الْكَعْبَيْنِ، وَهُمَا الْعَظْمَاتُ النَّاتِئَانِ فِي جَانِبَيْ الرِّجْلِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكَعْبُ هُوَ الْعَظْمُ النَّاشِزُ عِنْدَ مُلْتَقَى السَّاقِ وَالْقَدَمِ. وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ قَوْلَ النَّاسِ: إنَّهُ فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى. مَطْلَبٌ: تَطْوِيلِ ذَيْلِ النِّسَاءِ. (وَ) أَطْوَلُ ذَيْلِ ثَوْبِ (النِّسَاءِ) حَيْثُ كُنَّ لَابِسَاتِهِ (بِلَا) لُبْسِ (الْأُزُرِ) جَمْعُ إزَارٍ وَهُوَ الَّذِي يُشَدُّ عَلَى الْحَقْوَيْنِ فَمَا تَحْتَهُمَا، وَيُجْمَعُ جَمْعَ قِلَّةٍ عَلَى آزِرَةٍ وَجَمْعَ الْكَثْرَةِ أُزُرٌ بِضَمَّتَيْنِ مِثْلُ حِمَارٍ وَحُمُرٌ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَيُقَالُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 إزَارٌ لَبِسْتُهُ وَلَبِسْتُهَا وَالْمِئْزَرُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِثْلُهُ وَالْجَمْعُ مَآزِرُ وَائْتَزَرْتُ لَبِسْت الْإِزَارَ وَأَصْلُهُ بِهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى هَمْزَةُ وَصْلٍ وَالثَّانِيَةُ تَاءُ " افْتَعَلْتُ. إذَا عَلِمْت هَذَا فَيَكُونُ انْتِهَاءُ طُولِ ذَيْلِ ثَوْبِ الْمَرْأَةِ حَيْثُ لَا إزَارَ وَهُوَ الْمِلْحَفَةُ إمَّا (شِبْرًا) وَهُوَ بِالْكَسْرِ مَا بَيْنَ أَعْلَى الْإِبْهَامِ وَأَعْلَى الْخِنْصِرِ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَجَمْعُهُ أَشْبَارٌ (أَوْ) يَكُونُ انْتِهَاءُ ذَيْلِ ثَوْبِهَا (ذِرَاعًا) بِذِرَاعِ الْيَدِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ طَرَفِ الْمِرْفَقِ إلَى طَرَفِ الْأُصْبُعِ الْوُسْطَى، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالتَّأْنِيثُ أَكْثَرُ، وَجَمْعُهُ أَذْرُعٌ وَذُرْعَانٌ بِالضَّمِّ. وَقَوْلُهُ (لِتَزْدَدْ) اللَّامُ لِلْأَمْرِ " وَتَزْدَدْ " فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ النِّسَاءَ حَيْثُ كُنَّ بِلَا أُزُرٍ، وَهِيَ الْمَلَاحِفُ كَنِسَاءِ الْبَرِّ وَنِسَاءِ الْعَرَبِ وَنَحْوِهِنَّ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُنَّ سَرَاوِيلُ وَلَا خِفَافٌ تَسْتُرُ أَقْدَامَهُنَّ يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ أَنْ تَكُونَ ذُيُولُ ثِيَابِهِنَّ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا تَزْدَادُ بِذَلِكَ الشِّبْرِ أَوْ الذِّرَاعِ عَنْ ذَيْلِ الرَّجُلِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَزِيدُ ذَيْلُ الْمَرْأَةِ عَلَى ذَيْلِ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ الشِّبْرِ إلَى الذِّرَاعِ، وَقَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ: هَذَا فِي حَقِّ مَنْ تَمْشِي بَيْنَ الرِّجَالِ كَنِسَاءِ الْعَرَبِ، فَأَمَّا نِسَاءُ الْمُدُنِ فِي الْبُيُوتِ فَذَيْلُهَا كَذَيْلِ الرَّجُلِ. وَفِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّ ذَيْلَ نِسَاءِ الْمُدُنِ فِي الْبُيُوتِ كَذَيْلِ الرِّجَالِ قَالَ: وَتُرْخِيهِ الْبَرْزَةُ وَنِسَاءُ الْبَرِّ عَلَى الْأَرْضِ دُونَ الذِّرَاعِ، وَقِيلَ مِنْ شِبْرٍ إلَى ذِرَاعٍ، وَقِيلَ يُكْرَهُ مَا نَزَلَ عَنْهُ أَوْ ارْتَفَعَ بِنَصٍّ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ نِسَاءِ الْمُدُنِ وَغَيْرِهِنَّ؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا قُلْت: إذَنْ تَبْدُو أَقْدَامُهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَذِرَاعٌ وَلَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» فَظَاهِرُ هَذَا كَرَاهَةُ مَا زَادَ عَلَى الذِّرَاعِ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَقَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ شِبْرًا، ثُمَّ اسْتَزَدْنَهُ فَزَادَهُنَّ شِبْرًا، فَكُنَّ يُرْسِلْنَ إلَيْنَا فَنَذْرَعُ لَهُنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 ذِرَاعًا» فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ قَدْرَ الذِّرَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَأَنَّهُ شِبْرَانِ بِشِبْرِ الْيَدِ الْمُعْتَدِلَةِ كَمَا فِي الْفَتْحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَشْرَفُ مَلْبُوسٍ إلَى نِصْفِ سَاقِهِ ... وَمَا تَحْتَ كَعْبٍ فَاكْرَهَنْهُ وَصَعِّدْ (وَأَشْرَفُ) بِمَعْنَى أَنْزَهُ وَأَفْضَلُ (مَلْبُوسِ) رَجُلٍ أَنْ يَكُونَ مُنْتَهِيًا (إلَى نِصْفِ سَاقِهِ) أَيْ سَاقِ الرَّجُلِ اللَّابِسِ لِذَلِكَ الْمَلْبُوسِ لِبُعْدِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالزَّهْوِ وَالْإِعْجَابِ (وَمَا) أَيْ وَالْمَلْبُوسُ الَّذِي يَنْتَهِي فِي إسْبَالِهِ حَتَّى يَصِلَ (تَحْتَ كَعْبِ) اللَّابِسِ (فَاكْرَهَنْهُ) أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (وَصَعِّدْ) أَمْرٌ مِنْ الصُّعُودِ، أَيْ ارْفَعْ الْمَلْبُوسَ وَلَا تَتْرُكْهُ يَنْزِلُ إلَى تَحْتِ الْكَعْبَيْنِ؛ فَإِنَّ مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ كَمَا أَسْلَفْنَا فِي الْأَخْبَارِ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ. وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ السَّلَفِ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ» أَمِنَ الْكَعْبَيْنِ أَوْ مِنْ الْإِزَارِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَنْبُ الْإِزَارِ إنَّمَا أَرَادَ اللَّحْمَ وَالْعَظْمَ وَالْجِلْدَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِلرُّصْغِ كُمُّ الْمُصْطَفَى فَإِنْ ارْتَخَى ... تَنَاهَى إلَى أَقْصَى أَصَابِعِهِ قَدْ (وَلِلرُّصْغِ) بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ. وَفِي نُسَخٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْكَفِّ وَالسَّاعِدِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ يَعْنِي الْعَظْمَ الَّذِي يَلِي الْأُصْبُعَ الْوُسْطَى، وَأَمَّا مَا يَلِي الْإِبْهَامَ فَكُوعٌ بِضَمِّ الْكَافِ وَيُقَالُ فِيهِ كَاعٌ. وَالطَّرَفُ الَّذِي يَلِي الْخِنْصَرَ يُسَمَّى كُرْسُوعًا وَمَا يَلِي إبْهَامَ الرِّجْلِ يُسَمَّى بُوعًا. وَنَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: فَعَظْمٌ يَلِي الْإِبْهَامَ كُوعٌ وَمَا يَلِي ... لِخِنْصَرِهِ الْكُرْسُوعُ وَالرُّسْغُ مَا وَسَطْ وَعَظْمٌ يَلِي إبْهَامَ رَجْلٍ مُلَقَّبٌ ... بِبُوعٍ فَخُذْ بِالْعِلْمِ وَاحْذَرْ مِنْ الْغَلَطْ مَطْلَبٌ: كَانَ كُمُّ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الرُّسْغِ كَانَ (كُمُّ) وَهُوَ بِضَمِّ الْكَافِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ مَدْخَلُ الْيَدِ وَمَخْرَجُهَا مِنْ الثَّوْبِ. وَالْجَمْعُ أَكْمَامٌ وَكَمِمَةٌ. وَأَمَّا بِالْكَسْرِ فَوِعَاءُ الطَّلْعِ وَغِطَاءٌ لِلنُّورِ (الْمُصْطَفَى) هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَاهُ الْخَالِصُ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 الْخَلْقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرُ الْخَلَائِقِ كَافَّةً (فَإِنْ ارْتَخَى) كُمُّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (تَنَاهَى) فِي ارْتِخَائِهِ (إلَى أَقْصَى) أَيْ أَطْرَافِ (أَصَابِعِهِ) الشَّرِيفَةِ جَمْعُ أُصْبُعٍ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ، وَذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ فِيهَا عَشْرَ لُغَاتٍ: فَتْحُ الْهَمْزَةِ مَعَ فَتْحِ الْبَاءِ، وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا، وَضَمُّ الْهَمْزَةِ مَعَ فَتْحِ الْبَاءِ، وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا، وَكَسْرُ الْهَمْزَةِ مَعَ فَتْحِ الْبَاءِ، وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا. وَالْعَاشِرَةُ أُصْبُوعٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ وَبَعْدَهَا وَاوٌ وَقَوْلُ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (قَدْ) أَيْ فَقَطْ. وَأَشَارَ بِأَحَدِ شَطْرَيْ هَذَا الْبَيْتِ إلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ كُمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الرُّسْغِ» . وَبِالشَّطْرِ الثَّانِي إلَى مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ قَمِيصًا وَكَانَ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ، وَكَانَ كُمُّهُ إلَى الْأَصَابِعِ» وَلَفْظُ أَبِي الشَّيْخِ «يَلْبَسُ قَمِيصًا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مُسْتَوِيَ الْكُمَّيْنِ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ» . وَرَوَى الْبَزَّارُ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ أَنَسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَعْرَابِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ يَزِيدَ الْعُقَيْلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا «كَانَ كُمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الرُّسْغِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ قَمِيصًا وَكَانَ كُمَّاهُ مَعَ الْأَصَابِعِ» . (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : قَالَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لِلشَّمْسِ الشَّامِيِّ: هَذَا الْحَدِيثُ - يَعْنِي حَدِيثَ الْكُمِّ إلَى الرُّسْغِ - مَخْصُوصٌ بِالْقَمِيصِ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ فِي السَّفَرِ. وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الْحَضَرِ قَمِيصًا مِنْ قُطْنٍ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ وَكُمَّاهُ مَعَ الْأَصَابِعِ. ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَنِ. ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقَ انْتَهَى. (الثَّانِي) : قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْآدَابِ الْكُبْرَى وَالْفُرُوعِ وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمْ: إنَّهُ يُسَنُّ تَطْوِيلُ كُمِّ الرَّجُلِ إلَى رُءُوسِ أَصَابِعِهِ أَوْ أَكْثَرَ يَسِيرًا وَتَوْسِيعُهُ قَصْدًا وَقَصْرُ كُمِّ الْمَرْأَةِ وَتَوْسِيعُهُ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ وَعِبَارَةُ الْفُرُوعِ: وَاخْتَلَفَ كَلَامُهُمْ فِي سِعَتِهِ يَعْنِي كُمَّ الْمَرْأَةِ قَصْدًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وَقَيَّدَ ابْنُ حَمْدَانَ قَصْرَ كُمِّ الْمَرْأَةِ إلَى دُونِ رُءُوسِ أَصَابِعِهَا. وَعَلَّلَ طُولَ كُمِّ الرَّجُلِ وَسِعَتَهُ فِي الْآدَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَتَأَذَّى الْيَدُ بِحَرٍّ وَلَا بَرْدٍ وَلَا تَمْنَعُهَا خِفَّةَ الْحَرَكَةِ وَالْبَطْشَ. قُلْت: وَالْعِلَّةُ وَالدَّلِيلُ فِعْلُهُ وَالتَّأَسِّي بِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَبْدَاهُ حِكْمَةُ ذَلِكَ. وَفِي التَّلْخِيصِ: تَوْسِيعُ الْكُمِّ مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ حَسَنٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ بِخِلَافِ النِّسَاءِ انْتَهَى. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ عَرْضُ زِيقِ الْقَمِيصِ وَلِلرَّجُلِ اكْرَهْ عَرْضَ زِيقٍ بِنَصِّهِ ... وَلَا يُكْرَهُ الْكَتَّانُ فِي الْمُتَأَكِّدِ (وَلِلرَّجُلِ) دُونَ النِّسَاءِ (اكْرَهْ) تَنْزِيهًا (عَرْضَ زِيقِ) الْقَمِيصِ وَهُوَ مَا أَحَاطَ بِالْعُنُقِ (بِنَصِّهِ) أَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَيُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ النُّسَخِ بِفِضَّةٍ بِالْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ فَاحِشٌ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُخَاطُ لِلنِّسَاءِ هَذِهِ الزِّيقَاتُ الْعِرَاضُ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ شَيْءٌ عَرِيضٌ فَأَكْرَهُهُ هُوَ مُحْدَثٌ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ وَسِيطٌ لَمْ نَرَ بِهِ بَأْسًا. وَقَطَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِوَلَدِهِ الصِّغَارِ قُمُصًا فَقَالَ لِلْخَيَّاطِ صَيِّرِ زِيقَهَا دِقَاقًا وَكَرِهَ أَنْ يَصِيرَ عَرِيضًا. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَكَرِهَ أَحْمَدُ الزِّيقَ الْعَرِيضَ لِلرَّجُلِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ. قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا كُرِهَ لِإِفْضَائِهِ إلَى الشُّهْرَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْإِفْرَاطَ جَمْعًا بَيْنَ قَوْلَيْهِ. وَفِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ صَوَّبَ عَدَمَ كَرَاهَةِ عَرْضِ الزِّيقِ لِلْمَرْأَةِ قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ النَّاظِمِ فِي آدَابِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ إلَّا لِلرَّجُلِ وَقَطَعَ فِي الْإِقْنَاعِ بِاخْتِصَاصِ الْكَرَاهَةِ بِالرِّجَالِ. مَطْلَبٌ: لَا يُكْرَهُ لُبْسُ ثِيَابِ الْكَتَّانِ (وَلَا يُكْرَهُ الْكَتَّانُ) أَيْ لَا يُكْرَهُ لُبْسُ الثِّيَابِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْكَتَّانِ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَمِيصًا أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ غَيْرَهُمَا (فِي الْمُتَأَكِّدِ) مِنْ الْقَوْلَيْنِ. قَالَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 الْفُرُوعِ: وَيُبَاحُ الْكَتَّانُ إجْمَاعًا، وَالنَّهْيُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بَاطِلٌ. وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ كَرِهَهُ لِلرِّجَالِ انْتَهَى. وَلَا شَكَّ فِي الْإِبَاحَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْت الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ النَّاظِمِ أَنَّ ثَمَّ قَوْلًا غَيْرَ مُتَأَكِّدٍ بِالْكَرَاهَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَطْلَبٌ: لَا يُكْرَهُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ وَلَا بَأْسَ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ سُتْرَةً ... أَتَمُّ مِنْ التَّأْزِيرِ فَالْبَسْهُ وَاقْتَدِ (وَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ (فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ) جَمْعُ سَرَاوِيلَاتٍ أَوْ جَمْعُ سِرْوَالٍ وَسِرْوَالَةٍ أَوْ سِرْوِيلٍ بِكَسْرِهِنَّ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: لُغَةٌ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبٌ، وَقَدْ يُذَكَّرُ قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعْوِيلٌ. قَالَ: وَالسَّرَاوِينُ بِالنُّونِ لُغَةٌ، وَالشِّرْوَالُ بِالشِّينِ لُغَةٌ. وَفِي الْمَطْلَعِ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا سَرَاوِيلُ فَشَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ عُرِّبَ إلَّا أَنَّهُ أَشْبَهَ مِنْ كَلَامِهِمْ مَا لَا يَنْصَرِفُ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ. وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ فِيهِ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ ذُو وَجْهَيْنِ الصَّرْفِ وَتَرْكِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ مَصْرُوفٍ وَجْهًا وَاحِدًا انْتَهَى. وَقَوْلُ النَّاظِمِ (سُتْرَةً) يَحْتَمِلُ النَّصْبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ أَوْ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَيَحْتَمِلُ الرَّفْعَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ سُتْرَةٌ (أَتَمُّ) فِي السَّتْرِ وَأَكْمَلُ فِيهِ (مِنْ التَّأْزِيرِ) أَيْ التَّغْطِيَةِ. يُقَالُ ائْتَزَرَ بِهِ وَتَأَزَّرَ تَأْزِيرًا، وَلَا تَقُلْ اتَّزَرَ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَلَعَلَّهُ مِنْ تَحْرِيفِ الرُّوَاةِ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَتُسَنُّ السَّرَاوِيلُ. وَفِي التَّلْخِيصِ: لَا بَأْسَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: السَّرَاوِيلُ أَسْتَرُ مِنْ الْإِزَارِ، وَلِبَاسُ الْقَوْمِ كَانَ الْإِزَارَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَظْهَرُ خِلَافًا لِلرِّعَايَةِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْأَفْضَلُ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلُ مِنْ غَيْرِ حَاجَتِهِ إلَى الْإِزَارِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ الْخَبَرَ، وَفِيهِ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَسَرْوَلَونَ وَلَا يَأْتَزِرُونَ، فَقَالَ تَسَرْوَلُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وَائْتَزِرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» قَالَ فِي الْفُرُوعِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ فِيهِ نَظَرٌ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ لُبْسِهِ يَعْنِي السَّرَاوِيلَ، فَقَالَ: هُوَ أَسْتَرُ مِنْ الْأُزُرِ وَلِبَاسُ الْقَوْمِ كَانَ الْأُزُرَ. قَالَ النَّاظِمُ: فَتَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلَانِ انْتَهَى كَلَامُ النَّاظِمِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ بِعَرَفَاتٍ مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ» وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إلَى جَيْشِهِ بِأَذْرَبِيجَانَ إذَا قَدِمْتُمْ مِنْ غَزَاتِكُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَلْقُوا السَّرَاوِيلَاتِ وَالْأَقْبِيَةِ وَالْبَسُوا الْأُزُرَ وَالْأَرْدِيَةَ. قَالَ النَّاظِمُ: فَدَلَّ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ لَهَا، وَأَنَّهَا غَيْرُ زِيِّهِمْ. وَجَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ بِسُنِّيَّةِ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ بِلَا رَيْبٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) :: أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، كَانَ كَثِيرَ الْحَيَاءِ حَتَّى كَانَ يَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ تَرَى الْأَرْضُ مَذَاكِيرَهُ، فَاشْتَكَى إلَى اللَّهِ - تَعَالَى، فَهَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِخِرْقَةٍ مِنْ الْجَنَّةِ، فَفَصَّلَهَا جِبْرِيلُ سَرَاوِيلَ، وَقَالَ: ادْفَعْهَا إلَى سَارَةَ تَخِيطُهُ، وَكَانَ اسْمُهَا يَسَارَةَ فَلَمَّا خَاطَتْهُ وَلَبِسَهُ إبْرَاهِيمُ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَسْتَرَهُ يَا جِبْرِيلُ فَإِنَّهُ نِعْمَ السِّتْرُ لِلْمُؤْمِنِ فَكَانَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلَ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، وَأَوَّلُ مَنْ فَصَّلَهُ جِبْرِيلُ، وَأَوَّلُ مَنْ خَاطَهُ سَارَةُ بَعْدَ إدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. ذَكَرَهُ فِي الْأُنْسِ الْجَلِيلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ إدْرِيسَ يَعْنِي بَعْدَ إدْرِيسَ فِي مُجَرَّدِ الْخِيَاطَةِ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَاطَ. وَأَمَّا كَوْنُ إدْرِيسَ خَاطَ السَّرَاوِيلَ فَيُنَافِي أَوَّلِيَّتَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ؛ وَلِهَذَا عَبَّرَ فِي الْأَوَائِلِ، فَكَانَتْ سَارَةُ أَوَّلَ مَنْ خَاطَتْ مِنْ النِّسَاءِ فَصَارَ الْغَزْلُ أَفْضَلَ الْحِرَفِ لِلنِّسَاءِ، وَالْخِيَاطَةُ لِلرِّجَالِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وَقَالَ فِي الْأَوَائِلِ قَالَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا مِتُّ فَاغْسِلُونِي مِنْ تَحْتِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: أَوَّلُ مَنْ فَصَّلَ وَخَاطَ مِنْ النِّسَاءِ سَارَةُ - عَلَيْهَا السَّلَامُ -. مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَ السَّرَاوِيلَ أَمْ لَا؟ . (الثَّانِي) : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ لَا؟ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: قَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَنَّهُمَا لَبِسَاهُ وَلَبِسَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَسَلْمَانَ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ الْوَفِيِّ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «إنَّ النَّجَاشِيَّ كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي قَدْ زَوَّجْتُك امْرَأَةً مِنْ قَوْمِك وَهِيَ عَلَى دِينِك أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَهْدَيْتُ لَك هَدِيَّةً جَامِعَةً قَمِيصًا وَسَرَاوِيلَ وَعِطَافًا وَخُفَّيْنِ سَاذَجَيْنِ، فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا» قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ: قُلْت لِلْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ مَا الْعِطَافُ؟ قَالَ: الطَّيْلَسَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ «سُوَيْد بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَبْت أَنَا وَمَخْرَمَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ إلَى مَكَّةَ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ، وَثَمَّ وِزَانٍ يَزِنُ بِالْأَجْرِ، فَقَالَ: إذَا زِنْت فَأَرْجِحْ» وَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ عَمِيرَةَ الْأَسَدِيِّ قَالَ «قَدِمْت قَبْلَ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاشْتَرَى مِنِّي سَرَاوِيلَ فَأَرْجَحَ لِي» قَالَ فِي الْفَتْحِ وَمَا كَانَ لِيَشْتَرِيَهُ عَبَثًا وَإِنْ كَانَ غَالِبُ لُبْسِهِ الْإِزَارَ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «دَخَلْت يَوْمًا السُّوقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَلَسَ إلَى الْبَزَّازِينَ فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ» الْحَدِيثَ وَفِيهِ «فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّك لَتَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ؟ قَالَ: أَجَلْ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَإِنِّي أُمِرْت بِالتَّسَتُّرِ» وَفِيهِ يُوسُفُ بْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ ضَعِيفٌ. قَالَ فِي الْهَدْيِ: اشْتَرَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّرَاوِيلَ وَالظَّاهِرُ إنَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 اشْتَرَاهُ لِيَلْبَسَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ «أَنَّهُ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ وَكَانُوا يَلْبَسُونَهُ فِي زَمَانِهِ وَبِإِذْنِهِ» . قُلْت: وَمَيْلُ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ فِي الْهَدْيِ إلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَهَا وَكَذَا الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يَلْبَسَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا يَلْزَمُ مِنْ شِرَائِهِ لَهَا لُبْسُهَا. وَقَالَهُ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّالِثُ) : التُّبَّانُ فِي مَعْنَى السَّرَاوِيلِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: رَوَى وَكِيعٌ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَأْمُرُ غِلْمَانَهَا بِالتَّبَابِينِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ. قَالَ فِي الْمَطَالِعِ: التُّبَّانُ شِبْهُ السَّرَاوِيلِ قَصِيرَةُ السَّاقِ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ: التُّبَّانُ بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ هُوَ سَرَاوِيلُ قَصِيرَةٌ جِدًّا. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ مِقْدَارُ شِبْرٍ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ فَقَطْ وَيَكُونُ لِلْمَلَّاحِينَ وَجَمْعُهُ تَبَابِينُ انْتَهَى. فَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ، وَفَهِمْت مَا هُنَالِكَ مِنْ كَوْنِ السَّرَاوِيلِ سُنَّةَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَالنَّبِيِّ النَّبِيلِ عَلَى أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ، وَالصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَاخْتِيَارَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ (فَالْبَسْهُ) أَيْ السَّرَاوِيلَ (وَاقْتَدِ) بِمَنْ ذَكَرْنَا لَك أَنَّهُمْ لَبِسُوهُ فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لَأَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ لَا سِيَّمَا الِاقْتِدَاءُ. (بِسُنَّةِ) سَيِّدِنَا (إبْرَاهِيمَ) الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (فِيهِ) أَيْ فِي لُبْسِهِ (وَ) سُنَّةَ نَبِيِّنَا وَحَبِيبِنَا (أَحْمَدَ) الْمُخْتَارِ (وَأَصْحَابِهِ) الْأَخْيَارِ، عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ (وَ) لَكِنْ لُبْسُهُمْ (الْأُزُرَ) جَمْعُ إزَارٍ (أَشْهَرُ) مِنْ لُبْسِهِمْ السَّرَاوِيلَ (أَكِّدْ) فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ التَّأْكِيدِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ فِي الِادِّهَانِ وَكَوْنِهِ غِبًّا أَوْ مُطْلَقًا لِحَاجَةٍ لِلْخَبَرِ. وَاخْتَارَ شَيْخُنَا فِعْلَ الْأَصْلَحِ لِلْبَدَنِ كَالْغُسْلِ بِمَاءٍ حَارٍّ بِبَلَدٍ رَطْبٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ، وَلِأَنَّهُ فِعْلُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَأَنَّ مِثْلَهُ نَوْعُ اللُّبْسِ وَالْمَأْكَلِ، وَأَنَّهُمْ لَمَّا فَتَحُوا الْأَمْصَارَ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْكُلُ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ، وَيَلْبَسُ مِنْ لِبَاسِ بَلَدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدُوا قُوتَ الْمَدِينَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وَلِبَاسَهَا. قَالَ: وَمِنْ هَذَا أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْإِزَارُ وَالرِّدَاءُ، فَهَلْ هُمَا أَفْضَلُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَوْ مَعَ الْقَمِيصِ، أَوْ الْأَفْضَلُ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلُ فَقَطْ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَالثَّانِي أَظْهَرُهُ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ تَارَةً يَكُونُ فِي نَوْعِ الْفِعْلِ، وَتَارَةً فِي جِنْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَفْعَلُ الْفِعْلَ لِمَعْنًى يَعُمُّ ذَلِكَ النَّوْعَ وَغَيْرَهُ لَا لِمَعْنًى يَخُصُّهُ. فَيَكُونُ الْمَشْرُوعُ هُوَ الْأَمْرُ الْعَامُّ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهَذَا لَيْسَ مَخْصُوصًا بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ، بَلْ وَبِكَثِيرٍ مِمَّا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ. وَهَذَا تَسْمِيَةُ طَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِفَ مَنَاطَ الْحُكْمِ. مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ» فَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ، بَلْ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا. يَبْقَى الْمَنَاطُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَ مَا هُوَ؟ فَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ يَزْعُمُونَ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِفَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَيُنَجِّسُونَ مَا كَانَ كَذَلِكَ، وَلَا يُنَجِّسُونَ السَّمْنَ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْكَلْبُ وَالْبَوْلُ وَالْعُذْرَةُ، وَلَا يُنَجِّسُونَ الزَّيْتَ وَنَحْوَهُ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ قَطْعًا. انْتَهَى. وَعِمَّةُ مُخْلِي حَلْقِهِ مِنْ تَحَنُّكٍ ... لَدَى أَحْمَدَ مَكْرُوهَةٌ بِتَأَكُّدِ (وَعِمَّةٌ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْعِمَّةُ بِالْكَسْرِ الِاعْتِمَامُ. وَمُرَادُ النَّاظِمِ كُلُّ عِمَامَةٍ (مُخْلِي) أَيْ مَتْرُوكِ وَخَالِ (حَلْقِهِ) أَيْ صَاحِبِهَا، وَالْمُعْتَمُّ بِهَا (مِنْ تَحَنُّكٍ) أَيْ لَيْسَ تَحْتَ حَنَكِ لَابِسِهَا مِنْهَا شَيْءٌ الْحَنَكُ مَا تَحْتَ الذَّقَنِ مِنْ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ (لَدَى) أَيْ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (مَكْرُوهَةٌ) كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ فِي الْأَصَحِّ، وَقِيلَ بَلْ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ (بِتَأَكُّدِ) لِنَصِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْأَصْحَابُ. وَحَكَى فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْكَرَاهَةَ هَلْ هِيَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ التَّنْزِيهِ. وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَكَرِهَ أَحْمَدُ لُبْسَ غَيْرِ الْمُحَنَّكَةِ. وَنَقَلَ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْمَحْكِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْكَرَاهَةَ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا كَرَاهَةٌ لَا تَرْتَقِي إلَى التَّحْرِيمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 إذَا عَلِمْت هَذَا، وَأَنَّ الْمَذْهَبَ الْمُعْتَمَدَ كَرَاهَةُ تَرْكِ التَّحَنُّكِ فَاعْلَمْ الْآنَ سِيرَةَ سَيِّدِ وَلَدِ عَدْنَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا تَعَاقَبَ الْمَلَوَانِ، فِي الْعِمَامَةِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُدِيرُ كَوْرَ الْعِمَامَةِ عَلَى رَأْسِهَا يَقْرِنُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ «وَيَغْرِزُهَا مِنْ وَرَائِهِ، وَيُرْسِلُ لَهَا ذُؤَابَةً» . . مَطْلَبٌ: يُسَنُّ إرْخَاءُ طَرَفِ الْعِمَامَةِ وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَيَحْسُنُ أَنْ يُرْخِيَ الذُّؤَابَةَ خَلْفَهُ ... وَلَوْ شِبْرًا أَوْ أَدْنَى عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ (وَيَحْسُنُ) بِمَعْنَى يُسَنُّ وَيُنْدَبُ لِلرَّجُلِ (أَنْ يُرْخِيَ أَيْ يُرْسِلَ (الذُّؤَابَةَ) بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالذُّؤَابَةُ مِنْ الشَّعْرِ وَالْمُرَادُ: هُنَا طَرَفُ الْعِمَامَةِ الْمُرْخَى سُمِّيَ ذُؤَابَةً مَجَازًا (خَلْفَهُ) أَيْ الْمُعْتَمِّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِرْخَاءُ الذُّؤَابَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ مَعْرُوفٌ فِي السُّنَّةِ (وَلَوْ) كَانَ الْمُرْخَى مِنْ الذُّؤَابَةِ (شِبْرًا) لَمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْتَمَّ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ وَأَرْخَاهَا مِنْ خَلْفِهِ شِبْرًا (أَوْ) لَمْ يُرْخِهَا شِبْرًا بَلْ (أَدْنَى) أَيْ أَقَلَّ مِنْ شِبْرٍ (عَلَى نَصٍّ) أَيْ: مَنْصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي إرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ خَلْفَهُ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّقْدِيرِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ رَوَى «عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ عَمَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، وَأَرْخَاهَا مِنْ خَلْفِهِ قَدْرَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَقَالَ هَكَذَا فَاعْتَمَّ فَإِنَّهُ أَعْرَبُ وَأَجْمَلُ» . وَفِي الْفُرُوعِ وَتَبِعَهُ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ قَالَ شَيْخُنَا يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ: وَإِطَالَتُهَا كَثِيرًا مِنْ الْإِسْبَالِ. وَقَالَ الْآجُرِّيُّ: وَإِنْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَحَسَنٌ. وَفِي الْآدَابِ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَرْخَاهَا خَلْفَهُ قَدْرَ ذِرَاعٍ. وَعَنْ أَنَسٍ نَحْوُهُ. وَرُبَّمَا أَفْهَمَ الْمَتْنَ الِاقْتِصَارَ عَلَى شِبْرٍ فَأَقَلَّ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - زَادَ أَبُو دَاوُد «عَلَى الْمِنْبَرِ» انْتَهَى - «وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ» وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» زَادَ النَّسَائِيُّ «قَدْ أَرْخَى طَرَفَ الْعَذْبَةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اعْتَمَّ أَرْخَى عِمَامَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» . وَرَوَى أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «عَلَيْكُمْ بِالْعَمَائِمِ فَإِنَّهَا سِيمَا الْمَلَائِكَةِ وَأَرْخُوهَا خَلْفَ ظُهُورِكُمْ» . وَرُوِيَ أَيْضًا بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُوَلِّي وَالِيًا حَتَّى يُعَمِّمَهُ وَيُرْخِيَ لَهَا عَذْبَةً مِنْ جَانِبِ الْأَيْمَنِ نَحْوَ الْأُذُنِ» . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي الْهَدْيِ: «كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَلَحَّى بِالْعِمَامَةِ تَحْتَ الْحَنَكِ» . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: صِفَةُ عِمَامَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ -: لَمْ تَكُنْ عِمَامَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكَبِيرَةِ الَّتِي تُؤْذِي حَامِلَهَا وَتُضْعِفُهُ وَتَجْعَلُهُ عُرْضَةً لِلْآفَاتِ كَمَا يُشَاهَدُ مِنْ حَالِ أَصْحَابِهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا بِالصَّغِيرَةِ الَّتِي تَقْصُرُ عَنْ وِقَايَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، بَلْ كَانَتْ وَسَطًا بَيْنَ ذَلِكَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يَحْضُرُنِي لِطُولِ عِمَامَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْرٌ مَحْدُودٌ. وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ شَيْئًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي مِقْدَارِ الْعِمَامَةِ الشَّرِيفَةِ حَدِيثٌ ثُمَّ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُدِيرُ كَوْرَ الْعِمَامَةِ» وَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ عِدَّةَ أَذْرُعٍ، وَالظَّاهِرُ: أَنَّهَا كَانَتْ نَحْوَ الْعَشَرَةِ أَوْ فَوْقَهَا بِيَسِيرٍ. وَقَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: رَأَيْت مِنْ نَسَبٍ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ عِمَامَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ فِي السَّفَرِ بَيْضَاءَ، وَفِي الْحَضَرِ سَوْدَاءَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا سَبْعَةُ أَذْرُعٍ» وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ مَا عَلِمْنَاهُ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي كِتَابِهِ الْمَدْخَلِ: وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِالرِّدَاءِ وَالْعِمَامَةِ وَالْعَذْبَةِ، وَكَانَ الرِّدَاءُ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ وَنِصْفًا وَنَحْوَهَا، وَالْعِمَامَةُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا يُخْرِجُونَ مِنْهَا التَّلْحِيَةَ وَالْعَذْبَةَ، وَالْبَاقِي عِمَامَةٌ عَلَى مَا نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِهِ. الثَّانِي قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي الْهَدْيِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ الْعِمَامَةَ فَوْقَ الْقَلَنْسُوَةِ، وَيَلْبَسُ الْقَلَنْسُوَةَ بِغَيْرِ عِمَامَةٍ، وَيَلْبَسُ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ قَلَنْسُوَةٍ، وَكَانَ إذَا اعْتَمَّ أَرْخَى طَرَفَ عِمَامَتِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» . وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ ذُؤَابَةً، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَذْبَةَ لَمْ يَكُنْ يُرْخِيهَا دَائِمًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ. قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ أُهْبَةُ الْقِتَالِ، وَالْمِغْفَرُ عَلَى رَأْسِهِ فَلَبِسَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مَا يُنَاسِبُهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّسَائِيَّ زَادَ «قَدْ أَرْخَى طَرَفَ الْعَذْبَةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ» وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ» ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ دُخُولِهِ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ثُمَّ أَزَالَهُ وَلَبِسَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَكَى كُلٌّ مِنْهُمَا مَا رَآهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ حُرَيْثٍ أَنَّهُ خَطَبَ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ دُخُولِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْمَعُ بِأَنَّ الْعِمَامَةَ كَانَتْ مَلْفُوفَةً فَوْقَ الْمِغْفَرِ أَوْ كَانَتْ تَحْتَ الْمِغْفَرِ وِقَايَةً لِرَأْسِهِ مِنْ صَدَى الْحَدِيدِ. . مَطْلَبٌ: بَيَانُ سَبَبِ إرْخَاءِ الْعَذْبَةِ. (الثَّالِثُ) : قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ: كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَذْكُرُ فِي سَبَبِ الذُّؤَابَةِ شَيْئًا بَدِيعًا، وَهُوَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا اتَّخَذَهَا صَبِيحَةَ الْمَنَامِ الَّذِي رَآهُ بِالْمَدِينَةِ لَمَّا رَأَى رَبَّ الْعِزَّةِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ اخْتَصَمَ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ قُلْت: لَا أَدْرِي فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَعَلِمْت مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ، الْحَدِيثَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ سَأَلَ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَصَحَّحَهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَمِنْ تِلْكَ الْغَدَاةِ أَرْخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذُّؤَابَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: وَهَذَا مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي تُنْكِرُهُ أَلْسِنَةُ الْجُهَّالِ وَقُلُوبُهُمْ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فِي شَأْنِ الذُّؤَابَةِ لِغَيْرِهِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ بْنُ الْحَافِظِ أَبِي الْفُضَيْلِ الْعِرَاقِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي تَذْكِرَتِهِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ: إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَهُوَ رِحْلَةٌ وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّجَسُّمُ لِأَنَّ الْكَفَّ يُقَالُ فِيهِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَقِّ فِي الْيَدِ فَهُمْ مِنْ بَيْنِ مُتَأَوِّلٍ وَسَاكِتٍ عَنْ التَّأْوِيلِ مَعَ نَفْيِ الظَّاهِرِ. قَالَ: وَكَيْفَ مَا كَانَ فَهُوَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَمِنَّةٌ جَسِيمَةٌ حَلَّتْ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَابَلَهَا بِإِكْرَامِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ تِلْكَ النِّعْمَةُ. قُلْت: وَرَأَيْت بَعْضَ مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ، وَأَفْسَدَ سَرِيرَتَهُ، وَتَشَدَّقَ وَصَالَ، وَلَقْلَقَ فِي مَقَالَتِهِ وَقَالَ هَذَا عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَأَخَذَ فِي الْحَطِّ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَتِلْمِيذِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ نَصَرَ الْحَقَّ فِي انْتِقَادِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ هَوَى فِي مَهَاوِي هَوَاهُ، وَلَهُ وَلَهُمَا مَوْقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ، وَحِينَئِذٍ تَنْكَشِفُ السُّتُورُ، وَيَظْهَرُ الْمَسْتُورُ. وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَخُوضُ فِي حَقِّ مَنْ سَلَفَ، وَإِنْ كَانَتْ مَقَالَتُهُ أَقْرَبَ إلَى الضَّلَالِ وَالتَّلَفِ، لِأَنَّ النَّاقِدَ بَصِيرٌ. وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ. . الرَّابِعُ: قَالَ الْكَمَالُ بْنُ أَبِي شَرِيفٍ فِي كِتَابِهِ صَوْبِ الْغِمَامَةِ فِي إرْسَالِ طَرَفِ الْعِمَامَةِ: إسْبَالُ طَرَفِ الْعِمَامَةِ مُسْتَحَبٌّ مُرَجَّحٌ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ خِلَافًا لِمَا أَوْهَمَهُ كَلَامُ النَّوَوِيِّ مِنْ إبَاحَتِهِ بِمَعْنَى اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: يَجُوزُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ بِإِرْسَالِ طَرَفِهَا وَبِغَيْرِ إرْسَالِهِ وَلَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَذَكَرَ مَعْنَاهُ فِي الرَّوْضَةِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ الْإِرْسَالِ شَيْءٌ. وَذَكَرَ أَنَّهُ صَحَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 فِي الْإِرْخَاءِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ هَذَا كَلَامُهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَقَّبَهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ بِإِرْخَاءِ طَرَفِ الْعِمَامَةِ أَيْ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ وَحَسَّنَ إسْنَادَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْهَيْتَمِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَنْ يَتَجَهَّزَ لِسَرِيَّةٍ يَبْعَثُهُ عَلَيْهَا فَأَصْبَحَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ اعْتَمَّ بِعِمَامَةٍ كَرَابِيسَ سَوْدَاءَ، فَنَقَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَّمَهُ وَأَرْخَى خَلْفَهُ أَرْبَعَ أَصَابِعَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ شِبْرٍ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَاعْتَمَّ يَا ابْنَ عَوْفٍ فَإِنَّهُ أَعْرَبُ وَأَحْسَنُ» . قَوْلُهُ كَرَابِيسَ: جَمْعُ كِرْبَاسِ الْقُطْنِ. قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ. قَالَ: وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ «فَأَصْبَحَ وَقَدْ اعْتَمَّ بِعِمَامَةِ كَرَابِيسَ سَوْدَاءَ» . انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ: الْكِرْبَاسُ بِالْكَسْرِ ثَوْبٌ مِنْ الْقُطْنِ الْأَبْيَضِ مُعَرَّبٌ فَارِسِيَّةٌ بِالْفَتْحِ غَيَّرُوهُ لِعِزَّةِ فَعِلَلٍ، وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ كَرَابِيسِيٌّ كَأَنَّهُ شُبِّهَ بِالْأَنْصَارِيِّ، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ كِرْبَاسِيٌّ. انْتَهَى. قَالَ الْكَمَالُ بْنُ أَبِي شَرِيفٍ: فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ وَأَوْلَى، وَخِلَافُهُ تَرْكُ الْأَوْلَى وَالْمُسْتَحَبِّ. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَذْبَةٌ طَوِيلَةٌ. (الْخَامِسُ) : قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لَهُ كَمَا فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ نَقْلًا عَنْ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَذْبَةٌ طَوِيلَةٌ نَازِلَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَتَارَةً عَلَى كَتِفِهِ» ، «وَأَنَّهُ مَا فَارَقَ الْعَذْبَةَ قَطُّ» ، «وَأَنَّهُ قَالَ: خَالِفُوا الْيَهُودَ وَلَا تُصَمِّمُوا فَإِنَّ تَصْمِيمَ الْعَمَائِمِ مِنْ زِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ» . «وَأَنَّهُ قَالَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عِمَامَةٍ صَمَّاءَ» . قَالَ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ: قَالَ الشَّيْخُ: قَوْلُهُ: طَوِيلَةٌ لَمْ أَرَهُ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَحَادِيثِ إرْخَائِهَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ. وَقَوْلُهُ: وَتَارَةً عَلَى كَتِفِهِ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ مِنْ لُبْسِهِ لَكِنْ مِنْ إلْبَاسِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ خَالِفُوا الْيَهُودَ وَحَدِيثُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عِمَامَةٍ صَمَّاءَ فَلَا أَصْلَ لَهُمَا. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْعَذْبَةَ سُنَّةٌ فَتَرَكَهَا اسْتِنْكَافًا عَنْهَا أَثِمَ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَنْكِفٍ فَلَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 قُلْت: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا كَرَاهِيَةُ الْعِمَامَةِ الصَّمَّاءِ. بَلْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ، مِنْهُمْ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ وَشَارِحُ الْمُنْتَهَى م ص كَالْمُصَنِّفِ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ مَسْحِ الْعِمَامَةِ الصَّمَّاءِ لِذَلِكَ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْعِمَامَةُ مُحَنَّكَةً وَلَا ذَاتَ ذُؤَابَةٍ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ فِي نَزْعِهَا كَالْكُتْلَةِ؛ وَلِأَنَّهَا تُشْبِهُ عَمَائِمَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ. قَالَ الشَّيْخُ: الْمَحْكِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْكَرَاهَةُ، وَلَمْ يَمْنَعْ هُوَ يَعْنِي الشَّيْخَ الْمَسْحَ. قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ التَّرَخُّصَ كَسَفَرِ النُّزْهَةِ. قَالَ تِلْمِيذُهُ فِي الْفُرُوعِ: كَذَا قَالَ، وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا: وَلَعَلَّ ظَاهِرَ مَنْ جَوَّزَ الْمَسْحَ إبَاحَةُ لُبْسِهَا، وَهُوَ مُتَّجَهٌ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَتُحْمَلُ كَرَاهَةُ السَّلَفِ عَلَى الْحَاجَةِ إلَى التَّحْنِيكِ لِمُجَاهِدٍ أَوْ غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ الْكَرَاهَةَ إنَّمَا هِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَالثَّوْرِيِّ. قَالَ: وَفِي الصِّحَّةِ أَيْ صِحَّةِ الْكَرَاهَةِ عَمَّنْ ذُكِرَ نَظَرٌ. انْتَهَى. وَفِي الْآدَابِ: لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْعِمَامَةِ الْمُحَنَّكَةِ وَكَرَاهَةِ الصَّمَّاءِ انْتَهَى. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ اسْتِحْبَابُ التَّحَنُّكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالذُّؤَابَةُ، فَإِنْ فُقِدَا كَانَتْ الْعِمَامَةُ مَكْرُوهَةً. هَذَا الْمَذْهَبُ بِلَا رَيْبٍ. قُلْت: وَظَاهِرُ كَلَامِ جَمِيعِ عُلَمَائِنَا اعْتِبَارُ كَوْنِ الذُّؤَابَةِ مِنْ الْعِمَامَةِ لَا مِنْ غَيْرِهَا. وَفِي فَتَاوَى الْحَافِظِ السَّخَاوِيِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ نَسَبَ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَتْ الْعَذْبَةُ فِي السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ الْعِمَامَةِ وَفِي الْحَضَرِ مِنْهَا. قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَهَذَا شَيْءٌ مَا عَلِمْنَاهُ. انْتَهَى. وَأَظُنُّ أَنَّ شَيْخَنَا التَّغْلِبِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ لِي: إنْ كَانَتْ الْعَذْبَةُ مِنْ غَيْرِ الْعِمَامَةِ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا الْمَسْحُ وَزَالَتْ الْكَرَاهَةُ، فَإِنْ كَانَ قَالَ هَذَا فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ لَجَوَّزْنَا الْمَسْحَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يُسَنُّ تَحْنِيكُ الْعِمَامَةِ (السَّادِسُ) : قَدْ عَلِمْت أَنَّ التَّحَنُّكَ مَسْنُونٌ، وَهُوَ التَّلَحِّي قَالَ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ: التَّلَحِّي سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ الْكُبْرَى: مُقْتَضَى كَلَامِهِ فِي الرِّعَايَةِ اسْتِحْبَابُ الذُّؤَابَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ كَالتَّحَنُّكِ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ: يَعْنِي يُجْمَعُ بَيْنَ التَّحَنُّكِ وَالذُّؤَابَةِ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ: الْعِمَامَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ تَكُونَ مُحَنَّكَةً تَحْتَ الذَّقَنِ، فَإِنْ كَانَتْ بِذُؤَابَةٍ بِلَا حَنْكٍ فَفِيهَا وَجْهَانِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَا ذُؤَابَةَ لَهَا وَلَا حَنَكَ فَفِيهَا قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَهُوَ مَذْهَبُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. قَالَ وَالْعَمَائِمُ الْمُكَلَّبَةُ بِالْكِلَابِ تُشْبِهُ الْمُحَنَّكَةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْكَلَالِيبَ يُمْسِكُهَا كَمَا يُمْسِكُ الْحَنَكَ لِلْعِمَامَةِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَحَنَّكُونَ الْعَمَائِمَ، فَإِذَا رَكِبُوا الْخَيْلَ، وَطَرَدُوهَا لَمْ تَسْقُطْ عَمَائِمُهُمْ. وَكَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ الثُّغُورِ بِالشَّامِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. وَكَرِهَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ لُبْسَ الْعَمَائِمِ الْمُتَقَطِّعَةِ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَكُونُ لَهَا مَا يُمْسِكُهَا تَحْتَ الذَّقَنِ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ لِقَوْمٍ لَا يُدِيرُونَ عَمَائِمَهُمْ تَحْتَ أَذْقَانِهِمْ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا الْفَاسِقِيَّةَ. وَلَكِنْ رَخَّصَ فِيهَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى أَنَّ أَبْنَاءَ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يَعْتَمُّونَ كَذَلِكَ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هَذَا حَالُ أَهْلِ الْجِهَادِ الْمُسْتَعِدِّينَ لَهُ، وَهَذَا حَالُ مَنْ لَبِسَ مِنْ أَهْلِهِ. قَالَ: وَإِمْسَاكُهَا بِالسُّيُورِ وَنَحْوِهَا كَالْمُحَنَّكَةِ انْتَهَى. وَمُقْتَضَى ذِكْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِالْعَالِمِ، فَإِنْ فَعَلَهَا غَيْرُهُ فَيَتَوَجَّهُ دُخُولُهَا فِي لِبَاسِ الشُّهْرَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِعُرْفٍ حَادِثٍ، بَلْ بِعُرْفٍ قَدِيمٍ. وَعَلَى هَذَا لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ الْعِمَامَةِ الْمُحَنَّكَةِ وَكَرَاهَةِ الصَّمَّاءِ. انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَدْرَكْت فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعِينَ مُحَنَّكًا وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ ائْتُمِنَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَكَانَ بِهِ أَمِينًا. وَفِي لَفْظٍ لَوْ اُسْتُسْقِيَ بِهِمْ الْقَطْرُ لَسُقُوا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كِتَابِهِ الْمَدْخَلِ بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 أَئِمَّةِ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى الِاقْتِعَاطِ يَعْنِي الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَنَّهُ مِنْ لُبْسَةِ الشَّيْطَانِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ قَالَ: إنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ لِمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ. اقْتِعَاطُ الْعَمَائِمِ هُوَ التَّعْمِيمُ دُونَ حَنَكٍ، وَهُوَ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ، وَقَدْ شَاعَتْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ. وَنَظَرَ مُجَاهِدٌ يَوْمًا إلَى رَجُلٍ اعْتَمَّ وَلَمْ يَحْتَنِكْ فَقَالَ: اقْتِعَاطَ كَاقْتِعَاطَ الشَّيْطَانِ، تِلْكَ عِمَّةُ الشَّيْطَانِ وَعَمَائِمُ قَوْمِ لُوطٍ. وَفِي الْمُخْتَصَرِ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ الْعِمَامَةِ يَعْتَمُّهَا الرَّجُلُ، وَلَا يَجْعَلُهَا تَحْتَ حَلْقِهِ، فَأَنْكَرَهَا، وَقَالَ: إنَّهَا مِنْ عَمَلِ الْقِبْطِ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ صَلَّى بِهَا كَذَلِكَ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ وَلَيْسَتْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: كَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا اعْتَمَّ جَعَلَ مِنْهَا تَحْتَ ذَقَنِهِ وَأَسْدَلَ طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ. مَطْلَبٌ: صِفَةُ الْعِمَامَةِ الْمَسْنُونَةِ. وَقَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيُّ: وَسُنَّةُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ فِعْلِهَا أَنْ يُرْخِيَ طَرَفَهَا وَيَتَحَنَّكَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ طَرَفٍ وَلَا تَحْنِيكٍ فَذَلِكَ يُكْرَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُدْخِلَهَا تَحْتَ حَنَكِهِ فَإِنَّهَا تَقِي الْعُنُقَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَهُوَ أَثْبَتُ لَهَا عِنْدَ رُكُوبِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ. قُلْت: وَقَالَ هَذَا عُلَمَاؤُنَا. وَقَالَ فِي الْهَدْيِ: «كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَلَّى بِالْعِمَامَةِ تَحْتَ الْحَنَكِ» انْتَهَى. وَقَدْ أَطْنَبَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ لِاسْتِحْبَابِ التَّحَنُّكِ ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا كَانَتْ الْعِمَامَةُ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ فِعْلِ سُنَنٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ تَنَاوُلِهَا بِالْيَمِينِ، وَالتَّسْمِيَةِ وَالذِّكْرِ الْوَارِدِ إنْ كَانَ مِمَّا يَلْبَسُ جَدِيدًا، وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي صِفَةِ التَّعْمِيمِ مِنْ فِعْلِ التَّحْنِيكِ وَالْعَذْبَةِ وَتَصْغِيرِ الْعِمَامَةِ بِقَدْرِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوِهِمَا يُخْرِجُونَ مِنْهَا التَّحْنِيكَ وَالْعَذْبَةَ فَإِنْ زَادَ فِي الْعِمَامَةِ قَلِيلًا لِأَجْلِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَيُتَسَامَحُ فِيهِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَفِي فَتَاوَى ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ النَّهْيُ عَنْ الِاقْتِعَاطِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي قَوْلِهِمْ: مَا أَفْتَى مَالِكٌ حَتَّى أَجَازَهُ سَبْعُونَ مُحَنَّكًا، ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَذْبَةَ دُونَ تَحْنِيكٍ يَخْرُجُ مِنْهَا عَنْ الْمَكْرُوهِ؛ لِأَنَّ وَصْفَهُمْ بِالتَّحْنِيكِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ امْتَازُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا فَمَا كَانَ لِوَصْفِهِمْ بِالتَّحْنِيكِ فَائِدَةٌ؛ إذْ الْكُلُّ مُجْتَمِعُونَ فِيهِ. وَقَدْ نَصَّ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ عَنْ بَعْضِ سَادَاتِهِ إنَّمَا الْمَكْرُوهُ فِي الْعِمَامَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِهِمَا فَإِنْ كَانَا مَعًا فَهُوَ الْكَمَالُ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ خَرَجَ بِهِ عَنْ الْمَكْرُوهِ. قُلْت: وَهَذَا ظَاهِرُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَصْحَابِنَا فِي اعْتِبَارِ كَوْنِ الْعِمَامَةِ مُحَنَّكَةً أَوْ ذَاتَ ذُؤَابَةٍ، وَاجْتِمَاعُ الشَّيْئَيْنِ أَكْمَلُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: كَيْفِيَّةُ نَقْضِ الْعِمَامَةِ (السَّابِعُ) : قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُجَدِّدَ الْعِمَامَةَ فَعَلَ كَيْفَ أَحَبَّ فِي نَقْضِهَا. قَالَ: وَفِي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَهَا مِنْ رَأْسِهِ وَيُلْقِيَهَا عَلَى الْأَرْضِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، لَكِنْ يَنْقُضُهَا كَمَا لَفَّهَا، لِأَنَّهُ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِمَامَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إهَانَتِهَا، كَذَا ذَكَرُوا، وَاسْتَحْسَنَهُ مِنَّا الْحَجَّاوِيُّ، قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَوْفٍ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ: وَلِأَنَّهُ إذَا نَقَضَهَا كَوْرًا كَوْرًا سَلِمَتْ مِنْ الِالْتِوَاءِ وَالْفَتْلِ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ: فَعَلَيْك أَنْ تَتَعَمَّمَ قَائِمًا وَتَتَسَرْوَلَ قَاعِدًا انْتَهَى. وَفِي الْفُرُوعِ وَتَبِعَهُ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْغَايَةِ: يُكْرَهُ لُبْسُ الْخُفِّ وَالْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ قَائِمًا لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَعَلَّهُ أَوْلَى انْتَهَى. وَفِي قَلَائِدِ الْعِقْيَانِ فِيمَا يُورِثُ الْفَقْرَ وَالنِّسْيَانَ لِلْحَافِظِ بُرْهَانِ الدِّينِ النَّاجِي أَنَّ التَّعْمِيمَ قَاعِدًا وَالتَّسَرْوُلَ قَائِمًا يُورِثُ الْفَقْرَ وَالنِّسْيَانَ. وَلَمْ يَذْكُرْ عُلَمَاؤُنَا كَرَاهَةَ التَّعْمِيمِ قَاعِدًا، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى عَدَمُهُ فِيمَا يَظْهَرُ لِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَكَانِ إرْسَالِ الْعَذْبَةِ الثَّامِنُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَكَانِ إرْسَالِ الْعَذْبَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: إرْسَالُهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وَفِي الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا اعْتَمَّ أَرْخَى عِمَامَتَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» . وَكَذَا رَوَى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَ كَذَلِكَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَكَذَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ قَالَ: «عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَدَلَهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي» . وَالْحَدِيثُ الثَّابِتُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ أَنَّهُ لَمَّا عَمَّمَهُ أَرْسَلَ الْعَذْبَةَ مِنْ خَلْفِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَرْخَيَا الْعَذْبَةَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِمَا وَمِنْ خَلْفِهِمَا. قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا مِمَّنْ أَدْرَكَهُ يُرْخِيهَا مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ إلَّا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ التَّابِعِينَ عَلَى إرْسَالِ الْعَذْبَةِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِمْ. قَالَ: وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّ إرْسَالَ الذُّؤَابَةِ بَيْنَ الْيَدَيْنِ بِدْعَةٌ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ النُّصُوصِ وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ فِي جَعْلِهَا مِنْ قُدَّامٍ لِكَوْنِهِ مِنْ سُنَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَدْيُنَا مُخَالِفٌ لِهَدْيِهِمْ. وَقَوْلُهُمْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالنَّظَرِ لِطَرَفَيْهَا حَيْثُ يُجْعَلُ أَحَدُهُمَا خَلْفَهُ، وَالْآخَرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ إرْسَالُ الطَّرَفِ الْوَاحِدِ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ رَدُّهُ مِنْ خَلْفِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ الطَّرَفُ الْوَاحِدُ بَعْضُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبَعْضُهُ خَلْفَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرُونَ وَيُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَّةً، ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ فِي السِّيرَةِ. الثَّانِي: إرْسَالُهَا مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ. فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُوَلِّي وَالِيًا حَتَّى يُعَمِّمَهُ بِعِمَامَةٍ وَيُرْخِيَ لَهَا عَذْبَةً مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ نَحْوَ الْأُذُنِ» وَتَقَدَّمَ. (الثَّالِثُ) : إرْسَالُهَا مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَهَذَا عَلَيْهِ عَمَلُ كَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا إلَى خَيْبَرَ فَعَمَّمَهُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ ثُمَّ أَرْسَلَهَا وَرَاءَهُ، أَوْ قَالَ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى» ، هَكَذَا بِالشَّكِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وَقَدْ سُئِلَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ مُسْتَنَدِ الصُّوفِيَّةِ فِي إرْخَاءِ الْعَذْبَةِ عَلَى الشِّمَالِ. فَأَجَابَ: أَمَّا مُسْتَنَدُ الصُّوفِيَّةِ فِي إرْخَاءِ الْعَذْبَةِ عَلَى الشِّمَالِ فَلَا يَلْزَمُهُمْ بَيَانُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ، فَمَنْ اصْطَلَحَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ شِعَارًا لَهُمْ. انْتَهَى. الرَّابِعُ: إرْسَالُهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ الْأَشْهَرُ الصَّحِيحُ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُرْخِيهَا إلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ، وَإِلَى الْكَعْبَيْنِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ عَنْ خَطَّابٍ الْحِمْصِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ زِيَادٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: رَأَيْت أَرْبَعَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْهَرَ بْنَ مَالِكٍ وَأَبَا الْمُنْبَثِّ وَفَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ وَرَوْحَ بْنَ سَافِرٍ أَوْ يَسَارَ بْنَ رَوْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَلْبَسُونَ الْعَمَائِمَ وَيُرْخُونَهَا مِنْ خَلْفِهِمْ وَثِيَابِهِمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ. قَالَ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ: يُحَرَّرُ، هَلْ الْمُرَادُ الثِّيَابُ إلَى الْكَعْبَيْنِ أَوْ الْعَذْبَةُ. انْتَهَى. فَإِنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لَهُمَا بَلْ كَوْنُهُ رَاجِعًا إلَى الثِّيَابِ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَطْلَبُ: مَنْ اسْتَقْبَحَ تَحْنِيكَ الْعِمَامَةِ] مَطْلَبٌ: نُقِلَ عَنْ الْكَمَالِ بْنِ الْهُمَامِ تَكْفِيرُ مَنْ اسْتَقْبَحَ تَحْنِيكَ الْعِمَامَةِ (التَّاسِعُ) : ذَكَرَ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْ شَيْخِ شُيُوخِهِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْهُمَامِ أَحَدِ أَئِمَّةِ السَّادَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَايَرَةِ: " مَنْ اسْتَقْبَحَ مِنْ آخَرَ جَعْلَ بَعْضِ الْعِمَامَةِ تَحْتَ حَلْقِهِ كَفَرَ ". انْتَهَى. قُلْت: وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ، وَلَكِنَّهُ إلَى الْحَقِّ قَرِيبٌ. وَقَدْ تَذَكَّرْت هُنَا حِكَايَةً لَا بَأْسَ بِذَكَرِهَا نَقَلْتهَا مِنْ طَبَقَاتِ الْعُلَيْمِيِّ الْمُسَمَّاةِ بِالْمَقْصِدِ الْأَحْمَدِ فِي تَرَاجِمِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، ذَكَرَهَا فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَقْدِسِيِّ الْخُرَيْشِيِّ الْحَنْبَلِيِّ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ أَيْضًا الشَّمْسُ الدَّاوُدِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ ارْتَحَلَ إلَى الْقَاهِرَةِ وَاشْتَغَلَ وَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً حَتَّى بَرَعَ وَتَمَيَّزَ وَتَأَهَّلَ لِلتَّدْرِيسِ وَالْفَتْوَى وَأُجِيزَ بِذَلِكَ مِنْ شُيُوخِهِ، ثُمَّ قَدِمَ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الْقُدْسِ وَأَقَامَ بِهَا زَمَانًا مُلَازِمًا عَلَى الدُّرُوسِ، وَكَانَ عَالِمًا عَامِلًا مُتَقَلِّلًا مِنْ الدُّنْيَا، كَثِيرَ التَّعَبُّدِ، طَوِيلَ التَّهَجُّدِ، انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُ الْقُدْسِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ نَابُلُسَ، وَكَانَ لَا يَجْتَمِعُ بِالْأُمَرَاءِ، وَلَا بِالْقُضَاةِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَكَانَ إمَامَ السَّادَةِ الْحَنَابِلَةِ وَمُفْتِيهِمْ، وَحَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي اللُّطْفِ وَحْشَةٌ وَمُنَافَرَةٌ؛ لِأَنَّ الْخُرَيْشِيَّ لَمَّا رَأَى اسْتِحْبَابَ الْعَذْبَةِ وَالتَّلَحِّي أَرْخَى لَهُ عَذْبَةً وَتَلَحَّى، وَكَانَ لَهُ تَلَامِذَةٌ وَمُحِبُّونَ يَعْتَقِدُونَهُ وَيَقْتَدُونَ بِهِ، فَاقْتَدَوْا بِهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَوْلَادِ الْمَشَايِخِ، وَصَارَ بَعْضُ السُّفْلِ يَضْحَكُونَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِتَرْكِ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِهِمْ، فَأَفْتَى ابْنُ أَبِي اللُّطْفِ بِأَنَّ التَّلَحِّيَ بِدْعَةٌ وَيُعَزَّرُ مُتَعَاطِيهِ، فَتَسَلَّطَ السُّفْلُ وَالسُّفَهَاءُ عَلَى الْمُتَلَحِّيِينَ يُؤْذُونَهُمْ وَيُؤْذُونَ الشَّيْخَ، وَيَقُولُونَ: هُوَ مُبْتَدِعٌ، وَسَعَوْا فِي مَنْعِهِ مِنْ الْوَعْظِ، فَتَحَمَّلَ الْأَذَى وَصَبَرَ فَلَمْ يَمْضِ إلَّا مُدَّةً يَسِيرَةً حَتَّى مَاتَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي اللُّطْفِ بِدَاءِ السَّكْتَةِ، فَقَالَ النَّاسُ: هَذَا مِنْ بَرَكَةِ الْخُرَيْشِيِّ وَإِنْكَارِهِ عَلَى السُّنَّةِ. فَانْظُرْ - رَحِمَك اللَّهُ - بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ، وَاجْلُ ذِكْرَكَ بِالتَّدَبُّرِ وَالِافْتِكَارِ، وَانْظُرْ فِي حِكْمَةِ الْحَكِيمِ الْقَهَّارِ، كَيْف جَازَى اللُّطْفِيَّ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ كَمَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَهْلِ مِلَلِهِ. فَإِنَّهُ لَمَّا مَنَعَ الْخُرَيْشِيُّ مِنْ نَشْرِ أَعْلَامِ سُنَّةِ الْمُصْطَفَى، وَسَكَّتَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَفَوَّهَ هُوَ بِأَذِيَّةِ هَذَا الْوَلِيِّ أَسْكَتَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَمَّا أَمَاتَ سُنَّةَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَاتَهُ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ. وَلَمَّا طَوَى بِفَتْوَاهُ أَعْلَامَ هَذِهِ السُّنَّةِ وَدَفَنَهَا جَفَّتْ يَدُهُ وَطُوِيَ ذِكْرُهُ، وَدُفِنَ جِسْمُهُ فِي صَدْعٍ مِنْ الْأَرْضِ جَزَاءً وِفَاقًا. عِيَاذًا بِك اللَّهُ مِنْ مَكْرِك. وَالْتِجَاءً إلَيْك مِنْ التَّجَرِّي عَلَيْك. وَاعْتِصَامًا بِك مِنْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ. يَا ذَا الْعَفْوِ وَالْأَفْضَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ. وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِعُرْفٍ حَادِثٍ بَلْ بِعُرْفٍ قَدِيمٍ وَاَللَّهُ هُوَ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ. مَطْلَبٌ: الِاقْتِعَاطُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ الْعَاشِرُ: الِاقْتِعَاطُ هُوَ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ فَقَافٍ سَاكِنَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقُ مَكْسُورَةٍ فَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَأَلِفٍ فَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، أَنْ يَتَعَمَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْنِيكٍ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي نِهَايَتِهِ: فِيهِ أَيْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاقْتِعَاطُ هُوَ أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 يَعْتَمَّ بِالْعِمَامَةِ، وَلَا يَجْعَلَ مِنْهَا شَيْئًا تَحْتَ ذَقَنِهِ. وَيُقَالُ لِلْعِمَامَةِ الْمُقْعَطَةُ، وَفِي الْقَامُوسِ: اقْتَعَطَ تَعَمَّمَ وَلَمْ يُدِرْ تَحْتَ الْحَنَكِ وَكَمِكْنَسَةِ الْعِمَامَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْعِمَامَةُ الْمُحَنَّكَةُ هِيَ الَّتِي يُدَارُ مِنْهَا تَحْتَ الْحَنَكِ كَوْرٌ أَوْ كَوْرَانِ بِفَتْحِ الْكَافِ سَوَاءٌ كَانَ لَهَا ذُؤَابَةٌ أَوْ لَا، وَهَذِهِ عِمَامَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ أَكْثَرُ سِتْرًا وَيَشُقُّ نَزْعُهَا؛ فَلِذَلِكَ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: حُكْمُ لُبْسِ الطَّيْلَسَانِ الْحَادِي عَشَرَ: لَمْ يَسْتَحِبَّ عُلَمَاؤُنَا لُبْسَ الطَّيْلَسَانِ بَلْ كَرِهُوا لُبْسَ الْمُقَوَّرِ مِنْهُ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى: وَكُرِهَ لِرَجُلٍ لُبْسُ الطَّيْلَسَانِ، وَهُوَ الْمُقَوَّرُ، وَفِي الْإِنْصَافِ: يُكْرَهُ الطَّيْلَسَانُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. قَالَ فِي التَّلْخِيصِ وَابْنُ تَمِيمٍ: وَكُرِهَ الطَّيْلَسَانُ وَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ. زَادَ فِي التَّلْخِيصِ: وَهُوَ الْمُقَوَّرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُكْرَهُ يَلِ يُبَاحُ، وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَالْآدَابِ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ. وَقَالَ فِي الْآدَابِ: قِيلَ يُكْرَهُ الْمُقَوَّرُ وَالْمُدَوَّرُ، وَقِيلَ وَغَيْرُهُمَا غَيْرُ الْمُرَبَّعِ. قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِ: وَإِنَّمَا يُكْرَهُ الْمُقَوَّرُ دُونَ سَائِرِهَا؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ لُبْسَةَ رُهْبَانِ الْمَلَكِيِّينَ مِنْ النَّصَارَى. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ: لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَبِسَهُ يَعْنِي الطَّيْلَسَانَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، بَلْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: يَخْرُجُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ» . وَرَأَى أَنَسٌ جَمَاعَةً عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ. فَقَالَ: مَا أَشْبَهَهُمْ بِيَهُودِ خَيْبَرَ، وَمِنْ هُنَا كَرِهَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد. وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا» . قَالَ: وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 أَبِي بَكْرٍ مُتَقَنِّعًا بِالْهَاجِرَةِ فَإِنَّمَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلْكَ السَّاعَةَ لِيَخْتَفِيَ بِذَلِكَ لِلْحَاجَةِ مِنْ حَرٍّ وَنَحْوِهِ انْتَهَى. وَعُورِضَ بِأَنَّهُ قَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَابْنُ سَعْدٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانَ وَالْخَطِيبِ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ قَتَادَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكْثِرُ التَّقَنُّعَ» وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَسَهْلٍ " الْقِنَاعُ " وَفِي لَفْظٍ «مَا رَأَيْت أَدْوَمَ قِنَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» زَادَ أَنَسٌ «حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ أَوْ دَهَّانٍ» وَلَفْظُ الْخَطِيبِ «كَأَنَّ مِلْحَفَتَهُ مِلْحَفَةُ زَيَّاتٍ» وَهَذَا الْحَدِيثُ بِاعْتِبَارِ طُرُقِهِ وَشَوَاهِدِهِ حَسَنٌ، وَعُورِضَ قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ: " وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ " بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِحَضْرَتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: إنَّ رِجْلِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْحَوْضِ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ الْمِنْبَرِ لَمُتَوَافِرُونَ وَأَبُو بَكْرٍ مُقَنَّعٌ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ تَعَالَى خَيَّرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَعِيشَ فِي الدُّنْيَا مَا شَاءَ أَنْ يَعِيشَ فِيهَا، وَأَنْ يَأْكُلَ مِنْ الدُّنْيَا مَا شَاءَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّهِ فَاخْتَارَ لِقَاءَ رَبِّهِ، فَلَمْ يَفْطِنْ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ لِمَا قَالَ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ فَانْتَحَبَ بَاكِيًا» . وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَمْشِي مُتَلَثِّمًا بِبُرْدٍ قَطَرِيٍّ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ فِتْنَةً وَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ» ، وَفِي لَفْظٍ «بِرِدَائِهِ فَقَالَ: هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ الْعَلَاءِ قَالَ: رَأَيْت الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُصَلِّي، وَهُوَ مُقَنَّعٌ. وَفِي شُعَبِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ قَالَ: جِئْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 فَرَأَيْت عَلَيْهِ طَيْلَسَانًا، فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثْته أَمْ رَأَيْت عَلَيْهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا بَلْ رَأَيْت عَلَيْهِ النَّاسَ. وَأَقُولُ: الْمُرَادُ بِالطَّيْلَسَانِ الطَّيْلَسَانُ الْمُقَوَّرُ كَمَا صَحَّحَهُ عُلَمَاؤُنَا، وَهَذَا وَاضِحٌ، وَدَلِيلُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: يَكُونُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْيَهُودِ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَاجٌ وَسَيْفٌ» . قَالَ فِي النِّهَايَةِ: السَّاجُ الطَّيْلَسَانُ الْأَخْضَرُ، وَقِيلَ هُوَ الطَّيْلَسَانُ الْمُقَوَّرُ يُنْسَجُ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ: لَا يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الطَّيْلَسَانِ، وَهُوَ الْمُقَوَّرُ الطَّرَفَيْنِ الْمَكْفُوفُ الْجَانِبَيْنِ الْمُلَفَّقُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ وَهُوَ لِبَاسُ الْيَهُودِ قَدِيمًا، وَالْعَجَمِ أَيْضًا وَالْعَرَبُ تُسَمِّيه سَاجًا. وَيُقَالُ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ لَبِسَهُ مِنْ الْعَرَبِ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُهُ. وَفِي الْقَامُوسِ: الطَّيْلَسُ وَالطَّيْلَسَانُ مُثَلَّثَةُ اللَّامِ عَنْ عِيَاضٍ وَغَيْرِهِ مُعَرَّبٌ أَصْلُهُ تَالِسَانٌ. وَيُقَالُ فِي الشَّتْمِ. يَا ابْنَ الطَّيْلَسَانِ أَيْ إنَّك أَعْجَمِيٌّ، وَالْجَمْعُ طَيَالِسَةٌ. وَفِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ: الطَّيْلَسَانُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. قَالَ الْفَارَابِيُّ: هُوَ فَيْعَلَانٌ - بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ - وَبَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ لُغَةٌ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَلَمْ يَأْتِ اسْمُ فَيْعِلَانٌ - بِكَسْرِ الْعَيْنِ بَلْ بِالضَّمِّ - مِثْل الْخَيْزُرَانُ وَالْجَمْعُ طَيَالِسَةٌ. انْتَهَى. (تَتِمَّةٌ) ذَكَرَ الثَّعَالِبِيُّ فِي فِقْهِ اللُّغَةِ أَنَّ أَصْغَرَ مَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ يُقَالُ لَهُ الْبُخْنُقُ، وَهُوَ خِرْقَةٌ تُغَطِّي مَا أَقْبَلَ مِنْ الرَّأْسِ، وَمَا أَدْبَرَ، ثُمَّ الْغَفَّارَةُ فَوْقَهَا وَدُونَ الْخِمَارِ، ثُمَّ الْخِمَارُ أَكْبَرُ مِنْهَا، ثُمَّ الْمِقْنَعَةُ، ثُمَّ النَّصِيفُ وَهُوَ كَالنِّصْفِ مِنْ الرِّدَاءِ، وَأَكْبَرُ مِنْ الْمِقْنَعَةِ، ثُمَّ الْمِعْجَرُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْمُقَنَّعَةِ وَأَصْغَرُ مِنْ الرِّدَاءِ، ثُمَّ الْقِنَاعُ وَالرِّدَاءُ. مَطْلَبٌ: يُسَنُّ تَنْظِيفُ الثِّيَابِ وَطَيُّهَا وَيَحْسُنُ تَنْظِيفُ الثِّيَابِ وَطَيُّهَا ... وَيُكْرَهُ مَعَ طَوْلِ الْغِنَى لُبْسُك الرَّدِي (وَيَحْسُنُ) أَيْ يُسَنُّ وَيُنْدَبُ (تَنْظِيفُ) أَيْ إزَالَةُ وَسَخِ (الثِّيَابِ) كُلِّهَا مِنْ قَمِيصٍ وَرِدَاءٍ وَإِزَارٍ وَسَرَاوِيلَ وَعِمَامَةٍ وَغَيْرِهَا. قَالَ الْقَاضِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وَغَيْرُهُ: يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الثَّوْبِ مِنْ الْوَسَخِ وَالْعَرَقِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَغَيْرِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ» «وَرَأَى رَجُلًا شُعْثًا فَقَالَ: مَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسْكِنُ بِهِ رَأْسَهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعَلَّلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّ الثَّوْبَ إذَا اتَّسَخَ تَقَطَّعَ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: مَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْت أَحَدًا أَنْظَفَ ثَوْبًا وَلَا أَشَدَّ تَعَاهُدًا لِنَفْسِهِ فِي شَارِبِهِ وَشَعْرِ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ وَلَا أَنْقَى ثَوْبًا، وَأَشَدَّهُ بَيَاضًا مِنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ وَالثِّيَابُ النَّقِيَّةُ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مِنْ مُرُوءَةِ الرَّجُلِ نَقَاءُ ثَوْبِهِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ «إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ» : نَظَافَةُ اللَّهِ تَعَالَى كِنَايَةٌ عَنْ تَنَزُّهِهِ مِنْ سِمَاتِ الْحَدَثِ، وَتَعَالِيهِ فِي ذَاتِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَحُبُّهُ النَّظَافَةَ مِنْ غَيْرِهِ كِنَايَةٌ عَنْ خُلُوصِ الْعَقِيدَةِ وَنَفْيِ الشِّرْكِ وَمُجَانَبَةِ الْأَهْوَاءِ، ثُمَّ نَظَافَةُ الْقَلْبِ عَنْ الْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَأَمْثَالِهَا. ثُمَّ نَظَافَةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ عَنْ الْحَرَامِ وَالشَّبَهِ، ثُمَّ نَظَافَةُ الظَّاهِرِ لِمُلَابَسَةِ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «نَظِّفُوا أَفْوَاهَكُمْ فَإِنَّهَا طُرُقُ الْقُرْآنِ» أَيْ صُونُوهَا عَنْ اللَّغْوِ وَالْفُحْشِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ وَأَمْثَالِهَا، وَعَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالْقَاذُورَاتِ، وَالْحَثِّ عَلَى تَطْهِيرِهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ بِالسِّوَاكِ. انْتَهَى. (وَ) يَحْسُنُ أَيْضًا بِمَعْنَى يُسَنُّ (طَيُّهَا) أَيْ الثِّيَابِ، وَهُوَ بِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ فَهَاءٍ فَأَلِفِ تَأْنِيثٍ مِنْ طَوَى الصَّحِيفَةَ يَطْوِيهَا: وَذَلِكَ لِئَلَّا يَسْتَعْمِلَهَا الشَّيْطَانُ بِاللُّبْسِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ فِي مَنْظُومَتِهِ فِي حَقِّ الشَّيْطَانِ: وَيَدْخُلُ الْبَيْتَ يَنَامُ فِيهِ ... بِغَيْرِ إذْنٍ سَاءَ مِنْ سَفِيهِ عَلَى ثِيَابٍ لَمْ تَكُنْ مَطْوِيَّةً ... إنْ لَمْ يُسَمَّ خَالِقُ الْبَرِّيَّةِ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ «طَيُّ الثَّوْبِ رَاحَتُهُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّهَا وَاهِيَةٌ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ: أَطِعْنِي لَيْلًا أُجَمِّلْك نَهَارًا. وَأَوْرَدَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ جَابِرٍ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ رَاحَتُهُ مِنْ لُبْسِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَطْوِيًّا. فَيَنْبَغِي ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لَا يَصِحُّ. انْتَهَى، وَذَكَرَ السَّخَاوِيُّ فِي الْمَقَاصِدِ مَا يُقَوِّيهِ، وَفِي التَّمْيِيزِ: طَيُّ اللِّبَاسِ يَزِيدُ فِي زِيِّهِ. وَرَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْبَاءِ بَعْدَ الْيَاءِ مِنْ الطِّيبِ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ أَيْضًا. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَطَيَّبُ وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ بِمَا ظَهَرَ رِيحُهُ، وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَالْمَرْأَةُ عَكْسُهُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي آدَابِ النِّسَاءِ: لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِمَّا يَنُمُّ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالنَّسَائِيِّ فِي سُنَنِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. مَطْلَبٌ: زِيَادَةُ لَفْظَةِ ثَلَاثٍ فِي حَدِيثِ حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ وَأَمَّا مَا اُشْتُهِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ زِيَادَةِ ثَلَاثٍ فَقَالَ السَّخَاوِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْإِحْيَاءِ، وَفِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ الْكَشَّافِ وَمَا رَأَيْتُهَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ مَزِيدِ التَّفْتِيشِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ لَفْظَةُ ثَلَاثٍ. قَالَ: وَزِيَادَتُهَا مُحِيلَةٌ لِلْمَعْنَى، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ الدُّنْيَا انْتَهَى. قُلْت: وَفِي مَوْضُوعَاتٍ عَلَى الْقَارِئِ بَعْدَ إيرَادِهِ الْحَدِيثَ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا زِيَادَةُ ثَلَاثٍ الْوَاقِعَةُ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ فَلَا أَصْلَ لَهَا كَمَا قَالَهُ الْحُفَّاظُ، وَإِنْ تَكَلَّفَ الْإِمَامُ ابْنُ فُورَكٍ فِي تَوْجِيهِهَا انْتَهَى. وَهَذَا يَعْنِي التَّطَيُّبَ بِالطِّيبِ، وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا فَلَيْسَ بِمُرَادٍ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ بَلْ الطَّيُّ أَوْلَى، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ لِلْغَنِيِّ لُبْسُ رَدِيءِ الثِّيَابِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا لَك أَيُّهَا الْمُتَقَشِّفُ (مَعَ طَوْلٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ كَثْرَةِ (الْغِنَى) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ضِدُّ الْفَقْرِ، وَإِذَا فُتِحَتْ الْغَيْنُ مُدِّدَ بِهِ. وَالْغِنَاءُ كَالْكِسَاءِ مِنْ الصَّوْتِ مَا طُرِبَ بِهِ وَكَسَمَاءِ رَمْلٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْفَضْلُ وَالْقُدْرَةُ وَالْغِنَى وَالسَّعَةُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] وَيَكُونُ مَعْنَى كَلَامِ النَّاظِمِ: وَكُرِهَ مَعَ سَعَةِ الْغِنَى الْحَاصِلِ لَك مِنْ مِنَّةِ الْغَنِيِّ الْمُطْلَقِ (لُبْسُك) لِمَلْبُوسِ (الرَّدِيءِ) لِعَدَمِ إظْهَارِك لِأَثَرِ نِعَمِهِ عَلَيْك وَمَا بَسَطَهُ لَك مِنْ الطَّوْلِ وَوَسِعَهُ لَدَيْك. فَإِنَّ التَّوَاضُعَ لَيْسَ هُوَ فِي اللِّبَاسِ. كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ مَنْ لَيْسَ لَدَيْهِ تَحْقِيقٌ مِنْ النَّاسِ، بَلْ التَّوَاضُعُ وَالِانْكِسَارُ، وَالذُّلُّ وَالِافْتِقَارُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ بِلَا إنْكَارٍ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: أَجِدْ الثِّيَابَ إذَا اكْتَسَيْت فَإِنَّهَا ... زَيْنُ الرِّجَالِ بِهَا تُهَابُ وَتُكْرَمُ وَدَعِ التَّوَاضُعَ فِي اللِّبَاسِ تَحَرِّيًا ... فَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ وَتَكْتُمُ فَدَنِيُّ ثَوْبِك لَا يَزِيدُك زُلْفَةً ... عِنْدَ الْإِلَهِ وَأَنْتَ عَبْدٌ مُجْرِمُ وَبَهَاءُ ثَوْبِك لَا يَضُرُّك بَعْدَمَا ... تَخْشَى الْإِلَهَ وَتَتَّقِي مَا يَحْرُمُ قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ أَخْذُ الزِّينَةِ فَقَالَ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِاسْمِ الزِّينَةِ لَا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ إيذَانًا بِأَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْبَسَ زَيْنَ ثِيَابِهِ وَأَجْمَلَهَا فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: وَكَانَ لِبَعْضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بِمَبْلَغٍ عَظِيمٍ مِنْ الْمَالِ، وَكَانَ يَلْبَسُهَا وَقْتَ الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: رَبِّي أَحَقُّ مَنْ تَجَمَّلْت لَهُ فِي صَلَاتِي. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ. لَا سِيَّمَا إذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَلَابِسِهِ وَنِعْمَتِهِ الَّتِي أَلْبَسَهُ إيَّاهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. انْتَهَى. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ " فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى نِعْمَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَحَسَّنَهَا وَلَفْظُهُ " فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى عَلَى عَبْدِهِ أَثَرَ نِعْمَتِهِ ". وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَعَلَيْهِ مُطْرَفٌ مِنْ خَزٍّ لَمْ نَرَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا بَعْدَهُ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَلْيُظْهِرْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ» وَفِي لَفْظٍ " عَلَى عَبْدِهِ ". قَالَ فِي الْفُرُوعِ: إسْنَادٌ جَيِّدٌ. . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ مَالِكَ ذِي يَزَنَ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةً أَخَذَهَا بِثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ نَاقَةً فَقَبِلَهَا» . وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُلَّةً بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ نَاقَةً فَلَبِسَهَا» . وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ بِلَفْظِ «بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ أُوقِيَّةً» . وَفِي مَرَاسِيلِ ابْنِ سِيرِينَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى حُلَّةً أَوْ قَالَ ثَوْبًا بِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ نَاقَةً» . وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ «أَهْدَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهُدْنَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَ قُرَيْشٍ حُلَّةَ ذِي يَزَنَ اشْتَرَاهَا بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنِّي لَا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ، فَبَاعَهَا حَكِيمٌ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ اشْتَرَاهَا لَهُ فَلَبِسَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَتَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ. وَأَنَّ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشْتَرَى حُلَّةً كَانَ يَلْبَسُهَا إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ. وَكَانَ حَالُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَالُ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ. وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ، يَكُونُونَ بِحَسَبِ الْحَالِ، لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ مَوْجُودٍ " وَلَا يَتَكَلَّفُونَ حَوْزَ مَفْقُودٍ. فَنَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يَهْدِيَنَا طَرِيقَهُمْ، وَيُلْهِمَنَا تَوْفِيقَهُمْ، وَيَرْزُقَنَا تَحْقِيقَهُمْ إنَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. مَطْلَبٌ: فِي تَجَمُّلِ الْأَغْنِيَاءِ. عِدَّةُ فَوَائِدَ قُلْت: وَفِي تَجَمُّلِ الْأَغْنِيَاءِ عِدَّةُ فَوَائِدَ: مِنْهَا إظْهَارُ أَثَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وَمِنْهَا الْتِمَاسُ الْفُقَرَاءِ مِمَّا لَدَيْهِ. وَمِنْهَا لِئَلَّا تُدْفَعَ الزَّكَاةُ إلَيْهِ. وَمِنْهَا دَفْعُ الْإِسَاءَةِ مِمَّنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ: وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ التَّوَاضُعِ وَالِانْخِفَاضِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْمِنَّةِ لِمَنْ أَسْدَى إلَيْهِ هَذِهِ النِّعَمَ، وَالشُّكْرَ لَهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى مَا مَنَحَهُ مِنْ الْكَرَمِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ لَهُ - شُكْرَهَا، وَمَا عَلِمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً عَلَى ذَنْبٍ إلَّا غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَشْتَرِي الثَّوْبَ بِالدِّينَارِ فَيَلْبَسُهُ فَيَحْمَدُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فَمَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ» ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: لَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْفِرَاءِ وَلَا شِرَاؤُهَا وَلَا بَأْسَ فِي لُبْسِ الْفِرَا وَاشْتِرَائِهَا ... جُلُودَ حَلَالٍ مَوْتُهُ لَمْ يُوَطَّدْ (وَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ (فِي لُبْسِ) الْإِنْسَانِ (لِلْفِرَاءِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ جَمْعُ فَرْوَةٍ: اللِّبَاسُ الْمَعْرُوفُ (وَ) لَا بَأْسَ أَيْضًا (بِاشْتِرَائِهَا) لِأَنَّ مَا حَلَّ اسْتِعْمَالُهُ بِلَا ضَرُورَةٍ حَلَّ شِرَاؤُهُ بِشَرْطِ كَوْنِ الْفِرَا (جُلُودَ) حَيَوَانٍ (حَلَالِ) الْأَكْلِ كَالْخَرُوفِ وَالْمَعْزِ وَالْحَوْصَلِ، وَبِشَرْطِ كَوْنِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ قَدْ ذُكِّيَ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً؛ وَلِذَا قَالَ (مَوْتُهُ) أَيْ: مَوْتُ الْحَيَوَانِ الَّذِي الْفِرَاءُ مِنْ جِلْدِهِ (لَمْ يُوَطَّدْ) أَيْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ انْتِفَاءُ عِلْمِ مَوْتِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ لَا الْعِلْمُ أَنَّهُ قَدْ ذُكِّيَ. فَإِذَا وَجَدْنَا جِلْدًا مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ طَاهِرٌ مَا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ ذَكَّاهُ مَنْ لَمْ تَحِلَّ ذَكَاتُهُ لَهُ. مَطْلَبٌ: يَمْتَنِعُ لُبْسُ جِلْدِ الثَّعْلَبِ فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ وَكَاللَّحْمِ الْأَوْلَى اُحْظُرَنْ جِلْدَ ثَعْلَبٍ ... وَعَنْهُ لِيُلْبَسْ وَالصَّلَاةَ بِهِ اُصْدُدْ (وَكَاللَّحْمِ) فِي الرِّوَايَةِ (الْأَوْلَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُون الْوَاوِ (اُحْظُرَنْ) أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ أَيْ امْنَعْ (جِلْدَ ثَعْلَبٍ) كَلَحْمِهِ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِهِ وَلَا لُبْسُ جِلْدِهِ. وَالثَّعْلَبُ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَسُكُونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ: مَعْرُوفٌ، وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى ثَعْلَبَةٌ وَالْجَمْعُ أَثْعَلُ. وَفِي حَدِيثٍ «شَرُّ السِّبَاعِ هَذِهِ الْأَثْعُلُ» يَعْنِي الثَّعَالِبَ رَوَاهُ ابْنُ قَانِعٍ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا. وَكُنْيَةُ الثَّعْلَبِ أَبُو الْحَصِينِ، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ سَبُعًا. فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِهِ، وَلُبْسُ جِلْدِهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ. وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَحْرُمُ ثَعْلَبٌ. قَالَ: وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الثَّعْلَبِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِيهِ إلَّا عَطَاءً. وَكُلُّ شَيْءٍ اشْتَبَهَ عَلَيْك فَدَعْهُ انْتَهَى. وَعِبَارَةُ الْإِنْصَافِ: أَمَّا الثَّعْلَبُ فَيَحْرُمُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ، يَعْنِي الْمُوَفَّقَ وَالشَّارِحَ، يَعْنِي ابْنَ أَخِيهِ شَمْسَ الدِّينِ بْنِ أَبِي عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ الثَّعْلَبِ. قَالَ النَّاظِمُ: هَذَا أَوْلَى. وَصَحَّحَهُ فِي التَّصْحِيحِ. وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ. (وَعَنْهُ) أَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (لِيُلْبَسْ) اللَّامُ هَذِهِ لَامُ الْأَمْرِ وَالْمُرَادُ أَمْرُ إبَاحَةٍ، يَعْنِي يُبَاحُ لُبْسُ الْفِرَاءِ مِنْ جِلْدِ الثَّعْلَبِ (وَ) لَكِنَّ (الصَّلَاةَ) مِنْ الْمُصَلِّي (بِهِ) أَيْ بِجِلْدِ الثَّعْلَبِ يَعْنِي أَنَّ صَلَاةَ لَابِسِ جِلْدٍ لِلثَّعْلَبِ مَعَ إبَاحَةِ لُبْسِهِ (اُصْدُدْ) أَيْ امْنَعْ صِحَّتَهَا. وَعَنْهُ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُلْبَسَ إذَا دُبِغَ بَعْدَ تَذْكِيَتِهِ. لَكِنْ اخْتَلَفَ فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَقَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: إنْ ذُكِّيَ وَدُبِغَ جِلْدُهُ أُبِيحَ مُطْلَقًا. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ فِي أَصْلِ إبَاحَةِ لَحْمِ الثَّعْلَبِ رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا الْحُرْمَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا. وَالثَّانِيَةُ الْإِبَاحَةُ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: مُبَاحٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَاخْتَارَهَا الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْخِرَقِيُّ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْكَافِي، وَالْهِدَايَةِ، وَالْمُذْهَبِ، وَمَسْبُوكِ الذَّهَبِ، وَالْمُسْتَوْعِبِ، وَالْخُلَاصَةِ، وَالْمُحَرَّرِ، وَالرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِيَيْنِ، وَإِدْرَاكِ الْغَايَةِ، وَالزَّرْكَشِيِّ، وَتَجْرِيدِ الْعِنَايَةِ، وَغَيْرِهِمْ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ فَهَلْ يُبَاحُ لُبْسُ جِلْدِهِ أَوْ لَا؟ رِوَايَتَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ أَوْ لَا تَصِحُّ؟ رِوَايَتَانِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِالصِّحَّةِ هَلْ تُكْرَهُ أَوْ لَا؟ رِوَايَتَانِ. قُلْت: اخْتَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - أَعْلَى اللَّهُ كَعْبَهُ - جَوَازَ لُبْسِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ. فَإِنَّهُ سُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْفِرَاءِ مِنْ جُلُودِ الْوُحُوشِ هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا؟ فَأَجَابَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَمَّا جُلُودُ الْأَرْنَبِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا بِلَا نِزَاعٍ. وَأَمَّا الثَّعْلَبُ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِيهِ. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: حُكْمُ لُبْسِ جُلُودِ السَّمُّورِ وَالْفَنَكِ وَقَدْ كَرِهَ السَّمُّورَ وَالْفَنَكَ أَحْمَدُ ... وَسِنْجَابَهُمْ وَالْقَاقِمَ أَيْضًا لِيَزْدَدْ (وَقَدْ كَرِهَ السَّمُّورَ) مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ (وَ) كَرِهَ (الْفَنَكَ) الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَيْ كَرِهَ لُبْسَ جُلُودِ السَّمُّورِ وَالْفَنَكِ فَأَمَّا السَّمُّورُ فَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْمِيمِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ عَلَى وَزْنِ السَّفُّودِ وَالْكَلُّوبِ، حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ يُشْبِهُ السِّنَّوْرَ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ النَّمِرُ، وَإِنَّمَا الْبُقْعَةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَثَّرَتْ فِي تَغْيِيرِ لَوْنِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ: إنَّهُ حَيَوَانٌ جَرِيءٌ لَيْسَ فِي الْحَيَوَانِ أَجْرَأُ مِنْهُ عَلَى الْإِنْسَانِ، لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِالْحِيَلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُدْفَنَ لَهُ جِيفَةٌ يُصَادُ بِهَا، وَلَحْمُهُ حُلْوٌ وَالتُّرْكُ يَأْكُلُونَهُ. قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ: وَجِلْدُهُ لَا يُدْبَغُ كَسَائِرِ الْجُلُودِ. قَالَ: وَمِنْ عَجِيبِ مَا وَقَعَ لِلنَّوَوِيِّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ أَنَّهُ قَالَ: السَّمُّورُ طَائِرٌ. قَالَ: وَلَعَلَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ مَا حَكَى ابْنُ هِشَامٍ السَّبْتِيُّ فِي شَرْحِ الْفَصِيحِ أَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْجِنِّ. وَخُصَّ هَذَا بِاِتِّخَاذِ الْفَرْوِ مِنْ جُلُودِهِ لِلِينِهَا وَخِفَّتِهَا وَدِفَائِهَا وَحُسْنِهَا وَتَلْبَسُهُ الْمُلُوكُ وَالْأَكَابِرُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: رَأَيْت عَلَى الشَّعْبِيِّ قَبَاءَ سَمُّورٍ. وَأَمَّا الْفَنَكُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالنُّونِ عَلَى وَزْنِ عَسَلٍ فَدُوَيْبَّةٌ يُؤْخَذُ مِنْهَا الْفَرْوُ. قَالَ ابْنُ الْبَيْطَارِ: إنَّهُ أَطْيَبُ مِنْ جَمِيعِ الْفِرَاءِ، يُجْلَبُ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ الصَّقَالِبَةِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِي لَحْمِهِ حَلَاوَةٌ، وَهُوَ أَبْرَدُ مِنْ السَّمُّورِ، وَأَعْدَلُ وَأَحَرُّ مِنْ السِّنْجَابِ يَصْلُحُ لِلْأَبْدَانِ الْمُعْتَدِلَةِ. ذُكِرَ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: فِي السَّمُّورِ وَالْفَنَكِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا يَحْرُمُ. انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 تَنْبِيهٌ) : قَدْ نَسَبَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَرَاهَةَ السَّمُّورِ وَالْفَنَكِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْإِمَامَ الْقَاضِيَ قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: فِي السَّمُّورِ وَالْفَنَكِ وَجْهَانِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اصْطِلَاحَ أَصْحَابِنَا - رَحِمُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا هُوَ لِلْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالرِّوَايَتَيْنِ أَوْ الرِّوَايَاتِ. وَقَدْ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فَهُوَ لِلْأَصْحَابِ لَيْسَ إلَّا. لَكِنَّ مُرَادَ النَّاظِمِ أَنَّ قِيَاسَ مَذْهَبِهِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْإِنْصَافَ صَحَّحَ الْحُرْمَةَ؛ وَلِذَا قَالَ الْحَجَّاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا أَعْلَمُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيهِمَا كَلَامًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: حُكْمُ لُبْسِ جُلُودِ السِّنْجَابِ وَالْقَاقِمِ (وَ) قَدْ كَرِهَ أَيْضًا (سِنْجَابهمْ) أَيْ يُكْرَهُ لُبْسُ جُلُودِ السِّنْجَابِ وَهُوَ حَيَوَانٌ عَلَى حَدِّ الْيَرْبُوعِ أَكْبَرُ مِنْ الْفَأْرِ، شَعْرُهُ فِي غَايَةِ النُّعُومَةِ، يُتَّخَذُ مِنْ جِلْدِهِ الْفِرَاءُ يَلْبَسُهُ الْمُتَنَعِّمُونَ، وَهُوَ شَدِيدُ الْحِقْدِ إذَا أَبْصَرَ الْإِنْسَانَ صَعِدَ الشَّجَرَ الْعَالِيَ، وَفِيهَا يَأْوِي، وَمِنْهَا يَأْكُلُ، وَهُوَ كَثِيرٌ بِبِلَادِ الصَّقَالِبَةِ وَالتُّرْكِ، وَمِزَاجُهُ حَارٌّ رَطْبٌ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ عَلَى حَرَكَةِ الْإِنْسَانِ، وَأَجْوَدُ جُلُودِهِ الْأَزْرَقُ الْأَمْلَسُ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: فِي السِّنْجَابِ وَجْهَانِ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْمُحَرَّرِ وَالرِّعَايَةِ الصُّغْرَى وَالْحَاوِيَيْنِ وَالنَّظْمِ وَالْفُرُوعِ أَحَدُهُمَا يَحْرُمُ، صَحَّحَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَتَصْحِيحُ الْمُحَرَّرِ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْرُمُ لِأَنَّهُ يَنْهَشُ الْحَيَّاتِ فَأَشْبَهَ الْجُرُزَ. وَمَيْلُ الْإِمَامِ الْمُوَفَّقِ وَابْنِ أَخِيهِ الشَّارِحِ إلَى الْإِبَاحَةِ. (وَ) كَذَا كَرِهَ (الْقَاقِمَ) وَهُوَ دُوَيْبَّةٌ تُشْبِهُ السِّنْجَابَ، إلَّا أَنَّهُ أَبْرَدُ مِنْهُ مِزَاجًا وَأَبْيَضُ؛ وَلِهَذَا هُوَ أَبْيَضُ يَقَقٌ، وَيُشْبِهُ جِلْدُهُ جِلْدَ الْفَنَكِ، وَهُوَ أَعَزُّ قِيمَةً مِنْ السِّنْجَابِ، فَأَشْعَرَ كَلَامُ النَّاظِمِ بِكَرَاهَةِ لُبْسِهِ (أَيْضًا) كَالسِّنْجَابِ عَلَى مَا عَلِمْت فِيهِ (لِيَزْدَدْ) الْوَاقِفُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ مِنْ إبَاحَةِ الْمُبَاحِ وَحَظْرِ الْمُحَرَّمِ، وَحِكَايَةُ الْوَجْهَيْنِ لِيَتَبَصَّرَ وَيَفْهَمَ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : لَمْ أَرَ لِمُتَقَدِّمِي الْأَصْحَابِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقَاقَمِ كَلَامًا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْفُرُوعِ وَلَا تَصْحِيحِهِ، وَلَا فِي الْإِنْصَافِ وَلَا فِي التَّنْقِيحِ وَلَا فِي الْمُقْنِعِ، وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي غَايَةِ الْمَطْلَبِ وَالْآدَابِ الْكُبْرَى وَالتَّنْقِيحِ وَالْمُنْتَهَى، وَذَكَرَهُ فِي الْإِقْنَاعِ فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ. وَكَأَنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَاسَهُ عَلَى السِّنْجَابِ، وَحَكَى فِيهِ الْخِلَافَ الَّذِي فِي السِّنْجَابِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لِيَزْدَدْ أَيْ: الْقَاقِمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ؛ إذْ الْعِلَّةُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. الثَّانِي: اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى الْقَوْلِ بِحُرْمَةِ الْمَذْكُورَاتِ بِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كُلُّ ذِي نَابٍ حَرَامٌ» وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، فَتَخُصُّ عُمُومُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالثَّعْلَبُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ ذَوَاتُ أَنْيَابٍ، فَهِيَ مِنْ السِّبَاعِ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْي. وَفِي تَمْهِيدِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ السِّنْجَابَ وَالْفَنَكَ وَالسَّمُّورَ كُلُّ ذَلِكَ سَبُعٌ مِثْلُ الثَّعْلَبِ وَابْنِ عُرْسٍ انْتَهَى. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَبَاحَ لُبْسَ جِلْدِ الثَّعْلَبِ فَهُوَ يُبِيحُ جِلْدَ غَيْرِهِ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ؛ لِأَنَّهَا مُشَبَّهَةٌ بِهِ مِنْ كَوْنِهَا مِثْلَهُ فِي السَّبُعِيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ الْفِرَاءَ (الثَّالِثُ) : أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ الْفِرَاءَ وَالْجُلُودَ مِثْلَ السِّنْجَابِ وَالسَّمُّورِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْجُلُودِ وَلَبِسَهَا وَأَلْبَسَهَا شَيْخُ شَاهْ الْمُلَقَّبُ عِنْدَ الْعَجَمِ ييش داديان، كَانَ مَلِكًا حَكِيمًا عَادِلًا فَطِنًا، وَلَهُ كِتَابٌ عَظِيمٌ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَأَنْوَاعِ الْهَيَاكِلِ، وَجُدِّدَ فِي خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ. وَاسْمُ كِتَابِهِ جاودان الصَّغِيرُ، وَتُرْجِمَ بِالْعَرَبِيَّةِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَارِيخِهِ: يَدُلُّ كِتَابُهُ عَلَى حِكْمَتِهِ وَدِيَانَتِهِ وَحَذَاقَتِهِ حَتَّى إنَّ الْعَجَمَ قَالَتْ بِنُبُوَّتِهِ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَرَكَ الْمُلْكَ وَتَخَلَّى لِلْعِبَادَةِ، فَقُتِلَ فِي مَعْبَدِهِ، وَانْتَقَمَ مِنْ بَعْدِهِ طهمورث مِنْ قَتَلَتِهِ وَأَبَادَهُمْ جَمِيعًا، وَبَنَى فِي مَوْضِعِهِ مَدِينَةَ بَلْخِي. قَالَ عَلِيٌّ دَدَهْ فِي أَوَائِلِهِ: وَكَانَ تِلْمِيذًا لِإِدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَذَكَرَهُ فِي أُصُولِ التَّوَارِيخِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 مَطْلَبٌ: لَا يُكْرَهُ لُبْسُ جِلْدِ الْأَرْنَبِ وَفِي نَصِّهِ لَا بَأْسَ فِي جِلْدِ أَرْنَبٍ وَكُلَّ السِّبَاعِ اُحْظُرْ كَهِرٍّ بِأَوْطَدِ (وَفِي نَصِّهِ) أَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (لَا بَأْسَ) لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ (فِي) لُبْسِ جِلْدِ (أَرْنَبٍ) وَاحِدَةُ الْأَرَانِبِ، وَهُوَ حَيَوَانٌ يُشْبِهُ الْعِنَاقَ قَصِيرُ الْيَدَيْنِ طَوِيلُ الرِّجْلَيْنِ عَكْسُ الزَّرَافَةِ، يَطَأُ الْأَرْضَ عَلَى مُؤَخَّرِ قَوَائِمِهِ. وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَذَكَرُهَا يُقَالُ لَهُ الْخُزَزُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَضْمُومَةِ وَبَعْدَهَا زَايَانِ، وَجَمْعُهُ خُزَّانِ كَصُرَدٍ وَصِرْدَانٍ، وَيُقَالُ لِلْأُنْثَى عِكْرِشَةٌ. وَالْخِرْنِقُ وَلَدُ الْأَرْنَبِ، فَهُوَ أَوَّلًا خِرْنِقُ ثُمَّ سَخْلَةٌ ثُمَّ أَرْنَبٌ. وَقَضِيبُ الذَّكَرِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَذَكَرِ الثَّعْلَبِ أَحَدُ شَطْرَيْهِ عَظْمٌ وَالْآخَرُ عَصَبٌ. وَرُبَّمَا رَكِبَتْ الْأُنْثَى الذَّكَرَ عِنْدَ السِّفَادِ لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّبَقِ، وَتَسْفِدُ وَهِيَ حُبْلَى. ذُكِرَ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ. وَذُكِرَ أَنَّ الْأَرْنَبَ يَكُونُ عَامًا ذَكَرًا وَعَامًا أُنْثَى، كَذَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (فَائِدَةٌ) : الْأَرْنَبُ تَحِيضُ وَمِنْ ذَا قَوْلِ الشَّاعِرِ: وَضَحِكُ الْأَرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا ... كَمِثْلِ دَمِ الْحَرْبِ يَوْمَ اللِّقَا مَطْلَبٌ: الَّذِي يَحِيضُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ ثَمَانِيَةٌ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ اللَّوَاتِي تَحِيضُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ ثَمَانِيَةٌ: الْمَرْأَةُ، وَالضَّبُعُ، وَالْخُفَّاشُ، وَالْأَرْنَبُ، وَالْكَلْبَةُ، وَالْفَرَسُ، وَالنَّاقَةُ، وَالْوَزَغُ. وَنَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: إنَّ اللَّوَاتِي يَحِضْنَ الْكُلَّ قَدْ جُمِعَتْ ... فِي ضِمْنِ بَيْتٍ فَكُنْ مِمَّنْ لَهُنَّ يَعِي امْرَأَةٌ نَاقَةٌ مَعَ أَرْنَبٍ وَزَغٌ ... وَكَلْبَةٌ فَرَسٌ خُفَّاشٌ مَعَ ضَبُعٍ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَبَ إبَاحَةُ لُبْسِ جِلْدِ الْأَرْنَبِ لِحِلِّ أَكْلِ لَحْمِهَا. جَزَمَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ، وَالنَّظْمِ، وَالْوَجِيزِ، وَنِهَايَةِ ابْن زِرَّيْنِ، وَالْمُنَوِّرِ، وَمُنْتَخَبِ الْأَدَمِيِّ، وَالْكَافِي، وَالشَّرْحِ، وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ. وَقِيلَ: لَا. وَالْمَذْهَبُ بَلَى. وَبِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمَا كَرِهَا أَكْلَهَا. حُجَّتُنَا مَا رَوَى الْجَمَاعَةُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «نَفَحْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 فَسَعَى الْقَوْمُ عَلَيْهَا فَلَغَبُوا فَأَخَذْتهَا وَأَتَيْت بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَرِكِهَا وَفَخِذِهَا فَقَبِلَهُ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبِلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ» . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد «كُنْت غُلَامًا حَزُورًا فَصِدْت أَرْنَبًا فَشَوَيْتهَا فَبَعَثَ مَعِي أَبُو طَلْحَةَ بِعَجُزِهَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَالْحَزْوَرُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ الْمُرَاهِقُ. وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا فَقَالَ «هِيَ حَلَالٌ» وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي تَمْتَنِعُ لُبْسُ جُلُودِهَا (وَكُلُّ السِّبَاعِ) مِنْ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَنَحْوِهَا (اُحْظُرْ) امْنَعْ لُبْسَ شَيْءٍ مِنْ جُلُودِهَا لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ لِنَجَاسَتِهَا وَعَدَمِ طَهَارَتِهَا بِالدِّبَاغِ (كَ) مَا تَمْنَعُ لُبْسَ جِلْدِ (هِرٍّ) أَيْ سِنَّوْرِ الْبَرِّ. وَأَمَّا السِّنَّوْرُ الْأَهْلِيُّ فَلَا شَكَّ فِي الْمَذْهَبِ فِي حُرْمَتِهِ وَحُرْمَةِ لُبْسِ جِلْدِهِ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَأَمَّا سِنَّوْرُ الْبَرِّ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ حَرَامٌ، صَحَّحَهُ فِي التَّصْحِيحِ. قَالَ النَّاظِمُ: هَذَا أَوْلَى. وَفِي الْفُرُوعِ: يَحْرُمُ سِنَّوْرُ بَرٍّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ فِي تَذْكِرَتِهِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمُنَوِّرِ وَمُنْتَخَبِ الْأَدَمِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا. وَعَنْهُ يُبَاحُ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْكَافِي وَالْمُحَرَّرِ وَالْإِشَارَةِ لِلشِّيرَازِيِّ وَالْبُلْغَةِ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِ الْهِرَّةِ وَأَكْلِ ثَمَنِهَا» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنَّوْرِ» فَقِيلَ: مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ الْوَحْشِيِّ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ وَقِيلَ: نَهْيُ تَنْزِيهٍ حَتَّى يَعْتَادَ النَّاسُ هِبَتَهُ وَإِعَارَتَهُ كَمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ، وَتَقَدَّمَ هَذَا. وَقَوْلُ النَّاظِمِ (بِأَوْطَدِ) مُتَعَلِّقٌ بِ اُحْظُرْ، أَيْ: بِأَثْبَتَ وَأَوْلَى مِنْ اللَّوَاتِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 قَبْلَهُ. وَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ: أَمَّا فِي الْأَهْلِي فَلِأَنَّهُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا فِي الْبَرِّيِّ فَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِإِبَاحَتِهِ دُونَ الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ تِلْكَ كَمَا هُوَ مَشْرُوحٌ إنْ كُنْت ذَا تَفَطُّنٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: بَيَانُ فَضْلِ التَّوَاضُعِ فِي اللِّبَاسِ وَمَنْ يَرْتَضِي أَدْنَى اللِّبَاسِ تَوَاضُعًا سَيُكْسَى الثِّيَابَ الْعَبْقَرِيَّاتِ فِي غَد (وَمَنْ) أَيْ: شَخْصٌ يَعْنِي كُلَّ إنْسَانٍ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (يَرْتَضِي) هُوَ لِنَفْسِهِ (أَدْنَى) أَيْ أَنْزَلَ وَأَرْدَأَ (اللِّبَاسِ) أَيْ الْمَلْبُوسِ مِنْ إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَقَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ رِضَاهُ بِذَلِكَ الْأَدْنَى (تَوَاضُعًا) أَيْ لِأَجْلِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَانْخِفَاضًا وَاحْتِقَارًا لِلنَّفْسِ وَلِلدُّنْيَا وَزِينَتِهَا. وَاقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ بِتَرْكِهِ لَهَا حِينَئِذٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى لُبْسِهَا. وَإِنَّمَا تَرَكَهَا تَوَاضُعًا لَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (سَيُكْسَى) بِتَرْكِهِ لِحُبِّ الزِّينَةِ وَالِافْتِخَارِ وَرِضَاهُ بِالدُّونِ وَالِاحْتِقَارِ (الثِّيَابَ الْعَبْقَرِيَّاتِ) نِسْبَةً إلَى قَرْيَةٍ ثِيَابُهَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَالْعَبْقَرِيُّ الْكَامِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَفِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ فِي رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ فِي حَقِّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا أَحْسَنَ نَزْعًا مِنْهُ. قَالَ: الْعَبْقَرِيُّ بِمُهْمَلَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَقَافٍ فَرَاءٍ: طَنَافِسُ ثِخَانٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْبُسُطِ عَبْقَرِيٌّ، وَيُقَالُ: إنَّ عَبْقَرَ أَرْضٌ يُعْمَلُ فِيهَا الْوَشْيُ فَنُسِبَ إلَيْهَا كُلُّ شَيْءٍ جَيِّدٍ. وَيُقَالُ: الْعَبْقَرِيُّ الْمَمْدُوحُ الْمَوْصُوفُ مِنْ الرَّجُلِ وَالْفُرُشِ. انْتَهَى. فَلَمَّا تَرَكَ الْإِنْسَانُ رَفِيعَ الثِّيَابِ وَرَضِيَ بِأَدْنَاهَا تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الدُّنْيَا جَازَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنْ كَسَاهُ الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ الْبَدِيعَةَ الْمَنْسُوجَةَ عَلَى الْهَيْئَةِ الْعَجِيبَةِ الْغَرِيبَةِ مِنْ الْوَشْيِ وَغَيْرِهِ (فِي غَدٍ) فِي دَارِ الْبَقَاءِ الَّتِي لَا يَفْنَى شَبَابُهَا، وَلَا تَبْلَى ثِيَابُهَا، وَلَا تَهْرَمُ حُورُهَا، وَلَا تُهْدَمُ قُصُورُهَا فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَمَزِيدِ الْعِزِّ وَالتَّكْرِيمِ جَزَاءً وِفَاقًا. وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 قَالَ: «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبِسُهَا» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَبِيهِ قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ» - قَالَ بِشْرٌ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ - أَحْسِبُهُ قَالَ: «تَوَاضُعًا، كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَبَّانِ بْنِ فَائِدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ بِزِيَادَةٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيِّ، وَاسْمُهُ إيَاسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا عِنْدَهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا تَسْمَعُونَ، أَلَا تَسْمَعُونَ، إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ، إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ، إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ» يَعْنِي التَّقَحُّلَ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْبَذَاذَةُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَذَالَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ - هُوَ التَّوَاضُعُ فِي اللِّبَاسِ بِرَثَاثَةِ الْهَيْئَةِ وَتَرْكِ الزِّينَةِ وَالرِّضَا بِالدُّونِ مِنْ الثِّيَابِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ «إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ» يَعْنِي التَّقَحُّلَ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: يَعْنِي التَّقَشُّفَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الْبَذَاذَةُ التَّوَاضُعُ فِي اللِّبَاسِ. وَفِي الصِّحَاحِ بَذُّ الْهَيْئَةِ، أَيْ رَثُّهَا، بَيْنَ الْبَذَاذَةِ وَالْبُذُوذَةِ، وَفِي جَمْهَرَةِ ابْنِ دُرَيْدٍ: بَذَّتْ هَيْئَتُهُ بَذَاذَةً وَبُذُوذَةً إذَا رَثَّتْ، وَفِي الْحَدِيثِ «الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ» تَرْكُ الزِّينَةِ وَالتَّصَنُّعِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْمُبْتَذِلَ الَّذِي لَا يُبَالِي مَا لَبِسَ» . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: «دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَأَخْرَجَتْ إلَيْنَا كِسَاءً مُلَبَّدًا مِنْ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُلَبَّدَةُ وَإِزَارًا غَلِيظًا مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَأَقْسَمَتْ بِاَللَّهِ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ» . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْمُلَبَّدُ الْمُرَقَّعُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «اسْتَكْسَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَسَانِي خَيْشَتَيْنِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي، وَأَنَا أَكْسَى أَصْحَابِي» . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْخَيْشَةُ - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ بَعْدَهُمَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ - هُوَ ثَوْبٌ يُتَّخَذُ مِنْ مُشَاقَةِ الْكَتَّانِ يُغْزَلُ غَزْلًا غَلِيظًا وَيُنْسَجُ نَسْجًا رَقِيقًا، وَقَوْلُهُ: " وَأَنَا أَكْسَى أَصْحَابِي " يَعْنِي أَعْظَمَهُمْ وَأَعْلَاهُمْ كِسْوَةً. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ مُقْبِلًا عَلَيْهِ إهَابُ كَبْشٍ قَدْ تَمَنْطَقَ بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الَّذِي نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ لَقَدْ رَأَيْته بَيْنَ أَبَوَيْنِ يَغْذُوَانِهِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَقَدْ رَأَيْت عَلَيْهِ حُلَّةً شَرَاهَا أَوْ شَرَيْت بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَدَعَاهُ حُبُّ اللَّهِ وَحُبُّ رَسُولِهِ إلَى مَا تَرَوْنَ» . الْإِهَابُ - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ - هُوَ الْجِلْدُ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يُدْبَغْ. وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَيْت عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ رَقَعَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِرِقَاعٍ ثَلَاثٍ لَبِدَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ» . وَفِي فُرُوعِ ابْنِ مُفْلِحٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذَا الْبَيْتِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِ شَرْحِهِ قَالَ: وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ يَعْنِي تَرْكَ التَّرَفُّعِ فِي اللِّبَاسِ وَالرِّضَا بِالْأَدْنَى لِلَّهِ لَا لِعَجَبٍ وَلَا شُهْرَةٍ وَلَا غَيْرِهِ. قَالَ جَمَاعَةٌ: وَالتَّوَسُّطُ فِي الْأُمُورِ أَوْلَى، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ بِحَسَبِ الْحَالِ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ مَوْجُودٍ، وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَفْقُودًا. وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ فِي آخِرِ أَحْكَامِ اللِّبَاسِ: قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: وَذَكَرْت رَجُلًا مِنْ الْمُحَدِّثِينَ يَعْنِي لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: أَنَا أَشَرْت بِهِ أَنْ يَكْتُبَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْت عَلَيْهِ حُبَّهُ لِلدُّنْيَا. وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرَهُ، وَقَالَ: كَمْ تَمَتَّعُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 مِنْ الدُّنْيَا إنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَحِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا. قَالَ: وَذَكَرْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلًا مِنْ الْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ: إنَّمَا أَنْكَرْت عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ زِيُّهُ زِيَّ النُّسَّاكِ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: مَنْ لَمْ يَتَعَزَّ بِعَزَاءِ اللَّهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ حَسَرَاتٍ عَلَى الدُّنْيَا. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّك وَلَا مِنْ كَدِّ أَبِيك وَلَا كَدِّ أُمِّك فَأَشْبِعْ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِك، وَإِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلُبُوسَ الْحَرِيرِ وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ الْإسْفَرايِينِيّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا فِي الْفُرُوعِ: أَمَّا بَعْدُ فَاتَّزِرُوا وَارْتَدُوا، وَأَلْقُوا الْخِفَافَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ، وَعَلَيْكُمْ بِلِبَاسِ أَبِيكُمْ إسْمَاعِيلَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْأَعَاجِمِ وَعَلَيْكُمْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ، وَتَمَعْدَدُوا، وَاخْشَوْشِنُوا، وَاخْلَوْلِقُوا، وَاقْطَعُوا الرَّكَبَ وَانْزُوا وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ. وَبَيَّنَ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ سَبَبَ قَوْلِ عُمَرَ ذَلِكَ. فَعِنْدَهُ فِي أَوَّلِهِ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ بَعَثَ إلَى عُمَرَ مَعَ غُلَامٍ لَهُ بِسِلَالٍ فِيهَا خَبِيصٌ عَلَيْهَا اللُّبُودُ، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ قَالَ: أَيَشْبَعُ الْمُسْلِمُونَ فِي رِحَالِهِمْ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: لَا قَالَ عُمَرُ: لَا أُرِيدُهُ، وَكَتَبَ إلَى عُتْبَةَ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّك الْحَدِيثَ. قَالَ زِيُّ - بِكَسْرِ الزَّايِ - وَلَبُوسِ - بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الْبَاءِ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَأَلْقُوا الرَّكَبَ وَانْزُوا وَارْتَدُوا، وَعَلَيْكُمْ بِالْمُعَدِّيَةِ، وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ، وَذَرُوا التَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْعَجَمِ. فَقَوْلُهُ: وَانْزُوَا أَيْ ثِبُوا وَثْبًا. وَالْمُعَدِّيَةُ أَيْ اللُّبْسَةُ الْخَشِنَةُ نِسْبَةً إلَى مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ وَهِيَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: تَمَعْدَدُوا، وَلِذَا قَالَ فِي الصِّحَاحِ: أَيْ تَشَبَّهُوا بِعَيْشِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ، وَكَانُوا أَهْلَ قَشَفٍ وَغِلَظٍ فِي الْمَعَاشِ. يَقُولُ فَكُونُوا مِثْلَهُمْ وَدَعُوا التَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْعَجَمِ. قَالَ: وَهَكَذَا هُوَ فِي حَدِيثٍ لَهُ آخَرَ: عَلَيْكُمْ بِاللُّبْسَةِ الْمُعَدِّيَةِ. وَفِي هَامِشِ الْفُرُوعِ مِنْ خَطِّ الشِّهَابِ الْفَتُوحِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاقْطَعُوا الرَّكَبَ: الظَّاهِرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 أَنَّهُ هُنَا بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْكَافِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: وَهُوَ مَنْبَتُ الْعَانَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْعَانَةُ أَوْ مَنْبَتُهَا وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - حَلْقُ الْعَانَةِ، كَأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَخْشَوْشِنُوا قَالَ: وَمَعَ ذَلِكَ احْلِقُوا الْعَانَةَ. قَالَ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. قُلْت: وَالْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ وَاقْطَعُوا الرَّكَبَ وَانْزُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّكَبِ مَا يُرْكَبُ فِيهِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالرُّكُبُ كَكُتُبٍ جَمْعُ رِكَابَاتٍ، وَرَكَائِبُ مِنْ السَّرْجِ كَالْغَرْزِ مِنْ الرَّحْلِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ صَاحِبِ الْفُرُوعِ فِي تَفْسِيرِ وَانْزُوا أَيْ ثِبُوا وَثْبًا. وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِ النَّاظِمِ: وَسِرْ حَافِيًا أَوْ حَاذِيًا إلَخْ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ إيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ» . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَالَ فِي كَشْفِ الْمُشْكِلِ: الْآفَةُ فِي التَّنَعُّمِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُشْتَغِلَ بِهِ لَا يَكَادُ يُوفِي التَّكْلِيفَ حَقَّهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْأَكْلُ يُورِثُ الْكَسَلَ وَالْغَفْلَةَ وَالْبَطَرَ وَالْمَرَحَ. وَمِنْ اللِّبَاسِ يُوجِبُ لِينَ الْبَدَنِ فَيَضْعُفُ عَنْ عَمَلٍ شَاقٍّ، وَيَضُمُّ ضِمْنَهُ الْخُيَلَاءَ. وَمِنْ النِّكَاحِ يَضْعُفُ عَنْ أَدَاءِ اللَّوَازِمِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ أَلِفَهُ صَعُبَ عَلَيْهِ فِرَاقُهُ فَيُفْنِي زَمَنَهُ فِي اكْتِسَابِهِ، خُصُوصًا فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّ الْمُتَنَعِّمَةَ بِهِ تَحْتَاجُ إلَى أَضْعَافِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ غَيْرُهَا. قَالَ: وَالْإِشَارَةُ بِزِيِّ أَهْلِ الشِّرْكِ مَا يَنْفَرِدُونَ بِهِ. فَنَهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ كَرِهَ النَّاظِمُ لِلْغَنِيِّ لُبْسَ الرَّدِيءِ، وَهُنَا نَدَبَ إلَى الرِّضَا بِاللِّبَاسِ الْأَدْنَى، فَهَلْ هَذَا إلَّا تَدَافُعٌ؟ قُلْت: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مُرَادُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى عَلَيْهِ أَثَرَ نِعْمَتِهِ لِمَا أَسْلَفْنَا مِنْ الْفَوَائِدِ، فَلَا يَلْبَسُ لُبْسَ الْفُقَرَاءِ، وَلَكِنْ لِيَتَوَسَّطْ فِي مَلْبَسِهِ، أَوْ يَكُونُ لُبْسُهُ ثِيَابَ التَّجَمُّلِ أَحْيَانًا بِنِيَّةِ إظْهَارِ أَثَرِ نِعَمِ الْبَارِي جَلَّ شَأْنُهُ، فَمَا يَنْفَكُّ عَنْ عِبَادَتِهِ مَا دَامَ مُلَاحِظًا لِذَلِكَ. وَهُنَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ يَرْضَى بِالْأَدْنَى عَنْ الْأَعْلَى تَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 لَا يَلْتَحِقُ بِهِ إلَى زِيِّ الْفُقَرَاءِ بَلْ يَتَوَسَّطُ، كَمَا حَكَاهُ فِي الْفُرُوعِ كَمَا أَسْلَفْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا، وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ زِيِّ أَهْلِ الْخُيَلَاءِ فَتَكُونُ حَالَتُهُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ فَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا كَمَا قَدَّمْنَا، فَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْأَفْضَالِ جَلَّ شَأْنُهُ. مَطْلَبٌ: يُسَنُّ حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالَةٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ لُبْسِ الثِّيَابِ وَيَحْسُنُ حَمْدُ اللَّهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ وَلَا سِيَّمَا فِي لُبْسِ ثَوْبٍ مُجَدَّدِ (وَيَحْسُنُ) بِمَعْنَى يُشْرَعُ (حَمْدُ اللَّهِ) جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ (فِي كُلِّ حَالَةٍ) مِنْ الْحَالَاتِ، أَمَّا فِي الْقَلْبِ فَمُطْلَقًا، وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَكَذَلِكَ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْقَذِرَةِ وَكَوْنِ الرَّجُلِ عَلَى حَاجَتِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَكُلِّ مَكَان لَا يَحْسُنُ الذِّكْرُ وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (وَلَا سِيَّمَا) تَقَدَّمَ أَنْ لَا سِيَّمَا يَدْخُلُ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ الْهَاثِمِ: هِيَ مِنْ أَدَوَاتِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا بَلْ هِيَ مُضَادَّةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ قَبْلَهَا، وَمَشْهُودٌ لَهُ بِأَنَّهُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ انْتَهَى. فَأَشْعَرَ كَلَامُ النَّاظِمِ أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ حَالَةٍ وَيَحْسُنُ أَيْضًا مِنْ بَابِ أَوْلَى حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ (فِي) حَالَةِ (لُبْسِ) الْإِنْسَانِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى لِ (ثَوْبٍ) مِنْ الثِّيَابِ مِنْ إزَارٍ وَرِدَاءٍ وَقَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ وَسَرَاوِيلَ وَنَحْوِهَا (مُجَدِّدٍ) أَيْ جَدِيدٍ لَمْ يَكُنْ اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» هَكَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد وَلَمْ يَقُلْ الْحَاكِمُ وَمَا تَأَخَّرَ. مَطْلَبٌ: الْأَعْمَالُ الَّتِي مَنْ عَمِلَهَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذَنْبِهِ (فَائِدَةٌ) : ذَكَرَ الْعَلْقَمِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ جُمْلَةَ الْأَعْمَالِ الْوَارِدَةِ الَّتِي مَنْ عَمِلَ بِهَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ سِتَّةَ عَشَرَ جَمَعَهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَنَظَمَهَا فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 قَدْ جَاءَ عَنْ الْهَادِي وَهُوَ خَيْرُ نَبِيٍّ ... أَخْبَارٌ مَسَانِيدُ قَدْ رُوِيَتْ بِإِيصَالِ فِي فَضْلِ خِصَالٍ وَغَافِرَاتِ ذُنُوبِ ... مَا قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ لِلَّمَّاتِ بِأَفْضَالِ حَجٌّ وَوُضُوءٌ قِيَامُ لَيْلَةِ قَدْرٍ ... وَالشَّهْرُ وَصَوْمٌ لَهُ وَوَقْفَةُ إقْبَالِ آمِينَ وَقَارٍ فِي الْحَشْرِ وَمَنْ قَادَ ... أَعْمَى وَشَهِيدٌ إذَا الْمُؤَذِّنُ قَدْ قَالَ تَسْعَى لِأَخٍ وَالضُّحَى وَعِنْدَ لِبَاسِ ... حَمْدٍ وَمَجِيءٍ مِنْ إيلْيَاءَ بِإِهْلَالِ فِي الْجُمُعَةِ يَقْرَأُ قَوَاقِلًا وَصِفَاحَ ... مَعَ ذِكْرِ صَلَاةٍ عَلَى النَّبِيِّ مَعَ الْآلِ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَبِسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي، ثُمَّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي ثُمَّ عَمَدَ إلَى الثَّوْبِ الَّذِي خَلِقَ فَتَصَدَّقَ بِهِ كَانَ فِي كَنَفِ اللَّهِ، وَفِي حِفْظِ اللَّهِ وَفِي سِتْرِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَالَ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْهُ. وَأَبُو الْعَلَاءِ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: مَجْهُولٌ. وَأَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ الْجُهَنِيُّ مَوْلَاهُمْ الْوَاسِطِيُّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: صَدُوقٌ ضَعَّفَهُ ابْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِلَفْظِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا أَحْسِبُهُ قَالَ جَدِيدًا فَقَالَ حِينَ يَبْلُغُ تَرْقُوَتِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ عَمَدَ إلَى ثَوْبِهِ الْخَلَقِ فَكَسَاهُ مِسْكِينًا لَمْ يَزَلْ فِي جِوَارِ اللَّهِ وَذِمَّةِ اللَّهِ، وَفِي كَنَفِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا حَيًّا وَمَيِّتًا حَيًّا وَمَيِّتًا مَا بَقِيَ مِنْ الثَّوْبِ سِلْكٌ» زَادَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ " فَقُلْت مِنْ أَيِّ الثَّوْبَيْنِ؟ قَالَ لَا أَدْرِي ". وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «عِنْدَ الْكِسْوَةِ» وَفِي لَفْظٍ «إذَا لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي مِنْ الرِّيَاشِ مَا أَتَجَمَّلُ بِهِ فِي النَّاسِ وَأُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَى عُمَرَ قَمِيصًا أَبْيَضَ غَسِيلًا فَقَالَ ثَوْبُك هَذَا غَسِيلٌ أَمْ جَدِيدٌ؟ قَالَ لَا بَلْ غَسِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبِسْ جَدِيدًا وَعِشْ حَمِيدًا وَمُتْ - وَفِي لَفْظٍ - وَتَوَفَّ شَهِيدًا يَرْزُقْك اللَّهُ قُرَّةَ عَيْنٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَفِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ قَمِيصًا أَوْ إزَارًا أَوْ عِمَامَةً يَقُولُ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتنِيهِ، أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِهِ وَخَيْرِ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ. وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ " وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَأَى أَحَدُهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ ثَوْبًا قَالَ: تُبْلِي، وَيُخْلِفُ اللَّهُ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. مَطْلَبٌ: يُطْلَبُ الشُّكْرُ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ وَكُنْ شَاكِرًا لِلَّهِ وَارْضَ بِقَسْمِهِ ... تُثَبْ وَتُزَدْ رِزْقًا وَإِرْغَامَ حُسَّدِ (وَكُنْ) أَيُّهَا الْعَبْدُ (شَاكِرًا لِلَّهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى جَمِيعِ النِّعَمِ الَّتِي أَسَدَاهَا إلَيْك وَمَنَّ بِهَا عَلَيْك، وَاعْتَرِفْ بِقَلْبِك أَنَّك لَوْ أَنْفَقْت جَمِيعَ عُمْرِك فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ وَلَمْ يَزَلْ لِسَانُك رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ لَمْ تُؤَدِّ شُكْرَ نِعَمِهِ، بَلْ وَلَا نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نِعَمِهِ، كَيْفَ، وَالتَّوْفِيقُ لِلشُّكْرِ نِعْمَةٌ أُخْرَى تَحْتَاجُ إلَى شُكْرٍ آخَرَ وَهَلُمَّ جَرًّا. فَلَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ عَلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِ نِعَمِهِ، كَمَا قِيلَ: إذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَةً ... عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إلَّا بِفَضْلِهِ ... وَإِنْ طَالَتْ الْأَيَّامُ وَاتَّصَلَ الْعُمْرُ إذَا مَسَّ بِالسَّرَّاءِ عَمَّ سُرُورُهَا وَإِنْ ... مَسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهَا الْأَجْرُ فَمَا مِنْهُمَا إلَّا لَهُ فِيهِ نِعْمَةٌ ... تَضِيقُ بِهَا الْأَوْهَامُ وَالسِّرُّ وَالْجَهْرُ وَلَكِنَّ الشُّكْرَ قَصُّ جَنَاحِ النِّعَمِ فَلَا تَطِيرُ مِنْ عِنْدِك. فَمِنْ ثَمَّ عَلَيْك شُكْرُهُ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا لُبْسُك الْجَدِيدُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 قَالَ فِي الْفُرُوعِ: فَأَمَّا شُكْرُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ فَمُسْتَحَبٌّ. قَالَ: وَفِي الْحَمْدِ عَلَى الطَّعَامِ خِلَافٌ فَيَتَوَجَّهُ مِثْلُهُ فِي اللِّبَاسِ. ثُمَّ إنْ وَجَبَ يَعْنِي الْحَمْدَ عَلَى اللِّبَاسِ فَعَدَمُهُ يَعْنِي عَدَمَ الْحَمْدِ بِأَنْ تَرَكَهُ لَا يَمْنَعُ الْحِلَّ يَعْنِي لَا يَكُونُ اللِّبَاسُ بِعَدَمِ الْحَمْدِ حَرَامًا. مَطْلَبٌ: الرِّضَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَيَزِيدُ فِي الرِّزْقِ (وَارْضَ) أَنْتَ (بِقَسْمِهِ) لَك فَإِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، وَالْحَكِيمُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا. فَمِنْ عِبَادِهِ مَنْ لَمْ يُصْلِحْهُ إلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَاهُ لَفَسَدَ عَلَيْهِ دِينُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرَهُ لَفَسَدَ عَلَيْهِ دِينُهُ، وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ وَالسَّقَمُ وَنُفُوذُ الْكَلِمَةِ وَعَدَمُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَمَهْمَا قَسَمَهُ لَك مِنْ ذَلِكَ فَكُنْ بِهِ رَاضِيًا مُطْمَئِنًّا لَا سَاخِطًا وَلَا مُتَلَوِّنًا، فَإِنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ أَشْفَقُ مِنْ الْوَالِدَةِ عَلَى وَلَدِهَا. وَمِنْ تَمَامِ حِكْمَتِهِ وَبَدِيعِ قُدْرَتِهِ أَنْ جَعَلَ عِبَادَهُ مَا بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَمُسْتَأْجِرٍ وَأَجِيرٍ، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ، فَإِنْ سَخِطْت شَيْئًا مِنْ أَقْدَارِهِ أَهْلَكْت نَفْسَك وَقَطَّعْتهَا حَسَرَاتٍ عَلَى الدُّنْيَا، وَلَمْ تَنَلْ مِنْهَا إلَّا مَا قَسَمَهُ لَك جَلَّ شَأْنُهُ، وَإِنْ تَرْضَ بِقِسْمَتِهِ لَك مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ (تُثَبْ) ثَوَابَ الرَّاضِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَحْصُلُ لَك الرِّضَا الْمَوْعُودُ بِهِ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَعَلَيْهِ السُّخْطُ» وَتَثْبُتُ لَك حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَتَسْلَمُ مِنْ الْإِبَاقِ الْمُتَوَعَّدِ بِهِ فِي قَوْلِهِ كَمَا فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْقُدْسِيَّةِ «مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي وَيَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي فَلْيَعْبُدْ رَبًّا سِوَايَ» . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَكَانَ الْمَرُّوذِيُّ مَعَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْعَسْكَرِ فِي قَصْرٍ فَأَشَارَ إلَى شَيْءٍ عَلَى الْجِدَارِ قَدْ نُصِبَ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: لَا تَنْظُرْ إلَيْهِ، قَالَ قُلْت: فَقَدْ نَظَرْت إلَيْهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ. قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: تَفَكَّرْت فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] ثُمَّ تَفَكَّرْت فِي وَفِيِّهِمْ وَأَشَارَ نَحْوَ الْعَسْكَرِ قَالَ {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] ، قَالَ: رِزْقُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ خَيْرٌ. قَالَ: وَلَا تَهْتَمَّ لِرِزْقِ غَدٍ. انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 فَإِنْ فَعَلْت كَذَلِكَ (وَ) رَضَتْ نَفْسُك عَلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ (تُزَدْ رِزْقًا) مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ يَرْزُقُ عِبَادَهُ سِيَّمَا الَّذِينَ انْسَلَخُوا عَنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، وَطَرَحُوا عَلَى أَبْوَابِ الرَّجَاءِ وَالْمِنَّةِ، فَهُمْ عَلَيْهِ مُتَوَكِّلُونَ، وَإِلَيْهِ مُتَضَرِّعُونَ، وَعَلَى أَبْوَابِهِ وَاقِفُونَ، وَلِمِنَحِهِ مُنْتَظِرُونَ، فَإِنْ كُنْت مِنْهُمْ تُزَدْ رِزْقًا (وَ) تُزَدْ (إرْغَامَ) أَيْ ذُلَّ وَبَتْكَ وَإِهَانَةَ (حُسَّدِ) جَمْعُ حَاسِدٍ. وَأَصْلُ الرِّغَامِ التُّرَابِ، كَأَنَّك لِشَرَفِ نَفْسِك وَرِضَاك بِقِسْمَةِ مَوْلَاك جَعَلْت أُنُوفَ أَعْدَائِك مُلْصَقَةً بِالتُّرَابِ، وَالْحَاسِدُ عَدُوُّ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَطْلُبُ زَوَالَهَا مِمَّنْ نَالَهَا، وَهُوَ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ عَلَى غَايَةٍ، وَلِذَا قِيلَ شِعْرٌ: أَلَا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِدًا ... أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْت الْأَدَبْ أَسَأْت عَلَى اللَّهِ فِي حُكْمِهِ ... لِأَنَّك لَمْ تَرْضَ مَا قَدْ وَهَبْ فَجَازَاك رَبِّي بِأَنْ زَادَنِي ... وَسَدَّ عَلَيْك وُجُوهَ الطَّلَبْ (تَنْبِيهٌ) : قَدْ تَضَمَّنَ بَيْتُ النَّاظِمِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: الشُّكْرُ، وَالرِّضَا، وَإِرْغَامُ أَهْلِ الْحَسَدِ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ ذَمُّ الْحَسُودِ. فَأَمَّا الرِّضَا فَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَهُوَ إنْ كَانَ كَذَلِكَ فَكَمَالُهُ هُوَ الْحَمْدُ، حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ فَسَّرَ الْحَمْدَ بِالرِّضَا، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَمْدُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِقَضَائِهِ. وَالرِّضَا بِالْمَصَائِبِ أَشَقُّ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ الصَّبْرِ، وَإِنْ كَانَ الصَّبْرُ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى النُّفُوسِ. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ» . مَطْلَبٌ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَقَدْ تَنَازَعَ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرُهُمْ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْمُقْتَصِدِينَ. وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْمُقَرَّبِينَ. ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَالْعَبْدُ قَدْ يَصْبِرُ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَلَا يَرْضَى. فَالرِّضَا أَعْلَى مَقَامِ الصَّبْرِ، لَكِنَّ الصَّبْرَ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِهِ، وَالرِّضَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ، وَالشُّكْرُ أَعْلَى مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 مَقَامِ الرِّضَا، فَإِنَّهُ يَشْهَدُ الْمُصِيبَةَ نِعْمَةً، وَالْمِحْنَةَ مِنْحَةً فَيَشْكُرُ الْمُبْلِيَ عَلَيْهَا. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا الرِّضَا فَمَنْزِلَةٌ عَزِيزَةٌ أَوْ مَنِيعَةٌ، وَلَكِنْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الصَّبْرِ مِعْوَلًا حَسَنًا. وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: الرِّضَا بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَجَنَّةُ الدُّنْيَا، وَسِرَاجُ الْعَابِدِينَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الصَّبْرُ رِضًا» فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَهْلِ الْمَصَائِبِ؛ إذْ سَمَّى الصَّبْرَ رِضًا، وَلَعَلَّهُ مُرَادُ النَّاظِمِ. فَإِنْ قِيلَ: غَالِبُ النَّاسِ يَصْبِرُونَ وَلَا يَرْضُونَ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الرِّضَا بِالْمَكْرُوهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ نُفُورَ الطَّبْعِ عَنْ الْمَكْرُوهِ لَا يُنَافِي رِضَا الْقَلْبِ بِالْمَقْدُورِ، فَإِنَّا نَرْضَى عَنْ اللَّهِ وَنَرْضَى بِقَضَائِهِ وَإِنْ كَرِهْنَا الْمَقْضِيَّ. وَفِي صَيْدِ الْخَاطِرِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ: الرِّضَا مِنْ جُمْلَةِ ثَمَرَاتِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا عَرَفْته رَضِيت بِقَضَائِهِ، وَقَدْ يَجْرِي فِي ضِمْنِ الْقَضَاءِ مَرَارَاتٌ يَجِدُ بَعْضَ طَعْمِهَا الرَّاضِي، وَأَمَّا الْعَارِفُ فَتَقِلُّ عِنْدَهُ الْمَرَارَةُ لِقُوَّةِ حَلَاوَةِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا تَرَقَّى بِالْمَعْرِفَةِ إلَى الْمَحَبَّةِ صَارَتْ مَرَارَةُ الْأَقْدَارِ حَلَاوَةً كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: عَذَابُهُ فِيك عَذْبٌ ... وَبَعْدُهُ فِيك قُرْبٌ وَأَنْتَ عِنْدِي كَرُوحِي ... بَلْ أَنْتَ مِنْهَا أَحَبُّ حَسْبِي مِنْ الْحُبِّ أَنِّي ... لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ وَقَالَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاك الْفِعْلُ عِنْدِي ... فَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْك ذَاكَا فَإِنْ قِيلَ: بِمَاذَا أُرْضَى قَدْرَ رَبِّي، أَرْضَى فِي أَقْدَارِهِ بِالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ، أَفَأَرْضَى بِالْكَسَلِ عَنْ خِدْمَتِهِ وَالْبُعْدِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَبَيِّنِ لِي مَا الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَ الرِّضَا مِمَّا لَا يَدْخُلُ؟ فَقُلْت لَهُ: نَعَمْ مَا سَأَلْت فَاسْمَعْ الْفَرْقَ سَمَاعَ مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. ارْضَ بِمَا مِنْهُ. فَأَمَّا الْكَسَلُ وَالتَّخَلُّفُ فَذَاكَ مَنْسُوبٌ إلَيْك فَلَا تَرْضَ بِهِ مِنْ فِعْلِك، وَكُنْ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ عَلَيْك مُنَاقِشًا نَفْسَك فِيمَا يُقَرِّبُك مِنْهُ غَيْرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 رَاضٍ عَنْهَا بِالتَّوَانِي فِي الْمُجَاهَدَةِ. فَأَمَّا مَا يُقَدِّرُهُ مِنْ الْأَفْضَلِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي لَا كَسْبَ لَك فِيهَا فَكُنْ رَاضِيًا بِهَا. انْتَهَى. مُلَخَّصًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الشُّكْرُ فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ أَعْلَى مَنْزِلَةً مِنْ الصَّبْرِ وَالرِّضَا، وَهُوَ أَنْ نَرَى الْمِحْنَةَ مِنْحَةً. وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بِمُشَاهَدَتِك إلَى الْفَاعِلِ، وَأَنَّك تُقَدِّمُ رِضَاهُ وَمَا يَرْضَاهُ عَلَى رِضَاك. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ شَأْنُهُ إذَا ابْتَلَى عَبْدَهُ لَمْ يُرِدْ هَلَاكَهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ إمَّا تَمْحِيصَ ذُنُوبِهِ، وَإِمَّا لِيَنَالَ مَنْزِلَةً لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ، فَمَنْعُهُ عَطَاءٌ، وَابْتِلَاؤُهُ رِضًا. وَالْمِحْنَةُ مِنْهُ مِنْحَةٌ. فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. قَالَ تَعَالَى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] وَفِي كِتَابِ الشُّكْرِ لِلْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مَنْصُورِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: حُدِّثْت أَنَّ الرَّجُلَ إذَا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى طَعَامِهِ وَحَمِدَهُ عَلَى آخِرِهِ لَمْ يُسْأَلْ عَنْ نَعِيمِ ذَلِكَ الطَّعَامِ. وَفِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ صَابِرًا شَاكِرًا، وَمَنْ لَمْ يَكُونَا فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا شَاكِرًا: مَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَاقْتَدَى بِهِ، وَمَنْ نَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ عَلَيْهِ كَتَبَهُ اللَّهُ صَابِرًا شَاكِرًا وَمَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْهُ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا شَاكِرًا» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سُنْجِرَةَ بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ بِمُعْجَمَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ وَزْنِ مُسْلِمَةٍ مَرْفُوعًا «مَنْ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ، وَظُلِمَ فَغَفَرَ، أُولَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَا يَقْبَلُ شُكْرَ الْعَبْدِ عَلَى إحْسَانِهِ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَشْكُرُ إحْسَانَ النَّاسِ، وَيَكْفُرُ أَمْرَهُمْ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ كَانَ عَادَتُهُ وَطَبْعُهُ كُفْرَانَ نِعْمَةِ النَّاسِ وَتَرْكَ شُكْرِهِ لَهُمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ كُفْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرْكُ الشُّكْرِ لَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ كَانَ كَمَنْ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 شَكَرَهُ، كَمَا تَقُولُ: لَا يُحِبُّنِي مَنْ لَا يُحِبُّك، أَيْ أَنَّ مَحَبَّتَك مَقْرُونَةٌ بِمَحَبَّتِي، فَمَنْ أَحَبَّنِي يُحِبُّك. وَمَنْ لَا يُحِبُّك فَكَأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّنِي. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى رَفْعِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَصْبِهِ. انْتَهَى. وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي لَفْظٍ آخَرَ إنَّ أَشْكَرَ النَّاسِ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ النُّعْمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» . وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ. وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ ". وَقَدْ قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمَجُوسِيُّ يُولِينِي خَيْرًا فَأَشْكُرُهُ؟ قَالَ نَعَمْ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: إنَّنِي أُثْنِي بِمَا أَوْلَيْتنِي ... لَمْ يَضِعْ حَسَنُ بَلَاءِ مَنْ شَكَرْ إنَّنِي وَاَللَّهِ لَا أَكْفُرُكُمْ ... أَبَدًا مَا صَاحَ عُصْفُورُ الشَّجَرْ وَقَالَ آخَرُ: فَلَوْ كَانَ يَسْتَغْنِي عَنْ الشُّكْرِ مَا جَدَّ ... لِعِزَّةِ مُلْكٍ أَوْ عُلُوِّ مَكَانِ لَمَا نَدَبَ اللَّهُ الْعِبَادَ لِشُكْرِهِ ... فَقَالَ اُشْكُرُونِي أَيُّهَا الثَّقَلَانِ وَلَمَّا كَانَ الشُّكْرُ يَسْتَدْعِي الْمَزِيدَ مِنْ النِّعَمِ وَالْبِرِّ وَعَدَ النَّاظِمُ الشَّاكِرَ وَالرَّاضِيَ بِالْمَثُوبَةِ وَازْدِيَادِ الرِّزْقِ وَرَغْمَ الْأَعْدَاءِ وَالْحُسَّادِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّاضِي وَالشَّاكِرِ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ أَيْ أَنَّ الرَّاضِيَ بِقِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يُثَابُ ثَوَابَ الرَّاضِينَ. وَالشَّاكِرُ يَزْدَادُ رِزْقًا وَإِرْغَامًا لِلْحَاسِدِينَ. وَهَذَا أَنْسَبُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. وَهُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] . وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ: الشُّكْرُ قَيْدٌ لِلنِّعَمِ الْمَوْجُودَةِ، وَصَيْدٌ لِلنِّعَمِ الْمَفْقُودَةِ. وَمِنْ كَلَامِ آخَرَ: إنَّ حَقًّا عَلَى مَنْ لَعِبِ بِنِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَسْلُبَهُ إيَّاهَا. وَقَالَ آخَرُ: كُفْرَانُ النِّعَمِ بَوَارٌ. وَقَالَ آخَرُ: اسْتَدْعِ شَارِدَهَا بِالشُّكْرِ، وَاسْتَدِمْ رَاهِنَهَا بِلُزُومِ حُسْنِ الْجَوَارِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وَمِنْ كَلَامِهِمْ: لَا زَوَالَ لِلنِّعْمَةِ إذَا شُكِرَتْ، وَلَا بَقَاءَ لَهَا إذَا كُفِرَتْ. حَصِّنْ نِعْمَتَك مِنْ الزَّوَالِ، بِحُسْنِ الشُّكْرِ وَالنَّوَالِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ: عِبَادَ اللَّهِ قَدْ تَوَفَّرَتْ النِّعَمُ عَلَيْكُمْ فَاشْكُرُوا، وَقَدْ أُعْطِيتُمْ مَا لَمْ تَسْأَلُوا فَاذْكُرُوا. وَاعْرِفُوا الْمُنْعِمَ وَاعْلَمُوا أَنَّ النِّعَمَ مِنْهُ، وَتَعَبَّدُوا بِشُكْرِهِ، وَقُصُّوا أَجْنِحَةَ النِّعَمِ بِمِقْرَاضِ الشُّكْرِ. فَقَلَّ أَنْ تَنْفِرَ فَتَعُودَ. وَاحْذَرُوا لِبَاسَ الْبَطَرِ فِي النِّعَمِ، وَاطْلُبُوا بِالشُّكْرِ الْمَزِيدَ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ. مَطْلَبٌ: مَثَالِبُ الْحَسَدِ وَأَمَّا مَثَالِبُ الْحَسَدِ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ. وَأَشْهُرُ مِنْ أَنْ تُسْطَرَ. وَلَكِنْ مَا لَا يُسْتَطَاعُ ذِكْرُ كُلِّهِ لَا يُتْرَكُ بَعْضُهُ. فَاعْلَمْ - رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ أَوَّلَ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ مِنْ الْخَلْقِ الْحَسَدُ لَمَّا حَسَدَ إبْلِيسُ آدَمَ، ثُمَّ حَسَدَ قَابِيلُ هَابِيلَ. وَالْحَسَدُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ. وَمَتَى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَأَحَبَّ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَزُولَ عَنْ الْمَحْسُودِ، فَذَلِكَ الْحَسَدُ يُسَمَّى غِبْطَةً وَلَا لَوْمَ فِيهِ وَلَا ذَمَّ. وَإِنْ أَحَبَّ زَوَالَهَا عَنْ الْمَحْسُودِ فَهَذَا الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ، وَصَاحِبُهُ الْمَلُومُ الظَّلُومُ. ثُمَّ إنَّ هَذَا الْحَاسِدَ تَارَةً يُحِبُّ زَوَالَهَا عَنْ الْمَحْسُودِ وَمَجِيئَهَا إلَيْهِ، وَهَذَا قَبِيحٌ. لِأَنَّهُ إيثَارٌ فِي ضِمْنِهِ اعْتِرَاضٌ. وَأَقْبَحُ مِنْهُ طَلَبُ زَوَالِهَا عَنْ الْمَحْسُودِ، وَحُصُولِهَا إلَى غَيْرِهِ. وَأَقْبَحُ مِنْهُمَا طَلَبُ زَوَالِهَا مُطْلَقًا، فَهَذَا عَدُوُّ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» . وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ «لَا يَجْتَمِعُ فِي جَوْفِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ وَالْحَسَدُ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ أَوْ قَالَ الْعُشْبَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَالصَّدَقَةُ تَطْفِيءُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَالصَّلَاةُ نُورُ الْمُؤْمِنِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنْ النَّارِ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوا» . وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ «لَيْسَ مِنِّي ذُو حَسَدٍ» . وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «دَبَّ إلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، وَأَمَّا إنِّي لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» . مَطْلَبٌ: مُعَالَجَةُ دَاءِ الْحَسَدِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْت مِنْ صَرِيحِ الْآثَارِ، وَصَحِيحِ الْأَخْبَارِ، مَا يُنَفِّرُ عَنْ الْحَسَدِ وَيُبْعِدُ عَنْهُ كُلَّ أَحَدٍ، لَكِنَّ الْحَسَدَ مَرَضٌ بَاطِنِيٌّ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى زَوَالِهِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْآدَمِيَّ قَدْ جُبِلَ عَلَى حُبِّ الرِّفْعَةِ، فَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْلُوَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، فَإِذَا عَلَا أَحَدٌ عَلَيْهِ شَقَّ عَلَيْهِ وَأَحَبَّ زَوَالَ مَا عَلَا بِهِ. وَمُعَالَجَةُ ذَلِكَ تَارَةً بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا لَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، فَلَا وَجْهَ لِلْمُنَافَسَةِ فِيهَا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، وَتَارَةً بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، فَإِنَّك إنْ لَمْ تَرْضَ لَمْ تَحْصُلْ إلَّا عَلَى النَّدَمِ وَفَوَاتِ الثَّوَابِ، وَغَضَبِ رَبِّ الْأَرْبَابِ، فَهُمَا مُصِيبَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَيْسَ لِلْعَاقِلِ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ الْقَضَاءِ فَعَلَيْهِ بِالرِّضَا. وَلِذَا قُلْت: مَا لِي عَلَى مُرِّ الْقَضَا ... مِنْ حِيلَةٍ غَيْرِ الرِّضَا أَنَا فِي الْهَوَى عَبْدٌ وَمَا ... لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَعَرَّضَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وَتَارَةً فِي النَّظَرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ النِّعَمِ مِنْ الْآفَاتِ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى مَا فِي النَّفْسِ، وَلَمْ يَنْطِقْ لَمْ يَضُرَّهُ مَا وُضِعَ فِي الطَّبْعِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الظَّنُّ، وَالطِّيَرَةُ، وَالْحَسَدُ وَسَأُحَدِّثُك بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ: إذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقْ، وَإِذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ، وَإِذَا تَطَيَّرْت فَلَا تَرْجِعْ» أَيْ امْضِ لِمَا قَصَدْت لَهُ وَلَا تَصُدُّنَّك عَنْهُ الطِّيَرَةُ. فَالْحَسَدُ أَوَّلًا يَضُرُّ الْحَاسِدَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَا يَسْتَضِرُّ بِذَلِكَ الْمَحْسُودُ، فَلَا تُؤْذِ نَفْسَك. أَمَّا ضَرَرُهُ فِي الدِّينِ فَإِنَّ الْحَاسِدَ قَدْ سَخِطَ قَضَاءَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَكَرِهَ نِعْمَتَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَهَذَا قَذًى فِي بَصَرِ الْإِيمَانِ، وَيَكْفِيهِ أَنَّهُ شَارَكَ إبْلِيسَ فِي الْحَسَدِ وَفَارَقَ الْأَنْبِيَاءَ فِي حُبِّهِمْ الْخَيْرَ لِكُلِّ أَحَدٍ. ثُمَّ إنَّ الْحَسَدَ يَحْمِلُ عَلَى إطْلَاقِ اللِّسَانِ فِي الْمَحْسُودِ بِالشَّتْمِ وَالتَّحَيُّلِ عَلَى أَذَاهُ. وَأَمَّا ضَرَرُهُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْحَاسِدَ يَتَأَلَّمُ وَلَا يَزَالُ فِي كَمَدٍ. وَأَنْشَدُوا: دَعْ الْحَسُودَ وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ كَمَدِهِ ... كَفَاك مِنْهُ لَهَيْبُ النَّارِ فِي جَسَدِهْ إنْ لُمْت ذَا حَسَدٍ نَفَّسْت كُرْبَتَهُ ... وَإِنْ سَكَتَّ فَقَدْ عَذَّبْته بِيَدِهْ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَمِعْت أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: مَا رَأَيْت ظَالِمًا أَشْبَهَ بِمَظْلُومٍ مِنْ الْحَاسِدِ حُزْنٌ لَازِمٌ، وَنَفْسٌ دَائِمٌ، وَعَقْلٌ هَائِمٌ، وَحَسْرَةٌ لَا تَنْقَضِي. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ لِلْحَاسِدِ دَوَاءٌ؟ فَالْجَوَابُ: قَلَّ أَنْ يَنْجَعَ فِيهِ دَوَاءٌ لِأَنَّهُ جَهُولٌ ظَلُومٌ وَلَيْسَ يُشْفِي عِلَّةَ صَدْرِهِ وَيُزِيلُ حَزَّازَةَ الْحَسَدِ مِنْ قَلْبِهِ إلَّا زَوَالُ النِّعْمَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الدَّوَاءُ أَوْ يَعِزُّ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ وَأَحْسَنُ: وَكُلٌّ أُدَاوِيه عَلَى قَدْرِ دَائِهِ ... سِوَى حَاسِدِي فَهِيَ الَّتِي لَا أَنَالُهَا وَكَيْفَ يُدَاوِي الْمَرْءُ حَاسِدَ نِعْمَةٍ ... إذَا كَانَ لَا يُرْضِيه إلَّا زَوَالُهَا نَعَمْ إنْ كَانَ الْحَاسِدُ ذَا فَهْمٍ فَدَوَاؤُهُ أَنْ يَقْمَعَ أَسْبَابَ الْحَسَدِ مِنْ الْبَاطِنِ، فَإِنَّ سَبَبَهَا فِي الْغَالِبِ الْكِبْرُ وَعِزَّةُ النَّفْسِ، ثُمَّ يَتَكَلَّفُ مَدْحَ الْمَحْسُودِ وَالتَّوَاضُعَ لَهُ وَالْهَدِيَّةَ إلَيْهِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّك إنَّمَا تَحْسُدُ إخْوَانَك عَلَى الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا، وَأَمَّا قُوَّامُ اللَّيْلِ وَصُوَّامُ النَّهَارِ فَلَا أَرَاك تَحْسُدُهُمْ. فَبِاَللَّهِ عَلَيْك اعْرِفْ قَدْرَ الدُّنْيَا وَاعْلَمْ أَنَّهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 هُمُومٌ مُتَرَاكِمَةٌ، وَغُمُومٌ مُتَلَاطِمَةٌ، وَحِسَابٌ وَعَذَابٌ، وَهِيَ خِرَقٌ وَتُرَابٌ، وَصُوَرٌ وَخَرَابٌ. فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَرَفَ نَفْسَهُ، وَعَرَفَ الدُّنْيَا وَعَمِلَ عَلَى مُقْتَضَى كُلٍّ بِحَسَبِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَسْئُولُ، أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِنَا مِنْ النُّورِ. مَا يَزُولُ بِهِ الدَّيْجُورِ، وَنُشَاهِدُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ، عَلَى حَسَبِ مَا يُرْضِي الْغَفُورَ، إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ، رَءُوفٌ رَحِيمٌ. مَطْلَبٌ: مَا يُقَالُ لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا وَقُلْ لِأَخٍ أَبْلِ وَأَخْلِقْ وَيُخْلِفُ ... الْإِلَهُ كَذَا قُلْ عِشْ حَمِيدًا تُسَدِّدْ (وَقُلْ) أَيْ يُنْدَبُ لَك أَنْ تَقُولَ (لِ) كُلِّ (أَخٍ) لَك فِي الْإِسْلَامِ إذَا لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا (أَبْلِ) مِنْ أَبْلَى الثَّوْبَ وَبَلَاهُ أَيْ أَفْنَى الثَّوْبَ (وَأَخْلِقْ) أَيْ صَيِّرْهُ خَلَقًا، يَعْنِي: اللَّهُ يُبْلِيه وَيُصَيِّرُهُ خَلَقًا، وَهَذَا دُعَاءٌ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ بِطُولِ الْحَيَاةِ، كَأَنَّهُ دَعَا لَهُ أَنْ يُطَوِّلَ اللَّهُ عُمْرَهُ حَتَّى يُبْلِيَهُ وَيُخْلِقَهُ، وَلَا يَخْلُفُهُ وَرَاءَهُ تَرِكَةً (وَيُخْلِفُ) عَلَيْهِ (الْإِلَهُ) الْمَعْبُودُ بِحَقِّ الَّذِي يُعْطِي الْكَثِيرَ، وَيَرْضَى بِالْبِرِّ الْيَسِيرِ، جَلَّ شَأْنُهُ، تَعَالَى سُلْطَانُهُ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةُ كِسَاءٍ سَوْدَاءَ، قَالَ مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ؟ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ، فَأَتَى بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ وَقَالَ: أَبْلِي وَأَخْلِقِي يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا قَالَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ» . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: السَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْحُسْنُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: يُرْوَى أَخَلْقِي بِالْقَافِ مِنْ إخْلَاقِ الثَّوْبِ تَقْطِيعُهُ، وَقَدْ خَلِقَ الثَّوْبُ وَأَخْلَقَ. وَيُرْوَى بِالْفَاءِ بِمَعْنَى التَّعْوِيضِ وَالْبَدَلِ، قَالَ: وَهُوَ أَشْبَهُ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ: أَبْلِي وَأَخْلِفِي، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَأَبِي زَيْدٍ الْمَرُّوذِيِّ بِالْفَاءِ، وَلِغَيْرِهِمَا بِالْقَافِ مِنْ إخْلَاقِ الثَّوْبِ. قَالَ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكْتَسِبَ خَلَفَهُ بَعْدَ بَلَاهُ، يُقَالُ خَلَفَ اللَّهُ لَك مَالًا، وَأَخْلَفَهُ وَهُوَ الْأَشْهَرُ يَعْنِي بِالْفَاءِ رُبَاعِيٌّ انْتَهَى. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: قَوْلُهُ: أَخَلْقِي بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ أَمْرٌ بِالْإِخْلَاقِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ ذَلِكَ، وَتُرِيدُ الدُّعَاءَ بِطُولِ الْبَقَاءِ لِلْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ أَيْ أَنَّهَا تَطُولُ حَيَاتُهَا حَتَّى يَبْلَى الثَّوْبُ وَيَخْلُقَ. قَالَ الْخَلِيلُ: أَبْلِ وَأَخْلِقْ مَعْنَاهُ عِشْ وَخَرِّقْ ثِيَابَك وَارْقَعْهَا، وَأَخْلَقْت الثَّوْبَ أَخْرَجْت بَالِيَهُ وَلَفَّقْته قَالَ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرُّوذِيِّ عَنْ الْقُرَيْرِيِّ وَأَخْلِفِي بِالْفَاءِ، وَهِيَ أَوْجَهُ مِنْ الَّتِي بِالْقَافِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَسْتَلْزِمُ التَّأْكِيدَ؛ إذْ الْإِبْلَاءُ وَالْإِخْلَاقُ بِمَعْنًى لَكِنْ جَازَ الْعَطْفُ لِتَغَايُرِ اللَّفْظَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ تُفِيدُ مَعْنًى زَائِدًا، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَبْلَتْهُ أَخْلَفَتْ غَيْرَهُ. وَعَلَى مَا قَالَهُ الْخَلِيلُ لَا تَكُونُ الَّتِي بِالْقَافِ لِلتَّأْكِيدِ. انْتَهَى. وَالنَّظْمُ مَبْنِيٌّ عَلَى رِوَايَةِ الْقَافِ بِدَلِيلِ إتْيَانِهِ بِقَوْلِهِ: وَيَخْلُفُ الْإِلَهُ إلَخْ. (كَذَا) أَيْ كَمَا تَقُولُ: أَبْلِ وَأَخْلِقْ وَيَخْلُفُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ (قُلْ) أَنْتَ لِأَخِيك مَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا الْبِسْ جَدِيدًا وَ (عِشْ حَمِيدًا) وَمُتْ شَهِيدًا. فَإِنْ أَنْتَ قُلْت هَذَا (تُسَدَّدْ) أَيْ تُصِبْ فِي الْخِطَابِ، وَتُوَفَّقْ لِمُتَابَعَةِ سُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَوَّابِ، فَإِنَّهَا الدِّينُ الْقَوِيمُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، فَمَنْ تَمَسَّك بِهَا نَجَا، وَمَنْ حَادَ عَنْهَا وَقَعَ فِي ظُلُمَاتِ الدُّجَى. فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَمْنَحَنَا نَيْلَهَا، وَيَهْدِيَنَا سَبِيلَهَا، إنَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرٌ، وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ. مَطْلَبٌ: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْخَاتَمِ مِنْ فِضَّةٍ وَفِيهِ عَشْرُ لُغَاتٍ وَلَا بَأْسَ بِالْخَاتَمِ مِنْ فِضَّةٍ ... وَمِنْ عَقِيقٍ وَبِلَّوْرٍ وَشِبْهِ الْمُعَدَّدِ (وَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ (بِ) لُبْسِ (الْخَاتَامِ) بِوَزْنِ سَابَاطِ لُغَةٌ فِي الْخَاتَمِ بِفَتْحِ تَاءِ خَاتَمِ وَكَسْرِهَا، وَالرَّابِعَةُ: خَيْتَامَ بِوَزْنِ بَيْطَارَ، ذَكَرَهُ فِي الْمُطْلِعِ تَبَعًا لِلْجَوْهَرِيِّ. وَزَادَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ الْخَامِسَةَ الْخَتَمُ مُحَرَّكَةٌ. وَالسَّادِسَةُ الْخَاتِيَامُ، وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ خِتَامٌ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِهَا، وَالتَّاسِعَةُ خَيْتُومٌ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهُمَا وَاوٌ، وَالْعَاشِرَةُ بِسُكُونِ تَاءِ خَتْمِ كَمَا فِي فَتْحِ الْبَارِي. وَنُظِمَتْ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: خُذْ نَظْمَ عَدِّ لُغَاتِ الْخَاتَمِ انْتَظَمَتْ ... ثَمَانِيًا مَا حَوَاهَا قَطُّ نِظَامٌ خَاتَامٌ خَاتِمٌ خَتْمٌ خَاتَمٌ وَخَتَا ... مُ خَاتِيَامُ وَخَيْتُومٌ وَخَيْتَامٌ وَهَمْزُ مَفْتُوحٍ تَاءُ تَاسِعٍ وَإِذَا ... سَاغَ الْقِيَاسُ أَتَمَّ الْعَشْرَ خَاتَامٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وَجَمْعُهُ خَوَاتِمُ وَخَوَاتِيمُ وَخَيَاتِيمُ بِإِبْدَالِ الْوَاوِ يَاءً وَبِلَا يَاءٍ أَيْضًا. وَظَاهِرُ نِظَامِهِ إبَاحَةُ الْخَاتَمِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرَّجُلِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ اتِّفَاقًا. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ لَهُ خَاتَمٌ. وَهَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَأَنَّهُ كَانَ فِي الْيُسْرَى، وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَرْوِيهِ أَهْلُ الشَّامِ. وَحَدَّثَ يَعْنِي الْإِمَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. بِحَدِيثِ أَبِي رَيْحَانَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَرِهَ عَشْرَ خِلَالٍ، وَفِيهَا الْخَاتَمُ إلَّا لِذِي سُلْطَانٍ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْمَوْضِعَ تَبَسَّمَ كَالْمُتَعَجِّبِ. وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ الْإِمَامُ فِي الْمُسْنَدِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي الْحُصَيْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ شُفَيٍّ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ خَرَجْت أَنَا وَصَاحِبٌ لِي يُسَمَّى أَبَا عَامِرٍ رَجُلٌ مِنْ الْمُعَافِرِ لِنُصَلِّيَ بِإِيلْيَاءَ، وَكَانَ قَاضِيهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ أَبُو رَيْحَانَةَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالَ أَبُو الْحُصَيْنِ فَسَبَقَنِي صَاحِبِي إلَى الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَدْرَكْته فَجَلَسْت إلَى جَنْبِهِ، فَسَأَلَنِي هَلْ أَدْرَكْت قَصَصَ أَبِي رَيْحَانَةَ؟ فَقُلْت: لَا، فَقَالَ: سَمِعْته يَقُولُ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَشْرَةٍ: عَنْ الْوَشْرِ، وَالْوَشْمِ، وَالنَّتْفِ، وَعَنْ مُكَامَعَةِ الرَّجُلِ بِغَيْرِ شِعَارٍ، وَمُكَامَعَةِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ شِعَارِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ فِي أَسْفَلِ ثَوْبِهِ حَرِيرًا مِثْلَ الْأَعَاجِمِ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى مَنْكِبِهِ حَرِيرًا مِثْلَ الْأَعَاجِمِ، وَعَنْ النَّهْيِ، وَعَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ، وَلَبُوسِ الْخَاتَمِ إلَّا لِذِي سُلْطَانٍ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُفَضَّلِ أَبِي عَامِرٍ. رَوَى عَنْهُ الْهَيْثَمُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ الْخَوْلَانِيُّ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا، وَبَاقِي إسْنَادِهِ جَيِّدٌ. قَالَ: فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي جَامِعِ الْمَسَانِيدِ وَقَالَ: النَّهْيُ عَنْ الْخَاتَمِ لِيَتَمَيَّزَ السُّلْطَانُ بِمَا يَتَخَتَّمُ بِهِ. وَفِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَيْحَانَةَ فَضَعَّفَهُ وَقَالَ سَأَلَ صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: الْبِسْ الْخَاتَمَ وَأَخْبِرْ النَّاسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 أَنِّي قَدْ أَفْتَيْتُك. انْتَهَى. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْمُكَامَعَةُ هُوَ أَنْ يُضَاجِعَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا حَاجِزَ بَيْنَهُمَا. وَالْكَمِيعُ الضَّجِيعُ، وَزَوْجُ الْمَرْأَةِ كَمِيعُهَا. انْتَهَى، وَالشِّعَارُ مَا وَلِيَ الْجَسَدَ مِنْ الثِّيَابِ. وَقِيلَ التَّخَتُّمُ بِالْخَاتَمِ مُسْتَحَبٌّ. قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَجَزَمَ ابْنُ تَمِيمٍ يُكْرَهُ بِقَصْدِ الزِّينَةِ. وَذَكَرَهُ فِي الرِّعَايَةِ قَوْلًا. وَإِنَّمَا يُبَاحُ الْخَاتَمُ حَيْثُ كَانَ (مِنْ فِضَّةٍ) لَا مِنْ ذَهَبٍ كَمَا سَيَذْكُرُ النَّاظِمُ مُحْتَرَزَهُ وَالْمَذْهَبُ: إبَاحَةُ الْخَاتَمِ مِنْ فِضَّةٍ وَلَوْ زَادَ عَلَى مِثْقَالٍ. وَفِي الرِّعَايَةِ: يُسَنُّ دُونَ مِثْقَالٍ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ وَالْأَصْحَابِ لَا بَأْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِضَعْفِ خَبَرِ بُرَيْدَةَ وَهُوَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْخَاتَمِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قَالَ: مِنْ فِضَّةٍ وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَالْمُرَادُ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْعَادَةِ، وَإِلَّا حَرُمَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ خَرَجَ الْمُعْتَادُ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يَخْرُجْ بِصِيغَةِ لَفْظٍ لِيَعُمَّ. ثُمَّ لَوْ كَانَ خَرَجَ بِصِيغَةِ لَفْظٍ فَهُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ. وَإِنْ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ عِدَّةَ خَوَاتِمَ أَوْ مَنَاطِقَ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْعَادَةِ لَمْ يَحْرُمْ، وَلَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ. وَإِنْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ حَرُمَ وَوَجَبَتْ. وَعِنْدَ الشَّيْخِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَحْرُمُ التَّحَلِّي بِالْفِضَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ. مَطْلَبٌ: لَا بَأْسَ بِالْخَاتَمِ مِنْ عَقِيقٍ وَفَائِدَةُ التَّخَتُّمِ بِهِ وَلَا بَأْسَ بِالْخَاتَمِ أَيْضًا (مِنْ عَقِيقٍ) كَأَمِيرٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: خَرَزٌ أَحْمَرُ يَكُونُ بِالْيَمَنِ وَبِسَوَاحِلِ بَحْرِ رُومِيَّةَ جِنْسٌ كَدُرٍّ كَمَا يَجْرِي مِنْ اللَّحْمِ الْمُمَلَّحِ وَفِيهِ خُطُوطٌ بِيضٌ خَفِيَّةٌ مَنْ تَخَتَّمَ بِهِ سَكَنَتْ رَوْعَتُهُ عِنْدَ الْخِصَامِ، وَانْقَطَعَ عَنْهُ الدَّمُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. انْتَهَى. (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : ظَاهِرُ عِبَارَةِ النَّظْمِ أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْعَقِيقِ مُبَاحٌ لَا مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِ الْخَوَاتِمِ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَكْثَرِ لَا يُسْتَحَبُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةٍ مُهَنَّا وَقَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 سَأَلَهُ مَا السُّنَّةُ يَعْنِي فِي التَّخَتُّمِ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ خَوَاتِيمُ الْقَوْمِ إلَّا فِضَّةً. قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يَصِحُّ فِي التَّخَتُّمِ بِالْعَقِيقِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ كُلَّ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَأَعَلَّهَا. وَجَزَمَ بِهَذَا فِي الْإِقْنَاعِ. وَاسْتَحَبَّ التَّخَتُّمَ بِالْعَقِيقِ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّلْخِيصِ وَابْنُ تَمِيمٍ، وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ وَالْآدَابِ وَالْفُرُوعِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى، وَذَكَرَهُمَا فِي الْغَايَةِ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ شَيْءٍ مِنْهُمَا. نَعَمْ قَدَّمَ عِبَارَةَ الْمُنْتَهَى عَلَى عِبَارَةِ الْإِقْنَاعِ، وَهَذَا لَا يُشْعِرُ بِاخْتِيَارٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوهُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ» قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا شَيْءٌ. وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ. وَفِي إسْنَادِ هَذَا الْخَبَرِ يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيُّ الَّذِي قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ وَبَاقِيهِ جَيِّدٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ مِنْ الْمَوْضُوعِ. قَالَ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ. قُلْت: التَّخَتُّمُ بِالْعَقِيقِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، وَأَعَلَّهُ فَذَكَرَهُ عَنْ عَائِشَةَ " مَنْ تَخَتَّمَ بِالْعَقِيقِ لَمْ يُقْضَ لَهُ إلَّا بِاَلَّذِي هُوَ أَسْعَدُ وَأَعَلَّهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ سُوَيْدٍ فَإِنَّهُ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ أَبِيهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا «مَنْ تَخَتَّمَ بِالْعَقِيقِ لَمْ يَزَلْ يَرَى خَيْرًا» وَأَعَلَّهُ بِأَنَّ فِيهِ أَبَا بَكْرِ بْنَ شُعَيْبٍ يَرْوِي عَنْ مَالِكٍ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ، وَأَقَرَّهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ عَلَى إعْلَالِهِ فِي الْبَدِيعِيَّاتِ ثُمَّ قَالَ: قُلْت: لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - طَرِيقٌ أُخْرَى قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ أَنْبَأَنَا دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ نَاصِحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ فَاطِمَةَ الصُّغْرَى عَنْ فَاطِمَةَ الْكُبْرَى قَالَتْ قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَخَتَّمَ بِالْعَقِيقِ لَمْ يُقْضَ لَهُ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الدَّيْبَعِ فِي كِتَابِهِ تَمْيِيزِ الطَّيِّبِ مِنْ الْخَبِيثِ فِيمَا يَدُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثُ «تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ يَنْفِي الْفَقْرَ» لَهُ طُرُقٌ كُلُّهَا وَاهِيَةٌ. وَكَذَا مَا رُوِيَ فِي الْيَاقُوتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وَقَالَ فِي تَسْهِيلِ السَّبِيلِ: حَدِيثُ «تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ يَنْفِي الْفَقْرَ» ضَعِيفٌ. قُلْت: وَعِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ «تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ» وَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلْ قَالَ فِي سَفَرِ السَّعَادَةِ: التَّخَتُّمُ بِخَاتَمِ عَقِيقٍ وَالتَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ لَمْ يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ. انْتَهَى. (الثَّانِي) : يَلْزَمُ مَنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِ التَّخَتُّمِ بِالْعَقِيقِ أَنْ يَقُولَ بِاسْتِحْبَابِهِ بِالْفِضَّةِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. قُلْت: وَجَزَمَ بِهِ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى وَالْحَاوِيَيْنِ فَاسْتَحَبُّوهُ فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَجَزَمُوا فِي بَابِ الْحُلِيِّ بِإِبَاحَتِهِ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: فَظَاهِرُهُ التَّنَاقُضُ، أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُمْ فِي بَابِ الْحُلِيِّ إخْرَاجَ الْخَاتَمِ مِنْ التَّحْرِيمِ لَا أَنَّ مُرَادَهُمْ لَا يُسْتَحَبُّ، وَهَذَا أَوْلَى انْتَهَى. قُلْت: قَدَّمَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى الِاسْتِحْبَابَ، وَعِبَارَتُهُ: يُسْتَحَبُّ التَّخَتُّمُ بِعَقِيقٍ أَوْ بِفِضَّةٍ دُونَ مِثْقَالٍ، ثُمَّ قَالَ: وَذَكَرَ ابْنُ تَمِيمٍ أَنَّ خَاتَمَ الْفِضَّةِ مُبَاحٌ وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَطَعَ بِهِ فِي التَّلْخِيصِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَطَعَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّلْخِيصِ بِاسْتِحْبَابِ التَّخَتُّمِ بِالْيَسَارِ. مَطْلَبٌ: يُبَاحُ اتِّخَاذُ الْخَاتَمِ مِنْ بِلَّوْرٍ وَيَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ وَنَحْوِهَا وَلَا بَأْسَ أَيْضًا مِنْ (بِلَّوْرٍ) بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَعَ فَتْحِ اللَّامِ كَسِنَّوْرٍ، وَبِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ مَعَ ضَمِّ اللَّامِ كَتَنُّورِ وَاللَّامُ مُشَدَّدَةٌ فِيهِمَا، وَهُوَ جَوْهَرٌ مَعْرُوفٌ مَعْدِنِيٌّ، وَأَجْوَدُ أَنْوَاعِهِ أَشَدُّ صَلَابَةً وَبَيَاضًا وَصَفَاءً، وَأَحْسَنُهُ مَا يُجْلَبُ مِنْ جَزَائِرِ الزِّنْجِ. وَقِيلَ الْبِلَّوْرُ نَوْعٌ مِنْ الزُّجَاجِ إلَّا أَنَّهُ أَصْلَبُ مِنْهُ، فَيُبَاحُ التَّخَتُّمُ بِهِ فَلَا يُسْتَحَبُّ، وَلَا يُكْرَهُ وَلَا بَأْسَ بِالتَّخَتُّمِ مِنْ (شِبْهِ الْمَعْدِنِ) مِنْ بَقِيَّةِ الْجَوَاهِرِ مِنْ يَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ وَزُمُرُّدٍ وَفَيْرُوزِ وَنَحْوِهَا، فَيُبَاحُ اتِّخَاذُ الْخَاتَمِ مِنْ هَذِهِ الْمَعَادِنِ وَنَحْوِهَا وَأَمَّا مَا يُرْوَى فِي التَّخَتُّمِ بِبَعْضِهَا مِنْ الْفَضَائِلِ فَبَاطِلٌ مِثْلُ حَدِيثِ «تَخَتَّمُوا بِالزُّمُرُّدِ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَإِنَّهُ يَنْفِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 الْفَقْرَ» رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ لَا يَصِحُّ كَمَا فِي الْبَدْرِ الْمُنِيرِ وَالتَّسْهِيلِ. وَحَدِيثُ «تَخَتَّمُوا بِالزَّبَرْجَدِ فَإِنَّهُ يُسْرٌ لَا عُسْرَ فِيهِ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَوْضُوعٌ. وَفِي النِّهَايَةِ «تَخَتَّمُوا بِالْيَاقُوتِ فَإِنَّهُ يَنْفِي الْفَقْرَ» قَالَ بَعْضُهُمْ: يُرِيدُ أَنَّهُ إذَا ذَهَبَ مَالُهُ فَبَاعَهُ وَجَدَ فِيهِ غِنًى. قَالَ: وَالْأَشْبَهُ إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ لِخَاصِّيَّةٍ فِيهِ. وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ وَفِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ. وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْيَاقُوتِ الْأَصْفَرِ يَمْنَعُ الطَّاعُونَ. انْتَهَى. قُلْت: ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عِنْدَ حَدِيثِ «تَخَتَّمُوا بِالْعَقِيقِ» لَهُ طُرُقٌ كُلُّهَا وَاهِيَةٌ، وَكَذَا مَا رُوِيَ فِي الْيَاقُوتِ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَا افْتَقَرَتْ كَفٌّ تَخَتَّمَتْ بِفَيْرُوزَجَ، قَالَ: وَقِيلَ الْخَوَاتِمُ أَرْبَعَةٌ: الْيَاقُوتُ لِلْعَطَشِ، وَالْفَيْرُوزَجُ لِلْفَأْلِ، وَالْعَقِيقُ لِلسِّنَةِ، وَالْحَدِيدُ الصِّينِيُّ لِلْحِرْزِ انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ حَضْرَةِ الرِّسَالَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الْخَاتَمِ مِنْ نُحَاسٍ وَرَصَاصٍ وَحَدِيدٍ وَيُكْرَهُ مِنْ صُفْرٍ رَصَاصِ حَدِيدِهِمْ ... وَيَحْرُمُ لِلذُّكْرَانِ خَاتَمُ عَسْجَدِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا فِي الْأَصَحِّ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ اتِّخَاذُ خَاتَمٍ (مِنْ صُفْرٍ) بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ كَقُفْلٍ نَوْعٌ مِنْ النُّحَاسِ، وَصَانِعُهُ يُقَالُ لَهُ: الصُّفَارُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَقَالَ فِي الْمُطْلِعِ: الصُّفْرُ ضَرْبٌ مِنْ النُّحَاسِ، وَقِيلَ: مَا صُفِرَ مِنْهُ، وَالصُّفْرُ لُغَةٌ فِيهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَحْدَهُ، وَالضَّمُّ أَجْوَدُ، وَنَفَى بَعْضُهُمْ الْكَسْرَ. انْتَهَى. وَمُرَادُ النَّاظِمِ يُكْرَهُ اتِّخَاذُ الْخَاتَمِ مِنْ نُحَاسٍ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ لِرَجُلٍ لَبِسَ خَاتَمًا مِنْ صُفْرٍ «أَجِدُ مِنْك رِيحَ الْأَصْنَامِ» احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا فِي الْفُرُوعِ. وَكَذَا يُكْرَهُ الْخَاتَمُ أَيْضًا مِنْ (رَصَاصٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ مَعْرُوفٌ الْقِطْعَةُ مِنْهُ رَصَاصَةٌ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرَّصَاصُ كَسَحَابٍ: مَعْرُوفٌ وَلَا يُكْسَرُ ضَرْبَانِ، أَسْوَدُ، وَهُوَ الْأُسْرُبُّ وَالْأَبَّارُ، وَأَبْيَضُ وَهُوَ الْقَلَعِيُّ. انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 وَيُكْرَهُ أَيْضًا اتِّخَاذُ الْخَاتَمِ مِنْ (حَدِيدِهِمْ) يَعْنِي مِنْ الْحَدِيدِ، وَهُوَ مَعْدِنٌ مَعْرُوفٌ قَالَ فِي الْفُرُوعِ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ خَاتَمُ حَدِيدٍ وَصُفْرٍ وَنُحَاسٍ وَرَصَاصٍ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ جَمَاعَةٌ. وَنَقَلَ مُهَنَّا عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْرَهُ خَاتَمَ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ. وَسَأَلَهُ الْأَثْرَمُ عَنْ خَاتَمِ الْحَدِيدِ فَذَكَرَ خَبَرَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِرَجُلٍ هَذِهِ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ» وَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: لُبْسَةُ أَهْلِ النَّارِ. وَابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: مَا طَهُرَتْ كَفٌّ فِيهَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُسْنَدِ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَأَلْقَاهُ وَاِتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: هَذَا شَرٌّ هَذَا حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ، فَأَلْقَاهُ وَاِتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَسَكَتَ عَنْهُ» حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ «حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ» . وَفِي فَتَاوَى ابْنِ الزَّاغُونِيِّ: الدُّمْلُوجُ الْحَدِيدُ وَالْخَاتَمُ الْحَدِيدُ نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُمَا فَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ عَلَّقَ عَلَيْهِ تَمِيمَةً أَوْ حَدِيدَةً فَقَدْ أَشْرَكَ» كَذَا قَالَ. وَأَجَابَ أَبُو الْخَطَّابِ: يَجُوزُ دُمْلُوجٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَيُتَوَجَّهُ مِثْلُهُ الْخَاتَمُ وَنَحْوُهُ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ. وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ الرَّصَاصُ لَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا وَلَهُ رَائِحَةٌ. قَالَ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ وَالْمُعْتَمَدُ كَمَا فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ كَرَاهَةُ ذَلِكَ حَتَّى الدُّمْلُوجِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يَحْرُمُ اتِّخَاذُ خَاتَمِ الذَّهَبِ لِلذُّكُورِ (وَيَحْرُمُ لِلذُّكْرَانِ) جَمْعُ ذَكَرٍ وَمِثْلُهُمْ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ لَا لِلْإِنَاثِ (خَاتَمُ عَسْجَدٍ) أَيْ ذَهَبٍ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ اتِّفَاقًا. قَالَ: وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ إجْمَاعًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خُذْ خَاتَمَك انْتَفِعْ بِهِ، فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ لَا آخُذُهُ أَبَدًا، وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَقَالَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْتُبَ لِلْمُلُوكِ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إلَّا إذَا كَانَ مَخْتُومًا، فَاِتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاقْتَدَى بِهِ ذُو الْيَسَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَصَنَعُوا خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ. فَلَمَّا لَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لَبِسُوا خَوَاتِيمَهُمْ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنْ الْغَدِ فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّ لُبْسَ الذَّهَبِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِهِ، فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْخَاتَمَ فَطَرَحَ أَصْحَابُهُ خَوَاتِيمَهُمْ وَاِتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ. مَطْلَبُ: يُسَنُّ جَعْلُ الْخَاتَمِ فِي خِنْصِرِ الْيُسْرَى وَيَحْسُنُ فِي الْيُسْرَى كَأَحْمَدَ وَصَحْبِهِ وَيُكْرَهُ فِي الْوُسْطَى وَسَبَّابَةِ الْيَدِ (وَيَحْسُنُ) أَيْ يُسَنُّ لُبْسُ الْخَاتَمِ (فِي) خِنْصِرِ يَدِهِ (الْيُسْرَى كَفِعْلِ) (أَحْمَدَ) الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَ) فِعْلِ (صَحْبِهِ) - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَحْفُوظُ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِي يَمِينِهِ» . وَلِمُسْلِمٍ «فِي يَسَارِهِ» . وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا لَبِسَ خَاتَمَ الذَّهَبِ جَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ» . قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: لَبِسَ الْخَاتَمَ فِي خِنْصِرِ يَدِهِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، وَلَا فَضْلَ فِي لُبْسِهِ فِي إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى، وَتَابَعَهُ فِي الْفُرُوعِ وَالْآدَابِ الْكُبْرَى، وَالْوُسْطَى. قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ التَّخَتُّمَ فِي الْيَسَارِ أَفْضَلُ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ. قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُوَ أَقَرُّ وَأَثْبَتُ وَأَحَبُّ إلَيَّ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالتَّلْخِيصِ وَالْبُلْغَةِ وَابْنِ تَمِيمٍ وَالْإِفَادَاتِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ التَّخَتُّمَ فِي الْيَمِينِ مَنْسُوخٌ، وَأَنَّ التَّخَتُّمَ فِي الْيَسَارِ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ. انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ. قَالَ فِي التَّلْخِيصِ: ضَعَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثَ التَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ. قُلْت: الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمَذْهَبُ اسْتِحْبَابُ كَوْنِ الْخَاتَمِ فِي خِنْصِرِ الْيُسْرَى. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ الْخَاتَمُ فِي الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ (وَيُكْرَهُ) لُبْسُ الْخَاتَمِ (فِي) الْأُصْبُعِ (الْوُسْطَى، وَ) كَذَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ فِي (سَبَّابَةِ الْيَدِ) أَمَّا الْوُسْطَى إنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَوَسُّطِهَا بَيْنَ أَصَابِعِ الْيَدِ. وَأَمَّا السَّبَّابَةُ فَهِيَ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ. قِيلَ سُمِّيَتْ سَبَّابَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشِيرُونَ بِهَا إلَى السَّبِّ وَالْمُخَاصَمَةِ وَيَعَضُّونَهَا عِنْدَ النَّدَمِ. وَلِذَا قَالَ قَائِلُهُمْ: غَيْرِي جَنَى وَأَنَا الْمُعَذَّبُ فِيكُمْ ... فَكَأَنَّنِي سَبَّابَةُ الْمُتَنَدِّمِ وَيُقَالُ لَهَا الْمُسَبِّحَةُ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، اسْمُ فَاعِلٍ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُمْ يُشِيرُونَ بِهَا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - تَنْبِيهًا عَلَى التَّوْحِيدِ. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : ظَاهِرُ نِظَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ التَّخَتُّمِ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، وَقَيَّدَهُ فِي الْفُرُوعِ بِالرَّجُلِ، وَعِبَارَتُهُ: وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى لِلرَّجُلِ وِفَاقًا لِلثَّلَاثَةِ لِلنَّهْيِ الصَّحِيحِ عَنْ ذَلِكَ. قُلْت: وَهُوَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَتَخَتَّمَ فِي أُصْبُعِي هَذِهِ أَوْ هَذِهِ، فَأَوْمَأَ إلَى الْوُسْطَى وَاَلَّتِي تَلِيهَا» وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ السَّبَّابَةُ وَالْوُسْطَى قَالَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ. قَالَ: وَلَمْ يُقَيِّدْهُ فِي التَّرْغِيبِ وَغَيْرِهِ. فَظَاهِرُ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ الْخِنْصَرُ أَفْضَلَ اقْتِصَارًا عَلَى النَّصِّ، وَقَالَهُ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: وَالْإِبْهَامُ مِثْلُهُمَا. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: فَالْبِنْصِرُ مِثْلُهُ وَلَا فَرْقَ. قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ فِي إنْصَافِهِ: لَوْ قِيلَ بِالْفَرْقِ لَكَانَ مُتَّجِهًا لِمُجَاوَرَتِهَا لَمَا يُبَاحُ التَّخَتُّمُ فِيهَا بِخِلَافِ الْإِبْهَامِ لِبُعْدِهِ وَاسْتِهْجَانِهِ انْتَهَى. وَفِي الْفَرْقِ نَظَرٌ. وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ لَمْ يُقَيِّدُوا الْكَرَاهَةَ فِي اللُّبْسِ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى بِالرَّجُلِ بَلْ أَطْلَقُوا. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ: وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالرِّجَالِ. انْتَهَى. وَلَمْ يُقَيِّدْهُ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَالْغَايَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَالْقَيْدُ أَصْوَبُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) : الْأَفْضَلُ لِلَابِسِهِ جَعْلُ فَصِّهِ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ يَجْعَلُهُ مِمَّا يَلِي ظَهْرَ كَفِّهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. (الثَّالِثُ) : لِمُتَّخِذِي الْخَاتَمِ جَعْلُ فَصِّهِ مِنْهُ، وَمِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ فَصُّهُ مِنْهُ. وَلِمُسْلِمٍ كَانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْفَصَّ ذَهَبًا حَيْثُ كَانَ يَسِيرًا. مَطْلَبٌ: حُكْمِ الْخَاتَمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ قُرْآنٌ أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَضَعْهُ فِي الدُّخُولِ إلَى الْخَلَا ... فَعَنْ كَتْبِ قُرْآنٍ وَذِكْرٍ بِهِ اُصْدُدْ (وَمَنْ) لَبِسَ الْخَاتَمَ (وَلَمْ يَضَعْهُ) أَيْ لَمْ يُلْقِ الْخَاتَمَ مِنْ يَدِهِ (فِي) حَالِ (الدُّخُولِ) الصَّادِرِ مِنْهُ (إلَى) بَيْتِ (الْخَلَاءِ) لِأَجْلِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ (فَعَنْ) الْفَاءُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَ (كَتْبِ) مَجْرُورٌ بِعَنْ، وَ (قُرْآنٍ) مُضَافٌ إلَيْهِ (وَ) عَنْ كَتْبِ (ذِكْرِ) اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (بِهِ) أَيْ الْخَاتَمِ (اُصْدُدْ) أَيْ امْنَعْ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ بِ (اُصْدُدْ) وَالْمُرَادُ مَنْعُ كَرَاهَةٍ يَعْنِي لِلتَّنْزِيهِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْغَايَةِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ يَعْنِي الْخَاتَمَ ذِكْرَ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ قُرْآنٍ أَوْ غَيْرِهِ. زَادَ فِي الْغَايَةِ: وَكَذَا عَلَى دَرَاهِمَ وَلَمْ يُقَيِّدَا بِدُخُولِ الْخَلَاءِ. وَعِبَارَةُ الْفُرُوعِ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى الْخَاتَمِ ذِكْرُ اللَّهِ قُرْآنٌ أَوْ غَيْرُهُ. نَقَلَ إِسْحَاقُ أَظُنُّهُ ابْنَ مَنْصُورٍ: لَا يُكْتَبُ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ. قَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ لِمَا يَدْخُلُ الْخَلَاءُ فِيهِ هَذَا لَفْظُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 قَالَ ابْنُ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً وَيَكُونَ الْمَعْنَى لِدُخُولِ الْخَلَاءِ فِيهِ انْتَهَى. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَعَلَّ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَرِهَهُ لِذَلِكَ قَالَ: وَعَنْهُ لَا يُكْرَهُ دُخُولُ الْخَلَاءِ بِذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ هُنَا، وَلَمْ أَجِدْ لِلْكَرَاهَةِ دَلِيلًا سِوَى هَذَا، وَهِيَ تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَنُقِلَ هَذَا فِي الْإِنْصَافِ وَصَوَّبَ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ. قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى خَوَاتِيمِهِمْ ذَكَرَهُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ قَالَ لِلنَّاسِ: إنِّي اتَّخَذْت خَاتَمًا وَنَقَشْت فِيهِ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) فَلَا يَنْقُشْ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِي؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ نَقْشِهِمْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا عَنْ غَيْرِهِ. وَمَفْهُومُ كَلَامِ النَّاظِمِ: أَنَّ مَنْ كَانَ يَضَعُهُ عِنْدَ دُخُولِهِ الْخَلَاءَ لَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ ذِكْرَ اللَّهِ - تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَدْخُلُ بِهِ الْخَلَاءَ بَلْ يَضَعُهُ «؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ فَإِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الدُّخُولِ بِهِ كَخَوْفٍ عَلَيْهِ فَلْيَجْعَلْ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، أَعْنِي إذَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى، وَدَخَلَ بِهِ الْخَلَاءَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْخَاتَمُ إذَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ يَجْعَلُهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، وَيَدْخُلُ الْخَلَاءَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْ بِهِ هَكَذَا فِي بَاطِنِ كَفِّك فَاقْبِضْ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَظَاهِرُ مَا وَرَدَ لَا يُكْرَهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ: أَوْ ذِكْرُ رَسُولِهِ، قَالَ: وَيُتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ وِفَاقًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إلَّا بِخَاتَمٍ، فَصَاغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمًا حَلَقُهُ فِضَّةٌ وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ لِلنَّاسِ إنِّي اتَّخَذْت خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشْت فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَلَا يَنْقُشْ أَحَدُكُمْ عَلَى نَقْشِهِ. وَلِلْبُخَارِيِّ: " مُحَمَّدٌ: سَطْرٌ، وَرَسُولُ: سَطْرٌ، وَاَللَّهُ: سَطْرٌ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 قُلْت: ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَالْبَدْرُ الْعَيْنِيُّ عَنْ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَّ مُحَمَّدٌ: سَطْرٌ أَوَّلُ، وَالسَّطْرُ الثَّانِي: رَسُولُ، وَالثَّالِثُ: اللَّهُ. انْتَهَى كَلَامُهُمَا. قُلْت: وَبِهِ تَعْلَمُ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ فِي السَّطْرِ الْأَوَّلِ، وَرَسُولُ فِي السَّطْرِ الثَّانِي، وَمُحَمَّدٌ فِي السَّطْرِ الثَّالِثِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ عَدَمُ عَدِّ ذَلِكَ فِي الْخَصَائِصِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَشَ عَلَى الْخَاتَمِ صُورَةُ حَيَوَانٍ (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَشَ عَلَى الْخَاتَمِ صُورَةُ حَيَوَانٍ بِلَا نِزَاعٍ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، لَكِنْ هَلْ يَحْرُمُ لُبْسُ الْخَاتَمِ الْمَنْقُوشِ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ يُكْرَهُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَحْرُمُ اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي آخِرِ الْفُصُولِ، وَحَكَاهُ أَبُو حَكِيمٍ النَّهْرَوَانِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الثِّيَابِ وَالْخَوَاتِمِ وَذَكَرَ النَّصَّ. قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَطَعَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهِمَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُكْرَهُ وَلَا يَحْرُمُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَصَحَّحَهُ أَبُو حَكِيمٍ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) : ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّارِيخِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ بَلَغَهُ أَنَّ وَلَدَهُ اشْتَرَى فَصَّ خَاتَمٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَكَتَبَ إلَيْهِ عَزَمْت عَلَيْك إلَّا مَا أَرْسَلْت خَاتَمَك أَوْ بِعْتَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَجَعَلْتهَا فِي بَطْنِ جَائِعٍ وَاسْتَعْمَلْت خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ وَنَقَشْت عَلَيْهِ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَرَفَ نَفْسَهُ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نِعْمَ الْقَادِرُ اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يُسَنُّ ابْتِدَاءُ الْمُنْتَعِلِ بِالْيُمْنَى وَيَحْسُنُ فِي الْيُمْنَى ابْتِدَاءُ انْتِعَالِهِ ... وَفِي الْخَلْعِ عَكْسٌ وَاكْرَهْ الْعَكْسَ تَرْشُدْ (وَيَحْسُنُ) يَعْنِي يُسَنُّ (بِ) الرِّجْلِ (الْيُمْنَى ابْتِدَاءُ انْتِعَالِهِ) يَعْنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 أَوَّلَ مَا يَبْتَدِئُ فِي لُبْسِ النَّعْلِ أَنْ يُنْعِلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَجَمْعُ النَّعْلِ نِعَالٌ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْآنُ تَاسُومَةً. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هِيَ لِبَاسُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا اتَّخَذَ النَّاسُ غَيْرَهَا؛ لِمَا فِي أَرْضِهِمْ مِنْ الطِّينِ. وَقَدْ يُطْلَقُ النَّعْلُ عَلَى كُلِّ مَا يَقِي الْقَدَمَ. قَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: النَّعْلُ وَالنَّعْلَةُ مَا وُقِيَتْ بِهِ الْقَدَمُ، وَهُوَ الْمُرَادُ لِلنَّاظِمِ وَغَيْرِهِ. (وَ) يُسَنُّ (فِي الْخَلْعِ) أَيْ خَلْعِ نَعْلَيْهِ (عَكْسٌ) أَيْ عَكْسُ مَا صَنَعَ فِي حَالَةِ الِانْتِعَالِ، فَيُسَنُّ لَهُ فِي حَالَةِ الْخَلْعِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِخَلْعِ نَعْلِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى لِتَكُونَ الْيُمْنَى أَوَّلَ رِجْلَيْهِ انْتِعَالًا، وَآخِرَهُمَا خَلْعًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيُمْنَى وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ لِتَكُونَ الْيُمْنَى أَوَّلُهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرُهُمَا تُنْزَعُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (وَاكْرَهْ) أَنْتَ تَنْزِيهًا (الْعَكْسَ) بِأَنْ تُنْعِلَ أَوَّلًا الْيُسْرَى وَتَخْلَعَ أَوَّلًا الْيُمْنَى فَيُكْرَهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا نَعَلْت أَوَّلًا الْيُمْنَى وَنَزَعْتهَا أَوَّلًا أَوْ بِالْعَكْسِ فَتَكُونُ قَدْ فَعَلْت مَسْنُونًا وَمَكْرُوهًا، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ، بَلْ عَلَيْك بِنَعْلِ الْيُمْنَى أَوَّلًا وَخَلْعِ الْيُسْرَى أَوَّلًا لِيَحْصُلَ التَّيَامُنُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِيَدِك الْيُسْرَى. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ بَدَأَ فِي الِانْتِعَالِ بِالْيُسْرَى أَسَاءَ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ لُبْسُ نَعْلَيْهِ. وَنَقَلَ عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ فَإِنْ تَمَسَّكْت بِذَلِكَ وَدُمْت عَلَيْهِ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ (تُرْشَدْ) لِفِعْلِ الصَّوَابِ، وَمُتَابَعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَصْحَابِ. وَقَدْ مَرَّ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ التَّيَامُنَ مُسْتَحَبٌّ فِي شَأْنِ الْإِنْسَانِ كُلِّهِ. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ الْمَشْيُ فِي فَرْدِ نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَيُكْرَهُ مَشْيُ الْمَرْءِ فِي فَرْدِ نَعْلِهِ اخْ ... تِيَارًا أَصِخْ حَتَّى لِإِصْلَاحِ مُفْسِدِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (مَشْيُ الْمَرْءِ) مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (فِي فَرْدِ نَعْلِهِ) أَيْ فِي نَعْلٍ فَرْدٍ وَالْمُرَادُ بِلَا حَاجَةٍ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُكْرَهُ الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ بِلَا حَاجَةٍ، وَنَصُّهُ يَعْنِي الْإِمَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَوْ يَسِيرًا. وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ (اخْتِيَارًا) يَعْنِي فِي حَالِ اخْتِيَارِ الْمَاشِي مَعَ صِحَّةِ رِجْلَيْهِ بِخِلَافِ مَنْ لَهُ رِجْلٌ وَاحِدَةٌ. أَوْ كَانَ بِإِحْدَى رِجْلَيْهِ مَا يَمْنَعُ لُبْسَ النَّعْلِ مِنْ قُرْحَةٍ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 لَا كَرَاهَةَ فِي حَقِّهِ بِلُبْسِهِ فَرْدَةَ نَعْلٍ وَاحِدَةٍ (أَصِخْ) مِنْ صَاخَ وَأَصَاخَ إذَا اسْتَمَعَ أَيْ اسْتَمِعْ نِظَامِي وَافْتَهِمْ كَلَامِي وَعِ لَمَا أُبْدِيهِ لَك مِنْ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَمَعَ وَتَفَهَّمَ، وَوَعَى وَتَعَلَّمَ، وَارْتَقَى بِسُلَّمِ التَّعْلِيمِ عَلَّ الْأَنَامَ، إلَى أَنْ تَشْهَدَ لَهُ الْخَلِيقَةُ بِأَنَّهُ إمَامٌ (حَتَّى) تَنْتَهِيَ كَرَاهَةُ لُبْسِ فَرْدَةِ نَعْلٍ وَاحِدَةٍ (لِ) أَجْلِ (إصْلَاحِ مُفْسِدٍ) أَيْ مِنْ نَعْلَيْهِ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ إحْدَى نَعْلَيْهِ فَاسِدَةً غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلُّبْسِ وَالْأُخْرَى صَالِحَةً لَمْ تَزَلْ الْكَرَاهَةُ بِذَلِكَ، بَلْ يُكْرَهُ لُبْسُهُ الصَّحِيحَةَ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ حَتَّى يُصْلِحَ الْفَاسِدَةَ وَيَلْبَسَهُمَا مَعًا. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِيَنْعَلْهُمَا جَمِيعًا أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا» وَفِي رِوَايَةٍ «أَوْ لِيَحْفُهُمَا جَمِيعًا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِ فِي الْأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِيهِ «وَلَا خُفٌّ وَاحِدٌ» . وَالشِّسْعُ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ: قُبَالُ النَّعْلِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: إنَّمَا نَهَى عَنْ الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ لِئَلَّا تَكُونَ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ أَرْفَعَ مِنْ الْأُخْرَى، وَيَكُونَ سَبَبًا لِلْعِثَارِ، وَيَقْبُحَ فِي الْمَنْظَرِ، وَيُعَابَ فَاعِلُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَسَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ فِي الْغُنْيَةِ: لَهُ لُبْسُ الصَّالِحَةِ وَحْدَهَا حَتَّى يُصْلِحَ الْفَاسِدَةَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَشَى بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ سَيِّدَتَنَا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَشَتْ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ. قَالَ النَّاظِمُ: وَدَلِيلُ الرُّخْصَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ مَشَى فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأُخْرَى فِي يَدِهِ حَتَّى يَجِدَ شِسْعًا» . قَالَ: وَأَحْسِبُ هَذَا لَا يَصِحُّ. وَنَقَلَهُ فِي الْفُرُوعِ وَقَالَ: لَعَلَّهُ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي يَعْنِي الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْخَبَرِ. قُلْت: رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَفْظُهُ: قَالَتْ: «رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَشَى فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 يُصْلِحَهَا» أَشَارَ فِي الْفَتْحِ إلَى ضَعْفِهِ. وَرَجَّحَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَقْفَهُ عَلَى عَائِشَةَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهَا أَيْضًا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: لَأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ فَنَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَأَحْتَفِيَنَّ، وَمَعْنَاهُ لَأَفْعَلَنَّ فِعْلًا يُخَالِفُهُ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَرُوِيَ لَأُخَالِفَنَّ، وَرُوِيَ لَأُحَنِّثَنَّ، وَرُوِيَ لَأُخِيفَنَّ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ فَاءٌ، وَهِيَ تَصْحِيفٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يَأْخُذْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِرَأْيِ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُمَا حَمَلَا النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ، أَوْ كَانَ زَمَنَ فِعْلِهِمَا يَسِيرًا أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُمَا النَّهْيُ. انْتَهَى. مَطْلَبُ حُكْمِ لُبْسِ النَّعْلِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا بَأْسَ فِي نَعْلٍ يُصَلِّي بِهِ بِلَا ... أَذًى وَافْتَقِدْهَا عِنْدَ أَبْوَابِ مَسْجِدِ (وَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا كَرَاهَةَ (فِي) لُبْسِ (نَعْلٍ) طَاهِرٍ (يُصَلِّي) الْإِنْسَانُ (بِهِ) أَيْ بِالنَّعْلِ، يَعْنِي يُصَلِّي وَهُوَ لَابِسٌ لَهُ حَيْثُ كَانَ (بِلَا أَذًى) يَعْنِي حَيْثُ خَلَا النَّعْلُ مِنْ النَّجَاسَةِ الَّتِي لَا يُعْفَى عَنْهَا. وَاسْتَحَبَّ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ - الصَّلَاةَ فِي النِّعَالِ. قَالَ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ: وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّنْ يُصَلِّي فِي النَّعْلَيْنِ هَلْ يَجُوزُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ أَمْ لَا؟ . أَجَابَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: الصَّلَاةُ فِي النَّعْلَيْنِ سُنَّةٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُلْبَسُ مِنْ حِذَاءٍ وَجُمْجُمٍ وَزُرْبُولٍ وَخُفٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْيَهُودَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ، فَأَمَرَنَا أَنْ نُخَالِفَ الْيَهُودَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ» . قَالَ: فَالصَّلَاةُ فِي النَّعْلَيْنِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي السُّنَنِ أَيْضًا «أَنَّهُ صَلَّى فِي نَعْلِهِ، وَصَلَّى أَصْحَابُهُ فِي نِعَالِهِمْ، فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَخَلَعُوا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاك خَلَعْت نَعْلَيْك فَخَلَعْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ: إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا أَذًى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُمَا طَهُورٌ» فَصَلَاةُ الرَّجُلِ لِلْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَالْجِنَازَةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فِي نَعْلَيْهِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَوَاءٌ كَانَ يَمْشِي بِهِمَا فِي طُرُقَاتِ الْمَدِينَةِ الَّتِي فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ غَيْرِهِمَا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَمْشُونَ فِي طُرُقَاتِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا بِنِعَالِهِمْ وَيُصَلُّونَ فِيهَا. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّلَاةِ فِيهِمَا، بَلْ كَانُوا يَخْرُجُونَ بِهَا إلَى الْحُشُوشِ حَيْثُ يَتَغَوَّطُونَ وَيَطَئُونَ الْأَرْضَ بِمَا عَلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إذَا رَأَى أَحَدُهُمْ فِي نَعْلَيْهِ أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا بِالتُّرَابِ فَإِنَّ التُّرَابَ طَهُورُ النَّعْلَيْنِ. وَهَذَا عَلَى رَأْيِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ اخْتِيَارُهُ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ نَصًّا وَقِيَاسًا. وَأَطَالَ فِي اسْتِدْلَالٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ النَّاظِمُ: وَالْأَوْلَى الصَّلَاةُ حَافِيًا. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «إذَا خَلَعَ نَعْلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ خَلَّصَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ ذُنُوبِهِ حَتَّى يَلْقَاهُ كَهَيْئَةِ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ خَلْعِ النَّعْلِ فِي الصَّلَاةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ فِي خَلْعِ نَعْلٍ كَانَ فِيهَا أَذًى. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: ذَكَرَ الْقَاضِي الِاسْتِحْبَابَ وَعَدَمَهُ لِلْخَبَرَيْنِ. وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ خُذُوا زِينَةَ الصَّلَاةِ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا زِينَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: الْبِسُوا نِعَالَكُمْ وَصَلُّوا فِيهَا» . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَالْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِهَا بَعْدَ إيرَادِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ فِي النِّعَالِ. قَالَا: وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي النَّعْلِ وَنَحْوِهِ مُسْتَحَبَّةٌ قَالَ: وَإِذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْخُفِّ لَمْ تُكْرَهْ الصَّلَاةُ فِيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَطْلَبُ: مَا يُسَنُّ لِدَاخِلِ الْمَسْجِدِ] مَطْلَبٌ: يُسَنُّ لِدَاخِلِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَتَعَاهَدَ نَعْلَهُ وَأَنْ يَبْدَأَ بِخَلْعِ الْيُسْرَى وَيُقَدِّمَ الْيُمْنَى فِي الدُّخُولِ وَيَقُولَ مَا وَرَدَ. (وَافْتَقَدَهَا) أَيْ يُسَنُّ افْتِقَادُ النِّعَالِ (عِنْدَ) إرَادَةِ دُخُولِ (أَبْوَابِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 جَمْعُ بَابِ (مَسْجِدٍ) لِإِزَالَةِ مَا عَلِقَ بِهَا مِنْ أَذًى؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعَاهَدُوا نِعَالَكُمْ عِنْدَ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ» قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَتُنَجِّسَ الْمَسْجِدَ. وَتَقَدَّمَ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي فَتْوَاهُ قَرِيبًا. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيُسَنُّ أَنْ يَبْدَأَ بِخَلْعِ الْيُسْرَى وَلُبْسِ الْيُمْنَى. بِيَسَارِهِ فِيهِمَا، وَالْمَسْجِدُ وَنَحْوُهُ فِيهِمَا سَوَاءٌ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ، وَهُوَ قَائِمٌ، وَيُقَدِّمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ وَالْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ يَعْنِي الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى الْيُمْنَى مِنْ رِجْلَيْهِ دُخُولًا وَالْيُسْرَى خُرُوجًا. وَيَقُولُ عِنْدَ الدُّخُولِ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك، ثُمَّ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ وَيَدْخُلُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِأَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي الدُّخُولِ وَيُقَدِّمَ الْيُسْرَى فِي الْخُرُوجِ، وَيَقُولَ مَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ أَبْوَابَ فَضْلِك بَدَلَ رَحْمَتِك. فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ. وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ» - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهُوَ فِي رِوَايَةِ الْبَاقِينَ. زَادَ ابْنُ السُّنِّيِّ «وَإِذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَعِذْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِي صَحِيحِهِمَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَالَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ حَفِظَهُ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِ عَنْ جَدَّتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ حَمِدَ اللَّهَ - تَعَالَى، وَسَمَّى وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك، وَإِذَا خَرَجَ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك» . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ جَدَّتِهَا فَاطِمَةَ الْكُبْرَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلِّمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَإِذَا خَرَجَ قَالَ مِثْلَهَا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: أَبْوَابَ فَضْلِك» . وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ» . قُلْت: وَهَذَا الْحَدِيثُ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُمَا بِصُورَةِ حَدِيثَيْنِ لِمَا فِي أَلْفَاظِهِمَا مِنْ التَّخَالُفِ، وَلِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا زَكَرِيَّا النَّوَوِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَزَاهُ لِابْنِ السُّنِّيِّ فَقَطْ مَعَ أَنَّهُ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ وَسُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: بَيَانُ مَحَلِّ وَضْعِ نَعْلِ الْمُصَلِّي ثُمَّ إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِمَا تَرَكَهُمَا أَمَامَهُ. وَعَنْهُ بَلْ عَنْ يَسَارِهِ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَلَعَ نَعْلَيْهِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ جَعَلَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَقِيلَ: إنْ كَانَ مَأْمُومًا جَعَلَهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ لِئَلَّا يُؤْذِيَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا جَعَلَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ كَيْ لَا يُؤْذِيَ أَحَدًا. قَالَ الْقَاضِي: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا جَانِبَ الْيَسَارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ وَالْخَلَّالُ وَلِأَنَّ الْيَسَارَ جُعِلَتْ لِلْأَشْيَاءِ الْمُسْتَقْذَرَةِ مِنْ الْأَفْعَالِ. قَالَ الْقَاضِي: فَأَمَّا مَوْضِعُهُمَا مِنْ غَيْرِ الْمُصَلِّي فَإِلَى جَنْبِهِ، كَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ إذَا جَلَسَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ فَيَضَعَهُمَا بِجَانِبِهِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ: وَلَا يَرْمِ بِهِمَا عَلَى وَجْهِ الْكِبْرِ وَالتَّعَاظُمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ أَرْضِ الْمَسْجِدِ أَوْ أَذَى أَحَدٍ لَمْ يَجُزْ، وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ، وَالْأَدَبُ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي فَضْلِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ. (تَتِمَّةٌ) فِي طَرَفٍ مِنْ آدَابِ الْمَسَاجِدِ وَاِتِّخَاذِهَا، وَذَلِكَ أَنْوَاعٌ: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) : فِي بِنَائِهَا وَفَضْلِهَا الْقَائِمِ بِذَلِكَ. اعْلَمْ - وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِكُلِّ فِعْلٍ حَمِيدٍ، وَعَمَلٍ سَدِيدٍ، وَقَوْلٍ مُفِيدٍ - أَنَّهُ يَجِبُ بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْمَحَالِّ وَنَحْوِهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَهِيَ أَحَبُّ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا. وَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ «بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ» . وَرَوَى الْبَزَّارُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا قَدْرَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَفْظُهُ «وَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا «كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ يَسَعُهَا لِبَيْضِهَا» وَمَفْحَصُ الْقَطَاةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ مَجْثَمُهَا. قَالَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ. وَالْقَطَاةُ وَاحِدَةُ الْقَطَا طَائِرٌ مَعْرُوفٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَمَامِ. وَسُمِّيَتْ قَطَاةً لِحِكَايَةِ صَوْتِهَا فَإِنَّهَا تَقُولُ كَذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ مَفْحَصِ الْقَطَاةِ: هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَوْضِعُهَا الَّذِي تَجْثُمُ فِيهِ وَتَبِيضُ، كَأَنَّهَا تَفْحَصُ عَنْهُ التُّرَابَ أَيْ تَكْشِفُهُ، وَالْفَحْصُ الْبَحْثُ وَالْكَشْفُ. خَصَّ الْقَطَاةَ بِهَذَا لِأَنَّهَا لَا تَبِيضُ فِي شَجَرَةٍ وَلَا عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ إنَّمَا تَجْعَلُ مَجْثَمَهَا عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ دُونَ سَائِرِ الطَّيْرِ، فَلِذَلِكَ شَبَّهَ بِهِ الْمَسْجِدَ، وَلِأَنَّهَا تُوصَفُ بِالصِّدْقِ، فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اعْتِبَارِ إخْلَاصِ النِّيَّةِ وَصِدْقِهَا فِي الْبِنَاءِ، كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ. وَقِيلَ خَرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ التَّرْغِيبِ بِالْقَلِيلِ مَخْرَجَ الْكَثِيرِ، كَمَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي شَرْحِ هَذَا الْخَبَرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ عَنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ فَقِيلَ لَهُ إنَّهَا مَاتَتْ قَالَ فَهَلَّا آذَنْتُمُونِي، فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا» وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ «إنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَلْقُطُ الْخِرَقَ وَالْعِيدَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ» وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَتْ سَوْدَاءُ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَتُوُفِّيَتْ لَيْلًا فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُخْبِرَ بِهَا فَقَالَ أَلَا آذَنْتُمُونِي، فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ فَوَقَفَ عَلَى قَبْرِهَا فَكَبَّرَ عَلَيْهَا وَالنَّاسُ خَلْفَهُ وَدَعَا لَهَا ثُمَّ انْصَرَفَ» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَلْقُطُ الْقَذَى مِنْ الْمَسْجِدِ فَتُوُفِّيَتْ فَلَمْ يُؤْذَنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَفْنِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَاتَ لَكُمْ مَيِّتٌ فَآذِنُونِي، وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَقَالَ إنِّي رَأَيْتهَا فِي الْجَنَّةِ تَلْقُطُ الْقَذَى فِي الْمَسْجِدِ» . وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ مَرْزُوقٍ قَالَ «كَانَتْ امْرَأَةٌ بِالْمَدِينَةِ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَتْ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَرَّ عَلَى قَبْرِهَا فَقَالَ مَا هَذَا الْقَبْرُ؟ فَقَالُوا أُمُّ مِحْجَنٍ، قَالَ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ؟ قَالُوا نَعَمْ، فَصَفَّ النَّاسَ فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ أَيَّ الْعَمَلِ وَجَدْت أَفْضَلَ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَسْمَعُ؟ قَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهَا، فَذَكَرَ أَنَّهَا أَجَابَتْهُ قَمَّ الْمَسْجِدِ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَقَمُّ الْمَسْجِدِ بِالْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ هُوَ كَنْسُهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَأَشَارَ الْمُنْذِرِيُّ إلَى ضَعْفِهِ عَنْ أَبِي قِرْصَافَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «ابْنُوا الْمَسَاجِدَ وَأَخْرِجُوا الْقُمَامَةَ مِنْهَا، فَمَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُبْنَى فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ نَعَمْ وَإِخْرَاجُ الْقُمَامَةِ مِنْهَا مُهُورُ الْحُورِ الْعِينِ» . وَالْقُمَامَةُ بِالضَّمِّ الْكُنَاسَةُ. وَاسْمُ أَبِي قِرْصَافَةَ بِكَسْرِ الْقَافِ جَنْدَرَةُ بْنُ خَيْشَنَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ بِسَنَدٍ مُحْتَمِلِ الْحُسْنِ كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَخْرَجَ أَذًى مِنْ الْمَسْجِدِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكَنْسُ وَنَحْوُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَهُوَ سُنَّةٌ كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهَا، وَمَشَى عَلَيْهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الثَّانِي) فِي صِيَانَةِ الْمَسَاجِدِ عَنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ كُلُّ مَسْجِدٍ عَنْ كُلِّ وَسَخٍ وَقَذَرٍ وَقَذَاةٍ وَمُخَاطٍ وَبُصَاقٍ، فَإِنْ بَدَرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَهُ بِثَوْبِهِ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ: وَيُسَنُّ أَنْ يُصَانَ أَيْضًا عَنْ تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ. وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: يُسْتَحَبُّ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْ الْقَذَاةِ. وَالْبَصْقَةُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا إنْ كَانَتْ بِأَرْضِهِ وَكَانَتْ أَرْضُهُ حَصْبَاءَ وَنَحْوَهَا، وَإِلَّا مَسَحَهَا بِثَوْبِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يَكْفِي تَغْطِيَتُهَا بِحَصِيرٍ. وَإِنْ لَمْ يُزِلْهَا فَاعِلُهَا لَزِمَ غَيْرَهُ إزَالَتُهَا بِدَفْنٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى حَائِطٍ وَجَبَ إزَالَتُهَا. وَيُسْتَحَبُّ تَخْلِيقُ مَوْضِعِهَا لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا قَالَ «بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يَوْمًا إذْ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَتَغَيَّظَ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 النَّاسِ ثُمَّ حَكَّهَا قَالَ وَأَحْسَبُهُ قَالَ فَدَعَا بِزَعْفَرَانٍ فَلَطَّخَهُ بِهِ وَقَالَ إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قِبَلَ وَجْهِ أَحَدِكُمْ إذَا صَلَّى فَلَا يَبْصُقْ بَيْنَ يَدَيْهِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا رَأَى النُّخَامَةَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعُ أَمَامَهُ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعَ فِي وَجْهِهِ إذَا بَصَقَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْصُقْ عَنْ شِمَالِهِ أَوْ لِيَقُلْ هَكَذَا فِي ثَوْبِهِ يَعْنِي يَبْصُقُ فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ يُدَلِّكُهُ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ «إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا قَامَ فَإِنَّمَا يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ، وَالْمَلَكُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَبْصُقُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِلَفْظِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّفْلُ فِي الْمَسْجِدِ سَيِّئَةٌ، وَدَفْنُهُ حَسَنَةٌ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَهْلَةَ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ - مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْ أَبِي سَهْلَةَ قَالَ: «إنَّ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ فَرَغَ: لَا يُصَلِّي لَكُمْ هَذَا فَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ لَهُمْ فَمَنَعُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: نَعَمْ وَحَسِبْت أَنَّهُ قَالَ: إنَّك آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَأَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَلَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ مَنَعُوهُ، وَفِيهِ «فَآذَيْت اللَّهَ وَالْمَلَائِكَةَ» . مَطْلَبٌ: يُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنْ صَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ وَيُسَنُّ أَنْ تُصَانَ الْمَسَاجِدُ عَنْ صَغِيرٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: أَطْلَقُوا الْعِبَارَةَ، وَالْمُرَادُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -: إذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يُمَيِّزُ غَيْرَ مَصْلَحَةٍ وَلَا فَائِدَةٍ. وَعَنْ مَجْنُونٍ حَالَ جُنُونِهِ. وَتَبِعَهُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاِتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي أُمَامَةَ وَوَاثِلَةَ. وَرَوَاهُ فِي الْكَبِيرِ أَيْضًا بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذٍ وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ. قَوْلُهُ جَمِّرُوهَا أَيْ بَخِّرُوهَا وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ. مَطْلَبٌ: يَحْرُمُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيَحْرُمُ فِيهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْإِجَارَةُ لِلْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَبَاطِلٌ. وَيُسَنُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي فِيهِ لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَك، وَهَذَا الْمَذْهَبُ. وَقِيلَ يُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ لَا أَنَّهُمَا يَحْرُمَانِ، قَطَعَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ وَالسَّامِرِيُّ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْبَيْعِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. فَعَلَى التَّحْرِيمِ فِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ الْمَذْهَبُ عَدَمُهَا وَقِيلَ بَلَى. وَلَا يَجُوزُ التَّكَسُّبُ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّنْعَةِ كَخِيَاطَةٍ وَغَيْرِهَا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا لِحَاجَةٍ وَغَيْرِهَا. قَالَهُ فِي الْإِقْنَاعِ وَقَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ الْمَسْجِدُ مَكَانًا لِلْمَعَاشِ وَقُعُودِ الصُّنَّاعِ وَالْفَعَلَةِ فِيهِ يَنْتَظِرُونَ مَنْ يَكْتَرِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْبَضَائِعِ فِيهِ يَنْتَظِرُ مَنْ يَشْتَرِيهَا، وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «خِصَالٌ لَا يَنْبَغِينَ فِي الْمَسْجِدِ: لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا، وَلَا يُشْهَرُ فِيهِ سِلَاحٌ وَلَا يُنْبَضُ فِيهِ بِقَوْسٍ، وَلَا يُنْثَرُ فِيهِ نَبْلٌ، وَلَا يُمَرُّ فِيهِ بِلَحْمٍ نِيءٍ، وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ، وَلَا يُقْتَصُّ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ، وَلَا يُتَّخَذُ سُوقًا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى مِنْهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ «لَا تَتَّخِذُوا الْمَسَاجِدَ طُرُقًا إلَّا لِذِكْرٍ أَوْ صَلَاةٍ» وَإِسْنَادُ الطَّبَرَانِيِّ لَا بَأْسَ بِهِ. قَوْلُهُ " يُنْبَضَ فِيهِ بِقَوْسٍ " يُقَالُ انْبِضْ الْقَوْسَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ إذَا حَرَّكَ وَتَرَهَا لِتَرِنَّ. وَالنِّيءُ بِكَسْرِ النُّونِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ الْيَاءِ مَمْدُودًا، هُوَ الَّذِي لَمْ يُطْبَخْ وَقِيلَ: لَمْ يَنْضُجْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ وَقَفُوا خَارِجَ أَبْوَابِهِ فَلَا بَأْسَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا أَرَى لِرَجُلٍ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ إلَّا أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ الذِّكْرَ وَالتَّسْبِيحَ فَإِنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 الْمَسَاجِدَ إنَّمَا بُنِيَتْ لِذَلِكَ وَلِلصَّلَاةِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ خَرَجَ إلَى مَعَاشِهِ. قَالَ أَيْ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُصَانُ عَنْ عَمَلِ صَنْعَةٍ يُكْرَهُ الْيَسِيرُ لِغَيْرِ التَّكَسُّبِ كَرَقْعِ ثَوْبِهِ وَخَصْفِ نَعْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّانِعُ يُرَاعِي الْمَسْجِدَ بِكَنْسٍ وَنَحْوِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَذَكَرَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى رِوَايَتَيْنِ: الْحُرْمَةُ وَالْكَرَاهَةُ، وَنَقَلَهُمَا فِي الْفُرُوعِ وَالْإِنْصَافِ وَغَيْرِهِمَا، وَالْمُرَادُ غَيْرُ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَهَّلَ فِيهَا. قَالَ الْحَارِثِيُّ: لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَوْعُ تَحْصِيلٍ لِلْعِلْمِ فَهِيَ فِي مَعْنَى الدِّرَاسَةِ. وَيَخْرُجُ عَلَى ذَلِكَ تَعَلُّمُ الصِّبْيَانِ لِلْكِتَابَةِ فِيهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَحْصُلَ ضَرَرٌ بِحِبْرٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. مَطْلَبٌ: حُكْمُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ وَيُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ لَغَطٍ، وَكَثْرَةِ حَدِيثِ لَاغٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ بِمَكْرُوهٍ. وَظَاهِرُ هَذَا عَدَمُ الْكَرَاهَةِ إذَا كَانَ مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْغُنْيَةِ: يُكْرَهُ إلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ كَرَاهَةُ ذَلِكَ. قَالَ أَشْهَبُ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، قَالَ: لَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْت النَّاسَ قَدِيمًا يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَكُونُ بِمَجْلِسِهِ، وَمَنْ كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ كَانَ يُعْتَذَرُ مِنْهُ، وَأَنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَا أَرَى فِيهِ خَيْرًا، انْتَهَى. وَأَمَّا مَا اُشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: «إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الْحَدِيثُ فِي الْمَسْجِدِ» ، وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ الْمُبَاحَ «يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ الْبَهِيمَةُ الْحَشِيشَ» ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ «كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» فَهُوَ كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ. قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: لَمْ يُوجَدْ. وَذَكَرَهُ الْقَارِئُ فِي مَوْضُوعَاتِهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ: وَلَا بَأْسَ بِالْمُنَاظَرَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْمَسَائِلِ إذَا كَانَ الْقَصْدُ طَلَبَ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ مُغَالَبَةً وَمُنَافَرَةً دَخَلَ فِي خَبَرِ الْمِلَاحَةِ وَالْجِدَالِ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَسَاجِدِ. فَأَمَّا الْمِلَاحَةُ فِي غَيْرِ الْعُلُومِ فَلَا تَجُوزُ حَتَّى فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَخَرَجَ لِيُعْلِمَ النَّاسَ - فَتَلَاحَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ فَرُفِعَتْ» ، فَلَوْ كَانَ فِي الْمِلَاحَةِ خَيْرٌ لَمَا كَانَتْ سَبَبًا لِنِسْيَانِهَا. وَلِأَنَّ اللَّهَ صَانَ الْإِحْرَامَ عَنْ الْجِدَالِ فَقَالَ: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وَيُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ مِنْ بَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاتٍ وَنَحْوِهَا. وَإِنْ دَخَلَهُ اُسْتُحِبَّ إخْرَاجُهُ. وَمِثْلُهُ مَنْ بِهِ بَخْرٌ وَصُنَانٌ قَوِيٌّ. وَمِثْلُهُ إخْرَاجُ الرِّيحِ فِيهِ مِنْ دُبُرِهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْمَنْقُولِ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ رِيحٌ، وَهُوَ بِالْمَسْجِدِ يَتَلَقَّاهُ مَلَكٌ بِفَمِهِ، وَيَخْرُجُ بِهِ إلَى خَارِجِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا تَفَوَّهَ بِهِ مَاتَ الْمَلَكُ، فَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ لَمْ أَقِفْ لَهُ عَلَى أَصْلٍ يُسْنَدُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: حُكْمُ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَيُسَنُّ صَوْنُهُ عَنْ نَوْمٍ، وَعَنْهُ عَنْ نَوْمٍ كَثِيرٍ، وَعَنْهُ: إنْ اتَّخَذَهُ مَبِيتًا وَمَقِيلًا كُرِهَ مُطْلَقًا، وَإِلَّا فَلَا يُكْرَهُ مُطْلَقًا. كَذَا أَطْلَقُوا الْعِبَارَةَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذَا نَوْمُ الْمُعْتَكِفِ قَالَهُ فِي الْآدَابِ، وَاسْتَثْنَاهُ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ فِي الْغُنْيَةِ، وَاسْتَثْنَى الْغَرِيبَ أَيْضًا. وَذَكَرَ الشَّيْخُ ابْنُ عُمَرَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ الْأَذَانِ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُفَصِّلْ. وَقَالَ الْقَاضِي سَعْدُ الدِّينِ الْحَارِثِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَصْحَابِ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ لِلْمُعْتَكِفِ وَكَذَا مَا لَا يُسْتَدَامُ كَبَيْتُوتَةِ الضَّيْفِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَقَيْلُولَةِ الْمُجْتَازِ وَيَجُوزُ ذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ يَعْنِي الْإِمَامَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ وَاحِدٍ. وَمَا يُسْتَدَامُ مِنْ النَّوْمِ كَنَوْمِ الْمُقِيمِ بِهِ فَعَنْ أَحْمَدَ الْمَنْعُ، وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْجَوَازِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ. قَالَ: وَبِهَذَا أَقُولُ انْتَهَى. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ إنَّمَا يُرَخَّصُ فِي النَّوْمِ فِي الْمَسَاجِدِ لِذَوِي الْحَاجَةِ مِثْلُ مَا كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مُهَاجِرًا إلَى الْمَدِينَةِ لَيْسَ لَهُ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ فَيُقِيمُ بِالصُّفَّةِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ أَهْلٌ أَوْ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ، وَمِثْلُ الْمِسْكِينَةِ الَّتِي كَانَتْ تَأْوِي إلَى الْمَسْجِدِ وَكَانَتْ تَقُمْهُ، وَمِثْلَ مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ عَزَبٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ يَأْوِي إلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا تَقَاوَلَ هُوَ وَسَيِّدَتُنَا فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ فَنَامَ فِيهِ. قَالَ: فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ، وَبَيْنَ مَا يَصِيرُ عَادَةً وَيَكْثُرُ وَمَا يَكُونُ لِغَيْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَا يُتَّخَذُ الْمَسْجِدُ مَبِيتًا وَمَقِيلًا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْمَبِيتِ فِي الْمَسْجِدِ: إنْ كَانَ الْمَبِيتُ لِحَاجَةٍ كَالْغَرِيبِ الَّذِي لَا أَهْلَ لَهُ وَالْقَرِيبِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا بَيْتَ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَبِيتُ فِيهِ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ فَلَا بَأْسَ، وَأَمَّا مَنْ اتَّخَذَهُ مَبِيتًا وَمَقِيلًا فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: حُكْمُ إنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ وَيُسَنُّ صَوْنُهُ عَنْ إنْشَادِ شِعْرٍ مُحَرَّمٍ وَقَبِيحٍ وَغِنَاءٍ وَعَمَلِ سَمَاعٍ. رَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُنْشِدُ شِعْرًا فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: فَضَّ اللَّهُ فَاكَ قَالَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» قَالَ فِي الْغَنِيمَةِ: لَا بَأْسَ بِإِنْشَادِ شِعْرٍ خَالٍ مِنْ سُخْفٍ وَهِجَاءٍ لِلْمُسْلِمِينَ قَالَ: وَالْأَوْلَى صِيَانَتُهُ عَنْهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ الزُّهْدِيَّاتِ فَيَجُوزُ الْإِكْثَارُ؛ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ وُضِعَتْ لِذِكْرِ اللَّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُجَلَّ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ. قُلْت: وَمِثْلُ الزُّهْدِيَّاتِ بَلْ أَوْلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ هَجْوِ أَعْدَاءِ. اللَّهِ وَتَحْرِيضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْقِتَالِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُبَاحُ فِيهِ عَقْدُ النِّكَاحِ. قُلْت: بَلْ اسْتَحَبَّهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ انْتَهَى. وَالْقَضَاءُ وَاللِّعَانُ وَالْحُكْمُ وَإِنْشَادُ الشِّعْرِ الْمُبَاحِ. وَيُبَاحُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ. مَطْلَبٌ: حُكْمُ إنْشَادِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ وَيُصَانُ عَنْ إنْشَادِ ضَالَّةٍ وَنِشْدَانِهَا، وَيَقُولُ سَامِعُهُ: لَا وَجَدْتهَا وَلَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ. رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 تِجَارَتَك، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فَقُولُوا: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا أَنْشَدَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: مَنْ دَعَا إلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا وَجَدْت إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ» . وَيُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنْ تَعْلِيقِ مُصْحَفٍ وَغَيْرِهِ فِي قِبْلَتِهِ دُونَ وَضْعِهِ بِأَرْضِهِ. (قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُكْرَهُ أَنْ يُعَلَّقَ بِالْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وَلَمْ يُكْرَهْ أَنْ يُوضَعَ فِي الْمَسْجِدِ الْمُصْحَفُ. . مَطْلَبٌ: حُكْمُ زَخْرَفَةِ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَتَحْرِيمُ زَخْرَفَتِهِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَتَجِبُ إزَالَتُهُ أَيْ إنْ حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ بِعَرْضِهِ عَلَى النَّارِ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى يُكْرَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَلْ تَحْرُمُ تَحْلِيَةُ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتَجِبُ إزَالَتُهُ وَزَكَاتُهُ بِشَرْطِهَا أَوْ يُكْرَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ فِي الرِّعَايَةِ. قُلْت: وَهُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا مَرَّ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا بَأْسَ بِتَحْلِيَةِ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهُ لِذَلِكَ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُكْرَهُ وَيُصَانُ عَنْهُ. وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ. ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى. قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ ذَهَّبَ الْكَعْبَةَ وَزَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا بَعَثَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَيْسَرِيَّ إلَى مَكَّةَ. وَتُكْرَهُ زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ بِنَقْشٍ وَصَبْغٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلَاتِهِ غَالِبًا. وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ حَرُمَ وَوَجَبَ الضَّمَانُ. وَفِي الْغُنْيَةِ لَا بَأْسَ بِتَجْصِيصِهِ انْتَهَى. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: أَيْ: يُبَاحُ تَجْصِيصُ حِيطَانِهِ وَهُوَ تَبْيِيضُهَا بِهِ، وَصَحَّحَهُ الْحَارِثِيُّ وَلَمْ يَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَالَ هُوَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْمَسَاجِدِ. (النَّوْعُ الثَّالِثُ) : فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْمَسَاجِدِ. فَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ أَنْ يَلْبَثَ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا وُضُوءٍ وَلَا تَيَمُّمٍ بِلَا حَاجَةٍ، فَإِنْ تَوَضَّأَ جَازَ لَهُ اللُّبْثُ، وَلَوْ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ حَتَّى قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فِي الْمُعْتَمَدِ. وَيُمْنَعُ نَجِسُ الْبَدَنِ مِنْ اللُّبْثِ فِيهِ. وَيُمْنَعُ مِنْ اخْتِلَاطِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَإِيذَاءِ الْمُصَلِّينَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَيُمْنَعُ السَّكْرَانُ مِنْ دُخُولِهِ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ: أَنَا أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ جُمُوعِ أَهْلِ زَمَانِنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ لَيَالِي يُسَمُّونَهَا إحْيَاءً، لَعَمْرِي إنَّهَا لِإِحْيَاءِ أَهْوَائِهِمْ. وَإِيقَادِ شَهَوَاتِهِمْ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَهَذَا فِي زَمَانِهِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. قَالَ وَمَا يَجْرِي بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَوَاسِمِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ فِي زَمَانِنَا أَضْعَافُ مَا كَانَ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. قُلْت: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ فِي زَمَانِهِ، وَهُوَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَمَا بَالُك بِعَصْرِنَا هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةَ عَشَرَ، وَقَدْ انْطَمَسَتْ مَعَالِمُ الدِّينِ، وَطُفِّئَتْ إلَّا مِنْ بَقَايَا حَفَظَةِ الدِّينِ، فَصَارَتْ السُّنَّةُ بِدْعَةً، وَالْبِدْعَةُ شِرْعَةً، وَالْعِبَادَةُ عَادَةً وَالْعَادَةُ عِبَادَةً. فَعَالِمُهُمْ عَاكِفٌ عَلَى شَهَوَاتِهِ، وَحَاكِمُهُمْ مُتَمَادٍ فِي غَفَلَاتِهِ، وَأَمِيرُهُمْ لَا حُلْمَ لَدَيْهِ، وَلَا دِينَ، وَغَنِيُّهُمْ لَا رَأْفَةَ عِنْدَهُ، وَلَا رَحْمَةَ لِلْمَسَاكِينِ، وَفَقِيرُهُمْ مُتَكَبِّرٌ، وَغَنِيُّهُمْ مُتَجَبِّرٌ. مَطْلَبٌ: مُتَصَوِّفَةُ زَمَانِنَا وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ. فَلَوْ رَأَيْت جُمُوعَ صُوفِيَّةِ زَمَانِنَا، وَقَدْ أَوْقَدُوا النِّيرَانَ، وَأَحْضَرُوا آلَاتِ الْمَعَازِفِ بِالدُّفُوفِ الْمُجَلْجِلَةِ، وَالطُّبُولِ وَالنَّايَاتِ وَالشَّبَابِ، وَقَامُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ يَرْقُصُونَ وَيَتَمَايَلُونَ، لَقَضَيْت بِأَنَّهُمْ فِرْقَةٌ مِنْ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ السَّامِرِيِّ وَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ عِجْلِهِمْ يَعْكُفُونَ. أَوْ حَضَرْت مَجْمَعًا وَقَدْ حَضَرَهُ الْعُلَمَاءُ بِعَمَائِمِهِمْ الْكِبَارِ وَالْفِرَاءِ الْمُثَمَّنَةِ، وَالْهَيْئَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَقَدَّمُوا قَصَّابَ الدُّخَانِ، الَّتِي هِيَ لِجَامَاتُ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ ابْتَدَرَ ذُو نَغْمَةٍ يَنْشُدُ مِنْ الْأَشْعَارِ الْمُهَيِّجَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 فَوَصَفَ الْخُدُودَ وَالنُّهُودَ وَالْقُدُودَ، وَقَدْ أَرْخَى الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ وَنَكَّسُوهَا، وَاسْتَمَعُوا لِلنَّغْمَةِ وَاسْتَأْنَسُوهَا، لَقُلْت وَهُمْ لِذَلِكَ مُطْرِقُونَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكُلُّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِطَائِفَةٍ زَعَمَتْ الْعِرْفَانَ يَهُونُ. فَإِنَّهُمْ مَعَ انْكِبَابِهِمْ عَلَى الشَّهَوَاتِ، وَارْتِكَابِهِمْ الْمَعَاصِيَ وَانْتِحَالِهِمْ الشُّبُهَاتِ، يَزْعُمُونَ الِاتِّحَادَ وَالْحُلُولَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ الطَّائِفَةُ النَّاجِيَةُ، وَأَنَّهُمْ هُمْ الْأَئِمَّةُ وَالْفُحُولُ. وَلَقَدْ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَا يَأْتِي عَامٌ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ سَمِعْته مِنْ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ أَشْيَاءَ يَحْرُمُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَتُمْنَعُ مِنْهُ حَائِضٌ وَنُفَسَاءُ مُطْلَقًا. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ صَوْنُهُ عَنْ جُلُوسِهِمَا فِيهِ. وَأَمَّا الْمُرُورُ فِيهِ فَيُسَنُّ صَوْنُهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يُجْعَلَ طَرِيقًا إلَّا لِحَاجَةٍ. قَالَ: وَكَوْنُهُ طَرِيقًا قَرِيبًا حَاجَةٌ. وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ بِلَا وُضُوءٍ. وَيَحْرُمُ الْجِمَاعُ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: يُكْرَهُ الْجِمَاعُ فَوْقَهُ وَالتَّمَسُّحُ بِحَائِطِهِ، وَالْبَوْلُ عَلَيْهِ. وَجَوَّزَ فِي الرِّعَايَةِ الْوَطْءَ فِيهِ وَعَلَى سَطْحِهِ. وَالْمَذْهَبُ حُرْمَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ هَوَاءُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ، مِثْلُ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا فَوْقَ بَيْتٍ ثُمَّ يَجْعَلَ السُّفْلَ مِنْهُمَا مَسْجِدًا دُونَ الْأَعْلَى، فَهَذَا لَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ السَّطْحُ تَابِعًا لِلْمَسْجِدِ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُمْنَعُ مِنْ الْبَوْلِ فِيهِ، وَلَوْ فِي إنَاءٍ، وَالْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَإِنْ بَالَ خَارِجَهُ وَجَسَدُهُ فِيهِ دُونَ ذَكَرِهِ كُرِهَ. وَمَفْهُومُهُ: إذَا كَانَ ذَكَرُهُ فِي الْمَسْجِدِ حَرُمَ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ. وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ عَنْ رَجُلٍ مُجَاوِرٍ فِي مَسْجِدٍ، وَلَيْسَ بِهِ ضَرَرٌ، وَالسِّقَايَةُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَبُولَ فِي وِعَاءٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ أَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبُولَ فِي وِعَاءٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 وَسُئِلَ إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ بِرْكَةٌ يُغْلَقُ عَلَيْهَا بَابُ الْمَسْجِدِ لَكِنْ يَمْشِي حَوْلَهَا دُونَ أَنْ يُصَلِّيَ حَوْلَهَا، هَلْ يَحْرُمُ الْبَوْلُ عِنْدَهَا؟ أَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا يُشْبِهُ الْبَوْلَ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْقَارُورَةِ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ نَهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الْمَسْجِدِ كَقَرَارِهِ فِي الْحُرْمَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَخِّصُ لِلْحَاجَةِ. قَالَ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا إذَا فُعِلَ لِلْحَاجَةِ فَقَرِيبٌ، وَأَمَّا اتِّخَاذُ ذَلِكَ مَبَالًا وَمُسْتَنْجًى فَلَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا فَصَّلَ تَفْصِيلًا حَسَنًا وَهُوَ مُرَادُهُمْ أَنَّ نَحْوَ الْبِرْكَةِ إنْ جُعِلَ حَوْلَهَا بَالُوعَةٌ وَمِثْلُ الْمَطْهَرَةِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ كَانَ وَضْعُهَا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَسْجِدِ أَوْ مُسَاوِيًا فِي الْوَضْعِ أُبِيحَ فِي الْمَطْهَرَةِ، وَمَا أُعِدَّ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ حَدَثَ ذَلِكَ بَعْدَ وَضْعِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ مَسْجِدٌ، وَلَهُ حُكْمُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ لِلنَّاسِ اسْتِعْمَالُ حُصُرِ الْمَسْجِدِ وَقَنَادِيلِهِ فِي أَغْرَاضِهِمْ كَالْأَعْرَاسِ وَالْأَعْزِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. مَطْلَبٌ: حُكْمُ دُخُولِ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ وَلَيْسَ لِكَافِرٍ دُخُولُ مَسَاجِدِ الْحِلِّ، وَلَوْ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ. وَيَجُوزُ دُخُولُهَا لِلذِّمِّيِّ إذَا اُسْتُؤْجِرَ لِعِمَارَتِهَا. هَذَا الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى فِي جَوَازِ دُخُولِ الْكَافِرِ مَسَاجِدَ الْحِلِّ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ لِمَصْلَحَةٍ رِوَايَتَانِ. قَالَ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: وَالْمَنْعُ مُطْلَقًا أَظْهَرُ، فَإِنْ جَازَ فَفِي جَوَازِ جُلُوسِهِ فِيهِ جُنُبًا وَجْهَانِ. وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا رِوَايَةَ الْجِوَارِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ إذْنٍ. وَقَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: هَلْ يَجُوزُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ دُخُولُ مَسَاجِدِ الْحِلِّ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَذُكِرَ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ دُخُولُهَا بِإِذْنِ مُسْلِمٍ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنْ الْمَذْهَبِ الْجَوَازُ. فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِكَافِرٍ دُخُولُ مَسَاجِدِ الْحِلِّ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ. ثُمَّ هَلْ الْخِلَافُ فِي كُلِّ كَافِرٍ أَمْ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَطْ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. وَهَلْ مَحَلُّ الْخِلَافِ مَعَ إذْنِ الْمُسْلِمِ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ لَا يُعْتَبَرَانِ، أَوْ يُعْتَبَرُ إذْنُ الْمُسْلِمِ فَقَطْ؟ فِيهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 جَوَازُ دُخُولِهِ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْكِتَابِيِّ دُونَ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ لِكَافِرٍ دُخُولُ حَرَمِ مَكَّةَ وَلَا حَرَمِ الْمَدِينَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ مَطْلَبٌ: حُكْمُ غَرْسِ الشَّجَرِ فِي الْمَسْجِدِ. (الرَّابِعُ) : جَزَمَ عُلَمَاؤُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِعَدَمِ جَوَازِ غَرْسِ شَيْءٍ فِي الْمَسْجِدِ. قَالُوا: وَيُقْلَعُ مَا غُرِسَ فِيهِ، وَلَوْ بَعْدَ إيقَافِهِ. وَكَذَا حَفْرُ بِئْرٍ. قَالَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْرَسَ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ. وَلِلْإِمَامِ قَلْعُ مَا غُرِسَ فِيهِ بَعْدَ إيقَافِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ الْفَرْحِ بْنِ الصَّبَّاحِ. وَقَطَعَ فِي التَّلْخِيصِ بِأَنَّهَا تُقْطَعُ كَمَا لَوْ غُرِسَتْ فِي أَرْضِ غَصْبٍ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ فِي الْمُحَرَّرِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الْفَرَجِ فِي الْمُبْهِجِ أَنَّهُ يُكْرَهُ غَرْسُهَا. وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ الْفَرْحِ بْنِ الصَّبَّاحِ: هَذِهِ غُرِسَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاَلَّذِي غَرَسَهَا ظَالِمٌ غَرَسَهَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ. وَسَأَلَهُ مُثَنَّى عَنْ هَذَا. قَالَ مُثَنَّى فَلَمْ يُعْجِبْهُ. وَفِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ الزَّرْعِ فِيهِ، وَالْغَرْسِ وَأَكْلِ ثَمَرِهِ مَجَّانًا فِي الْأَشْهَرِ. وَفِي الْإِنْصَافِ: وَلَا يَجُوزُ غَرْسُ شَجَرَةٍ فِي الْمَسْجِدِ. هَذَا الْمَذْهَبُ. نَصَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَقَطَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالْمُذْهَبِ وَمَسْبُوكِ الذَّهَبِ وَالْخُلَاصَةِ وَالْمُغْنِي وَالشَّرْحِ وَالْفَائِقِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدَّمَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالْفُرُوعِ وَالرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَغَيْرِهِمْ. وَذَكَرَ فِي الْإِرْشَادِ وَالْمُبْهِجِ أَنَّهُ يُكْرَهُ. وَفِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى إنْ غُرِسَتْ بَعْدَ وَقْفِهِ قُلِعَتْ إنْ ضَيَّقَتْ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ. وَفِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى: وَيَحْرُمُ غَرْسُهَا مُطْلَقًا. وَقِيلَ: إنْ ضَيَّقَتْ حَرُمَ وَإِلَّا كُرِهَ. وَجَزَمَ الشَّيْخُ مَرْعِي فِي غَايَتِهِ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ لَا تَكُونَ بِبُقَعِ مُصَلِّينَ مَطْلَبٌ: حُكْمُ أَكْلِ تَمْرِ شَجَرِ الْمَسْجِدِ وَفِي الْفُرُوعِ وَالْإِنْصَافِ وَالْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهَا: فَإِنْ لَمْ تُقْلَعْ فَثَمَرَتُهَا لِمَسَاكِينِ الْمَسْجِدِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: قَالَ الْحَارِثِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ. قَالَ: وَالْأَقْرَبُ حِلُّهُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمَسَاكِينِ أَيْضًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا أُحِبُّ الْأَكْلَ مِنْهَا، وَإِنْ غُرِسَتْ قَبْلَ بِنَائِهِ وَوُقِفَتْ مَعَهُ، فَإِنْ عَيَّنَ مَصْرِفَهَا عُمِلَ بِهِ، وَإِلَّا فَكَمُقَطَّعٍ يَعْنِي تُصْرَفُ عَلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ نَسَبًا غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ وَقْفًا عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمْ فَيَسْتَحِقُّونَهُ كَالْمِيرَاثِ وَيَقَعُ الْحُجُبُ بَيْنَهُمْ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ فَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَقْفًا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْمُوَفَّقُ: يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا، وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ. وَقَدَّمَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ الصُّغْرَى. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ: تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَلِجَارِهِ أَكْلُ ثَمَرِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْفَائِقِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ أَنَّهَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ مَصْرِفَهَا كَالْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ. جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَالْغَايَةِ. مَطْلَبٌ: حُكْمُ حَفْرِ الْبِئْرِ فِي الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ حَفْرِ الْبِئْرِ فَجَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى بِعَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ. قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَلَوْ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلصَّلَاةِ فَتَعْطِيلُهَا عُدْوَانٌ. وَفِي الْإِقْنَاعِ يُتَوَجَّهُ جَوَازُ حَفْرِ بِئْرٍ إنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَلَمْ يَحْصُلُ بِهِ ضِيقٌ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْغَايَةِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَحْرُمُ حَفْرُ بِئْرٍ فِيهِ، وَلَا تَغَطَّى بِالْمُغْتَسَلِ؛ لِأَنَّهُ لِلْمَوْتَى وَتُطَمُّ. نَقَلَ ذَلِكَ الْمَرُّوذِيُّ. وَفِي الرِّعَايَةِ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْ حَفْرَهَا فِيهِ يَعْنِي الْمَسْجِدَ ثُمَّ قَالَ: قُلْت بَلَى إنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ فِيهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ فِي الْفُرُوعِ. وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: يَحْرُمُ حَفْرُ بِئْرٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنْ فُعِلَ طُمَّ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ. ثُمَّ نَقَلَ كَلَامَ الْفُرُوعِ بِالْحَرْفِ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْحَارِثِيُّ فِي الْغَصْبِ: وَإِنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 مَا تَلِفَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ إذْ الْبُقْعَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلصَّلَاةِ فَتَعْطِيلُهَا عُدْوَانٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَالْحَفْرِ فِي السَّابِلَةِ لِاشْتِرَاكِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَالْحَفْرُ فِي إحْدَاهُمَا كَالْحَفْرِ فِي الْأُخْرَى، فَيَجْرِي فِيهِ رِوَايَةُ ابْنِ ثَوَابٍ بِعَدَمِ الضَّمَانِ. انْتَهَى. فَهَذَا تَحْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْمُخْتَارُ مِنْ هَذَا الْمَنْقُولِ مَا اعْتَمَدَهُ الشَّيْخُ مَرْعِي فِي غَايَتِهِ مِنْ جَوَازِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَغَرْسِ الشَّجَرَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ حَيْثُ كَانَتَا فِي غَيْرِ بُقَعِ الْمُصَلِّينَ. وَهَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - عَيْنُ الْيَقِينِ، فَإِنَّ مَسَاجِدَ بِلَادِنَا لَا تَتِمُّ مَصَالِحُهَا بِهَا لَا سِيَّمَا حَفْرُ الْآبَارِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْبِئْرِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهِ وَأَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي سَائِرِ بِلَادِنَا وَغَيْرِهَا فِي زَمَانِنَا، وَمُنْذُ أَزْمَانٍ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي تَجْدِيدِ الْآبَارِ، وَأَمَّا مَا كَانَ سَابِقًا فَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الشَّجَرَةِ، وَإِنْ جُهِلَ الْحَالُ فَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّجْدِيدِ، وَوَضْعُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَثْبُتَ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَضْعُهَا عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: تَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ. (الْخَامِسُ) : فِي أَشْيَاءَ تُكْرَهُ فِي الْمَسَاجِدِ: يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْنُدَ ظَهْرَهُ إلَى الْقِبْلَةِ، بَلْ السُّنَّةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِي جُلُوسِهِ. وَأَنْ يُشَبِّكَ أَصَابِعَهُ فِيهِ. زَادَ فِي الرِّعَايَةِ: عَلَى خِلَافِ صِفَةِ مَا شَبَّكَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كَذَا فِي الْإِقْنَاعِ. وَأَشَارَ فِي الرِّعَايَةِ إلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى دَالٌّ عَلَى جَوَازِ التَّشْبِيكِ مُطْلَقًا. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ فِي غَيْرِهِ أَجْوَزُ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ قَبْلَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثٌ آخَرُ وَنَصُّهُ: حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ حَدَّثَنَا وَاقِدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «شَبَّكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصَابِعَهُ» قَالَ مُغَلْطَاي: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ عَنْ الْبُخَارِيِّ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ مُعَارَضَةُ مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّشْبِيكِ فِي الْمَسْجِدِ. وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ مَرَاسِيلُ وَمُسْنَدٌ مِنْ طُرُقٍ غَيْرِ ثَابِتَةٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ تَعَارُضٌ؛ إذْ الْمُنْهَى عَنْهُ فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ الْعَبَثِ. وَجَمَعَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِأَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَاصِدًا إلَيْهَا إذْ مُنْتَظِرُ الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي. وَقِيلَ: إنَّ حِكْمَةَ النَّهْيِ عَنْهُ لِمُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ أَنَّ التَّشْبِيكَ يَجْلُبُ النَّوْمَ، وَهُوَ مِنْ مَظَانِّ الْحَدَثِ. وَقِيلَ إنَّ صُورَتَهُ تُشْبِهُ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ فَكُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الْمُنْهَى عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُصَلِّينَ «وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا» زَادَ الْبَيْهَقِيّ «وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ» . وَقَدْ شَبَّكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ يَدَيْهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ إيرَادِهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَجَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مِنْ حَيْثُ يَخْرُجُ يَعْنِي لِلصَّلَاةِ. قَالَ: وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَفِي الصَّلَاةِ أَشَدُّ وَأَشَدُّ. انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 وَنَقَلَ فِي الْفُرُوعِ كَرَاهَةَ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا قَدْ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَفَرَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مُشَبِّكٌ " تِلْكَ صَلَاةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ مُغَلْطَاي فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ تَكَلُّمِهِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ فِي التَّشْبِيكِ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ مُعَارِضَةٌ النَّهْيَ عَنْ التَّشْبِيكِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ لَيْسَ مُسَاوِيًا لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الصِّحَّةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: حَدِيثُ النَّهْيِ مَخْصُوصٌ بِالصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُمْ لَيُنْكِرُونَ تَشْبِيكَ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَا بِهِ مِنْ بَأْسٍ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ فِي كِتَابِهِ حُسْنِ التَّسْلِيكِ فِي حُكْمِ التَّشْبِيكِ: رَخَّصَ فِي التَّشْبِيكِ ابْنُ عُمَرَ وَسَالِمٌ ابْنُهُ فَكَانَا يُشَبِّكَانِ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا فِي الصَّلَاةِ. قَالَ مُغَلْطَاي: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ التَّشْبِيكِ وَبَيْنَ تَشْبِيكِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَصَابِعِهِ مُعَارَضَةٌ، لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا وَرَدَ عَنْ فِعْلِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْمُضِيِّ إلَيْهَا، وَفِعْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلتَّشْبِيكِ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ، وَلَا فِي الْمُضِيِّ إلَيْهَا فَلَا مُعَارَضَةَ إذَنْ وَبَقِيَ كُلُّ حَدِيثٍ عَلَى حِيَالِهِ. انْتَهَى. قَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي آخِرِ كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ: قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ: يَجُوزُ التَّشْبِيكُ بَيْنَ الْأَصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ، فَفِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَالِمٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ. وَحَكَى كَرَاهَتَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَكَعْبٍ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ إنَّمَا هِيَ لِمَنْ هُوَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 مَطْلَبٌ: تَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ أَقْسَامٌ. قَالَ: وَقَسَّمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ التَّشْبِيكَ إلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا شَكَّ فِي كَرَاهَتِهِ. وَثَانِيهَا: إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مُنْتَظِرَ الصَّلَاةَ، أَوْ وَهُوَ عَامِدٌ إلَى الْمَسْجِدِ يُرِيدُهَا بَعْدَمَا تَطَهَّرَ، وَالظَّاهِرُ كَرَاهَتُهُ. قُلْت: لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ «عَنْ مَوْلًى لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ بَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَبِي سَعِيدٍ، وَهُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَسَطَ الْمَسْجِدِ مُحْتَبِيًا مُشَبِّكًا أَصَابِعَهُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ فَأَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَفْطِنْ الرَّجُلُ لِإِشَارَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالْتَفَتَ إلَى أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ» . وَلِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بِيَدِهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ يُرِيدُ صَلَاةً أُخْرَى، وَلَا يَنْتَظِرُهَا فَلَا يُكْرَهُ لِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ. رَابِعُهَا: فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ وَعَدَمِ الْكَرَاهَةِ. انْتَهَى. قُلْت: وَكَأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الرِّعَايَةِ إخْرَاجُ مَا إذَا شَبَّكَهَا عَقِبَ الصَّلَاةِ - وَلَيْسَ مُنْتَظِرًا لِصَلَاةٍ أُخْرَى - مِنْ الْكَرَاهَةِ بِقَوْلِهِ عَلَى خِلَافِ مَا شَبَّكَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُرَادٌ حَسَنٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . مَطْلَبٌ: فِي أَشْيَاءَ تُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُكْرَهُ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ وَتَطْيِينُهُ بِنَجِسٍ، وَكَذَا قَالَ. وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ إمَامٍ مُدَاوَمَةُ مَوْضِعٍ مِنْهُ لَا يُصَلِّي إلَّا فِيهِ، فَإِنْ دَاوَمَ فَلَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا قَامَ مِنْهُ فَلِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 قُلْت: وَفِي إطْلَاقِ هَذَا نَظَرٌ يَظْهَرُ لِمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ. وَأَمَّا السِّوَاكُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ وَذَكَرَهُ فِي الْإِقْنَاعِ: مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ كَرِهَ السِّوَاكَ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَسْتَاكُونَ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ: وَإِذَا سَرَّحَ شَعْرَهُ فِيهِ، وَجَمَعَهُ فَلَمْ يَتْرُكْهُ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِطَهَارَةِ الشَّعْرِ أَوْ نَجَاسَتِهِ. وَأَمَّا إذَا تَرَكَ شَعْرَهُ فِيهِ فَهَذَا يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا، فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُصَانُ عَنْ الْقَذَاةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْعَيْنِ. وَقَالَ فِي الْآدَابِ: يُبَاحُ قَتْلُ الْبَرَاغِيثِ وَالْقَمْلِ فِيهِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى طَهَارَتِهَا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ إلْقَاءَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَبَقَاءَهُ لَا يَجُوزُ. انْتَهَى وَتَقَدَّمَ فِي هَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْبَرَاغِيثِ وَالْقَمْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . وَيُكْرَهُ فِي الْمَسَاجِدِ الْخَوْضُ وَالْفُضُولُ وَحَدِيثُ الدُّنْيَا، لِمَا رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «سَيَكُونُ آخِرَ الزَّمَانِ قَوْمٌ حَدِيثُهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَاجَةٌ» وَإِخْرَاجُ حَصَاهَا وَتُرَابِهَا لِلتَّبَرُّكِ بِهِ. وَاسْتَوْجَهَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِكَرَاهَةِ إخْرَاجِ الْحَصَى وَالتُّرَابِ التَّحْرِيمُ، أَوْ يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِالْيَسِيرِ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَبُو بَدْرٍ: أَرَاهُ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْحَصَاةَ تُنَاشِدُ الَّذِي يُخْرِجُهَا مِنْ الْمَسْجِدِ» . وَقَدْ سُئِلَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَفْعُهُ وَهْمٌ مِنْ أَبِي بَدْرٍ، كَذَا قَالَ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَإِذَا دَخَلَ الْإِنْسَانُ الْمَسْجِدَ وَقْتَ السَّحَرِ فَلَا يَتَقَدَّمُ إلَى صَدْرِهِ. قَالَ جَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ: كُنَّا نَسْمَعُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكُونُ قَبْلَ الصُّبْحِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ التَّقَدُّمِ فِي الْمَسْجِدِ وَقْتَ السَّحَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ السُّؤَالُ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّصَدُّقُ عَلَى السَّائِلِ فِيهِ. (السَّادِسُ) : قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يُكْرَهُ السُّؤَالُ فِي الْمَسْجِدِ وَالتَّصَدُّقُ عَلَى السَّائِلِ فِيهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ. وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَنْ سَأَلَ قَبْلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ جَلَسَ لَهَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ، يَعْنِي لَمْ تُكْرَهُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إنْ تُصُدِّقَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْ أَوْ سَأَلَ الْخَاطِبُ الصَّدَقَةَ عَلَى إنْسَانٍ جَازَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَدْرٍ: صَلَّيْت يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَحْمَدُ يَقْرَبُ مِنِّي، فَقَامَ سَائِلٌ فَسَأَلَ فَأَعْطَاهُ أَحْمَدُ قِطْعَةً، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: أَعْطِنِي الْقِطْعَةَ وَأُعْطِيك دِرْهَمًا، فَأَبَى، فَمَا زَالَ يَزِيدُهُ إلَى خَمْسِينَ، فَقَالَ: لَا إنِّي أَرْجُو مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الْقِطْعَةِ مَا تَرْجُوهُ أَنْتَ. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ الْحَنَفِيِّ: لَا يَحِلُّ أَنْ يُعْطَى سُؤَّالُ الْمَسَاجِدِ. وَقَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ: لَوْ كُنْت قَاضِيًا لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَةَ مَنْ تَصَدَّقَ يَعْنِي فِي الْمَسَاجِدِ. وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنْهُمْ أَنَّهُ إنْ سَأَلَ لِأَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا ضَرَرَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِلَّا كُرِهَ. وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ السُّؤَالِ فِي الْجَامِعِ هَلْ هُوَ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ أَنَّ تَرْكَهُ أَحَبُّ مِنْ فِعْلِهِ؟ أَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَصْلُ السُّؤَالِ مُحَرَّمٌ فِي الْمَسْجِدِ وَخَارِجَ الْمَسْجِدِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، فَإِنْ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ، وَسَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا كَتَخْطِيَةِ رِقَابِ النَّاسِ، وَلَمْ يَكْذِبْ فِيمَا يَرْوِيهِ وَيَذْكُرُ مِنْ حَالِهِ، وَلَمْ يَجْهَرْ جَهْرًا يَضُرُّ النَّاسَ، مِثْلُ أَنْ يَسْأَلَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ، أَوْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ عِلْمًا يَشْغَلُهُمْ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، جَازَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسُئِلَ أَيْضًا: مَا تَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ الصَّعَالِيكِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مِنْ النَّاسِ فِي الْجَوَامِعِ وَيُشَوِّشُونَ عَلَى النَّاسِ، فَهَلْ يَجُوزُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَهَلْ يَجُوزُ تَقْسِيمُ النَّاسِ بِالسِّتِّ نَفِيسَةَ وَبِالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ؟ أَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا لَفْظُهُ: أَمَّا إذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ مِثْلُ رِوَايَتِهِمْ لِلْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ أَوْ سُؤَالِهِمْ، وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ. أَوْ تَخْبِيطِهِمْ لِلنَّاسِ فَإِنَّهُمْ يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا سَأَلُوا بِغَيْرِ اللَّهِ، سَوَاءٌ سَأَلُوا بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ أَوْ نَفِيسَةَ، فَالصَّدَقَةُ إنَّمَا لِوَجْهِ اللَّهِ لَا لِأَحَدٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 مِنْ الْمَخْلُوقِينَ. وَأَمَّا إذَا خَلَا سُؤَالُهُمْ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ وَكَانُوا مُحْتَاجِينَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، كَمَا جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَرَ بِإِعْطَائِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى. . مَطْلَبٌ: فِي فَضْلِ الْمَشْيِ إلَى الْمَسَاجِدِ. (السَّابِعُ) : فِي الْمَشْيِ إلَى الْمَسَاجِدِ وَالِاشْتِغَالِ فِيهَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِ ذَلِكَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، وَلَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ» . وَفِي رِوَايَةٍ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَاحَ إلَى مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ فَخُطْوَةٌ تَمْحُو سَيِّئَةً وَخُطْوَةٌ تُكْتَبُ حَسَنَةً ذَاهِبًا وَرَاجِعًا» وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «خَلَتْ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ فَأَرَادَ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ، قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، فَقَالُوا: مَا يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا» وَرَوَاهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ بِمَعْنَاهُ وَفِي آخِرِهِ «إنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْأَبْعَدُ فَالْأَبْعَدُ مِنْ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ أَجْرًا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَدَنِيُّ الْإِسْنَادِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ إلَيْهَا مَمْشًى، فَأَبْعَدُهُمْ، وَاَلَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي يُصَلِّيهَا ثُمَّ يَنَامُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكَارِهِ، وَأَعْمَالُ الْأَقْدَامِ إلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ يَغْسِلُ الْخَطَايَا غَسْلًا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْهُ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ لَيُضِيءُ لِلَّذِينَ يَتَخَلَّلُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ بِنُورٍ سَاطِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «مَنْ مَشَى فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ إلَى الْمَسْجِدِ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِنُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «بَشِّرْ الْمُدْلِجِينَ إلَى الْمَسَاجِدِ فِي الظُّلَمِ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ» . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَهُوَ زَائِرُ اللَّهِ وَحَقٌّ عَلَى الْمَزُورِ أَنْ يُكْرِمَ الزَّائِرَ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَرَجُلٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» . فَإِذَا دَخَلَ الْإِنْسَانُ الْمَسْجِدَ وَقَالَ مَا ذَكَرْنَا لَهُ أَوَّلًا فَيُسْتَحَبُّ لَهُ حِينَئِذٍ الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَذْكَارِ. وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَمِنْ الْمُسْتَحَبِّ فِيهِ قِرَاءَةُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ} [النور: 37] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] ، وَقَالَ {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] . وَمِمَّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ الِاعْتِكَافَ مَا دَامَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ أَصْحَابُنَا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ صَائِمًا. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ وَمَعْنَاهُ فِي الْغُنْيَةِ. قُلْت: وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ، إلَّا أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَصْحَابِنَا اعْتِبَارُ اللُّبْثِ وَهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوهُ، فَيَنْوِي الْمَارُّ كَمَا فِي الْأَذْكَارِ لِلْإِمَامِ النَّوَوِيِّ. وَلَمْ يَرَ " شَيْخُ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . مَطْلَبٌ: فِيمَنْ أَحْدَثَ مَقَاصِيرَ فِي الْمَسَاجِدِ. الثَّامِنُ: رُفِعَ لِشَيْخِ الْإِسْلَام ابْنِ تَيْمِيَّةَ سُؤَالٌ فِيمَنْ أَحْدَثَ مَقَاصِيرَ فِي الْمَسَاجِدِ وَيُخَصَّصُ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ جَعَلَهَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَهَلْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُهُ؟ . أَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَكَانٍ مِنْ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَمْنَعُهُ غَيْرَهُ فِي أَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَّخِذُ مَقْصُورَةً فِي الْمَسْجِدِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ وَيَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ دُخُولِهِ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ بِلَا نِزَاعٍ، بَلْ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَى عَنْ تَوَطُّنِ الْمَكَانِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطَّنُ الْبَعِيرُ» . قَالَ وَلِهَذَا نَهَى الْعُلَمَاءُ عَنْ أَنْ يَتَّخِذُ الرَّجُلُ مَكَانًا مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي إلَّا فِيهِ، وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ الِاخْتِصَاصِ الْمُنْهَى عَنْهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ، مِثْلُ كَوْنِ الرَّجُلِ إذَا رَأَى غَيْرَهُ سَبَقَهُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا أَبْغَضَهُ أَوْ سَبَّهُ أَوْ عَادَاهُ. وَالسُّنَّةُ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إلَى بُقْعَةٍ مِنْهُ لِعَمَلٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 جَائِزٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى يَقُومَ. وَالسُّنَّةُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يُسَدَّ الصَّفُّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا، قَالَ يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» فَمَنْ سَبَقَ إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ فِي الصَّلَاةِ. وَلَوْ سَبَقَ إلَى سَارِيَةٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُصَلِّي يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى السَّارِيَةِ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا عِنْدَ الِازْدِحَامِ. وَلَوْ أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ أَحَقُّ بِمُعْتَكَفِهِ مَا دَامَ مُعْتَكِفًا، فَإِنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ مُخْتَصٌّ بِالْمَسْجِدِ. وَلَوْ احْتَاجَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي اعْتِكَافِهِ مَا يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ مِثْلَ الْحُجْرَةِ الَّذِي احْتَجَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَانَ يَعْتَكِفُ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا، بَلْ كَانَ السَّلَفُ يَنْصِبُونَ الْخِيَامَ فِي الْمَسَاجِدِ مُدَّةَ الِاعْتِكَافِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَهَذَا مَشْرُوعٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِدِ مُدَّةَ إقَامَةٍ مَشْرُوعَةٍ، كَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَفْدِ ثَقِيفٍ أَنْ يَنْزِلُوا بِالْمَسْجِدِ لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ وَأَقْرَبَ إلَى دُخُولِ الْإِيمَانِ فِيهَا، وَكَمَا مَرِضَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَسْجِدِ لِيَكُونَ أَسْهَلَ لِعِيَادَتِهِ وَكَالْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِيهِ، أَيْ وَالْحِفْشُ - كَمَا فِي الْمَطَالِعِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ - الدَّرَجُ وَجَمْعُهُ حِفَاشٌ. وَفِي الْحَدِيثِ «هَلَّا جَلَسَ فِي حِفْشِ أُمِّهِ أَيْ بَيْتِهَا» . شَبَّهَ بَيْتَ أُمِّهِ فِي صِغَرِهِ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُوَ الْبَيْتُ الْقَرِيبُ السَّمْكِ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُوَ الصَّغِيرُ الْخَرِبُ. وَقِيلَ: الْحِفْشُ شَبَهُ الْقُبَّةِ، تَجْمَعُ فِيهِ الْمَرْأَةُ غَزْلَهَا وَسَقَطَهَا، كَالدَّرَجِ يُصْنَعُ مِنْ الْخُوصِ يُشَبَّهُ بِهِ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الْحَقِيرُ. انْتَهَى. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَإِذَا احْتَاجَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ إلَى سُتْرَةٍ كَخَيْمَةِ سَعْدٍ وَحِفْشِ الْمَرْأَةِ كَانَ جَائِزًا. فَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ الْمَسْجِدَ مَسْكَنًا دَائِمًا وَيَتَّخِذَهُ مَبِيتًا وَمَقِيلًا وَيَخْتَصَّ بِالْحُجْرَةِ اخْتِصَاصَ أَهْلِ الدُّورِ بِدُورِهِمْ دَائِمًا فَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ إخْرَاجِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ عَنْ حُكْمِ الْمَسْجِدِ. وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ فِي الْجُمُعَةِ كَأَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي صِحَّةِ الْجُمُعَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَقَاصِيرِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَتَنَازَعَ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الصَّلَاةَ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ كَإِحْدَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صِحَّةِ هَؤُلَاءِ مُطْلَقًا فِي الْأَمَاكِنِ الْمُتَحَجِّرَةِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ آثِمٌ عَاصٍ يَجِبُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أَثَرُ نَصِيبٍ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114] فَإِنَّ هَذِهِ الْبِقَاعَ مِنْ الْمَسَاجِدِ، فَإِذَا مُنِعَ مَنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ أَنْ يَذْكَرَ فِيهَا اسْمَ اللَّهِ بِصَلَاةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ تَعَلُّمٍ أَوْ تَعْلِيمٍ كَانَ ذَلِكَ نَوْعًا مِمَّا تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ. وَكَذَلِكَ تَخْرِيبُ الْمَسَاجِدِ ضِدُّ عِمَارَتِهَا، وَلَيْسَتْ عِمَارَتُهَا الْمَحْمُودَةُ بِمُجَرَّدِ بُنْيَانِ الْحِيطَانِ وَالسُّقُوفِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ. وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17] {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] الْآيَةَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 18] الْآيَةَ» . قُلْت: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَفِي أَوْسَطِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «أَنَّ عُمَّارَ بُيُوتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» . وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «مَنْ أَلِفَ الْمَسْجِدَ أَلِفَهُ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَادًا الْمَلَائِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ، إنْ غَابُوا يَفْتَقِدُوهُمْ، وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ» . مَطْلَبٌ: جَلِيسُ الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ. ثُمَّ قَالَ: «جَلِيسُ الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: أَخٌ مُسْتَفَادٌ، أَوْ كَلِمَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ رَحْمَةٌ مُنْتَظَرَةٌ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دُونَ قَوْلِهِ جَلِيسُ الْمَسْجِدِ إلَى آخِرِهِ. وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِهِمَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَّاةَ الْقَاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ، فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ وَالْمَسْجِدِ» إلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: فَبَيَّنَ أَنَّ إقَامَةَ الْجَمَاعَةِ فِيهَا عِمَارَةٌ لَهَا، وَهَذَا النَّهْيُ كُلُّهُ لِمَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُتَحَجِّرَةِ عَلَى مَا يُشْرَعُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا فَعَلَ فِيهَا الْمَحْظُورَاتِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ كَمُقَدِّمَاتِ الْفَوَاحِشِ وَتَنَاوُلِ الْمُنْكَرَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَرِيبُ مُسْلِمٌ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَاصِيرُ مَظِنَّةً لِهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَدْ شُهِرَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ مُوجِبًا لِحَسْمِ الْمَادَّةِ وَالْمَنْعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسَاجِدِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْحُدُودِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الصِّيَانَةِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالذَّرَائِعِ كَاتِّقَاءِ مَوَاقِفِ التُّهَمِ «وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ رَآهُمَا، وَهُوَ مَعَ امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيت أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» . وَكَمَا بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا تُجَالِسُهُ الْأَحْدَاثُ فَنَهَى عَنْ مُجَالَسَتِهِ. وَكَمَا نَفَى (نَصْرُ بْنُ الْحَجَّاجِ) لَمَّا خَافَ افْتِتَانَ النَّاسِ بِهِ. وَكَمَا نَهَى عَنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالسَّفَرِ بِهَا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مَظِنَّةَ مُفْسِدَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ فَإِنَّهُ يَنْهَى عَنْهُ شَرْعًا، وَعَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ الْقِيَامُ فِي ذَلِكَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ، وَتُقْلَعُ هَذِهِ الْمَقَاصِيرُ، كَمَا قُلِعَ أَمْثَالُهَا فِي جَامِعِ دِمَشْقَ وَجَامِعِ الْحَاكِمِ بِمِصْرَ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ كَانَ هُنَاكَ أَمْثَالُ هَذِهِ الْمَقَاصِيرِ حَتَّى قَلَعَهُ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ مَنْ حَمِدَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ وَرَأَوْا فِعْلَهُ مِنْ أَحْسَنِ الْحَسَنَاتِ وَأَعْظَمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 الْقُرُبَاتِ بَلْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَاتِ. وَإِذَا قَامَتْ فَإِنَّهَا تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ نَفَعَتْ فِي عِمَارَتِهِ وَإِلَّا بِيعَتْ وَانْتَفَعَ الْمَسْجِدُ بِأَثْمَانِهَا. انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَطْلَبٌ: فِي أَشْيَاءَ تُبَاحُ فِي الْمَسْجِدِ. (التَّاسِعُ) : فِي أَشْيَاءَ تُبَاحُ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ: يُبَاحُ فِيهِ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بِلَا ضَرَرٍ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَعَهُ بُصَاقٌ أَوْ مُخَاطٌ. وَيُبَاحُ غَلْقُ أَبْوَابِهِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ مَنْ يُكْرَهُ دُخُولُهُ إلَيْهِ. وَيُبَاحُ الْأَكْلُ فِيهِ وَالِاسْتِلْقَاءُ فِيهِ لِمَنْ لَهُ سَرَاوِيلُ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ «أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى» قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلُ يَسْتَلْقِي وَيَضَعُ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى؟ قَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ قَدْ رُوِيَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا بَأْسَ بِهِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ سَرَاوِيلُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُبَاحُ اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْمَنْزِلِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُبَاحُ اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ. نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَدَّمَ فِي الْآدَابِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ فِيهِ وَفِي الْمَنْزِلِ. قَالَ الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ: بِنَاءُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَامِعِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَنْبَغِي اتِّخَاذُ الْمِحْرَابِ فِيهِ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ الْجَاهِلُ، وَقَطَعَ بِهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَأَوْمَأَ إلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي الِاسْتِرْجَاعِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ: وَيَحْسُنُ الِاسْتِرْجَاعُ فِي قَطْعِ شِسْعِهِ ... وَتَخْصِيصِ حَافٍ بِالطَّرِيقِ الْمُمَهَّدِ (وَيَحْسُنُ) أَيْ يُشْرَعُ وَيُسَنُّ (الِاسْتِرْجَاعُ) أَيْ قَوْلُ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَيُقْرَأُ الِاسْتِرْجَاعُ فِي عِبَارَةِ النَّظْمِ بِالنَّقْلِ لِلْوَزْنِ (فِي قَطْعِ شِسْعِهِ) أَيْ فِي قَطْعِ شِسْعِ نَعْلِهِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ، وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ وَيَدْخُلُ طَرَفُهُ فِي الثَّقْبِ الَّذِي فِي طَرَفِ النَّعْلِ الْمَشْدُودِ فِي الزِّمَامِ، وَهُوَ السَّيْرُ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ الشِّسْعُ، وَالْجَمْعُ شُسُوعٌ مِثْلُ حِمْلٍ وَحُمُولٍ. رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلْيَسْتَرْجِعْ فَإِنَّهَا مُصِيبَةٌ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمُّ يَهُمُّهُ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» وَالْوَصَبُ وَالنَّصَبُ التَّعَبُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» . قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْمِينَحِيُّ فِي كِتَابِهِ (تَسْلِيَةِ أَهْلِ الْمَصَائِبِ) ، وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ كَلِمَاتِ الِاسْتِرْجَاعِ وَهِيَ قَوْلُ الْمُصَابِ إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ مَلْجَأً وَمَلَاذًا لِذَوِي الْمَصَائِبِ. وَعِصْمَةً لِلْمُمْتَحَنِينَ مِنْ الشَّيْطَانِ، لِئَلَّا يَتَسَلَّطَ عَلَى الْمُصَابِ فَيُوَسْوِسَ لَهُ بِالْأَفْكَارِ الرَّدِيئَةِ، فَيَهِيجَ مَا سَكَنَ وَيَظْهَرَ مَا كَمَنَ، فَإِذَا لَجَأَ إلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْجَامِعَاتِ لِمَعَانِي الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ فَقَدْ اعْتَصَمَ بِهَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إنَّا لِلَّهِ تَوْحِيدٌ وَإِقْرَارٌ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمُلْكِ، وَقَوْلَهُ: وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ إقْرَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ يُهْلِكُنَا ثُمَّ يَبْعَثُنَا، فَهُوَ إيمَانٌ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ إيمَانٌ أَيْضًا بِأَنَّ لَهُ الْحُكْمَ فِي الْأُولَى وَلَهُ الْمَرْجِعُ فِي الْأُخْرَى، فَهُوَ مِنْ الْيَقِينِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ وَيَتَحَقَّقَ أَنَّ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ مِلْكٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقِيقَةً، وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ عِنْدَ الْعَبْدِ عَارِيَّةً فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ كَالْمُعِيرِ يَأْخُذُ عَارِيَّتَهُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَحْفُوفٌ بِعَدِمَيْنِ عَدَمٍ قَبْلَهُ وَعَدَمٍ بَعْدَهُ. وَمِلْكُ الْعَبْدِ لَهُ مُتْعَةٌ مُعَارَةٌ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَهُ عَنْ عَدَمٍ حَتَّى يَكُونَ مَالَهُ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنْ الْآفَاتِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ وُجُودُهُ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ، وَلَا مِلْكٌ حَقِيقِيٌّ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِالْأَمْرِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ لَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِيهِ إلَّا مَا وَافَقَ أَمْرَ مَالِكِهِ الْحَقِيقِيِّ، ثُمَّ إنَّ مَصِيرَ الْعَبْدِ وَمَرْجِعَهُ إلَى اللَّهِ مَوْلَاهُ الْحَقِّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْلُفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَيَأْتِيَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا كَمَا خَلَقَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِلَا أَهْلٍ، وَلَا مَالٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَلَكِنْ يَأْتِيهِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةَ الْعَبْدِ، وَمَا خَوَّلَهُ فِيهِ وَنِهَايَتُهُ وَحَالُهُ فِيهِ، فَكَيْفَ يَفْرَحُ الْعَبْدُ بِوَلَدٍ أَوْ مَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، أَمْ كَيْفَ يَأْسَى عَلَى مَفْقُودٍ؟ . فَفِكْرَةُ الْعَبْدِ فِي بِدَايَتِهِ وَنِهَايَتِهِ مِنْ أَعْظَمِ عِلَاجِ الْمَصَائِبِ. وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. قَالَ تَعَالَى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22 - 23] . وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَجَدَ فِيهَا شِفَاءً وَدَوَاءً لِكُلِّ مُصِيبَةٍ. انْتَهَى. . مَطْلَبٌ: بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ (بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ) . وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، أَنَّ مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَذَكَرَهَا وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَجَدَّدَ لَهَا اسْتِرْجَاعًا وَصَبْرًا جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ ثَوَابًا وَأَجْرًا. فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ سَيِّدِنَا الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمَةٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُهَا، وَإِنْ طَالَ عَهْدُهَا» - وَفِي لَفْظٍ، «وَإِنْ قَدُمَ عَهْدُهَا - فَيُحْدِثُ لِذَلِكَ اسْتِرْجَاعًا إلَّا جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِهَا يَوْمَ أُصِيبَ بِهَا» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ أَيْضًا وَلَفْظُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَذَكَرَ مُصِيبَتَهُ فَأَحْدَثَ اسْتِرْجَاعًا وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَهُ يَوْمَ أُصِيبَ» قَالَ الشَّمْسُ الْمِينَحِيُّ: فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 مَطْلَبٌ: فِي أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ الْمُصِيبَةُ فِي الدِّينِ. (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : الْمَصَائِبُ تَتَفَاوَتُ، فَأَعْظَمُهَا الْمُصِيبَةُ فِي الدِّينِ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْإِنْسَانُ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَسْلُوبُ مَنْ سُلِبَ دِينُهُ» فَإِذَا رَأَيْت إنْسَانًا لَا يُبَالِي بِمَا أَصَابَهُ فِي دِينِهِ مِنْ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَفَوَاتِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَوْقَاتِ الطَّاعَاتِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَيِّتٌ لَا يُحِسُّ بِأَلَمِ الْمُصِيبَةِ، فَإِنَّك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى. ثُمَّ بَعْدَ الْمُصِيبَةِ فِي الدِّينِ الْمُصِيبَةُ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ فِي الْأَهْلِ وَهِيَ مُقَارِبَةٌ الْمُصِيبَةَ فِي النَّفْسِ، ثُمَّ الْمُصِيبَةُ فِي الْمَالِ، وَهَذِهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ فَخَامَةِ الْمُصَابِ فِيهِ وَحَقَارَتِهِ، فَأَعْظَمُهَا أَنْفَسُهَا إلَى أَنْ تَصِلَ إلَى شِسْعِ النَّعْلِ وَالشَّوْكَةِ فَإِنَّهُمَا فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ، فَإِنَّ حَرَّ الْمُصِيبَةِ تَنَالُ مِنْ الْقَلْبِ بِقَدْرِ مَا فَقَدَ وَتَأَلَّمَ، وَشِسْعُ النَّعْلِ فِي غَايَةِ الْخِسَّةِ. فَنَبَّهَ الْمُصْطَفَى عَلَى أَعْلَى الْمَصَائِبِ بِقَوْلِهِ «الْمَسْلُوبُ مَنْ سُلِبَ دِينُهُ» . مَطْلَبٌ: أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ فِي الدِّينِ مَوْتُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنْ الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي» . وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ مُرْسَلًا أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِي فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ» وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ. وَالْأَوَّلُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَهَذِهِ الْمُصِيبَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ فِي الدِّينِ. قَالَ فِي تَسْلِيَةِ أَهْلِ الْمَصَائِبِ: وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا مَوْتُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْقَطَعَ الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَانْقَطَعَتْ النُّبُوَّاتُ، وَكَانَ مَوْتُهُ أَوَّلَ ظُهُورِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ بِارْتِدَادِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 عَنْ الدِّينِ مِنْ الْأَعْرَابِ، فَهُوَ أَوَّلُ انْقِطَاعِ عُرَى الدِّينِ وَنُقْصَانِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُحْصَى. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا نَفَّضْنَا أَيْدِيَنَا مِنْ التُّرَابِ مِنْ قَبْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ مُسَلِّيًا لِبَعْضِ إخْوَانِهِ فِي وَلَدٍ لَهُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ. اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدْ ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ أَوَمَا تَرَى أَنَّ الْمَصَائِبَ جَمَّةٌ ... وَتَرَى الْمَنِيَّةَ لِلْعِبَادِ بِمَرْصَدِ مَنْ لَمْ يُصَبْ مِمَّنْ تَرَى بِمُصِيبَةٍ ... هَذَا سَبِيلٌ لَسْتَ فِيهِ بِأَوْحَدِ فَإِذَا ذَكَرْتَ مُحَمَّدًا وَمُصَابَهُ ... فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ «كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ الْمُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَ النَّاسُ إذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ أَحَدُهُمْ مَوْضِعَ الْقِبْلَةِ فَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَ النَّاسُ إذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ الْقِبْلَةِ فَكَانَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَتْ الْفِتْنَةُ فَتَلَفَّتَ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا» إسْنَادُهُ مُقَارِبٌ. قُلْت: وَالْآنَ تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَتَلَاشَى الْحَالُ، فَكَمْ مِنْ قَائِمٍ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِهَا حَتَّى لَا يُفَرِّقَ بِعَيْنِ قَلْبِهِ بَيْنَ وُقُوفِهِ فِيهَا وَبَيْنَ وُقُوفِهِ فِي الْأَسْوَاقِ. فَيَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِك يَا اللَّهُ إنَّك لَا تُخَيِّبُ مَنْ دَعَاك. مَطْلَبٌ: الِاسْتِرْجَاعُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ (الثَّانِي) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ فِي الْمُصِيبَةِ مَا أُعْطِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ، يَعْنِي إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَلَوْ أُعْطِيَ أَحَدٌ لَأُعْطِيَ نَبِيُّ اللَّهِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِهِ فِي فَقْدِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] أُولَئِكَ أَصْحَابُ هَذِهِ الصِّفَةِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 مَطْلَبٌ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُنْتَعِلِ أَنْ يَفْسَحَ لِلِحَافِي. (وَ) يَحْسُنُ بِمَعْنَى يُسَنُّ (تَخْصِيصُ) إنْسَانٍ (حَافٍ) غَيْرِ مُنْتَعِلٍ (بِ) مَشْيِهِ فِي (الطَّرِيقِ) أَيْ السَّبِيلِ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَجَمْعُهُ أَطْرِقَةٌ وَطُرُقٌ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ» هِيَ جَمْعُ طَرِيقٍ عَلَى التَّأْنِيثِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَجَمْعُهُ عَلَى التَّذْكِيرِ أَطْرِقَةٌ كَرَغِيفٍ وَأَرْغِفَةٍ، وَعَلَى التَّأْنِيثِ أَطْرُقُ كَيَمِينٍ وَأَيْمُنٍ. انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ يُجْمَعُ عَلَى أَطْرُقٍ وَطُرُقٍ وَأَطْرِقَاءُ وَأَطْرِقَةٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ طُرُقَاتٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ: الطَّرِيقُ مُذَكَّرٌ فِي لُغَةِ نَجْدٍ، مُؤَنَّثٌ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ. وَالْجَمْعُ طُرُقٌ بِضَمَّتَيْنِ وَجَمْعُ الطُّرُقِ طُرُقَاتٌ. انْتَهَى. (الْمُمَهَّدِ) أَيْ الْمُسَوَّى وَالْمُصَلَّحُ الْمَبْسُوطُ، يُقَالُ مَهَدَهُ كَمَنَعَهُ بَسَطَهُ كَمَهْدِهِ. وقَوْله تَعَالَى {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6] أَيْ بِسَاطًا مُمَكَّنًا لِلسُّلُوكِ. وَقَوْلُهُ {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12] أَيْ بِئْسَ مَا مَهَّدَ لِنَفْسِهِ فِي مُعَادِهِ، وَتَمْهِيدُ الْأَمْرِ تَسْوِيَتُهُ وَإِصْلَاحُهُ. وَالْعُذْرُ بَسْطُهُ وَقَبُولُهُ، وَمَاءٌ مُمَهَّدٌ لَا حَارٌّ وَلَا بَارِدٌ، وَتَمَهَّدَ تَمَكَّنَ، كُلُّهُ مِنْ الْقَامُوسِ. يَعْنِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ الْمُنْتَعِلِ أَنْ يَفْسَحَ لِأَخِيهِ الْحَافِي فِي الطَّرِيقِ، وَيَخُصَّهُ بِالْمَشْيِ فِيهَا، وَيَعْدِلَ هُوَ عَنْهَا لِأَجْلِ أَخِيهِ، رَأْفَةً مِنْهُ وَلُطْفًا وَمَوَدَّةً وَحِرْصًا عَلَى إيصَالِ النَّفْعِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ. وَامْتِثَالًا لِمَا رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا. «لِيُوَسِّعَ الْمُنْتَعِلُ لِلِحَافِي عَنْ جَدَدِ الطَّرِيقِ فَإِنَّ الْمُنْتَعِلَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاكِبِ» . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجَدَدُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ. زَادَ فِي الْقَامُوسِ: الْمُسْتَوِيَةُ. وَفِيهِ: وَالْجَادَّةُ مُعْظَمُ الطَّرِيقِ. وَالْجَمْعُ جَوَادٌ وَجُدُدٌ بِالضَّمِّ. انْتَهَى. وَفِي الْمَطَالِعِ لِابْنِ قُرْقُولٍ: جَوَادٌ مَنْهَجٌ جَمْعُ جَادَّةٍ وَهِيَ أَوْضَحُ الطُّرُقِ وَأُمَّهَاتُهَا الَّتِي تُسْلَكُ عَلَيْهَا كَمَا يُقَالُ مَنْهَجٌ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَقَدْ تُخَفَّفُ الدَّالُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 [مَطْلَبُ: لُبْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ] مَطْلَبٌ: لُبْسُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ: وَقَدْ لَبِسَ السِّبْتِيَّ وَهُوَ الَّذِي خَلَا ... مِنْ الشَّعْرِ مَعَ أَصْحَابِهِ بِهِمْ اقْتَدِ (وَقَدْ لَبِسَ) النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (السِّبْتِيَّ) نِسْبَةً إلَى السِّبْتِ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ جُلُودُ الْبَقَرِ، أَوْ كُلُّ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ أَوْ بِالْقَرَظِ بِالْقَافِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ مُحَرَّكَةً، وَهُوَ وَرَقُ السَّلْمِ، وَالْقَارِظُ مُجْتَنِيهِ، وَكَشِدَادِ بَائِعُهُ. وَأَدِيمٌ مَقْرُوظٌ دُبِغَ بِهِ أَوْ صُبِغَ بِهِ مِنْ الْقَامُوسِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: وَالسِّبْتُ بِالْكَسْرِ جُلُودُ الْبَقَرِ الْمَدْبُوغَةِ بِالْقَرَظِ تُحْذَى مِنْهُ النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ. وَفِي الْحَدِيثِ «يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ اخْلَعْ سِبْتِيَّتَيْك» . ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَشَارَ إلَى بَيَانِ السِّبْتِيِّ بِقَوْلِهِ (وَهُوَ) الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ بِالْقَرَظِ (الَّذِي خَلَا) بِالدَّبْغِ، وَالنَّتْفُ نَحْوُهُ (مِنْ الشَّعْرِ) الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ غَيْرَ ذِي شَعْرٍ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ وَكِيعٌ (مَعَ أَصْحَابِهِ) الْأَخْيَارِ الَّذِينَ شَادَ اللَّهُ بِهِمْ الدِّينَ، وَأَطْلَعَ شَمْسَ الْيَقِينِ، فَهُمْ نُجُومُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، فَقَدْ نَالُوا بِصُحْبَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا امْتَازُوا بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَاخْتَصَّهُمْ بِبَرَكَةِ مُشَاهَدَتِهِ حَتَّى صَارُوا أَئِمَّةً فَمَنْ اسْتَنَّ بِسُنَّتِهِمْ فَازَ وَأَفْلَحَ، وَمَنْ مَالَ عَنْ شِرْعَتِهِمْ هَلَكَ وَضَلَّ وَمَا أَنْجَحَ، فَعَلَيْهِمْ رِضْوَانُ اللَّهِ مَا تَجَلَّى بِذِكْرِهِمْ كِتَابٌ، وَمَا عَبِقَ نَشْرَ شَذَاهُمْ فَتَنَعَّمَ بِهِ ذَوُو الْأَلْبَابِ، وَلَمَّا كَانَ لَا نَجَاءَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ إلَّا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِأَصْحَابِهِ؛ إذْ جَمِيعُ الطُّرُقِ إلَى اللَّهِ مَسْدُودَةٌ إلَّا طَرِيقَهُ الْمُسْتَقِيمَةَ الْمَعْهُودَةَ. قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (بِهِمْ) أَيْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِأَصْحَابِهِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - (اقْتَدِ) فِعْلُ أَمْرٍ مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَقُدِّمَ مَعَ مُنَاسَبَةِ الْقَافِيَةِ لِيُفِيدَ الْحَصْرَ أَوْ الِاهْتِمَامَ. يَعْنِي أَنَّ الِاقْتِدَاءَ إنَّمَا يَصْلُحُ بِهِمْ لَا بِزَيْدٍ وَلَا بِعَمْرٍو وَمَعْنَى اقْتَدِ اسْتَنَّ بِهِمْ، وَاحْذُ حَذْوَهُمْ، وَافْعَلْ مِثْلَ فِعْلِهِمْ مُتَأَسِّيًا بِهِمْ. وَفُلَانٌ قُدْوَةٌ أَيْ يُقْتَدَى بِهِ، وَالضَّمُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 أَكْثَرُ مِنْ الْكَسْرِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْقُدْوَةُ مُثَلَّثَةٌ وَكَعُدَّةِ مَا تَسَنَّنْتَ بِهِ وَاقْتَدَيْتَ بِهِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ النَّعْلَ السِّبْتِيَّةَ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَرَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ إلَى عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ «أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: رَأَيْتُك تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، قَالَ إنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ» . مَطْلَبٌ: يُسْتَحَبُّ كَوْنُ النَّعْلِ أَصْفَرَ وَالْخُفِّ أَحْمَرَ أَوْ أَسْوَدَ. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -: يُسْتَحَبُّ كَوْنُ النَّعْلِ أَصْفَرَ وَالْخُفِّ أَحْمَرَ أَوْ أَسْوَدَ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَيُرْوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: النَّعْلُ السَّوْدَاءُ تُورِثُ الْهَمَّ. وَأَظُنُّ الْقَاضِيَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ، قَالَ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَرَاهَةُ. قَالَ: وَرَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ لَبِسَ نَعْلًا صَفْرَاءَ لَمْ يَزَلْ يَنْظُرُ فِي سُرُورٍ ثُمَّ قَرَأَ {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69] . (الثَّانِي) : قَالَ فِي عَيْنِ الرِّعَايَةِ وَتَبِعَهُ فِي الْآدَابِ وَهُوَ مُرَادُ الْجَمِيعِ: يُبَاحُ الْمَشْيُ فِي قَبْقَابٍ خَشَبٍ وَقِيلَ مَعَ الْحَاجَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ تَمِيمٍ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْخَشَبِ أَنْ يَمْشِيَ فِيهِ إنْ كَانَ لِحَاجَةٍ. قَالَ الْيُونِينِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْآدَابِ: وَنَقَلْت مِنْ مَسَائِلِ حَرْبٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قِيلَ لَهُ فَالنَّعْلُ مِنْ الْخَشَبِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا إذَا كَانَ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَهُوَ فِي الْآدَابِ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْقَبْقَابِ وَالنَّعْلِ مِنْ الْخَشَبِ. وَالْمَذْهَبُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَا بَأْسَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الثَّالِثُ) : قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُسَنُّ أَنْ يُقَابِلَ بَيْنَ نَعْلَيْهِ. «وَكَانَ لِنَعْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَالَانِ» بِكَسْرِ الْقَافِ، وَهُوَ السَّيْرُ بَيْنَ الْوُسْطَى وَاَلَّتِي تَلِيهَا، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْقِبَالُ زِمَامُ النَّعْلِ، وَهُوَ السَّيْرُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْأُصْبُعَيْنِ، وَقَدْ أَقْبَلَ نَعْلَهُ، وَقَابَلَهَا. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «قَابِلُوا النِّعَالَ» أَيْ اعْمَلُوا لَهَا قِبَالًا. وَنَعْلٌ مُقَبَّلَةٌ إذَا جُعِلَتْ لَهَا قِبَالًا، وَمَقْبُولَةٌ: إذَا شَدَدْت قِبَالَهَا. انْتَهَى. (الرَّابِعُ) يُكْرَهُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ نَعْلَيْهِ بِلَا حَاجَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الشُّهْرَةِ وَالِاسْتِهْجَانِ مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لُبْسُ النِّعَالِ السِّنْدِيَّةِ: وَيُكْرَهُ سِنْدِيُّ النِّعَالِ لِعُجْبِهِ ... بِصَرَّارِهَا زِيُّ الْيَهُودِ فَأَبْعِدْ (وَيُكْرَهُ) لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لُبْسُ (سَنْدِيِّ النِّعَالِ) أَيْ الْمَنْسُوبَةِ إلَى السِّنْدِ (لِ) أَجْلِ (عُجْبِهِ) أَيْ لَابِسُهَا (بِصَرَّارِهَا) أَيْ بِصَوْتِهَا وَجَلَبَتِهَا كَصَرِيرِ الْبَابِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] أَيْ حَالَ مَجِيئِهَا صَائِحَةً. نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى كَرَاهَةِ اتِّخَاذِ النِّعَالِ السِّنْدِيَّةِ. قَالَ لَهُ الْمَرُّوذِيُّ: أَمَرُونِي فِي الْمَنْزِلِ أَنْ أَشْتَرِيَ نَعْلًا سِنْدِيًّا لِلصِّبْيَةِ، فَقَالَ: لَا تَشْتَرِ. فَقُلْت: يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَخْرَجِ وَالطِّينِ فَأَرْجُو، وَأَمَّا إنْ أَرَادَ الزِّينَةَ فَلَا. وَقَالَ عَنْ شَخْصٍ لَبِسَهَا يَتَشَبَّهُ بِأَوْلَادِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ فِي رَايَةِ صَالِحٍ: إذَا كَانَ لِلْوُضُوءِ فَأَرْجُو، وَأَمَّا لِلزِّينَةِ فَأَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَكَرِهَهُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ لِلْكَنِيفِ وَالْوُضُوءِ يَعْنِي فَلَا كَرَاهَةَ. وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَكْرَهُ الصَّرَّارَةَ: وَقَالَ: مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ. وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (زِيُّ) أَيْ هِيَ زِيُّ (الْيَهُودِ) الْمَغْصُوبِ عَلَيْهِمْ (فَأَبْعِدْ) فِعْلُ أَمْرٍ مَجْزُومٌ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ. وَيُحْتَمَلُ قِرَاءَةُ زِيِّ بِالْفَتْحِ مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِأَبْعَدِ، أَيْ أَبْعِدْ زِيَّ الْيَهُودِ وَلَا تَقْرَبْهُ فَإِنَّا نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَبِسَائِرِ الْأَعْجَامِ، وَفِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 الْآدَابِ الْكُبْرَى حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ تَحْرِيمَ الصَّرِيرِ فِي الْمَدَاسِ وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. (فَائِدَةٌ) : فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اسْتَكْثِرُوا مِنْ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ» . قَالَ الْقَاضِي: يَدُلُّ عَلَى تَرْغِيبِ اللُّبْسِ لِلنِّعَالِ وَلِأَنَّهَا قَدْ تَقِيهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَالنَّجَاسَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَيْ إنَّهُ شَبِيهٌ بِالرَّاكِبِ فِي خِفَّةِ الْمَشَقَّةِ وَقِلَّةِ التَّعَبِ وَسَلَامَةِ الرِّجْلِ مِنْ أَذَى الطَّرِيقِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا كَلَامٌ بَلِيغٌ، وَلَفْظٌ فَصِيحٌ بِحَيْثُ لَا يُنْسَجُ عَلَى مِنْوَالِهِ. وَلَا يُؤْتَى بِمِثَالِهِ، وَهُوَ إرْشَادٌ إلَى الْمَصْلَحَةِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا يُخَفِّفُ الْمَشَقَّةَ، فَإِنَّ الْحَافِيَ الْمُدِيمَ لِلْمَشْيِ، يَلْقَى مِنْ الْآلَامِ وَالْمَشَقَّةِ بِالْعِثَارِ وَغَيْرِهِ مَا يَقْطَعُهُ عَنْ الْمَشْيِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَقْصُودِهِ، بِخِلَافِ الْمُنْتَعِلِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ إدَامَةِ الْمَشْيِ فَيَصِلُ إلَى مَقْصُودِهِ كَالرَّاكِبِ؛ فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِهِ. انْتَهَى. . مَطْلَبٌ: فِي السَّيْرِ حَافِيًا وَحَاذِيًا: وَسِرْ حَافِيًا أَوْ حَاذِيًا وَامْشِ وَارْكَبَنْ ... تَمَعْدَدْ وَاِخْشَوْشِنْ وَلَا تَتَعَوَّدْ (وَسِرْ) حَالَةَ كَوْنِك (حَافِيًا) بِلَا نَعْلٍ أَحْيَانًا اقْتِدَاءً بِسَيِّدِ الْعَالَمِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَوْ) سِرْ فِي حَالِ كَوْنِك (حَاذِيًا) أَيْ مُنْتَعِلًا يُقَالُ: حَذَا النَّعْلَ حَذْوًا وَحِذَاءً قَدَّرَهَا وَقَطَعَهَا. وَحَذَا الرَّجُلُ نَعْلًا أَلْبَسَهُ إيَّاهَا كَأَحْذَاهُ. وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَمِيرًا بِمِصْرَ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَا أَرَى عَلَيْك حِذَاءً قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانًا» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُرْوَى هَذَا الْمَعْنَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي حَافِيًا وَنَاعِلًا» . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: «كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا» . قَالَ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ: أَمَّا مَشْيُهُ مُنْتَعِلًا فَهُوَ أَكْثَرُ مَشْيِهِ، وَأَمَّا حَافِيًا فَذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَيْضًا، وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي عِيَادَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: «فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُمْنَا مَعَهُ، وَنَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ وَلَا خِفَافٌ وَلَا قَلَانِسُ وَلَا قُمُصٌ نَمْشِي فِي السِّبَاخِ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَامْشِ) أَحْيَانًا (وَارْكَبَنْ) فِعْلُ أَمْرٍ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ وَارْكَبْ أَحْيَانًا وَلَا تَتَنَعَّمْ كُلَّ النَّعَمِ، وَلَا تَتَقَشَّفْ كُلَّ التَّقَشُّفِ، فَتَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا مَطْلَبٌ: تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا. (تَمَعْدَدْ) أَيْ اتَّبِعْ سُنَّةَ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ فِي التَّقَشُّفِ، وَعَدَمِ التَّنَعُّمِ (وَاخْشَوْشِنْ) قَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَفِيهِ «وَتَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا وَاقْطَعُوا الرَّكْبَ وَانْزُوا وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ» . وَذَكَرْنَا أَيْضًا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ عَنْ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ مَرْفُوعًا «تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا» . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: قَوْلُهُ تَمَعْدَدُوا أَمْرٌ بِاللُّبْسَةِ الْخَشِنَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَعَلَيْكُمْ بِالْمُعَدِّيَةِ. وَقِيلَ مَعْنَى تَمَعْدَدُوا أَيْ مِنْ الْغِلَظِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْغُلَامِ إذَا شَبَّ وَغَلُظَ تَمَعْدَدَ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَيُقَالُ تَمَعْدَدُوا: تَشَبَّهُوا بِعَيْشِ مَعْدٍ وَكَانُوا أَهْلَ غِلَظٍ وَقَشَفٍ. وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ: اخْشَوْشَنَ وَتَخَشَّنَ اشْتَدَّتْ خُشُونَتُهُ، أَوْ لَبِسَ الْخَشِنَ، أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ عَاشَ عَيْشًا خَشِنًا، وَاخْشَوْشَنَ أَبْلَغُ فِي الْكُلِّ. وَقَالَ الْعَلْقَمِيُّ: اخْشَوْشِنُوا بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ الْأُولَى يَعْنِي الشِّينَ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَبِكَسْرِ الثَّانِيَةِ أَمْرٌ مِنْ الْخُشُونَةِ. قَالَ فِي الدُّرِّ: أَيْ كُونُوا كَمَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ وَكَانُوا أَهْلَ غِلَظٍ وَقَشَفٍ، وَعَلَيْكُمْ بِاللُّبْسَةِ الْمُعَدِّيَةِ أَيْ خُشُونَةُ اللِّبَاسِ. وَرَوَى «تَمَعْزَزُوا وَاخْشَوْشِنُوا» بِالزَّايِ، أَيْ كُونُوا أَشَدَّ صَبْرًا مِنْ الْمُعِزِّ، وَهُوَ الشِّدَّةُ كَمَا فِي النِّهَايَةِ انْتَهَى. وَكُنْت فِيمَا تَقَدَّمَ تَكَلَّمْت عَلَى قَوْلِهِ (وَاقْطَعُوا الرَّكْبَ) مِنْ عِنْدِي، ثُمَّ رَأَيْت الْعَلَّامَةَ ابْنَ قُنْدُسٍ ذَكَرَ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ وَعِبَارَتُهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّكْبَ جَمْعُ رِكَابٍ مِثْلُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ، وَالْمُرَادُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُمْ يُلْقُونَ رَكْبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 الْخَيْلِ وَيَرْكَبُونَ بِغَيْرِ رَكْبٍ وَيَنْزُونَ عَلَيْهَا نَزْوًا أَيْ يَثِبُونَ وَثْبًا لِأَنَّهُمْ يَأْلَفُونَ بِذَلِكَ الْقُوَّةَ وَالنَّشَاطَ وَالْخُشُونَةَ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَقْلًا أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فَيُعْلَمُ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ وَفِيهِ «وَاقْطَعُوا الرَّكْبَ وَانْزُوا عَلَى الْخَيْلِ» وَهَذَا يُؤَكِّدُ الْمَعْنَى الْمُشَارَ إلَيْهِ وَفِيهِ وَاخْشَوْشِنُوا. قَالَ فِي نَظْمِ النِّهَايَةِ: وَاخْشَوْشِنُوا أَيْ: اخْشَنُوا فِي دِينِكُمْ ثُمَّ اُصْلُبُوا، فَأَفَادَنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ طَلَبَ الْخُشُونَةِ الصَّلَابَةُ فِي الدِّينِ وَهُوَ - وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا - حَسَنٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَاقْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قُلْت: مَا هَدْيُ عَمَّارٍ؟ قَالَ: التَّقَشُّفُ وَالتَّشْمِيسُ» . وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. مَطْلَبٌ: لَا تَلْتَزِمُ عَادَةً وَاحِدَةً بَلْ كُنْ مَعَ الدَّهْرِ حَيْثُ كَانَ. ثُمَّ قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَلَا تَتَعَوَّدْ) هَذِهِ لَا النَّاهِيَةُ وَتَتَعَوَّدُ مَجْزُومٌ بِهَا وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ. أَيْ لَا تَلْتَزِمْ عَادَةً وَاحِدَةً بَلْ كُنْ مَعَ الدَّهْرِ حَيْثُ كَانَ، فَإِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْك فَلَا بَأْسَ أَنْ تُظْهِرَ أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْك مِنْ غَيْرِ كِبْرٍ وَلَا عُجْبٍ وَلَا خُيَلَاءَ، وَإِذَا تَقَلَّصَ الْعَيْشُ فَأَلْزِمْ نَفْسَك الصَّبْرَ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَكُنْ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ تَكُنْ مِنْ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ. وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَكُونَ اللُّبْسُ لِلَّهِ فَإِنْ كَانَ جَمِيلًا يَكُونُ إظْهَارًا لِلنِّعْمَةِ، وَأَنْ يَرَى عَلَيْهِ أَثَرَهَا، وَلَا يَكُونُ سَبَبُ لُبْسِهِ أَنَّهُ غَارَ مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ رَأَى عَلَى غَيْرِهِ لِبَاسًا جَمِيلًا فَغَارَ مِنْهُ فَفَعَلَ مِثْلَهُ، وَلَا يَكُونُ اللُّبْسُ لِلشُّهْرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ثَوْبَ الشُّهْرَةِ تَارَةً يَكُونُ غَالِيًا لَهُ قِيمَةٌ كَثِيرَةٌ وَتَارَةً يَكُونُ نَازِلًا قَلِيلَ الثَّمَنِ لَهُ مَنْظَرٌ غَيْرُ حَسَنٍ وَهُمَا الشُّهْرَتَانِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْهُمَا، وَلَا وَجْهَ لِلْمُنَافَسَةِ فِي الدُّنْيَا إذَا كُنْت عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَنَّهَا لَا تَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. فَائِدَتَانِ: (الْأُولَى) تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا لَا يَرُدُّونَ مَوْجُودًا، وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَفْقُودًا، بَلْ كَانَتْ حَالَتُهُمْ التَّسْلِيمَ لِلْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، فَإِذَا قُدِّمَ إلَيْهِمْ الطَّيِّبُ لَمْ يَمْتَنِعُوا مِنْ تَنَاوُلِهِ، وَإِذَا حَصَلَ لَهُمْ الْخَشِنُ لَمْ يَأْنَفُوا مِنْ أَكْلِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وَكَذَا اللِّبَاسُ، وَكُلُّ شُئُونِهِمْ كَانَتْ مُنْطَبِقَةً عَلَى هَذَا الشَّأْنِ. وَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا تَتَعَوَّدْ لِعَادَةٍ يَحْصُلُ لَكَ إذَا فَقَدْتَهَا بَعْضُ تَأَلُّمٍ أَوْ ضَرَرٍ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ سَرَّاقَةٌ، فَمَنْ أَلِفَ التَّنَعُّمَ صَعُبَ عَلَيْهِ فِرَاقُهُ. فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا، وَهَذَا شَأْنُ الْعَبْدِ مَعَ سَيِّدِهِ إنْ مَنَحَهُ شَكَرَ، وَإِنْ مَنَعَهُ صَبَرَ. . مَطْلَبٌ: الْمُعْتَبَرُ مِنْ الْإِنْسَانِ الْمَعْنَى وَالصِّفَاتُ لَا الْمَلَابِسُ وَالذَّاتُ. (الثَّانِيَةُ) : الْمُعْتَبَرُ مِنْ الْإِنْسَانِ الْمَعْنَى وَالصِّفَاتُ، لَا الْمَلَابِسُ وَالذَّاتُ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَبَذِّلَ الَّذِي لَا يُبَالِي مَا لَبِسَ» وَرَوَى أَبُو مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَيْسَ الْبِرُّ فِي حُسْنِ اللِّبَاسِ وَالزِّيِّ وَلَكِنَّ الْبِرَّ فِي السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ» . وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْأَصْبَهَانِيُّ التَّيْمِيُّ فِي التَّرْغِيبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ قَالَ: رَأَى عَلَيَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جُبَّةَ خَزٍّ فَقَالَ لِي: إنَّك حَسَنُ الْجُبَّةِ قُلْت وَمَا تُغْنِي عَنِّي، وَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَالِمٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قَالَ لِي أَصْلِحْ قَلْبَكَ وَالْبَسْ مَا شِئْت. قُلْت: وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الرِّقَاقِ وَالْبُلَغَاءِ وَأَصْحَابِ الْحِكَمِ وَالدَّقَائِقِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْوَرْدِيِّ فِي لَامِيَّتِهِ: خُذْ بِنَصْلِ السَّيْفِ وَاتْرُكْ غِمْدَهُ ... وَاعْتَبِرْ فَضْلَ الْفَتَى دُونَ الْحُلَلْ لَا يَضُرُّ الْفَضْلَ إقْلَالٌ كَمَا ... لَا يَضُرُّ الشَّمْسَ إطْبَاقُ الطَّفَلْ فَنَصْلُ السَّيْفِ حَدِيدَتُهُ، وَغِمْدُهُ جَفْنُهُ، وَالْحُلَلُ جَمْعُ حُلَّةٍ، وَالطَّفَلُ الظُّلْمَةُ مِنْ اللَّيْلِ السَّاتِرَةُ لِلشَّمْسِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَصْحَابَ الْفَضَائِلِ الْكَامِلَةِ لَا يَضُرُّهُمْ إقْلَالُهُمْ ذَاتَ يَدِهِمْ وَلَا أَخْلَاقُ ثِيَابِهِمْ كَمَا لَا يَضُرُّ الْفَرَسَ الْعَتِيقَ خَلَاقَةُ جِلِّهِ، وَلَا الْجَمَلَ الْكَرِيمَ رَثَاثَةُ قَتَبِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَمَا ضَرَّ نَصْلَ السَّيْفِ إخْلَاقُ غِمْدِهِ ... إذَا كَانَ عَضْبًا حِينَ يَضْرِبُ بَاتِرًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ: قَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْفَتَى وَإِزَارُهُ ... خَلَقٌ وَجَيْبُ قَمِيصِهِ مَرْقُوعُ وَأَنْشَدَ ابْنُ دُرَيْدٍ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ: يُغَايِظُونَا بِقُمْصَانٍ لَهُمْ جُدُدٍ ... كَأَنَّنَا لَا نَرَى فِي السُّوقِ قُمْصَانَا لَيْسَ الْقَمِيصُ وَإِنْ جَدَّدْت رُقْعَتَهُ ... بِجَاعِلٍ رَجُلًا إلَّا كَمَا كَانَا وَعَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: إذَا لَبِسْتَ ثَوْبًا فَظَنَنْت أَنَّك فِيهِ أَفْضَلُ مِمَّا فِي غَيْرِهِ فَبِئْسَ الثَّوْبُ هُوَ لَكَ. وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ عَمَّارٍ: مَنْ تَعَرَّى مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى لَمْ يَسْتَتِرْ بِشَيْءٍ مِنْ لِبَاسِ الدُّنْيَا وَقَدْ قِيلَ: لَا يَسُودُ الْمَرْءُ حَتَّى لَا يُبَالِيَ فِي أَيِّ ثَوْبَيْهِ ظَهَرَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: رَأَيْت أَعْرَابِيًّا فَاسْتَنْشَدْتُهُ فَأَنْشَدَنِي أَبْيَاتًا وَرَوَى أَخْبَارًا، فَتَعَجَّبْت مِنْ مَقَالِهِ وَسُوءِ حَالِهِ، فَسَكَتَ سَكْتَةً ثُمَّ قَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ: أَأُخَيَّ إنَّ الْحَادِثَا ... تِ تَرْكَنَنِي عَرَكَ الْأَدِيمِ لَا تُنْكِرَنْ أَنْ قَدْ رَأَيْت ... أَخَاك فِي كَرْبٍ عَدِيمِ إنْ كُنَّ أَثْوَابِي بُلِينَ ... فَإِنَّهُنَّ عَلَى كَرِيمِ وَقَالَ آخَرُ وَعَزَاهَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ: عَلَيَّ ثِيَابٌ لَوْ تُقَاسُ جَمِيعُهَا ... بِفَلْسٍ لَكَانَ الْفَلْسُ مِنْهُنَّ أَكْثَرَا وَفِيهِنَّ نَفْسٌ لَوْ يُقَاسُ بِبَعْضِهَا ... نُفُوسُ الْوَرَى كَانَتْ أَجَلَّ وَأَكْبَرَا وَمَا ضَرَّ نَصْلَ السَّيْفِ إخْلَاقُ غِمْدِهِ ... إذَا كَانَ عَضْبًا حَيْثُ وَجَّهْته بَرَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَأَحْسَنَ: لَا يُعْجِبَنَّكَ مَنْ يَصُونُ ثِيَابَهُ ... حَذَرَ الْغُبَارِ وَعِرْضُهُ مَبْذُولُ وَلَرُبَّمَا افْتَقَرَ الْفَتَى فَرَأَيْته ... دَنِسَ الثِّيَابِ وَعِرْضُهُ مَغْسُولُ وَقَالَ الْمُتَنَبِّي: لَئِنْ كَانَ ثَوْبِي دُونَ قِيمَتِهِ فَلْسٌ ... فَلَا فِيهِ نَفْسٌ دُونَ قِيمَتِهَا الْإِنْسُ فَثَوْبُك بَدْرٌ تَحْتَ أَنْوَارِهِ الدُّجَى ... وَثَوْبِي لَيْلٌ تَحْتَ أَطْمَارِهِ شَمْسٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وَقَالَ الْمَعَرِّيُّ فِي قَصِيدَتِهِ اللَّامِيَّةِ وَيُقَالُ لَهَا الطَّامَّاتُ: تُعَدُّ ذُنُوبِي عِنْدَ قَوْمٍ كَثِيرَةً ... وَلَا ذَنْبَ لِي إلَّا الْعُلَا وَالْفَضَائِلُ إلَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا: وَإِنِّي وَإِنْ كُنْت الْأَخِيرَ زَمَانُهُ ... لَآتٍ بِمَا لَمْ تَسْتَطِعْهُ الْأَوَائِلُ وَأَيُّ جَوَادٍ لَمْ يُحَلَّ لِجَامُهُ ... وَنِضْوُ يَمَانٍ أَغْفَلَتْهُ الصَّيَاقِلُ وَإِنْ كَانَ فِي لُبْسِ الْفَتَى شَرَفٌ لَهُ ... فَمَا السَّيْفُ إلَّا غِمْدُهُ وَالْحَمَائِلُ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْآدَمِيُّ خُلِقَ مِنْ التُّرَابِ، وَالتُّرَابُ مِنْ الْأَرْضِ، وَهِيَ تَارَةً تُعَرَّى وَأُخْرَى تُكْتَسَى. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَغْتَرُّ بِاللِّبَاسِ، فَإِنَّ الذَّاتَ أَشْرَفُ مِنْهُ، وَلَا يَغْتَرُّ بِالْأَجْسَامِ فَإِنَّ وَرَاءَ هَذَا الْجِسْمِ مَا هُوَ أَشْرَفُ مِنْهُ وَأَرْقَى مَنْزِلَةً، وَأَعْظَمَ شَأْنًا. يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ ... أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ فِيمَا فِيهِ خُسْرَانُ أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ... فَأَنْتَ بِالرُّوحِ لَا بِالْجِسْمِ إنْسَانُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ مِشْيَةِ الْمُطَيْطَا: وَيُكْرَهُ فِي الْمَشْيِ الْمُطَيْطَا وَنَحْوُهَا ... مَظِنَّةَ كِبْرٍ غَيْرَ فِي حَرْبِ جُحَّدِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (فِي الْمَشْيِ) جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ (الْمُطَيْطَا) نَائِبُ فَاعِلٍ أَيْ يَكْرَهُ الشَّارِعُ الْمُطَيْطَا كَجُمَيْزَا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: التَّبَخْتُرُ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ فِي الْمَشْيِ، وَيُقْصَرُ كَالْمُطَيْطَا انْتَهَى. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ «إذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَا» هِيَ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ مِشْيَةٌ فِيهَا تَبَخْتُرٌ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ، وَيُقَالُ مَطَوْت وَمَطَطْت بِمَعْنَى مَدَدْت، وَهِيَ مِنْ الْمُصَغَّرَاتِ الَّتِي لَمْ تُسْتَعْمَلْ لَهَا مُكَبَّرٌ. وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَيْتِ: الْمُطَيْطَاءُ، بِضَمِّ الْمِيمِ مَمْدُودًا وَقَصَرَهُ النَّاظِمُ ضَرُورَةً. انْتَهَى. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْقَصْرَ لُغَةٌ فِيهَا لَا ضَرُورَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا كُرِهَتْ مِشْيَةُ الْمُطَيْطَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ رَوَائِحَ لِلْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالزَّهْوِ وَالْعُجْبِ؛ فَلِهَذَا نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ضِمْنِ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَاءَ، وَخَدَمَتْهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ سُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْمُطَيْطَاءُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الطَّاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتُ مَمْدُودًا وَيُقْصَرُ التَّبَخْتُرُ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ فِي الْمَشْيِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهَا الْإِمَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ «إذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَاءَ وَخَدَمَتْهُمْ أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ أَبْنَاءُ فَارِسَ وَالرُّومِ سَلَّطَ اللَّهُ - تَعَالَى - خِيَارَهَا عَلَى شِرَارِهَا» . (وَ) يُكْرَهُ فِي الْمَشْيِ (نَحْوُهَا) أَيْ نَحْوُ الْمُطَيْطَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ وَشَبَهُهَا بَدَلَ وَنَحْوُهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ يَعْنِي أَنَّ مِشْيَةَ الْمُطَيْطَاءِ وَمَا قَارَبَهَا مِنْ الْمِشْيَاتِ مَكْرُوهٌ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ (مَظِنَّةَ كِبْرٍ) أَيْ إنَّمَا كُرِهَتْ هَذِهِ الْمِشْيَةُ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْكِبْرِ أَوْ لِئَلَّا يُظَنَّ بِهِ الْكِبْرُ، فَإِنْ كَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَيْهَا الْكِبْرَ وَالْعُجْبَ حُرِّمَتْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ، وَتَقَدَّمَ مِنْ مَثَالِبِ ذَلِكَ مَا فِيهِ غُنْيَةٌ، وَالْمَظِنَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الظَّنِّ وَهُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْمَرْجُوحُ يُسَمَّى وَهْمًا. مَطْلَبٌ: فِي عَدَمِ كَرَاهَةِ التَّبَخْتُرِ فِي الْحَرْبِ. ثُمَّ لَمَّا لَمْ تَكُنْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ مُطْلَقَةً، بَلْ قَدْ يُبَاحُ التَّبَخْتُرُ وَالْخُيَلَاءُ وَالتَّكَبُّرُ وَذَلِكَ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ أَشَارَ النَّاظِمُ إلَى اسْتِثْنَاءِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (غَيْرَ) أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْمُطَيْطَاءُ وَالتَّبَخْتُرُ وَلَا الْكِبْرُ وَالْخُيَلَاءُ (فِي) حَالَةِ (حَرْبِ جُحَّدِ) جَمْعُ جَاحِدٍ، أَيْ كُفَّارٌ، يُقَالُ جَحَدَهُ حَقَّهُ كَمَنَعَهُ جَحْدًا وَجُحُودًا أَنْكَرَهُ مَعَ عِلْمِهِ، وَالْكَافِرُ قَدْ أَنْكَرَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إنَّمَا لَمْ يُكْرَهْ فِي حَالَةِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إظْهَارُ الْقُوَّةِ وَالْجَلَدِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالْعَدُوِّ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَتِيكٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يَبْغَضُ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ، فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ عَلَى الْقِتَالِ وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يَبْغَضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُهُ فِي الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ» . وَفِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَالْبَزَّارُ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ قَالُوا: «عَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ كُلُّ إنْسَانٍ يَقُولُ أَنَا، فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ، فَقَامَ رِجَالٌ فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ» . وَعِنْدَ ابْنِ عُقْبَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا عَرَضَهُ طَلَبَهُ مِنْهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ طَلَبَهُ الزُّبَيْرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَوَجَدَا فِي أَنْفُسِهِمَا مِنْ ذَلِكَ» . وَعِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ «أَنَّ الزُّبَيْرَ طَلَبَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَفِي الطَّبَرَانِيِّ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَامَ فَطَلَبَهُ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ فَقَامَ إلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ بِضَمِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْجِيمِ وَالنُّونِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاسْمُهُ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَبِالْكَافِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ خَرَشَةَ وَالرَّاءِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ،» «فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِيَ، قَالَ: أَنَا آخُذُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِحَقِّهِ، قَالَ لَعَلَّك إنْ أَعْطَيْتُكَهُ تُقَاتِلُ فِي الْكَيُّولِ، قَالَ لَا» ، قَالَ الشَّمْسُ الشَّامِيُّ: الْكَيُّولُ بِكَافٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ مَضْمُومَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَتُخَفَّفُ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ: آخِرُ الْقَوْمِ أَوْ آخِرُ الصُّفُوفِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ فَيْعُولُ مِنْ كَالَ الزَّنْدَ يَكِيلُ كَيْلًا إذَا كَبَى أَيْ لَمْ يُخْرِجْ نَارًا، وَذَلِكَ لَا نَفْعَ فِيهِ، فَشَبَّهَ مُؤَخَّرَ الصُّفُوفِ بِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِيهِ لَا يُقَاتِلُ وَقِيلَ: الْكَيُّولُ الْجَبَانُ انْتَهَى فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، «وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ رَجُلًا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ وَكَانَ لَهُ عِصَابَةٌ حَمْرَاءُ يُعْلَمُ بِهَا عِنْدَ الْحَرْبِ يَعْتَصِبُ بِهَا، فَإِذَا اعْتَصَبَ بِهَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ، فَلَمَّا أَخَذَ السَّيْفَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْرَجَ عِصَابَتَهُ تِلْكَ فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ أَخْرَجَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ الْمَوْتِ، وَهَكَذَا كَانَتْ تَقُولُ إذَا اعْتَصَبَ بِهَا ثُمَّ جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَآهُ يَتَبَخْتَرُ إنَّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ إلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ.» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 قَالَ الزُّبَيْرُ: «وَلَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّيْفَ لِأَبِي دُجَانَةَ وَجَدْت فِي نَفْسِي حِينَ سَأَلْته فَمَنَعَنِي وَأَعْطَاهُ إيَّاهُ وَقُلْت: أَنَا ابْنُ صَفِيَّةَ عَمَّةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قُمْت إلَيْهِ وَسَأَلْته إيَّاهُ قَبْلَهُ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ وَتَرَكَنِي، لَأَنْظُرَنَّ مَا يَصْنَعُ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ فَخَرَجَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي ... وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ أَنْ لَا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكُيُولِ ... أَضْرِبْ بِسَيْفِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ » الْقِصَّةَ وَمَحَلُّ الدَّلِيلِ تَبَخْتُرُ أَبِي دُجَانَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ: وَذَلِكَ لِاسْتِهَانَتِهِ لِأَمْرِ الْمُشْرِكِينَ وَقِلَّةِ هَيْبَتِهِمْ عِنْدَهُ. فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْحَامِلِ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَلَى الْإِقْدَامِ وَالْجُرْأَةِ عَلَيْهِمْ وَالِاحْتِقَارِ لَهُمْ وَعَدَمِ الِاحْتِفَالِ بِشَأْنِهِمْ. وَأَمَّا اخْتِيَالُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الصَّدَقَةِ يَعْنِي عِنْدَ دَفْعِهِ لِلصَّدَقَةِ فَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ هِمَّتِهِ وَشَرَفِ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَكْثِرُ كَثِيرَهَا، وَإِنْ جَلَّ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . مَطْلَبٌ: الْمِشْيَاتُ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ: الْمِشْيَاتُ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ، أَحْسَنُهَا وَأَسْكَنُهَا مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ» . وَقَالَ مَرَّةً: «إذَا مَشَى تَقَلَّعَ» ، وَالتَّقَلُّعُ الِارْتِفَاعُ مِنْ الْأَرْضِ بِجُمْلَتِهِ كَحَالِ الْمُنْحَطِّ فِي الصَّبَبِ، يَعْنِي يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ رَفْعًا بَائِنًا بِقُوَّةٍ، وَالتَّكَفُّؤُ التَّمَايُلُ إلَى قُدَّامَ، كَمَا تَتَكَفَّأُ السَّفِينَةُ فِي جَرْيِهَا، وَهُوَ أَعْدَلُ الْمِشْيَاتِ. قُلْت: وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَا رَأَيْت أَحَدًا أَسْرَعَ مِشْيَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، كُنَّا إذَا مَشِينَا مَعَهُ نُجْهِدُ أَنْفُسَنَا، وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا مَشَى مَشَى مُجْتَمِعًا لَيْسَ فِيهِ كَسَلٌ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 وَابْنُ سَعْدٍ عَنْ مَرْثَدِ بْنِ مُرْشِدٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَشَى أَسْرَعَ حَتَّى يُهَرْوِلَ الرَّجُلُ فَلَا يُدْرِكُهُ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَزَادَ: «وَإِذَا مَشَى لَكَأَنَّمَا يَمْشِي فِي صُعُدٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ سَعْدٍ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا مَشَى تَقَطَّعَ كَأَنَّمَا يَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ» . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْ أَنَّ مِشْيَتَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَكُنْ بِمُمَاتَةٍ وَلَا بِمُهَانَةٍ، وَالصَّبَبُ بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى: الْمَوْضِعُ الْمُنْحَدِرُ مِنْ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى سُرْعَةِ مَشْيِهِ؛ لِأَنَّ الْمُنْحَدِرَ لَا يَكَادُ يَثْبُتُ فِي مَشْيِهِ، وَالتَّقَطُّعُ الِانْحِدَارُ مِنْ الصَّبَبِ، وَالتَّقَطُّعُ مِنْ الْأَرْضِ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ. يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعْمِلُ التَّثَبُّتَ وَلَا يُبَيَّنُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ اسْتِعْجَالٌ وَمُبَادَرَةٌ شَدِيدَةٌ، وَأَرَادَ بِهِ قُوَّةَ الْمَشْيِ، وَأَنَّهُ يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ رَفْعًا قَوِيًّا لَا كَمَنْ يَمْشِي اخْتِيَالًا وَيُقَارِبُ خَطْوَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَشْيِ النِّسَاءِ. نَعَمْ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُقَارِبَ خُطَاهُ إذَا كَانَ ذَاهِبًا إلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ كَمَا مَرَّ. فَأَعْدَلُ الْمِشْيَاتِ مِشْيَتُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ الْمَاشِيَ إنْ كَانَ يَتَمَاوَتُ فِي مِشْيَتِهِ وَيَمْشِي قِطْعَةً وَاحِدَةً كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ مَحْمُولَةٌ فَمِشْيَةٌ قَبِيحَةٌ مَذْمُومَةٌ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الثَّانِيَةُ مِنْ الْمِشْيَاتِ: أَنْ يَمْشِيَ بِانْزِعَاجٍ وَاضْطِرَابٍ، مَشْيَ الْجَمَلِ الْأَهْوَجِ، وَهِيَ مَذْمُومَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ عَلَامَةٌ عَلَى خِفَّةِ عَقْلِ صَاحِبِهَا، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ يَمِينًا وَشِمَالًا. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمْشِيَ هَوْنًا وَهِيَ مِشْيَةُ عِبَادِ الرَّحْمَنِ. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ كِبْرٍ وَلَا تَمَاوُتٍ، وَهِيَ مِشْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 الرَّابِعَةُ: السَّعْيُ. الْخَامِسَةُ: الرَّمَلُ وَتُسَمَّى الْخَبَبَ، وَهِيَ إسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا بِخِلَافِ السَّعْيِ. السَّادِسَةُ: السَّيَلَانُ، وَهُوَ الْعَدْوُ الْخَفِيفُ بِلَا انْزِعَاجٍ. السَّابِعَةُ: الْخَوْزَلَى، وَهِيَ مِشْيَةٌ فِيهَا تَكَبُّرٌ وَتَخَنُّثٌ. الثَّامِنَةُ: الْقَهْقَرَى وَهِيَ الْمَشْيُ إلَى وَرَائِهِ. التَّاسِعَةُ: الْجَمَزَى يَثِبُ فِيهَا وَثْبًا. الْعَاشِرَةُ: التَّمَايُلُ كَمِشْيَةِ النِّسْوَانِ. وَإِذَا مَشَى بِهَا الرَّجُلُ كَانَ مُتَبَخْتِرًا. وَأَعْلَاهَا مِشْيَةُ الْهَوْنِ وَالتَّكَفُّؤِ انْتَهَى. مَطْلَبٌ: حُكْمُ الْمَشْيِ مَعَ الْغَيْرِ. (الثَّانِي) : قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ: مَنْ مَشَى مَعَ إنْسَانٍ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ، وَأَعْلَمَ فَعَنْ يَمِينِهِ يُقِيمُهُ مَقَامَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَا سَوَاءً اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ لَهُ يَسَارَهُ حَتَّى لَا يُضَيِّقَ عَلَيْهِ جِهَةَ الْبُصَاقِ وَالِامْتِخَاطِ. وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ اسْتِحْبَابُ مَشْيِ الْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْكَبِيرِ، وَإِنْ مَشَوْا عَلَى جَانِبَيْهِ فَلَا بَأْسَ كَالْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ أَنَّهُ هُوَ وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَشَيَا عَنْ جَانِبَيْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ سَيِّدِي عَبْدُ الْقَادِرِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ يَجْعَلُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَمْشِي عَنْ يَسَارِهِ. وَقَدْ قِيلَ: الْمُسْتَحَبُّ الْمَشْيُ عَنْ الْيَمِينِ فِي الْجُمْلَةِ لِتَخَلِّي الْيَسَارِ لِلْبُصَاقِ وَغَيْرِهِ. انْتَهَى. (الثَّالِثُ) : قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ -: إذَا أَذِنَ لَهُ، وَمَعَهُ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ بِيَوْمٍ قَدَّرَ الْأَكْبَرَ فِي الدُّخُولِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَمَرَنِي جِبْرِيلُ أَنْ أُكَبِّرَ، وَقَالَ: قَدِّمُوا الْكَبِيرَ» . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مُعَوِّذٍ: كُنْت أَمْشِي مَعَ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ فَصِرْنَا إلَى مَضِيقٍ فَتَقَدَّمَنِي ثُمَّ قَالَ: لَوْ كُنْت أَعْلَمُ أَنَّك أَكْبَرَ مِنِّي بِيَوْمٍ مَا تَقَدَّمْتُكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 مَطْلَبٌ: فِي تَقْدِيمِ الصَّغِيرِ الْعَالِمِ عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَإِنْ كَانَ الْأَصْغَرُ أَعْلَمَ فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى. ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: كُنْت مَعَ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ يَوْمًا نَعُودُ مَرِيضًا فَلَمَّا حَاذَيْنَا الْبَابَ تَأَخَّرَ إِسْحَاقُ وَقَالَ لِيَحْيَى تَقَدَّمْ أَنْتَ يَا أَبَا زَكَرِيَّا أَنْتَ أَكْبَرُ مِنِّي، قَالَ نَعَمْ أَنَا أَكْبَرُ مِنْك، وَأَنْتَ أَعْلَمُ مِنِّي، فَتَقَدَّمَ إِسْحَاقُ. انْتَهَى. قَالَ الْحَجَّاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَهُ التَّقْدِيمُ يَتَقَدَّمُ عَمَلًا بِالسُّنَّةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْسُنُ مِنْهُ، وَأَنَّ الْأَعْلَمَ يُقَدَّمُ مُطْلَقًا، وَلَا اعْتِبَارَ مَعَهُ إلَى سِنٍّ، وَلَا صَلَاحٍ، وَلَا شَيْءٍ، وَأَنَّ الْأَسَنَّ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَوْرَعِ وَالْأَدْيَنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ فَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْعِلْمِ وَالسِّنِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ مَنْ لَهُ مَزِيَّةٌ بِدِينٍ أَوْ وَرَعٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ حَدِيثَ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. قُلْت: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَلَفْظُ حَدِيثِ أَحْمَدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا بِلَفْظِ «لَيْسَ مِنَّا» إلَخْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ نَوْمِ اثْنَيْنِ عُرْيًا تَحْتَ لِحَافٍ وَاحِدٍ: وَيُكْرَهُ لُبْسُ الْأُزُرِ وَالْخُفِّ قَائِمًا ... كَذَاك الْتِصَاقُ اثْنَيْنِ عُرْيًا بِمَرْقَدٍ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (لُبْسُ الْأُزُرِ) جَمْعُ إزَارٍ (وَ) لُبْسُ (الْخُفِّ) أَيْضًا حَالَ كَوْنِ اللَّابِسِ لِوَاحِدٍ مِنْهَا (قَائِمًا) وَكَذَا السَّرَاوِيلُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى اللِّبَاسِ (كَذَاك) أَيْ كَمَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْأُزُرِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ قَائِمًا يُكْرَهُ أَيْضًا، وَهُوَ آكَدُ فِي الْكَرَاهَةِ مِمَّا قَبْلَهُ (الْتِصَاقُ) مِنْ لَصِقَ بِالصَّادِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ. وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ كَانَتْ السِّينُ فِيهَا وَجَاءَ بَعْدَهَا أَحَدُ الْحُرُوفِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ الْخَاءُ وَالطَّاءُ وَالْغَيْنُ وَالْقَافُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ إبْدَالُ الصَّادِ مِنْ السِّينِ مِثْلُ صَخَبٍ وَسِرَاطٍ وَسَغْبٍ وَصَقْرٍ. وَمِنْهُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ يُقَالُ لَسِقَ وَلَصِقَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيُكْرَهُ الْتِصَاقُ (اثْنَيْنِ) يَعْنِي يُكْرَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 أَنْ يَتَجَرَّدَ ذَكَرَانِ أَوْ أُنْثَيَانِ (عُرْيًا) بِأَنْ يَنَامَا فِي إزَارٍ أَوْ لِحَافٍ وَاحِدٍ وَلَا ثَوْبٍ بَيْنَهُمَا (بِمَرْقَدٍ) مَحَلُّ الرُّقُودِ يَعْنِي النَّوْمَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ مُبَاشَرَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ» . وَثِنْتَيْنِ وَافْرُقْ فِي الْمَضَاجِعِ بَيْنَهُمْ ... لَوْ إخْوَةً مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ تُسَدَّدْ (وَ) كَذَا يُكْرَهُ الْتِصَاقُ (ثِنْتَيْنِ) يَعْنِي أُنْثَيَيْنِ «لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ» . قُلْت: فَإِنْ مَسَّ أَحَدُهُمَا عَوْرَةَ الْآخَرِ حُرِّمَ عَلَى الْمَاسِّ؛ لِأَنَّ اللَّمْسَ كَالنَّظَرِ، وَأَوْلَى. وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الرِّعَايَةِ وَقَيَّدَ الْكَرَاهَةَ بِكَوْنِهِمَا مُمَيَّزَيْنِ، ثُمَّ قَالَ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا غَيْرَ زَوْجٍ وَسَيِّدٍ وَمَحْرَمٍ احْتَمَلَ التَّحْرِيمَ. قُلْت: إنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَاءُ فَلَا شَكَّ فِي الْحُرْمَةِ. وَإِلَّا فَكَذَلِكَ فِيمَا يَظْهَرُ. ثُمَّ رَأَيْته فِي الْآدَابِ مُصَرَّحًا. (وَافْرُقْ) أَيُّهَا الْوَلِيُّ (فِي الْمَضَاجِعِ) جَمْعُ مَضْجَعٍ مَوْضِعُ الضُّجُوعِ يَعْنِي النَّوْمَ وَأَصْلُهُ وَضْعُ الْجَنْبِ بِالْأَرْضِ (بَيْنَهُمْ) أَيْ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنْ أَوْلَادِك وَمَنْ لَك عَلَيْهِمْ الْوِلَايَةُ وَلَا تَدَعْهُمْ يَنَامُونَ سَوِيَّةً وَلَوْ كَانُوا (إخْوَةً) سَدًّا لِبَابِ الذَّرَائِعِ وَحَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْك (مِنْ بَعْدِ) بُلُوغِهِمْ لِ (عَشْرٍ) مِنْ السِّنِينَ مِنْ حِينِ وِلَادَتِهِمْ، فَإِنْ فَعَلْت مَا أُمِرْت بِهِ (تُسَدَّدْ) أَيْ تُوَفَّقُ لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتُقَوَّمُ لِسُلُوكِ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: سَدَّدَهُ تَسْدِيدًا قَوَّمَهُ، وَوَفَّقَهُ لِلسَّدَادِ أَيْ الصَّوَابِ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ. وَأَمَّا سِدَادُ الْقَارُورَةِ وَالثَّغْرِ فَبِالْكَسْرِ فَقَطْ، وَسِدَادٌ مِنْ عَوَزٍ وَعَيْشٍ لِمَا يُسَدُّ بِهِ الْخَلَّةَ وَقَدْ يُفْتَحُ أَوْ هُوَ لَحْنٌ. انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا امْتَثَلَ لِأَوَامِرِ الشَّارِعِ كَانَ حَرِيًّا أَنْ يُوَفَّقَ لِلصَّوَابِ، أَوْ أَنَّ فِعْلَهُ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ الصَّوَابُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرُهُمْ: مَنْ بَلَغَ مِنْ الصِّبْيَانِ عَشْرَ سِنِينَ مُنِعَ مِنْ النَّوْمِ مَعَ أُخْتِهِ وَمَعَ مَحْرَمٍ وَغَيْرِهِمَا مُتَجَرِّدِينَ، وَهَذَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ كَمَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَالرِّعَايَةِ وَاخْتَارَ أَكْثَرُ عُلَمَائِنَا وُجُوبَ التَّفْرِيقِ فِي ابْنِ سَبْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ، وَأَنَّ لَهُ عَوْرَةً يَجِبُ حِفْظُهَا. وَيُتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ تَجَرُّدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 مَنْ لَا حُكْمَ لِعَوْرَتِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ مَعَ مُبَاشَرَةِ الْعَوْرَةِ لِوُجُوبِ حِفْظِهَا إذَنْ وَمَعَ عَدَمِ مُبَاشَرَتِهَا. فَإِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ فَإِنْ أُمِنَ ثَوَرَانُ الشَّهْوَةِ جَازَ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ الْكَرَاهَةَ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِهَا، وَإِنْ خِيفَ ثَوَرَانُهَا حَرُمَ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لِمَنْعِ النَّظَرِ حَيْثُ أُبِيحَ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا عَلَى نَصِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْأَصْحَابُ. وَإِنْ كَانَا ذَكَرًا وَأُنْثَى فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَحْرَمًا فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَالتَّحْرِيمُ وَاضِحٌ لِمَعْنَى الْخَلْوَةِ وَمَظِنَّةِ الشَّهْوَةِ وَحُصُولِ الْفِتْنَةِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ» - وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ» - وَفِي لَفْظٍ: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ» وَفِي لَفْظٍ فِي سَبْعِ سِنِينَ، «وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا فِي عَشْرٍ» - وَفِي لَفْظٍ: «اضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» . وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي آدَابِ النِّسَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ الصَّلَاةَ إذَا بَلَغُوا سَبْعَ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ إذَا بَلَغُوا عَشْرًا، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ رَبِيعِ بْنِ سَبُرَةَ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ سَبْعَ سِنِينَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا بَلَغَ عَشْرًا ضُرِبَ عَلَيْهَا» . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ: إنْ صَحَّ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُعْتَادُ مِنْ اجْتِمَاعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ» فَأَمَّا إنْ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا فَعَلَى مَا سَبَقَ، فَأَمَّا الْمَحَارِمُ فَلَا مَنْعَ إلَّا ذُكُورًا وَإِنَاثًا، فَالْمَنْعُ وَالْكَرَاهَةُ مَعَ التَّجَرُّدِ مُحْتَمَلَةٌ لَا الْمَنْعُ مُطْلَقًا. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ نَوْمِ الْمَرْءِ قَبْلَ غَسْلِ الْفَمِ وَالْيَدَيْنِ مِنْ الدَّسَمِ وَيُكْرَهُ نَوْمُ الْمَرْءِ مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ ... مِنْ الدُّهْنِ وَالْأَلْبَانِ لِلْفَمِ وَالْيَدِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (نَوْمُ الْمَرْءِ) مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى إذَا أَكَلَ دَسَمًا لَهُ دُهْنِيَّةٌ أَوْ لَبَنًا (مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ) أَيْ غَسْلِ الْمَرْءِ الَّذِي أَكَلَ، وَمِثْلُهُ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 حَتَّى حَصَلَ لَهُ تَلْوِيثٌ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَأْكُلْ (مِنْ الدُّهْنِ) الْجَارُ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِغَسْلِهِ. وَالدُّهْنُ كُلُّ مَا لَهُ دُهْنِيَّةٌ مِنْ الْوَدَكِ وَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَنَحْوِهَا (وَ) مِنْ (الْأَلْبَانِ) جَمْعُ لَبَنٍ لِأَنَّ لِأَثَرِهِ دَسَمًا وَزُهُومَةً وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» إسْنَادٌ حَسَنٌ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْغَمَرُ بِالتَّحْرِيكِ الدَّسَمُ وَالزُّهُومَةُ مِنْ اللَّحْمِ كَالْوَضَرِ مِنْ السَّمْنِ، وَالْوَضَرُ الْأَثَرُ مِنْ غَيْرِ الطِّيبِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ «جَعَلَ يَأْكُلُ وَيَتَتَبَّعُ بِاللُّقْمَةِ وَضَرَ الصَّحْفَةِ» أَيْ دَسَمَهَا وَأَثَرَ الطَّعَامِ فِيهَا. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ «فَسَكَبَتْ لَهُ فِي صَحْفَةٍ إنِّي لَأَرَى فِيهَا وَضَرَ الْعَجِينِ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ، وَقَالَ: إنَّ لَهُ دَسَمًا» . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَبَ شَاةً وَشَرِبَ مِنْ لَبَنِهَا وَدَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ فَاهُ وَقَالَ: إنَّ لَهُ دَسَمًا» وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الضَّحَّاكِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ لَبَنًا فَلَمْ يَتَمَضْمَضْ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» فَضَعِيفٌ، وَعَلَى فَرْضِ ثُبُوتِهِ فَيَكُونُ تَرْكُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَقُولُ بِالْكَرَاهَةِ حَيْثُ تَرَكَ غَسْلَ أَثَرِ الدُّهْنِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَهُ دُسُومَةٌ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ (لِلْفَمِ) مُتَعَلِّقٌ بِغَسْلِهِ (وَالْيَدِ) مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ «إنَّ الشَّيْطَانَ حَسَّاسٌ لَحَّاسٌ فَاحْذَرُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي آدَابِ الْأَكْلِ وَهَذَا إنَّمَا ذُكِرَ هُنَا لِأَنَّهُ مِنْ آدَابِ النَّوْمِ أَيْضًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ النَّوْمِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَنَوْمُك بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ أَوْ عَلَى ... قَفَاك وَرَفْعُ الرِّجْلِ فَوْقَ أُخْتِهَا اُمْدُدْ (وَ) يُكْرَهُ (نَوْمُك) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ (بَعْدَ) صَلَاةِ (الْفَجْرِ) لِأَنَّهَا سَاعَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 تُقَسَّمُ فِيهَا الْأَرْزَاقُ فَلَا يَنْبَغِي النَّوْمُ فِيهَا، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَأَى ابْنًا لَهُ نَائِمًا نَوْمَةَ الصُّبْحَةِ فَقَالَ لَهُ: قُمْ أَتَنَامُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي تُقَسَّمُ فِيهَا الْأَرْزَاقُ. وَعَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّ الْأَرْضَ تَعِجُّ مِنْ نَوْمِ الْعَالِمِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتُ طَلَبِ الرِّزْقِ وَالسَّعْيِ فِيهِ شَرْعًا وَعُرْفًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» . وَفِي غَرِيبِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «إيَّاكَ وَنَوْمَةَ الْغَدَاةِ فَإِنَّهَا مَبْخَرَةٌ مَجْفَرَةٌ مَجْعَرَةٌ» قَالَ: وَمَعْنَى مَبْخَرَةٍ تَزِيدُ فِي الْبُخَارِ وَتُغَلِّظُهُ. وَمَجْفَرَةٌ قَاطِعَةٌ لِلنِّكَاحِ. وَمَجْعَرَةٌ مُيَبَّسَةٌ لِلطَّبِيعَةِ ". (وَ) يُكْرَهُ نَوْمُك أَيْضًا بَعْدَ (الْعَصْرِ) فَإِنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَقْلِ مَنْ نَامَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُكْرَهُ أَنْ يَنَامَ بَعْدَ الْعَصْرِ يُخَافُ عَلَى عَقْلِهِ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ نَامَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَاخْتُلِسَ عَقْلُهُ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. قَالَ فِي شَرْحِ أَوْرَادِ أَبِي دَاوُد: كُلَّمَا قَرُبَ النَّوْمُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ يَعْنِي طَرَفَيْ النَّهَارِ قَلَّ نَفْعُهُ وَكَثُرَ ضَرَرُهُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ النَّوْمِ عَلَى الْقَفَا وَوَضْعِ الرِّجْلِ فَوْقَ أُخْتِهَا (أَوْ) أَيْ وَيُكْرِهُ نَوْمُك مُسْتَلْقِيًا (عَلَى قَفَاك) أَيْ عَلَى ظَهْرِك (وَرَفْعُ الرِّجْلِ) أَيْ رَفْعُ الْمُسْتَلْقِي إحْدَى رِجْلَيْهِ (فَوْقَ أُخْتِهَا) أَيْ الرِّجْلِ الْأُخْرَى بَلْ اُتْرُكْ هَذِهِ النَّوْمَةَ، وَاتْرُكْ رَفْعَ إحْدَى رِجْلَيْك عَلَى الْأُخْرَى وَ (اُمْدُدْ) لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِتَسْلَمَ مِنْ الْمَكْرُوهِ وَتَفُوزَ بِالِامْتِثَالِ الْوَارِدِ عَنْ الشَّارِعِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا. وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ لَا سِيَّمَا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ فَإِنْ كَانَ لَهُ سَرَاوِيلُ فَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِمَا قَدَّمْنَا بِهِ فِي آدَابِ الْمَسَاجِدِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَسْتَلْقِي وَيَضَعُ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ قَدْ رُوِيَ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَأْمَنُ انْكِشَافَ الْعَوْرَةِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَعَدَمُهَا فِي حَقِّ مَنْ أَمِنَ ذَلِكَ كَمَنْ لَهُ سَرَاوِيلُ. وَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ نَصُّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَأَمَّا لَوْ وَضَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى أَوْ اسْتَلْقَى، وَلَمْ يَضَعْ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فَلَا كَرَاهَةَ. وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا حَيْثُ اجْتَمَعَ الِاسْتِلْقَاءُ وَوَضْعُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى لَكِنَّ عِبَارَةَ الْإِقْنَاعِ صَرِيحَةٌ فِي كَرَاهَةِ نَوْمِهِ عَلَى قَفَاهُ إنْ خَافَ انْكِشَافَ عَوْرَتِهِ، وَعِبَارَتُهُ: وَيُكْرَهُ نَوْمُهُ عَلَى بَطْنِهِ، وَعَلَى قَفَاهُ إنْ خَافَ انْكِشَافَ عَوْرَتِهِ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ وَتَحْتَ السَّمَاءِ مُتَجَرِّدًا. انْتَهَى. وَفِي إعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَسْتَلْقِي عَلَى قَفَاهَا وَتَنَامُ يُكْرَهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إيْ وَاَللَّهِ. وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَرِهَهُ. وَرَوَاهُ الْخَلَّالُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ. وَكَانَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مَظِنَّةَ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ أَقْرَبَ لِوُصُولِ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ إلَيْهَا، وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلطَّمَعِ فِيهَا، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: نَوْمُ الْقَائِلَةِ مُسْتَحَبٌّ. (تَتِمَّةٌ) : الْقَائِلَةُ نِصْفُ النَّهَارِ مُسْتَحَبٌّ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَانَ أَبِي يَنَامُ نِصْفَ النَّهَارِ شِتَاءً كَانَ أَوْ صَيْفًا لَا يَدَعُهَا، وَيَأْخُذُنِي بِهَا، وَيَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ. قُلْت وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا، وَلَمْ يَزِدْ فِي التَّمْيِيزِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ فِي تَسْهِيلِ السَّبِيلِ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقِيلَ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الْعَلْقَمِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: بِجَانِبِهِ عَلَامَةُ الْحَسَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 بِخَطِّ الْمُؤَلِّفِ يَعْنِي الْجَلَالَ السُّيُوطِيَّ وَأَنَّهُ رَمَزَ بِلِحُسْنِهِ. وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: فِي إسْنَادِهِ كَذَّابٌ، فَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ حَسَنٌ غَيْرُ صَوَابٍ. انْتَهَى. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالْقَيْلُولَةُ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفَ النَّهَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا نَوْمٌ. يُقَالُ: قَالَ يَقِيلُ قَيْلُولَةً فَهُوَ قَائِلٌ. وَمِنْهُ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مَا مُهَاجِرٌ كَمَنْ قَالَ: أَيْ لَيْسَ مَنْ هَاجَرَ عَنْ وَطَنِهِ أَوْ خَرَجَ فِي الْهَاجِرَةِ كَمَنْ سَكَنَ فِي بَيْتِهِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ وَأَقَامَ بِهِ. قَالَ: وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْقَائِلَةِ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهَا فِي الْحَدِيثِ. وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ قَالَا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ أَيْ نَزَلَا فِيهَا عِنْدَ الْقَائِلَةِ إلَّا أَنَّهُ عَدَّاهُ بِغَيْرِ حَرْفِ جَرٍّ. لَكِنَّ مُرَادَ الْعُلَمَاءِ اسْتِحْبَابُ النَّوْمِ وَقْتَ الْقَائِلَةِ. فَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ ضَبَطَهُنَّ فَقَدْ ضَبَطَ الصَّوْمَ مَنْ قَالَ: وَتَسَحَّرَ، وَأَكَلَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَ» . وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَوْمَةُ نِصْفِ النَّهَارِ تَزِيدُ فِي الْعَقْلِ. قَالَ الشَّاعِرُ أَلَا إنَّ نَوْمَاتِ الضُّحَى تُورِثُ الْفَتَى ... خَبَالًا وَنَوْمَاتُ الْعُصُورِ جُنُونُ أَلَا إنَّ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ نَوْمَةً ... تُحَاكِي لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ فُنُونُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ". (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّ النَّوْمَ بِالنَّهَارِ لَا يُكْرَهُ شَرْعًا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا لِعَدَمِ دَلِيلِ الْكَرَاهَةِ إلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ، أَيْ وَبَعْدَ الْفَجْرِ كَمَا هُوَ وَبَعْدَ الْفَجْرِ كَمَا هُوَ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ وَهُوَ مِنْ فُحُولِ الْأَصْحَابِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ وَجَزَمَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ قَالَ أَظُنُّهُ صَاحِبَ النَّظْمِ بِكَرَاهَةِ النَّوْمِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَأَنَّهُ تُسْتَحَبُّ الْقَائِلَةُ. قَالَ: وَالْقَائِلَةُ النَّوْمُ فِي الظَّهِيرَةِ. قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَيُرْوَى أَنَّ الْإِمَامَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ رَأَى مُعَاوِيَةَ حَمَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 اللَّحْمَ، فَقَالَ يَا مُعَاوِيَةُ مَا هَذَا لَعَلَّك تَنَامُ نَوْمَةَ الضُّحَى؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك اللَّهُ. وَاقْتَصَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ أَنَّ نَوْمَ النَّهَارِ رَدِيءٌ يُورِثُ الْأَمْرَاضَ الرُّطُوبِيَّةَ وَالنَّوَازِلَ، وَيُفْسِدُ اللَّوْنَ، وَيُورِثُ الطِّحَالَ، وَيُرْخِي الْعَصَبَ، وَيُكْسِلُ وَيُضْعِفُ الشَّهْوَةَ، إلَّا فِي الصَّيْفِ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ. وَأَرْدَؤُهُ النَّوْمُ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَأَرْدَأُ مِنْهُ بَعْدَ الْعَصْرِ. مَطْلَبٌ: فِي انْقِسَامِ النَّوْمِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، وَأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّوْمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، نَوْمَةُ الْخُرْقِ، وَنَوْمَةُ الْخَلْقِ وَنَوْمَةُ الْحُمْقِ. فَنَوْمَةُ الْخُرْقِ نَوْمَةُ الضُّحَى، وَنَوْمَةُ الْخَلْقِ هِيَ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَا أُمَّتَهُ فَقَالَ «قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ» وَنَوْمَةُ الْحُمْقِ بَعْدَ الْعَصْرِ لَا يَنَامُهَا إلَّا سَكْرَانُ أَوْ مَجْنُونٌ. فَنَوْمُ الصُّبْحَةِ مُضِرٌّ جِدًّا بِالْبَدَنِ لِأَنَّهُ يُرْخِيهِ وَيُفْسِدُ الْفَضَلَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي تَحْلِيلُهَا بِالرِّيَاضَةِ. وَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مِنْ الْجَهْلِ النَّوْمُ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَالضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عُجْبٍ وَالْقَائِلَةُ تَزِيدُ فِي الْعَقْلِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ: نَوْمُ نِصْفِ النَّهَارِ يَعْدِلُ شَرْبَةَ دَوَاءٍ، يَعْنِي فِي الصَّيْفِ انْتَهَى. (الثَّانِي) : النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَلِذَا لَا يَنَامُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَلَكِنَّهُ جُعِلَ لِأَجْلِ رَاحَةِ الْبَدَنِ لِيَنْهَضَ الْإِنْسَانُ بَعْدَهُ إلَى طَاعَةِ رَبِّهِ. فَقَلِيلُهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِهِ. وَيُرْوَى أَنَّ الْمَسِيحَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: خَلْقَانِ أَكْرَهُهُمَا النَّوْمُ مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ، وَالضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عُجْبٍ، وَالثَّالِثَةُ الْعُظْمَى: إعْجَابُ الْمَرْءِ بِعَمَلِهِ. وَقَالَ دَاوُد لِابْنِهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: إيَّاكَ وَكَثْرَةَ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يُفْقِرُك إذَا احْتَاجَ النَّاسُ إلَى أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَكَثْرَةَ النَّوْمِ وَالْكَسَلَ وَالضَّجِرَ، فَإِنَّك إذَا كَسِلْت لَمْ تُؤَدِّ حَقًّا، وَإِذَا ضَجِرْت لَمْ تَصْبِرْ عَلَى حَقٍّ. وَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُ: يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرْ مِنْ النَّوْمِ فَإِنَّ النَّوَّامَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفْلِسًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 مَطْلَبٌ: فِي آفَاتِ كَثْرَةِ النَّوْمِ قَالَ فِي شَرْحِ أَوْرَادِ أَبِي دَاوُد: وَأَمَّا كَثْرَةُ النَّوْمِ فَلَهُ آفَاتٌ: مِنْهَا أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْفُسُولَةِ وَالضَّعْفِ وَعَدَمِ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ، مُسَبِّبٌ لِلْكَسَلِ وَعَادَةِ الْعَجْزِ وَتَضْيِيعِ الْعُمْرِ فِي غَيْرِ نَفْعٍ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ وَغَفْلَتِهِ وَمَوْتِهِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى هَذَا مَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً وَيُوجَدُ مُشَاهَدَةً وَيُنْقَلُ مُتَوَاتِرًا مِنْ كَلَامِ الْأُمَمِ وَالْحُكَمَاءِ السَّالِفِينَ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ وَصَحِيحِ الْأَحَادِيثِ وَآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَخَلَفَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِشْهَادِ عَلَيْهِ اخْتِصَارًا وَاقْتِصَارًا عَلَى شُهْرَتِهِ. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ مُدَافَعَةَ النَّوْمِ تُورِثُ الْآفَاتِ، وَأَنَّ الْيَقَظَةَ أَفْضَلُ مِنْ النَّوْمِ لِمَنْ يَقَظَتُهُ طَاعَةٌ (الثَّالِثُ) : لَا يَنْبَغِي مُدَافَعَةُ النَّوْمِ كَثِيرًا، وَإِدْمَانُ السَّهَرِ، فَإِنَّ مُدَافَعَةَ النَّوْمِ وَهَجْرَهُ مُورِثٌ لِآفَاتٍ أُخَرَ مِنْ سُوءِ الْمِزَاجِ وَيُبْسِهِ. وَانْحِرَافِ النَّفْسِ، وَجَفَافِ الرُّطُوبَاتِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْفَهْمِ وَالْعَمَلِ، وَتُورِثُ أَمْرَاضًا مُتْلِفَةً. وَمَا قَامَ الْوُجُودُ إلَّا بِالْعَدْلِ. فَمَنْ اعْتَصَمَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ مَجَامِعِ الْخَيْرِ. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: النُّعَاسُ يُذْهِبُ الْعَقْلَ، وَالنَّوْمُ يَزِيدُ فِيهِ. فَالنَّوْمُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِهَذَا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ. (الرَّابِعُ) الْيَقَظَةُ أَفْضَلُ مِنْ النَّوْمِ لَا مُطْلَقًا، بَلْ لِمَنْ تَكُونُ يَقَظَتُهُ طَاعَةً لَا لِمَنْ تَكُونُ يَقَظَتُهُ مَعْصِيَةً. فَإِنْ كَانَ لَوْ لَمْ يَنَمْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِخَيْرٍ وَرُبَّمَا خَالَطَ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ فَضْلًا عَنْ إتْيَانِهِ الْعَظَائِمَ مِنْ الْخَطَايَا وَالْجَرَائِمِ، فَالنَّوْمُ خَيْرٌ لَهُ، بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ إنْ كَانَ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْ مُلَابَسَةِ الْحَرَامِ إلَّا بِهِ، إذْ فِي النَّوْمِ الصَّمْتُ وَالسَّلَامَةُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّمْتُ وَالنَّوْمُ فِيهِ أَفْضَلُ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إذَا تَفَرَّغُوا أَنْ يَنَامُوا طَلَبًا لِلسَّلَامَةِ. فَإِذَنْ النَّوْمُ عَلَى قَصْدِ طَلَبِ السَّلَامَةِ وَنِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَوْ لَمْ يَنَمْ لَانْبَعَثَ فِي الْعِبَادَةِ مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْوَظَائِفِ فَهَذَا يَقَظَتُهُ خَيْرٌ مِنْ نَوْمِهِ. فَإِذَا نَامَ لِأَجْلِ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ التَّعَبُ وَالْكَسَلُ وَالسَّآمَةُ وَيَنْهَضَ إلَى الْوَظَائِفِ وَالْأَذْكَارِ عَلَى غَايَةٍ مِنْ النَّشَاطِ وَصَفَاءِ الذِّهْنِ وَالْخَاطِرِ، فَنَوْمُهُ أَيْضًا عِبَادَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ مَنْ كَانَ فِي مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فَكُلُّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ قُرُبَاتٌ وَطَاعَاتٌ. فَكَمْ بَيْنَ الْعَارِفِ الْمُتَيَقِّظِ وَالْجَاهِلِ الْغَفْلَانِ مِنْ الْبُعْدِ وَالْبَوْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ النَّوْمِ فَوْقَ سَطْحٍ غَيْرِ مُحَجَّرٍ وَيُكْرَهُ نَوْمٌ فَوْقَ سَطْحٍ وَلَمْ يُحَطْ ... عَلَيْهِ بِتَحْجِيرٍ لِخَوْفٍ مِنْ الرَّدِي (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّ الْغَالِبَ السَّلَامَةُ، وَمَا غَالِبُهُ السَّلَامَةُ لَا يَحْرُمُ فِعْلُهُ وَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ لِلْأَدَبِ. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَتَوَجَّهُ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ اخْتِلَافُ ذَلِكَ بِالْأَشْخَاصِ وَعَادَاتِهِمْ وَصِغَرِ الْأَسْلِحَةِ وَوُسْعِهَا نَظَرًا لِلْمَعْنَى (نَوْمٌ) مِنْ مُكَلَّفٍ وَلَعَلَّهُ وَتَمْكِينُ وَلِيِّ غَيْرِهِ مِنْهُ (فَوْقَ سَطْحٍ) لِبَيْتٍ وَلَعَلَّ مِثْلَهُ شَاهِقٌ مِنْ الْجِبَالِ حَيْثُ خِيفَ مِنْهُ السُّقُوطُ (وَ) الْحَالُ أَنَّ لِلسَّطْحِ وَنَحْوِهِ (لَمْ يُحَطْ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى جَوَانِبِهِ (بِتَحْجِيرٍ) يَمْنَعُ مِنْ السُّقُوطِ عَنْ الْحَائِطِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّحْجِيرِ هُنَا الْحُجْرَةُ الَّتِي تُحَاطُ عَلَى السَّطْحِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ صَاحِبَهَا النَّائِمَ مِنْ الْوُقُوعِ، لِأَنَّ النَّوْمَ زَوَالُ شُعُورٍ وَعَقْلٍ، وَقَدْ قِيلَ لِلْعَقْلِ حِجْرٌ لِأَنَّهُ يَحْجُرُ عَلَى صَاحِبِهِ الْجَهْلَ لَا يَقَعُ فِيهِ. إنَّمَا كُرِهَ النَّوْمُ عَلَى السَّطْحِ الَّذِي لَا تَحْجِيرَ عَلَيْهِ (لِ) أَجْلِ (خَوْفٍ) عَلَى النَّائِمِ (مِنْ) الْفِعْلِ (الرَّدِيءِ) أَيْ الْهُبُوطِ وَالسُّقُوطِ وَالتَّرَدِّي عَنْ السَّطْحِ الْمُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ السَّاقِطِ غَالِبًا. وَالشَّارِعُ طَبِيبُ الْأَبْدَانِ، وَمُقَوِّمُ الْأَدْيَانِ، فَلِشِدَّةِ شَفَقَتِهِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ نَهَاهُمْ عَنْ النَّوْمِ كَذَلِكَ وَيَجْرِي كَوْنُ التَّحْجِيرِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ. قَالَ مُثَنَّى: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَنَامُ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمُحَجَّرٍ؟ قَالَ مَكْرُوهٌ وَيَجْزِيهِ الذِّرَاعُ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيٍّ يَعْنِي ابْنَ شَيْبَانَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا: حِجَارٌ بِالرَّاءِ بَعْدَ الْأَلْفِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حِجَابٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْحِجَارُ جَمْعُ حِجْرٍ بِالْكَسْرِ هُوَ الْحَائِطُ أَوْ مِنْ الْحُجْرَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 وَهِيَ حَظِيرَةُ الْإِبِلِ وَيُرْوَى حِجَابٌ بِالْبَاءِ وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنْ السُّقُوطِ. وَرَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ حَجَا وَقَالَ يُرْوَى بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا وَمَعْنَاهُ فِيهَا مَعْنَى السِّتْرِ الْمَانِعِ مِنْ السُّقُوطِ بِالْعَقْلِ، وَالْفَتْحُ يُرِيدُ النَّاحِيَةَ وَالطَّرْفَ. وَأَحْجَاءُ الشَّيْءِ نَوَاحِيهِ وَاحِدُهَا حَجَا. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ اللَّهِ عَهْدٌ بِالْحِفْظِ وَالْكِلَاءَةِ، فَإِذَا أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ أَوْ فَعَلَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ أَوْ خَالَفَ مَا أُمِرَ بِهِ خَذَلَتْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ. وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ رَمَانَا بِاللَّيْلِ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ رَقَدَ عَلَى سَطْحٍ لَا جِدَارَ لَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ» . وَعَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: كُنَّا بِفَارِسَ وَعَلَيْنَا أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ زُهَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَبْصَرَ إنْسَانًا فَوْقَ بَيْتٍ أَوْ إجَّارٍ لَيْسَ حَوْلَهُ شَيْءٌ، فَقَالَ: لِي سَمِعْت فِي هَذَا شَيْئًا؟ قُلْت: لَا. قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ بَاتَ فَوْقَ إجَّارٍ أَوْ فَوْقَ بَيْتٍ لَيْسَ حَوْلَهُ شَيْءٌ يَرُدُّ رِجْلَيْهِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَمَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ بَعْدَ مَا يَرْتَجُّ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مَرْفُوعًا هَكَذَا وَمَوْقُوفًا وَرُوَاتُهُمَا ثِقَاتٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ أَيْضًا قَالَ: كُنْت مَعَ زُهَيْرٍ الشَّنَوِيِّ فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ نَائِمٍ عَلَى ظَهْرِ جِدَارٍ وَلَيْسَ لَهُ مَا يَدْفَعُ رِجْلَيْهِ فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ قُمْ، ثُمَّ قَالَ زُهَيْرٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْإِجَّارُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ هُوَ السَّطْحُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ وَيُكْرَهُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالْحَرِّ جِلْسَةٌ ... وَنَوْمٌ عَلَى وَجْهِ الْفَتَى الْمُتَمَدِّدِ (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (بَيْنَ الظِّلِّ) أَصْلُ الظِّلِّ السِّتْرُ، وَمِنْهُ أَنَا فِي ظِلِّ فُلَانٍ، وَمِنْهُ ظِلُّ الْجَنَّةِ، وَظِلُّ شَجَرِهَا، وَظِلُّ اللَّيْلِ: سَوَادُهُ، وَظِلُّ الشَّمْسِ: مَا سَتَرَ الشُّخُوصَ مِنْ مَسْقَطِهَا. ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قَالَ: وَالظِّلُّ يَكُونُ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ، وَالْفَيْءُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ فَاءَ أَيْ رَجَعَ (وَ) بَيْنَ (الْحَرِّ) ضِدُّ الْبَرْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: مَا قَابَلَ الظِّلَّ وَفِي نُسَخٍ: الشَّمْسُ بَدَلَ الْحَرِّ وَهُوَ أَوَّلُ (جِلْسَةٌ) مِنْ الْجُلُوسِ، وَهِيَ بِالْكَسْرِ حَالَةُ الْجَالِسِ، وَكَذَا يُكْرَهُ النَّوْمِ أَيْضًا. قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: يُكْرَهُ. الْجُلُوسُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ. قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُكْرَهُ الْجُلُوسُ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ؟ قَالَ: هَذَا مَكْرُوهٌ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَا. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: صَحَّ النَّهْيُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْرَجَ الْإِمَامُ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ بَيْنَ الضَّحِّ وَالظِّلِّ وَقَالَ مَجْلِسُ الشَّيْطَانِ» وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنُ مَاجَهْ بِالنَّهْيِ وَحْدَهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الضَّحُّ - بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - وَهُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ إذَا اسْتَمْكَنَ مِنْ الْأَرْضِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ لَوْنُ الشَّمْسِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْفَيْءِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «فِي الشَّمْسِ، فَقَلَصَ عَنْهُ الظِّلُّ فَصَارَ بَعْضُهُ فِي الشَّمْسِ وَبَعْضُهُ فِي الظِّلِّ فَلْيَقُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَتَابِعِيُّهُ مَجْهُولٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَفْظُهُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ» . مَطْلَبٌ: خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا مَرْفُوعًا «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَيِّدًا وَإِنَّ سَيِّدَ الْمَجَالِسِ قِبَالَةَ الْقِبْلَةِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «أَكْرَمُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شَرَفًا، وَإِنَّ أَشْرَفَ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» . وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبِي فِي الشَّمْسِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى الظِّلِّ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ «جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَقَامَ فِي الشَّمْسِ فَأَمَرَ بِهِ فَحُوِّلَ إلَى الظِّلِّ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: تَحَوَّلْ إلَى الظِّلِّ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ» . مَطْلَبٌ: فِيمَا يُورِثُهُ النَّوْمُ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ قَالَ: اسْتَقْبِلُوا الشَّمْسَ بِجِبَاهِكُمْ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَرَاهَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْجُلُوسِ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ دُونَ الْجُلُوسِ فِي الشَّمْسِ وَالنَّوْمِ فِيهَا، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي طِبِّهِ: النَّوْمُ فِي الشَّمْسِ فِي الصَّيْفِ يُحَرِّكُ الدَّاءَ الدَّفِينَ، وَالنَّوْمُ فِي الْقَمَرِ يُحِيلُ الْأَلْوَانَ إلَى الصُّفْرَةِ، وَيُثْقِلُ الرَّأْسَ. انْتَهَى. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى قَالَ جَالِينُوسُ: مَنْ أَكْثَرَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ السَّهَرِ أَوْ التَّعَرُّضِ لِلشَّمْسِ الْحَارَّةِ وَقَعَ فِي الْبِرْسَامِ سَرِيعًا. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَالْبِرْسَامُ وَرَمٌ حَارٌّ فِي الدِّمَاغِ. (فَائِدَةٌ) : قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي ظِلِّ الْمَنَارَةِ، وَكَنْسُ الْبَيْتِ بِالْخِرْقَةِ. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي كَرَاهَةِ النَّوْمِ عَلَى الْوَجْهِ. (وَ) يُكْرَهُ (نَوْمٌ) حَيْثُ كَانَ النَّوْمُ (عَلَى وَجْهِ الْفَتَى الْمُتَمَدِّدِ) أَيْ النَّائِمِ يَعْنِي يُكْرَهُ نَوْمُهُ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ مُضْطَجِعٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 عَلَى بَطْنِهِ فَغَمَزَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: إنَّ هَذِهِ ضِجْعَةٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» وَرَوَاهُ ابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِرَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ مُنْبَطِحًا لِوَجْهِهِ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ قُمْ نَوْمَةٌ جَهَنَّمِيَّةٌ» . وَعَنْ «يَعِيشَ بْنِ طِخْفَةَ بْنِ قَيْسٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: كَانَ أَبِي مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْطَلِقُوا بِنَا إلَى بَيْتِ عَائِشَةَ، فَانْطَلَقْنَا فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا، فَجَاءَتْ بِحَيْسَةٍ فَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا، فَجَاءَتْ بِحَيْسَةٍ مِثْلِ الْقَطَاةِ فَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ أَسْقِينَا، فَجَاءَتْ بِقَدَحٍ صَغِيرٍ فَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَالَ إنْ شِئْتُمْ بِتُّمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ انْطَلَقْتُمْ إلَى الْمَسْجِدِ قَالَ فَبَيْنَمَا أَنَا مُضْطَجِعٌ فِي السَّحَرِ عَلَى بَطْنِي إذْ جَاءَ رَجُلٌ يُحَرِّكُنِي بِرِجْلِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ ضِجْعَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ، قَالَ: فَنَظَرْت فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ طِغْفَةَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ قَيْسِ بْنِ طِهْفَةَ بِالْهَاءِ عَنْ أَبِيهِ مُخْتَصَرًا، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ طِغْفَةَ بِالْغَيْنِ مُعْجَمَةً عَنْ أَبِيهِ كَالنَّسَائِيِّ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ طِهْفَةَ أَوْ طِحْفَةَ عَلَى اخْتِلَافِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ «مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا مُضْطَجِعٌ عَلَى بَطْنِي فَرَكَضَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: يَا جُنَيْدِبُ إنَّمَا هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: قَالَ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ: اُخْتُلِفَ فِيهِ اخْتِلَافًا كَبِيرًا وَاضْطُرِبَ فِيهِ اضْطِرَابًا شَدِيدًا، فَقِيلَ طِهْفَةَ بْنُ قَيْسٍ بِالْهَاءِ، وَقِيلَ طِحْفَةَ بِالْحَاءِ، وَقِيلَ طِغْفَةَ بِالْغَيْنِ، وَقِيلَ طِقْفَةَ بِالْقَافِ وَالْفَاءِ، وَقِيلَ قَيْسُ بْنُ طِخْفَةَ، وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طِخْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ طِهْفَةَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدِيثُهُمْ كُلُّهُمْ وَاحِدٌ قَالَ: «كُنْت نَائِمًا بِالصُّفَّةِ فَرَكَضَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِجْلِهِ، وَقَالَ هَذِهِ نَوْمَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ» ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الصُّحْبَةَ لِأَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ وَإِنَّهُ صَاحِبُ الْقِصَّةِ. انْتَهَى، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَقَالَ طِغْفَةَ بَالِغِينَ خَطَأٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 وَالْحَيْسَةُ عَلَى مَعْنَى الْقِطْعَةِ مِنْ الْحَيْسِ، وَهُوَ الطَّعَامُ الْمُتَّخَذُ مِنْ التَّمْرِ وَالْأَقِطِ وَالسَّمْنِ، وَقَدْ يُجْعَلُ عِوَضَ الْأَقِطِ دَقِيقٌ. مَطْلَبٌ: يُكْرَهُ النَّوْمُ تَحْتَ السَّمَاءِ مُتَجَرِّدًا (تَتِمَّتَانِ: الْأُولَى) يُكْرَهُ النَّوْمُ تَحْتَ السَّمَاءِ مُتَجَرِّدًا؛ وَبَيْنَ قَوْمٍ مُسْتَيْقِظِينَ، وَنَوْمُهُ وَحْدَهُ كَسَفَرِهِ وَحْدَهُ، وَقَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَنْ يُوقِظُهُ، وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا إلَّا فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ شُغْلٍ، أَوْ شَيْءٍ يَسِيرٍ، أَوْ أَهْلٍ، أَوْ ضَيْفٍ. لِمَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَرَمَزَ السُّيُوطِيّ لِحُسْنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النَّوْمِ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَعَنْ الْحَدِيثِ بَعْدَهَا» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «مَا نَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْعِشَاءِ وَلَا سَمَرَ بَعْدَهُ» . قَالَ فِي السِّيرَةِ الشَّامِيَّةِ: السَّمَرُ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ فَمِيمٍ مَفْتُوحَتَيْنِ فَرَاءٍ: الْحَدِيثُ بِاللَّيْلِ انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ كُتُبِ أَهْلِ الْأَدَبِ: الْمُسَامَرَةُ إنْصَاتٌ لِمُتَكَلِّمٍ، وَكَلَامٌ لِمُسْتَمِعٍ، وَمُفَاوَضَةٌ فِيمَا يَلِيقُ وَيَجْمُلُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ نَضْلَةَ الْأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» . وَمِمَّنْ كَرِهَ النَّوْمَ قَبْلَهَا عُمَرُ وَابْنُهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَذَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ. وَسَبَبُ الْكَرَاهَةِ تَعْرِيضُهَا لِفَوَاتِ وَقْتِهَا بِاسْتِغْرَاقِ النَّوْمِ، وَلِئَلَّا يَتَسَاهَلَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَيَنَامُوا عَنْ صَلَاتِهَا جَمَاعَةً. وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْكُوفِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: تُرُخِّصَ فِيهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَنْ يُوقِظُهُ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي مِنْ أَئِمَّتِنَا. وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى لِلْإِمَامِ ابْنِ مُفْلِحٍ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ بِرَوَائِحِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى -: النَّوْمُ عِنْدَ سَمَاعِ الْخَيْرِ مِنْ الْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ مِنْ الشَّيْطَانِ. نَقَلَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُقَالُ لِإِبْلِيسَ - لَعَنَهُ - اللَّهُ لَعُوقٌ وَكُحْلٌ وَسَعُوطٌ، فَلَعُوقُهُ الْكَلْبُ، وَكُحْلُهُ النُّعَاسُ عِنْدَ سَمَاعِ الْخَيْرِ، وَسَعُوطُهُ الْكِبْرُ. (الثَّانِيَةُ) مِنْ آدَابِ النَّوْمِ أَنْ يَنْظُرَ مَرِيدُ النَّوْمِ فِي وَصِيَّتِهِ عِنْدَ نَوْمِهِ، وَيَنْفُضَ فِرَاشَهُ وَيَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَيَجْعَلَ وَجْهَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَيَتُوبَ مِنْ الذُّنُوبِ إلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَيَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الِانْتِبَاهِ مِنْ النَّوْمِ وَقُلْ فِي انْتِبَاهٍ وَالصَّبَاحِ وَفِي الْمِسَا ... وَنَوْمٍ مِنْ الْمَرْوِيِّ مَا شِئْت تُرْشَدْ (وَقُلْ) أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمُوَفَّقُ لِاقْتِفَاءِ سُنَنِ الْمُصْطَفَى (فِي) وَقْتِ (انْتِبَاهٍ) مِنْ الْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، مَا لَعَلَّهُ يُزِيلُ عَنْ قَلْبِك الرَّيْنَ، وَيَمْحُو عَنْ عَيْنِ بَصِيرَتِك الْغَيْنَ، فَإِنَّهَا لِدَاءِ الذُّنُوبِ دَوَاءٌ، وَلِمَرَضِ الْقُلُوبِ شِفَاءٌ، لِصُدُورِهَا عَنْ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، وَلِبُرُوزِهَا مِنْ مِشْكَاةِ مَنْ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى مَطْلَبٌ: أَذْكَارُ الِانْتِبَاهِ مِنْ النَّوْمِ فَمِمَّا وَرَدَ مِنْ أَذْكَارِ الِانْتِبَاهِ مِنْ النَّوْمِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ» . قَوْلُهُ: مَنْ تَعَارَّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ وَلَهُ صَوْتٌ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُك لِذَنْبِي وَأَسْأَلُك رَحْمَتَك، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إذْ هَدَيْتنِي وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك رَحْمَةً إنَّك أَنْتَ الْوَهَّابُ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. الزَّيْغُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ أَزَاغَ اللَّهُ الْقَلْبَ إذَا أَمَالَهُ عَنْ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو، وَيُقَالُ ابْنُ الْغَازِ الْجُرَشِيُّ قَالَ «سَأَلْت عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقُلْت: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ وَبِمَ كَانَ يَسْتَفْتِحُ؟ قَالَتْ: كَانَ يُكَبِّرُ عَشْرًا، وَيَحْمَدُ عَشْرًا، وَيُهَلِّلُ عَشْرًا، وَيَسْتَغْفِرُ عَشْرًا، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي عَشْرًا اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الضَّيِّقِ يَوْمَ الْحِسَابِ عَشْرًا» . وَقَالَ أَبُو دَاوُد: «سُبْحَانَ الْقُدُّوسِ عَشْرًا» . وَفِي رِوَايَةٍ: «سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ» . وَقَالَ بَدَلَ وَيَحْمَدُ عَشْرًا وَيَقُولُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرًا» وَفِيهِ «كَانَ إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» أَيْ الْإِحْيَاءُ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وَعَافَانِي فِي جَسَدِي، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ» . قَالَ فِي شَرْحِ أَوْرَادِ أَبِي دَاوُد: صَحَّحَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا مِنْ رَجُلٍ يَنْتَبِهُ مِنْ نَوْمِهِ فَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّوْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَعَثَنِي سَالِمًا سَوِيًّا أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إلَّا قَالَ اللَّهُ: صَدَقَ عَبْدِي» . (فَائِدَةٌ) : رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْك لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ، وَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ أُخْرَى، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ» : وَقَافِيَةُ الرَّأْسِ: آخِرُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ آخِرُ بَيْتِ الشَّعْرِ قَافِيَةً. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ «فَيُصْبِحُ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ قَدْ أَصَابَ خَيْرًا، وَإِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 لَمْ يَفْعَلْ أَصْبَحَ كَسْلَانَ خَبِيثَ النَّفْسِ لَمْ يُصِبْ خَيْرًا» وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ بِنَحْوِهِ وَزَادَ فِي آخِرِهِ «فَحُلُّوا عُقْدَةَ الشَّيْطَانِ، وَلَوْ بِرَكْعَتَيْنِ» . قَالَ فِي شَرْحِ أَوْرَادِ أَبِي دَاوُد: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذِهِ عُقَدٌ حَقِيقَةً كَعُقَدِ السِّحْرِ، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلٌ يَقُولُهُ، وَقِيلَ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ، قِيلَ هُوَ مِنْ عَقْدِ الْقَلْبِ، فَكَأَنَّهُ يَتَوَسْوَسُ فِيهِ بِبَقَاءِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ هُوَ مَجَازٌ كُنِّيَ بِهِ عَنْ تَثْبِيطِ الشَّيْطَانِ وَتَثْقِيلِهِ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ: عَلَيْك لَيْلٌ طَوِيلٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ عَلَيْك، أَوْ فَاعِلٌ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ بَقِيَ عَلَيْك. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ بِالنَّصْبِ لَيْلًا طَوِيلًا عَلَى الْإِغْرَاءِ. قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَدُعَائِهِ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ لِيَكُونَ أَوَّلَ عَمَلِ الْإِنْسَانِ تَوْحِيدُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَالْكَلِمُ الطَّيِّبُ. انْتَهَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: أَذْكَارُ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ (وَ) قُلْ فِي (الصَّبَاحِ) مِنْ الذِّكْرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ سَيِّدِ النُّصَّاحِ، وَمَنْ عَمَّتْ شَمْسُ رِسَالَتِهِ الْأَغْوَارَ وَالْبِطَاحَ، مَا أَخْرَجَهُ أَهْلُ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ وَالصِّحَاحِ (وَ) قُلْ (فِي الْمَسَاءِ) مِنْ الذِّكْرِ مَا عَسَى أَنْ يَلِينَ بِهِ الْقَلْبُ الَّذِي قَدْ قَسَا، بِالذُّنُوبِ وَالْأَسَا. اعْلَمْ أَيُّهَا النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ، الْمُتَزَوِّدُ لِرَمْسِهِ، الْمُنْكَبُّ عَلَى الذِّكْرِ وَالْمُسْتَغْرِقُ بِأُنْسِهِ، الْمُتَهَيِّئُ لِمُجَاوَرَةِ رَبِّهِ فِي حَضِيرَةِ قُدْسِهِ، أَنَّ أَذْكَارَ طَرَفَيْ النَّهَارِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ افْتِتَاحُ النَّهَارِ، وَاخْتِتَامُهُ بِالْأَذْكَارِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمَدَارُ، وَهِيَ مُخُّ الْعِبَادَةِ، وَبِهَا تَحْصُلُ الْعَافِيَةُ وَالسَّعَادَةُ. وَنَعْنِي بِطَرَفَيْ النَّهَارِ مَا بَيْنَ الصُّبْحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْغُرُوبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الأحزاب: 42] وَالْأَصِيلُ هُوَ الْوَقْتُ بَعْدَ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ، وَجَمْعُهُ أُصُلٌ وَآصَالٌ وَأَصَائِلُ، كَأَنَّهُ جَمْعُ أَصِيلَةٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أَكْرَمُ أَهْلِهِ ... وَأَقْعَدُ فِي أَفْنَائِهِ بِالْأَصَائِلِ وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أُصْلَانٍ " مِثْلُ بَعِيرٍ وَبُعْرَانٍ، ثُمَّ صَغَّرُوا الْجَمْعَ فَقَالُوا أُصَيْلَانَ، ثُمَّ أَبْدَلُوا عَنْ النُّونِ لَامًا فَقَالُوا: أُصَيْلَالٍ ". قَالَ الشَّاعِرُ وَقَفْت فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا ... أَعْيَتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 وَقَالَ تَعَالَى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55] فَالْإِبْكَارُ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْعَشِيُّ آخِرُهُ. وَقَالَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] . وَهَذَا يُفَسِّرُ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَأَنَّ مَحَلَّ هَذِهِ الْأَذْكَارِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ. قَالَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» . وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَمْسَى قَالَ: أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى الْمُلْكُ لِلَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ رَبِّ أَسْأَلُك خَيْرَ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَخَيْرَ مَا بَعْدَهَا، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا، رَبِّ أَعُوذُ بِك مِنْ الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ، رَبِّ أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقُولُ؟ قَالَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيك مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ يَقُولُ: «إذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بِك أَصْبَحْنَا، وَبِك أَمْسَيْنَا، وَبِك نَحْيَا، وَبِك نَمُوتُ، وَإِلَيْك النُّشُورُ وَإِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بِك أَمْسَيْنَا، وَبِك أَصْبَحْنَا، وَبِك نَحْيَا، وَبِك نَمُوتُ، وَإِلَيْك الْمَصِيرُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَلَمْ يُضَعِّفْهُ وَتَكَلَّمَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ، أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ» . وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، خَلَقْتنِي وَأَنَا عَبْدُك، وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا مُوقِنًا حِينَ يُمْسِي فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قَالَهَا مُوقِنًا بِهَا حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَعِنْدَهُ «لَا يَقُولُهَا أَحَدٌ حِينَ يُمْسِي فَيَأْتِي عَلَيْهِ قَدَرٌ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ إلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَلَيْسَ لِشَدَّادٍ فِي الْبُخَارِيِّ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَوْلُهُ: أَبُوءُ بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ مَمْدُودًا مَعْنَاهُ أُقِرُّ وَأَعْتَرِفُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت، قَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ قُلْهُ إذَا أَصْبَحْت، وَإِذَا أَمْسَيْت، وَإِذَا أَخَذْت مَضْجَعَك» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِيهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ثَوْبَانَ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي وَإِذَا أَصْبَحَ رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَلَامٍ وَهُوَ مَمْطُورٌ الْحَبَشِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي مَسْجِدِ حِمْصَ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالُوا: هَذَا خَدَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَامَ إلَيْهِ فَقَالَ: حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَتَدَاوَلْهُ بَيْنَك وَبَيْنَهُ الرِّجَالُ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ قَالَ إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا إلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالَ: وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا وَرَسُولًا " وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمْ. وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ. وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ «وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَلَفْظُهُ عَنْ الْمُنَيْذِرِ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 وَكَانَ بِإِفْرِيقِيَّةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ قَالَ إذَا أَصْبَحَ رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَأَنَا الزَّعِيمُ لَآخُذَنَّ بِيَدِهِ حَتَّى أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ لَمْ يُضَعِّفْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ الْبَيَاضِيُّ الصَّحَابِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِك فَمِنْك وَحْدَك لَا شَرِيكَ لَك، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَك الشُّكْرُ، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ» وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا عَنْهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِلَفْظِهِ دُونَ ذِكْرِ الْمَسَاءِ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْ أَصْلِيٍّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ لَمْ يُضَعِّفْهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: اللَّهُمَّ إنِّي أَصْبَحْت أُشْهِدُك وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِك وَمَلَائِكَتَك وَجَمِيعَ خَلْقِك أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُك وَرَسُولُك، أَعْتَقَ اللَّهُ رُبْعَهُ مِنْ النَّارِ، فَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا أَعْتَقَ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا أَرْبَعًا أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ فِيهِ بَعْدَ إلَّا أَنْتَ وَحْدَك لَا شَرِيكَ لَك وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَلَمْ يَقُلْ أَعْتَقَ اللَّهُ إلَى آخِرِهِ، وَقَالَ إلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا أَصَابَ مِنْ ذَنْبٍ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا أَصَابَ فِي لَيْلَتِهِ تِلْكَ. وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ. وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَعُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اُسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِك أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» وَقَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي الْخَسْفَ. وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَالْبَزَّارِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا يَمْنَعُك أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيك بِهِ أَنْ تَقُولِي إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ وَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» . وَفِي أَوَاسِطِ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ «أَلَا أُحَدِّثُك حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِرَارًا، وَمِنْ أَبِي بَكْرٍ مِرَارًا، وَمِنْ عُمَرَ مِرَارًا؟ قُلْت: بَلَى، قَالَ مَنْ قَالَ إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْتنِي وَأَنْتَ تَهْدِينِي، وَأَنْتَ تُطْعِمُنِي، وَأَنْتَ تَسْقِينِي، وَأَنْتَ تُمِيتُنِي وَأَنْتَ تُحْيِينِي، لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ قَالَ: تَلَقَّيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ فَقُلْت: أَلَا أُحَدِّثُك حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِرَارًا، وَمِنْ أَبِي بَكْرٍ مِرَارًا، وَمِنْ عُمَرَ مِرَارًا؟ قَالَ: بَلَى فَحَدَّثْته بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ بِأَبِي وَأُمِّي رَسُولُ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتُ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْطَاهُنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَانَ يَدْعُو بِهِنَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَلَا يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ» . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَهُ دُعَاءً وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ بِهِ أَهْلَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ قَالَ قُلْ حِينَ تُصْبِحُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْك، وَمِنْك وَإِلَيْك، اللَّهُمَّ مَا قُلْت مِنْ قَوْلٍ، أَوْ حَلَفْت مِنْ حَلِفٍ أَوْ نَذَرْت مِنْ نَذْرٍ، فَمَشِيئَتُك بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا شِئْت كَانَ، وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِك، إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ مَا صَلَّيْت مِنْ صَلَاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْت، وَمَا لَعَنْت مِنْ لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لَعَنْت، إنَّك أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ اللَّهُمَّ إنِّي أَسَالِكُ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك، وَشَوْقًا إلَى لِقَائِك فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، وَأَعُوذُ بِك اللَّهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، أَوْ أَكْتَسِبَ خَطِيئَةً وَذَنْبًا لَا تَغْفِرُهُ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَإِنِّي أَعْهَدُ إلَيْك هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأُشْهِدُك وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَحْدَك وَلَا شَرِيكَ لَك، لَك الْمُلْكُ وَلَك الْحَمْدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُك وَرَسُولُك، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَك حَقٌّ، وَلِقَاءَك حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنْتَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّك إنْ تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَأَنِّي لَا أَثِقُ إلَّا بِرَحْمَتِك، فَاغْفِرْ ذُنُوبِي كُلَّهَا إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ إلَى الْجَبَّانَةِ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ فَسَمِعْت حِسًّا وَأَصْوَاتًا شَدِيدَةً وَجِيءَ بِسَرِيرٍ حَتَّى وُضِعَ وَجَاءَ شَيْءٌ حَتَّى جَلَسَ عَلَيْهِ. قَالَ وَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ جُنُودُهُ ثُمَّ صَرَخَ فَقَالَ: مَنْ لِي بِعُرْوَةِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَصْوَاتٍ، فَقَالَ وَاحِدٌ أَنَا أَكْفِيكَهُ، قَالَ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَوْشَكَ الرَّجْعَةَ فَقَالَ لَا سَبِيلَ لِي إلَى عُرْوَةَ، قَالَ وَيْلَك لِمَ؟ قَالَ: وَجَدْته يَقُولُ كَلِمَاتٍ إذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى فَلَمْ يَخْلُصْ إلَيْهِ مَعَهُنَّ. قَالَ الرَّجُلُ: فَلَمَّا أَصْبَحْت قُلْت لِأَهْلِي جَهِّزُونِي فَأَتَيْت الْمَدِينَةَ فَسَأَلَتْ عَنْهُ حَتَّى دُلِلْت عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقُلْت شَيْئًا تَقُولُهُ إذَا أَصْبَحْت وَإِذَا أَمْسَيْت، فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَنِي، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت وَمَا سَمِعْت، فَقَالَ: مَا أَدْرِي غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ إذَا أَصْبَحْت آمَنْت بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ، وَكَفَرْت بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَاسْتَمْسَكْت بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إذَا أَصْبَحْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا أَمْسَيْت ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَمَعْنَى أَوْشَكَ أَسْرَعَ وَزْنًا وَمَعْنًى. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ مَالِي أَرَاك جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ أَفَلَا أُعَلِّمُك شَيْئًا إذَا قُلْته أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّك وَقَضَى عَنْك دَيْنَك؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ قُلْ إذَا أَصْبَحَتْ وَإِذَا أَمْسَيْت اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ قَالَ: فَفَعَلْت فَأَذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي» . وَفِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ قَدْ احْتَرَقَ بَيْتُك، فَقَالَ: مَا احْتَرَقَ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ لِكَلِمَاتٍ سَمِعْتهنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ قَالَهَا أَوَّلَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُصْبِحَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ عَلَيْك تَوَكَّلْت وَأَنْتَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ أَنَّهُ تَكَرَّرَ مَجِيءُ الرَّجُلِ إلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: أَدْرِكْ دَارَك فَقَدْ احْتَرَقَتْ، وَهُوَ يَقُولُ مَا احْتَرَقَتْ؛ لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَمْ يُصِبْهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا أَهْلِهِ، وَلَا مَالِهِ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ وَقَدْ قُلْتهَا الْيَوْمَ ثُمَّ قَالَ: انْهَضُوا بِنَا فَقَامَ وَقَامُوا مَعَهُ فَانْتَهَوْا إلَى دَارِهِ، وَقَدْ احْتَرَقَ مَا حَوْلَهَا، وَلَمْ يُصِبْهَا شَيْءٌ» . قُلْت: وَالشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ، حَدَّثَنِي عِدَّةٌ مِنْ الثِّقَاتِ يَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ أَنَّهُ أَشْتَدَّ الْغَلَاءُ وَارْتَفَعَ السِّعْرُ وَعُدِمَ الْبُرُّ فِي دِيرَتِنَا. فَجَهَّزَ الْوَالِدُ السَّعِيدُ الْحَاجُّ أَحْمَدُ بْنُ سَالِمٍ السَّفَارِينِيُّ - رَحِمَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ - جَمَاعَةً لِيَحْضُرُوا إلَى نَوَاحِي صُورَ وَتِلْكَ السَّوَاحِلِ فَيَشْتَرُوا مِنْهَا الْحِنْطَةَ وَيَنْزِلُوا فِي الْمَرَاكِبِ فَفَعَلُوا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ الْمَرَاكِبَ الَّتِي أُوسِقَتْ مِنْ نَوَاحِي كَذَا قَدْ تَكَسَّرَتْ، وَالْمَرْكَبُ الَّذِي أَوْسَقَهُ عَامِلُك مَعَهَا، فَقَالَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 الْحَالِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ الْمَرْكَبَ الَّذِي فِيهِ مَالُنَا مَا انْكَسَرَ وَلَا ضَاعَ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا ضَاعَ مَالٌ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ إلَّا بِسَبَبِ مَنْعِ الزَّكَاةِ» ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ مَالِي مُزَكًّى، فَكَيْفَ يَتْلَفُ؟ فَاتَّفَقَ أَنَّ الْمَرَاكِبَ تَكَسَّرَتْ وَتَلِفَ مَا فِيهَا مَا عَدَا الْمَرْكَبَ الَّتِي فِيهَا مَالُ أَبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. فَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ يَقِينِ الْوَالِدِ وَحُسْنِ مَعْرِفَتِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ اتِّكَالِهِ عَلَى اللَّهِ - جَلَّ شَأْنُهُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (فَائِدَةٌ) : رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اسْتَفْتَحَ أَوَّلَ نَهَارِهِ بِخَيْرٍ، وَخَتَمَهُ بِخَيْرٍ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمَلَائِكَتِهِ: لَا تَكْتُبُوا مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ تَمَّامِ بْنِ نَجِيحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ حَافِظَيْنِ يَرْفَعَانِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَا حَفِظَا مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَيَجِدُ فِي أَوَّلِ الصَّحِيفَةِ، وَفِي آخِرِهَا خَيْرًا إلَّا قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي مَا بَيْنَ طَرَفَيْ الصَّحِيفَةِ» . مَطْلَبٌ: فِي فَضَائِلِ الِاسْتِغْفَارِ وَكَثْرَةِ بَرَكَاتِهِ (تَتِمَّةٌ) : مِمَّا يَتَأَكَّدُ عَلَيْك مِنْ الْأَذْكَارِ الْإِكْثَارُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّ فَضَائِلَهُ كَثِيرَةٌ، وَبَرَكَاتِهِ غَزِيرَةٌ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] وَأَثْنَى عَلَى قَوْمٍ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] وَقَرَنَ - تَعَالَى - الِاسْتِغْفَارَ بِبَقَاءِ الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] وَلِذَا قَالَ أَبُو مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ لَنَا أَمَانَانِ ذَهَبَ أَحَدُهُمَا، وَبَقِيَ الْآخَرُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: الِاسْتِغْفَارُ الَّذِي يَمْنَعُ الْعَذَابَ هُوَ الِاسْتِغْفَارُ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وَأَمَّا مَنْ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ وَطَلَبَ مِنْ اللَّهِ الْمَغْفِرَةَ فَاسْتِغْفَارُهُ لَا يَمْنَعُ الْعَذَابَ؛ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ مَحْوُ الذَّنْبِ وَإِزَالَةُ أَثَرِهِ وَوِقَايَةُ شَرِّهِ، لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهَا السِّتْرُ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَسْتُرُ عَلَى مَنْ يَغْفِرُ لَهُ وَمَنْ لَا يَغْفِرُ لَهُ، فَحَقِيقَتُهَا وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ، وَمِنْهُ الْمِغْفَرُ لِمَا يَقِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 الرَّأْسَ مِنْ الْأَذَى، وَالسِّتْرُ لَازِمٌ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَإِلَّا فَالْعِمَامَةُ لَا تُسَمَّى مِغْفَرًا وَلَا الْقُبَّعَةُ وَنَحْوُهُ مَعَ سَتْرِهِ انْتَهَى. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» . مَطْلَبٌ: فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي» الْحَدِيثَ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمْ عَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٍ «إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» قَالَ: وَسَمِعْته يَقُولُ: «تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَتُوبُ إلَى رَبِّي - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - مِائَةَ مَرَّةٍ فِي الْيَوْمِ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: هُوَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْغَيْمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الَّذِي يَغْشَى الْقَلْبَ. وَقِيلَ الْغَيْنُ لُغَةً الْغَيْمُ. وَفِي مَعْنَى الْغَيْنِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ يَكُونُ هَذَا الْغَيْنُ السَّكِينَةَ الَّتِي تَغْشَى قَلْبَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الفتح: 26] وَالسَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ السُّكُونِ الَّذِي هُوَ الْوَقَارُ الَّذِي هُوَ فَقْدُ الْحَرَكَةِ وَيَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ إظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ وَمُلَازَمَةِ الْخُضُوعِ وَشُكْرًا لِمَا أَوْلَاهُ مَوْلَاهُ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا الْغَيْنَ حَالُ خَشْيَةٍ وَإِعْظَامٍ يَغْشَى الْقَلْبَ وَيَكُونُ اسْتِغْفَارُهُ شُكْرًا. وَقِيلَ: كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي تَرَقٍّ مِنْ مَقَامٍ إلَى مَقَامٍ. فَإِذَا ارْتَقَى مِنْ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إلَى مَقَامٍ أَعْلَى اسْتَغْفَرَ مِنْ الْمَقَامِ الَّذِي كَانَ فِيهِ. وَقِيلَ: الْغَيْنُ شَيْءٌ يَغْشَى الْقَلْبَ وَلَا يُغَطِّيهِ كَالْغَيْمِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا يَمْنَعُ ضَوْءَ الشَّمْسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وَقِيلَ: هُوَ هَمُّهُ بِسَبَبِ أُمَّتِهِ وَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهَا بَعْدَهُ فَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْفَتَرَاتُ وَالْغَفَلَاتُ عَنْ الذِّكْرِ الَّذِي كَانَ شَأْنُهُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَتَرَ عَنْهُ أَوْ غَفَلَ عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا فَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ. وَقِيلَ: غَيْنُ أَنْوَارٍ لَا غَيْنُ أَغْيَارٍ وَالْعَدَدُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ عَدَدٌ لِلِاسْتِغْفَارِ لَا لِلْغَيْنِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «مَا جَلَسَ قَوْمٌ فِي مَجْلِسٍ فَخَاضُوا فِي حَدِيثٍ وَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا إلَّا غَفَرَ لَهُمْ مَا خَاضُوا فِيهِ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «الْغِيبَةُ تَخْرِقُ الصَّوْمَ وَالِاسْتِغْفَارُ يُرَقِّعُهُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَجِيءَ بِصَوْمٍ مُرَقَّعٍ فَلْيَفْعَلْ» . وَقِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ: كَيْفَ أَنْتَ فِي دِينِك؟ قَالَ: أُمَزِّقُهُ بِالْمَعَاصِي وَأُرَقِّعُهُ بِالِاسْتِغْفَارِ. وَقِيلَ: إنَّهُ لِلذُّنُوبِ كَالصَّابُونِ لِإِزَالَةِ الْوَسَخِ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: قُلْت لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَوْمًا -: سُئِلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَيُّمَا أَنْفَعُ لِلْعَبْدِ التَّسْبِيحُ أَوْ الِاسْتِغْفَارُ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ الثَّوْبُ نَقِيًّا فَالْبَخُورُ وَمَاءُ الْوَرْدِ أَنْفَعُ لَهُ. وَإِنْ كَانَ دَنِسًا فَالصَّابُون وَالْمَاءُ أَنْفَعُ لَهُ. ثُمَّ قَالَ لِي: فَكَيْفَ وَالثِّيَابُ لَا تَزَالُ دَنِسَةً. انْتَهَى. قُلْت: وَالْمَسْئُولُ عَنْ ذَلِكَ وَالْمُجِيبُ هُوَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كَمَا فِي طَبَقَاتِ الْحَافِظِ ابْنِ رَجَبٍ وَغَيْرِهِ. وَلَيْسَ قَصْدُنَا الِاسْتِقْصَاءَ لِلْمَأْثُورِ، وَإِنَّمَا قَصْدُنَا التَّنْبِيهُ وَعَدَمُ الْإِخْلَالِ بِالْفَائِدَةِ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: الْأَذْكَارُ الْوَارِدَةُ الَّتِي تُقَالُ عِنْدَ النَّوْمِ (وَ) قُلْ فِي وَقْتِ إرَادَةِ (نَوْمٍ) وَالنَّوْمُ غَشْيَةٌ ثَقِيلَةٌ تَتَهَجَّمُ عَلَى الْقَلْبِ فَتَقْطَعُهُ عَنْ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَشْيَاءِ. وَلِهَذَا قِيلَ. هُوَ آفَةٌ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 كَمَا مَرَّ. وَقِيلَ: إنَّ النَّوْمَ مُزِيلٌ لِلْقُوَّةِ وَالْعَقْلِ. أَمَّا السِّنَةُ فَفِي الرَّأْسِ، وَالنُّعَاسُ فِي الْعَيْنِ. وَالْأَشْهَرُ أَنَّ السِّنَةَ هِيَ النُّعَاسُ. وَقِيلَ: إنَّهَا رِيحُ النَّوْمِ فَتَبْدُو فِي الْوَجْهِ ثُمَّ تَنْبَعِثُ إلَى الْقَلْبِ فَيَنْعَسُ الْإِنْسَانُ فَيَنَامُ. وَتَعْرِيفُ النَّوْمِ هُوَ انْغِمَارٌ وَغَلَبَةٌ عَلَى الْعَقْلِ يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْسَاسُ. (مِنْ) الذِّكْرِ (الْمَرْوِيِّ) عَنْ النَّبِيِّ الْأَمْجَدِ (مَا) أَيْ الَّذِي (شِئْت) هـ أَوْ ذِكْرًا شِئْت (تُرْشَدْ) أَيْ تُوَفَّقْ وَتَهْتَدِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ. وَالرَّشِيدُ فِي صِفَاتِ الْبَارِي جَلَّ شَأْنُهُ الْهَادِي إلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، وَاَلَّذِي حَسُنَ تَقْدِيرُهُ فِيمَا قَدَّرَ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ بِاسْمِك اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ: الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ كَفَتَاهُ مِنْ شَرِّ مَا يُؤْذِيهِ. وَقِيلَ كَفَتَاهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. قَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا يَعْقِلُ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ الْأَوَاخِرَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ «أَتَاهُ آتٍ يَحْثُو مِنْ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ قَالَ لَأَرْفَعَنَّكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُك اللَّهُ بِهِنَّ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 فَقَالَ إذَا آوَيْت إلَى فِرَاشِك فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حَتَّى تَخْتِمَهَا فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيْك مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُك شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَك وَهُوَ كَذُوبٌ» . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّهَا جَرَتْ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ. وَرَوَاهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ أَنَّهَا جَرَتْ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ عَنْ فِرَاشِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ إزَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَّفَهُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ وَإِذَا اضْطَجَعَ فَلْيَقُلْ بِاسْمِك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي وَبِك أَرْفَعُهُ، فَإِنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» . قَوْلُهُ بِصَنِفَةِ إزَارِهِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَيْ بِحَاشِيَةِ إزَارِهِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: صَنِفَةُ الْإِزَارِ بِكَسْرِ النُّونِ طَرَفُهُ مِمَّا يَلِي طُرَّتَهُ. وَفِيهِمَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تَجِدْهُ، وَوَجَدَتْ عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا، قَالَ عَلِيٌّ فَجَاءَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ، إذَا آوَيْتُمَا إلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَاحْمِدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ، قَالَ عَلِيٌّ فَمَا تَرَكْتهنَّ مُنْذُ سَمِعْتهنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ» . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ: وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ حَافَظَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَمْ يَأْخُذْهُ عَيَاءٌ فِيمَا يُعَانِيهِ مِنْ شَغْلٍ وَنَحْوِهِ انْتَهَى. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مَأْوَى» قَالَ فِي شَرْحِ أَوْرَادِ أَبِي دَاوُد: قَوْلُهُ: آوَانَا هُنَا مَمْدُودٌ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَحُكِيَ بِالْقَصْرِ وَمَعْنَى آوَانَا جَمَعَنَا وَضَمَّنَا إلَيْهِ، وَأَوَيْت إلَى الْمَنْزِلِ أَيْ رَجَعْت إلَيْهِ وَدَخَلْته. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ مَنْ أَوَى إلَى فِرَاشِهِ مَقْصُورٌ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَازِمٌ وَبِمَدٍّ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَحُكِيَ اللُّغَتَانِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 قَالَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مَأْوَى» أَيْ لَا رَاحِمَ لَهُ وَلَا عَاطِفَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا وَطَنَ لَهُ وَلَا مَسْكَنَ يَأْوِي إلَيْهِ وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إلَى فِرَاشِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ النُّجُومِ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلٍ عَالِجٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا» . وَفِي رِوَايَةٍ «غَفَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ خَلَا قَوْلِهِ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ وَعَدَدِ النُّجُومِ. وَفِي مُسْلِمٍ وَابْنِ السُّنِّيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا إذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ خَلَقْت نَفْسِي وَأَنْتَ تَتَوَفَّاهَا، لَك مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا، إنْ أَحْيَيْتهَا فَاحْفَظْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتهَا اغْفِرْ لَهَا اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَافِيَةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ سَمِعْت مِنْ عُمَرَ؟ فَقَالَ سَمِعْت مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا أَتَيْت مَضْجَعَك فَتَوَضَّأَ وُضُوءَك لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّك الْأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ وَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك، وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك، وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْك إلَّا إلَيْك آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت، وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت، فَإِنْ مِتَّ مِنْ لَيْلَتِك مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ: فَرَدَدْتهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا بَلَغْت آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت قُلْت وَرَسُولِك، قَالَ لَا وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «فَإِنَّك إنْ مِتَّ مِنْ لَيْلَتِك مِتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِنْ أَصْبَحْت أَصَبْت خَيْرًا» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفْسِي إلَيْك، وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك فَذَكَرَ مِثْلَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَنَبِيِّك» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 قَوْلُهُ إذَا أَتَيْت مَضْجَعَك بِفَتْحِ الْجِيمِ. وَقَوْلُهُ وَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك، أَيْ قَصَدْتُك بِعِبَادَتِي. وَقَوْلُهُ وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك أَيْ رَدَدْته إلَيْك، يُقَالُ فَوَّضَ فُلَانٌ أَمْرَهُ إلَى فُلَانٍ أَيْ رَدَّهُ. وَقَوْلُهُ: وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك أَيْ تَوَكَّلْت وَاعْتَمَدْت فِي أَمْرِي كُلِّهِ عَلَيْك كَمَا يَعْتَمِدُ الْإِنْسَانُ بِظَهْرِهِ إلَى مَا يَعْتَمِدُ مِنْ حَائِطٍ أَوْ سَارِيَةٍ. وَقَوْلُهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك أَيْ طَمَعًا فِي ثَوَابِك، وَخَوْفًا مِنْ عَذَابِك. وَقَوْلُهُ: لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا الْأَوَّلُ: مَهْمُوزٌ وَالثَّانِي بِتَرْكِهِ مَقْصُورٌ. وَقَوْلُهُ: بِكِتَابِك الْمُرَادُ الْقُرْآنُ، وَيَحْتَمِلُ إرَادَةَ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَأَمَّا رَدُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْبَرَاءِ بِقَوْلِهِ وَنَبِيِّك، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يُرِدْ بِرَدِّهِ عَلَى الْبَرَاءِ تَحَرِّيَ لَفْظِهِ فَقَطْ إنَّمَا أَرَادَ الْمَعْنَى الَّذِي لَيْسَ فِي لَفْظَةِ الرَّسُولِ وَهُوَ تَخْلِيصُ الْكَلَامِ مِنْ اللَّبْسِ؛ إذْ الرَّسُولُ يَدْخُلُ فِيهِ جِبْرِيلُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] وَالْمَقْصُودُ التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ بَعْدَ التَّصْدِيقِ بِكِتَابِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ وَاجِبٌ الْإِيمَانُ بِهِمْ، وَهَذِهِ شَهَادَةُ الْإِخْلَاصِ الَّتِي مَنْ مَاتَ عَلَيْهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: قَالَ فِي شَرْحِ أَوْرَادِ أَبِي دَاوُد. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: إنَّ سَبَبَ الْإِنْكَارِ أَنَّ هَذَا ذِكْرٌ وَدُعَاءٌ فَيُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى اللَّفْظِ الْوَارِدِ بِحُرُوفِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْجَزَاءُ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ، وَلَعَلَّهُ أُوحِيَ إلَيْهِ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ فَيَتَعَيَّنُ أَدَاؤُهَا بِحُرُوفِهَا، ثُمَّ يَخْتِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِقِرَاءَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَلْيَنَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ فَرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إذَا آوَيْت إلَى فِرَاشِي» ، وَفِي رِوَايَةٍ «أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ» . مَطْلَبٌ: فِي فَوَائِدَ مِنْ آدَابِ النَّوْمِ. (تَتِمَّةٌ) فِي فَوَائِدَ مِنْ آدَابِ النَّوْمِ: مِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ النَّوْمَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ غَلْقِ الْبَابِ وَطَفْءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 الْمِصْبَاحِ وَتَغْطِيَةِ الْإِنَاءِ، لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا «إذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ أَوْ كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ وَأَغْلِقْ بَابَك وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إنَاءَك، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ شَيْئًا» . وَتَقَدَّمَ هَذَا عِنْدَ قَوْلِ النَّاظِمِ وَيُشْرَعُ إيكَاءُ السِّقَاءِ وَغِطَاءُ الْإِنَاءِ إلَخْ. وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ النَّوْمِ عَلَى طَهَارَةٍ؛ لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ آوَى إلَى فِرَاشِهِ طَاهِرًا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - حَتَّى يُدْرِكَهُ النُّعَاسُ لَمْ يَنْقَلِبْ سَاعَةً مِنْ اللَّيْلِ يَسْأَلُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيهَا شَيْئًا مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَى أَبُو الْقَاسِم الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «طَهِّرُوا هَذِهِ الْأَجْسَادَ طَهَّرَكُمْ اللَّهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَبِيتُ طَاهِرًا إلَّا بَاتَ مَعَهُ فِي شِعَارِهِ مَلَكٌ لَا يَنْقَلِبُ سَاعَةً مِنْ اللَّيْلِ إلَّا قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِك فَإِنَّهُ بَاتَ طَاهِرًا» وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ ابْنِ جَبْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ": لَا تَنَامُ إلَّا عَلَى وُضُوءٍ فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ تُبْعَثُ عَلَى مَا قُبِضَتْ عَلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَوْقُوفًا «إذَا نَامَ الْعَبْدُ عَلَى طَهَارَةٍ رُفِعَ رُوحُهُ إلَى الْعَرْشِ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَرَوَى الْحَاكِمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ مَرْفُوعًا «النَّائِمُ الطَّاهِرُ كَالصَّائِمِ الْقَائِمِ» . وَبِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَوْقُوفًا «إنَّ النَّفْسَ تَعْرُجُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِي مَنَامِهَا، فَمَا كَانَ طَاهِرًا سَجَدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَمَا كَانَ غَيْرَ طَاهِرٍ تَبَاعَدَ فِي سُجُودِهِ، وَمَا كَانَ جُنُبًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهَا فِي السُّجُودِ» . وَقَالَ طَاوُسٌ " مَنْ بَاتَ عَلَى طُهْرٍ وَذِكْرٍ كَانَ فِرَاشِهِ لَهُ مَسْجِدًا حَتَّى يُصْبِحَ " رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَسُئِلَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ الْكِنْدِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: أَيَنَامُ الرَّجُلُ عَلَى غَيْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وُضُوءٍ؟ قَالَ: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَإِنَّا لَنَفْعَلُهُ. وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا كَفَاهُ ذَلِكَ الْوُضُوءُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النَّوْمُ عَلَى طَهَارَةٍ مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ فِي لَيْلَتِهِ، وَلِيَكُونَ أَصْدَقَ رُؤْيَا وَأَبْعَدَ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي مَنَامِهِ وَتَرْوِيعِهِ إيَّاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي اسْتِحْبَابِ الِاكْتِحَالِ بِالْإِثْمِدِ قَبْلَ الْمَنَامِ وَمِنْهَا: اسْتِحْبَابُ الِاكْتِحَالِ بِالْإِثْمِدِ قَبْلَ الْمَنَامِ؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ» . وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا «عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» . وَرَوَى نَحْوَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا بِلَفْظِ «عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ «خَيْرُ أَكْحَالِكُمْ الْإِثْمِدُ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ بِلَفْظِ «مِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمْ الْإِثْمِدُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ فِي شَرْحِ أَوْرَادِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ: الْإِثْمِدُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ هُوَ حَجَرٌ أَسْوَدُ صُلْبٌ بَرَّاقٌ يُؤْتَى بِهِ مِنْ أَصْبَهَانَ يُصْنَعُ مِنْهُ الْكُحْلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَوْذَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ» قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُرَوَّحُ الْمُطَيَّبُ بِالْمِسْكِ: وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ «أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَالَ لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» وَقَالَ بَعْدَهُ: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَكَذَا أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ بِلَفْظِ «لَا تَكْتَحِلْ بِالنَّهَارِ وَأَنْتَ صَائِمٌ اكْتَحِلْ لَيْلًا بِالْإِثْمِدِ؛ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ فِي هَذِهِ وَثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ فِي هَذِهِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. الْمُكْحُلَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَيْنَهُمَا كَافٌ سَاكِنَةٌ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْكُحْلُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْمُكْحُلَةُ مَا فِيهِ الْكُحْلُ، وَهُوَ أَحَدُ مَا جَاءَ بِالضَّمِّ مِنْ الْأَدَوَاتِ وَتَمَكْحَلَ أَخَذَ مُكْحُلَةً. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا اكْتَحَلَ يَجْعَلُ فِي الْعَيْنِ الْيُمْنَى ثَلَاثَ مَرَاوِدَ، وَفِي الْيُسْرَى مِرْوَدَيْنِ يَجْعَلُهُ وِتْرًا» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ قَالَهُ الْعِرَاقِيُّ. وَالْمِرْوَدُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَبَيْنَهُمَا رَاءٌ سَاكِنَةٌ هُوَ الْمِيلُ الَّذِي يُكْتَحَلُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا نَفْضُ فِرَاشِهِ عِنْدَ النَّوْمِ، قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلْيَقُلْ: بِاسْمِك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي وَبِك أَرْفَعُهُ، إنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ «فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ، وَلْيُسَمِّ اللَّهَ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَّفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ» . فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَلْيَقُلْ: سُبْحَانَك رَبِّي لَك وَضَعْت جَنْبِي وَبَاقِيهِ مِثْلُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَارْحَمْهَا بَدَلَ فَاغْفِرْ لَهَا. فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى اتِّخَاذِ الْفِرَاشِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي الزُّهْدَ، وَهُوَ مِنْ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَيِّدُ الزُّهَّادِ، وَقَدْ اتَّخَذَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ اسْتِقْبَالِ النَّائِمِ بِوَجْهِهِ الْقِبْلَةَ، وَوَضْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ، وَسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. فَقَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِفِرَاشِهِ فَيُفْرَشُ لَهُ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فَإِذَا آوَى إلَيْهِ تَوَسَّدَ كَفَّهُ الْيَمِينَ ثُمَّ هَمَسَ لَا نَدْرِي مَا يَقُولُ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ ذَلِكَ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ إلَهَ أَوْ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاغْنَنَا مِنْ الْفَقْرِ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا آوَى إلَى فِرَاشِهِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَقَالَ بِاسْمِك اللَّهُمَّ أَحْيَا وَأَمُوتُ» وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ. «كَانَ إذَا آوَى إلَى فِرَاشِهِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَقَالَ: رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ أَوْ قَالَ: تَجْمَعُ عِبَادَك» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد عَنْ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا آوَى إلَى فِرَاشِهِ اضْطَجَعَ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى، وَفِي رِوَايَةٍ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ قَالَ رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ الْأَنْمَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ إذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ: بِاسْمِ اللَّهِ وَضَعْت جَنْبِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَاخْسَأْ شَيْطَانِي، وَفُكَّ رِهَانِي وَاجْعَلْنِي فِي النِّدَاءِ الْأَعْلَى» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَرَقِ لِاسْتِجْلَابِ النَّوْمِ وَمِنْهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَصَابَهُ أَرَقٌ دَعَا بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي عَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَالِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «شَكَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ الْأَرَقِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَوَيْت إلَى فِرَاشِك فَقُلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الْأَرَضِينَ وَمَا أَقَلَّتْ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ، كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرِّ خَلْقِك كُلِّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ يَبْغِيَ عَلَيَّ، عَزَّ جَارُك، وَجَلَّ ثَنَاؤُك، وَلَا إلَهَ غَيْرُك، أَوْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ» . وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ " وَرَبَّ الْأَرْضِ " قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: سَنَدُ الطَّبَرَانِيِّ جَيِّدٌ إلَّا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَابِطٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ خَالِدٍ، وَسَنَدُ التِّرْمِذِيِّ فِيهِ ضَعْفٌ وَقَوْلُهُ: الْأَرَقُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ السَّهَرُ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَرِقٌ إذَا سَهِرَ لِعِلَّةٍ فَإِنْ كَانَ السَّهَرُ مِنْ عَادَتِهِ قِيلَ: أُرُقٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ، وَقَوْلُهُ مَا أَظَلَّتْ يَعْنِي مَا وَارَتْ تَحْتَهَا، وَمَا أَقَلَّتْ أَيْ حَمَلَتْهُ وَمَا أَضَلَّتْ مِنْ بَابِ الْإِضْلَالِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْهُدَى. وَقَوْلُهُ: أَنْ يَفْرُطَ أَيْ يَبْدُرَ وَيَعْجَلَ. وَالْبَغْيُ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ. وَقَوْلُهُ عَزَّ جَارُك أَيْ لَا يُضَامُ مَنْ لَجَأَ إلَيْك وَاعْتَصَمَ بِك. وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «شَكَوْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَقًا أَصَابَنِي، فَقَالَ قُلْ اللَّهُمَّ غَارَتْ النُّجُومُ وَهَدَأَتْ الْعُيُونُ وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ اهْدِ قَلْبِي وَأَنِمْ عَيْنِي، فَقُلْتهَا فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِّي مَا كُنْت أَجِدُ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ الْفَزَعِ فِي النَّوْمِ وَمِنْهَا أَنَّهُ إنْ فَزِعَ فِي مَنَامِهِ قَالَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ نَقُولُهُنَّ عِنْدَ النَّوْمِ مِنْ الْفَزَعِ: بِسْمِ اللَّهِ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ» قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ عَقَلَ مِنْ بَنِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ كَتَبَهُ فَأَعْلَقَهُ عَلَيْهِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. . [مَطْلَبٌ: يُسَنُّ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ نَفْضُ الْفِرَاشِ] (تَنْبِيهٌ) : رَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا بَيْتًا وَهُوَ سَاقِطٌ فِي أَكْثَرِهَا، لَكِنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 الْحَجَّاوِيَّ أَثْبَتَهُ بَعْدَ الْبَيْتِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ النَّاظِمِ بِلَا شَكٍّ وَعَلَيْهِ نَفْسِهِ، وَهَا نَحْنُ نُثْبِتُهُ هُنَا، وَإِنْ كُنَّا ذَكَرْنَا مَضْمُونَهُ فِي التَّتِمَّةِ، فَنَقُولُ: قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَطْلَبٌ: يُسَنُّ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ نَفْضُ الْفِرَاشِ. وَفِيهِ فَوَائِدُ الْإِثْمِدِ وَيَحْسُنُ عِنْدَ النَّوْمِ نَفْضُ فِرَاشِهِ ... وَنَوْمٌ عَلَى الْيُمْنَى وَكُحْلٌ بِإِثْمِدِ (وَيَحْسُنُ) بِمَعْنَى يُسَنُّ (عِنْدَ) إرَادَةِ (النَّوْمِ نَفْضُ فِرَاشِهِ) أَيْ مَرِيدِ النَّوْمِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: نَفَضَ الثَّوْبَ حَرَّكَهُ لِيَنْتَفِضَ، وَالنُّفَاضَةُ مَا سَقَطَ مِنْ الْمَنْفُوضِ كَالنُّفَاضِ، وَيُكْسَرُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ «إذَا آوَى أَحَدُكُمْ إلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْهُ بِدَاخِلَةِ إزَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَّفَهُ عَلَيْهِ» . (وَ) يَحْسُنُ (نَوْمُ) الْإِنْسَانِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (عَلَى) يَدِهِ وَصَفْحَتِهِ (الْيُمْنَى) لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَتَوَسَّدُ كَفَّهُ الْيُمْنَى بِخَدِّهِ الْيَمِينِ. (وَ) يَحْسُنُ لِمُرِيدِ النَّوْمِ يَعْنِي يُسْتَحَبُّ وَيُسَنُّ لَهُ (كُحْلٌ بِإِثْمِدِ) مُطَيَّبٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْإِثْمِدَ هُوَ حَجَرُ الْكُحْلِ الْأَسْوَدِ يُؤْتَى مِنْ أَصْبَهَانَ، وَهَذَا هُوَ أَفْضَلُهُ، وَمِنْهُ مَا يُؤْتَى بِهِ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ، وَأَفْضَلُهُ السَّرِيعُ التَّفَتُّتِ الَّذِي لِفُتَاتِهِ بَصِيصٌ، وَدَاخِلُهُ أَمْلُسُ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوْسَاخِ وَهُوَ بَارِدٌ يَابِسٌ. وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّهُ يُذْهِبُ بِاللَّحْمِ الزَّائِدِ فِي الْجُفُونِ وَيَدْمُلهَا، وَيُنَقِّي أَوْسَاخَهَا وَيَجْلُوهَا كَمَا أَخْبَرَ سَيِّدُ الْبَشَرِ، وَيُذْهِبُ الصُّدَاعَ إذَا اكْتَحَلَ بِهِ مَعَ الْعَسَلِ الْمَائِيِّ الرَّقِيقِ، وَهُوَ أَجْوَدُ أَكْحَالِ الْعَيْنِ خُصُوصًا لِلْمَشَايِخِ وَاَلَّذِينَ قَدْ ضَعُفَتْ أَبْصَارُهُمْ، سِيَّمَا إذَا جُعِلَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمِسْكِ. وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْفَظُ صِحَّةَ الْعَيْنِ، وَتَقْوِيَةَ النُّورِ لِلْبَاصِرِ، وَهُوَ يُلَطِّفُ الْمَادَّةَ الرَّدِيئَةَ وَاسْتِخْرَاجَهَا، وَلَهُ عِنْدَ النَّوْمِ مَزِيدُ فَضْلٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْكُحْلِ، وَسُكُونِ الْعَيْنِ عَقِبَهُ عَنْ الْحَرَكَةِ الْمُضِرَّةِ بِهَا وَخِدْمَةِ الطَّبِيعَةِ لَهَا كَمَا فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 مَطْلَبٌ: فِي آدَابِ النِّكَاحِ وَلَمَّا فَرَغَ النَّاظِمُ مِنْ آدَابِ النَّوْمِ أَخَذَ يَتَكَلَّمُ عَلَى آدَابِ النِّكَاحِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ التَّنَاسُلُ، وَعَمَارُ الدُّنْيَا، وَقَدَّمَ فِي صَدْرِ ذَلِكَ الْحَثَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِأَخْذِ النَّصِيحَةِ وَالْحَزْمِ، فَإِنَّ إهْمَالَ نَصَائِحِ النُّصَّاحِ مِنْ أَقْوَى الْمُضِرَّاتِ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَقَالَ: فَخُذْ لَك مِنْ نُصْحِي أُخَيَّ وَصِيَّةً ... وَكُنْ حَازِمًا وَاحْضُرْ بِقَلْبٍ مُؤَبَّدِ (فَخُذْ لَك مِنْ) خَالِصِ (نُصْحِي) يُقَالُ نَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ كَمَنَعَهُ نُصْحًا وَنَصَاحَةً وَنَصَاحِيَةً وَهُوَ نَاصِحٌ وَنَصِيحٌ، وَالِاسْمُ النَّصِيحَةُ، وَنَصَحَ خَلِصَ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى النَّصِيحَةِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ يَا (أُخَيَّ) تَصْغِيرُ أَخٍ، وَالْأُخُوَّةُ مِنْ النَّسَبِ وَالصَّدِيقِ وَالصَّاحِبِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ (وَصِيَّةً) مَفْعُولُ خُذْ. وَالْوَصِيَّةُ سُنَّةُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ وَالْأَنْبِيَاءِ فِي أُمَمِهِمْ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَبْرَارِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَدَفَاتِرِ الْعُلَمَاءِ (وَكُنْ) أَيُّهَا الْأَخُ الْمُسَاعِدُ عَلَى نَجَاةِ نَفْسِهِ وَتَخْلِيصِهَا مِنْ الْآفَاتِ وَإِنْقَاذِهَا مِنْ التَّبَعَاتِ (حَازِمًا) أَيْ عَاقِلًا فَهِمًا ضَابِطًا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْحَزْمُ ضَبْطُ الْأَمْرِ وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالثِّقَةِ كَالْحَزَامَةِ وَالْحُزُومَةِ، يُقَالُ حَزُمَ كَكَرُمَ فَهُوَ حَازِمٌ وَحَزِيمٌ (وَاحْضُرْ) لِاسْتِمَاعِ وَصِيَّتِي وَتَلَقِّي مَوْعِظَتِي (بِقَلْبٍ) أَيْ بِعَقْلٍ وَفَهْمٍ وَذَوْقٍ (مُؤَبَّدِ) أَيْ قَائِمٍ مُخَلَّدٍ غَيْرِ مُتَعْتَعٍ، وَلَا مُخْتَلِجٍ، بَلْ صَامِدٌ مُتَهَيِّئٌ لِأَخْذِ مَا يُلْقَى إلَيْهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالنَّصَائِحِ. مَطْلَبٌ: لَا يَنْكِحُ الْكَبِيرُ الشَّابَّةَ وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ وَلَا تَنْكِحَنْ إنْ كُنْت شَيْخًا فَتِيَّةً ... تَعِشْ فِي ضِرَارِ الْعَيْشِ أَوْ تَرْضَ بِالرَّدِي (وَلَا تَنْكِحَنْ) أَيْ لَا تَتَزَوَّجَنْ (إنْ كُنْت) أَنْتَ (شَيْخًا) أَيْ بَلَغْت سِنَّ الشَّيْخُوخَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخُونُ مَنْ اسْتَبَانَتْ فِيهِ السِّنُّ أَوْ مِنْ خَمْسِينَ أَوْ إحْدَى وَخَمْسِينَ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ أَوْ إلَى ثَمَانِينَ. وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الشَّيْخُ مِنْ الْخَمْسِينَ إلَى السَّبْعِينَ، وَالشَّبَابُ مِنْ الْبُلُوغِ إلَى الثَّلَاثِينَ، وَالْكَهْلُ مِنْ الثَّلَاثِينَ إلَى الْخَمْسِينَ ثُمَّ هُوَ شَيْخٌ إلَى السَّبْعِينَ. وَالْهَرِمُ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 السَّبْعِينَ إلَى أَنْ يَمُوتَ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بِالشَّيْخِ مَنْ بَانَتْ فِيهِ السِّنُّ، فَنَهَاهُ النَّاظِمُ أَنْ يَنْكِحَ (فَتِيَّةً) وَهِيَ مَنْ بَلَغَتْ إلَى حَدِّ الثَّلَاثِينَ كَالْفَتَى، مِثْلُ الشَّابِّ وَالشَّابَّةِ، فَإِنَّك إنْ نَكَحْت وَأَنْتَ شَيْخٌ شَابَّةً (تَعِشْ) مَعَهَا (فِي ضِرَارِ الْعَيْشِ) مِنْ احْتِمَالِكَ لِمَا يَبْدُو مِنْهَا مِنْ بَذَاذَةِ اللِّسَانِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ وَالتَّبَرُّمِ مِنْك، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ مَا تَجِدُ عِنْدَك مِنْ بُغْيَةِ النِّسَاءِ وَطِلْبَتِهِنَّ، فَإِنَّ غَايَةَ مَقْصُودِ النِّسَاءِ الْجِمَاعُ الَّذِي عَجَزْت عَنْهُ لِكِبَرِ سِنِّك، فَأَنْتَ فِي سِنِّ الْكِبَرِ وَقَدْ غَلَبَتْ عَلَيْك الْبُرُودَةُ، وَهِيَ فِي سِنِّ الشَّبَابِ وَقَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْحَرَارَةُ وَالشَّبَقُ، فَأَنْتُمَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسَارَ مُغَرِّبًا ... شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ (أَوْ) أَيْ إنْ لَمْ تَحْبِسْهَا عَنْ نَيْلِ شَهَوَاتِهَا وَتَقْصُرْهَا عَلَيْك (تَرْضَ بِ) الْفِعْلِ (الرَّدِي) وَهُوَ الزِّنَا الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ، وَكُنْت حِينَئِذٍ دَيُّوثًا وَالدَّيُّوثُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَخَسِرْت عِرْضَك وَتَنَغَّصَتْ عَلَيْك عِيشَتُك، وَخَسِرْت آخِرَتَك، وَذَلِكَ هُوَ الْخَسْرَانُ الْمُبِينُ. وَلِذَا قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَمِنْ التَّغْفِيلِ أَنْ يَتَزَوَّجُ شَيْخٌ صَبِيَّةً. وَفِي صَيْدِ الْخَاطِرِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ مَعَ كِبَرِ سِنِّهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ وَأَنَّ نَفْسَهُ تَطْلُبُ مِنْهُ شِرَاءَ الْجَوَارِي الصِّغَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُنَّ يُرِدْنَ النِّكَاحَ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْكَبِيرِ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ: يَنْبَغِي لَك أَنْ تَشْتَغِلَ بِذَكَرِ الْمَوْتِ، وَمَا قَدْ تَوَجَّهْت إلَيْهِ، وَأَنْ تَحْذَرَ مِنْ اشْتِرَاءِ جَارِيَةٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ حَقِّهَا فَإِنَّهَا تَبْغَضُكَ، فَإِنْ أَجْهَدْت نَفْسَك اسْتَعْجَلْت التَّلَفَ، وَإِنْ اسْتَبْقَيْت قُوَّتَك غَضِبَتْ هِيَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُرِيدُ شَيْخًا كَيْفَ كَانَ. قَالَ: وَقَدْ أَنْشَدَنَا عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَفِقْ يَا فُؤَادِي مِنْ غَرَامِك وَاسْتَمِعْ ... مَقَالَةَ مَحْزُونٍ عَلَيْك شَفِيقِ عَلِقْت فَتَاةً قَلْبُهَا مُتَعَلِّقٌ ... بِغَيْرِك فَاسْتَوْثَقْت غَيْرَ وَثِيقِ فَأَصْبَحْت مَوْثُوقًا وَرَاحَتْ طَلِيقَةً ... فَكَمْ بَيْنَ مَوْثُوقٍ وَبَيْنَ طَلِيقِ ثُمَّ قَالَ: فَاعْلَمْ أَنَّهَا تَعُدُّ عَلَيْك الْأَيَّامَ، وَتَطْلُبُ مِنْك فَضْلَ الْمَالِ لِتَسْتَعِدَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 لِغَيْرِك، وَرُبَّمَا قَصَدَتْ حَتْفَك فَاحْذَرْ، وَالسَّلَامَةُ فِي التَّرْكِ وَالِاقْتِنَاعِ بِمَا يَدْفَعُ الزَّمَانَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا فِي كِتَابِ آدَابِ النِّسَاءِ: وَاسْتُحِبَّ لِمَنْ أَرَادَ تَزْوِيجَ ابْنَتِهِ أَنْ يَنْظُرَ لَهَا شَابًّا مُسْتَحْسَنَ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُحِبُّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إلَى ابْنَتِهِ فَيُزَوِّجُهَا الْقَبِيحَ الدَّمِيمَ، إنَّهُنَّ يُرِدْنَ مَا تُرِيدُونَ» . وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَا تُنْكِحُوا الْمَرْأَةَ الْقَبِيحَ الدَّمِيمَ فَإِنَّهُنَّ يُحْبِبْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ مَا تُحِبُّونَ لِأَنْفُسِكُمْ وَالدَّمِيمُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ كَأَمِيرٍ الْحَقِيرُ، قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ وَجَمْعُهُ دِمَامٌ كَجِبَالٍ، وَهِيَ بِهَاءٍ يَعْنِي دَمِيمَةً وَجَمْعُهَا دَمَائِمُ وَدِمَامٌ أَيْضًا انْتَهَى. فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ مِنْ النَّاظِمِ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ وَفَهْمٍ وَحَازِمٍ. وَالْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ مَا أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ مَطْلَبٌ: لَا يَنْكِحُ مَنْ هِيَ أَعْلَى مِنْهُ فِي الرُّتْبَةِ وَالْمَنْصِبِ وَلَا تَنْكِحَنْ مِنْ نَسْمِ فَوْقِكَ رُتْبَةً ... تَكُنْ أَبَدًا فِي حُكْمِهَا فِي تَنَكُّدِ (وَلَا تَنْكِحَنْ) أَيُّهَا الْأَخُ فِي اللَّهِ (مِنْ نَسْمِ) جَمْعِ نَسَمَةٍ مُحَرَّكَةً: الْإِنْسَانُ وَالرُّوحُ وَنَفْسُ الرِّيحِ إذَا كَانَ ضَعِيفًا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالنَّسَمَةُ مُحَرَّكَةً الْإِنْسَانُ جَمْعُهُ نَسْمٌ وَنَسَمَاتٌ وَالْمَمْلُوكُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَعْتَقَ نَسَمَةً» النَّسَمَةُ النَّفْسُ وَالرُّوحُ أَيْ مَنْ أَعْتَقَ ذَا رُوحٍ وَكُلُّ دَابَّةٍ فِيهَا رُوحٌ فَهِيَ نَسَمَةٌ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ النَّاسَ. وَمِنْهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ» أَيْ خَلَقَ ذَاتَ الرُّوحِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُهَا إذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ. يُرِيدُ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّك لَا تَنْكِحُ مِنْ كَرَائِمَ (فَوْقَك) أَيْ أَعْلَى مِنْك (رُتْبَةً) أَيْ فِي الرُّتْبَةِ وَالْمَنْصِبِ فَإِنَّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ (تَكُنْ) أَنْتَ (أَبَدًا) مُدَّةً كَوْنِهَا مَعَك (فِي حُكْمِهَا) أَيْ فِي حُكْمِ زَوْجَتِك الَّتِي مَنْصِبُهَا أَعْلَى مِنْك وَرُتْبَتُهَا أَرْقَى مِنْ رُتْبَتِك (فِي تَنَكُّدِ) مِنْ افْتِخَارِهَا عَلَيْك، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهَا بِك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 لِإِهَانَتِك عِنْدَهَا، وَنَقْصِك فِي عَيْنِهَا، فَإِنْ بَذَلَتْ لَك حَقَّك رَأَتْ أَنَّهَا مَنَحَتْك أَمْرًا لَسْت أَهْلًا لَهُ، بَلْ إنَّمَا أَجَابَتْك إلَى مَا سَأَلْت مِنَّةً مِنْهَا امْتَنَّتْ بِهَا عَلَيْك، وَإِنْ لَمْ تُجِبْك رَأَتْ أَنَّهَا فَعَلَتْ أَمْرًا هِيَ أَهْلٌ لَهُ مِنْ عَدَمِ اكْتِرَاثِهَا بِك لِعُلُوِّهَا وَنُزُولِكَ. وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَا مَحَالَةَ أَنَّهُ فِي غَايَةِ النَّكَرِ وَتَعَبِ الْخَاطِرِ وَتَنْغِيصِ الْعَيْشِ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ زَوْجَتِهِ عَلَى ضِدِّ قَصْدِهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الِارْتِفَاعَ بِنِكَاحِهَا وَالْمُفَاخَرَةَ بِأَخْذِهَا فَعُوقِبَ بِضِدِّ قَصْدِهِ جَزَاءً وِفَاقًا. وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُشِيرًا إلَى الْوَصِيَّةِ الثَّالِثَةِ: وَلَا تَرْغَبَنْ فِي مَالِهَا وَأَثَاثِهَا ... إذَا كُنْت ذَا فَقْرٍ تُذَلُّ وَتُضْهَدْ (وَلَا تَرْغَبَنْ) نَهْيُ إرْشَادٍ كَنَظَائِرِهِ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (فِي مَالِهَا) أَيْ مَالِ الزَّوْجَةِ الَّتِي تُرِيدُ أَخْذَهَا، فَإِنَّهَا تَتَعَالَى بِهِ عَلَيْك فَتَحْصُلُ عَلَى غَايَةِ الذُّلِّ (وَ) لَا تَرْغَبَنْ فِي أَثَاثِهَا) أَيْ أَثَاثِ الزَّوْجَةِ الَّتِي تُرِيدُ نِكَاحَهَا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْأَثَاثُ مَتَاعُ الْبَيْتِ بِلَا وَاحِدٍ أَوْ الْمَالُ أَجْمَعُ وَالْوَاحِدَةُ أَثَاثَةٌ. انْتَهَى (إذَا كُنْت) أَنْتَ (ذَا) أَيْ صَاحِبَ (فَقْرٍ) أَيْ لَسْت بِغَنِيٍّ فَإِنَّك إنْ تَزَوَّجْت ذَاتَ مَالٍ مَعَ فَقْرِك (تُذَلُّ) لِعَدَمِ فَضْلِك عَلَيْهَا وَتَخَلُّفِك عَنْ تَحْصِيلِ مُرَادَاتِهَا وَافْتِقَارِك لِمَا فِي يَدِهَا، فَبِقَدْرِ قِصَرِ يَدِك يَطُولُ عَلَيْك لِسَانُهَا (وَتُضْهَدْ) أَيْ تُقْهَرْ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: ضَهَدَهُ كَمَنَعَهُ قَهَرَهُ كَاضْطَهَدَهُ وَأَضْهَدَ بِهِ جَارٍ عَلَيْهِ انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّك مَعَ اتِّصَافِك بِالذُّلِّ يَحْصُلُ لَك أَيْضًا مِنْ الْقَهْرِ وَالْمَهَانَةِ مَا يَحْصُلُ لِلطَّالِبِ مِنْ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الِامْتِنَانِ وَتَعَدُّدِ الْإِحْسَانِ، فَيُعْكَسُ عَلَيْك الْحَالُ، وَتَحْصُلُ عَلَى الْوَبَالِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الْأَفْرِيقِيِّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الثِّقَاتِ، وَيُدَلِّسُ وَقَوَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلَأَمَةٌ جَرْبَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا ذُلًّا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا دَنَاءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يُرِدْ إلَّا أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ وَيُحْصِنَ فَرْجَهُ وَيَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا وَبَارَكَ لَهَا فِيهِ» . قُلْت: ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَقَالَ هُوَ ضِدُّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا» إلَخْ وَفِيهِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ لَا يَحِلُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ بِحَالٍ. قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِيهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ قَالَ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ. وَأَشَارَ إلَى الْوَصِيَّةِ الرَّابِعَةِ بِقَوْلِهِ: مَطْلَبٌ: لَا يَسْكُنُ الرَّجُلُ فِي دَارِ زَوْجَتِهِ عِنْدَ أَهْلِهَا وَلَا تَسْكُنَنْ فِي دَارِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا ... تُسَمَّعْ إذَنْ أَنْوَاعَ مِنْ مُتَعَدِّدٍ (وَلَا تَسْكُنَنْ) أَنْتَ بِهَا (فِي دَارِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا) فَإِنَّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ (تُسَمَّعْ) بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ أَيْ تُسْمِعُك هِيَ وَسُفَهَاءُ أَهْلِهَا (إذَنْ) أَيْ بِسَبَبِ سُكْنَاكَ فِي دَارٍ عِنْدَ أَهْلِهَا (أَنْوَاعَ) جَمْعَ نَوْعٍ وَحَذَفَ تَنْوِينَهُ ضَرُورَةً (مِنْ) أَذًى (مُتَعَدِّدٍ) مِنْ شَتْمٍ وَسَبٍّ وَمِنَّةٍ وَأَذِيَّةٍ لِعِزِّهَا وَذَلِكَ، وَغِنَاهَا وَفَقْرِك، وَاعْتِضَادِهَا بِأَهْلِهَا وَوَحْدَتِك، فَهِيَ لِرُعُونَتِهَا تَشْمَخُ عَلَيْك وَتَتَفَضَّلُ، وَأَنْتَ لَدَيْهَا تَتَضَرَّعُ وَتَتَذَلَّلُ. فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ، وَإِلَى هَذَا الْحَدِّ صَارَ مَآلُهُ، فَلَا خَيْرَ فِي حَيَاتِهِ، وَسُحْقًا لَهُ وَلِلَذَّاتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ فِي فَضْلِ عِرْسِهِ ... يَرُوحُ عَلَى هُونٍ إلَيْهَا وَيَغْتَدِي (فَلَا خَيْرَ) وَلَا نَجَابَةَ وَلَا رُشْدَ وَلَا إصَابَةَ (فِيمَنْ) أَيْ فِي رَجُلٍ (كَانَ) هُوَ (فِي فَضْلِ عِرْسِهِ) أَيْ زَوْجَتِهِ فَكَانَ نَاقِصَةٌ اسْمُهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مَنْ وَفِي فَضْلِ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ خَبَرُهَا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْعَرُوسُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مَا دَامَا فِي أَعْرَاسِهِمَا، وَهُمْ عُرُسٌ، وَهُنَّ عَرَائِسُ انْتَهَى. وَقَالَ فِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ: الْعُرْسُ بِالضَّمِّ الزِّفَافُ وَهُوَ مُذَكَّرٌ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلطَّعَامِ، وَالْعَرُوسُ وَصْفٌ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مَا دَامَا فِي أَعْرَاسِهِمَا. وَجَمْعُ الرَّجُلِ عُرُسٌ بِضَمَّتَيْنِ مِثْلُ رَسُولٍ وَرُسُلٍ، وَجَمْعُ الْمَرْأَةِ عَرَائِسُ، وَعَرِسَ الرَّجُلُ عَنْ الْجِمَاعِ يَعْرُسُ مِنْ بَابِ تَعِبَ كَلَّ وَأَعْيَا، وَأَعْرَسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 بِامْرَأَتِهِ بِالْأَلِفِ دَخَلَ بِهَا، وَأَعْرَسَ عَمِلَ عُرْسًا، وَعَرَّسَ الْمُسَافِرُ بِالتَّثْقِيلِ إذَا نَزَلَ لِيَسْتَرِيحَ ثُمَّ يَرْتَحِلُ، وَالِاسْمُ التَّعْرِيسُ. انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ: وَالْعِرْسُ بِالْكَسْرِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ وَرَجُلُهَا وَالْجَمْعُ أَعْرَاسٌ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَالِ فِي فَضْلِ امْرَأَتِهِ يَكُونُ مَسْلُوبَ الْخَيْرِيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ عَكَسَ الْفِطْرَةَ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النَّاسَ عَلَيْهَا مِنْ كَوْنِ الرِّجَالِ قَوَّامِينَ عَلَى النِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. وَأَمَّا هَذَا فَصَارَتْ هِيَ قَائِمَةً عَلَيْهِ وَلَهَا عَلَيْهِ مَزِيَّةُ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ. فَهُوَ (يَرُوحُ) أَيْ يَرْجِعُ (عَلَى هُونٍ) أَيْ ذُلٍّ وَخُضُوعٍ يُقَالُ: هَانَ هُونًا بِالضَّمِّ وَهَوَانًا وَمَهَانَةً ذَلَّ فَهُوَ ذَلِيلٌ فِي إيَابِهِ (إلَيْهَا) لِاحْتِيَاجِهِ لِمَا فِي يَدَيْهَا (وَيَغْتَدِي) أَيْ يَذْهَبُ كَذَلِكَ، فَالذُّلُّ مُلَازِمٌ لَهُ ذَهَابًا وَإِيَابًا؛ لِأَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ ذَلَّ لِمَنْ حَاجَتُهُ عِنْدَهُ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْصَافِ الزَّوْجَةِ لَا مِنْ أَوْصَافِ الرَّجُلِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَمَّا سُلِبَ الْخَيْرِيَّةَ، وَصِفَاتِ الرُّجُولِيَّةِ وَرَضِيَ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَأَلِفَ الرَّاحَةَ، وَتَوَسَّدَ الرَّاحَةَ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ النِّسْوَانِ، وَالْفَتَايَا لَا الْفِتْيَانِ. وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. ثُمَّ أَخَذَ النَّاظِمُ يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِنْفَاقِ، فَقَالَ: مَطْلَبٌ: حُكْمُ تَصَدُّقِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا تُنْكِرَنْ بَذْلَ الْيَسِيرِ تَنَكُّدًا ... وَسَامِحْ تَنَلْ أَجْرًا وَحُسْنَ التَّوَدُّدِ (وَلَا تُنْكِرَنْ) بِنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ أَنْتَ عَلَى زَوْجَتِك (بَذْلَ) الشَّيْءِ (الْيَسِيرِ) مِنْ بَيْتِك مِنْ إعْطَاءِ سَائِلٍ وَطُعْمَةِ جَائِعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تُنْكِرَ ذَلِكَ (تَنَكُّدًا) أَيْ لِأَجْلِ التَّنَكُّدِ، يُقَالُ نَكِدَ عَيْشُهُمْ كَفَرِحَ اشْتَدَّ وَعَسُرَ، وَالْبِئْرُ قَلَّ مَاؤُهَا. وَنَكِدَ زَيْدٌ حَاجَةَ عَمْرٍو مَنَعَهُ إيَّاهَا، وَنَكِدَ زَيْدٌ فُلَانًا مَنَعَهُ مَا سَأَلَهُ أَوْ لَمْ يُعْطِهِ إلَّا أَقَلَّهُ. وَالنُّكْدُ بِالضَّمِّ قِلَّةُ الْعَطَاءِ وَيُفْتَحُ، يَعْنِي لَا تَفْعَلْ ذَلِكَ مَنْعًا مِنْك وَشُحًّا فِيكَ، وَبُخْلًا وَحِرْصًا فِيمَا لَدَيْك، فَإِنَّ الشُّحَّ مَذْمُومٌ، وَالْبَخِيلَ مَلُومٌ. وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ، وَثَبَتَ عَنْ مَعْدِنِ السَّعَادَةِ وَالسِّيَادَةِ، مُسَامَحَةُ النِّسَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَعْلَمَ شُحَّ زَوْجِهَا وَبُخْلَهُ فَيَمْتَنِعَ عَلَيْهَا الْبَذْلُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 وَلَكِنَّ النَّاظِمَ لَا يَرْضَى لَك أَنْ تَتَّصِفَ بِالشُّحِّ الْمُنَافِي لِلْفَلَاحِ، فَلِذَا قَالَ (وَسَامِحْ) أَيْ جُدْ وَتَكَرَّمْ، يُقَالُ سَمُحَ كَكَرُمَ سَمَاحًا وَسَمَاحَةً وَسُمُوحَةً وَسَمْحًا جَادَ وَكَرُمَ، كَأَسْمَحَ فَهُوَ سَمْحٌ وَيُجْمَعُ عَلَى " سُمَحَاءُ ". قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَسُمَحَاءُ كَأَنَّهُ جَمْعُ سَمِيحٍ وَمَسَامِيحُ كَأَنَّهُ جَمْعُ مِسْمَاحٍ وَنِسْوَةٌ سِمَاحٌ لَيْسَ غَيْرُ انْتَهَى. فَالسَّمَاحَةُ تُفِيدُ صَاحِبَهَا الْأَجْرَ وَالرَّاحَةَ، وَلِذَا قَالَ (تَنَلْ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الطَّلَبِ (أَجْرًا) بِالْمُسَامَحَةِ وَبَذْلِ الزَّوْجَةِ الْيَسِيرَ مِنْ مَالِك، فَإِنَّمَا لَهَا أَجْرُ مُنَاوِلٍ وَلَك الْأَجْرُ كَامِلًا (وَ) تَنَلْ مَعَ الْأَجْرِ (حُسْنَ التَّوَدُّدِ) أَيْضًا، فَقَدْ رَبِحَتْ تِجَارَتُك مَرَّتَيْنِ الْأَجْرَ وَحُسْنَ التَّوَدُّدِ بَيْنَك وَبَيْنَ أَهْلِك. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْوُدُّ وَالْوِدَادُ الْحُبُّ، وَيُثَلَّثَانِ كَالْوِدَادَةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَتَوَدَّدَهُ اجْتَلَبَ وُدَّهُ، وَتَوَدَّدَ إلَيْهِ تَحَبَّبَ، وَالتَّوَدُّدُ التَّحَابُّ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ؛ فَإِنَّ لَهَا أَجْرَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَجْرِ بَعْضٍ شَيْئًا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إذَا تَصَدَّقَتْ بَدَلَ أَنْفَقَتْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي مَالٌ إلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ أَفَأَتَصَدَّقُ؟ قَالَ: تَصَدَّقِي وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْك» . وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهَا جَاءَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ قَالَ: أَرْضِخِي مَا اسْتَطَعْت وَلَا تُوعِي فَيُوعِي اللَّهُ عَلَيْك» . وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا كَانَ لَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 أَجْرٌ وَلِزَوْجِهَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْقُصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَجْرِ صَاحِبِهِ شَيْئًا، لَهُ بِمَا كَسَبَ وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ؟ قَالَ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا» وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ هَلْ تَتَصَدَّقُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا؟ قَالَ: لَا إلَّا مِنْ قُوتِهَا، وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إلَّا بِإِذْنِهِ زَادَ ابْنُ رَزِينٍ الْعَبْدَرِيُّ فِي جَامِعِهِ: فَإِنْ أَذِنَ لَهَا فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ فَعَلَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَالْأَجْرُ لَهُ، وَالْإِثْمُ عَلَيْهَا. فَإِنْ قُلْت: مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَخْبَارِ؟ فَالْجَوَابُ الْجَوَازُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ كَمَا فِي كَلَامِ النَّاظِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَالْمَنْعُ فِي الْكَثِيرِ، أَوْ الْجَوَازُ فِيمَنْ تَعْلَمُ الزَّوْجَةُ مِنْهُ الْكَرَمَ وَالسَّمَاحَةَ، وَالْمَنْعُ فِيمَنْ تَعْلَمُ شُحَّهُ وَحِرْصَهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: يَحْسُنُ عَدَمُ السُّؤَالِ عَمَّا فِي الْبَيْتِ وَلَا تَسْأَلَنْ عَنْ مَا عَهِدْت وَغُضَّ عَنْ ... عَوَارٍ إذَا لَمْ يَذْمُمْ الشَّرْعُ تَرْشُدْ (وَلَا تَسْأَلَنْ عَنْ مَا) أَيْ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي (عَهِدْته مِنْ مَتَاعٍ يَسِيرٍ وَنَفَقَةٍ قَلِيلَةٍ) فَإِنَّ التَّنْقِيبَ عَنْ كُلِّ كَثِيرٍ وَحَقِيرٍ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْحِرْصِ وَالشُّحِّ. وَفِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ " قَالَتْ الْخَامِسَةُ: زَوْجِي إنْ دَخَلَ فَهِدَ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ " قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهَا إنْ دَخَلَ فَهِدَ أَيْ نَامَ وَغَفَلَ كَالْفَهْدِ لِكَثْرَةِ نَوْمِهِ، يُقَالُ: أَنْوَمُ مِنْ فَهْدٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تَصِفهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 بِكَثْرَةِ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ لَهُ. وَقَوْلُهَا: وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ تَمْدَحُهُ بِالشَّجَاعَةِ أَيْ صَارَ كَالْأَسَدِ، يُقَالُ: أَسِدَ الرَّجُلُ وَاسْتَأْسَدَ إذَا صَارَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهَا: وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ، أَيْ لَا يُفَتِّشُ عَمَّا رَأَى فِي الْبَيْتِ وَعَرَفَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: لَا يَتَفَقَّدُ مَا ذَهَبَ مِنْ مَالِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَعَايِبِ الْبَيْتِ وَمَا فِيهِ، فَكَأَنَّهُ سَاهٍ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ شَرْحُ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ عَنْ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ مَا قَالَ: هَذَا يَقْتَضِي تَفْسِيرَيْنِ لِعَهِدَ، أَحَدُهُمَا عَهِدَ قَبْلُ فَهُوَ يَرْجِعُ إلَى تَفَقُّدِ الْمَالِ، وَالثَّانِي: عَهِدَ الْآنَ فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِغْضَاءِ عَنْ الْمَعَايِبِ وَالِاحْتِمَالِ. وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ هَذَا عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَصْفِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَمِّ مَنْ كَانَ بِخِلَافِهِ، فَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الذَّوَّاقَ الْمِطْلَاقَ الَّذِي أَرَاهُ لَا يَأْكُلُ مَا وَجَدَ، وَيَسْأَلُ عَمَّا فُقِدَ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ كَالْأَسَدِ، وَكَانَ خَارِجًا كَالثَّعْلَبِ، لَكِنْ عَلِيٌّ لِفَاطِمَةَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا فَقَدَ، وَهُوَ عِنْدَهَا كَالثَّعْلَبِ، وَخَارِجًا كَالْأَسَدِ» . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ فَهِدَ هَذَا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ، جَعَلَتْ كَثْرَةَ تَغَافُلِهِ كَالنَّوْمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وُصِفَ الْفَهْدُ بِالْحَيَاءِ وَقِلَّةِ الشَّرَهِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا خُلُقُ مَدْحٍ وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ. وَمِمَّا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهَا، وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ. وَتَلَمَّحَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْمَعْنَى مَعَ أَمْثَالِهِ وَأَضْعَافِهِ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ وَالْعُلَمَاءِ. مَطْلَبٌ: فِي غَضِّ الطَّرْفِ وَالتَّغَافُلِ عَنْ زَلَّةِ الْإِخْوَانِ قَالَ مُتَمِّمًا لِمَا قَدَّمَهُ (وَغُضَّ) طَرْفَك وَتَغَافَلْ (عَنْ عَوَارٍ) بِتَثْلِيثِ الْعَيْنِ الْعَيْبُ، لِأَنَّ تَأَمُّلَ الْعَيْبِ عَيْبٌ فَالْأَوْلَى التَّغَافُلُ. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعَاقِلُ هُوَ الْحَكِيمُ الْمُتَغَافِلُ. وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ: مَا الْمُرُوءَةُ؟ قَالَ التَّغَافُلُ عَنْ زَلَّةِ الْإِخْوَانِ. وَفِي فُرُوعِ الْإِمَامِ ابْن مُفْلِحٍ: حَدَّثَ رَجُلٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ مَا قِيلَ: الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي التَّغَافُلِ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْعَافِيَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فِي التَّغَافُلِ. وَكَثِيرًا مَا وَصَفَتْ الْعَرَبُ الْكُرَمَاءَ وَالسَّادَةَ بِالتَّغَافُلِ وَالْحَيَاءِ فِي بُيُوتِهَا وَأَنْدِيَتِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ نَزِرُ الْكَلَامِ مِنْ الْحَيَاءِ تَخَالُهُ ... صَمْتًا وَلَيْسَ بِجِسْمِهِ سَقَمُ وَقَالَ آخَرُ: كَرِيمٌ يَغُضُّ الطَّرَفَ دُونَ خِبَائِهِ ... وَيَدْنُو وَأَطْرَافُ الرِّمَاحِ دَوَانِي وَقَالَ كُثَيِّرٌ: وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ ... وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ وَمَنْ يَتَطَلَّبْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ ... يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ وَلَمَّا كَانَ إطْلَاقُ نِظَامِهِ يَشْمَلُ مَا يَمْدَحُهُ الشَّرْعُ وَيَذُمُّهُ بَيَّنَ النَّاظِمُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْسُنُ عَدَمُ السُّؤَالِ وَالتَّغَافُلُ وَغَضُّ الطَّرْفِ عَنْ الْعَوَارِ فَقَالَ (إذَا لَمْ يَذْمُمْ) أَيْ يَعِبْ وَيَشِنْ (الشَّرْعُ) ذَلِكَ وَإِلَّا وَجَبَ السُّؤَالُ وَالتَّفْتِيشُ، فَإِنَّ التَّغَافُلَ إنَّمَا يُمْدَحُ فِي أَمْرِ الْمَعَاشِ وَفِي الْمُسَامَحَةِ فِي كَلِمَةٍ، وَإِهْمَالِ أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالْعِرْضِ فَلَا يَحْسُنُ التَّغَافُلُ لَا سِيَّمَا عَنْ الْوَاجِبَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ «الْغَفْلَةُ فِي ثَلَاثٍ: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَحِينَ يُصَلِّي الصُّبْحَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَغَفْلَةُ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ فِي الدَّيْنِ حَتَّى يَرْكَبَهُ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فَإِنَّك أَيُّهَا الْأَخُ فِي اللَّهِ إنْ فَعَلْت مَا أَمَرْتُك بِهِ مِنْ عَدَمِ السُّؤَالِ وَمِنْ غَضِّ الطَّرْفِ عَنْ الْعَوَارِ حَيْثُ لَمْ يَذُمَّهُ الشَّرْعُ (تَرْشُدْ) لِكُلِّ فِعْلٍ حَمِيدٍ وَتَسْعَدْ، وَتُوَفَّقْ لِلصَّوَابِ وَتُسَدَّدْ. مَطْلَبٌ: النِّسَاءُ وَدَائِعُ عِنْدَ الرِّجَالِ وَكُنْ حَافِظًا أَنَّ النِّسَاءَ وَدَائِعُ ... عَوَانٌ لَدَيْنَا احْفَظْ وَصِيَّةَ مُرْشِدِ (وَكُنْ) أَيُّهَا الْأَخُ الْمُسْتَرْشِدُ وَالْحَافِظُ لِدِينِهِ، الْمُجْتَهِدُ عَلَى إظْهَارِ الْأَدَبِ وَتَبْيِينِهِ الْمُتَفَقِّدَ غَثَّ الْقَوْلِ مِنْ سَمِينِهِ (حَافِظًا) حِفْظَ تَحْقِيقٍ وَتَفَهُّمٍ، وَتَدْقِيقٍ وَتَعْلِيمٍ، حَدِيثَ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، مَعْدِنِ الْأَسْرَارِ. وَيَنْبُوعِ الْأَنْوَارِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ وَكُنْ حَافِظًا وَدِيعَتَك يَعْنِي زَوْجَك، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (أَنَّ) أَيْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 لِأَنَّ (النِّسَاءَ وَدَائِعُ) اللَّهِ عِنْدَنَا (عَوَانٌ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ أَيْ أَسِيرَاتٌ (لَدَيْنَا) أَيْ عِنْدَنَا مَعْشَرَ الرِّجَالِ (احْفَظْ) أَيُّهَا الْأَخُ (وَصِيَّةَ) أَخٍ نَاصِحٍ شَفِيقٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْمُرْشِدِ هُنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مُرْشِدِ) لِفِعْلِ الصَّوَابِ، حَرِيصٍ عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ، وَلَا تُهْمِلْ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْوَصَايَا فَتَنْدَمَ إذَا انْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَظَهَرَ الْمَكْتُومُ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ الْجُشَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَّرَ وَوَعَظَ ثُمَّ قَالَ: «أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أَلَا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَحَقُّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْن حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَأَلْطَفُهُمْ بِأَهْلِهِ» . وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْهَا بِلَفْظِ «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ. وَلَفْظُ الْحَاكِمِ «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِلنِّسَاءِ» وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَكَانَ غَيُورًا مِنْ غَيْرِ إفْرَاطٍ؛ وَلِذَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَطْلَبٌ: فِي الْغَيْرَةِ عَلَى النِّسَاءِ وَبَيَانِ أَنْوَاعِهَا وَلَا تُكْثِرْ الْإِنْكَارَ تُرْمَ بِتُهْمَةٍ ... وَلَا تَرْفَعَنَّ السَّوْطَ عَنْ كُلِّ مُعْتَدِ (وَلَا تُكْثِرْ الْإِنْكَارَ) عَلَيْهَا فَإِنَّك تُقَوِّي الْعَيْنَ عَلَيْهَا فَإِنْ فَعَلْت (تُرْمَ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 زَوْجَتُك بِسَبَبِ كَثْرَةِ إنْكَارِكَ عَلَيْهَا (بِتُهْمَةٍ) فِي نَفْسِهَا. فَيَقُولُ الْفُسَّاقُ: وَأَهْلُ الْفُجُورِ لَوْلَا أَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْهَا الْمَكْرُوهَ لَمَا أَكْثَرَ مِنْ إنْكَارِهِ عَلَيْهَا. وَالتُّهْمَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْوَهْمِ، يُقَالُ اتَّهَمَهُ بِكَذَا اتِّهَامًا، وَاتَّهَمَهُ كَافْتَعَلَهُ وَأَوْهَمَهُ أَدْخَلَ عَلَيْهِ التُّهْمَةَ أَيْ مَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ فَاتُّهِمَ هُوَ فَهُوَ مُتَّهَمٌ وَتَهِيمٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَفِي الْفُرُوعِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ سُلَيْمَانُ، قُلْت: وَالْمَحْفُوظُ فِي التَّوَارِيخِ وَتَرَاجِمِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَ دَاوُد لِابْنِهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -: يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرْ الْغَيْرَةَ عَلَى أَهْلِك مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ فَتُرْمَ بِالشَّرِّ مِنْ أَجْلِك وَإِنْ كَانَتْ بَرِيئَةً. قُلْت: وَحَدَّثَنِي شَيْخُنَا الشَّيْخُ مُصْطَفَى اللَّبَدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْغَيْرَةِ، فَكَانَ لَا يَدَعُ زَوْجَتَهُ تَغِيبُ عَنْ عَيْنِهِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ إلَى الْحَمَّامِ جَلَسَ عَلَى بَابِ الْحَمَّامِ حَتَّى تَخْرُجَ فَيَذْهَبَا جَمِيعًا، فَضَجِرَتْ مِنْهُ وَتَبَرَّمَتْ وَقَالَتْ: هَذَا أَمْرٌ يَشُقُّ عَلَيَّ وَأَنْتَ فَضَحْتَنِي، فَقَالَ لَهَا لَا تَطِيبُ نَفْسِي إلَّا مَا دُمْت عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَحَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى أَنْ زَنَتْ. قَالَ لِي شَيْخُنَا: نَظَرَتْ إلَى فَتًى عَابِرِ سَبِيلٍ فَقَالَتْ لَهُ مِنْ طَاقَةٍ إذَا أَذَّنَ الظُّهْرُ فَكُنْ بِالْبَابِ، فَقَالَ أَفْعَلُ، فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الْأَذَانِ جَلَسَتْ تَعْجِنُ وَجَلَسَ إلَى جَنْبِهَا، فَلَمَّا صَرَخَ الْمُؤَذِّنُ قَالَتْ لِزَوْجِهَا فُكَّ تِكَّةَ لِبَاسِي فَقَدْ زَحَمَنِي الْبَوْلُ فَفَعَلَ وَمَسَكَتْ التِّكَّةَ بِأَسْنَانِهَا، وَكَانَ بَيْتُ الْخَلَاءِ بِبَابِ الدَّارِ فَعَمَدَتْ إلَيْهِ فَفَتَحَتْ الْبَابَ فَوَجَدَتْ الْفَتَى فَمَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا ثُمَّ مَسَحَتْ ذَلِكَ فِي مِنْدِيلٍ كَانَ مَعَهَا، وَعَمَدَتْ إلَى عَجِينِهَا وَرَمَتْ بِالْمِنْدِيلِ إلَى زَوْجِهَا، فَقَالَ لَهَا: مَا هَذَا؟ قَالَتْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ فَضِيحَتِي، وَجَعْلُك هَذَا دَيْدَنًا، وَوَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ أَرَبِي وَلَكِنْ أَنْتَ الَّذِي حَمَلْتنِي عَلَيْهِ، فَإِنْ تَرَكْت سِيرَتَك تَرَكْت أَنَا، وَإِلَّا فَلَا، فَتَرَكَا جَمِيعًا. هَكَذَا قَالَ لِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَحَكَى لِي مِنْ هَذَا الْبَابِ حِكَايَاتٍ عَجِيبَةً وَذَكَرَ أَنَّهَا بَلَغَتْهُ عَنْ ثِقَاتٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَحْمُودُ مِنْ الْغَيْرَةِ صَوْنُ الْمَرْأَةِ عَنْ اخْتِلَاطِهَا بِالرِّجَالِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ آدَابِ النِّسَاءِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِفَاطِمَةَ - عَلَيْهَا السَّلَامُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 مَا خَيْرُ النِّسَاءِ؟ قَالَتْ أَنْ لَا يَرَيْنَ الرِّجَالَ وَلَا يَرَوْنَهُنَّ فَقَالَ عَلِيٌّ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّمَا فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي» . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قُلْت قَدْ يُشْكِلُ هَذَا عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ: الرَّجُلُ إذَا رَأَى الْمَرْأَةَ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتَتِنَ فَمَا بَالُ الْمَرْأَةِ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ فَكَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تُعْجِبُ الرَّجُلَ، فَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُعْجِبُ الْمَرْأَةَ، وَتَشْتَهِيهِ كَمَا يَشْتَهِيهَا، وَلِهَذَا تَنْفِرُ مِنْ الشَّيْخِ كَمَا يَنْفِرُ الرَّجُلُ مِنْ الْعَجُوزِ. «وَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ أَمَرَهُمَا بِالْقِيَامِ، فَقَالَتَا: إنَّهُ أَعْمَى، فَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْتُمَا عَمْيَاوَانِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: الْحَمْوُ الْمَوْتُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَعْنَى كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» . وَالْحَمْوُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَبِإِثْبَاتِ الْوَاوِ أَيْضًا وَبِالْهَمْزَةِ أَيْضًا هُوَ أَبُو الزَّوْجِ وَمَنْ أَدْلَى بِهِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَكَذَا فَسَّرَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ. وَأَبُو الْمَرْأَةِ أَيْضًا، وَمَنْ أَدْلَى بِهِ. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ قَرِيبُ الزَّوْجِ فَقَطْ وَقِيلَ قَرِيبُ الزَّوْجَةِ فَقَطْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي مَعْنَاهُ: يَعْنِي فَلْيَمُتْ وَلَا يَفْعَلَنَّ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ هَذَا رَأْيَهُ فِي أَبِ الزَّوْجِ وَهُوَ مَحْرَمٌ، فَكَيْفَ بِالْغَرِيبِ، انْتَهَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . وَفِي الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ مَرْفُوعًا «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَحْرَمٌ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَمَا بَطَنَ» وَأَنْشَدَ فِي الْفُرُوعِ لَا يَأْمَنَنَّ عَلَى النِّسَاءِ أَخٌ أَخَا ... مَا فِي الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ أَمِينُ إنَّ الْأَمِينَ وَإِنْ تَحَفَّظَ جَهْدَهُ ... لَا بُدَّ أَنْ بِنَظْرَةٍ سَيَخُونُ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنْ الْغَيْرَةِ مِنْهَا الْمَحْمُودُ وَالْمَذْمُومُ: وَمَلَاكُ الْغَيْرَةِ وَأَعْلَاهَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: غَيْرَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُهُ وَتَضِيعَ حُدُودُهُ وَغَيْرَتُهُ عَلَى قَلْبِهِ أَنْ يَسْكُنَ إلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يَأْنِسَ بِسِوَاهُ، وَغَيْرَتُهُ عَلَى حُرْمَتِهِ أَنْ يَتَطَلَّعَ عَلَيْهَا غَيْرُهُ. فَالْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ دَارَتْ عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَمَا عَدَاهَا، فَإِمَّا مِنْ خِدَعِ الشَّيْطَانِ، وَإِمَّا بَلْوَى مِنْ اللَّهِ كَغَيْرَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: فِي ضَرْبِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ تَأْدِيبًا لَهَا (وَلَا تَرْفَعَنَّ) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِرْشَادُ وَالْجَوَازُ (السَّوْطَ) بِالسِّينِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، الْمِقْرَعَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَخْلِطُ اللَّحْمَ بِالدَّمِ. وَأَصْلُ السَّوْطِ الْخَلْطُ، وَهُوَ أَنْ تَخْلِطَ شَيْئَيْنِ فِي إنَائِك ثُمَّ تَضْرِبَهُمَا بِيَدِك حَتَّى يَخْتَلِطَا. وَجَمْعُ السَّوْطِ سِيَاطٌ وَأَسْوَاطٌ (عَنْ كُلِّ مُعْتَدٍ) أَيْ ظَالِمٍ مُفْسِدٍ مِنْ أَهْلِك تَأْدِيبًا لَهَا وَرَدْعًا عَنْ ظُلْمِهَا وَفَسَادِهَا، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَأَقَلَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَغَيْرُهُمْ: إذَا ظَهَرَ مِنْ الزَّوْجَةِ أَمَارَاتُ النُّشُوزِ بِأَنْ تَتَشَاغَلَ أَوْ تُدَافِعَ إذَا دَعَاهَا إلَى الِاسْتِمْتَاعِ أَوْ تُجِيبَهُ مُتَبَرِّمَةً مُتَكَرِّهَةً أَوْ يَخْتَلَّ أَدَبُهَا فِي حَقِّهِ، وَعَظَهَا، فَإِنْ رَجَعَتْ إلَى الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ حَرُمَ الْهَجْرُ وَالضَّرْبُ، وَإِنْ أَصَرَّتْ وَأَظْهَرَتْ النُّشُوزَ بِأَنْ عَصَتْهُ وَامْتَنَعَتْ مِنْ إجَابَتِهِ إلَى الْفِرَاشِ، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ، وَفِي الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا فَوْقَهَا. فَإِنْ أَصَرَّتْ، وَلَمْ تَرْتَدِعْ فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا فَيَكُونَ الضَّرْبُ بَعْدَ الْهَجْرِ فِي الْفِرَاشِ وَتَرْكِهَا مِنْ الْكَلَامِ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، أَيْ غَيْرَ شَدِيدٍ يُفَرِّقُهُ عَلَى بَدَنِهَا وَيَجْتَنِبُ الْوَجْهَ وَالْبَطْنَ وَالْمَوَاضِعَ الْمَخُوفَةَ وَالْمُسْتَحْسِنَةَ عَشَرَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 أَسْوَاطٍ فَأَقَلَّ. وَقِيلَ بِدِرَّةٍ أَوْ مِخْرَاقِ مِنْدِيلٍ مَلْفُوفٍ لَا بِسَوْطٍ وَلَا خَشَبٍ، فَإِنْ تَلِفَتْ مِنْ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَيُمْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَنْ عُلِمَ بِمَنْعِهِ حَقَّهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهُ وَيُحْسِنَ عِشْرَتَهَا، وَلَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ لِمَ ضَرَبَهَا وَلَا أَبُوهَا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَسْأَلْ الرَّجُلَ فِيمَ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَلَهُ تَأْدِيبُهَا كَذَلِكَ عَلَى تَرْكِ فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَا يَمْلِكُ تَعْزِيرَهَا فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالسِّحَاقِ؛ لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْحَاكِمِ. وَنَقَلَ مُهَنَّا هَلْ يَضْرِبُهَا عَلَى تَرْكِ زَكَاةٍ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: وَفِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ يَضْرِبُهَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ. قَالَهُ فِي الِانْتِصَارِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ يَمْلِكُهُ. قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي سُؤَالُهُ لِمَ ضَرَبَهَا. قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي التَّرْغِيبِ وَغَيْرِهِ: الْأَوْلَى تَرْكُهُ يَعْنِي تَرْكَ الضَّرْبِ إبْقَاءً لِلْمَوَدَّةِ. وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتْرُكَهُ عَنْ الصَّبِيِّ لِإِصْلَاحِهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «مَا ضَرَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ» . وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا «خُرُوجُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اللَّيْلِ إلَى الْبَقِيعِ وَإِخْفَائِهِ مِنْهَا، وَخَرَجَتْ فِي أَثَرِهِ فَأَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتْ: ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْت، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْت، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْت، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْت» . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: الْإِحْضَارُ الْعَدْوُ، «فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْت فَدَخَلَ فَقَالَ مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ حَشْيَا رَابِئَةً؟ قُلْت: لَا شَيْءَ قَالَ لَتُخْبِرَنِّي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ، قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرَتْهُ فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ: أَظَنَنْت أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْك وَرَسُولُهُ» . قَوْلُهُ حَشْيَا هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ وَالْحَشَا وَالرَّبْوُ وَالتَّهَيُّجُ الَّذِي يَعْرِضُ لِلْمُسْرِعِ فِي مَشْيِهِ وَالْمُجِدِّ فِي كَلَامِهِ مِنْ ارْتِفَاعِ النَّفَسِ وَتَوَاتُرِهِ. وَقَوْلُهُ رَابِئَةً أَيْ مُرْتَفِعَةَ الْبَطْنِ. وَقَوْلُهَا لَهَدَنِي بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَرُوِيَ بِالزَّايِ وَهُمَا مُتَقَارِبَتَانِ يُقَالُ لَهَدَهُ وَلَهَّدَهُ بِتَخْفِيفِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 أَيْ دَفَعَهُ، وَيُقَالُ لَهَزَهُ أَيْ ضَرَبَهُ بِجَمْعِ كَفِّهِ فِي صَدْرِهِ، وَيَقْرَبُ مِنْهَا لَكَزَهُ وَوَكَزَهُ. مَطْلَبٌ: فِي مُدَارَاةِ الْمَرْأَةِ وَعَدَمِ الطَّمَعِ فِي إقَامَةِ اعْوِجَاجِهَا وَلَا تَطْمَعَنْ فِي أَنْ تُقِيمَ اعْوِجَاجَهَا ... فَمَا هِيَ إلَّا مِثْلُ ضِلَعٍ مُرَدَّدِ (وَلَا تَطْمَعَنْ) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَالطَّمَعُ الْحِرْصُ، يُقَالُ: طَمِعَ فِي الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ حَرَصَ عَلَيْهِ (فِي أَنْ تُقِيمَ) أَنْ وَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ أَيْ فِي إقَامَتِك (اعْوِجَاجَهَا) أَيْ زَوْجَتِك. وَالِاعْوِجَاجُ مَصْدَرُ اعْوَجَّ اعْوِجَاجًا (فَمَا هِيَ) فِي اعْوِجَاجِهَا وَعَدَمِ اسْتِقَامَتِهَا (إلَّا مِثْلُ) شَبَهُ (ضِلَعٍ) بِكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِهَا أَيْضًا وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ (مُرَدَّدِ) أَيْ مُعْوَجٍّ غَيْرِ مُسْتَقِيمٍ بَلْ اسْتِقَامَتُهُ مُتَعَذِّرَةٌ؛ لِأَنَّ الِاعْوِجَاجَ فِيهِ أَصْلِيٌّ طَبِيعِيٌّ خُلِقَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ كَذَلِكَ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَزُولُ وَالطَّبْعُ أَمْلَكُ. وَكُلُّ هَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، فَإِنْ أَقَمْتهَا كَسَرْتهَا فَدَارِهَا تَعِشْ بِهَا» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتَقِيمَ لَك عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنْ اسْتَمْتَعْت بِهَا اسْتَمْتَعْت بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمُهَا كَسَرْتهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا» . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْعِوَجُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، وَقِيلَ إذَا كَانَ فِيمَا هُوَ مُنْتَصِبٌ كَالْحَائِطِ وَالْعَصَا قِيلَ فِيهِ عَوَجٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْوَاوِ، وَفِي غَيْرِ الْمُنْتَصِبِ كَالدِّينِ وَالْخُلُقِ وَالْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُقَالُ فِيهِ عِوَجٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْوَاوِ قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَوَجُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 شَيْءٍ مَرْئِيٍّ كَالْأَجْسَامِ، وَبِالْكَسْرِ فِيمَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ كَالرَّأْيِ وَالْقَوْلِ، وَقِيلَ: الْكَسْرُ يُقَالُ فِيهِمَا مَعًا وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. فَعَلَى الْعَاقِلِ الْعَفْوُ وَالتَّغَافُلُ وَإِنْ سَاءَهُ مِنْهَا خُلُقٌ فَقَدْ يَسُرُّهُ خُلُقٌ آخَرُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ، أَوْ قَالَ غَيْرَهُ» . قَوْلُهُ يَفْرَكُ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ أَيْضًا، وَضَمُّهَا شَاذٌّ أَيْ يَبْغَضُ. مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ السُّكْنَى فَوْقَ الطَّرِيقِ مُوجِبَةٌ لِلتُّهْمَةِ وَسُكْنَى الْفَتَى فِي غُرْفَةٍ فَوْقَ سِكَّةِ ... تَئُولُ إلَى تُهْمَى الْبَرِيِّ الْمُشَدِّدِ (وَسُكْنَى الْفَتَى) يَعْنِي إذَا سَكَنَ الرَّجُلُ (فِي غُرْفَةٍ) بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْعَلِيَّةِ جَمْعُهَا غُرُفَاتٍ بِضَمَّتَيْنِ وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا، وَغُرَفٌ كَصُرَدٍ حَالَ كَوْنِ الْغُرْفَةِ (فَوْقَ سِكَّةٍ) أَيْ طَرِيقٍ (تَئُولُ) أَيْ تَرْجِعُ سُكْنَاهُ كَذَلِكَ (إلَى تُهْمَى) وَسُوءِ ظَنِّ النَّاسِ فِيهِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً جَبَّ الْغِيبَةَ عَنْ نَفْسِهِ» . وَفِي حَدِيثٍ «مَنْ وَقَفَ مَوَاقِفَ التُّهَمِ فَلَا يَلُومُنَّ مَنْ أَسَاءَ الظَّنَّ فِيهِ» وَذَلِكَ أَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ تَئُولُ إلَى تُهْمَى (الْبَرِيِّ) مِنْ الْعَيْبِ، النَّزِهِ مِنْ قَاذُورَاتِ الذُّنُوبِ، الْمُتَحَفِّظِ فِي أَمْرِ دِينِهِ (الْمُشَدِّدِ) عَلَى نَفْسِهِ فِي صَوْنِهَا عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ وَالتَّطَلُّعِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، وَالْمُضَيِّقِ عَلَى بَصَرِهِ مِنْ الطُّمُوحِ وَلِسَانِهِ مِنْ الْبَذَاذَةِ، الصَّائِنِ لِكُلِّ جَوَارِحِهِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا اتِّهَامُ الْبَرِيِّ الَّذِي بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَيْفَ بِحَالِ غَيْرِهِ. فَالْأَوْلَى وَالْأَحْرَى لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَا يَسْكُنُ مَكَانًا مُشْرِفًا عَلَى حُرَمِ الْمُسْلِمِينَ. وَيُحْتَمَلُ إرَادَةُ النَّاظِمِ أَنَّ سُكْنَى الْفَتَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ يَئُولُ إلَى تُهْمَى أَهْلِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَسْلُكُ الطَّرِيقَ، فَرُبَّمَا رَأَى زَوْجَتَهُ بَعْضُ النَّاسِ فَتَشَبَّبَ بِهَا أَوْ وَصَفَهَا لِآخَرَ فَيُوهِمُ بِوَصْفِهِ إيَّاهَا اطِّلَاعَهُ عَلَيْهَا. فَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْأَوْلَى حَسْمُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَادَّةِ. وَهَذَا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَطْلَبٌ: يَخْتَارُ الرَّجُلُ زَوْجَةً ذَاتَ أَصْلٍ] ثُمَّ أَخَذَ النَّاظِمُ يُبَيِّنُ لِمَنْ أَرَادَ الزَّوَاجَ مَنْ يَتَزَوَّجُ وَيُحَذِّرُهُ مِنْ الِاغْتِرَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 بِالْجَمَالِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِنُطْفَتِهِ. وَبَدَأَ بِالتَّنْفِيرِ عَنْ حَسْنَاءِ الذَّاتِ قَبِيحَةِ الصِّفَاتِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: يَخْتَارُ الرَّجُلُ زَوْجَةً ذَاتَ أَصْلٍ: وَإِيَّاكَ يَا هَذَا وَرَوْضَةَ دِمْنَةٍ ... سَتَرْجِعُ عَنْ قُرْبٍ إلَى أَصْلِهَا الرَّدِي (وَإِيَّاكَ يَا هَذَا) أَيْ الْمُسْتَمِعُ لِنِظَامِي، الْمُحْتَفِلُ بِكَلَامِي، الْمُسْتَشِيرُ مِنِّي، وَالطَّالِبُ لِلنَّصِيحَةِ مِنْ جِهَتِي، وَالنَّاقِلُ لَهَا عَنِّي (وَرَوْضَةَ دِمْنَةٍ) أَيْ احْذَرْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا وَلَا تَرْغَبْ فِيهَا، بَلْ ارْغَبْ عَنْهَا. وَالرَّوْضَةُ هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي فِيهِ نَبَاتٌ مُجْتَمِعٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَا يَكُونُ إلَّا فِي ارْتِفَاعٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مَاءٍ. قَالَهُ فِي الْمَطَالِعِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الرَّوْضَةُ وَالرِّيضَةُ بِالْكَسْرِ مِنْ الرَّمْلِ وَالْعُشْبِ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ فِيهَا. وَالدِّمْنَةُ آثَارُ الدَّارِ وَالْمَوْضِعُ الْقَرِيبِ مِنْهَا وَالْجَمْعُ دِمَنٌ. وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ وَالْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ «إيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنِ، قَالُوا وَمَا خَضْرَاءُ الدِّمَنِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الْمَرْأَةُ الْجَمِيلَةُ مِنْ الْمَنْبَتِ السُّوءِ» وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ. وَمَعْنَى كَلَامِ النَّاظِمِ التَّحْذِيرُ مِنْ الْبِنْتِ الْجَمِيلَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ بَيْتٍ مُتَّصِفِينَ بِغَيْرِ الْعَفَافِ، فَإِنَّ الْفُرُوعَ تَتْبَعُ الْأُصُولَ غَالِبًا. وَلِذَا قَالَ (سَتَرْجِعُ) تِلْكَ الْبِنْتُ وَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً وَمُتَّصِفَةً بِالْعِفَّةِ (عَنْ قُرْبٍ) وَلَوْ تَسَتَّرَتْ بِالْعَفَافِ (إلَى أَصْلِهَا) وَمَنْبَتِهَا (الرَّدِي) غَالِبًا. وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْأُصُولِ فِيمَنْ يُخَالِطُهُ وَيُعَاشِرُهُ وَيُشَارِكُهُ وَيُصَادِقُهُ وَيُزَوِّجُهُ أَوْ يَتَزَوَّجُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصُّوَرِ، فَإِنَّ صَلَاحَهَا دَلِيلٌ عَلَى صَلَاحِ الْبَاطِنِ. قَالَ: أَمَّا الْأُصُولُ فَإِنَّ الشَّيْءَ يَرْجِعُ إلَى أَصْلِهِ. وَبَعِيدٌ مِمَّنْ لَا أَصْلَ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعْنًى مُسْتَحْسَنٌ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ إذَا كَانَتْ مِنْ بَيْتٍ رَدِيءٍ فَقَلَّ أَنْ تَكُونَ أَمِينَةً. وَكَذَلِكَ أَيْضًا الْمُخَالِطُ وَالصَّدِيقُ وَالْمُبَاضِعُ وَالْمُعَاشِرُ فَإِيَّاكَ أَنْ تُخَالِطَ إلَّا مَنْ لَهُ أَصْلٌ يَخَافُ عَلَيْهِ الدَّنَسَ، فَالْغَالِبُ السَّلَامَةُ، وَإِنْ وَقَعَ خِلَافُ ذَلِكَ كَانَ نَادِرًا. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ: أَشِرْ عَلَيَّ فِيمَنْ أَسْتَعْمِلُ؟ فَقَالَ: أَمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 أَرْبَابُ الدِّينِ فَلَا يُرِيدُونَك، وَأَمَّا أَرْبَابُ الدُّنْيَا فَلَا تُرِيدُهُمْ، وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْأَشْرَافِ فَإِنَّهُمْ يَصُونُونَ شَرَفَهُمْ عَمَّا لَا يَصْلُحُ. ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: دَعَانِي الْمُعْتَصِمُ يَوْمًا فَأَدْخَلَنِي مَعَهُ الْحَمَّامَ، ثُمَّ خَرَجَ فَخَلَا بِي وَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْهُ، إنَّ أَخِي الْمَأْمُونَ اصْطَنَعَ فَأَنْجَبُوا وَاصْطَنَعْت أَنَا مِثْلَهُمْ فَلَمْ يُنْجِبُوا. قُلْت وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ اصْطَنَعَ طَاهِرًا وَابْنَهُ، وَإِسْحَاقَ وَآلَ سَهْلٍ، فَقَدْ رَأَيْت كَيْفَ هُمْ، وَاصْطَنَعْت أَنَا الْأَفْشِينَ فَقَدْ رَأَيْتَ إلَى مَآلِ أَمْرِهِ وَأَسَاسِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ شَيْئًا وَكَذَلِكَ أَنْبَاحٌ وَوَصِيفٌ. قُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَاهُنَا جَوَابٌ عَلَيَّ أَمَانٌ مِنْ الْغَضَبِ، قَالَ لَك ذَلِكَ قُلْت نَظَرَ أَخُوك إلَى الْأُصُولِ فَاسْتَعْمَلَهَا فَأَنْجَبَتْ فُرُوعُهَا، وَاسْتَعْمَلْت فُرُوعًا لَا أُصُولَ لَهَا فَلَمْ تُنْجِبْ. فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ مُقَاسَاةُ مَا مَرَّ بِي طُولُ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ. انْتَهَى. وَفِي خَبَرٍ «اُنْظُرْ فِي أَيِّ شَيْءٍ تَضَعُ وَلَدَك فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ» . وَقِيلَ إنَّ جَعْفَرَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ عَابَ يَوْمًا عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا كَمَا يَجِبُ، فَقَالَ لَهُ وَلَدُهُ (أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ) إنَّك عَمَدْت إلَى فَاسِقِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَإِمَاءِ الْحِجَازِ فَأَوْعَيْتَ فِيهِنَّ بُضْعَك، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ يُنْجِبُوا، وَإِنَّمَا تَحِنُّ لِصَاحِبَاتِ الْحِجَازِ، هَلَّا فَعَلْت فِي وَلَدِك مَا فَعَلَ أَبُوك فِيك حِينَ اخْتَارَ لَك عَقِيلَةَ قَوْمِهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي وَصْفِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُنَافَسَ فِيهَا شِعْرًا: صِفَاتُ مَنْ يَسْتَحِبُّ الشَّرْعُ خِطْبَتِهَا ... جَلَوْتُهَا لِأُولِي الْأَبْصَارِ مُخْتَصِرَا حَسِيبَةٌ ذَاتُ دِينٍ زَانَهَا أَدَبٌ ... وَلَوْ تَكُونُ حَوَتْ فِي حُسْنِهَا الْقَمَرَا غَرِيبَةٌ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ خَاطِبْهَا ... هَذِي الصِّفَاتِ الَّتِي أَجْلُو لِمَنْ نَظَرَا بِهَا أَحَادِيثُ جَاءَتْ وَهِيَ ثَابِتَةٌ ... أَحَاطَ عِلْمًا بِهَا مَنْ فِي الْعُلُومِ قَرَا. مَطْلَبٌ: فِي الْكَفَاءَةِ وَأَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : فِي الْكَفَاءَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. إحْدَاهُمَا أَنَّهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، فَإِذَا فَاتَتْ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الزَّوْجَةِ وَهِيَ بِهِ، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُنْكِحُوا النِّسَاءَ إلَّا الْأَكْفَاءَ، وَلَا يُزَوِّجْهُنَّ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوِي الْأَحْسَابِ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا. وَقَالَ سَلْمَانُ لِجَرِيرٍ: إنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَا يَتَقَدَّمُ فِي صَلَاتِكُمْ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُكُمْ. إنَّ اللَّهَ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَهُ فِيكُمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْكَفَاءَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا، وَهِيَ الْمَذْهَبُ. نَعَمْ هِيَ شَرْطٌ لِلُزُومِ النِّكَاحِ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ: وَالْكَفَاءَةُ فِي زَوْجٍ شَرْطٌ لِلُزُومِ النِّكَاحِ لَا لِصِحَّتِهِ فَيَصِحَّ مَعَ فَقْدِهَا فَهِيَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ حَتَّى مَنْ يُحَدِّثَ، فَلَوْ زُوِّجَتْ بِغَيْرِ كُفْءٍ فَلِمَنْ لَمْ يَرْضَ الْفَسْخَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ جَمِيعِهِمْ فَوْرًا وَمُتَرَاخِيًا. وَيَمْلِكُهُ الْأَبْعَدُ مَعَ رِضَا الْأَقْرَبِ وَالزَّوْجَةُ. نَعَمْ لَوْ زَالَتْ الْكَفَاءَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ اخْتَصَّ الْخِيَارُ بِالزَّوْجَةِ فَقَطْ. وَالْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الدِّينُ، فَلَا يَكُونُ الْفَاجِرُ وَالْفَاسِقُ كُفُؤًا لِعَفِيفٍ عَدْلٍ. الثَّانِي: الْمَنْصِبُ وَهُوَ النَّسَبُ، فَلَا يَكُونُ الْأَعْجَمِيُّ وَهُوَ مَنْ لَيْسَ مِنْ الْعَرَبِ كُفُؤًا لِعَرَبِيَّةٍ. (الثَّالِثُ) : الْحُرِّيَّةُ، فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ وَلَوْ مُبَعَّضًا كُفُؤًا لِحُرَّةٍ وَلَوْ عَتِيقَةً. (الرَّابِعُ) : الصِّنَاعَةُ، فَلَا يَكُونُ صَاحِبُ صِنَاعَةٍ دَنِيئَةٍ كَحِجَامَةٍ، وَحِيَاكَةٍ، وَزَبَّالٍ، وَكَسَّاحٍ كُفُؤًا لِبِنْتِ مَنْ هُوَ صَاحِبُ صِنَاعَةٍ جَلِيلَةٍ كَالتَّاجِرِ وَالْبَزَّازِ وَصَاحِبِ الْعَقَارِ. (الْخَامِسُ) : الْيَسَارُ بِمَالٍ بِحَسَبِ مَا يَجِبُ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ بِحَيْثُ لَا تَتَغَيَّرُ عَلَيْهَا عَادَتُهَا عِنْدَ أَبِيهَا فِي بَيْتِهِ، فَلَا يَكُونُ الْعَسِرُ كُفُؤًا لِمُوسِرَةٍ، وَلَيْسَ مَوْلَى الْقَوْمِ كُفُؤًا لَهُمْ، وَيَحْرُمُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ إلَّا بِرِضَاهَا وَيَفْسُقُ بِهِ الْوَلِيُّ، وَيَسْقُطُ خِيَارُهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْقَوْلِ، وَلَا تُعْتَبَرُ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِي الْمَرْأَةِ فَلَيْسَتْ الْكَفَاءَةُ شَرْطًا فِي حَقِّهَا لِلرَّجُلِ. الثَّانِي: مَنْ قَالَ إنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ كَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 الْمَرْجُوحَةُ عِنْدَنَا مَحْجُوجٌ بِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَ زَيْدًا مَوْلَاهُ ابْنَةَ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَزَوَّجَ ابْنَهُ أُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّةَ الْقُرَشِيَّةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدًا ابْنَةَ الْوَلِيدِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. (الثَّالِثُ) : الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءُ، وَالْعَجَمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءُ. لِأَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ تَزَوَّجَ ضُبَاعَةَ ابْنَةَ الزُّبَيْرِ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَزَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ أُخْتَهُ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ، وَزَوَّجَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَبَنُو هَاشِمٍ كَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ غَيْرَ الْمُنْتَسِبِ إلَى الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ الْمَشْهُورِينَ لَيْسَ كُفُؤًا لِلْمُنْتَسِبِ إلَيْهِمَا، وَلَيْسَ الْمُحْتَرِفُ كُفُؤًا لِبِنْتِ الْعَالِمِ. وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْكَفَاءَةَ الدِّينُ وَالنَّسَبُ، اخْتَارَهُ الْخِرَقِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ: إذَا قُلْنَا الْكَفَاءَةَ لِحَقِّ اللَّهِ اُعْتُبِرَ الدِّينُ فَقَطْ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ: أَلَا إنَّمَا التَّقْوَى هِيَ الْعِزُّ وَالْكَرَمُ ... وَحُبُّك لِلدُّنْيَا هُوَ الذُّلُّ وَالسَّقَمُ وَلَيْسَ عَلَى عَبْدٍ تَقِيٍّ نَقِيصَةٌ ... إذَا حَقَّقَ التَّقْوَى وَإِنْ حَاكَ أَوْ حَجَمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: لَا يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْفَقِيرُ إلَّا ضَرُورَةً وَلَا تَنْكِحْنَ فِي الْفَقْرِ إلَّا ضَرُورَةً ... وَلُذْ بِوِجَاءِ الصَّوْمِ تُهْدَ وَتَهْتَدِ (وَلَا تَنْكِحْنَ) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (فِي الْفَقْرِ) وَهُوَ ضِدُّ الْغِنَى لِأَنَّ الْفَقْرَ وَإِنْ كَانَ شَرَفًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ، لَكِنَّهُ سُلَّمٌ يُتَرَقَّى بِهِ إلَى الْخَوْضِ فِي عِرْضِهِ وَعَدِمِ اكْتِرَاثِ النَّاسِ بِهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، وَهُوَ مَظِنَّةُ طُمُوحِ نَظَرِ الزَّوْجَةِ إلَى أَرْبَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 الْأَمْوَالِ، وَاسْتِشْرَافِ نَفْسِهَا إلَى أَهْلِ الْبِزَّةِ مِنْ الرِّجَالِ، وَنُبُوِّ نَظَرِهَا عَنْ بَعْلِهَا الْفَقِيرِ وَإِنْ كَانَ يُعَادِلُ عِنْدَ اللَّهِ أَضْعَافَ أَهْلِ الْغِنَى وَالنَّوَالِ، فَلِهَذَا حَذَّرَ النَّاظِمُ الْحَكِيمُ وَالنَّاصِحُ لِإِخْوَانِهِ عَلَى حَسَبِ مَا مَنَحَهُ الْخَبِيرُ الْعَلِيمُ، مِنْ النِّكَاحِ فِي فَقْرِهِ (إلَّا) إذَا كَانَ ذَلِكَ (ضَرُورَةً) أَيْ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ مِنْ خَوْفِ الزِّنَا الَّذِي هُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِدُخُولِ النَّارِ، وَغَضَبِ الْجَبَّارِ، وَالْحَشْرِ مَعَ الْأَشْقِيَاءِ الْفُجَّارِ، إلَى دَارِ الْبَوَارِ، وَالذُّلِّ وَالصَّغَارِ، أَوْ مِنْ خَوْفِ دَوَاعِي الزِّنَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا خَافَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ حِينَئِذٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى امْرَأَةً صَالِحَةً مِنْ بَيْتٍ صَالِحٍ يَغْلِبُ عَلَى بَيْتِهَا الْفَقْرُ لِتَرَى مَا يَأْتِي بِهِ إلَيْهَا كَثِيرًا، وَلِيَتَزَوَّجَ مِنْ مُقَارِبِهِ فِي السِّنِّ، وَلِيُتِمَّ نَقْصَهُ بِحُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَبَذْلِ الْبَشَاشَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ. وَإِنَّمَا نَهَى النَّاظِمُ الْفَقِيرَ عَنْ النِّكَاحِ مَعَ عِلْمِهِ بِفَضِيلَتِهِ، وَحَثَّ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهِ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ، وَآثَارٍ مُرِيحَةٍ؛ وَالْأَمْرُ بِهِ فِي الْكِتَاب الْقَدِيمِ الْمُنَزَّلِ، عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ الْمُرْسَلِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ إذَا تَزَوَّجَ اشْتَغَلَ بَالُهُ بِالنَّفَقَةِ وَتَحْصِيلِ الْمَعَاشِ، وَرُبَّمَا صَارَ صَاحِبَ عِيَالٍ فَيَضِيقُ عَلَيْهِ الْحَالُ وَلَا يَزَالُ يَحْتَالُ. فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَلَالِ تَرَخَّصَ فِي تَنَاوُلِ الشُّبُهَاتِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَعْفِ دِينِهِ. وَرُبَّمَا مَدَّ يَدَهُ إلَى الْحَرَامِ، وَارْتَكَبَ الْآثَامَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ مُوسِرًا لَأَنْ يَنْكِحَ ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْ فَلَيْسَ مِنِّي» هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. وَأَبُو نَجِيحٍ تَابِعِيٌّ وَاسْمُهُ يَسَارٌ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتٌ وَهُوَ وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيِّ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يُذَمُّ عَلَى عَدَمِ الزَّوَاجِ. فَالْمُؤْمِنُ إذَا عَلِمَ ضَعْفَهُ عَنْ الْكَسْبِ اجْتَهَدَ فِي التَّعَفُّفِ عَنْ النِّكَاحِ وَتَقْلِيلِ النَّفَقَةِ، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ، الَّذِي فَقَدْنَا فِيهِ الْمُعِينَ وَالْإِخْوَانَ. فَلَا بَيْتُ مَالٍ مُنْتَظِمٍ؛ وَلَا خَلِيلٌ صَادِقُ الْمَوَدَّةِ فِي مَالِهِ نَتَوَسَّعُ وَنَحْتَكِمُ. فَلَيْسَ لِلْفَقِيرِ الذَّلِيلِ مِنْ صِدِّيقٍ وَلَا خَلِيلٍ إلَّا الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَقَدْ كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَتَفَقَّدُ أَكَابِرَ الْعُلَمَاءِ. فَقَدْ بَعَثَ إلَى مَالِكٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ. وَإِلَى ابْنِ لَهِيعَةَ بِأَلْفِ دِينَارٍ. وَأَعْطَى عَمَّارَ بْنَ مَنْصُورٍ أَلْفَ دِينَارٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وَجَارِيَةً بِثَلَثِمِائَةِ دِينَارٍ. وَمَا زَالَ الزَّمَانُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ؛ إلَى أَنْ آلَ الْحَالُ إلَى انْمِحَاقِ الرِّجَالِ؛ وَصَارَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعَ بْنَ لُكَعٍ فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. مَطْلَبٌ: الصَّوْمُ يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ. وَلَمَّا نَهَى النَّاظِمُ الْفَقِيرَ عَنْ النِّكَاحِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ شَهْوَةَ الْفَرْجِ شَدِيدَةٌ وَيَحْتَاجُ إلَى كَسْرِهَا بِنَوْعٍ مَا أَرْشَدَهُ إلَى كَسْرِ الشَّهْوَةِ بِالصَّوْمِ فَقَالَ (وَلُذْ) أَيْ اسْتَتِرْ وَاحْتَمِ مِنْ اللَّوْذِ بِالشَّيْءِ وَهُوَ الِاسْتِتَارُ بِهِ كَاللِّوَازِ مُثَلَّثَةٌ وَاللِّيَاذُ وَالْمُلَاوَذَةُ وَالْمَلَاذُ الْحِصْنُ أَيْ تَسَتَّرْ وَتَحَصَّنْ (بِوِجَاءِ الصَّوْمِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْوِجَاءُ أَنْ تُرَضَّ أُنْثَيَا الْفَحْلِ رَضًّا شَدِيدًا يُذْهِبُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ، وَيَتَنَزَّلُ فِي قِطْعَةِ الْخِصَاءِ وَقَدْ وَجِيءَ وِجَاءً فَهُوَ مَوْجُوءٌ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُوجَأَ الْعُرُوقُ وَالْخُصْيَتَانِ بِحَالِهِمَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ الصَّوْمَ يَقْطَعُ النِّكَاحَ. وَإِضَافَةُ الْوِجَاءِ إلَى الصَّوْمِ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفِهَا. أَيْ وَلُذْ بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ وِجَاءٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْبَاءَةُ وَالْبَاءُ النِّكَاحُ. وَفِي لَفْظٍ " عَلَيْكُمْ بِالْبَاءِ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ: وَبَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَمْرَ الْعَزَبِ بِالتَّزْوِيجِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَمْرَ الْمُتَزَوِّجِ بِالْبَاءَةِ، وَالْبَاءَةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْوَطْءِ. وَقَوْلُهُ «مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ» فُسِّرَتْ الْبَاءَةُ بِالْوَطْءِ، وَفُسِّرَتْ بِمُؤَنِ النِّكَاحِ وَلَا يُنَافِي التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ إذْ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا مُؤَنِ الْبَاءَةِ ثُمَّ قَالَ «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» فَأَرْشَدَهُمْ إلَى الدَّوَاءِ الشَّافِي الَّذِي وُضِعَ لِهَذَا الْأَمْرِ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ عَنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ إلَى الْبَدَلِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ يَكْسِرُ شَهْوَةَ النَّفْسِ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهَا مَجَارِيَ الشَّهْوَةِ، فَإِنَّهَا تَقْوَى بِكَثْرَةِ الْغِذَاءِ، وَقَلَّ مَنْ أَدَمْنَ الصَّوْمَ إلَّا وَمَاتَتْ شَهْوَتُهُ أَوْ ضَعُفَتْ انْتَهَى مُلَخَّصًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ (تَهْدِ) مَنْ اقْتَدَى بِك (وَتَهْتَدِ) أَنْتَ فِي نَفْسِك إلَى السَّبِيلِ الَّتِي أَرْشَدَ إلَيْهَا الطَّبِيبُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ وَأَحْكُمُ وَأَرْحَمُ. فَمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ أَقْوَمُ وَأَسْلَمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَخَذَ النَّاظِمُ يُبَيِّنُ لَك مَنْ تَتَزَوَّجُ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: النِّسَاءُ لُعَبٌ يَنْبَغِي تَحْسِينُهَا وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ: وَكُنْ عَالِمًا إنَّ النَّسَا لُعَبٌ لَنَا ... فَحَسِّنْ إذَنْ مَهْمَا اسْتَطَعْت وَجَوِّدْ (وَكُنْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ لِلنِّكَاحِ، الْمُسْتَرْشِدِ إلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالنَّجَاحُ (عَالِمًا) عِلْمَ فَهْمٍ وَتَحْقِيقٍ، وَامْتِثَالٍ وَتَدْقِيقٍ. (إنَّ النِّسَاءَ) جَمْعٌ لِلْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهَا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: النِّسْوَةُ بِالْكِسْرَةِ وَالضَّمِّ وَالنِّسَاءُ وَالنِّسْوَانِ وَالنِّسُونُ بِكَسْرِهِنَّ جُمُوعُ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهَا (لُعَبٌ) جَمْعُ لُعْبَةٍ بِالضَّمِّ التِّمْثَالُ وَمَا يُلْعَبُ بِهِ (لَنَا) يَعْنِي نُلَهَّى بِهِنَّ وَنَسْكُنُ إلَيْهِنَّ وَتَنْبَسِطُ نُفُوسُنَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِنَّ. (فَحَسِّنْ) أَمْرُ إرْشَادٍ (إذَنْ) أَيْ حَيْثُ إنَّ النِّسَاءَ لُعَبٌ لَنَا فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُحَسِّنَ لُعْبَتَك (مَهْمَا اسْتَطَعْت) يَعْنِي: اقْصِدْ الْحَسْنَاءَ فَتَزَوَّجْهَا وَلَا تَنْكِحْ الشَّوْهَاءَ (وَجَوِّدْ) مَهْمَا اسْتَطَعْت، أَيْ: اقْصِدْهَا جَيِّدَةَ الْخِصَالِ، مُشْتَمِلَةً عَلَى الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ، مَعَ طِيبِ الْأَصْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ آنِفًا؛ تَظْفَرْ بِغَايَةِ الْآمَالِ، وَيُغَضَّ مِنْك الْبَصَرُ، وَيُعَفَّ الْفَرْجُ، وَتَقْتَصِرْ عَلَى الْمُبَاحِ، وَيَنْتِجْ لَك ذَلِكَ النَّجَاحَ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ صَيْدِ الْخَاطِرِ: تَأَمَّلْت فَوَائِدَ النِّكَاحِ وَمَعَانِيَهُ وَمَوْضُوعَهُ فَرَأَيْت أَنَّ الْأَصْلَ الْأَكْبَرَ فِي وَضْعِهِ وُجُودُ النَّسْلِ، لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَزَالُ يَتَحَلَّلُ ثُمَّ يَخْلُفُ الْمُتَحَلِّلُ الْغِذَاءَ ثُمَّ يَتَحَلَّلُ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ مَا لَا يَخْلُفُهُ شَيْءٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ فَنَائِهِ وَكَانَ الْمُرَادُ امْتِدَادُ أَزْمَانِ الدُّنْيَا جُعِلَ النَّسْلُ خَلَفًا عَنْ الْأَصْلِ وَلَمَّا كَانَتْ صُورَةُ النِّكَاحِ تَأْبَاهَا النُّفُوسُ الشَّرِيفَةُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَمُلَاقَاةِ مَا لَا يَسْتَحْسِنُ لِنَفْسِهِ جُعِلَتْ الشَّهْوَةُ تَحُثُّ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ. ثُمَّ هَذَا الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ يَتْبَعُهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ اسْتِفْرَاغُ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي يُؤْذِي احْتِقَانُهُ، فَإِنَّ الْمَنِيَّ يَنْفَصِلُ مِنْ الْهَضْمِ الرَّابِعِ، فَهُوَ مِنْ أَصْفَى جَوْهَرِ الْغِذَاءِ وَأَجْوَدِهِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ، فَهُوَ أَحَدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 الذَّخَائِرِ لِلنَّفْسِ، فَإِنَّهَا تَدَّخِرُ لِبَقَائِهَا وَقُوَّتِهَا الدَّمَ ثُمَّ الْمَنِيَّ ثُمَّ تَدَّخِرُ التُّفْلَ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْمِدَةِ الْبَدَنِ كَأَنَّهُ لِخَوْفِ عَدَمِ غَيْرِهِ. فَإِذَا ازْدَادَ اجْتِمَاعُ الْمَنِيِّ أَقْلَقَ عَلَى نَحْوِ إقْلَاقِ الْبَوْلِ لِلْحَاقِنِ، إلَّا أَنَّ إقْلَاقَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَكْثَرُ مِنْ إقْلَاقِ الْبَوْلِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَتُوجِبُ كَثْرَةُ اجْتِمَاعِهِ وَطُولُ احْتِبَاسِهِ أَمْرَاضًا صَعْبَةً، لِأَنَّهُ يَرْتَقِي مِنْ بُخَارِهِ إلَى الدِّمَاغِ فَيُؤْذِي وَرُبَّمَا أَحْدَثَ سُمِّيَّةً، وَمَتَى كَانَ الْمِزَاجُ سَلِيمًا فَالطَّبْعُ يَطْلُبُ بُرُوزَ الْمَنِيِّ إذَا اجْتَمَعَ كَمَا يَطْلُبُ بُرُوزَ الْبَوْلِ. وَقَدْ يَنْحَرِفُ بَعْضُ الْأَمْزِجَةِ الصَّحِيحَةِ، فَإِذَا وَقَعَ الِاحْتِبَاسُ أَوْجَبَ أَمْرَاضًا، وَجَدَّدَ أَفْكَارًا، وَجَلَبَ الْعِشْقَ وَالْوَسْوَسَةَ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآفَاتِ. قَالَ: وَقَدْ نَجِدُ صَحِيحَ الْمِزَاجِ يُخْرِجُ ذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ وَهُوَ بَعْدُ مُتَقَلْقِلٌ، فَكَأَنَّهُ الْآكِلُ الَّذِي لَا يَشْبَعُ قَالَ: فَبَحَثْت عَنْ ذَلِكَ فَرَأَيْتُهُ وُقُوعَ الْخَلَلِ فِي الْمَنْكُوحِ، إمَّا لِدَمَامَتِهِ وَقُبْحِ مَنْظَرِهِ، أَوْ لِآفَةٍ فِيهِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ لِلنَّفْسِ، فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ مِنْهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ، فَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ مَا يَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ فَقِسْ مِقْدَارَ خُرُوجِ الْمَنِيِّ فِي الْمَحَلِّ الْمُشْتَهَى وَفِي الْمَحَلِّ الَّذِي هُوَ دُونَهُ كَالْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخْذَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوَطْءِ فِي مَحَلِّ النِّكَاحِ، وَكَوَطْءِ الْبِكْرِ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَطْءِ الثَّيِّبِ. فَعُلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّ تَخَيُّرَ الْمَنْكُوحِ يَسْتَقْصِي فُضُولَ الْمَنِيِّ، فَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ كَمَالُ اللَّذَّةِ لِمَوْضِعِ كَمَالِ بُرُوزِ الْفُضُولِ. ثُمَّ قَدْ يُؤَثِّرُ هَذَا فِي الْوَلَدِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ شَابِّينَ فَرَّجَا أَنْفُسَهُمَا عَنْ النِّكَاحِ مُدَّةً مَدِيدَةً كَانَ الْوَلَدُ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ غَيْرِهِمَا أَوْ مِنْ الْمُدْمِنِ عَلَى النِّكَاحِ فِي الْأَغْلَبِ، وَلِهَذَا كُرِهَ نِكَاحُ الْأَقَارِبِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَقْبِضُ النَّفْسَ عَنْ انْبِسَاطِهَا فَيَتَخَيَّلُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنْكِحُ بَعْضَهُ، وَمُدِحَ نِكَاحُ الْغَرَائِبِ لِهَذَا الْمَعْنَى. إلَى أَنْ قَالَ: فَمَنْ أَرَادَ نَجَابَةَ الْوَلَدِ وَقَضَاءَ الْوَطَرِ فَلْيَتَخَيَّرْ الْمَنْكُوحَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَخْطُوبَةِ، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ فَلْيَتَزَوَّجْهَا، وَلْيَنْظُرْ فِي كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ عَلَامَتَهَا تَعَلُّقٌ بِالْقَلْبِ بِحَيْثُ لَا يَكَادُ يَصْرِفُ الطَّرْفَ عَنْهَا، فَإِذَا انْصَرَفَ الطَّرْفُ قَلِقَ الْقَلْبُ وَتَقَاضَى النَّظْرَةَ. فَهَذَا الْغَايَةُ وَدُونَهُ مَرَاتِبُ عَلَى مَقَادِيرِهَا يَكُونُ بُلُوغُ الْأَغْرَاضِ. قَالَ: وَمَنْ قَدَرَ عَلَى مُنَاطَقَةِ الْمَرْأَةِ أَوْ مُكَالَمَتِهَا بِمَا يُوجِبُ التَّنْبِيهَ ثُمَّ لِيَرَى ذَلِكَ مِنْهَا، فَإِنَّ الْحُسْنَ فِي الْفَمِ وَالْعَيْنَيْنِ فَلْيَفْعَلْ. قَالَ: وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى جَوَازِ أَنْ يُبْصِرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 الرَّجُلُ مِنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرِيدُ نِكَاحَهَا مَا هُوَ عَوْرَةٌ يُشِيرُ إلَى مَا يَزِيدُ عَلَى الْوَجْهِ. وَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْعَقْدَ لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَوَقَانُ النَّفْسِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى الْعَاقِلِ تَوَقَانُ نَفْسِهِ لِأَجْلِ الْمُسْتَجِدِّ وَتَوَقَانِهَا لِأَجْلِ الْحُبِّ، فَإِذَا رَأَى قَلَقَ الْحُبِّ أَقْدَمَ. ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ إلَى عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ كُلُّ تَزْوِيجٍ عَلَى غَيْرِ هَوًى حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْمُتَخَيِّرِ أَنْ يَتَفَرَّسَ الْأَخْلَاقَ فَإِنَّهَا مِنْ الْخَفِيِّ، فَإِنَّ الصُّورَةَ إذَا خَلَتْ مِنْ الْمَعْنَى كَانَتْ كَخَضْرَاءِ الدِّمَنِ، فَإِنَّ نَجَابَةَ الْوَلَدِ مَقْصُودَةٌ، وَفَرَاغَ النَّفْسِ عَنْ الِاهْتِمَامِ بِوُدٍّ مَحْبُوسٍ أَصْلٌ عَظِيمٌ يُوجِبُ إقْبَالَ الْقَلْبِ عَلَى الْمُهِمَّاتِ. وَمَنْ فَرَغَ مِنْ الْمُهِمَّاتِ الْعَارِضَةِ أَقْبَلَ عَلَى الْمُهِمَّاتِ الْأَصْلِيَّة وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» فَمَنْ قَدَرَ عَلَى امْرَأَةٍ صَالِحَةٍ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى فَلْيُغْمِضْ عَنْ عَوْرَاتِهَا وَلْتَجْتَهِدْ هِيَ فِي مُرَاضَاتِهِ، فَإِنْ خَافَ مِنْ وُجُودِ الْمُسْتَحْسَنَةِ أَنْ تَشْغَلَ قَلْبَهُ عَنْ ذَكَرِ الْآخِرَةِ أَوْ تَطْلُبَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ عَنْ الْوَرَعِ وَيَدْخُلُ فِيمَا لَا يَجْمُلُ إذْ يَبْعُدُ فِي الْمُسْتَحْسَنَاتِ الْعَفَافُ فَلْيُبَالِغْ فِي حِفْظِهِنَّ وَسِتْرِهِنَّ فَإِنْ وَجَدَ مَا لَا يُرْضِيهِ عَجَّلَ الِاسْتِبْدَالَ فَإِنَّهُ سَبَبُ السُّلُوِّ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ كَغَيْرِهِ: يُسْتَحَبُّ نِكَاحُ دَيِّنَةٍ وَلُودٍ بِكْرٍ حَسِيبَةٍ جَمِيلَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، قِيلَ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ: عَكْسُهُ كَمَا لَوْ لَمْ تُعِفَّهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ، فَإِنَّهُ قَالَ يَقْتَرِضُ وَيَتَزَوَّجُ لَيْتَ إذَا تَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ يَفْلِتُ. قَالَ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ فِي مُنَاظَرَاتِهِ لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَأَرَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يَتَسَرَّى فَقَالَ يَكُونُ لَهَا لَحْمٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ يُقَالُ لَوْ قِيلَ لِلشَّحْمِ أَيْنَ تَذْهَبُ لَقَالَ أُقَوِّمُ الْمُعْوَجَّ. وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلْيَسْتَجِدْ شَعْرَهَا فَإِنَّ الشَّعْرَ وَجْهٌ فَتَخَيَّرُوا أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ النِّسَاءُ لُعَبٌ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ مَا يَلِيقُ بِمَقْصُودِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ نَذْكُرَ لَهُ مَا يَصْلُحُ لِلْمَحَبَّةِ، فَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: حَسَنٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ مَا تَوَدُّ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْبِكْرَ مِنْ بَيْتٍ مَعْرُوفٍ بِالدِّينِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 وَالْقَنَاعَةِ. وَأَحْسَنُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ إلَى الْعِشْرِينَ، وَيَتِمُّ نَشْوُ الْمَرْأَةِ إلَى الثَّلَاثِينَ، ثُمَّ تَقِفُ إلَى الْأَرْبَعِينَ ثُمَّ تَنْزِلُ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَا يَصْلُحُ مِنْ الثَّيِّبِ مَنْ قَدْ طَالَ لُبْثُهَا مَعَ رَجُلٍ. قَالَ: وَأَحْسَنُ النِّسَاءِ التُّرْكِيَّاتُ، وَأَصْلَحُهُنَّ الْجَلَبُ الَّتِي لَمْ تَعْرِفْ أَحَدًا انْتَهَى. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» . وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِه ِ: مَطْلَبٌ: خَيْرُ النِّسَاءِ مَنْ سَرَّتْ الزَّوْجَ مَنْظَرًا الْحَافِظَةُ لَهُ فِي مَغِيبِهِ وَمَشْهَدِهِ: وَخَيْرُ النَّسَا مَنْ سَرَّتْ الزَّوْجَ مَنْظَرًا ... وَمَنْ حَفِظَتْهُ فِي مَغِيبٍ وَمَشْهَدِ (وَخَيْرُ النِّسَاءِ) قَصَرَهُ ضَرُورَةً (مَنْ) أَيْ امْرَأَةٌ أَوْ الَّتِي (سَرَّتْ) هِيَ أَيْ أَفْرَحَتْ، يُقَالُ سَرَّهُ سُرُورًا وَسُرًّا بِالضَّمِّ، وَسُرَى كَبُشْرَى، وَتَسِرَّةً وَمَسَرَّةً أَفْرَحَهُ، وَسُرَّ هُوَ بِالضَّمِّ وَالِاسْمُ السَّرُورُ بِالْفَتْحِ (الزَّوْجَ) مَفْعُولُ سَرَّتْ (مَنْظَرًا) تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنْ فَاعِلٍ، أَيْ خَيْرُ النِّسَاءِ مَنْ سَرَّ الزَّوْجَ مَنْظَرُهَا (وَمَنْ) أَيْ امْرَأَةٌ أَوْ الَّتِي (حَفِظَتْهُ) أَيْ صَانَتْهُ وَحَفِظَتْ مَا اسْتَوْدَعَهَا إيَّاهُ مِنْ نَفْسِهَا وَمَالِهِ (فِي مَغِيبِ) الزَّوْجِ عَنْهَا (وَمَشْهَدِ) مِنْهُ إلَيْهَا، فَتَحْفَظُ فَرْجَهَا وَجَمِيعَ نَفْسِهَا مِنْ كَلَامٍ وَنَظَرٍ وَتَمْكِينٍ مِنْ قُبْلَةٍ وَلَمْسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَحْفَظُ مَالَهُ عَنْ الضَّيَاعِ وَالتَّبْذِيرِ، وَبَيْتَهُ عَنْ دُخُولِ مَنْ لَا يُرِيدُ دُخُولَهُ إلَيْهِ. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَإِسْنَادُ أَحَدِهِمَا جَيِّدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَبَدَنًا عَلَى الْبَلَاءِ صَابِرًا، وَزَوْجَةً لَا تَبْغِيهِ حُوبًا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» الْحُوبُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتُضَمُّ هُوَ الْإِثْمُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ قَالَ «إنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَلَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ» . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثٌ مِنْ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ تَرَاهَا تُعْجِبُك، وَتَغِيبُ فَتَأْمَنُهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِك، وَالدَّابَّةُ تَكُونُ وَطِئَةً فَتُلْحِقُك بِأَصْحَابِك، وَالدَّارُ تَكُونُ وَاسِعَةً كَثِيرَةَ الْمَرَافِقِ. وَثَلَاثٌ مِنْ الشَّقَاءِ: الْمَرْأَةُ تَرَاهَا فَتَسُوءك وَتَحْمِلُ لِسَانَهَا عَلَيْك، وَإِنْ غِبْت لَمْ تَأْمَنْهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِك، وَالدَّابَّةُ تَكُونُ قَطُوفًا فَإِنْ ضَرَبْتهَا أَتْعَبَتْك وَإِنْ تَرَكْتهَا لَمْ تُلْحِقْك بِأَصْحَابِك، وَالدَّارُ تَكُونُ ضَيِّقَةً قَلِيلَةَ الْمَرَافِقِ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ بُكَيْرٍ الْحَضْرَمِيُّ فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِهِمَا. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: مُحَمَّدٌ صَدُوقٌ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ: ثَلَاثَةٌ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ: الدَّارُ الْوَسِيعَةُ إذَا كَانَتْ مَنِيعَةً، وَالْفَرَسُ السَّرِيعَةُ إذَا كَانَتْ تَلِيعَةً، وَالْمَرْأَةُ الْمُطِيعَةُ إذَا كَانَتْ بَدِيعَةً. وَمَعْنَى زِيَادَتِهَا فِي الْعُمْرِ أَنَّ صَاحِبَهَا يَرَى لِعَيْشِهِ لَذَّةً وَلِعُمُرِهِ بَرَكَةً، وَتَمْضِي أَيَّامُهُ بِالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَأَوْقَاتُهُ بِاللَّذَّةِ وَالْحُبُورِ بِخِلَافِ مَنْ رُمِيَ بِضِدِّ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْمَهَالِكِ، لِمَا ضُيِّقَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَسَالِكِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا هُنَالِكَ مَطْلَبٌ: الْخَيْرُ وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ. وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنْ يَكُنْ الْخَيْرُ فِي شَيْءٍ فَفِي ثَلَاثَةٍ: الْمَرْأَةُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ» . وَفِي رِوَايَةٍ " الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: الْمَرْأَةُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ ". وَفِي رِوَايَةٍ الشُّؤْمُ فِي أَرْبَعٍ فَزَادَ الْخَادِمَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقِيلَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكُون مُسْتَثْنًى مِنْ حَدِيثِ لَا طِيَرَةَ. وَقِيلَ إنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ يَقُولُونَ الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ، الْمَرْأَةُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ» فَسَمِعَ الرَّاوِي آخِرَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهُ، وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبِيهَا. وَقِيلَ شُؤْمُ الدَّارِ ضِيقُهَا وَشُؤْمُ جِيرَانِهَا وَأَذَاهُمْ، وَشُؤْمُ الْخَادِمِ سُوءُ خُلُقِهِ وَعَدَمُ تَعَهُّدِهِ لِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالشُّؤْمِ هُنَا عَدَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 الْمُوَافَقَةِ. وَشُؤْمُ الْمَرْأَةِ عَدَمُ وِلَادَتِهَا وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا وَتَعَرُّضِهَا لِلرَّيْبِ. وَشُؤْمُ الْفَرَسِ أَنْ لَا يُغْزَى عَلَيْهَا. وَقِيلَ حِرَانُهَا وَغَلَاءُ ثَمَنِهَا. وَقَالَ الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ: وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَقَعَ لِي فِي تَأْوِيلِهِ مَا رَوَيْنَاهُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى الْقَطَّانِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْبَرَكَةُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ» فَقَالَ يُوسُفُ سَأَلْت ابْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ سُفْيَانُ: سَأَلْت عَنْهُ الزُّهْرِيَّ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَأَلْت عَنْهُ سَالِمًا فَقَالَ سَالِمٌ: سَأَلْت عَنْهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: سَأَلْت عَنْهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «إذَا كَانَ الْفَرَسُ ضَرُوبًا فَهُوَ مَشْئُومٌ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَرَفَتْ زَوْجًا غَيْرَ زَوْجِهَا فَحَنَّتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهِيَ مَشْئُومَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَعِيدَةً عَنْ الْمَسْجِدِ لَا يُسْمَعُ فِيهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَهِيَ مَشْئُومَةٌ، وَإِذَا كُنَّ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُنَّ مُبَارَكَاتٌ» . قُلْت: وَتَقَدَّمَ بُعْدُ الدَّارِ عَنْ الْمَسْجِدِ وَمَدْحُهُ فَلَعَلَّ مَا هُنَا إنْ صَحَّ لِعَدَمِ سَمَاعِ الْأَذَانِ دُونَ نَفْسِ الْبُعْدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَفِي الطَّبَرَانِيِّ وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ امْرَأَةً صَالِحَةً فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى شَطْرِ دِينِهِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الشَّطْرِ الْبَاقِي» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظٍ «إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ نِصْفَ الدِّينِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي» . مَطْلَبٌ: الْجَمَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ " تَتِمَّةٌ " فِي التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ الْمَلَاحَةِ وَالْجَمَالِ بِطَرِيقِ الْإِيجَازِ وَالْإِجْمَالِ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْبَابِ التَّاسِعَ عَشَر مِنْ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَمَالَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَالْجَمَالُ الْبَاطِنُ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ، وَهُوَ جَمَالُ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْجُودِ وَالْعِفَّةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَهَذَا الْجَمَالُ الْبَاطِنُ هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ وَمَوْضِعُ مَحَبَّتِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» . وَهَذَا الْجَمَالُ يُزَيِّنُ الصُّورَةَ الظَّاهِرَةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ جَمَالٍ، فَيَكْسُو صَاحِبَهَا مِنْ الْجَمَالِ وَالْمَهَابَةِ وَالْحَلَاوَةِ بِحَسَبِ مَا اكْتَسَبَتْ رُوحُهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُعْطَى مَهَابَةً وَحَلَاوَةً بِحَسَبِ إيمَانِهِ، فَمَنْ رَآهُ هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ أَحَبَّهُ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِالْعِيَانِ، فَإِنَّك تَرَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ الْمُحْسِنَ ذَا الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ مِنْ أَحْلَى النَّاسِ صُورَةً وَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ أَوْ غَيْرَ جَمِيلٍ، وَلَا سِيَّمَا إذَا رُزِقَ حَظًّا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا تُنَوِّرُ الْوَجْهَ وَتُحَسِّنُهُ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ تُكْثِرُ صَلَاةَ اللَّيْلِ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ إنَّهَا تُحَسِّنُ الْوَجْهَ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يَحْسُنَ وَجْهِي. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَالَ لِلْبَاطِنِ أَحْسَنُ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ تَعْظِيمِ صَاحِبِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْمَيْلِ إلَيْهِ، وَأَمَّا الْجَمَالُ الظَّاهِرُ فَزِينَةٌ خَصَّ اللَّهُ بِهَا بَعْضَ الصُّوَرِ عَنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مِنْ زِيَادَةِ الْخَلْقِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1] قَالُوا هُوَ الصَّوْتُ الْحَسَنُ وَالصُّورَةُ الْحَسَنَةُ وَالْقُلُوبُ كَالْمَطْبُوعَةِ عَلَى مَحَبَّتِهِ كَمَا هِيَ مَفْطُورَةٌ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً وَثَوْبُهُ حَسَنًا أَفَذَلِكَ مِنْ الْكِبْرِ؟ فَقَالَ لَا إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» فَبَطَرُ الْحَقِّ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَغَمْطُ النَّاسِ النَّظَرُ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالِاحْتِقَارِ وَالِاسْتِصْغَارِ لَهُمْ، وَتَقَدَّمَ هَذَا مَبْسُوطًا. وَالْجَمَالُ الظَّاهِرُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ أَيْضًا عَلَى عِبَادِهِ يُوجِبُ الشُّكْرَ. وَشُكْرُهُ التَّقْوَى وَالصِّيَانَةُ، فَكُلَّمَا شَكَرَ مَوْلَاهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ زَادَهُ اللَّهُ جَمَالًا وَمَنَحَهُ كَمَالًا. وَأَمَّا إنْ بَذَلَ الْجَمَالَ فِي الْمَعَاصِي عَادَ وَحْشَةً وَشَيْنًا كَمَا شُوهِدَ مِنْ عَالَمٍ كَثِيرٍ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ انْقَلَبَ قُبْحًا وَشَيْنًا يَشِينُهُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ. انْتَهَى. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: وَمَا يَنْفَعُ الْفِتْيَانَ حُسْنُ وُجُوهِهِمْ ... إذَا كَانَتْ الْأَفْعَالُ غَيْرَ حِسَانِ فَلَا تَجْعَلْ الْحُسْنَ الدَّلِيلَ عَلَى الْفَتَى ... فَمَا كُلُّ مَصْقُولِ الْحَدِيدِ يَمَانِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وَقَالَ آخَرُ وَأَحْسَنَ: صُنْ الْحُسْنَ بِالتَّقْوَى وَإِلَّا فَيَذْهَبْ ... فَنُورُ التُّقَى يَكْسُو جَمَالًا وَيُكْسِبْ وَمَا يَنْفَعُ الْوَجْهَ الْجَمِيلَ جَمَالُهُ ... وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ مُهَذَّبْ فَيَا حَسَنَ الْوَجْهِ اتَّقِ اللَّهَ إنْ تُرِدْ ... دَوَامَ جَمَالٍ لَيْسَ يَفْنَى وَيَذْهَبْ يَزِيدُ التُّقَى ذَا الْحُسْنِ حُسْنًا وَبَهْجَةً ... وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَهِيَ لِلْحُسْنِ تَسْلُبْ وَتُكْسِفُ نُورَ الْوَجْهِ بَعْدَ بِهَائِهِ ... وَتَكْسُوهُ قُبْحًا ثُمَّ لِلْقَلْبِ تَقْلِبْ فَسَارِعْ إلَى التَّقْوَى هُنَا تَجِدْ الْهَنَا ... غَدًا فِي صَفَا عَيْشٍ يَدُومُ وَيَعْذُبْ فَمَا بَعْدَ ذِي الدُّنْيَا سِوَى جَنَّةٍ بِهَا ... نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَوْ لَظًى تَتَلَهَّبْ. مَطْلَبٌ: ثَلَاثَةٌ تَجْلُو الْبَصَرَ وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ وَقِيلَ مَوْضُوعٌ «ثَلَاثَةٌ يُجَلِّينَ الْبَصَرَ: النَّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ، وَإِلَى الْمَاءِ الْجَارِي، وَإِلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ» . أَوْرَدَهُ السُّيُوطِيّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ «ثَلَاثَةٌ يَزِدْنَ فِي قُوَّةِ الْبَصَرِ: الْكُحْلُ بِالْإِثْمِدِ، وَالنَّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ، وَالنَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ» وَعَزَاهُ إلَى أَبِي الْحَسَنِ الْعِرَاقِيِّ فِي فَوَائِدِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. قَوْلُهُ: يُجَلِّينَ الْبَصَرَ قَالَ الْمُنَاوِيُّ: بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ. وَيُرْوَى فِي لَفْظٍ «ثَلَاثَةٌ تَجْلُو الْبَصَرَ: الْخُضْرَةُ وَالْمَاءُ الْجَارِي، وَالْوَجْهُ الْحَسَنُ» وَنَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ: ثَلَاثَةٌ تَجْلُو عَنْ الْقَلْبِ الْحَزَنْ ... الْمَاءُ وَالْخُضْرَةُ وَالْوَجْهُ الْحَسَنْ وَيُرْوَى فِي حَدِيثٍ «النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ يُورِثُ الْفَرَحَ، وَالنَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْقَبِيحِ يُورِثُ الْكَلَحَ» وَهَذَا كَلَامٌ وَلَيْسَ بِحَدِيثٍ فِيمَا أَظُنُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْكَلَحُ تَقَبُّضُ الْوَجْهِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إذَا كَانَ النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ يَزِيدُ فِي الْبَصَرِ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ الْقَبِيحِ يَنْقُصُ مِنْهُ، وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ آبَائِهِ يَقُولُ: الْجَمَالُ مَرْحُومٌ وَقَالُوا: شَفِيعُ الْحُسْنِ مَقْبُولٌ وَنَظَمَ ذَلِكَ ابْنُ قَنْبَرٍ الْمَازِنِيُّ فَقَالَ: وَيْلِي عَلَى مَنْ أَطَارَ النَّوْمَ فَامْتَنَعَا ... وَزَادَ قَلْبِي إلَى أَوْجَاعِهِ وَجَعَا كَأَنَّمَا الشَّمْسُ فِي أَعْطَافِهِ لَمَعَتْ ... حُسْنًا أَوْ الْبَدْرُ مِنْ آزَارِهِ طَلَعَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 مُسْتَقْبِلٌ بِاَلَّذِي يَهْوَى وَإِنْ كَثُرَتْ ... مِنْهُ الذُّنُوبُ وَمَعْذُورٌ بِمَا صَنَعَا فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ يَمْحُو إسَاءَتَهُ ... مِنْ الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْثُ مَا شَفَعَا قَالَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمُنَجِّمُ: كُنْت يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ الْمُعْتَضِدِ وَهُوَ مُقَطِّبٌ إذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ وَكَانَ مِنْ الْحُسْنِ عَلَى غَايَةٍ، فَلَمَّا رَآهُ مِنْ بَعِيدٍ ضَحِكَ وَقَالَ يَا يَحْيَى مَنْ الَّذِي يَقُولُ: فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ. الْأَبْيَاتَ؟ فَقُلْت ابْنُ قَنْبَرٍ، فَقَالَ لِلَّهِ دَرُّهُ ثُمَّ اسْتَنْشَدَنِي الْأَبْيَاتَ فَأَنْشَدْته إيَّاهَا وَقَدْ انْقَلَبَ تَقْطِيبُهُ ضَحِكًا وَسُرُورًا. . مَطْلَبٌ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَمِيلَةِ وَالْمَلِيحَةِ. وَفِيهِ حِكَايَتَانِ لَطِيفَتَانِ وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الْجَمِيلَةِ وَالْمَلِيحَةِ، فَقَالَ الْجَمِيلَةُ هِيَ الَّتِي تَأْخُذُ بِبَصَرِك عَلَى الْبُعْدِ، وَالْمَلِيحَةُ هِيَ الَّتِي تَأْخُذُ بِقَلْبِك عَلَى الْقُرْبِ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ فِي الْأَغَانِي: قَالَتْ سُكَيْنَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ يَوْمًا لِعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ: أَنَا أَجْمَلُ مِنْك، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: بَلْ أَنَا أَجْمَلُ مِنْك، فَاخْتَصَمَتَا إلَى عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، فَقَالَ: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا، أَمَّا أَنْتِ يَا سُكَيْنَةُ فَأَمْلَحُ، وَأَمَّا أَنْتِ يَا عَائِشَةُ فَأَجْمَلُ، فَقَالَتْ سُكَيْنَةُ: قَضَيْت وَاَللَّهِ لِي عَلَيْهَا. وَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ: مَا أَجْمَلَكَ يَا أَبَا صَفْوَانَ، قَالَ: كَيْفَ تَقُولِينَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِي عَمُودُ الْجَمَالِ وَلَا رِدَاؤُهُ وَلَا بُرْنُسُهُ، أَمَّا عَمُودُهُ فَالْقَوَامُ وَالِاعْتِدَالُ وَأَنَا قَصِيرٌ، وَأَمَّا رِدَاؤُهُ فَالْبَيَاضُ وَلَسْت بِأَبْيَضَ، وَأَمَّا بُرْنُسُهُ فَسَوَادُ الشَّعْرِ وَجُعُودَتِهِ وَأَنَا أَصْلَعُ، وَلَوْ قُلْت مَا أَمْلَحَك لَصَدَقْت. وَفِي كِتَابِ فِقْهِ اللُّغَةِ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ بِهَا مَسْحَةٌ مِنْ جَمَالٍ فَهِيَ جَمِيلَةٌ وَضِيئَةٌ، فَإِذَا أَشْبَهَ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الْحُسْنِ فَهِيَ حُسَانَةٌ، فَإِذَا اسْتَغْنَتْ بِجَمَالِهَا عَنْ الزِّينَةِ فَهِيَ غَانِيَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَالِي أَنْ لَا تَلْبَسَ ثَوْبًا حَسَنًا وَلَا تَتَقَلَّدَ قِلَادَةً حَسَنَةً فَهِيَ مِعْطَالٌ، فَإِذَا كَانَ حُسْنُهَا بَائِنًا كَأَنَّهُ قَدْ وَسِمَ فَهِيَ وَسِيمَةٌ، فَإِذَا قُسِمَ لَهَا حَظٌّ وَافِرٌ مِنْ الْحُسْنِ فَهِيَ قَسِيمَةٌ، فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلَيْهَا يَسُرُّ الرَّوْعَ فَهِيَ رَائِعَةٌ، فَإِذَا غَلَبَتْ النِّسَاءَ بِحُسْنِهَا فَهِيَ بَاهِرَةٌ. وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: الصَّبَاحَةُ فِي الْوَجْهِ، وَالْوَضَاءَةُ فِي الْبَشَرَةِ، وَالْجَمَالُ فِي الْأَنْفِ، وَالْحَلَاوَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ، وَالْمَلَاحَةُ فِي الْفَمِ، وَالظُّرْفُ فِي اللِّسَانِ. وَالرَّشَاقَةُ فِي الْقَدِّ، وَاللَّبَاقَةُ فِي الشَّمَائِلِ. وَكَمَالُ الْحُسْنِ الشَّعْرُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وَقَالَ غَيْرُهُ: وَالْبَرَاعَةُ فِي الْجِيدِ. وَالرِّقَّةُ فِي الْأَطْرَافِ، وَأَكْثَرُ هَذَا التَّنْزِيلِ عَلَى التَّقْرِيبِ، وَالتَّحْقِيقِ مِنْهُ بَعِيدٌ. وَقَالَ رَجُلٌ لِأَعْرَابِيَّةٍ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ فَصِفِي لِي النِّسَاءَ، قَالَتْ لَهُ: عَلَيْك بِالْبَضَّةِ الْبَيْضَاءِ الدَّرْمَاءِ اللَّعْسَاءِ الشَّمَّاءِ الْجَيْدَاءِ؛ الرَّبْحَلَةِ السَّبْحَلَةِ، الْمُدْمَجَةِ الْمَتْنِ، الْخَمِيصَةِ الْبَطْنِ، ذَاتِ الثَّدْيِ النَّاهِدِ، وَالْفَرْعِ الْوَارِدِ وَالْعَيْنِ النَّجْلَاءِ، وَالْحَدَقَةِ الْكَحْلَاءِ، وَالْعَجِيزَةِ الْوَثِيرَةِ، وَالسَّاقِ الْمَمْكُورَةِ، وَالْقَدَمِ الصَّغِيرَةِ فَإِنْ أَصَبْتهَا فَأَعْطِهَا الْحُكْمَ فَإِنَّهُ غُنْمٌ مِنْ الْغُنْمِ. قَالَ فِي كِفَايَة الْمُتَحَفِّظِ: الْبَضَّةُ الرَّقِيقَةُ الْجِلْدِ. وَفِي الْقَامُوسِ: دَرِمَ كَفَرِحِ اسْتَوَى وَالْكَعْبُ أَوْ الْعَظْمُ وَأُرَاهُ اللَّحْمَ حَتَّى لَمْ يَبِنْ لَهُ حَجْمٌ. وَامْرَأَةٌ دَرْمَاءُ لَا يَتَبَيَّنُ كُعُوبُهَا وَمَرَافِقُهَا. وَاللَّعْسَاءُ هِيَ الَّتِي فِي شَفَتِهَا سَوَادٌ. وَكَذَا اللَّمْيَاءُ وَالشَّمَّاءُ هِيَ الَّتِي فِي أَنْفِهَا ارْتِفَاعٌ وَاسْتِوَاءٌ؛ فَإِنْ ارْتَفَعَ وَسَطُ الْأَنْفِ عَنْ طَرَفَيْهِ فَهُوَ أَقْنَى وَالْمَرْأَةُ قَنْوَاءُ وَالْجَيْدَاءُ طَوِيلَةُ الْجِيدِ، وَالْجِيدُ بِالْكَسْرِ الْعُنُقُ أَوْ مُقَلَّدُهُ أَوْ مُقَدَّمُهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِيهِ جَارِيَةٌ رِبْحِلَةٌ ضَخْمَةٌ جَيِّدَةُ الْخَلْقِ طَوِيلَةٌ. وَالسَّبْحَلَةُ الْحَسَنَةُ الْخَلْقِ. قَالَ الْمُتَنَبِّي: سَارُوا بِخَرْعُوبَةٍ لَهَا كِفْلٌ ... يَكَادُ عِنْدَ الْقِيَامِ يُقْعِدُهَا رِبْحِلَةٌ أَسْمَرُ مُقْبِلُهَا ... سَبْحَلَةٌ أَبْيَضُ مَجْرَدُهَا وَالْمَتْنُ الظَّهْرُ. وَمَعْنَى مُدْمَجَةٍ أَيْ مَلْفُوفَةِ الْمَتْنِ، وَقَوْلُهَا: الْخَمِيصَةِ الْبَطْنِ أَيْ خَالِيَةِ الْبَطْنِ بِمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ مُنْتَفِخَةِ الْبَطْنِ، يُقَالُ خَمِصَ الْبَطْنُ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ خَلَا. وَيُقَالُ: رَجُلٌ خُمَصَانُ بِالضَّمِّ وَالتَّحْرِيكِ وَخَمِيصُ الْحَشَى أَيْ ضَامِرُ الْبَطْنِ وَهِيَ خَمْصَانَةٌ وَخَمِيصَةٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَوْلُهَا ذَاتِ الثَّدْيِ النَّاهِدِ أَيْ صَاحِبَةِ الثَّدْيِ الْمُرْتَفِعِ؛ وَالْفَرْعِ الْوَارِدِ أَيْ الشَّعْرِ الطَّوِيلِ؛ وَالْعَيْنِ النَّجْلَاءِ أَيْ الْوَاسِعَةِ؛ وَالْحَدَقَةِ الْكَحْلَاءِ؛ الْحَدَقَةُ إنْسَانُ الْعَيْنِ وَالْكُحْلُ سَوَادُهَا خِلْقَةً؛ وَالْعَجِيزَةُ الْكِفْلُ؛ وَقَوْلُهَا الْوَثِيرَةِ أَيْ كَثِيرَةِ اللَّحْمِ أَوْ السَّمِينَةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْمُضَاجَعَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَقَوْلُهَا وَالسَّاقِ الْمَمْكُورَةِ الْغَلِيظَةِ الْحَسْنَاءِ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْحُورَ الْعِينَ بِأَوْصَافٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَنَّهُنَّ حُورٌ؛ وَالْحَوَرُ شِدَّةُ بَيَاضِ أَبْيَضِ الْعَيْنِ وَشِدَّةُ سَوَادِ أَسْوَدِهَا. وَقِيلَ الْعَيْنُ الَّتِي بَدَنُهَا أَسْوَدُ كَعَيْنِ الْمَهَا وَبَقَرِ الْوَحْشِ. وَالْعَيْنُ جَمْعُ عَيْنَاءُ؛ وَهِيَ وَسِيعَةُ الْعَيْنِ. وَوَصَفَهُنَّ بِأَنَّهُنَّ كَوَاعِبُ جَمْعُ كَاعِبٍ؛ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي قَدْ تَكَعَّبَ ثَدْيُهَا وَاسْتَدَارَ وَلَمْ يَتَدَلَّ إلَى أَسْفَلَ؛ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ خَلْقِ النِّسَاءِ وَهُوَ مُلَازِمٌ لِسِنِّ الشَّبَابِ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُشَوِّقُ أَهْلَ الْإِيمَانِ إلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ؛ لِيَدْخُلُوا فَسَيَّحَ الْجِنَانِ. وَيَتَنَعَّمُوا بِالْحُورِ الْحِسَانِ. وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ. . ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَسُرُّ زَوْجَهَا إذَا نَظَرَ إلَيْهَا أَوْصَافًا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهَا فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي أَوْصَافِ الْمَرْأَةِ الْمَحْمُودَةِ: قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ قَصِيرَةُ بَيْتِهَا ... قَصِيرَةُ طَرْفِ الْعَيْنِ عَنْ كُلِّ أَبْعَدِ (قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ) أَيْ لَيْسَتْ طَوِيلَةَ اللِّسَانِ عَلَى زَوْجِهَا وَلَا عَلَى غَيْرِهِ؛ وَلَا هِيَ قَبِيحَةُ الْأَلْفَاظِ بِحَيْثُ أَنَّهَا تَسْتَطِيلُ عَلَى بَعْلِهَا بِكَلَامِهَا وَلَا هِيَ بِالْبَذِيَّةِ بَلْ قَصِيرَةُ اللِّسَانِ وَالْأَلْفَاظِ لَا تَتَكَلَّمُ إلَّا بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ. وَهَذَا قِصَرٌ مَعْنَوِيٌّ (قَصِيرَةُ بَيْتِهَا) أَيْ مَقْصُورَةٌ عَلَى بَيْتِهَا لَا تَدُورُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ. بَلْ لَا تَزَالُ مُقِيمَةً فِي بَيْتِهَا مَقْصُورَةً فِيهِ. وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ أَيْ مَسْتُورَاتٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَقْصُورَاتُ الْمَحْبُوسَاتُ. قَالَ الْإِمَام الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَادِي الْأَرْوَاحِ إلَى مَنَازِلِ الْأَفْرَاحِ. وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ مَحْبُوسَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ وَهُمْ فِي الْخِيَامِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ قُصِرْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ وَلَا يَطْمَحْنَ إلَى سِوَاهُمْ؛ ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ (قَصِيرَةُ طَرْفِ الْعَيْنِ) أَيْ لَا تَطْمَحُ بِطَرْفِهَا إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (عَنْ كُلِّ) رَجُلٍ (أَبْعَدِ) بَلْ طَرْفُهَا مَقْصُورٌ عَلَى زَوْجِهَا فَقَطْ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَّحِدٌ هُوَ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي. لَكِنَّ هُنَا قَاصِرَاتٌ الطَّرْفِ بِأَنْفُسِهِنَّ وَهُنَاكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 مَقْصُورَاتٌ؛ وَكَأَنَّ مَنْ فَسَّرَ قَوْله تَعَالَى: {مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] فَرَّ مِنْ أَنْ يَكُنَّ مَحْبُوسَاتٍ فِي الْخِيَامِ لَا تُفَارِقُهَا إلَى الْغُرَفِ وَالْبَسَاتِينِ. وَأَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَهُنَّ بِصِفَاتِ النِّسَاءِ الْمُخَدَّرَاتِ الْمَصُونَاتِ وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْوَصْفِ. وَلَا يَلْزَمُ أَنَّهُنَّ لَا يُفَارِقْنَ الْخِيَامَ إلَى الْغُرَفِ وَالْبَسَاتِينِ. كَمَا أَنَّ نِسَاءَ الْمُلُوكِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْمُخَدَّرَاتِ الْمَصُونَاتِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي سَفَرٍ وَغَيْرِهِ إلَى مُنْتَزَهٍ وَبُسْتَانٍ وَنَحْوِهِ؛ فَوَصْفُهُنَّ اللَّازِمُ لَهُنَّ الْقَصْرُ فِي الْبَيْتِ؛ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُنَّ مَعَ الْخَدَمِ الْخُرُوجُ إلَى الْبَسَاتِينِ وَنَحْوِهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ مَقْصُورَاتٌ قُلُوبُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فِي خِيَامِ اللُّؤْلُؤِ فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ الْأُمُورِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ فِي الْمَرْأَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَمَالِ. قَالَ فِي حَادِي الْأَرْوَاحِ: يُسْتَحَبُّ السَّعَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: وَجْهُهَا وَصَدْرُهَا وَكَاهِلُهَا - وَهُوَ مَا بَيْنَ كَتِفَيْهَا - وَجَبْهَتُهَا. وَيُسْتَحَبُّ مِنْهَا الْبَيَاضُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: لَوْنُهَا وَفَرْقُهَا وَثَغْرُهَا وَبَيَاضُ عَيْنِهَا، وَالسَّوَادُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: عَيْنُهَا وَحَاجِبُهَا وَهُدْبُهَا وَشَعْرُهَا. وَيُسْتَحَبُّ الطُّولُ مِنْهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ قَوَامُهَا وَعُنُقُهَا وَشَعْرُهَا وَبَنَانُهَا. وَيُسْتَحَبُّ الْقِصَرُ مِنْهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَهِيَ مَعْنَوِيَّةٌ: لِسَانُهَا وَيَدُهَا وَرِجْلُهَا وَعَيْنُهَا، فَتَكُونُ قَاصِرَةَ الطَّرْفِ، قَصِيرَةَ الرِّجْلِ عَنْ الْخُرُوجِ، قَصِيرَةَ اللِّسَانِ عَنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ، قَصِيرَةَ الْيَدِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا يَكْرَهُ الزَّوْجُ وَعَنْ بَذْلِهِ. وَيُسْتَحَبُّ الرِّقَّةُ مِنْهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: خَصْرُهَا وَفَرْقُهَا وَحَاجِبَاهَا وَأَنْفُهَا. وَقَالَ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ: وَمِمَّا يُسْتَحْسَنُ فِي الْمَرْأَةِ طُولُ أَرْبَعَةٍ: وَهِيَ أَطْرَافُهَا وَقَامَتُهَا وَشَعْرُهَا وَعُنُقُهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَنَانَ. وَقَالَ وَقِصَرُ أَرْبَعَةٍ: يَدُهَا وَرِجْلُهَا وَلِسَانُهَا وَعَيْنُهَا، فَلَا تَبْذُلُ مَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَلَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا، وَلَا تَسْتَطِيلُ بِلِسَانِهَا، وَلَا تَطْمَحُ بِعَيْنِهَا. قَالَ وَحُمْرَةُ أَرْبَعَةٍ: لِسَانُهَا وَخَدُّهَا وَشَفَتُهَا مَعَ لَعَسٍ وَإِشْرَابُ بَيَاضِهَا بِحُمْرَةٍ. وَقَالَ فِي الرِّقَّةِ: أَنْفُهَا وَبَنَانُهَا وَخَصْرُهَا وَحَاجِبُهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَرْقَ هُنَا. قَالَ وَغِلَظُ أَرْبَعَةٍ: سَاقُهَا وَمِعْصَمُهَا وَعَجِيزَتُهَا وَذَاكَ مِنْهَا. وَقَالَ فِي الْوَسَاعِ مِنْهَا: جَبِينُهَا وَوَجْهُهَا وَعَيْنُهَا وَصَدْرُهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَاهِلَ. قَالَ وَضِيقُ أَرْبَعَةٍ: فَمُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وَمِنْخَرُهَا وَخَرْقُ أُذُنِهَا وَذَاكَ مِنْهَا. قَالَ فَهَذِهِ يَعْنِي الَّتِي تَجْمَعُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ أَحَقُّ بِقَوْلِ كُثَيِّرٍ: لَوْ أَنَّ عَزَّةَ خَاصَمَتْ شَمْسَ الضُّحَى ... فِي الْحُسْنِ عِنْدَ مُوَفَّقٍ لَقَضَى لَهَا انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ فِي الْجَمَالِ وَالْمَلَاحَةِ مَا نَصُّهُ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَاسِرَةِ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي الْمَرْأَةِ أَرْبَعَةٌ سُودٌ، وَأَرْبَعَةٌ بِيضٌ، وَأَرْبَعَةٌ حُمْرٌ، وَأَرْبَعَةٌ كِبَارٌ، وَأَرْبَعَةٌ صِغَارٌ، وَأَرْبَعَةٌ وَاسِعَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ ضَيِّقَةٌ، فَذَكَرَهَا عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا، إلَّا أَنَّهُ بَدَّلَ الْفَرْقَ فِي الْبِيضِ بِالظُّفْرِ قَالَ إلَّا أَنْ يُصْبَغَ. وَفِي الْحُمْرِ قَالَ الْوَجْنَتَانِ وَالشَّفَتَانِ وَاللِّسَانِ وَاللِّثَةِ. قَالَ وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْكِبَارُ فَالثَّدْيَانِ وَالْفَرْجُ وَالْعَجِيزَةُ وَالرُّكْبَتَانِ. وَقَالَ فِي الصِّغَارِ الْأُذُنَانِ وَالْفَمُ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ. وَالْأَرْبَعَةُ الْوَاسِعَةُ الْجَبِينُ وَأُصُولُ الثَّدْيَيْنِ وَالْعَيْنَانِ وَالسُّرَّةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَرْشَدَ النَّاظِمُ إلَى الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَثِّ عَلَى نِكَاحِ ذَاتِ الدِّينِ الْوَلُودِ الْوَدُودِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْتَارَ ذَاتَ الدِّينِ الْوَدُودَ الْوَلُودَ الْحَسِيبَةَ: عَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَظْفَرُ بِالْمُنَى الْ ... وَدُودِ الْوَلُودِ الْأَصْلِ ذَاتِ التَّعَبُّدِ (عَلَيْك) أَيْ الْزَمْ أَيُّهَا الْأَخُ الْمَرِيدُ النِّكَاحَ (بِ) نِكَاحِ (ذَاتِ) أَيْ صَاحِبَةِ (الدِّينِ) أَيْ الدَّيِّنَةِ مِنْ بَيْتِ دِينٍ وَأَمَانَةٍ وَعِفَّةٍ وَصِيَانَةٍ، إذْ الدِّيَانَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّهُ، فَإِنْ فَعَلْت (تَظْفَرُ) أَيْ تَفُوزُ (بِالْمُنَى) أَيْ الْمَطْلُوبِ وَتَسْتَرِيحُ مِنْ الْهَمِّ وَالْعَنَاءِ. أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْبَزَّازُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى إحْدَى خِصَالٍ: لِجَمَالِهَا وَمَالِهَا وَخُلُقِهَا وَدِينِهَا فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ وَالْخُلُقِ تَرِبَتْ يَمِينُك» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: قَوْلُهُ " تَرِبَتْ " كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ، وَقِيلَ هِيَ هُنَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْفَقْرِ، وَقِيلَ بِكَثْرَةِ الْمَالِ، وَاللَّفْظُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا قَابِلٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. قَالَ وَالْآخَرُ هُنَا أَظْهَرُ وَمَعْنَاهُ اظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ وَلَا تَلْتَفِتْ إلَى الْمَالِ أَكْثَرَ اللَّهُ مَالَك. وَرُوِيَ الْأَوَّلُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَأَى الْفَقْرَ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْغِنَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَرِبَتْ يَدَاك» قَالَ مَالِكٌ: خَسِرَتْ يَدَاك. وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ: اسْتَغْنَتْ، وَأَنْكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَيْ لَا يُقَالُ فِي الْغِنَى إلَّا أَتْرَبَ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إنَّمَا هُوَ تَرِبْت أَيْ اسْتَغْنَيْت، وَهِيَ لُغَةٌ لِلْقِبْطِ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ، وَهِيَ تَرُدُّهَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ وَمَعْرُوفُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ ضَعُفَ عَقْلُك أَتَجْهَلُ هَذَا؟ وَقِيلَ افْتَقَرَتْ يَدَاك مِنْ الْعِلْمِ. وَقِيلَ هُوَ حَضٌّ عَلَى تَعَلُّمِ مِثْلٍ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ لِلَّهِ دَرُّك. وَقِيلَ امْتَلَأَتْ تُرَابًا. وَقِيلَ تَرِبَتْ أَصَابَهَا التُّرَابُ، وَمِنْهُ تَرِبَ جَبِينُك وَأَصْلُهُ الْقَتِيلُ يُقْتَلُ فَيَقَعُ عَلَى جَبِينِهِ فَيَتَتَرَّبُ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ. قَالَ: وَالْأَصَحُّ فِيهِ وَفِي مِثْلِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ دُعَاءٌ يُدْعَمُ بِهِ الْكَلَامُ وَيُوصَلَ تَهْوِيلًا لِلْخَبَرِ، مِثْلَ اُنْجُ لَا أَبًا لَكَ، وَثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، وَهَوَتْ أُمُّهُ، وَوَيْلُ أُمِّهِ، وَحَلْقَى عَقْرَى، وَأَلَّ وَعَلَّ، لَا يُرَادُ وُقُوعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّ أَصْلَهُ الدُّعَاءُ، لَكِنَّهُمْ قَدْ أَخْرَجُوهُ عَنْ أَصْلِهِ إلَى التَّأْكِيدِ زِيَادَةً، وَإِلَى التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِحْسَانِ تَارَةً، وَإِلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّعْظِيمِ أُخْرَى. انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَعَلَى الْعَاقِلِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَنْ يَرْغَبَ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ الْمُعْتَمَدُ وَالْعَمُودُ، وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَقْصُودُ. وَيُحْكَى أَنَّ نُوحَ بْنَ مَرْيَمَ قَاضِيَ مَرْوَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ، فَشَاوَرَ جَارًا لَهُ مَجُوسِيًّا، فَقَالَ: النَّاسُ يَسْتَفْتُونَك وَأَنْتَ تَسْتَفْتِينِي، قَالَ لَا بُدَّ أَنْ تُشِيرَ عَلَيَّ. فَقَالَ إنَّ رَئِيسَنَا كِسْرَى كَانَ يَخْتَارُ الْمَالَ، وَرَئِيسَ النَّصَارَى قَيْصَرَ كَانَ يَخْتَارُ الْجَمَالَ، وَجَاهِلِيَّةَ الْعَرَبِ كَانَتْ تَخْتَارُ الْحَسَبَ وَالنَّسَبَ، وَرَئِيسَكُمْ مُحَمَّدًا كَانَ يَخْتَارُ الدِّينَ، فَانْظُرْ أَنْتَ بِأَيِّهِمْ تَقْتَدِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 ثُمَّ وَصَفَ النَّاظِمُ ذَاتَ الدِّينِ الْمَرْغُوبَ فِي نِكَاحِهَا بِأَوْصَافٍ زَائِدَةٍ عَلَى كَوْنِهَا دَيِّنَةً فَقَالَ (الْوَدُودَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَهُوَ مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَّكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ؛ لِأَنَّهُ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ وَكَذَا وَلُودٌ كَصَبُورٍ بِمَعْنَى صَابِرٍ أَيْ وَادَّةٌ لِزَوْجِهَا بِمَعْنَى أَنَّهَا تُحِبُّهُ (الْوَلُودُ الْأَصْلِ) أَيْ الَّتِي مِنْ أَصْلِ ذَوَاتِ أَوْلَادٍ يَعْنِي أُمَّهَاتِهَا ذَوَاتِ أَوْلَادٍ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي أَصَبْت امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَمَنْصِبٍ وَمَالٍ إلَّا أَنَّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ» . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نِسَاءَهَا كَثِيرَاتُ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّ فَعُولٌ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ (ذَاتَ) أَيْ صَاحِبَةَ (التَّعَبُّدِ) أَيْ الْعِبَادَةِ الْكَثِيرَةِ مِنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالذِّكْرِ وَالتَّأَلُّهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْخَلْقِ الْعِبَادَةُ بِشَهَادَةِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . حَسِيبَةُ أَصْلٍ مِنْ كِرَامٍ تَفُزْ إذًا بِوُلْدٍ كِرَامٍ وَالْبَكَارَةَ فَاقْصِدْ (حَسِيبَةَ أَصْلٍ) الْحَسَبُ مَا تَعُدُّهُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِك، أَوْ الْكَرَمُ أَوْ الشَّرَفُ فِي الْفِعْلِ أَوْ الْفِعَالُ الصَّالِحَةُ، أَوْ الشَّرَفُ الثَّابِتُ فِي الْآبَاءِ. وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الْحَسَبُ وَالْكَرَمُ قَدْ يَكُونَانِ لِمَنْ لَا آبَاءَ لَهُ شُرَفَاءُ، وَالشَّرَفُ وَالْمَجْدُ لَا يَكُونَانِ إلَّا بِهِمْ. وَفِي الْمَطَالِعِ: حَسَبُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ الْكِرَامُ الَّذِينَ تُعَدُّ مَنَاقِبُهُمْ وَتُحْسَبُ عِنْدَ الْمَفَاخِرِ، انْتَهَى. وَفِي الْمُطْلِعِ: الْحَسِيبَةُ هِيَ النَّسِيبَةُ. وَأَصْلُ الْحَسَبِ الشَّرَفُ بِالْآبَاءِ وَمَا يَعُدُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِهِمْ، يَعْنِي أَنَّهَا تَكُونُ حَسِيبَةً مِنْ جِهَةِ أَصْلِهَا. فَإِنْ قُلْت: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَسِيبَةَ كَذَلِكَ فَمَا فَائِدَةُ زِيَادَةِ أَصْلٍ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا حَشْوٌ لِلْوَزْنِ أَوْ لِزِيَادَةِ التَّنْصِيصِ، فَإِنَّ ذَلِكَ طَافِحٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ. وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ إنَّمَا زَادَهَا احْتِرَازًا مِنْ تَوَهُّمِ إرَادَةِ الْمَالِ وَالدِّينِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْحَسَبُ مَا تَعُدُّهُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِك أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 الْمَالِ أَوْ الدِّينِ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ حَسِيبَةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ، وَأَمَّا الدِّينُ فَقَدْ ذَكَرَهُ سَابِقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ مُتَوَلِّدَةٌ وَنَاشِئَةٌ (مِنْ) قَوْمٍ (كِرَامٍ) غَيْرِ لِئَامٍ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْكَرَمُ مُحَرَّكَةٌ ضِدَّ اللُّؤْمِ، يُقَالُ كَرُمَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَرَامَةً وَكَرَمًا وَكَرَمَةً مُحَرَّكَتَيْنِ فَهُوَ كَرِيمٌ وَكَرِيمَةٌ وَالْجَمْعُ كُرَمَاءُ وَكِرَامٌ وَكَرَائِمُ انْتَهَى. وَفِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْكَرِيمُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ الْجَوَّادُ الْمُعْطِي الَّذِي لَا يَنْفُذُ عَطَاؤُهُ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ. قَالَ وَالْكَرِيمُ الْجَامِعُ لِأَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرَفِ وَالْفَضَائِلِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ «إنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ» لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ لَهُ شَرَفُ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْجَمَالِ وَالْعِفَّةِ وَكَرَمِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَدْلِ وَرِيَاسَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، فَهُوَ نَبِيُّ ابْنُ نَبِيِّ ابْنِ نَبِيِّ ابْنِ نَبِيِّ رَابِعُ أَرْبَعَةٍ فِي النُّبُوَّةِ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى السَّخَاءِ وَالشُّحِّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ أَنَّ الشُّحَّ هُوَ شِدَّةُ الْحِرْصِ عَلَى الشَّيْءِ وَالْإِحْفَاءُ فِي طَلَبِهِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي تَحْصِيلِهِ، وَجَشَعُ النَّفْسِ عَلَيْهِ. وَالْبُخْلُ مَنْعُ إنْفَاقِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ وَحُبِّهِ وَإِمْسَاكِهِ، فَهُوَ شَحِيحٌ قَبْلَ حُصُولِهِ، بَخِيلٌ بَعْدَ حُصُولِهِ. فَالْبُخْلُ ثَمَرَةُ الشُّحِّ، وَالشُّحُّ يَدْعُو إلَى الْبُخْلِ، وَالشُّحُّ كَامِنٌ فِي النَّفْسِ، فَمَنْ بَخِلَ فَقَدْ أَطَاعَ شُحَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَبْخَلْ فَقَدْ عَصَى شُحَّهُ وَوُقِيَ شَرَّهُ وَذَلِكَ هُوَ الْمُفْلِحُ {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وَالسَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ أَهْلِهِ، وَقَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ وَبَعِيدٌ مِنْ النَّارِ. وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنْ خَلْقِهِ بَعِيدٌ مِنْ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنْ النَّارِ. فَجُودُ الرَّجُلِ يُحَبِّبُهُ إلَى أَضْدَادِهِ، وَبُخْلُهُ يُبَغِّضُهُ إلَى أَوْلَادِهِ، وَأَنْشَدَ: وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرْءِ فِي النَّاسِ بُخْلُهُ ... وَيَسْتُرُهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤُهُ تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي ... أَرَى كُلَّ عَيْبٍ وَالسَّخَاءُ غِطَاؤُهُ قَالَ: وَحَدُّ السَّخَاءِ بَذْلُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَنْ يُوصِلَ ذَلِكَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَعْضُ مَنْ نَقَصَ عِلْمُهُ: حَدُّ الْجُودِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 بَذْلُ الْمَوْجُودِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَارْتَفَعَ اسْمُ السَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ، وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ بِذَمِّهِمَا وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا. قَالَ: وَإِذَا كَانَ السَّخَاءُ مَحْمُودًا فَمَنْ وَقَفَ عَلَى حَدِّهِ سُمِّيَ كَرِيمًا وَكَانَ لِلْحَمْدِ مُسْتَوْجِبًا، وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ كَانَ بَخِيلًا وَلِلذَّمِّ مُسْتَوْجِبًا. قَالَ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيمَ أَتَدْرِي لَمْ اتَّخَذْتُك خَلِيلًا؟ قَالَ لَا، قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْت الْعَطَاءَ أَحَبُّ إلَيْك مِنْ الْأَخْذِ» . قَالَ وَهَذِهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فَإِنَّهُ يُعْطِي وَلَا يَأْخُذُ، وَيُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، وَهُوَ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيْهِ مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَاتِهِ، فَإِنَّهُ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرِيمَ مِنْ عِبَادِهِ، وَعَالِمٌ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ، وَقَادِرٌ يُحِبُّ الشُّجْعَانَ، وَجَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، انْتَهَى. . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُسْتَحَبُّ نِكَاحُ دَيِّنَةٍ وَلُودٍ بِكْرٍ، إلَّا أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَةٌ فِي نِكَاحِ الثَّيِّبِ أَرْجَحَ، مِنْ بَيْتٍ مَعْرُوفٍ بِالدِّينِ وَالْقَنَاعَةِ، حَسِيبَةٌ وَهِيَ النَّسِيبَةُ، أَيْ طَيِّبَةُ الْأَصْلِ لَا بِنْتَ زِنًا وَلَقِيطَةً وَمَنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهَا. قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِ: لِنَجَابَةِ وَلَدِهَا فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَشْبَهَ أَهْلَهَا وَنَزَعَ إلَيْهِمْ، انْتَهَى. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «تَزَوَّجُوا فِي الْحُجَزِ الصَّالِحِ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ» قُلْت هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. قَالَ السُّيُوطِيّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: جَمِيعُ مَا أَعَزَوْهُ صللعقيلي وَابْنِ عَدِيٍّ وَابْنِ عَسَاكِرَ وَالْخَطِيبِ وَالْحَكِيمِ التِّرْمِذِيِّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ وَالْحَاكِمِ وَابْنِ النَّجَّارِ فِي تَارِيخِهِمَا وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ فَهُوَ ضَعِيفٌ فَيُسْتَغْنَى بِالْعَزْوِ إلَى هَذِهِ الْكُتُبِ عَنْ بَيَانِ الضَّعْفِ وَقَدْ عَزَاهُ لِابْنِ عَدِيٍّ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَفِيهِ «تَزَوَّجُوا فِي الْحُجَزِ الصَّالِحِ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ» الْحُجَزُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ الْأَصْلُ، وَقِيلَ " بِالضَّمِّ الْأَصْلُ وَالْمَنْبَتُ وَبِالْكَسْرِ هُوَ بِمَعْنَى الْحُجْزَةِ وَهِيَ هَيْئَةُ الْمُتَحَجِّزِ كِنَايَةً عَنْ الْعِفَّةِ وَطِيبِ الْإِزَارِ، وَقِيلَ هُوَ الْعَشِيرَةُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَجَزُ بِهِمْ أَيْ يَمْتَنِعُ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ أَيْ دَخَّالٌ بِالتَّشْدِيدِ؛ لِأَنَّهُ نَزْعٌ فِي خَفَاءٍ وَلُطْفٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَزَوَّجَ مِنْ مَنْبَتٍ صَالِحٍ جَاءَ الْوَلَدُ يُشْبِهُ أَهْلَ الزَّوْجَةِ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَعَكْسُهُ. فَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ تَفْعَلْ بِأَنْ تَزَوَّجْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 حَسِيبَةً مِنْ كِرَامٍ (تَفُزْ) أَيْ تَظْفَرْ (إذَا) يَعْنِي بِنِكَاحِهَا (بِوُلْدٍ) بِضَمِّ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْوَلَدُ مُحَرَّكَةٌ وَبِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَاحِدٌ وَجَمْعٌ، وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَوْلَادٍ وَوِلْدَةٍ بِالْكَسْرِ وَوُلْدٍ بِالضَّمِّ. وَمُرَادُ النَّاظِمِ هُنَا الْجَمْعُ بِشَهَادَةِ قَوْلِهِ (كِرَامٍ) جَمْعُ كَرِيمٍ وَتَقَدَّمَ تَعْرِيفُهُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَصْلُ الْمَحَاسِنِ كُلِّهَا الْإِكْرَامُ، وَالتَّفَضُّلُ عَلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ: لَا تَنْكِحَنَّ سِوَى كَرِيمَةِ مَعْشَرٍ ... فَالْعِرْقُ دَسَّاسٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوَمَا تَرَى أَنَّ النَّتَائِجَ كُلَّهَا ... تَبَعُ الْأَخَسِّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ النَّاظِمُ (وَالْبَكَارَةَ) بِالْفَتْحِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْبِكْرُ بِالْكَسْرِ الْعَذْرَاءُ جَمْعُهَا أَبْكَارٌ، وَالْمَصْدَرُ الْبَكَارَةُ بِالْفَتْحِ، وَالْمَرْأَةُ وَالنَّاقَةُ إذَا وَلَدَتَا بَطْنًا وَاحِدًا، انْتَهَى. وَفِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ: الْبِكْرُ بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْكَافِ مِنْ النِّسَاءِ الْعَذْرَاءُ وَهِيَ الْبَاقِيَةُ الْعُذْرَةُ، وَهِيَ مَا لَهَا مِنْ الِالْتِحَامِ قَبْلَ الْفِضَاضِ، وَالِاسْمُ الْبَكَارَةُ بِالْفَتْحِ، وَمُطْلَقُ الْبِكْرِ مَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَالْجَمْعُ أَبْكَارٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا ذَاتُ الْبَكَارَةِ الَّتِي هِيَ الْعُذْرَةُ (فَاقْصِدْ) أَمْرٌ مِنْ قَصَدَ أَيْ عَمَدَ وَيَمَّمَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُك» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ تُعْرَفُ الْبِكْرُ بِأَنَّهَا وَلُودٌ؟ فَالْجَوَابُ يُعْرَفُ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهَا مِنْ نِسَاءٍ يُعْرَفْنَ بِكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَزَوَّجُوا الْأَبْكَارَ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ» . قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِيهِ عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَنْتَقُ أَرْحَامًا أَيْ أَكْثَرُ أَوْلَادًا، يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ الْكَثِيرَةِ الْوَلَدِ نَاتِقٌ؛ لِأَنَّهَا تَرْمِي بِالْأَوْلَادِ رَمْيًا، وَالنَّتْقُ الرَّمْيُ وَالْحَرَكَةُ. وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَسُنَنِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ عُوَيْمِرِ بْنِ سَاعِدَةَ مَرْفُوعًا «عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ» . وَفِي أَوْسَطِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 فَإِنَّهُنَّ أَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَقَلُّ خِبًّا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ» الْخَبُّ الْخِدَاعُ. وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَسْخَنُ إقْبَالًا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ مِنْ الْعَمَلِ» فَإِنْ كَانَ مَصْلَحَةً فِي تَزْوِيجِ الْأَرْمَلَةِ كَمَا فَعَلَ جَابِرٌ لِتَقُومَ بِأَوَدِهِ وَتَكْفُلَ وَلَدَهُ كَانَ ذَلِكَ مَنْدُوبًا أَيْضًا فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا. وَقَالُوا فِي الْأَبْكَارِ: أَشْهَى الْمَطِيِّ مَا لَمْ يُرْكَبْ، وَأَحَبُّ اللَّآلِئِ مَا لَمْ يُثْقَبْ، وَنَظَمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالُوا نَكَحْت صَغِيرَةً فَأَجَبْتُهُمْ ... أَشْهَى الْمَطِيِّ إلَيَّ مَا لَمْ يُرْكَبْ كَمْ بَيْنَ حَبَّةِ لُؤْلُؤٍ مَثْقُوبَةٍ ... ثَقْبًا وَحَبَّةِ لُؤْلُؤٍ لَمْ تُثْقَبْ فَأَجَابَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إنَّ الْمَطِيَّةَ لَا يُلَذُّ رُكُوبُهَا ... حَتَّى تُذَلَّلَ بِالرُّكُوبِ وَتُرْكَبَا وَالْحَبُّ لَيْسَ بِنَافِعٍ أَحْبَابَهُ ... مَا لَمْ يُؤَلَّفْ فِي النِّظَامِ وَيُثْقَبَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ رَحِمُهُ الْمَلِكُ الْمُتَعَال ُ: مَطْلَبٌ: الِاقْتِصَارُ عَلَى زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ أَقْرَبُ لِلْعَدْلِ: وَوَاحِدَةٌ أَدْنَى مِنْ الْعَدْلِ فَاقْتَنِعْ ... وَإِنْ شِئْت فَابْلُغْ أَرْبَعًا لَا تَزَيَّدْ (وَ) زَوْجَةٌ (وَاحِدَةٌ أَدْنَى) أَيْ أَقْرَبُ (مِنْ الْعَدْلِ) الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْجَوْرِ وَالْمَيْلِ بِشَهَادَةِ قَوْله تَعَالَى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] (فَاقْتَنِعْ) بِوَاحِدَةٍ تَسْلَمْ مِنْ دَيْجُورِ الْجَوْرِ، يُقَالُ قَنِعَ يَقْنَعُ قُنُوعًا وَقَنَاعَةً بِالْكَسْرِ إذَا رَضِيَ، وَقَنَعَ بِالْفَتْحِ يَقْنَعُ قُنُوعًا إذَا سَأَلَ. وَمِنْ الْأَوَّلِ: الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْهَا لَا يَنْقَطِعُ كُلَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا قَنَعَ بِمَا دُونَهُ وَرَضِيَ. وَفِي الْحَدِيثِ «عَزَّ مَنْ قَنِعَ وَذَلَّ مَنْ طَمِعَ» لِأَنَّ الْقَانِعَ لَا يُذِلُّهُ الطَّلَبُ فَلَا يَزَالُ عَزِيزًا (وَإِنْ شِئْت) الزِّيَادَةَ عَنْ الْوَاحِدَةِ (فَابْلُغْ) فِي زِيَادَتِك (أَرْبَعًا) مِنْ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ إنْ كُنْت حُرًّا، فَإِنَّ ذَلِكَ نِهَايَةَ جَمْعِ الْحُرِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 لَا تَزَيَّدْ) لَا نَاهِيَةٌ وَتَزَيَّدْ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتَ مَجْزُومٍ بِهَا وَكُسِرَ لِلْقَافِيَةِ. فَلَيْسَ لِلْحُرِّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِمَا شَاءَ مِنْ الْإِمَاءِ وَلَوْ كِتَابِيَّاتٍ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ. وَكَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَيِّ عَدَدٍ شَاءَ وَنُسِخَ تَحْرِيمُ الْمَنْعِ. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْمَعَ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّسَرِّي وَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ. وَلِمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ فَأَكْثَرُ نِكَاحُ ثَلَاثَةٍ نَصًّا. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى وَاحِدَةٍ إنْ حَصَلَ بِهَا الْإِعْفَافُ، وَكُلُّ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَقْرَبُ مِنْ أَنْ لَا تَمِيلُوا. يُقَالُ عَالَ الْمِيزَانُ إذَا مَالَ، وَعَالَ الْحَكَمُ إذَا جَارَ، وَعَوْلُ الْفَرِيضَةِ الْمَيْلُ عَنْ حَدِّ السِّهَامِ الْمُسَمَّاةِ. وَفُسِّرَ بِأَنْ لَا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ كَثْرَةَ النِّسَاءِ مَظِنَّةُ الْمَيْلِ عَنْ حَدِّ الِاسْتِقَامَةِ وَالْجَوْرُ فِي الْقَسْمِ بَيْنُهُنَّ وَعَدَمُ السَّلَامَةِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» . وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ» . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِنَحْوِ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ هَذِهِ إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا «جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رُوِيَ مُرْسَلًا وَهُوَ أَصَحُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ يَعْنِي الْقَلْبَ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا» وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. " تَتِمَّةٌ " كَانَ النَّاسُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَهُمْ شَأْنٌ غَيْرُ شَأْنِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ، فَقَدْ كَانَ لِدَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَلِوَلَدِهِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَلْفُ امْرَأَةٍ، وَكَانَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِدَّةٌ مِنْ النِّسَاءِ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعَةٍ وَسُرِّيَّتَيْنِ، وَكَانَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ وَفَاةِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، وَبَضْعَةِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ أَرْبَعُ حَرَائِرَ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً، وَتَزَوَّجَ ابْنُهُ الْحَسَنُ بِنَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ امْرَأَةٍ، فَكَانُوا قَدْ أُيِّدُوا بِالْقُوَّةِ وَهُنَّ بِالصَّبْرِ بِخِلَافِ عَصْرِنَا لِكُلِّ زَمَانٍ دَوْلَةٌ وَرِجَالٌ. مَطْلَبٌ: النِّكَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا مُسْتَحْسَنٌ وَضْعًا وَطَبْعًا وَيَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أَرْبَعَةٌ. (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : النِّكَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا، مُسْتَحْسَنٌ وَضْعًا وَطَبْعًا، فَإِنَّ بِهِ بَقَاءَ النَّسْلِ، وَعَمَارَ الدُّنْيَا، وَعِبَادَةَ اللَّهِ، وَالْقِيَامَ بِالْأَحْكَامِ، وَذِكْرَ اللَّهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالتَّوْحِيدِ وَالصِّيَامِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْقَدِيمِ، وَحَضَّ عَلَيْهِ رَسُولُهُ الْكَرِيمُ. قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32] . ثُمَّ إنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَعْتَرِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ أَرْبَعَةٌ، فَيُسَنُّ لِذِي شَهْوَةٍ وَلَا يَخَافُ الزِّنَا وَلَوْ فَقِيرًا، وَاشْتِغَالُهُ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، وَيُبَاحُ لِمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يَخَافُ الزِّنَا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ عَلِمَا أَوْ ظَنَّا، وَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى حَجٍّ وَاجِبٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَا يَكْتَفِي فِي الْوُجُوبِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ يَكُونُ فِي مَجْمُوعِ الْعُمْرِ، وَلَا يَكْتَفِي بِالْعَقْدِ فَقَطْ، بَلْ يَجِبُ الِاسْتِمْتَاعُ، وَيَجْزِي التَّسَرِّي عَنْهُ، وَيَجِبُ بِالنَّذْرِ، وَيَحْرُمُ بِدَارِ حَرْبٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ يَحْرُمْ. وَيَعْزِلُ وُجُوبًا إنْ حُرِّمَ وَإِلَّا اسْتِحْبَابًا. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَلَا حُرْمَةَ. وَقِيلَ إنَّ النِّكَاحَ لِغَيْرِ ذِي شَهْوَةٍ مَكْرُوهٌ لِمَنْعِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 مِنْ التَّحْصِينِ بِغَيْرِهِ، وَإِضْرَارِهَا بِحَبْسِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ لَعَلَّهُ لَا يَقُومُ بِجَمِيعِهَا، وَيَشْتَغِلُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ مَعَ الْفَقْرِ إلَّا لِضَرُورَةٍ. وَهُنَا ذَكَرْت أَنَّهُ يُسَنُّ لِذِي شَهْوَةٍ وَلَوْ فَقِيرًا حَيْثُ لَمْ يَخَفْ الزِّنَا. فَالْجَوَابُ كَلَامُ النَّاظِمِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَرْجُوحٍ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَالْمَنْصُوصُ حَتَّى لِفَقِيرٍ. وَجَزَمَ فِي النَّظْمِ لَا يَتَزَوَّجُ فَقِيرٌ إلَّا ضَرُورَةً. وَكَذَا قَيَّدَهَا ابْنُ رَزِينٍ بِالْمُوسِرِ وَالْمَذْهَبُ مَا ذَكَرْنَا نَقَلَ صَالِحٌ عَنْ الْإِمَامِ يَقْتَرِضُ وَيَتَزَوَّجُ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَيُمْسِي وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ» ؛ وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَوَّجَ رَجُلًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ وَلَا وَجَدَ إلَّا إزَارَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، انْتَهَى. وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يُمْكِنُهُ التَّزْوِيجُ فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُمْكِنُهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] انْتَهَى. وَأَقُولُ مُسْتَمِدًّا مِنْ اللَّهِ التَّوْفِيقَ وَالْحَوْلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ بَيْنَ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ وَلَيْسَ بِذِي كَسْبٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِذِي شَهْوَةٍ. فَيُقَالُ يُكْرَهُ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَنِ النِّكَاحِ. وَعَدَمِ تَحْصِينِ زَوْجَتِهِ. وَعَدَمِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ. فَحِينَئِذٍ تَكْمُلُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسُ. ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِي الْفُرُوعِ ذَكَرَهَا رِوَايَةً عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَدْ جَاءَتْ الْأَخْبَارُ، وَصَحَّتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ وَالصَّحَابَةِ الْأَخْيَارِ، وَالتَّابِعِينَ الْأَبْرَارِ وَالْمُجْتَهِدِينَ الْأَحْبَارِ - بِالْحَثِّ عَلَى النِّكَاحِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ. وَقَدْ مَضَى عِدَّةُ أَحَادِيثَ نَاطِقَةٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّجْ الْحَرَائِرَ» وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ أَنَسٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَتَعَقَّبَهُ السُّيُوطِيّ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ مَرْفُوعًا «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: الْحِنَّاءُ وَالتَّعَطُّرُ وَالسِّوَاكُ وَالنِّكَاحُ» وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظَةِ الْحِنَّاءِ. وَأَنَّهُ رُوِيَ بِالْيَاءِ الْحَيَاءُ. وَإِنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ قَالَ هُوَ الْخِتَانُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ مُوسِرًا لَأَنْ يَنْكِحَ ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْ فَلَيْسَ مِنِّي» وَتَقَدَّمَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا. فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الْقَوْمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا. أَمَا وَاَللَّهِ إنِّي لِأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: «تَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ وَلَا تَكُونُوا كَرَهْبَانِيَّةِ النَّصَارَى» قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَكَذَا قَالَهُ فِي تَسْهِيلِ السَّبِيلِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إلَّا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا لِي فِيهِنَّ طَوْلُ النِّكَاحِ لَتَزَوَّجْت مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَزَوَّجْ فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وَفِي كِتَابِ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ عَنْ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَتْ الْعُزُوبِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ أَرْبَعَةَ عَشَرَةَ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ. وَلَوْ تَزَوَّجَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ تَمَّ أَمْرُهُ وَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ غَزْوٌ وَلَا حَجٌّ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَكَانَ يَخْتَارُ النِّكَاحَ وَيَحُثُّ عَلَيْهِ، وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَيَعْقُوبُ فِي حُزْنِهِ قَدْ تَزَوَّجَ. وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «حُبِّبَ إلَيَّ النِّسَاءُ» . قَالَ الْمَرْوَزِيُّ: قُلْت لَهُ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَا لَوْعَةَ صَاحِبِ الْعِيَالِ - فَمَا قَدَرْت أَنْ أُتِمَّ الْحَدِيثَ - حَتَّى صَاحَ بِي وَقَالَ وَقَعْت فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، أَنْظُرْ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ فَبُكَاءُ الصَّبِيِّ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْخُبْزَ أَفْضَلُ مِنْ كَذَا وَكَذَا أَيْنَ يَلْحَقُ الْمُتَعَبِّدُ وَالْعَزَبُ؟ انْتَهَى. مَطْلَبٌ: فِي ذَمِّ الْعُزُوبِيَّةِ وَأَنَّ الزَّوَاجَ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ. (الثَّانِي) : فِي ذَمِّ الْعُزُوبِيَّةِ، وَقَدْ فُهِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا ذَمَّهَا، وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَتْ الْعُزُوبِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِسَنَدٍ رَمَزَ السُّيُوطِيّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِحُسْنِهِ وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ بِشْرٍ مَرْفُوعًا «شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ وَأَرْذَلُ مَوْتَاكُمْ عُزَّابُكُمْ» . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ» . وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ مَرْفُوعًا «شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ. رَكْعَتَانِ مِنْ مُتَأَهِّلٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ مُتَأَهِّلٍ» وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ ابْنُ الْعِمَادِ فَقَالَ: شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ جَاءَ الْخَبَرُ ... أَرَاذِلُ الْأَمْوَاتِ عُزَّابُ الْبَشَرِ وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ وَأَعَلَّهُ بِخَالِدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ قَالَ وَلَهُ طَرِيقٌ ثَانٍ فِيهِ يُوسُفُ بْنُ السَّفَرِ مَتْرُوكٌ. قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ: قُلْت وَرَدَ بِهَذَا اللَّفْظِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَمِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ بْنِ بِشْرٍ الْمَازِنِيِّ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ. (الثَّالِثُ) : وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ الزَّوَاجَ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ. فَرَوَى الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا «تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَ بِالْمَالِ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْهَا مَرْفُوعًا أَيْضًا. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا وَرَوَى الْبَزَّارُ وَرُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ إلَّا طَارِقَ بْنَ عَمَّارٍ فَفِيهِ كَلَامٌ قَرِيبٌ وَلَمْ يُتْرَكْ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمَعُونَةَ مِنْ اللَّهِ عَلَى قَدْرِ الْمَئُونَةِ، وَإِنَّ الصَّبْرَ يَأْتِي مِنْ اللَّهِ عَلَى قَدْرِ الْبَلَاءِ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. قُلْت: وَرَوَاهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْعِيَالِ وَلَا سِيَّمَا الْبَنَاتِ (الرَّابِعُ) : تَظَافَرَتْ الْأَخْبَارُ فِي فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْعِيَالِ لَا سِيَّمَا الْبَنَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «دِينَارٌ أَنْفَقْته فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْته فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْته عَلَى أَهْلِك، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْته عَلَى أَهْلِك» . وَفِي مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْفُوعًا «أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: بَدَأَ بِالْعِيَالِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمُ اللَّهُ أَوْ يَنْفَعُهُمْ اللَّهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ وَإِنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْت عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِك» أَيْ فِي فَمِهَا. وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَطْعَمْت نَفْسَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْت وَلَدَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْت زَوْجَتَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْت خَادِمَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» . وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ حَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ «حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قَالَتْ دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتهَا إيَّاهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتِهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْنَا فَأَخْبَرْته فَقَالَ مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ " مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ الْبَنَاتِ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ ". وَفِي مُسْلِمٍ عَنْهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلْهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتْ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا فَذَكَرْت الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّارِ» . وَفِيهِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا، وَهُوَ وَضَمَّ أَصَابِعَهُ» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظٍ «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ دَخَلْت أَنَا وَهُوَ الْجَنَّةَ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ» وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَلَفْظُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى يَبِنَّ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ، كُنْت أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةُ وَاَلَّتِي تَلِيهَا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ «دَخَلْت عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ يَا بُنَيَّ أَلَا أُحَدِّثُك بِمَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قُلْت بَلَى يَا أُمَّهْ، قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَنْ أَنْفَقَ عَلَى ابْنَتَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ذَوَاتَيْ قَرَابَةٍ يَحْتَسِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يُغْنِيَهُمَا اللَّهُ أَوْ يَكْفِيَهُمَا كَانَتَا لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ - يَعْنِي الذُّكُورَ - عَلَيْهَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ» . قَوْلُهُ لَمْ يَئِدْهَا أَيْ لَمْ يَدْفِنْهَا حَيَّةً. وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] . وَفِي الْبَابِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَضَّ عَلَى الْعَفَافِ، وَرَشَّحَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ عَفَّ عَنْ مَحَارِمِ النَّاسِ عَفَّ أَهْلُهُ، وَمَنْ لَا فَلَا فَقَالَ: مَطْلَبٌ: مَنْ عَفَّ عَنْ مَحَارِمِ النَّاسِ عَفَّ أَهْلُهُ وَمَنْ لَا فَلَا: وَمَنْ عَفَّ تَقْوَى عَنْ مَحَارِمِ غَيْرِهِ ... يَعِفَّ أَهْله حَقًّا وَإِنْ يَزْنِ يُفْسَدْ (وَمَنْ) أَيْ أَيُّ رَجُلٍ (عَفَّ) أَيْ لَمْ يَزْنِ، وَمِثْلُهُ مَنْ كَفَّ بَصَرَهُ (تَقْوَى) أَيْ لِأَجْلِ التَّقْوَى لَا لِخَوْفِ عَاجِلٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا لِحِفْظِ مَنْصِبِهِ وَنَامُوسِهِ (عَنْ) الزِّنَا فِي (مَحَارِمِ) أَيْ نِسَاءِ (غَيْرِهِ) وَمِثْلُ النِّسَاءِ الذُّكُورِ بِأَنْ عَفَّ عَنْ اللِّوَاطِ فِي أَوْلَادِ غَيْرِهِ تَقْوَى (يَعِفَّ) أَيْ لَمْ يَزْنِ (أَهْلُهُ) بِإِسْقَاطِ الْهَمْزِ ضَرُورَةً مِنْ نِسَائِهِ مِنْ زَوْجَاتِهِ وَسَرَارِيِّهِ وَبَنَاتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَنَحْوِهِنَّ حَقٌّ ذَلِكَ (حَقًّا) وَلَا تَشُكَّ فِيهِ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَنْ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى. فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «عِفُّوا عَنْ نِسَاءِ النَّاسِ تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ، وَبِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَمَنْ أَتَاهُ أَخُوهُ مُتَنَصِّلًا فَلْيَقْبَلْ ذَلِكَ مُحِقًّا كَانَ أَوْ مُبْطِلًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الْحَوْضَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 (وَإِنْ) حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٍ (يَزْنِ) فِعْلُ الشَّرْطِ مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ (يُفْسَدْ) فِعْلُ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ جَوَابُ الشَّرْطِ مَجْزُومٌ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ، أَيْ وَإِنْ يَزْنِ الرَّجُلُ يُفْسَدْ فِي أَهْلِهِ، يَعْنِي يُزْنَى فِي أَهْلِهِ، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ جَزَاءً وِفَاقًا. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونُ مَبْنِيًّا لِلْمَعْلُومِ أَيْ يَفْسُدُ أَهْلُهُ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا «عِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ. وَبِرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وَمَنْ اعْتَذَرَ إلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مِنْ شَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ لَمْ يَرِدْ عَلَيَّ الْحَوْضَ» وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ بِشْرٍ فِي أَمَالِيهِ وَابْنُ عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «عِفُّوا تَعِفَّ نِسَاؤُكُمْ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا» . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: قَالَ بَعْضُ الْعُبَّادِ: نَظَرْت امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لِي فَنَظَرَ زَوْجَتِي مَنْ لَا أُرِيدُ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: مَا نَزَلَتْ بِي آفَةٌ وَلَا غَمٌّ وَلَا ضِيقُ صَدْرٍ إلَّا بِزَلَلٍ أَعْرِفُهُ حَتَّى يُمْكِنَنِي أَنْ أَقُولَ هَذَا بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ، وَرُبَّمَا تَأَوَّلْت تَأْوِيلًا فِيهِ بُعْدٌ فَأَرَى الْعُقُوبَةَ. وَقَالَ مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: رَأَيْت صَلَاحَ الْمَرْءِ يُصْلِحُ أَهْلَهُ ... وَيُعْدِيهِمْ دَاءُ الْفَسَادِ إذَا فَسَدْ وَيَشْرُفُ فِي الدُّنْيَا بِفَضْلِ صَلَاحِهِ ... وَيُحْفَظُ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْأَهْلِ وَالْوَلَدْ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ: لَا تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا ... فَيَكْشِفُ اللَّهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَا وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إذَا ذُكِرُوا ... وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا وَاسْتَغْنِ بِاَللَّهِ عَنْ كُلٍّ فَإِنَّ بِهِ ... غِنًى لِكُلٍّ وَثِقْ بِاَللَّهِ يَكْفِيكَا وَقَالَ آخَرُ: يَا هَاتِكًا حُرُمَ الرِّجَالِ وَتَابِعًا ... طُرُقَ الْفَسَادِ فَأَنْتَ غَيْرُ مُكَرَّمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 مَنْ يَزْنِ فِي قَوْمٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ ... فِي أَهْلِهِ يُزْنَى بِرُبْعِ الدِّرْهَمِ إنَّ الزِّنَا دَيْنٌ إذَا اسْتَقْرَضَتْهُ ... كَانَ الْوَفَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِك فَاعْلَمْ مَطْلَبٌ: بَيَانُ مَا وَرَدَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ فِي التَّخْوِيفِ مِنْ الزِّنَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، فِي التَّرْهِيبِ وَالتَّخْوِيفِ مِنْ الزِّنَا وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ عِدَّةُ أَخْبَارٍ، وَنَفَّرَ مِنْهُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ، فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ. وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «الزِّنَا يُورِثُ الْفَقْرَ» وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إذَا زَنَى الرَّجُلُ أُخْرِجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَكَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ فَإِذَا قَلَعَ رَجَعَ إلَيْهِ الْإِيمَانُ» . وَرَوَى الْخَرَائِطِيُّ وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إيَّاكُمْ وَالزِّنَا فَإِنَّ فِيهِ سِتُّ خِصَالٍ ثَلَاثٌ فِي الدُّنْيَا وَثَلَاثٌ فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الدُّنْيَا فَذَهَابُ الْبَهَاءِ، وَدَوَامُ الْفَقْرِ، وَقِصَرُ الْعُمْرِ، وَأَمَّا اللَّوَاتِي فِي الْآخِرَةِ فَسَخَطُ اللَّهِ، وَسُوءُ الْحِسَابِ، وَدُخُولُ النَّارِ» قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَيُذْكَرُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْمُقِيمُ عَلَى الزِّنَا كَعَابِدِ وَثَنٍ. وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا أَوْلَى أَنْ يُشَبَّهَ بِعَابِدِ الْوَثَنِ مِنْ مُدْمِنِ الْخَمْرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا «مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ» فَإِنَّ الزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ بَعْدَ قَتْلِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك، قُلْت: إنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْت ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَك، قُلْت ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك» . وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إذَا بُخِسَ الْمِكْيَالُ حُبِسَ الْقَطْرُ، وَإِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَقَعَ الطَّاعُونُ، وَإِذَا كَثُرَ الْكَذِبُ كَثُرَ الْهَرْجُ. وَيَكْفِي فِي قُبْحِ الزِّنَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ كَمَالِ رَحْمَتِهِ شَرَعَ فِيهِ أَفْحَشَ الْقِتْلَاتِ وَأَصْعَبَهَا وَأَفْضَحَهَا، وَأَمَرَ أَنْ يَشْهَدَ عِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ تَعْذِيبَ فَاعِلِهِ. وَمِنْ قُبْحِهِ أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ عَلَيْهِ بُغْضَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ الَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ، كَمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا زَنَى بِقِرْدَةٍ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمَا الْقُرُودُ فَرَجَمُوهُمَا حَتَّى مَاتَا، وَكُنْت فِيمَنْ رَجَمَهُمَا. مَطْلَبٌ: الزِّنَا يَجْمَعُ خِلَالَ الشَّرِّ كُلِّهَا. قَالَ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ: وَالزِّنَا يَجْمَعُ خِلَالَ الشَّرِّ كُلَّهَا مِنْ قِلَّةِ الدِّينِ وَذَهَابِ الْوَرَعِ، وَفَسَادِ الْمُرُوءَةِ وَقِلَّةِ الْغَيْرَةِ، فَلَا تَجِدُ زَانِيًا مَعَهُ وَرَعٌ، وَلَا وَفَاءٌ بِعَهْدٍ، وَلَا صِدْقٌ فِي حَدِيثٍ، وَلَا مُحَافَظَةٌ عَلَى صَدِيقٍ، وَلَا غَيْرَةٌ تَامَّةٌ عَلَى أَهْلِهِ، فَالْغَدْرُ وَالْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ وَعَدَمُ الْمُرَاقَبَةِ وَعَدَمُ الْأَنَفَةِ لِلْحُرَمِ وَذَهَابُ الْغَيْرَةِ مِنْ الْقَلْبِ مِنْ شُعَبِهِ وَمُوجِبَاتِهِ، وَمِنْ مُوجِبَاتِهِ غَضَبُ الرَّبِّ بِإِفْسَادِ حُرَمِهِ وَعِيَالِهِ، وَلَوْ تَعَرَّضَ رَجُلٌ إلَى مَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ بِذَلِكَ لَقَابَلَهُ أَسْوَأَ مُقَابَلَةٍ. وَمِنْهَا سَوَادُ الْوَجْهِ وَظُلْمَتُهُ وَمَا يَعْلُوهُ مِنْ الْكَآبَةِ وَالْمَقْتِ الَّذِي يَبْدُو عَلَيْهِ لِلنَّاظِرِينَ. وَمِنْهَا ظُلْمَةُ الْقَلْبِ، وَطَمْسُ نُورِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ طَمْسَ نُورِ الْوَجْهِ، وَغَشَيَانَ الظُّلْمَةِ لَهُ، وَمِنْهَا الْفَقْرُ اللَّازِمُ، وَفِي أَثَرٍ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «إنَّ اللَّهَ مُهْلِكُ الطُّغَاةِ، وَمُفْقِرُ الزُّنَاةِ» . وَمِنْهَا أَنَّهُ يُذْهِبُ حُرْمَةَ فَاعِلِهِ وَيَسْقُطُ مِنْ عَيْنِ رَبِّهِ وَمِنْ أَعْيُنِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَسْلُبُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 أَحْسَنَ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ اسْمُ الْعِفَّةِ وَالْبِرِّ وَالْعَدَالَةِ، وَيُعْطِيه أَضْدَادَهَا كَاسْمِ الْفَاجِرِ وَالْفَاسِقِ وَالزَّانِي وَالْخَائِنِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يَسْلُبُهُ اسْمَ الْإِيمَانِ كَمَا مَرَّ، فَيَسْلُبُ اسْمَ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ دُونَ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ، وَسُئِلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَخَطَّ دَائِرَةً فِي الْأَرْضِ وَقَالَ هَذِهِ دَائِرَةُ الْإِيمَانِ ثُمَّ خَطَّ دَائِرَةً أُخْرَى خَارِجَةً عَنْهَا وَقَالَ هَذِهِ لِلْإِسْلَامِ، فَإِذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ جُزْءٍ مَا مِنْ الْإِيمَانِ لَهُ أَنْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مَعَهُ جُزْءٌ مَا مِنْ الْعِلْمِ وَلَا يُسَمَّى بِهِ عَالِمًا فَقِيهًا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ التَّقْوَى وَلَا يُسَمَّى مُتَّقِيًا وَنَظَائِرُهُ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَالصَّوَابُ إجْرَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يُتَأَوَّلُ بِمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ. قُلْت: وَكُنْت سَأَلْت فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ هَلْ يَكُونُ الزَّانِي فِي حَالِ تَلَبُّسِهِ بِالزِّنَا وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى؟ قُلْت: لَا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الطَّلَبَةِ وَالْمُدَرِّسِينَ، وَمَضَى رَجُلٌ مِنْ الْإِخْوَانِ إلَى أَحَدِ الْأَعْيَانِ فَذَكَرَ لَهُ الْقِصَّةَ وَحَرَّفَ بَعْضَ تَحْرِيفٍ، وَكَانَ ذَلِكَ الْكَبِيرُ مِنْ أَشْيَاخِي، فَلَمَّا حَضَرْت لِصَلَاةِ الظُّهْرِ فِي جَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ وَفَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ وَانْصَرَفْت إلَى نَحْوِ الْمَدْرَسَةِ أَرْسَلَ إلَيَّ الشَّيْخُ وَقَالَ لِي بَلَغَنِي عَنْك مَقَالَةً سَاءَتْنِي، فَقُلْت لَهُ: لَا سَاءَك اللَّهُ بِمَكْرُوهٍ مَا هِيَ؟ فَذَكَرَ لِي الْقَضِيَّةَ، فَقُلْت: سُبْحَانَ اللَّهِ، الْمُصْطَفَى يَسْلُبُهُ اسْمَ الْإِيمَانِ وَأَنْتُمْ لَا تَسْلُبُونَهُ اسْمَ الْوِلَايَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ كَلَامِ الْمَعْصُومِ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَكُونَ إيمَانُ الزَّانِي قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ كَالظُّلَّةِ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيّ: أَنَّ الْإِيمَانَ سِرْبَالٌ سَرْبَلَهُ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ، فَإِنْ زَنَى الْعَبْدُ نَزَعَ مِنْهُ سِرْبَالَ الْإِيمَانِ، فَإِنْ تَابَ رَدَّ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ إيمَانُهُ نَاقِصًا، وَعَلَى الْحَالَتَيْنِ فَلَيْسَ هُوَ وَلِيًّا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. فَرَضِيَ الشَّيْخُ بِمَا قُلْت وَدَعَا لِي وَانْصَرَفَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُفَارِقُهُ الطِّيبُ الْمُتَّصِفُ بِهِ أَهْلُ الْعَفَافِ، وَيَتَبَدَّلُ بِهِ الْخُبْثُ الْمُتَّصِفُ بِهِ الزُّنَاةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ خَبِيثٍ بَلْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 جَعَلَهَا مَأْوَى الطَّيِّبِينَ. قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32] ، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73] وَالزُّنَاةُ مِنْ أَخْبَثِ الْخَلْقِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ جَهَنَّمَ دَارَ الْخُبْثِ وَأَهْلِهِ؛ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَيَّزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَجَعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ وَأَلْقَى أَهْلَهُ فِي جَهَنَّمَ، فَلَا يَدْخُلُ النَّارَ طَيِّبٌ كَمَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خَبِيثٌ. وَمِنْهَا أَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِفَوَاتِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْحُورِ الْعَيْنِ فِي الْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ. وَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَاقَبَ لَابِسَ الْحَرِيرِ فِي الدُّنْيَا بِحِرْمَانِهِ لُبْسَهُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ مَنْ تَمَتَّعَ بِالصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ التَّمَتُّعِ بِالْحُورِ الْعَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْلَى. بَلْ كُلُّ مَا نَالَهُ الْعَبْدُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ التَّوَسُّعَ مِنْ حَلَالِهِ ضَيَّقَ مِنْ حَظِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ مَا يَتَوَسَّعُ فِيهِ فَكَيْفَ بِالْحَرَامِ. وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَكُونُ الْبَطَّالُونَ حُكَمَاءُ، وَلَا تَلِجُ الزُّنَاةُ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ. وَلَوْ شَرَعْنَا نَتَكَلَّمُ عَلَى فَضَائِحِ الزِّنَا وَقَبَائِحِ الْخَنَا لَخَرَجْنَا عَنْ الْمَقْصُودِ، وَلَكِنَّ فِي الْإِشَارَةِ مَا يُغْنِي عَنْ الْعِبَارَةِ. وَيَكْفِي الزَّانِي إبَاحَةَ دَمِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ. فَيَا لَهَا مِنْ صَفْقَةٍ مَا أَبْخَسَهَا، وَخَصْلَةٍ مَا أَنْحَسَهَا. قَدْ ذَهَبَتْ اللَّذَّاتُ. وَبَقِيَتْ الْحَسَرَاتُ. وَكَانَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَثِيرًا مَا يَنْشُدُ: تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا ... مِنْ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْخِزْيُ وَالْعَارُ تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا ... لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. [مَطْلَبٌ: فِي الْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ] وَلَمَّا فَرَغَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ آدَابِ النِّكَاحِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ. أَخَذَ يَحُضُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْعُلُومِ وَالرِّحْلَةِ فِي إدْرَاكِ مَنْطُوقِهَا وَالْمَفْهُومِ. لِأَنَّهَا سُلَّمُ الْخَيْرَاتِ. وَمِفْتَاحُ السَّعَادَاتِ. فَلَا يُفْتَحُ بَابُ خَيْرٍ وَيَرْتَقِي إلَى أَوْجِ مَكْرُمَةٍ إلَّا بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ. وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ. فَمَنْ اقْتَبَسَهُ نَجَا. وَمَنْ ضَلَّهُ هَوَى فِي مُهَاوِي الْهَوَى. فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 مَطْلَبٌ: فِي الْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ: فَكَابِدْ إلَى أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسُ عُذْرَهَا ... وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طَلَّاعَ أَنْجُدِ (فَكَابِدْ) أَيْ قَاسِ فِي الطَّلَبِ. يُقَالُ كَابَدَهُ مُكَابَدَةً وَكِبَادًا قَاسَاهُ. وَالِاسْمُ الْكَابِدُ. أَيْ فَاطْلُبْ وَجِدَّ وَاجْتَهِدْ وَقَاسِ الشَّدَائِدَ (إلَى) أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى أَقْصَى الْحَالَاتِ وَهِيَ (أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسُ) فِي الْجَدِّ وَالِاجْتِهَادِ (عُذْرَهَا) فَإِنْ حَصَّلْتَ عِلْمًا كَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَإِلَّا عُذِرْت فِي بَذْلِ الْمَجْهُودِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَأَدْرَكَهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كِفْلَيْنِ مِنْ الْأَجْرِ، وَمَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَلَمْ يُدْرِكْهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كِفْلًا مِنْ الْأَجْرِ» . وَمِمَّا يُنْسَبُ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سَأَطْلُبُ عِلْمًا أَوْ أَمُوتُ بِبَلْدَةٍ ... يَقِلُّ بِهَا هَطْلُ الدُّمُوعِ عَلَى قَبْرِي وَلَيْسَ اكْتِسَابُ الْعِلْمِ يَا نَفْسُ فَاعْلَمِي ... بِمِيرَاثِ آبَاءٍ كِرَامٍ وَلَا صِهْرِ وَلَكِنَّ فَتَى الْفَتَيَانِ مَنْ رَاحَ وَاغْتَدَى ... لِيَطْلُبَ عِلْمًا بِالتَّجَلُّدِ وَالصَّبْرِ فَإِنْ نَالَ عِلْمًا عَاشَ فِي النَّاسِ مَاجِدًا ... وَإِنْ مَاتَ قَالَ النَّاسُ بَالَغَ فِي الْعُذْرِ إذَا هَجَعَ النُّوَامُ أَسْبَلْت عَبْرَتِي ... وَأَنْشَدْت بَيْتًا وَهُوَ مِنْ أَلْطَفِ الشَّعْرِ أَلَيْسَ مِنْ الْخُسْرَانِ أَنَّ لَيَالِيًا ... تَمُرُّ بِلَا عِلْمٍ وَتُحْسَبُ مِنْ عُمْرِي وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ قَوْلَ بَعْضِ السَّلَفِ: " إذَا أَتَى عَلَيَّ يَوْمٌ لَا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا يُقَرِّبُنِي إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ " قَالَ: وَقَدْ رُفِعَ هَذَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَفْعُهُ إلَيْهِ بَاطِلٌ. وَحَسْبُهُ أَنْ يَصِلَ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ. قَالَ وَفِي مِثْلِهِ قَالَ الْقَائِلُ: إذَا مَرَّ بِي يَوْمٌ وَلَمْ أَسْتَفِدْ هُدًى ... وَلَمْ أَكْتَسِبْ عِلْمًا فَمَا ذَاكَ مِنْ عُمْرِي (وَكُنْ) أَنْتَ (فِي اقْتِبَاسٍ) أَيْ اسْتِفَادَةِ (الْعِلْمِ) يُقَالُ قَبَسَ يَقْبِسُ مِنْهُ نَارًا، وَاقْتَبَسَهَا أَخَذَهَا، وَالْعِلْمُ اسْتَفَادَهُ. قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. وَفِي حَدِيث عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «حَتَّى أُورِيَ قَبَسًا لِقَابِسٍ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ أُظْهِرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 نُورًا مِنْ الْحَقِّ لِطَالِبِهِ. وَالْقَابِسُ طَالِبُ النَّارِ وَهُوَ فَاعِلٌ مِنْ قَبَسَ. وَمِنْهُ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَتَيْنَاك زَائِرِينَ وَمُقْتَبِسِينَ» ، أَيْ طَالِبِي الْعِلْمِ. وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَإِذَا رَاحَ اقْتَبَسْنَاهُ مَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ أَعْلَمْنَاهُ إيَّاهُ، انْتَهَى. وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] فَمُرَادُ النَّاظِمِ أَنْ تَكُونَ أَيُّهَا الْأَخُ الْبَاذِلُ جُهْدَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَاسْتِفَادَتِهِ (طَلَّاعُ) أَيْ قَصَّادُ (أَنْجُدِ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَرَجُلٌ طَلَّاعُ الثَّنَايَا وَالْأَنْجُدِ كَشَدَّادٍ مُجَرِّبٍ لِلْأُمُورِ رَكَّابٌ لَهَا يَعْلُوهَا وَيَقْهَرُهَا بِمَعْرِفَتِهِ وَتَجَارِبِهِ وَجَوْدَةِ رَأْيِهِ أَوْ الَّذِي يَؤُمُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، انْتَهَى. وَالْأَنْجُدُ جَمْعُ نَجْدٍ وَهُوَ مَا أَشْرَفَ مِنْ الْأَرْضِ وَالطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الْمُرْتَفِعِ وَمَا خَالَفَ الْغَوْرَ أَيْ تِهَامَةَ، وَتُضَمُّ جِيمُهُ مُذَكَّرٌ، أَعْلَاهُ تِهَامَةُ وَالْيَمَنُ، وَأَسْفَلُهُ الْعِرَاقُ وَالشَّامُ، وَأَوَّلُهُ مِنْ جِهَةِ الْحِجَازِ ذَاتُ عِرْقٍ. قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَالنَّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا دُونَ الْحِجَازِ مِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ: وَفِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ لِلْحَجَّاوِيِّ: النَّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ، وَالْجَمْعُ نُجُودٌ، مِثْلُ فَلْسٍ وَفُلُوسٍ، وَبِاسْمِ الْوَاحِدِ سُمِّيَتْ بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْ عَمَلِ الْيَمَنِ وَهُوَ مَا بَيْنَ جَرَشَ إلَى سَوَادِ الْكُوفَةِ. قَالَ ابْنُ خَطِيبِ الدَّهْشَةِ: وَأَوَّلُهُ نَاحِيَةُ الْحِجَازِ ذَاتُ عِرْقٍ وَآخِرُهُ سَوَادُ الْعِرَاقِ. قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: كُلُّ مَا وَرَاءَ الْخَنْدَقِ الَّذِي خَنْدَقَهُ كِسْرَى عَلَى سَوَادِ الْعِرَاقِ فَهُوَ نَجْدٌ إلَى أَنْ يَمِيلَ إلَى الْحَرَّةِ، فَإِذَا مِلْت إلَيْهَا فَأَنْتَ فِي الْحِجَازِ. وَفِي الْمَطَالِعِ: نَجْدٌ مَا بَيْنَ جَرَشَ إلَى سَوَادِ الْكُوفَةِ، وَحَدُّهُ مِمَّا يَلِي الْمَغْرِبَ، الْحِجَازُ عَلَى يَسَارِ الْكَعْبَةِ، وَنَجْدٌ كُلُّهَا مِنْ عَمَلِ الْيَمَامَةِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَنَجْدٌ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَهُوَ خِلَافُ الْغَوْرِ، وَالْغَوْرُ هُوَ تِهَامَةُ كُلُّهَا، وَكُلَّمَا ارْتَفَعَ مِنْ تِهَامَةَ إلَى أَرْضِ الْعِرَاقِ فَهُوَ نَجْدٌ وَهُوَ مُذَكَّرٌ، انْتَهَى. وَمُرَادُ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْ وَكُنْ مُجَرِّبًا لِلْأُمُورِ وَقَاهِرًا لَهَا وَمُحْكِمًا مَعْرِفَتَهَا بِدِقَّةِ النَّظَرِ وَحُسْنِ التَّجَارِبِ وَإِتْقَانِ مَا تَقْبِسُهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، كَثِيرَ الرِّحْلَةِ فِي تَحْصِيلِ الْعُلُومِ، عَالِي الْهِمَّةِ فِي التَّطَلُّعِ عَلَى دَقَائِقِهَا وَإِتْقَانِ حَقَائِقِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «لَا يُنَالُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِلْمُ إذَا أَعْطَيْته كُلَّك أَعْطَاك بَعْضَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ «أَتَيْت صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمَرَادِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ مَا جَاءَ بِك؟ قُلْت أَنْبِطُ الْعِلْمَ، قَالَ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَا مِنْ خَارِجٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا وَضَعَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا بِمَا يَصْنَعُ» قَوْلُهُ أَنْبِطُ أَيْ أَطْلُبُهُ وَأَسْتَخْرِجُهُ. وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِي يَا قَبِيصَةُ مَا جَاءَ بِك؟ قُلْت كَبِرَتْ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي فَأَتَيْتُك لِتُعَلِّمَنِي مَا يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهِ، قَالَ يَا قَبِيصَةُ مَا مَرَرْت بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ إلَّا اسْتَغْفَرَ لَك. يَا قَبِيصَةُ إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ فَقُلْ ثَلَاثًا سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ تُعَافَى مِنْ الْحُمَّى وَالْجُذَامِ وَالْفَلَجِ. يَا قَبِيصَةُ قُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِمَّا عِنْدَك، وَأَفِضْ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِك، وَانْشُرْ عَلَيَّ مِنْ رَحْمَتِك، وَأَنْزِلْ عَلَيَّ مِنْ بَرَكَاتِك» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَفِي إسْنَادِهِ مَنْ لَمْ يُسَمَّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ غَدَا يُرِيدُ الْعِلْمَ يَتَعَلَّمُهُ لِلَّهِ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابًا إلَى الْجَنَّةِ، وَفَرَشَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ أَكْنَافَهَا، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ وَحِيتَانُ الْبُحُورِ، وَلِلْعَالِمِ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى الْعَابِدِ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى أَصْغَرِ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَكِنَّهُمْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظِّهِ، وَمَوْتُ الْعَالِمِ مُصِيبَةٌ لَا تُجْبَرُ، وَثُلْمَةٌ لَا تُسَدُّ، وَهُوَ نَجْمٌ طُمِسَ. مَوْتُ قَبِيلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوْتِ عَالِمٍ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ وَمَوْتُ الْعَالِمِ إلَى آخِرِهِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ خُلَفَاؤُك؟ قَالَ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَرْوُونَ أَحَادِيثِي وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ» . وَمِمَّا يُنْسَبُ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلُهُ: تَغَرَّبْ عَنْ الْأَوْطَانِ فِي طَلَبِ الْعُلَا ... وَسَافِرْ فَفِي الْأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ إزَالَةُ هَمٍّ وَاكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ ... وَعِلْمٌ وَآدَابٌ وَصُحْبَةُ مَاجِدِ فَإِنْ قِيلَ فِي الْأَسْفَارِ ذُلٌّ وَمِهْنَةٌ ... وَقَطْعُ الْفَيَافِي وَارْتِكَابُ الشَّدَائِدِ فَمَوْتُ الْفَتَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ ... بِدَارِ هَوَانٍ بَيْنَ وَاشٍ وَحَاسِدِ وَمَرَّ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ عِنْدَ رَجُلٍ أَحَادِيثَ عَوَالِي وَرَاءَ النَّهْرِ رَحَلَ إلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دَارَ الدُّنْيَا مَرَّتَيْنِ حَتَّى جَمَعَ الْمُسْنَدَ. وَلَمْ تَزَلْ الرِّحْلَةُ فِي الْعُلَمَاءِ مَطْلُوبَةً، وَهِيَ إلَى الْأَئِمَّةِ وَالْأَخْيَارِ مَنْسُوبَةٌ، وَحُسْنُ ذَلِكَ شَاعَ وَذَاعَ، وَمَلَأَ الْأَسْمَاعَ، فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [مَطْلَبٌ: يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يُضَيِّعَ أَوْقَاتَهُ سُدًى] وَلَا تُذْهِبَنَّ الْعُمْرَ مِنْك سَبَهْلَلًا ... وَلَا تُغْبَنَن فِي الْغُمَّتَيْنِ بَلْ اجْهَدْ (وَلَا تُذْهِبَنَّ) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ وَالْفَاعِلُ الْمُخَاطَبُ، وَالْمُرَادُ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا بِمِثْلِ مَا خَاطَبَ بِهِ (الْعُمْرَ) مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ لَا تُذْهِبْ عُمْرَك النَّفِيسَ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا خَطَرَ، وَلَا يُعَادِلُهُ جَوْهَرٌ وَلَا نَضْرٌ، وَلَا دُرٌّ وَلَا مَرْجَانُ وَلَا لُؤْلُؤٌ وَلَا عِقْيَانٌ (مِنْك) أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، الْمَخْلُوقُ لِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ وَمُجَاوَرَتِهِ فِي الْجِنَانِ، (سَبَهْلَلًا) أَيْ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِذَهَابِهِ لَا فِي عَمَلِ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٍ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ قَالَ: وَيَمْشِي سَبَهْلَلًا إذَا جَاءَ وَذَهَبَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَمِنْهُ قَوْلُ صَاحِبِ الشَّاطِبِيَّةِ فِيهَا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 وَلَوْ أَنَّ عَيْنًا سَاعَدَتْ لَتَوَكَّفَتْ ... سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِ دِيَمًا وَهُطَّلًا وَلَكِنَّهَا عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهَا ... فَيَا ضَيْعَةَ الْأَعْمَارِ تَمْشِي سَبَهْلَلَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ» . وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَتَهَيَّئُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ. وَكَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى: حَاسِبْ نَفْسَك فِي الرَّخَاءِ قَبْلَ حِسَابِ الشِّدَّةِ. وَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: كَانَ تَوْبَةُ بْنُ الصِّمَّةِ بِالرَّقَّةِ وَكَانَ مُحَاسِبًا لِنَفْسِهِ فَحَسَبَ يَوْمًا عُمْرَهُ فَإِذَا هُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، فَحَسَبَ أَيَّامَهَا فَإِذَا هِيَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ يَوْمٍ وَخَمْسمِائَةِ يَوْمٍ، فَصَرَخَ وَقَالَ يَا وَيْلَتِي أَلْقَى الْمَلِيكَ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ ذَنْبٍ وَخَمْسِمِائَةِ ذَنْبٍ، كَيْفَ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَةُ آلَافٍ ذَنْبٍ، ثُمَّ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ، فَسَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ يَا لَك رَكْضَةٌ إلَى الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى. قَالَ وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَسْتَوْفِي عَلَى النَّفْسِ الْأَعْمَالَ وَيُكْرِهُهَا، عَلَيْهَا اغْتِنَامًا لِلْعُمْرِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إنَّ الصَّالِحِينَ كَانَتْ أَنْفُسُهُمْ تُوَاتِيهِمْ عَلَى الْخَيْرِ عَفْوًا، وَإِنَّ أَنْفُسَنَا لَا تَكَادُ تُوَاتِينَا إلَّا عَلَى كُرْهٍ، فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُكْرِهَهَا. قَالَ: وَكَانَ عَامِرٌ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ قِفْ أُكَلِّمْكَ، قَالَ أَمْسِكْ الشَّمْسَ. فَهَؤُلَاءِ فُرْسَانُ الْمَيْدَانِ. فَاسْمَعْ يَا مُضَيَّعَ الزَّمَانِ. شِعْرٌ: الدَّهْرُ سَاوَمَنِي عُمْرِي فَقُلْت لَهُ ... لَا بِعْت عُمْرِي بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ اشْتَرَاهُ تَفَارِيقًا بِلَا ثَمَنٍ ... تَبَّتْ يَدَا صَفْقَةٍ قَدْ خَابَ شَارِيهَا وَفِي وَصِيَّةِ الْإِمَامِ الْمُوَفِّقِ ابْنِ قُدَامَةَ طَيَّبَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا لَفْظُهُ: فَاغْتَنِمْ رَحِمَك اللَّهُ حَيَاتَك النَّفِيسَةَ، وَاحْتَفِظْ بِأَوْقَاتِك الْعَزِيزَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُدَّةَ حَيَاتِك مَحْدُودَةٌ، وَأَنْفَاسَك مَعْدُودَةٌ، فَكُلُّ نَفَسٍ يَنْقُصُ بِهِ جُزْءٌ مِنْك، وَالْعُمْرُ كُلُّهُ قَصِيرٌ، وَالْبَاقِي مِنْهُ هُوَ الْيَسِيرُ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ لَا عَدْلَ لَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وَلَا خُلْفَ مِنْهَا، فَإِنَّ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْيَسِيرَةِ خُلُودُ الْأَبَدِ فِي النَّعِيمِ، أَوْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَإِذَا عَادَلْت هَذِهِ الْحَيَاةَ بِخُلُودِ الْأَبَدِ عَلِمْت أَنَّ كُلَّ نَفَسٍ يَعْدِلُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ عَامٍ فِي نَعِيمٍ لَا خَطَرَ لَهُ أَوْ خِلَافَ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَا قِيمَةَ لَهُ. فَلَا تُضَيِّعْ جَوَاهِرَ عُمْرِك النَّفِيسَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، وَلَا تُذْهِبُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاجْتَهِدْ أَنْ لَا يَخْلُوَ نَفَسٌ مِنْ أَنْفَاسِك إلَّا فِي عَمَلِ طَاعَةٍ أَوْ قُرْبَةٍ تَتَقَرَّبُ بِهَا. فَإِنَّك لَوْ كَانَتْ مَعَك جَوْهَرَةٌ مِنْ جَوَاهِرِ الدُّنْيَا لَسَاءَك ذَهَابُهَا فَكَيْفَ تُفَرِّطُ فِي سَاعَاتِك وَأَوْقَاتِك. وَكَيْفَ لَا تَحْزَنُ عَلَى عُمْرِك الذَّاهِبِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، انْتَهَى. مَطْلَبٌ: إيَّاكَ وَالْغَبَنَ وَالتَّمَادِي فِي الْكَسَلِ وَهَوَى النَّفْسِ. (وَلَا تَغْبِنَنْ) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ غَبِنَ الشَّيْءُ وَفِيهِ كَفَرِحِ غَبْنًا وَغَبَنًا نَسِيَهُ أَوْ أَغْفَلَهُ أَوْ غَلِطَ فِيهِ، وَغَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ يَغْبِنُهُ غَبْنًا وَيُحَرَّكُ أَوْ بِالتَّسْكِينِ فِي الْبَيْعِ، وَبِالتَّحْرِيكِ فِي الرَّأْي خَدَعَهُ. وَفِي الْمُطْلِعِ فِي خِيَارِ الْغَبَنِ قَالَ: الْغَبْنُ بِسُكُونِ الْبَاءِ مَصْدَرُ غَبَنَهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ يَغْبِنُهُ بِكَسْرِهَا إذَا نَقَصَهُ. وَيُقَالُ غَبِنَ رَأْيُهُ بِكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ ضَعُفَ غَبَنًا بِالتَّحْرِيكِ انْتَهَى. (فِي الْغُمَّتَيْنِ) كَذَا رَأَيْته فِي النُّسَخِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ تَثْنِيَةُ غُمَّةٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَعَلَّهُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْمَضْمُومَةِ وَالنُّونِ وَالْمِيمِ تَثْنِيَةُ غُنْمَةٍ بِمَعْنَى غُنْمٌ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْفَيْءُ وَأَرَادَ بِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ. وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا النِّعْمَتَيْنِ تَثْنِيَةُ نِعْمَةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَوْ الصِّحَّةِ وَالْفَرَاغِ. وَفِي الْحَدِيثِ «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ الْيَوْمُ ضَيْفُك، وَالضَّيْفُ مُرْتَحِلٌ يَحْمَدُك أَوْ يَذُمُّك، وَكَذَلِكَ لَيْلَتُك. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَكْرٍ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَخْرَجَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الدُّنْيَا إلَّا يُنَادِي: ابْنَ آدَمَ اغْتَنِمْنِي لَعَلَّهُ لَا يَوْمَ لَك بَعْدِي، وَلَا لَيْلَةَ إلَّا تُنَادِي: ابْنَ آدَمَ اغْتَنِمْنِي لَعَلَّهُ لَا لَيْلَةَ لَك بَعْدِي» . وَعَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اعْمَلُوا لِأَنْفُسِكُمْ رَحِمَكُمْ اللَّهُ فِي هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 اللَّيْلِ وَسَوَادِهِ فَإِنَّ الْمَغْبُونَ مَنْ غُبِنَ خَيْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهُمَا، إنَّمَا جُعِلَا سَبِيلًا لِلْمُؤْمِنِينَ إلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ، وَوَبَالًا عَلَى الْآخَرِينَ لِلْغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَأَحْيُوا لِلَّهِ أَنْفُسَكُمْ بِذِكْرِهِ فَإِنَّمَا تَحْيَا الْقُلُوبُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. كَمْ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذَا اللَّيْلِ قَدْ اغْتَبَطَ بِقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ حُفْرَتِهِ. وَكَمْ مِنْ نَائِمٍ فِي هَذَا اللَّيْلِ قَدْ نَدِمَ عَلَى طُولِ نَوْمِهِ عِنْدَمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِلْعَابِدِينَ غَدًا. فَاغْتَنِمُوا مَمَرَّ السَّاعَاتِ وَاللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ رَحِمَكُمْ اللَّهُ. وَعَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ قَالَ: إنَّمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَرَاحِلُ تَنْزِلُهَا النَّاسُ مَرْحَلَةً مَرْحَلَةً حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهِمْ ذَلِكَ إلَى آخِرِ سَفَرِهِمْ، فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تُقَدِّمَ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ زَادًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا فَافْعَلْ، فَإِنَّ انْقِطَاعَ السَّفَرِ عَنْ قَرِيبٍ مَا هُوَ، وَالْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَزَوَّدْ لِسَفَرِك وَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ مِنْ أَمْرِك فَكَأَنَّك بِالْأَمْرِ قَدْ بَغَتُّك. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «اُطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ رَبِّكُمْ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٌ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَيُؤْمِنَّ رَوْعَاتِكُمْ» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إلَّا وَيُخْتَمُ عَلَيْهِ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ إلَّا يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ قَدْ دَخَلْت عَلَيْك الْيَوْمَ وَلَنْ أَرْجِعَ إلَيْك بَعْدَ الْيَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا تَعْمَلُ فِي، فَإِذَا انْقَضَى طَوَاهُ ثُمَّ يُخْتَمُ عَلَيْهِ فَلَا يَفُكُّ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَفُضُّ ذَلِكَ الْخَاتَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيَقُولُ الْيَوْمُ حِينَ يَنْقَضِي: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَاحَنِي مِنْ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا. وَلَا لَيْلَةٌ تَدْخُلُ عَلَى النَّاسِ إلَّا قَالَتْ كَذَلِكَ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ: إنَّ هَذَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِزَانَتَانِ فَانْظُرُوا مَا تَصْنَعُونَ فِيهِمَا. وَكَانَ يَقُولُ: اعْمَلُوا اللَّيْلَ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَاعْمَلُوا النَّهَارَ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ يَوْمٌ يَأْتِي مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إلَّا يَتَكَلَّمُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 النَّاسُ إنِّي يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَإِنِّي عَلَى مَا يُعْمَلُ فِي شَهِيدٌ، وَإِنِّي لَوْ قَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ لَمْ أَرْجِعْ إلَيْكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَإِيَّاكَ وَالْغَبَنَ وَالتَّمَادِي فِي الْكَسَلِ وَهَوَى النَّفْسِ (بَلْ اجْهَدْ) فِي فِكَاكِهَا وَخَلَاصِهَا مِنْ قُيُودِ الْأَقْفَاصِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ: الْإِنْسَانُ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفِي لِسَانِهِ وَفِي جَوَارِحِهِ كُلِّهَا. تَجَهَّزِي بِجِهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ ... يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا وَسَابِقِي بَغْتَةَ الْآجَالِ وَانْكَمِشِي ... قَبْلَ اللِّزَامِ فَلَا مَلْجَا وَلَا غَوْثَا وَلَا تَكَدِّي لِمَنْ يَبْقَى وَتَفْتَقِرِي ... إنَّ الرَّدَى وَارِثُ الْبَاقِي وَمَا وُرِثَا وَاخْشَيْ حَوَادِثَ صَرْفِ الدَّهْرِ فِي مَهَلٍ ... وَاسْتَيْقِظِي لَا تَكُونِي كَاَلَّذِي بَحَثَا عَنْ مُدْيَةٍ كَانَ فِيهَا قَطْعُ مُدَّتِهِ ... فَوَافَتْ الْحَرْثَ مَحْرُوثًا كَمَا حَرَثَا مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ ... أَوْ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعِثَا وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا فِي قَعْرِ مُوحِشَةٍ غَبْرَاءَ مُقْفِرَةٍ ... يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَى فِي جَوْفِهَا اللَّبَثَا فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى مَا فِيهِ خَلَاصُ نَفْسِهِ مِنْ الْهَلَاكِ، وَيَفُكُّهَا مِنْ الْقُيُودِ وَالشِّرَاكِ، وَلَا يَرْكَنُ إلَى الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَلَا يَسْكُنُ إلَى تَخَيُّلَاتِهَا وَتَمْوِيهَاتِهَا، فَمَا هِيَ إلَّا سُمُّ الْأَفَاعِي، وَأَهْلُهَا مَا بَيْنَ مَنْعِيٍّ وَنَاعِي، فَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَطْلَبٌ: مَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ (فَمَنْ) أَيْ أَيُّ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ أَوْ امْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ (هَجَرَ اللَّذَّاتِ) أَيْ صَرَمَهَا وَلَمْ يَلْوِ إلَيْهَا عِنَانَهُ، وَلَمْ يَشْغَلْ بِهَا جَنَانَهُ، وَلَا لَطَّخَ بِهَا لِسَانَهُ، وَلَا نَافَسَ فِي اكْتِسَابِهَا، وَلَمْ يَنْكَبَّ عَلَى انْتِهَابِهَا. بَلْ رَفَضَهَا وَثَنَى عَنْهَا الْعِنَانَ، وَلَهَا شَنَى، وَمَالَ عَنْهَا وَانْحَنَى (نَالَ) أَيْ أَصَابَ (الْمُنَى) أَيْ مُنَاهُ بِمَعْنَى تَمْنِيَتَهُ يَعْنِي مَا يَتَمَنَّاهُ وَيَطْلُبُهُ مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالتَّكْرِيمِ، وَمِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 تَحْصِيلِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَالصَّحَابَةِ الْأَخْيَارِ، وَالتَّابِعِينَ الْأَطْهَارِ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَبْرَارِ. كُلُّ هَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِهَجْرِ اللَّذَّاتِ وَرَفْضِ الشَّهَوَاتِ. (وَمَنْ) أَيْ كُلُّ إنْسَانٍ (أَكَبَّ) أَيْ أَقْبَلَ (عَلَى اللَّذَّاتِ) الْمُحَرَّمَةِ، وَكَذَا الْمُبَاحَةِ الْمُشْغِلَةِ عَنْ الْعُلُومِ يَنْحُوهَا، وَانْهَمَكَ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُلْهِيَةِ عَنْ نَيْلِ الْكَمَالَاتِ (عَضَّ) بِأَسْنَانِهِ (عَلَى الْيَدِ) تَأَسُّفًا عَلَى مَا فَرَّطَ فِي أَيَّامِهِ، وَتَلَهُّفًا عَلَى مَا تَثَبَّطَ فِي دُهُورِهِ وَأَعْوَامِهِ، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان: 27] {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا} [الفرقان: 28] . وَاللَّذَّاتُ جَمْعُ لَذَّةٍ وَهِيَ نَقِيضُ الْأَلَمِ، يُقَالُ لَذَّهُ وَلَذَّ بِهِ لِذَاذًا وَلَذَاذَةً، وَالْتَذَّهُ وَالْتَذَّ بِهِ وَاسْتَلَذَّهُ وَجَدَهُ لَذِيذًا، وَلِذَا هُوَ صَارَ لَذِيذًا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ مُقَارِبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْجَسَدَ» . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ الضَّحَّاكِ مُرْسَلًا قَالَ «أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَزْهَدُ النَّاسِ؟ قَالَ مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى، وَتَرَك أَفْضَلَ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، وَلَمْ يَعُدَّ غَدًا فِي أَيَّامِهِ، وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنْ الْمَوْتَى» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إلَّا بَعَثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى» . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَشْعَرِيِّينَ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: حُلْوَةُ الدُّنْيَا مُرَّةُ الْآخِرَةِ، وَمُرَّةُ الدُّنْيَا حُلْوَةُ الْآخِرَةِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَإِسْنَادُهُمَا جَيِّدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِلَفْظٍ «مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ جَائِعَانِ بَاتَا فِي زَرِيبَةِ غَنَمٍ أَغْفَلَهَا أَهْلُهَا يَفْتَرِسَانِ وَيَأْكُلَانِ بِأَسْرَعَ فِيهَا فَسَادًا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دِينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ» وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ «وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ» وَإِسْنَادُهُمَا جَيِّدٌ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: اسْتَسْقَى عُمَرُ فَجِيءَ بِمَاءٍ قَدْ شِيبَ بِعَسَلٍ فَقَالَ إنَّهُ لَطَيِّبٌ لَكِنِّي أَسْمَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَعَى عَلَى قَوْمٍ شَهَوَاتِهِمْ فَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا فَلَمْ يَشْرَبْهُ ذَكَرَهُ رَزِينٌ، قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَلَمْ أَرَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا وَلَا يُنَافِسُ فِي عِزِّهَا النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، وَنَفْسُهُ مِنْهُ فِي شُغْلٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَ الْعَاقِلَ الْمُرَاقِبَ لَمْ يَقْصِدْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ التَّلَذُّذَ بَلْ دَفْعَ الْجُوعِ مِمَّا يُوَافِقُ بَدَنَهُ وَيُقَوِّيه عَلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ قَصَدَ الِالْتِذَاذَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُتَنَاوِلَاتِ أَحْيَانًا لَمْ يُعَبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُعَابُ عَلَيْهِ الِانْهِمَاكُ فِي ذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ (أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ) يَعْنِي أَقْبَلْ عَلَيْهَا بِكُلِّيَّةٍ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، بَلْ شَأْنُهُمْ الْإِقْبَالَ عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ شُؤُونِهِمْ. وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ سُلَّمٌ يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى التَّقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، فَإِذَا أَكَلُوا أَوْ شَرِبُوا أَوْ لَبِسُوا أَوْ نَكَحُوا أَوْ فَعَلُوا مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَيْئًا فَعَلُوهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، وَإِذَا تَرَكُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَرَكُوهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَكُونُ فِعْلُهُمْ وَتَرْكُهُمْ عِبَادَةً، وَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ إنَّهُ تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 فَلَمَّا كَانَ الصِّيَامُ مُجَرَّدَ تَرْكِ حُظُوظِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي جُبِلَتْ عَلَى الْمِيلِ إلَيْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَضَافَهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ، مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُ تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: طُوبَى لِمَنْ تَرَكَ شَهْوَةَ حَاضِرِهِ لِمَوْعِدٍ غُيِّبَ لَمْ يَرَهُ. مَطْلَبٌ: التَّقَرُّبُ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَهَجْرِ اللَّذَّاتِ. فِيهِ فَوَائِدُ وَفِي التَّقَرُّبِ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَهَجْرِ اللَّذَّاتِ فَوَائِدُ: مِنْهَا كَسْرُ النَّفْسِ فَإِنَّ الِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ تَحْمِلُ النَّفْسَ عَلَى الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ وَالْغَفْلَةِ، وَمِنْهَا تَخَلِّي الْقَلْبِ لِلْفِكْرِ وَالذِّكْرِ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الشَّهَوَاتِ وَالِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ، قَدْ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيُعْمِيهِ وَيَحُولُ بَيْن الْعَبْدِ وَبَيْنَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَيَسْتَدْعِي الْغَفْلَةَ، وَخُلُوَّ الْبَاطِنِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يُنَوِّرُ الْقَلْبَ وَيُوجِبُ رِقَّتَهُ وَيُزِيلُ قَسْوَتَهُ، وَمِنْهَا الِاشْتِغَالُ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا مِنْ دِرَاسَةِ الْعِلْمِ وَالْإِمْعَانِ فِي تَفَهُّمِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَمِنْهَا الْإِعْرَاضُ وَالنَّزَاهَةُ عَنْ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إلَى النَّجَاسَةِ فَكُلَّمَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ حَمْلُهُ لِلنَّجَاسَةِ أَكْثَرُ، وَغَايَةُ الِالْتِذَاذِ بِذَلِكَ فِي مِقْدَارِ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ يَسْتَوِي طَيِّبُهُ وَخَبِيثُهُ. فَمَنْ رَاقَبَ هَذِهِ الْحَالَةَ تَرَكَ الِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ لَا مَحَالَةَ. وَلَمَّا كَانَ فِي هَجْرِ اللَّذَّاتِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ قَمْعٌ لِلنَّفْسِ وَهَوَاهَا. قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَطْلَبٌ: فِي ذَمِّ الْهَوَى وَأَنَّ عِزَّ النُّفُوسِ فِي مُخَالَفَةِ هَوَاهَا: وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذُلٌّ سَرْمَدُ (وَفِي قَمْعِ) أَيْ صَرْفِ (أَهْوَاءِ) جَمْعُ هَوًى بِالْقَصْرِ مَيْلُ (النُّفُوسِ) إلَى الشَّيْءِ وَفِعْلُهُ هَوَى يَهْوَى هَوًى مِثْلُ عَمِي يَعْمَى عَمًى، وَأَمَّا هَوًى بِالْفَتْحِ فَهُوَ السُّقُوطُ وَمَصْدَرُهُ الْهُوِيُّ بِالضَّمِّ، وَيُطْلَقُ الْهَوَى عَلَى نَفْسِ الْمَحْبُوبِ. قَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ الَّتِي زَعَمْت فُؤَادَك مَلَّهَا ... خَلَقَتْ هَوَاك كَمَا خَلَقْت هَوًى لَهَا وَيُقَالُ هَذَا هَوَى فُلَانٍ وَفُلَانَةُ هَوَاهُ أَيْ مُهْوِيَتُهُ وَمَحْبُوبَتُهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِينَ مُصْعِدٌ ... جَنُوبًا وَجُثْمَانِي بِمَكَّةَ مُوثَقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُبِّ الْمَذْمُومِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] . وَيُقَالُ إنَّمَا سُمِّيَ هَوًى؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ إلَى النَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي مُخَالَفَةِ النُّفُوسِ لِهَوَاهَا (اعْتِزَازُهَا) أَيْ قُوَّتُهَا وَمَنْعَتُهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَجُنُودِهِ وَعَدَمُ ذُلِّهَا، فَلَمَّا قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ بِمِقْمَعَةِ الْمُتَابَعَةِ وَضَرَبَهَا بِسِيَاطِ الِاقْتِدَاءِ، وَصَرَفَهَا بِزِمَامِ التَّقْوَى، حَصَلَ لَهَا الْعِزُّ وَالِامْتِنَاعُ، وَالْقُوَّةُ وَالِارْتِفَاعُ، بِحُسْنِ الِاتِّبَاعِ، وَمُخَالَفَةِ الِابْتِدَاعِ. يُقَالُ قَمَعَهُ كَمَنَعَهُ ضَرَبَهُ بِالْمِقْمَعَةِ وَقَهَرَهُ وَذَلَّلَهُ كَأَقْمَعَهُ. وَيُقَالُ عَزَّ عِزًّا وَعِزَّةً بِكَسْرِهِمَا وَعِزَازَةً صَارَ عَزِيزًا كَتَعَزَّزَ وَقَوِيَ بَعْدَ ذُلِّهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عِدَّةُ آيَاتٍ فِي ذَمِّ الْهَوَى كَقَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} [الفرقان: 43] ، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] . وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَفْسِيرُهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ مِنْ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ، وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] : الْمُرَادُ بِهَذَا الْهَوَى مَا مُنِعَ مِنْهُ وَحُرِمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَفْتَقِرُ إلَى تَرْكِهِ فِي أَوْقَاتٍ لِئَلَّا يَحْمِلَ إلَى مَا يُؤْذِي، وَالْكُلُّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِيَاضَةٍ؛ وَالْآدَمِيُّ كَالْفَرَسِ إذَا أَنْتَجَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَائِضٍ، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا حَرَّكَتْ الرِّيَاضَةُ أَصْلَهُ الْجَيِّدَ فَظَهَرَ جَوْهَرُهُ، كَمَا أَنَّ الْمَسَّ يُؤَثِّرُ فِي الْفُولَاذِ، وَإِنْ كَانَ كَوْدَنًا مَنَعَتْ بَعْضُ أَخْلَاقِهِ الرَّدِيئَةِ، كَمَا أَنَّ الْحَدِيدَ قَدْ يُقْطَعُ، وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ خُلِقَ عَلَى صِفَةٍ حَسَنَةٍ تُؤَدِّبُهُ نَفْسُهُ وَيُقَوِّمُهُ عَقْلُهُ، فَتَأْتِي الرِّيَاضَةُ بِتَمَامِ التَّقْوِيمِ وَكَمَالِ التَّعْلِيمِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ ذَلِكَ فِي جَوْهَرِهِ فَيَفْتَقِرُ إلَى زِيَادَةِ رِيَاضَةٍ، وَيَتْرُكُ الْمَحْبُوبَاتِ عَلَى كُرْهٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِيَاضَةِ هَذَا لِيُفَارِقَ الْمُؤْذِيَ كَيْفَ اتَّفَقَ. وَالرِّيَاضَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَتُؤَثِّرَ فِي حَقِّ الشَّرَهِ تَقْلِيلُ الْمَطْعَمِ إلَى أَنْ يَعُودَ إلَى حَالَةِ الِاعْتِدَالِ، وَأَخْذِ مَا يَصْلُحُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إعْطَاءِ النَّفْسِ مَا يُوَافِقُهَا فِي مَصَالِحِهَا، فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا» وَكَذَلِكَ الشَّرَهُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 النِّكَاحِ وَجَمْعِ الْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ نَرُدُّهُ بِالرِّيَاضَةِ عَمَّا يُؤْذِي، وَنَأْمُرُ الْمُتَكَبِّرَ بِالتَّوَاضُعِ، وَنَأْمُرُ السَّيِّئَ الْخُلُقَ بِالِاحْتِمَالِ وَالصَّفْحِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ: الْهَوَى مَيْلُ النَّفْسِ إلَى مَا يُلَائِمُهَا، وَهَذَا الْمَيْلُ خُلِقَ فِي الْإِنْسَانِ لِضَرُورَةِ بَقَائِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا مَيْلُهُ إلَى الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمُنْكَحِ مَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَلَا نَكَحَ. فَالْهَوَى سَاحِبٌ لَهُ لِمَا يُرِيدُهُ، كَمَا أَنَّ الْغَضَبَ دَافِعٌ عَنْهُ مَا يُؤْذِيه، فَلَا يَنْبَغِي ذَمُّ الْهَوَى مُطْلَقًا وَلَا مَدْحُهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْمُفْرِطُ مِنْ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ. وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ مِمَّنْ يُطِيعُ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ أَنَّهُ لَا يَقِفُ فِيهِ عَلَى حَدِّ الْمُنْتَفِعِ بِهِ، أَطْلَقَ ذَمَّ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ لِعُمُومِ غَلَبَةِ الضَّرَرِ؛ لِأَنَّهُ يَنْدُرُ مَنْ يَقْصِدُ الْعَدْلَ فِي ذَلِكَ وَيَقِفُ عِنْدَهُ، كَمَا أَنَّهُ يَنْدُرُ فِي الْأَمْزِجَةِ الْمِزَاجُ الْمُعْتَدِلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَلَبَةِ أَحَدِ الْأَخْلَاطِ وَالْكَيْفِيَّاتِ عَلَيْهِ، فَحِرْصُ النَّاصِحِ عَلَى تَعْدِيلِ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَحِرْصِ الطَّبِيبِ عَلَى تَعْدِيلِ الْمِزَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَذَّرُ وُجُودُهُ إلَّا فِي حَقِّ أَفْرَادٍ مِنْ الْعَالَمِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إلَّا ذَمَّهُ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ لَمْ يَجِئْ إلَّا مَذْمُومًا إلَّا مَا جَاءَ مِنْهُ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ» . وَتَقَدَّمَ التَّنْصِيصُ عَلَى هَذَا، وَقَدْ قِيلَ: الْهَوَى كَمِينٌ لَا يُؤْمَنُ وَمُطْلِقُهُ يَدْعُو اللَّذَّةَ الْحَاضِرَةَ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ فِي الْعَاقِبَةِ، وَيَحْثُ عَلَى نَيْلِ الشَّهَوَاتِ عَاجِلًا، وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا لِأَعْظَمِ الْآلَامِ أَجْلًا وَرُبَّمَا يَكُونُ عَاجِلًا أَيْضًا، فَالْهَوَى وَالنَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ وَالدُّنْيَا يَدْعُونَ إلَى مَا فِيهِ الْبَوَارُ، وَيُعْمِينَ عَيْنَ الْبَصِيرَةِ عَنْ النَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ وَمَا يُغْضِبُ وَيُرْضِي الْجَبَّارَ، وَالدِّينُ وَالْمُرُوءَةُ وَالْعَقْلُ وَالرُّوحُ يَنْهَيْنَ عَنْ لَذَّةٍ تَعْقُبُ أَلَمًا، وَشَهْوَةً تُورِثُ نَدَمًا. وَلَمَّا اُبْتُلِيَ الْمُكَلَّفُ وَامْتُحِنَ بِالْهَوَى مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ، وَكَانَ كُلُّ وَقْتٍ تَحْدُثُ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ جُعِلَ فِيهِ حَاكِمَانِ حَاكِمُ الْعَقْلِ وَحَاكِمُ الدِّينِ. وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَرَّنَ عَلَى دَفْعِ الْهَوَى الْمَأْمُونِ الْعَوَاقِبِ، لِيَتَمَرَّنَ بِذَلِكَ عَلَى تَرْكِ مَا تُؤْذِي عَوَاقِبُهُ. وَلِيَعْلَمَ اللَّبِيبُ أَنَّ مُدْمِنِي الشَّهَوَاتِ يَصِيرُونَ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 حَالَةٍ لَا يَلْتَذُّونَ بِهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَرْكَهَا، لِأَنَّهَا صَارَتْ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْشِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ. وَلِيَعْلَمَ الْعَاقِلُ الْمُؤْمِنُ أَنَّ الْهَوَى حِظَارُ جَهَنَّمَ الْمُحِيطُ بِهَا حَوْلَهَا، فَمَنْ وَقَعَ فِيهِ وَقَعَ فِيهَا، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْفَعُهُ «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَرْسَلَ إلَيْهَا جِبْرِيلُ فَقَالَ اُنْظُرْ إلَيْهَا، وَإِلَى مَا أَعْدَدْت لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَجَاءَ فَنَظَرَ إلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَرَجَعَ إلَيْهِ وَقَالَ وَعِزَّتُك لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عِبَادِك إلَّا دَخَلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُجِبَتْ بِالْمَكَارِهِ، وَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهَا فَانْظُرْ إلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُجِبَتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ وَعِزَّتُك لَقَدْ خَشِيت أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذْهَبْ إلَى النَّارِ فَانْظُرْ إلَيْهَا، وَإِلَى مَا أَعْدَدْت لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَرَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: وَعِزَّتُك لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهَا، فَرَجَعَ إلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَرَجَعَ إلَيْهِ وَقَالَ: وَعِزَّتُك لَقَدْ خَشِيت أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ شَهَوَاتُ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ وَمُضِلَّاتِ الْهَوَى» . وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ هَوًى مُتَّبَعًا. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مُخَالَفَةُ الْهَوَى تُورِثُ الْعَبْدَ قُوَّةً فِي بَدَنِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْغَالِبُ لِهَوَاهُ أَشَدُّ مِنْ الَّذِي يَفْتَحُ الْمَدِينَةَ وَحْدَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» . وَكُلَّمَا تَمَرَّنَ عَلَى مُخَالَفَةِ هَوَاهُ اكْتَسَبَ قُوَّةً عَلَى قُوَّتِهِ، وَبِمُخَالَفَتِهِ لِهَوَاهُ تَعْظُمُ حُرْمَتُهُ وَتَغْزُرُ مُرُوءَتُهُ. قَالَ مُعَاوِيَةُ خَالُ الْمُؤْمِنِينَ: الْمُرُوءَةُ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَعِصْيَانُ الْهَوَى. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذَا أَشْكَلَ عَلَيْك أَمْرٌ أَنْ لَا تَدْرِيَ أَيَّهمَا أَرْشَدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 فَخَالِفْ أَقْرَبَهُمَا مِنْ هَوَاك، فَإِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْخَطَأُ فِي مُتَابَعَةِ الْهَوَى. وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ: الْبَلَاءُ كُلُّهُ فِي هَوَاك. وَالشِّفَاءُ كُلُّهُ فِي مُخَالَفَتِك إيَّاهُ. . وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ جِهَادُك هَوَاك. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَسَمِعْت شَيْخَنَا يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: جِهَادُ النَّفْسِ وَالْهَوَى أَصْلُ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى جِهَادِهِمْ حَتَّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ أَوَّلًا حَتَّى يَخْرُجَ إلَيْهِمْ، فَمَنْ قَهَرَ هَوَاهُ عَزَّ وَسَادَ، وَمَنْ قَهَرَهُ هَوَاهُ ذَلَّ وَهَانَ وَهَلَكَ وَبَادَ. وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَطْلَبٌ: الذُّلُّ فِي نَيْلِ النُّفُوسِ مَا تَشْتَهِيه. (وَفِي نَيْلِهَا) أَيْ النُّفُوسِ (مَا) أَيْ الَّذِي (تَشْتَهِي) أَيْ تَشْتَهِيه وَتَطْلُبُهُ وَتَهْوَاهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَنَحْوِهَا (ذُلٌّ سَرْمَدُ) أَيْ طَوِيلٌ مُسْتَمِرٌّ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: السَّرْمَدُ الدَّائِمُ وَالطَّوِيلُ مِنْ اللَّيَالِي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْعُو لِمَا فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَرِضَا الشَّيْطَانِ وَجُنُودِهِ، فَقَدْ أَغْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ أَبْوَابَ التَّوْفِيقِ وَفَتَحَ عَلَيْهِ أَبْوَابَ الْخِذْلَانِ. قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ: مَنْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الْهَوَى وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ مَوَادُّ التَّوْفِيقِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْكُفْرُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: فِي الْغَضَبِ، وَالشَّهْوَةِ، وَالرَّغْبَةِ، وَالرَّهْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت مِنْهُنَّ اثْنَتَيْنِ رَجُلًا غَضِبَ فَقَتَلَ أُمَّهُ، وَرَجُلًا عَشِقَ فَتَنَصَّرَ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ فَمَشَى إلَى جَانِبِهَا ثُمَّ قَالَ: أَهْوَى هَوَى الدِّينِ وَاللَّذَّاتُ تُعْجِبُنِي ... فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّينِ ؟ فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: دَعْ أَحَدَهُمَا تَنَلْ الْآخَرَ. وَفِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ: لِكُلِّ عَبْدٍ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ بِدَايَتُهُ اتِّبَاعُ الْهَوَى كَانَتْ نِهَايَتُهُ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْحِرْمَانُ وَالْبَلَاءُ الْمَتْبُوعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 بِحَسَبِ مَا اتَّبَعَ مِنْ هَوَاهُ، بَلْ يَصِيرُ لَهُ ذَلِكَ فِي نِهَايَتِهِ عَذَابًا يُعَذَّبُ بِهِ فِي قَلْبِهِ كَمَا قِيلَ: مَآرِبُ كَانَتْ فِي الشَّبَابِ لِأَهْلِهَا ... عِذَابًا فَصَارَتْ فِي الْمَشِيبِ عَذَابَا فَلَوْ تَأَمَّلْت حَالَ كُلِّ ذِي حَالٍ شِينَةٍ زَرِيَّةٍ لَرَأَيْت بِدَايَتَهُ الذَّهَابُ مَعَ هَوَاهُ وَإِيثَارُهُ عَلَى عَقْلِهِ. وَمَنْ كَانَتْ بِدَايَتُهُ مُخَالَفَةَ هَوَاهُ وَطَاعَةُ دَاعِي رُشْدِهِ كَانَتْ نِهَايَتُهُ الْعِزَّ وَالشَّرَفَ وَالْغِنَى وَالْجَاهَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: مَنْ مَلَكَ شَهْوَتَهُ فِي حَالِ شَبِيبَتِهِ أَعَزَّهُ اللَّهُ فِي حَالِ كُهُولِيَّتِهِ. وَقِيلَ لِلْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ: بِمَ نِلْت مَا نِلْت؟ قَالَ: بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى. فَهَذَا فِي بِدَايَةِ الدُّنْيَا وَنِهَايَتِهَا، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجَنَّةَ نِهَايَةَ مَنْ نَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهُ، وَالنَّارَ نِهَايَةَ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: رَأَيْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنْ وُضِعْتُ فِي لَحْدِي حَتَّى وَقَفْت بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فَحَاسَبَنِي حِسَابًا يَسِيرًا ثُمَّ أَمَرَ بِي إلَى الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا أَنَا أَدُورُ بَيْنَ أَشْجَارِهَا وَأَنْهَارِهَا لَا أَسْمَعُ حِسًّا وَلَا حَرَكَةً إذْ سَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالَ: تَحْفَظُ أَنَّك آثَرْت اللَّهَ عَلَى هَوَاك يَوْمًا؟ قُلْت: إي وَاَللَّهِ، فَأَخَذَنِي النِّثَارُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مُخَالَفَةُ الْهَوَى تُوجِبُ شَرَفَ الدِّينِ وَشَرَفَ الْآخِرَةِ وَعِزَّ الظَّاهِرِ وَعِزَّ الْبَاطِنِ، وَمُتَابَعَتُهُ تَضَعُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتُذِلُّهُ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ. وَذَكَرَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ الزُّبَيْرِ: إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ ... وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ إلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ لِلَّذِي ... دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ وَلِأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 إذَا حَدَّثَتْك النَّفْسُ يَوْمًا بِشَهْوَةٍ ... وَكَانَ عَلَيْهَا لِلْخِلَافِ طَرِيقُ فَخَالِفْ هَوَاهَا مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّمَا ... هَوَاهَا عَدُوٌّ وَالْخِلَافُ صَدِيقُ «وَإِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ نَادَى مُنَادٍ لَيَعْلَمَنَّ أَهْلُ الْجَمْعِ مِنْ أَهْلِ الْكَرَمِ الْيَوْمَ أَلَا لِيَقُمْ الْمُتَّقُونَ، فَيَقُومُونَ إلَى مَحَلِّ الْكَرَامَةِ وَأَمَّا الْمُتَّبِعُونَ لِهَوَاهُمْ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ فِي حَرِّ الْهَوَى وَعَرَقِهِ وَأَلَمِهِ وَحَرْقِهِ، وَأُولَئِكَ فِي ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ لَا حَرَّ وَلَا ذُلَّ وَلَا هَوَانَ» . فَإِذًا عَلِمْت هَذَا. مَطْلَبٌ: لَا تَشْتَغِلْ إلَّا بِمَا يُكْسِبُ الْعُلَا: فَلَا تَشْتَغِلْ إلَّا بِمَا يُكْسِبُ الْعُلَا ... وَلَا تَرْضَ لِلنَّفْسِ النَّفِيسَةِ بِالرَّدِي (فَلَا تَشْتَغِلْ) بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْغَالِ (إلَّا بِمَا) أَيْ بِشُغْلٍ (يُكْسِبُ الْعُلَا) مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ وَمَفَاخِرِ الرُّتَبِ (وَلَا تَرْضَ لِلنَّفْسِ النَّفِيسَةِ) الْمَرْغُوبِ فِيهَا لَا عَنْهَا (بِ) الْفِعْلِ (الرَّدِي) أَيْ الْمُرْدِي لَهَا أَوْ الْفِعْلِ الَّذِي يُؤَدِّيهَا إلَى الرَّدِي وَالْهَلَاكِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ صَدِيقٌ بِصَدِيقِهِ وَلَا رَفِيقٌ بِرَفِيقِهِ، وَالنَّفْسُ عِنْدَك وَدِيعَةٌ أُودِعْتهَا، وَحَفِيظَةٌ اُسْتُحْفِظْتهَا، فَلَا تَذْهَبْ بِهَا إلَى الْهَلَكَاتِ، وَلَا تُلْقِهَا فِي مَهَاوِي التَّلِفَاتِ، وَإِذَا كُنْت لَا تَنْصَحُ نَفْسَك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك، وَتُرَاقِبُ فِيهَا الرَّبَّ الْمُهَيْمِنَ عَلَيْك، فَيَا طُولَ دَمَارِك، وَيَا أَسَفِي عَلَيْك. فَمَنْ لَا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ، كَيْفَ يَنْصَحُ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ، مِنْ وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ وَحَوَاشِيهِ وَعُرْسِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ النَّاظِمُ أَشْيَاءَ مِنْ فَضْلِ الْعُزْلَةِ عَنْ النَّاسِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي فَضْلِ الْعُزْلَةِ عَنْ النَّاسِ وَأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِسَلَامَةِ الدِّينِ: وَفِي خَلْوَةِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ أُنْسُهُ ... وَيَسْلَمُ دِينُ الْمَرْءِ عِنْدَ التَّوَحُّدِ (وَفِي خَلْوَةِ) أَيْ انْفِرَادِ (الْإِنْسَانِ) عَنْ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ وَشُئُونِهِمْ (بِ) مُطَالَعَةِ كُتُبِ (الْعِلْمِ) مِنْ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَسِيرَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّفَهُّمِ فِي ذَلِكَ، وَتَتَبُّعِ أَيَّامِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْوَالِهِ وَشُئُونِهِ " وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ. وَالتَّخَلُّقِ بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ أَخْلَاقِهِ، وَذِكْرِ غَزَوَاتِهِ وَسَرَايَاهُ وَمُكَاتَبَاتِهِ، وَالْوُفُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَفِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وَمُطَالَعَةِ كُتُبِ الرَّقَائِقِ وَالْوَعْظِ وَذَمِّ الدُّنْيَا وَالِاحْتِفَالِ بِهَا وَالرِّضَا عَنْ النَّفْسِ، وَمُطَالَعَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَكُتُبِ النَّحْوِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْآلَاتِ، فَمُطَالَعَةُ الْمَرْءِ لِهَذِهِ الْعُلُومِ وَالْخَلْوَةُ بِهَا (أُنْسُهُ) فِي خَلْوَتِهِ وَوَحْدَتِهِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْأُنْسُ بِالضَّمِّ وَبِالتَّحْرِيكِ وَالْأَنَسَةُ مُحَرَّكَةٌ ضِدُّ الْوَحْشَةِ، وَقَدْ أَنِسَ بِهِ بِتَثْلِيثِ النُّونِ وَآنَسَهُ ضِدُّ أَوْحَشَهُ، وَآنَسَ الشَّيْءَ أَبْصَرَهُ. فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَرَفًا صَالِحًا مِنْ الْعُلُومِ وَانْفَرَدَ بِهَا عَنْ أَبْنَاءِ زَمَانِهِ فِي خَلْوَتِهِ لَمْ يَسْتَوْحِشْ أَبَدًا. كَيْفَ وَهُوَ يَمُرُّ عَلَى أَخْبَارِ الْأَوَائِلِ وَأَيَّامِهِمْ، وَيَطَّلِعُ عَلَى شُئُونِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَيَظْهَرُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَكَلَامِهِمْ، وَنَثْرِهِمْ وَنِظَامِهِمْ، وَكَرَمِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَهِمَمِهِمْ وَنَكَالِهِمْ، وَإِقْدَامِهِمْ وَإِحْجَامِهِمْ، وَإِحْلَالِهِمْ وَإِبْرَامِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ، وَأَدْيَانِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ، وَحِلْمِ الرُّسُلِ وَعَزْمِهِمْ، وَسَعَةِ أَخْلَاقِهِمْ وَحَزْمِهِمْ، وَعَفْوِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَتَضَرُّعِهِمْ إلَى الْحَقِّ وَذِكْرِهِمْ، حَتَّى إذَا انْتَهَيْت إلَى سِيرَةِ الْخَاتَمِ لِلرِّسَالَةِ وَالْقَامِعِ لِلْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ، كُنْت كَأَنَّك بَيْنَ أَظْهُرِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ الَّذِينَ قَشَعَ اللَّهُ بِهِمْ الْكُفْرَ وَأَبَادَهُ، وَنَصَرَ بِهِمْ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلَكَ أَضْدَادَهُ، فَتَارَةً تَفْرَحُ وَأُخْرَى تَبْكِي، وَرَأَيْت وَقَعَاتِهِمْ وَاحِدَةٌ تَشْرَحُ وَأُخْرَى تَنْكِي فَمَنْ كَانَ فِي خَلْوَتِهِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، كَيْفَ لَا تُفَارِقُهُ الْوَحْشَةُ وَالْكَآبَةُ، وَيَصْحَبُهُ الْأُنْسُ وَالسُّرُورُ وَالْمَهَابَةُ، مَعَ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ، وَسِيَرِ الْمُلُوكِ وَالدُّوَلِ، وَأَخْبَارِ الْأَحْبَارِ وَالْأُوَلِ، وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ، وَالْمَقَالَاتِ وَالنِّحَلِ، وَأَهْلِ التَّقْوَى وَالْخُشُوعِ، وَالطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ، وَالظَّلَمَةِ وَالْجَبَابِرَةِ، وَالْأَكَاسِرَةِ وَالْقَيَاصِرَةِ، فَكُلُّ هَذَا يَأْنَسُ بِهِ فِي خَلْوَتِهِ، وَيَسْكُنُ إلَيْهِ فِي وَحْدَتِهِ (وَيَسْلَمُ دِينُ الْمَرْءِ) الْمُخْتَلِي مِنْ شَائِبَةِ الرِّيَاءِ وَمُقَارَفَةِ الْأَذَى (عِنْدَ التَّوَحُّدِ) وَالِانْفِرَادِ، وَالْعُزْلَةِ عَنْ الْعِبَادِ. وَمَنْ سَلِمَ دِينُهُ فَقَدْ حَصَلَ عَلَى غَايَةِ الْمُرَادِ، وَسَعِدَ كُلَّ الْإِسْعَادِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الْخَلْوَةَ عَنْ الْخَلْقِ إنَّمَا تُمْدَحُ لِمَنْ أَتْقَنَ أَمْرَ دِينِهِ، وَعَلِمَ مِنْ الْعُلُومِ مَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ، وَعَرَفَ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ وَالْمَكْرُوهَ وَالْمَحْظُورَ، وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ وَيَجُوزُ، وَمَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ، وَكَذَا الرُّسُلُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 فَحْوَى كَلَامِ النَّاظِمِ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْمُخْتَلِي قَدْ أَنِسَ بِمَا مَعَهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَالْأَذْكَارِ وَالْوَظَائِفِ، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ قَبْلَ الْخَلْوَةِ لِيَعْبُدَ اللَّهَ عَلَى عِلْمٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْعُزْلَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي مَدْحِ الْعُزْلَةِ عِدَّةُ أَخْبَارٍ، عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَجُمْلَةُ آثَارٍ، عَنْ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ» - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا «- يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِهِمَا بِلَفْظِ «أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إيمَانًا؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ وَقَدْ كَفَى النَّاسَ شَرَّهُ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْت فِي إبِلِك وَغَنَمِك وَتَرَكْت النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ، فَضَرَبَهُ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: اُسْكُتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: أَيْ الْغَنِيَّ النَّفْسِ الْقَنُوعَ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ حِبَّانَ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ عَادَ مَرِيضًا كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى إمَامٍ يُعَزِّرُهُ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَغْتَبْ إنْسَانًا كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ» وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ «أَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَسَلِمَ النَّاسُ مِنْهُ وَسَلِمَ هُوَ مِنْ النَّاسِ» وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَلَفْظُهُ: قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خِصَالٌ سِتٌّ مَا مِنْ مُسْلِمٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 يَمُوتُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إلَّا كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، فَذَكَرَ مِنْهَا وَرَجُلٌ فِي بَيْتِهِ لَا يَغْتَابُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجُرُّ إلَيْهِمْ سَخَطًا وَلَا نِقْمَةً» . وَرَوَى أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ وَحَسَّنَ إسْنَادَهُ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ» . وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ مُقَارِبٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَنْ انْقَطَعَ إلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ كُلَّ مُؤَنِهِ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ انْقَطَعَ إلَى الدُّنْيَا وَكَلَهُ اللَّهُ إلَيْهَا» . وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ وَلَهُ شَوَاهِدُ. وَأَمَّا حَدِيثُ «السَّلَامَةُ فِي الْعُزْلَةِ» فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا فَلَيْسَ بِحَدِيثٍ. نَعَمْ قَالَ السَّخَاوِيُّ: أَسْنَدَ الدَّيْلَمِيُّ مَعْنَاهُ مُسَلْسَلًا عَنْ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ «سَلَامَةُ الرَّجُلِ فِي الْفِتْنَةِ أَنْ يَلْزَمَ بَيْتَهُ» ثُمَّ سَاقَ قَوْلَ أَبِي حَيَّانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ الْإِينَاسِ بِالنَّاسِ ... لَمَّا غَنِيتُ عَنْ الْأَكْيَاسِ بِالْيَأْسِ وَصِرْتُ فِي الْبَيْتِ وَحْدِي لَا أَرَى أَحَدًا ... بَنَاتُ فِكْرِي وَكُتْبِي هُنَّ جُلَّاسِي وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خُذُوا حَظَّكُمْ مِنْ الْعُزْلَةِ. قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ بَابًا مِنْ حَدِيدٍ لَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَلْحَقَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَوْلَا مَخَافَةُ الْوَسْوَاسِ لَدَخَلْتُ إلَى بِلَادٍ لَا أَنِيسَ بِهَا، وَهَلْ يُفْسِدُ النَّاسَ إلَّا النَّاسُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ: الْعُزْلَةُ عِبَادَةٌ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يُطِيلُ الصَّمْتَ وَيَهْرُبُ مِنْ النَّاسِ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ. وَأَوْصَى دَاوُد الطَّائِيُّ: فِرَّ مِنْ النَّاسِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الْأَسَدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وَأَوْصَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا تُخَالِطَ فِي زَمَانِك هَذَا أَحَدًا فَافْعَلْ، وَلْيَكُنْ هَمُّك مَرَمَّةَ جِهَازِك، وَكَانَ يَقُولُ هَذَا زَمَانُ السُّكُوتِ وَلُزُومِ الْبَيْتِ. وَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُحِبُّ الِانْفِرَادَ وَالْعُزْلَةَ مِنْ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، وَسُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ الْخَوَاصِّ. ثُمَّ ذَكَرَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْضَ فَوَائِدِ الْخَلْوَةِ غَيْرَ مَا قَدَّمَهُ فَقَالَ: وَيَسْلَمُ مِنْ قَالَ وَقِيلَ وَمِنْ أَذَى ... جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ بَغِيضٍ وَحُسَّدِ (وَيَسْلَمُ) هُوَ (مِنْ قَالَ) فُلَانٌ (وَ) مِنْ (قِيلَ) فِي فُلَانٍ وَعَنْ فُلَانٍ، وَهُوَ مِمَّا كَرِهَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنَا كَمَا فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةُ الْمَالِ وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ، وَالْمُرَادُ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْنِيه، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه» . (وَ) يَسْلَمُ أَيْضًا (مِنْ أَذَى جَلِيسٍ) أَيْ مُجَالِسٍ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى فَاعِلِهِ أَيْ وَيَسْلَمُ الْمُعْتَزِلُ مِنْ الْأَذَى الصَّادِرِ مِنْ الْجَلِيسِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى مَفْعُولِهِ، أَيْ وَيَسْلَمُ فِي وِحْدَتِهِ وَخَلْوَتِهِ مِنْ أَنْ يُؤْذِيَ هُوَ جَلِيسَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَخَلِّيَ سَلِمَ مِنْ الشَّيْئَيْنِ مَعًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابَك وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً» قَوْلُهُ يُحْذِيَكَ أَيْ يُعْطِيَك. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَثَلُ جَلِيسِ الصَّالِحِ كَمَثَلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 صَاحِبِ الْمِسْكِ إنْ لَمْ يُصِبْك مِنْهُ شَيْءٌ أَصَابَك مِنْ رِيحِهِ، وَمَثَلُ جَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْكِيرِ إنْ لَمْ يُصِبْك مِنْ سَوَادِهِ أَصَابَك مِنْ دُخَانِهِ» . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْعَسْكَرِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: «الْوِحْدَةُ خَيْرٌ مِنْ جَلِيسِ السُّوءِ، وَالْجَلِيسُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنْ الْوِحْدَةِ، وَإِمْلَاءُ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ الصَّمْتِ، وَالصَّمْتُ خَيْرٌ مِنْ إمْلَاءِ الشَّرِّ» . (وَ) يَسْلَمُ أَيْضًا (مِنْ) شَخْصٍ (وَاشٍ) يُقَالُ وَشَى فُلَانٌ كَلَامَهُ كَذَبَ فِيهِ، وَوَشَى بِهِ إلَى السُّلْطَانِ وَشْيًا وَوِشَايَةً نَمَّ وَسَعَى، وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ: خَرَجْنَا نَشِي بِسَعْدٍ إلَى عُمَرَ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ وَشَى بِهِ يَشِي وِشَايَةً إذَا نَمَّ عَلَيْهِ وَسَعَى بِهِ فَهُوَ وَاشٍ وَجَمْعُهُ وُشَاةٌ، قَالَ وَأَصْلُهُ اسْتِخْرَاجُ الْحَدِيثِ بِاللُّطْفِ وَالسُّؤَالِ، وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنَ سَلُولَ كَانَ يَسْتَوْشِيه وَيَجْمَعُهُ» أَيْ يَسْتَخْرِجُ الْحَدِيثَ بِالْبَحْثِ عَنْهُ. وَفِي رِسَالَةِ ابْنِ زَيْدُونٍ لِابْنِ أَجْهُورٍ: فَكَيْفَ وَلَا ذَنْبَ إلَّا نَمِيمَةٌ أَهْدَاهَا كَاشِحٌ، وَنَبَأٌ جَاءَ بِهِ فَاسِقٌ، وَهُمْ الْهَمَّازُونَ الْمَشَّاءُونَ بِنَمِيمٍ، وَالْوَاشُونَ الَّذِينَ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُصَدِّعُوا الْعَصَا، وَالْغُوَاةُ الَّذِينَ لَا يَتْرُكُونَ أَدِيمًا صَحِيحًا وَالسُّعَاةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا ظَنُّك بِقَوْمٍ الصِّدْقُ مَحْمُودٌ إلَّا مِنْهُمْ. قَالَ الصَّلَاحُ لِلصَّفَدِيِّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالْوَاشُونَ الَّذِينَ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُصَدِّعُوا الْعَصَا الْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ: لَعَمَّ أَبُو الْوَاشِينَ لَا عَمَّ غَيْرُهُمْ ... لَقَدْ كَلِفُوا فِي خُطَّةٍ لَا أُرِيدُهَا وَلَا يَلْبَثُ الْوَاشُونَ أَنْ يُصَدِّعُوا الْعَصَا ... إذَا هِيَ لَمْ يُصْلَبْ عَلَى الْمَرْءِ عُودُهَا مَطْلَبٌ: حِكَايَةٌ لَطِيفَةٌ. ذَكَرَهَا الصَّلَاحُ الصَّفَدِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ: كَانَ الْخَلِيلَنْجِيُّ الْقَاضِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ أُخْتِ عَلَوِيَّةَ الْمُغَنِّي وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا صَدُوقًا تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ لِلْأَمِينِ، وَكَانَ عَلَوِيَّةُ عَدُوًّا لَهُ، فَجَرَتْ لَهُ قَضِيَّةٌ فِي بَغْدَادَ فَاسْتَعْفَى مِنْ الْقَضَاءِ وَسَأَلَ أَنْ يُوَلَّى بَعْضَ الْكُوَرِ الْبَعِيدَةِ. فَتَوَلَّى قَضَاءَ دِمَشْقَ أَوْ حِمْصَ، فَلَمَّا تَوَلَّى الْمَأْمُونُ الْخِلَافَةَ غَنَّاهُ يَوْمًا عَلَوِيَّةُ بِشِعْرِ الْخَلِيلَنْجِيِّ وَهُوَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 بَرِئْت مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ كَانَ ذَا الَّذِي ... أَتَاك بِهِ الْوَاشُونَ عَنِّي كَمَا قَالُوا وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْك غَرِيَّةً ... بِهَجْرِي تَوَاصَوْا بِالنَّمِيمَةِ وَاحْتَالُوا فَقَدْ صِرْت أُذُنًا لِلْوُشَاةِ سَمِيعَةً ... يَنَالُونَ مِنْ عِرْضِي وَلَوْ شِئْت مَا نَالُوا فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: مَنْ يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ؟ قَالَ: قَاضٍ بِدِمَشْقَ، فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِإِحْضَارِهِ فَأُشْخِصَ وَجَلَسَ الْمَأْمُونُ لِلشُّرْبِ وَأُحْضِرَ عَلَوِيَّةَ وَدَعَا بِالْقَاضِي، فَقَالَ لَهُ: أَنْشِدْنِي قَوْلَهُ بَرِئْت مِنْ الْإِسْلَامِ الْأَبْيَاتَ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ أَبْيَاتٌ قُلْتهَا مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ وَأَنَا صَبِيٌّ وَاَلَّذِي أَكْرَمَك بِالْخِلَافَةِ، وَوَرَّثَك مِيرَاثَ النُّبُوَّةِ مَا قُلْت شِعْرًا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةٍ إلَّا فِي زُهْدٍ أَوْ فِي عِتَابِ صَدِيقٍ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَجَلَسَ، فَنَاوَلَهُ قَدَحَ نَبِيذٍ كَانَ فِي يَدِهِ فَأَرْعَدَ وَبَكَى، وَأَخَذَ الْقَدَحَ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا غَيَّرْت الْمَاءَ قَطُّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُخْتَلَفُ فِي تَحْلِيلِهِ، فَقَالَ لَعَلَّك تُرِيدُ نَبِيذَ الزَّبِيبِ، فَقَالَ لَا وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَخَذَ الْمَأْمُونُ الْقَدَحَ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ شَرِبْت شَيْئًا مِنْ هَذَا لَضَرَبْت عُنُقَك. لَقَدْ ظَنَنْت أَنَّك صَادِقٌ فِي قَوْلِك كُلِّهِ وَلَكِنْ لَا يَتَوَلَّى إلَيَّ الْقَضَاءَ رَجُلٌ بَدَأَ فِي قَوْلِهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ، انْصَرِفْ إلَى مَنْزِلِك، وَأَمَرَ عَلَوِيَّةَ فَغَيَّرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَجَعَلَ مَكَانَهَا حُرِمْت مَكَانِي مِنْك وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَوْلُ النَّاظِمِ (بَغِيضٍ) صِفَةٌ لِوَاشٍ (وَ) يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ فِي خَلْوَتِهِ أَيْضًا مِنْ (حُسَّدِ) جَمْعُ حَاسِدٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَلَمَّا بَيَّنَ لَك هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْعُزْلَةِ وَأَضْعَافِ أَضْعَافِهَا مِنْ الْفَوَائِدِ مِمَّا لَمْ يُنَبِّهُ عَلَيْهِ أَمَرَك بِهَا مُؤَكِّدًا لِمَا رَغَّبَ فِيهِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي مُلَازَمَةِ الْبُيُوتِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ: فَكُنْ حِلْسَ بَيْتٍ فَهُوَ سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ ... وَحِرْزُ الْفَتَى عَنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُفْسِدِ (فَكُنْ) أَيْ إنْ كُنْت فَهِمْت مَا أَشَرْتُ بِهِ إلَيْك، وَأَهْدَيْته عَلَيْك مِنْ هَذِهِ الْمَنَاقِبِ وَالْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ بِالِاخْتِلَاءِ عَنْ النَّاسِ، فَكُنْ أَنْتَ (حِلْسَ) أَيْ كُنْ فِي اخْتِلَائِك كَحِلْسِ (بَيْتٍ) لَا تُفَارِقْهُ وَلَا تَبْرَحْ عَنْهُ بَلْ الْزَمْهُ (فَهُوَ) أَيْ صَنِيعُك مِنْ لُزُومِك لِبَيْتِك (سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ) وَهِيَ كُلُّ مَا يُسْتَحَى مِنْهُ إذَا ظَهَرَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَكُلُّ عَيْبٍ وَخَلَلٍ فِي الشَّيْءِ فَهُوَ عَوْرَةٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَأَشَارَ بِهَذَا إلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ وَلَكِنْ لَهَا أَشْرَاطٌ وَتَقَارُبُ أَسْوَاقٍ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقَارُبُ أَسْوَاقِهَا؟ قَالَ كَسَادُهَا وَمَطَرٌ وَلَا نَبَاتَ، وَأَنْ تَفْشُوَ الْغِيبَةُ، وَتَكْثُرَ أَوْلَادُ الْبَغِيَّةِ، وَأَنْ يُعَظَّمَ رَبُّ الْمَالِ، وَأَنْ تَعْلُوَ أَصْوَاتُ الْفَسَقَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ الْمُنْكَرِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ. قَالَ رَجُلٌ فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ فِرَّ بِدِينِك وَكُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي. قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْحِلْسُ هُوَ الْكِسَاءُ الَّذِي يَلِي ظَهْرَ الْبَعِيرِ تَحْتَ الْقَتَبِ، يَعْنِي الْزَمُوا بُيُوتَكُمْ فِي الْفِتَنِ كَلُزُومِ الْحِلْسِ لِظَهْرِ الدَّابَّةِ، انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ فِي قَوْلِهِ تُلْبَسُ شَرُّ أَحْلَاسِهَا أَيْ دَنِيءُ ثِيَابِهَا، وَأَصْلُهُ مِنْ الْحِلْسِ وَهُوَ كِسَاءٌ أَوْ لِبْدٌ يُجْعَلُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ تَحْتَ الْقَتَبِ يُلَازِمُهُ. قَالَ: وَمِنْهُ يُقَالُ فُلَانٌ حِلْسُ بَيْتِهِ أَيْ مُلَازِمُهُ، وَنَحْنُ أَحْلَاسُ الْخَيْلِ أَيْ الْمُلَازِمُونَ لِظُهُورِهَا. وَمِنْهُ فِي إسْلَامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلُحُوقِهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا أَيْ رُكُوبِهَا إيَّاهَا، انْتَهَى. وَفِي الْقَامُوسِ: الْحِلْسُ بِالْكَسْرِ كِسَاءٌ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ تَحْتَ الْبَرْدَعَةِ وَيُبْسَطُ فِي الْبَيْتِ تَحْتَ حَرِّ الثِّيَابِ، وَيُحَرَّكُ وَيُجْمَعُ عَلَى أَحْلَاسَ وَحُلُوسٍ وَحِلَسَةٍ. قَالَ وَهُوَ حِلْسُ بَيْتِهِ إذَا لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ، انْتَهَى. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَصْحَابِهِ: كُونُوا يَنَابِيعَ الْحُكْمِ، مَصَابِيحَ الْحِكْمَةِ سُرُجَ اللَّيْلِ جُدُدَ الْقُلُوبِ أَحْلَاسَ الْبُيُوتِ، خُلْقَانَ الثِّيَابِ، تُعْرَفُونَ فِي السَّمَاءِ وَتُخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا فِي شَرْحِ الْإِسْلَامِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 وَ) هُوَ أَيْ لُزُومُ الْبَيْتِ (حِرْزُ الْفَتَى) أَيْ حِصْنٌ حَصِينٌ. يُقَالُ حِرْزٌ حَرِيزٌ أَيْ مَنِيعٌ (عَنْ كُلِّ) شَخْصٍ (غَاوٍ) أَيْ ضَالٍّ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى يُقَالُ غَوَى يَغْوِي غَيًّا وَغَوَى غَوَايَةً وَلَا يُكْسَرُ فَهُوَ غَاوٍ وَغَوِيٌّ وَغَيَّانٌ (وَ) عَنْ كُلِّ (مُفْسِدٍ) لِدِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَقَلْبِهِ وَعَقِيدَتِهِ، يُقَالُ فَسَدَ كَنَصَرَ وَعَقَدَ وَكَرُمَ فَسَادًا وَفُسُودًا ضِدُّ صَلَحَ فَهُوَ فَاسِدٌ. مَطْلَبٌ: خَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كُتُبٌ تُفِيدُهُ عُلُومًا: وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كُتُبٌ تُفِيدُهُ ... عُلُومًا وَآدَابًا كَعَقْلٍ مُؤَيَّدٍ (وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ) الْعَالِمِ (كُتُبٌ) جَمْعُ كِتَابٍ وَإِسْنَادُ الْجُلُوسِ إلَيْهَا مَجَازٌ (تُفِيدُهُ) بِمُطَالَعَتِهِ فِيهَا وَإِمْعَانِ نَظَرِهِ وَسَبْرِهِ لَهَا (عُلُومًا) جَمْعُ عِلْمٍ، وَحَدُّهُ صِفَةٌ يُمَيِّزُ الْمُتَّصِفُ بِهَا بَيْنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ، وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ تَمْيِيزًا جَازِمًا مُطَابِقًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ (وَ) تُفِيدُهُ الْكُتُبُ أَيْضًا (آدَابًا) جَمْعُ أَدَبٍ وَهُوَ الظَّرْفُ وَحُسْنُ التَّنَاوُلِ، يُقَالُ أَدَبٌ كَحُسْنٍ فَهُوَ أَدِيبٌ (كَعَقْلٍ مُؤَيَّدِ) أَيْ كَمَا تُفِيدُهُ الْكُتُبُ أَيْضًا بِمُطَالَعَتِهَا وَلُزُومِ التَّفْهِيمِ فِي مَعَانِيهَا عَقْلًا. وَفِي نُسْخَةٍ وَعَقْلِ مُؤَيَّدِ بِإِضَافَةِ الْعَقْلِ إلَى مُؤَيَّدِ، أَيْ عَقْلِ رَجُلٍ مُؤَيَّدٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ وَالتَّحْقِيقِ، وَالْإِلْهَامِ وَالتَّدْقِيقِ، وَالْإِصَابَةِ فِي الْأُمُورِ، وَمُجَانَبَةِ الْمَحْظُورِ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ الْعَقْلِ. وَالْعَقْلُ هُوَ الْعِلْمُ بِصِفَاتِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حُسْنِهَا وَقُبْحِهَا وَكَمَالِهَا وَنُقْصَانِهَا، أَوْ الْعِلْمُ بِخَيْرِ الْخَيْرَيْنِ، أَوْ شَرِّ الشَّرَّيْنِ، أَوْ مُطْلَقِ الْأُمُورِ لِقُوَّةٍ بِهَا يَكُونُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْقَبِيحِ وَالْحَسَنِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ نُورٌ رُوحَانِيٌّ بِهِ تُدْرِكُ النَّفْسُ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ وَالنَّظَرِيَّةَ، وَابْتِدَاءُ وُجُودِهِ عِنْدَ اجْتِنَانِ الْوَلَدِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْمُو إلَى أَنْ يَكْمُلَ عِنْدَ الْبُلُوغِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَقَالَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ التَّحْرِيرِ: الْعَقْلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَيْزُ، وَهُوَ غَرِيزَةٌ نَصًّا لَيْسَ بِمُكْتَسَبٍ، بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَارِقُ بِهِ الْإِنْسَانُ الْبَهِيمَةَ، وَيَسْتَعِدُّ بِهِ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَتَدْبِيرِ الصَّنَائِعِ الْفِكْرِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ نُورٌ يُقْذَفُ فِي الْقَلْبِ كَالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَرْبَهَارِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ وَلَا اكْتِسَابٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ الْقُوَّةُ الْمُدْرِكَةُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْأَكْثَرُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ وَابْنُ الصَّيَّاغِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيّ فَخَرَجَتْ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ عَاقِلًا مَعَ انْتِقَاءِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهَا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْعِلْمِ بِالْمُدْرِكَاتِ لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا غَيْرَ عَاقِلٍ، وَمَحَلُّ الْعَقْلِ الْقَلْبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْأَطِبَّاءِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] أَيْ عَقْلٌ، فَعَبَّرَ بِالْقَلْبِ عَنْ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] وَبِقَوْلِهِ {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] فَجَعَلَ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْقَلْبِ. نَعَمْ لَهُ اتِّصَالٌ بِالدِّمَاغِ كَمَا قَالَهُ التَّمِيمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالطُّوفِيُّ مِنَّا: هُوَ فِي الدِّمَاغِ. وَقِيلَ إنْ قُلْنَا جَوْهَرٌ وَإِلَّا فَهُوَ فِي الْقَلْبِ. وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ كَالْمُدْرِكِ بِهِ؛ لِأَنَّا نُشَاهِدُ قَطْعًا آثَارَ الْعُقُولِ فِي الْآرَاءِ وَالْحِكَمِ وَالْحِيَلِ وَغَيْرِهَا مُتَفَاوِتَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ الْعُقُولِ فِي نَفْسِهَا. وَأَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ أَعْقَلُ مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَكْمَلُ عَقْلًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ مَا يُدْرَكُ بِهِ، وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلنِّسَاءِ أَلَيْسَ شَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ مِثْلُ شَهَادَةِ نِصْفِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا» . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَالْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: الْعَقْلُ لَا يَخْتَلِفُ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَامَّةٌ يَرْجِعُ إلَيْهَا النَّاسُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ الْعُقُولُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، انْتَهَى وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ ذَكَرْت أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِ النَّاظِمِ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الْعِلْمِ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 قُلْت: الْعَقْلُ عَقْلَانِ، غَرِيزِيٌّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَزِيدُ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَالثَّانِي تَجْرِيبِيٌّ يَخْتَلِفُ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الطُّوفِيُّ مِنَّا وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ وَمُخْتَصَرِهِ، وَقَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ النَّاظِمِ مُؤَيَّدُ. النُّسَخُ الَّتِي رَأَيْتهَا بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ مِنْ أَيَّدْتُهُ تَأْيِيدًا قَوَّيْته تَقْوِيَةً. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَوَّحَ اللَّهِ رُوحَهُ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: إنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةَ، يَعْنِي الْكُتُبَ. قَالَ وَقَالَ لِي مَرَّةً: مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي أَيْنَ رُحْت فَهِيَ مَعِي لَا تُفَارِقُنِي، أَنَا حَبْسِي خَلْوَةٌ، وَقَتْلِي شَهَادَةٌ، وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ. وَقَالَ لِي مَرَّةً: الْمَحْبُوسُ مَنْ حُبِسَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَالْمَأْسُورُ مَنْ أَسَرَهُ هَوَاهُ. قَالَ وَعَلِمَ اللَّهُ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَطْيَبُ عَيْشًا مِنْهُ قَطُّ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ وَخَلَاقِ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعِيمِ بَلْ ضِدِّهَا مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِرْجَافِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَطْيَبُ النَّاسِ عَيْشًا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا، وَأَقْوَاهُمْ قَلْبًا وَأَسَرُّهُمْ نَفْسًا تَلُوحُ نَضِرَةُ النَّعِيمِ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ: وَكُنَّا إذَا اشْتَدَّ بِنَا الْخَوْفُ وَسَاءَتْ مِنَّا الظُّنُونُ وَضَاقَتْ بِنَا الْأَرْضُ أَتَيْنَاهُ فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعَ كَلَامَهُ فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً، فَسُبْحَانَ مَنْ أَشْهَدَ عِبَادَهُ جَنَّتَهُ قَبْلَ لِقَائِهِ وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَهَا فِي دَارِ الْعَمَلِ فَأَتَاهُ مِنْ رُوحِهَا وَنَسِيمِهَا وَطِيبِهَا مَا اسْتَفْرَغَ قُوَاهُمْ لِطَلَبِهَا وَالْمُسَابَقَةِ إلَيْهَا. مَطْلَبٌ: فِي مَدْحِ الْخَلْوَةِ. وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ مَدْحِ الْخَلْوَةِ وَكَفِّ رَجُلٍ لِرَجُلٍ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِالنَّاسِ نَثْرًا وَنَظْمًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنِسْت بِوِحْدَتِي وَلَزِمْت بَيْتِي ... فَدَامَ الْأُنْسُ لِي وَنَمَا السُّرُورُ وَأَدَّبَنِي الزَّمَانُ فَلَا أُبَالِي ... هَجَرْت فَلَا أُزَارُ وَلَا أَزُورُ وَلَسْت بِسَائِلٍ مَا دُمْت حَيًّا ... أَسَارَ الْجَيْشُ أَمْ رَكِبَ الْأَمِيرُ وَقَالَ غَيْرُهُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 اُعْكُفْ عَلَى الْكُتُبِ ... وَادْرُسْ تُؤْتَى فَخَارَ النُّبُوَّةِ فَاَللَّهُ قَالَ لِيَحْيَى ... خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَقَالَ آخَرُ: رَأَيْت الِانْقِبَاضَ أَجَلَّ شَيْءٍ ... وَأَدْعَى فِي الْأُمُورِ إلَى السَّلَامَةِ فَهَذَا الْخَلْقُ سَالِمْهُمْ وَدَعْهُمْ ... فَخُلْطَتُهُمْ تَقُودُ إلَى الْمَلَامَةِ وَلَا تَعْبَأْ بِشَيْءٍ غَيْرِ شَيْءٍ ... يَقُودُ إلَى خَلَاصِك فِي الْقِيَامَةِ وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْبَاقِي الْحَنْبَلِيُّ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٍ وَهُوَ يَنْظُرُ فِي الْكُتُبِ فَقَالَ لَهُ إلَى مَتَى هَذَا؟ فَأَنْشَدَ فِي الْحَالِ: إنْ صَحِبْنَا الْمُلُوكَ تَاهُوا وَعَقُّوا ... وَاسْتَخَفُّوا جَهْلًا بِحَقِّ الْجَلِيسِ أَوْ صَحِبْنَا التُّجَّارَ صِرْنَا إلَى الْبُؤْسِ ... وَأَشْغَلُونَا كَمَا هُمْ بِضَبْطِ الْفُلُوسِ فَلَزِمْنَا الْبُيُوتَ نَسْتَكْثِرُ الْخَيْرَ ... وَنُمْلِي مِنْ الْفَضْلِ بُطُونَ الطُّرُوسِ لَوْ تَرَكْنَا وَذَاكَ كُنَّا ظَفَرْنَا ... كُلَّ أَعْمَارِنَا بِعَلَقٍ نَفِيسِ غَيْرَ أَنَّ الزَّمَانَ بَثَّ بَنِيهِ ... فَهُمْ حَسَدُونَا عَلَى حَيَاةِ النُّفُوسِ وَمِنْ نَظْمِ الْفَقِيرِ عَلَى ظَهْرِ كِتَابِ الْمُلَحِ الْغَرَامِيَّةِ فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ فَرَحٍ اللَّامِيَّةِ شِعْرٌ: رَوِّحْ النَّفْسَ فِي مَعَانٍ رَقِيقَهْ ... وَنِكَاتٍ مِنْ الْغَرَامِ رَشِيقَهْ وَامْحُ عَنْ قَلْبِك الْهُمُومَ بِنَظْمِ ... كُلِّ مَنْ حَازَهُ أَثَارَ رَحِيقَهْ وَاغْتَذِي بِالْفُنُونِ عَنْ كُلِّ لَهْوٍ ... يُغْتَدَى بِالنَّهْيِ لِغَيْرِ حَقِيقَهْ وَاكْتَفِي بِالْبَيَانِ عَنْ ظِلِّ بَانٍ ... وَعَنْ الْغِيدِ بِالْعُلُومِ الدَّقِيقَهْ وَاصْحَبْ السِّفْرَ حَيْثُ كُنْت رَفِيقًا ... فَازَ مَنْ سِفْرُهُ يَكُونُ رَفِيقَهْ فَهِيَ عِنْوَانُ عَقْلِ مَنْ يَصْحَبُهَا ... عُرْوَةٌ فِي الْمَعَادِ تُدْعَى وَثِيقَهْ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَفْضَلِ كُلِّ جَلِيسٍ، مُجَالَسَتُك لِكِتَابٍ أَنِيسٍ. وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وَلَمَّا كَانَ لَا يَسْتَغْنِي كُلُّ إنْسَانٍ عَنْ مُخَالَطَةِ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ، إذْ الْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ وَمُفْتَقِرٌ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ بِالْوَضْعِ، بَيَّنَ لَك النَّاظِمُ مَنْ تُخَالِطُ مَعَ اسْتِعْمَالِ الْحَمِيَّةِ عَنْ التَّخْلِيطِ، وَاسْتِصْحَابِ الْيَقَظَةِ مِنْ التَّخْبِيطِ، وَالتَّحَرُّزِ مِنْ التَّفْرِيطِ. فَقَال َ: مَطْلَبٌ: فِي مُخَالَطَةِ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ وَفِيهِ بَيَانُ مَعْنَى التَّوْفِيقِ: وَخَالِطْ إذَا خَالَطْت كُلَّ مُوَفَّقٍ ... مِنْ الْعُلَمَا أَهْلِ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ (وَخَالِطْ) أَيُّهَا الْأَخُ الْمُسْتَرْشِدُ وَالْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَنْجِدُ (إذَا خَالَطْت) أَحَدًا مِنْ أَبْنَاءِ زَمَانِك، وَعَاشَرْت شَخْصًا مِنْ إخْوَانِك وَأَخْدَانِك، وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى اسْتِدَامَةِ الْعُزْلَةِ، أَوْ احْتَجْت لِإِصْلَاحِ بَعْضِ أُمُورِ دِينِك عَلَى يَدِ إمَامٍ رَاسِخٍ رَحْلُهُ (كُلَّ) مَفْعُولُ خَالِطْ (مُوَفَّقٍ) لِطُرُقِ الْخَيْرَاتِ، مُهْتَدٍ لِسُبُلِ السَّعَادَاتِ، مُسَدَّدٍ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، غَيْرِ مَخْذُولٍ وَلَا مُفْرِطٍ، وَلَا جَهُولٍ وَلَا مُخَلِّطٍ، وَالتَّوْفِيقُ مَصْدَرُ وَفَّقَ يُوَفِّقُ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: التَّوْفِيقُ إرَادَةُ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْعَبْدُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ مُرِيدًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُبَغِّضُ إلَيْهِ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَهَذَا مُجَرَّدُ فِعْلِهِ تَعَالَى وَالْعَبْدُ مَحَلُّهُ. قَالَ وَفَسَّرَتْ الْقَدَرِيَّةُ التَّوْفِيقَ بِأَنَّهُ خُلُقُ الطَّاعَةِ، وَالْخِذْلَانَ خُلُقُ الْمَعْصِيَةِ، انْتَهَى. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: التَّوْفِيقُ خُلُقٌ لَطِيفٌ يَعْلَمُ الرَّبُّ تَعَالَى أَنَّ الْعَبْدَ يُؤْمِنُ عِنْدَهُ، وَالْخِذْلَانُ مَحْمُولٌ عَلَى امْتِنَاعِ اللُّطْفِ. حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي فِي الْإِرْشَادِ. وَقَالَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ الْمِرْدَاوِيُّ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: وَفَّقَ أَيْ سَهَّلَ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، وَالْمُوَفِّقُ اسْمُ فَاعِلٍ هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوَفِّقُ الْعِبَادَ أَيْ يُرْشِدُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ إلَى طَاعَتِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَفْقِ وَالْمُوَافَقَةِ وَهِيَ الْتِحَامٌ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: التَّوْفِيقُ مِنْ اللَّهِ خَلْقُ قُدْرَةِ الطَّاعَةِ وَتَسْهِيلُ سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَعَكْسُهُ الْخِذْلَانُ. مَطْلَبٌ: مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ أَشْرَفُ الْمَقَامَاتِ. فَأَرْشَدَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا خَالَطَ فَلْتَكُنْ خُلْطَتُهُ لِمُوَفَّقٍ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِمَا فِيهِ سَعَادَتُهُ وَنَجَاتُهُ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقُ (مِنْ الْعُلَمَا) جَمْعُ عَالِمٍ وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَصَرَهُ لِضَرُورَةِ الْوَزْنِ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ اسْتِفَادَتِهِ مَعْرِفَةَ الْأَحْكَامِ، مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَإِصْلَاحِ دِينِهِ، وَرُسُوخِهِ وَتَمْكِينِهِ (أَهْلِ التُّقَى) صِفَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ كَاللَّازِمَةِ لِلْعُلَمَاءِ (وَ) أَهْلِ (التَّعَبُّدِ) وَالْخُضُوعِ، وَالذُّلِّ وَالْخُشُوعِ، وَرَفْعِ الْأَيْدِي وَسَفْحِ الدُّمُوعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 بَيْنَ يَدَيْ عَالِمِ السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَكَاشِفِ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى. وَهَذِهِ مِنْ صِفَاتِ عُلَمَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِينَ عُلُومُهُمْ زَاخِرَةٌ، وَنُفُوسُهُمْ طَاهِرَةٌ، وَمَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ اخْتَارَهُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ عَلَى مَقَامِ الْمُلْكِ وَهُوَ مَقَامٌ عَظِيمٌ، وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ بِهِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ كَمَقَامِ التَّنْزِيلِ فِي قَوْلِهِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] وَمَقَامِ الدَّعْوَةِ فِي قَوْلِهِ {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] . وَفِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ فِي قَوْلِهِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] . «وَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ يَوْمَ الْفَتْحِ فَارْتَعَدَ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْك إنِّي لَسْت بِمَلِكٍ إنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» . وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «جَلَسَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ إلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ مَهُولٌ، فَقَالَ جِبْرِيلُ إنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمَ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنَا إلَيْك رَبُّك أَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُك أَمْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: فَتَوَاضَعْ لِرَبِّك يَا مُحَمَّدُ، قَالَ بَلْ عَبْدًا رَسُولًا» . وَمِنْ مَرَاسِيلِ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ» خَرَّجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ. وَخَرَّجَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَتَانِي مَلَكٌ فَقَالَ إنَّ رَبَّك يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ وَيَقُولُ لَك: إنْ شِئْت نَبِيًّا مَلِكًا، وَإِنْ شِئْت نَبِيًّا عَبْدًا فَأَشَارَ إلَيَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ضَعْ نَفْسَك فَقُلْت نَبِيًّا عَبْدًا. قَالَتْ فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا وَيَقُولُ: آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 قُلْت: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا وَلَفْظُهُ «أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ إلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَلَكًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ الْمَلَكُ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُخَيِّرُك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مَلِكًا، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَشَارَ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا بَلْ أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا. فَمَا أَكَلَ بَعْدَ تِلْكَ الْكَلِمَةِ طَعَامًا مُتَّكِئًا» . وَمِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ قَالَ «بَلَغَنَا أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَلَكٌ لَمْ يَأْتِهِ قَبْلَهَا وَمَعَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ الْمَلَكُ وَجِبْرِيلُ صَامِتٌ إنَّ رَبَّك يُخَيِّرُك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا، فَنَظَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَأْمِرِ، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا» قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَزَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْكُلْ مُنْذُ قَالَهَا مُتَّكِئًا. وَتَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي آدَابِ الْأَكْلِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ غُنْيَةٌ. وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَوْلِهَا لَهُ «يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوْ أَكَلْت وَأَنْتَ مُتَّكِئٌ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْك، فَأَصْغَى بِجَبْهَتِهِ إلَى الْأَرْضِ حَتَّى كَادَ يَمَسُّ بِهَا الْأَرْضَ وَقَالَ بَلْ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَنَا جَالِسٌ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ» . قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ ادَّعَى الْعُبُودِيَّةَ وَلَهُ مُرَادٌ بَاقٍ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ، إنَّمَا تَصِحُّ الْعُبُودِيَّةُ لِمَنْ أَفْنَى مُرَادَاتِهِ وَقَامَ بِمُرَادِ سَيِّدِهِ يَكُونُ اسْمُهُ مَا يُسَمَّى بِهِ وَنَعْتُهُ مَا حُلِّيَ بِهِ، إذَا دُعِيَ بِاسْمِهِ أَجَابَ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ، فَلَا اسْمَ لَهُ وَلَا رَسْمَ وَلَا يُجِيبُ إلَّا لِمَنْ يَدْعُوهُ بِعُبُودِيَّةِ سَيِّدِهِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: يَا عَمْرُو ثَارِي عِنْدَ زَهْرَاءَ ... يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَصْدَقُ أَسْمَائِي وَقَالَ آخَرُ: مَالِي وَلِلْفَقْرِ إلَى عَاجِزٍ ... مِثْلِي لَا يَمْلِكُ إغْنَائِي وَإِنَّمَا يَحْسُنُ فَقْرِي إلَى ... مَالِكٍ إسْعَادِي وَإِشْقَائِي أَتِيهُ عَجَبًا بِانْتِمَائِي إلَى ... أَبْوَابِهِ إذْ قُلْت مَوْلَائِي لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهُ ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 وَمَا أَحْسَنُ قَوْلِ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي مِثْلِ هَذَا: وَمِمَّا زَادَنِي عَجَبًا وَتِيهًا ... وَكِدْت بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِك يَا عِبَادِي ... وَأَنْ صَيَّرْت أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا (تَنْبِيهَانِ) : (الْأَوَّلُ) : رَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ الْقَصِيدَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّسَدُّدِ بَدَلَ التَّعَبُّدِ، وَمَعْنَاهُ كَمَا مَرَّ سَابِقًا التَّقْوِيمُ وَالْإِصَابَةُ، يُقَالُ سَدَّدَهُ تَسْدِيدًا قَوَّمَهُ وَوَفَّقَهُ لِلسَّدَادِ أَيْ الصَّوَابِ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَأَمَّا سِدَادُ الْقَارُورَةِ وَالثَّغْرِ فَبِالْكَسْرِ فَقَطْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ الْمَمْدُوحِ مِنْ الْعُزْلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ. (الثَّانِي) : الْمَمْدُوحُ مِنْ الْعُزْلَةِ اعْتِزَالُ مَا يُؤْذِي، وَمِنْ الْخُلْطَةِ مَا يَنْفَعُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَقْطَعَ الْعُزْلَةُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْجَمَاعَاتِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالِاحْتِرَافِ لِلْعَائِلَةِ. وَقَدْ قَالَ شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ تُعَلِّمُهُ فَيَقْبَلُ مِنْك، وَرَجُلٌ تَتَعَلَّمُ مِنْهُ، وَاهْرَبْ مِنْ الثَّالِثِ. وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: أَقْلِلْ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ أَدْهَمَ: لَا تَتَعَرَّفْ إلَى مَنْ لَا تَعْرِفْ، وَأَنْكِرْ مَنْ تَعْرِفُ. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ: إنِّي نَظَرْت إلَى الزَّمَانِ ... وَأَهْلِهِ نَظَرًا كَفَانِي فَعَرَفْته وَعَرَفْتهمْ ... وَعَرَفْت عِزِّي مِنْ هَوَانِي فَحَمَلْت نَفْسِي بِالْقَنَاعَةِ ... عَنْهُمْ وَعَنْ الزَّمَانِ وَتَرَكْتهَا بِعَفَافِهَا ... وَالزُّهْدُ فِي أَعْلَى مَكَانِي فَلِذَاكَ أَجْتَنِبُ الصَّدِيقَ ... فَلَا أَرَاهُ وَلَا يَرَانِي فَتَعَجَّبُوا لَمُغَالِبٍ ... وَهَبَ الْأَقَاصِي لِلْأَدَانِي وَانْسَلَّ مِنْ بَيْنِ الزِّحَامِ ... فَمَا لَهُ فِي الْخَلْقِ ثَانِي مَطْلَبٌ: النَّاسُ فِي الْعُزْلَةِ وَالِاخْتِلَاطِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْعُزْلَةِ وَالِاخْتِلَاطِ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عَالِمٌ وَعَابِدٌ، فَالْعَالِمُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْقَطِعَ عَنْ نَفْعِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ خَلْفُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلْيُعْلَمْ أَنَّ هِدَايَةَ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» . قَالَ: فَمَتَى جَاءَ الشَّيْطَانُ فَحَسَّنَ لِلْعَالِمِ الِانْقِطَاعَ عَنْ الْخَلْقِ جُمْلَةً فَذَاكَ خَدِيعَةٌ مِنْهُ، بَلْ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَعْتَزِلَ شَرَّ مَا يُؤْذِي وَيَبْرُزُ لِمَنْ يَسْتَفِيدُ، فَظُهُورُهُ أَفْضَلُ مِنْ اخْتِفَائِهِ. وَالْعَابِدُ إنْ كَانَ عَابِدًا لَا يُنَافَسُ فِي هَذَا، فَإِنَّ مِنْ الْقَوْمِ مِنْ شَغَلَتْهُ الْعِبَادَةُ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ رَأَى رَجُلًا مُتَعَبِّدًا فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا مَنَعَك مِنْ مُجَالَسَةِ النَّاسِ؟ فَقَالَ مَا أَشْغَلَنِي عَنْ النَّاسِ. قَالَ فَمَا مَنَعَك أَنْ تَأْتِيَ الْحَسَنَ؟ قَالَ مَا أَشْغَلَنِي عَنْ الْحَسَنِ. قَالَ فَمَا الَّذِي أَشْغَلَك؟ قَالَ إنِّي أُمْسِي وَأُصْبِحُ بَيْنَ ذَنْبٍ وَنِعْمَةٍ فَرَأَيْت أَنْ أُشْغِلَ نَفْسِي بِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلذَّنْبِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى النِّعْمَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ عِنْدِي أَفْقَهُ مِنْ الْحَسَنِ. وَمِنْ الْقَوْمِ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ مَحَبَّةُ الْحَيِّ الْقَيُّومِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ أُنْسٌ وَلَا طِيبُ عَيْشٍ إلَّا بِانْفِرَادِهِ بِرَبِّهِ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ عُزْلَتُهُمْ أَصْلَحُ لَهُمْ. نَعَمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْغَلَهُمْ الْعُزْلَةُ عَنْ الْجَمَاعَاتِ وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ مَنَعَتْهُمْ كَانَتْ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْعُزْلَةُ حَمِيَّةٌ وَسُلَّمٌ لِلسَّلَامَةِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ لِيُعْبَدَ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ. وَلِلَّهِ دَرُّ الْحُمَيْدِيِّ حَيْثُ يَقُولُ: لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيْئًا ... سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيلَ وَقَالَ فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إلَّا ... لِأَخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إصْلَاحِ حَالِ وَقَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ: إنِّي عَزَمْت وَمَا عَزْمِي بِمُنْجَزِمٍ ... مَا لَمْ تُسَاعِدْهُ أَلْطَافٌ مِنْ الْبَارِي أَنْ لَا أُصَاحِبَ إلَّا مَنْ خَبَرْتُهُمْ ... دَهْرًا مَدِيدًا وَأَزْمَانًا بِأَسْفَارِ وَلَا أُجَالِسَ إلَّا عَالِمًا فَطِنًا ... أَوْ صَالِحًا أَوْ صَدِيقًا لَا بِإِكْثَارِ وَلَا أُسَائِلُ شَخْصًا حَاجَةً أَبَدًا ... إلَّا اسْتِعَارَةَ أَجْزَاءٍ وَأَسْفَارِ وَلَسْت أُحْدِثُ فِعْلًا غَيْرَ مُفْتَرَضٍ ... أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَلَمْ يَدْخُلْ بِإِنْكَارِ مَا لَمْ أَقُمْ مُسْتَخِيرَ اللَّهِ مُتَّكِلًا ... وَتَابِعًا مَا أَتَى فِيهَا بِآثَارِ فَالْعَاقِلُ إنَّمَا يُخَالِطُ الْأَفَاضِلَ وَالْأَمَاثِلَ مِنْ أَهْلِ التَّعَبُّدِ وَالْعِلْمِ وَالتَّسَدُّدِ وَالْحِلْمِ. فَإِذَا كُنْت وَلَا بُدَّ مُخَالِطًا فَعَلَيْك بِمُخَالَطَةِ الْعَالِمِ النَّاصِحِ الَّذِي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 يُفِيدُك مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاك عَنْ هَوًى ... فَصَاحِبْهُ تُهْدَى مِنْ هُدَاهُ وَتَرْشُدُ (يُفِيدُك مِنْ عِلْمٍ) عِنْدَهُ (وَيَنْهَاك عَنْ) مُتَابَعَةِ (هَوًى) وَمُلَابَسَتِهِ فَإِنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ. ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِمُخَالَطَةِ مَنْ هُوَ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ (فَصَاحِبْهُ) وَلَازِمْهُ (تُهْدَى) بِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِك لَهُ (مِنْ هُدَاهُ) وَتَنْتَفِعُ بِتَقْوَاهُ (وَتُرْشَدْ) بِفَتْوَاهُ إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالطَّرِيقَةِ الْوَاضِحَةِ، وَتَتْرُكُ الْغَيَّ وَالضَّلَالَ وَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ الْفَاضِحَةِ. فَصُحْبَةُ مِثْلِ هَذَا غُنْمٌ، وَالْبُعْدُ عَنْهُ غُرْمٌ، فَإِنَّك تَهْتَدِي بِهَدْيِهِ الْمُقَرَّبِ، وَتَشْدُو بِشَدْوِهِ الْمُطْرِبِ. وَقَدْ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الصَّاحِبُ لِلصَّاحِبِ كَالرُّقْعَةِ فِي الثَّوْبِ إذَا لَمْ تَكُنْ مِثْلَهُ شَانَتْهُ وَقِيلَ لِابْنِ السِّمَاكِ: أَيُّ الْإِخْوَانِ أَحَقُّ بِإِبْقَاءِ الْمَوَدَّةِ؟ قَالَ الْوَافِرُ دِينُهُ، الْوَافِي عَقْلُهُ، الَّذِي لَا يَمَلُّك عَلَى الْقُرْبِ، وَلَا يَنْسَاك عَلَى الْبُعْدِ، إنْ دَنَوْت مِنْهُ دَانَاك. وَإِنْ بَعُدْت عَنْهُ رَاعَاك، وَإِنْ اسْتَعْضَدْتَهُ عَضَّدَك، وَإِنْ احْتَجْت إلَيْهِ رَفَدَك، وَتَكْفِي مَوَدَّةُ فِعْلِهِ، أَكْثَرُ مِنْ مَوَدَّةِ قَوْلِهِ. وَأَنْشَدُوا، وَهِيَ مِمَّا يُنْسَبُ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ أَخَاك الصِّدْقَ مَنْ كَانَ مَعَك ... وَمَنْ يَضُرُّ نَفْسَهُ لِيَنْفَعَك وَمَنْ إذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَّعَك ... شَتَّتْ فِيك شَمْلَهُ لِيَجْمَعَك وَقِيلَ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ: أَيِّ إخْوَانِك أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: الَّذِي يَسُدُّ خُلَّتِي، وَيَغْفِرُ زَلَّتِي، وَيَقْبَلُ عَثْرَتِي. مَطْلَبٌ: فِي مُجَانَبَةِ الْهَمَّازِ وَالْبَذِيِّ. وَأَنَّ الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ إنْ قُمْت عَنْهُ وَالْبَذِيَّ ... فَإِنَّ الْمَرْءَ بِالْمَرْءِ يَقْتَدِي (وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ) أَيْ احْذَرْهُ وَابْعُدْ عَنْهُ وَلَا تُصَاحِبْهُ فَإِنَّهُ يَهْمِزُك (إنْ قُمْت عَنْهُ) أَيْ مِنْ عِنْدِهِ، فَمَتَى غِبْت عَنْهُ هَمَزَك. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْهَمْزُ الْغَمْزُ وَالضَّغْطُ وَالنَّخْسُ وَالدَّفْعُ وَالضَّرْبُ وَالْعَضُّ وَالْكَسْرُ، انْتَهَى. وَفِي النِّهَايَةِ: وَالْهَمْزُ أَيْضًا الْغَيْبَةُ وَالْوَقِيعَةُ فِي النَّاسِ وَذِكْرُ عُيُوبِهِمْ، وَهَذَا مُرَادُ النَّاظِمِ هُنَا. وَقَدْ هَمَزَ يَهْمِزُ فَهُوَ هَمَّازٌ وَهُمَزَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ (وَ) إيَّاكَ وَ (الْبَذِيَّ) أَيْ الْفَاحِشَ فِي مَقَالَتِهِ، الْمُتَمَادِي فِي رَذَالَتِهِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْبَذِيُّ الرَّجُلُ الْفَاحِشُ وَالْأُنْثَى بِالْهَاءِ يَعْنِي بَذِيَّةً، وَقَدْ بَذُوَ بَذَاءً وَبَذَاءَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 وَبَذَوْت عَلَيْهِمْ وَأَبْذَيْتَهُمْ مِنْ الْبَذَاءِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْقَبِيحُ، انْتَهَى. وَقَالَ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ: قَوْلُهُ كَانَتْ تَبْذُو عَلَى أَهْلِهَا أَيْ تُفْحِشُ فِي الْقَوْلِ بَذُوَ يَبْذُو بَذْوًا. كَذَا قَيَّدَهُ الْقُتَبِيُّ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ فِيمَا رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ: كَانَتْ بِذَاءٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَمُبَاذَاةً وَبَذَاءَةً فَهُوَ بَذِيءٌ وَبَذِيٌّ أَيْ مَهْمُوزٌ أَوْ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ يَبْغُضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ» . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: الْبَذِيءُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَمْدُودًا هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْفُحْشِ وَرَدِيءِ الْكَلَامِ انْتَهَى. فَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا أَنَّهُ مَمْدُودٌ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ يُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ كَمَا فِي الْمَطَالِعِ. وَاقْتَصَرَ فِي الْقَامُوسِ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُورٌ فَقَالَ: الْبَذِيُّ كَرَضِيِّ الْفَاحِشُ. وَإِنَّمَا نَهَاك النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ مُصَاحَبَةِ مِثْلِ الْهَمَّازِ وَالْبَذِيِّ لِئَلَّا تَقْتَدِيَ بِهِمَا وَتَسْرِقَ طَبِيعَتَك مِنْ طَبِيعَتِهِمَا (فَإِنَّ الْمَرْءَ) وَإِنْ تَحَرَّزَ مَهْمَا أَمْكَنَهُ وَلَوْ صَالِحًا إذَا أَلَمَّ (بِالْمَرْءِ) الْبَذِيِّ وَالْقَتَّاتِ وَالْهَمَّازِ (يَقْتَدِي) بِهِ فِي سِيرَتِهِ وَتَسْرِقُ طَبِيعَتَهُ مِنْ قُبْحِ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ سَرِيرَتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «يُحْشَرُ الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» وَلَفْظُ تَبْصِرَةِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ» . وَفِي كَلَامِ أَرِسْطُو طَالِيسَ: الْأَشْكَالُ لَاحِقَةٌ بِأَشْكَالِهَا كَمَا أَنَّ الْأَضْدَادَ مُبَايِنَةٌ لِأَضْدَادِهَا. وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ عَنْ قَدْرِ الْجَاهِلِ رَفَعَ الْجَاهِلُ قَدْرَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: فَمَا يَنْفَعُ الْجَرْبَاءَ قُرْبُ صَحِيحَةٍ ... إلَيْهَا وَلَكِنَّ الصَّحِيحَةَ تَجْرَبُ فَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ ... وَإِنْ كُنْت تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَصْعَبُ وَقَالَ آخَرُ عَلَى وَزَانِهِمَا وَأَحْسَنَ: فَصَاحِبْ تَقِيًّا عَالِمًا تَنْتَفِعْ بِهِ ... فَصُحْبَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ وَإِيَّاكَ وَالْفُسَّاقَ لَا تَصْحَبَنَّهُمْ ... فَقُرْبُهُمْ يُعْدِي وَهَذَا مُجَرَّبُ فَإِنَّا رَأَيْنَا الْمَرْءَ يَسْرِقُ طَبْعَهُ ... مِنْ الْإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ لِلنَّاسِ أَغْلَبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 كَمَا قِيلَ طِينٌ لَاصِقٌ أَوْ مُؤَثِّرُ ... كَذَا دُودٌ مَرَجَ خُضْرَةً مِنْهُ يَكْسِبُ وَجَانِبْ ذَوِي الْأَوْزَارِ لَا تَقْرَبَنَّهُمْ ... فَقُرْبُهُمْ يُرْدِي وَلِلْعِرْضِ يَسْلُبُ وَقَالَ آخَرُ: عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَإِنَّ الْمُقَارِنَ لِلْمُقَارِنِ يُنْسَبُ وَقَدْ «قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ صِحَاحٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا. ثُمَّ نَهَى النَّاظِمُ عَنْ صُحْبَةِ الْأَحْمَقِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي النَّهْيِ عَنْ مُصَاحَبَةِ الْحَمْقَى وَذَوِي الْجَهْلِ: وَلَا تَصْحَبْ الْحَمْقَى فَذُو الْجَهْلِ إنْ يَرُمْ ... صَلَاحًا لِأَمْرٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ يُفْسِدْ (وَلَا تَصْحَبْ) أَيْ لَا تُعَاشِرْ، يُقَالُ صَحِبَهُ كَسَمِعَهُ صَحَابَةً وَيُكْسَرُ، وَصَحِبَهُ عَاشَرَهُ وَاسْتَصْحَبَهُ دَعَاهُ إلَى الصُّحْبَةِ وَلَازِمْهُ، فَنَهَاك النَّاظِمُ أَنْ تَصْحَبَ (الْحَمْقَى) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: حَمُقَ كَكَرُمَ وَغَنِمَ حُمْقًا بِالضَّمِّ وَبِضَمَّتَيْنِ وَحَمَاقَةً وَانْحَمَقَ وَاسْتَحْمَقَ فَهُوَ أَحْمَقُ قَلِيلُ الْعَقْلِ، وَقَوْمٌ وَنِسْوَةٌ حِمَاقٌ وَحُمُقٌ بِضَمَّتَيْنِ وَكَسَكْرَى وَسُكَارَى وَيُضَمُّ. وَفِي الْمَطَالِعِ فِي قَوْلِهِ أَرَأَيْت إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ أَيْ فَعَلَ فِعْلَ الْحَمْقَى. وَالْأُحْمُوقَةُ الْفِعْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ فِعْلِ الْحُمْقِ. وَفِي الْقَامُوسِ فَعَلَ فِعْلَ الْحَمْقَى كَاسْتَحْمَقَ. وَقَالَ فِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ: الْحُمْقُ ارْتِكَابُ الْخَطَأِ عَلَى بَصِيرَةٍ يَظُنُّهُ صَوَابًا. وَقِيلَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِقُبْحِهِ. وَقِيلَ اسْتِحْسَانُ مَا تَسْتَقْبِحُهُ الْعُقَلَاءُ، انْتَهَى. ثُمَّ بَيَّنَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِلَّةَ تَرْكِ مُصَاحَبَتِهِ بِقَوْلِهِ (فَذُو) أَيْ صَاحِبُ (الْجَهْلِ) ضِدُّ الْعِلْمِ (إنْ يَرُمْ) أَيْ يَطْلُبْ وَهُوَ مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ إنْ وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ذِي الْجَهْلِ الَّذِي هُوَ الْأَحْمَقُ (صَلَاحًا لِأَمْرٍ) مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي أَفْسَدَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ فَسَدَتْ بِنَفْسِهَا (يَا أَخَا) يَا صَاحِبَ (الْحَزْمِ) وَهُوَ ضَبْطُ الْأَمْرِ وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالثِّقَةِ كَالْحَزَامَةِ وَالْحُزُومَةِ، يُقَالُ حَزُمَ كَكَرُمَ فَهُوَ حَازِمٌ وَحَزِيمٌ وَجَمْعُهُ حَزَمَةٌ وَحُزَمَاءُ (يُفْسِدْ) مَجْزُومٌ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ وَحُرِّك بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَّةِ. وَأَشَارَ بِهَذَا إلَى مَا رَوَاهُ الدِّينَوَرِيُّ فِي الْمُجَالَسَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: لَا تُوَاخِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 الْفَاجِرَ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَك فِعْلَهُ وَيُحِبُّ لَوْ أَنَّك مِثْلُهُ، وَمَدْخَلُهُ عَلَيْك وَمَخْرَجُك مِنْ عِنْدِهِ شَيْنٌ وَعَارٌ، وَلَا الْأَحْمَقَ فَإِنَّهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ لَك وَلَا يَنْفَعُك، وَرُبَّمَا أَرَادَ أَنْ يَنْفَعَك فَضَرَّك، فَسُكُوتُهُ خَيْرٌ مِنْ نُطْقِهِ، وَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِهِ، وَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ، وَلَا الْكَذَّابَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُك مَعَهُ عِشْرَةٌ، يَنْقُلُ حَدِيثَك وَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ إلَيْك، وَإِنْ تَحَدَّثَ بِالصِّدْقِ لَا يُصَدَّقُ. وَقِيلَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ مَنْ اصْطَنَعَ مَعْرُوفًا إلَى أَحْمَقَ فَهِيَ خَطِيئَةٌ مَكْتُوبَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَارِمْ الْأَحْمَقَ فَلَيْسَ لَهُ خَيْرٌ مِنْ الْهِجْرَانِ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هِجْرَانُ الْأَحْمَقِ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ فِي قَافِيَتِهِ: وَلَأَنْ يُعَادِيَ عَاقِلًا خَيْرٌ لَهُ ... مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّقِ الْأَحْمَقَ لَا تَصْحَبْهُ ... إنَّمَا الْأَحْمَقُ كَالثَّوْبِ الْخَلَقِ فَهُوَ إنْ رَقَعْته مِنْ جَانِبٍ ... عَادَ مِنْ هَوْنٍ سَرِيعًا فَانْخَرَقَ فَلَا يَسُوغُ لَك أَيُّهَا الْعَاقِلُ الرَّشِيدُ، صُحْبَةُ مِثْلِ هَذَا الْأَحْمَقِ الْبَلِيدِ، فَإِنَّهُ يَسُوءُك بِحُمْقِهِ وَتَأَنُّبِهِ، وَلَا تَعْرِفُ رِضَاهُ مِنْ غَضَبِهِ. وَقَدْ أَلَّفَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كِتَابًا حَافِلًا فِي الْحَمْقَى وَالْمُغَفَّلِينَ، وَكِتَابًا فِي الْأَذْكِيَاءِ، وَهُمَا مِنْ أَلْطَفِ الْكُتُبِ وَأَغْزَرِهِمَا فَوَائِدُ. مَطْلَبٌ: فِي طَلَبِ الْأُخُوَّةِ وَالصَّدَاقَةِ شَرْعًا وَطَبْعًا. (فَوَائِدُ) : (الْأُولَى) : فِي الْأُخُوَّةِ وَالصَّدَاقَةِ، وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا وَطَبْعًا. قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] بِمَعْنَى قَوَّاك بِهِمْ {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] التَّأْلِيفُ بِالْجَمْعِ عَلَى مَا يُشَاكِلُ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجِ وَهُمْ الْأَنْصَارُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْآيَاتِ، كَانُوا ذَوِي أَنَفَةٍ شَدِيدَةٍ، فَلَوْ لَطَمَ رَجُلٌ رَجُلًا لَقَاتَلَتْ عَنْهُ قَبِيلَتُهُ حَتَّى تُدْرِكَ ثَأْرَهُ، فَآلَ بِهِمْ الْإِسْلَامُ إلَى أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وَأَبَاهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْإِسْلَامُ، فَقَدْ اكْتَسَبُوا بِهِ أُخُوَّةً أَصْلِيَّةً وَجَبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ حُقُوقٌ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى شَيْئًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» . وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحَقِّ الضَّيْفِ. وَأَمَّا حَقُّ الصُّحْبَةِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَحِبْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُمَا، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَخْدُمَهُ فَكَانَ يَخْدُمُنِي أَكْثَرَ. وَأَمَّا الصَّدَاقَةُ فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الْأُخُوَّةِ، وَالْأُخُوَّةُ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْأُخُوَّةُ الصَّادِقَةُ إذَا حَصَلَ التَّشَاكُلُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ. مَطْلَبٌ: فِي الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ وَمَا وَرَدَ فِي ثَوَابِهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ الْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأُخُوَّةَ الْعَامَّةَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فَهِيَ وَاقِعَةٌ بَيْنَهُمْ قَبْلَ عَقْدِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ الْأَمْرَ الْخَاصَّ، وَهَذِهِ الْأُخُوَّةُ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيَبْغُضَ فِي اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: رَجُلَيْنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي» . وَعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: «أَتَيْت مَسْجِدَ أَهْلِ دِمَشْقَ وَإِذَا حَلْقَةٌ فِيهَا كُهُولٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا شَابٌّ فِيهِمْ أَكْحَلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 الْعَيْنِ بَرَّاقُ الثَّنَايَا كُلَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى الْفَتَى، فَقُلْت لِجَلِيسٍ لِي مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَجِئْت مِنْ الْعِشَاءِ فَلَمْ يَحْضُرْ، فَغَدَوْت مِنْ الْغَدِ فَلَمْ يَجِئْ، فَرُحْت فَإِذَا أَنَا بِالشَّابِّ يُصَلِّي إلَى سَارِيَةٍ، فَرَكَعْت، ثُمَّ تَحَوَّلْت إلَيْهِ، قَالَ فَسَلَّمَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْت: إنِّي أُحِبُّك فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» . قَالَ فَخَرَجْت حَتَّى لَقِيت عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَذَكَرْت لَهُ حَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: «حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِي، وَالْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» ذَكَرَهُ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّبْصِرَةِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِلَفْظِ «قُلْت لِمُعَاذٍ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّك لِغَيْرِ دُنْيَا أَرْجُو أَنْ أُصِيبَهَا مِنْك وَلَا قَرَابَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَك، قَالَ: فَلِأَيِّ شَيْءٍ؟ قُلْت: لِلَّهِ، فَجَذَبَ حَبْوَتِي ثُمَّ قَالَ: أَبْشِرْ إنْ كُنْت صَادِقًا فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ يَغْبِطُهُمْ بِمَكَانِهِمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْثُرُ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَوَاصِلِينَ فِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِي» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ فِي اللَّهِ خَالِصَةً لَا يَشُوبُهَا كَدَرٌ، وَإِذَا قَوِيَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقَلْبِ قَوِيَتْ مَحَبَّةُ أَوْلِيَائِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ مَنْ يُؤَاخِي مِمَّنْ يُحِبُّ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ إلَّا مَنْ سَبَرَ عَقْلَهُ وَدِينَهُ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ. عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، وَأَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَنْكَحَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 لِلَّهِ، فَقَدْ اسْتَكْمَلَ إيمَانَهُ» وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِنَحْوِهِ وَلَيْسَ فِيهِ وَأَنْكَحَ لِلَّهِ. وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَا تُصَاحِبْ إلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَك إلَّا تَقِيٌّ» . وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ: لَا يَجْعَلُ اللَّهُ مَنْ لَهُ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ كَمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ. وَأَسْهُمُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةٌ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ. وَلَا يَتَوَلَّى اللَّهُ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيه غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَلَا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ مَعَهُمْ» الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّبْصِرَةِ: كَانَ يُقَالُ: اصْحَبْ مَنْ إذَا صَحِبْته زَانَك. وَإِذَا خَدَمْته صَانَك؛ وَإِذَا أَصَابَتْك خَصَاصَةٌ مَانَك؛ وَإِنْ رَأَى مِنْك حَسَنَةً سُرَّ بِهَا؛ وَإِنْ رَأَى مِنْك سَقْطَةً سَتَرَهَا؛ وَمَنْ إذَا قُلْت صَدَّقَ قَوْلَك؛ وَمَنْ هُوَ فَوْقَك فِي الدِّينِ؛ وَدُونَك فِي الدُّنْيَا؛ وَكُلُّ أَخٍ وَجَلِيسٍ وَصَاحِبٍ لَا تَسْتَفِيدُ مِنْهُ فِي دِينِك خَيْرًا فَانْبِذْ عَنْك صُحْبَتَهُ؛ فَإِذَا صَفَتْ الْمَحَبَّةُ وَخَلَصَتْ وَقَعَ الشَّوْقُ وَالتَّزَاوُرُ وَصَارَ بَذْلُ الْمَالِ أَحْقَرَ الْأَشْيَاءِ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَذْكُرُ الْأَخَ مِنْ إخْوَانِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: يَا طُولَهَا مِنْ لَيْلَةٍ؛ فَإِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ غَدَا إلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إذَا مَشَى أَحَدُ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ إلَى الْآخَرِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَضَحِكَ إلَيْهِ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ. وَرُوِيَ عَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: امْشِ مِيلًا؛ صِلْ جَمَاعَةً، امْشِ مِيلَيْنِ؛ صَلِّ جُمُعَةً؛ امْشِ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ؛ شَيِّعْ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، امْشِ سِتَّةَ أَمْيَالٍ؛ شَيِّعْ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ امْشِ سَبْعَةَ أَمْيَالٍ بِصَدَقَةٍ مِنْ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ؛ امْشِ ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ؛ أَصْلِحْ بَيْنَ النَّاسِ؛ امْشِ تِسْعَةَ أَمْيَالٍ؛ صِلْ رَحِمًا وَقَرَابَةً؛ امْشِ عَشَرَةَ أَمْيَالٍ فِي حَاجَةِ عِيَالِك؛ امْشِ أَحَدَ عَشَرَ مِيلًا فِي مَعُونَةِ أَخِيك؛ امْشِ بَرِيدًا؛ وَالْبَرِيدُ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا؛ زُرْ أَخًا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ «وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَرَاتِبِ بَذْلِ الْمَالِ أَدْوَنِهَا وَأَوْسَطِهَا وَأَعْلَاهَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ فَلَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ؛ أَدْوَنُهَا الْمُسَاهَمَةُ؛ وَأَوْسَطُهَا الْمُسَاوَاةُ؛ وَأَعْلَاهَا تَقْدِيمُ الْأَخِ فِي الْمَالِ عَلَى النَّفْسِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا: لَقَدْ رَأَيْتنَا وَمَا أَحَدُنَا أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَيْهَاتَ، رَحَلَ الْإِخْوَانُ، وَأَقَامَ الْخُوَّانُ، وَقَلَّ مَنْ تَرَى فِي الزَّمَانِ، إلَّا مَنْ إذَا دُعِيَ مَانَ، كَانَ الْأَخُ فِي اللَّهِ يَخْلُفُ أَخَاهُ فِي أَهْلِهِ إذَا مَاتَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا أَرَادَ شَيْنَ أَخِيهِ طَلَبَ حَاجَتَهُ إلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ قَالَ: نُسِخَ فِي هَذَا الزَّمَانِ رَسْمُ الْأُخُوَّةِ وَحُكْمُهُ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْحَدِيثُ عَنْ الْقُدَمَاءِ، فَإِنْ سَمِعْت بِإِخْوَانِ صِدْقٍ فَلَا تُصَدِّقْ، انْتَهَى. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ الْوَرْدِ: صَحِبْت النَّاسَ خَمْسِينَ سَنَةً فَمَا وَجَدَتْ رَجُلًا غَفَرَ لِي زَلَّةً، وَلَا أَقَالَنِي عَثْرَةً، وَلَا سَتَرَ لِي عَوْرَةً. وَقَدْ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا كَانَ الْعُذْرُ طِبَاعًا فَالثِّقَةُ بِكُلِّ أَحَدٍ عَجْزٌ. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مَا الصَّدِيقُ؟ قَالَ: اسْمٌ وُضِعَ عَلَى غَيْرِ مُسَمًّى. وَحَيَوَانٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: سَمِعْنَا بِالصَّدِيقِ وَلَا نَرَاهُ ... عَلَى التَّحْقِيقِ يُوجَدُ فِي الْأَنَامِ وَأَحْسَبُهُ مُحَالًا نَمَّقُوهُ ... عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ مِنْ الْكَلَامِ وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ لِبَعْضِ إخْوَانِهِ: أَقْلِلْ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ، وَأَنْكِرْ مَنْ عَرَفَتْ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَك مِائَةُ صَدِيقٍ فَاطْرَحْ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَكُنْ مِنْ الْوَاحِدِ عَلَى حَذَرٍ. وَقَالَ الْبُحْتُرِيُّ: إيَّاكَ تَغْتَرُّ أَوْ تَخْدَعُك بَارِقَةٌ ... مِنْ ذِي خِدَاعٍ يَرَى بِشْرًا وَإِلْطَافَا فَلَوْ قَلَّبْت جَمِيعَ الْأَرْضِ قَاطِبَةً ... وَسِرْت فِي الْأَرْضِ أَوْسَاطًا وَأَطْرَافَا لَمْ تَلْقَ فِيهَا صَدِيقًا صَادِقًا أَبَدًا ... وَلَا أَخًا يَبْذُلُ الْإِنْصَافَ إنْ صَافَى وَقَالَ آخَرُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 خَلِيلِي جَرَّبْت الزَّمَانَ وَأَهْلَهُ ... فَمَا نَالَنِي مِنْهُمْ سِوَى الْهَمِّ وَالْعَنَا وَعَاشَرْت أَبْنَاءَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَجِدْ ... خَلِيلًا وَفِيًّا بِالْعُهُودِ وَلَا أَنَا وَقَالَ آخَرُ: لَمَّا رَأَيْت بَنِي الزَّمَانِ وَمَا بِهِمْ ... خِلٌّ وَفِيٌّ لِلشَّدَائِدِ أَصْطَفِي فَعَلِمْت أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ ثَلَاثَةٌ ... الْغَوْلُ وَالْعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الْوَفِيّ قُلْت: فَإِذَا كَانَ هَذَا كَلَامُ مَنْ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي أَوْسَاطِهِ، وَقَدْ مَضَى بَعْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ رَسْمَ الْأُخُوَّةِ قَدْ نُسِخَ، وَعَقْدَ الصَّدَاقَةِ قَدْ فُسِخَ. فَمَا بَالُك بِزَمَانٍ وَفَاؤُهُ غَدْرٌ. وَخَيْرُهُ شَرٌّ. وَنَفْعُهُ ضُرٌّ. وَصِدْقُهُ كَذِبٌ، وَحَسَنَتُهُ ذَنْبٌ. وَصَدِيقُهُ خَائِنٌ. وَصَادِقُهُ مَائِنٌ. وَخَلِيلُهُ غَادِرٌ. وَنَاسِكُهُ فَاجِرٌ. وَعَالِمُهُ جَاهِلٌ. وَعَاذِرُهُ عَاذِلٌ. وَقَدْ صَارَتْ صَلَاةُ أَهْلِ زَمَانِنَا عَادَةً لَا عِبَادَةً، وَزَكَاتُهُمْ مَغْرَمًا يَغْرَمُونَهَا لَا يَرْجُونَ مِنْ عَوْدِهَا إفَادَةً، وَصِيَامُهُمْ كَجُوعِ الْبَهَائِمِ. وَذِكْرُهُمْ كَرُغَاءِ الْبَعِيرِ الْهَائِمِ. فَأَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةُ مِنْ حَالَةِ مَنْ يَتَضَجَّرُ لِعَدَمِ وَفَاءِ إخْوَانِهِ، وَأَقْرَانِهِ وَأَخْدَانِهِ. مَطْلَبٌ: قِصَّةُ الْهُذَلِيِّ مَعَ السَّفَّاحِ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ السَّفَّاحَ كَانَ يُحَدِّثُ أَبَا بَكْرٍ الْهُذَلِيَّ يَوْمًا إذْ عَصَفَتْ الرِّيحُ فَأَرْمَتْ طَسْتًا مِنْ سَطْحٍ إلَى الْمَجْلِسِ، فَارْتَاعَ مَنْ حَضَرَ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ الْهُذَلِيُّ وَلَمْ تَزَلْ عَيْنُهُ مُطَابِقَةً لَعَيْنِ السَّفَّاحِ، فَقَالَ مَا أَعْجَبَ شَأْنَك يَا هُذَلِيُّ. فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] وَأَنَا لِي قَلْبٌ وَاحِدٌ؛ فَلَمَّا غَمَرَ بِمُحَادَثَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ لِمُحَادَثَةِ غَيْرِهِ مَجَالٌ فَلَوْ انْقَلَبَتْ الْخَضْرَاءُ عَلَى الْغَبْرَاءِ مَا حَسَسْت بِهَا وَلَا وَجَّهْت لَهَا قَلْبِي. فَقَالَ السَّفَّاحُ لَئِنْ بَقِيت لَأَرْفَعَنَّ مَكَانَك. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ وَصِلَةٍ كَبِيرَةٍ فَانْظُرْ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَاعْتَبِرْ اسْتِغْرَاقَ قَلْبِ هَذَا الرَّجُلِ وَانْغِمَارِهِ بِمُحَادَثَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ وَزِنْ بِحَالِ وُقُوفِك فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ، وَقَدْ نَصَبَ لَك وَجْهَهُ الْكَرِيمَ، وَرَفَعَ مِنْ بَيْنِك وَبَيْنَهُ الْحُجُبَ. فَهَلْ تَجِدُ قَلْبَك مُنْغَمِرًا وَمُسْتَغْرِقًا فِي جَمَالِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ كَاسْتِغْرَاقِ قَلْبِ الْهُذَلِيِّ فِي مُحَادَثَةِ السَّفَّاحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 فَيَا وَيْلَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ خَالِقَهُ وَلِمَ خَلَقَهُ؟ وَلَمْ يَقُمْ بِمَا أَمَرَ إنْ لَمْ يَعْفُ وَيَغْفِرْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (الثَّانِيَةُ) : جُمْلَةُ الَّذِينَ نَهَى النَّاظِمُ عَنْ صُحْبَتِهِمْ ثَلَاثَةٌ: الْهَمَّازُ، وَالْبَذِيُّ، وَالْأَحْمَقُ. وَتَقَدَّمَ فِي أَثَرِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ صُحْبَةِ الْفَاجِرِ أَيْضًا وَالْكَذَّابِ. وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تُصَاحِبَ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ وَقَاطِعَ الرَّحِمِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَوَدَّنَّ عَاقًّا كَيْفَ يَوَدُّك وَقَدْ عَقَّ أَبَاهُ. وَكَذَا قَاطِعُ الرَّحِمِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: مَنْ ذَا الَّذِي تَرْتَجِي الْأَقَاصِي ... إنْ لَمْ تَنَلْ خَيْرَهُ الْأَدَانِي وَلَكِنَّ النَّاظِمَ لَمْ يَسْبُرْ مَنْ لَا تَنْبَغِي صُحْبَتُهُمْ. وَلَمْ يَسْتَقْصِ عَدَّهُمْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُصَاحِبَ شِرِّيرًا مُطْلَقًا. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي فِيمَنْ تُؤْثَرُ صُحْبَتُهُ خَمْسُ خِصَالٍ: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا. حَسَنَ الْخُلُقِ، غَيْرَ فَاسِقٍ، وَلَا مُبْتَدِعٍ، وَلَا حَرِيصٍ عَلَى الدُّنْيَا، انْتَهَى. وَضَابِطُ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَمْ تَسْتَفِدْ مِنْ صُحْبَتِهِ شَيْئًا فَتَرْكُهُ أَوْلَى؛ وَكُلُّ مَنْ تَضُرُّك صُحْبَتُهُ فِي دِينِك فَتَرْكُهُ وَاجِبٌ. وَكَذَا فِي دُنْيَاك ضَرَرًا لَهُ قِيمَةٌ حَيْثُ كَانَ لَك مِنْهُ بُدٌّ. وَدَفْعُ الْمَضَارِّ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ. وَيُدْفَعُ أَشَدُّ الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفَّيْهِمَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (الثَّالِثَةُ) الْحَمَاقَةُ. مَأْخُوذَةٌ مِنْ حَمِقَتْ السُّوقُ إذَا كَسَدَتْ؛ فَكَأَنَّهُ كَاسِدُ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فَلَا يُشَاوَرُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ. قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحُمْقُ غَرِيزَةٌ لَا تَنْفَعُ فِيهِ حِيلَةٌ وَهُوَ دَاءٌ دَوَاؤُهُ الْمَوْتُ. كَمَا قِيلَ: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ بِهِ ... إلَّا الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا وَلِبَعْضِهِمْ: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ بِهِ ... إلَّا الْحَمَاقَةَ وَالطَّاعُونَ وَالْهَرَمَ وَيُرْوَى أَنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: عَالَجْت الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ فَأَبْرَأْتُهُمَا، وَعَالَجْت الْأَحْمَقَ فَأَعْيَانِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وَمِنْ كَلَامِهِمْ: فُلَانٌ ذُو حُمْقٍ وَافِرٍ. وَعَقْلٍ نَافِرٍ. لَيْسَ مَعَهُ إلَّا مَا يُوجِبُ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ. مَطْلَبٌ: قِصَّةُ الْعَابِدِ الْأَحْمَقِ: وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا عَابِدًا كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ. فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ وَأَعْشَبَتْ الْأَرْضُ. فَرَأَى حِمَارَهُ يَرْعَى فِي ذَلِكَ الْعُشْبِ. فَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْ كَانَ لَك حِمَارٌ لَرَعَيْته مَعَ حِمَارِي. فَبَلَغَ ذَلِكَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ فَهَمَّ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ لَا تَدْعُ فَإِنِّي أُجَازِي الْعِبَادَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ. قُلْت وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ بَشِيرٍ. وَفِي شُعَبِ الْبَيْهَقِيّ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعَبَّدَ رَجُلٌ فِي صَوْمَعَةٍ، فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ، وَأَعْشَبَتْ الْأَرْضُ، فَرَأَى حِمَارًا يَرْعَى، فَقَالَ: يَا رَبُّ؛ لَوْ كَانَ لَك حِمَارٌ رَعَيْته مَعَ حِمَارِي» إلَى آخِرِهِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: خَيْرُ الْخِصَالِ ذِكْرُ اللَّهِ فِي الْمَسَاجِدِ: وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْت فِيهِ وَخَصْلَةٍ ... تَحَلَّيْتهَا ذِكْرُ الْإِلَهِ بِمَسْجِدِ (وَخَيْرُ مَقَامٍ) مِنْ مَقَامَاتِ الدُّنْيَا (قُمْت فِيهِ) مِنْ سَائِرِ الْأَرْضِ (وَ) خَيْرُ (خَصْلَةٍ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْخَصْلَةُ الْخُلَّةُ وَالْفَضِيلَةُ وَالرَّذِيلَةُ وَقَدْ غَلَبَتْ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَجَمْعُهَا خِصَالٌ (تَحَلَّيْتهَا) أَيْ اتَّخَذْتهَا حُلِيًّا وَالْحَلْيُ مَا يُزَيَّنُ بِهِ مِنْ مَصُوغِ الْمَعْدِنِيَّاتِ أَوْ الْحِجَارَةِ وَجَمْعُهُ حُلِيٌّ كَدُلِيٍّ، أَوْ هُوَ جَمْعٌ وَالْوَاحِدُ حَلْيَةٌ كَظَبْيَةٍ، وَالْحِلْيَةُ بِالْكَسْرِ الْحَلْيُ، وَحَلِيَتْ الْمَرْأَةُ كَرَضِيَتْ حَلْيًا فَهِيَ حَالٍ وَحَالِيَةٌ اسْتَفَادَتْ حَلْيًا أَوْ لَبِسَتْهُ كَتَحَلَّتْ أَوْ صَارَتْ ذَاتَ حَلْيٍ، وَحَلَّاهَا تَحْلِيَةً أَلْبَسَهَا حَلْيًا أَوْ اتَّخَذَهُ لَهَا أَوْ وَصَفَهَا وَنَعَتَهَا. قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحُلِيُّ حُلِيُّ الْمَرْأَةِ وَجَمْعُهُ حُلِيٌّ مِثْلُ ثَدْيٍ وَثُدِيٌّ وَقَدْ تُكْسَرُ الْحَاءُ لِمَكَانِ الْيَاءِ مِثْلُ عِصِيٍّ، وَقَدْ قُرِئَ {مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا} [الأعراف: 148] بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّ خَيْرَ خَصْلَةٍ تَزَيَّنَ الْعَبْدُ بِهَا (ذِكْرُ الْإِلَهِ) الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ (بِمَسْجِدٍ) مُرَادُ النَّاظِمِ أَنَّ خَيْرَ مَقَامٍ قُمْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 فِيهِ قِيَامُك، بِمَسْجِدٍ، وَخَيْرَ خَصْلَةٍ تَحَلَّيْت بِهَا ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فَضْلِ الْمَسَاجِدِ وَآدَابِهَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَأَمَّا الذِّكْرُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . «وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا بِذِكْرِ اللَّهِ» ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الذِّكْرِ إلَّا هَذِهِ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ لَكَانَ حَقِيقًا بِالْعَبْدِ أَنْ لَا يَفْتُرَ لِسَانُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الذِّكْرَ سَبَبٌ لِذِكْرِ مَوْلَاهُ لَهُ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ بَلْ هِيَ أَعْظَمُهَا. مَطْلَبٌ: فَوَائِدُ الذِّكْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ لِلذِّكْرِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ فَائِدَةٍ، مِنْهَا طَرْدُ الشَّيْطَانِ وَقَمْعُهُ، وَأَنَّهُ يُرْضِي الرَّحْمَنَ وَيُزِيلُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ عَنْ الْقَلْبِ، وَيَجْلِبُ لَهُ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ، وَيُقَوِّي الْبَدَنَ وَالْقَلْبَ، وَيَجْلِبُ الرِّزْقَ، وَيُكْسِي الذَّاكِرَ الْمَهَابَةَ وَالْحَلَاوَةَ وَالنُّضْرَةَ، وَيُورِثُهُ الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رُوحُ الْإِسْلَامِ وَقُطْبُ رَحَى الدِّينِ وَمَدَارُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، وَجَعَلَ سَبَبَ الْمَحَبَّةِ دَوَامَ الذِّكْرِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَلْهَجْ بِذِكْرِهِ، فَإِنَّ الدَّرْسَ وَالْمُذَاكَرَةَ كَمَا أَنَّهُ بَابُ الْعِلْمِ، فَالذِّكْرُ بَابُ الْمَحَبَّةِ وَطَرِيقُهَا الْأَعْظَمُ، وَصِرَاطُهَا الْأَقْوَمُ، وَيُورِثُ الذِّكْرُ الذَّاكِرَ الْمُرَاقَبَةَ حَتَّى يُدْخِلَهُ فِي بَابِ الْإِحْسَانِ فَيَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَيُورِثُهُ الْإِنَابَةَ وَهِيَ الرُّجُوعُ إلَى اللَّهِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ، وَيَفْتَحُ لَهُ بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْمَعْرِفَةِ، وَيُورِثُهُ الْهَيْبَةَ لِرَبِّهِ وَإِجْلَالَهُ لِشِدَّةِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ وَحُضُورِهِ مَعَ اللَّهِ بِخِلَافِ الْغَافِلِ، وَحَيَاةَ الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: الذِّكْرُ لِلْقَلْبِ مِثْلُ الْمَاءِ لِلسَّمَكِ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ السَّمَكِ إذَا فَارَقَ الْمَاءَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 وَيُورِثُ جَلَاءَ الْقَلْبِ مِنْ صَدَاهُ، فَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ صَدًى وَصَدَى الْقَلْبِ الْغَفْلَةُ وَالْهَوَى، وَجَلَاءُ الذِّكْرِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَيَحُطُّ الْخَطَايَا وَيُذْهِبُهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ، وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. وَيُزِيلُ الْوَحْشَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَهُوَ مَنْجَاةٌ لِلْعَبْدِ عَنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيُرْوَى مَرْفُوعًا «مَا عَمَلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» وَهُوَ سَبَبٌ لِنُزُولِ السَّكِينَةِ عَلَى الْعَبْدِ، وَغَشَيَانِ الرَّحْمَةِ لَهُ، وَحُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ بِهِ وَهُوَ غِرَاسُ الْجَنَّةِ. فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيت إبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ لِي يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَك السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ» . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. مَطْلَبٌ: يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُدِيمَ الذِّكْرَ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُدِيمَ الذِّكْرَ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَانِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي حَالِ ذِكْرِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ وَأَتَمِّهَا، مُتَطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثَيْنِ، خَاشِعًا حَاضِرَ الْقَلْبِ، كَأَنَّك تَرَى مَذْكُورَك وَتُخَاطِبُهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك. قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الذِّكْرِ لِمُحْدِثٍ سَوَاءٌ كَانَ حَدَثًا أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ، وَكَذَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ الذِّكْرَ لِلْمُحْدِثِ مُسْتَدِلًّا بِمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «مَرَّ رَجُلٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ» . وَبِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ الْقُرَشِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ اعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَالَ إنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا عَلَى طُهْرٍ أَوْ قَالَ عَلَى طَهَارَةٍ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَمِنْ كَمَالِ هَيْئَةِ الذَّاكِرِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْجُلُوسِ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْسَبُ لِلذَّاكِرِ شَيْءٌ مِنْ الْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ إذَا كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ الَّذِي يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ خَالِيًا مِنْ الْقَاذُورَاتِ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي احْتِرَامِ الذِّكْرِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ الطَّهَارَةُ وَالنَّظَافَةُ مُعْتَبَرَةً فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ وَمَحَلِّهِ. قُلْت: الْمَذْهَبُ كَرَاهَةُ الذِّكْرِ فِي نَحْوِ بَيْتِ الْخَلَاءِ مِنْ الْمَحَلَّاتِ النَّجِسَةِ لَا بِقَلْبِهِ، وَحُرْمَةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي تَنْظِيفُ فَمِهِ بِالسِّوَاكِ، فَإِنْ كَانَ بِهِ نَجَاسَةٌ غَسَلَهَا، وَلَمْ يُحْرَمْ ذِكْرُ اللَّهِ وَالْقِرَاءَةُ عَلَى مَنْ فَمُهُ نَجِسٌ بَلْ يُكْرَهُ وَتَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي كَفِّ اللِّسَانِ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى الدَّوَامِ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ: وَكُفَّ عَنْ الْعَوْرَى لِسَانَك وَلْيَكُنْ ... دَوَامًا بِذِكْرِ اللَّهِ يَا صَاحِبِي نَدِي (وَكُفَّ) أَيْ ادْفَعْ وَاصْرِفْ (عَنْ) الْمَقَالَةِ وَالْكَلِمَةِ (الْعَوْرَى) بِالْقَصْرِ لِضَرُورَةِ الْوَزْنِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْعَوْرَاءُ الْكَلِمَةُ أَوْ الْفِعْلَةُ الْقَبِيحَةُ، انْتَهَى. وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ مِنْ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَلَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الْعَوْرَاءِ يَقُولُهَا» . قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ الْكَلِمَةِ الْقَبِيحَةِ الزَّائِغَةِ عَنْ الرُّشْدِ (لِسَانَك) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ غُنْيَةٌ (وَلْيَكُنْ) اللَّامُ لِلْأَمْرِ وَالْفِعْلُ مَجْزُومٌ بِهَا وَاسْمُ يَكُنْ يَعُودُ عَلَى اللِّسَانِ وَ (دَوَامًا) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ وَلْيَكُنْ لِسَانُك عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ فِي كُلِّ أَحْيَانِك وَشُئُونِكَ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ (بِذِكْرِ اللَّهِ) تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ " بِنَدِي " (يَا صَاحِبِي) السَّامِعَ لِنِظَامِي وَالْمُمْتَثِلَ لِكَلَامِي (نَدِي) أَيْ رَطْبًا وَهُوَ مَنْصُوبٌ خَبَرُ يَكُنْ، وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَيْهِ بِالسُّكُونِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يُسَكِّنُ الْيَاءَ فِي النَّصْبِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ ضَرُورَاتِ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّهُ حَمَلَ حَالَةَ النَّصْبِ عَلَى حَالَتَيْ الرَّفْعِ وَالْجَرِّ. وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْأُشْمُونِيِّ فِي شَرْحِ الْأَلْفِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ لَا ضَرُورَةٌ. وَكَلَامُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 الْمُبَرِّدِ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ ضَرُورَةٌ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الْمَجْنُون قَيْسِ بْنِ الْمُلَوَّحِ: وَلَوْ أَنَّ وَاشٍ بِالْيَمَامَةِ دَارُهُ ... وَدَارِي بِأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا قُلْت: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةِ مَجْنُونِ عَامِرٍ وَهُوَ قَيْسُ بْنُ الْمُلَوَّحِ الْمَذْكُورِ، تُوُفِّيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَنَةَ سَبْعِينَ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهَذِهِ الْقَصِيدَةُ طَوِيلَةٌ جِدًّا وَفِيهَا يَقُولُ: أَلَا أَيُّهَا الرَّكْبُ الْيَمَانُونَ عَرِّجُوا ... عَلَيْنَا فَقَدْ أَمْسَى هَوَانَا يَمَانِيَا يَمِينًا إذَا كَانَتْ يَمِينًا فَإِنْ تَكُنْ ... شِمَالًا يُنَازِعُنِي الْهَوَى مِنْ شِمَالِيَا أُصَلِّي فَلَا أَدْرِي إذَا مَا ذَكَرْتهَا ... أَثْنَتَيْنِ صَلَّيْت الضُّحَى أَمْ ثَمَانِيَا أُرَانِي إذَا صَلَّيْت يَمَّمْت نَحْوَهَا ... بِوَجْهِي وَلَوْ كَانَ الْمُصَلَّى وَرَائِيَا وَمَا بِي إشْرَاكٌ وَلَكِنَّ حُبَّهَا ... كَمِثْلِ الشَّجَا أَعْيَا الطَّبِيبَ الْمُدَاوِيَا وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي ... أُحَدِّثُ عَنْك النَّفْسَ بِاللَّيْلِ خَالِيَا خَلِيلَيَّ لَا وَاَللَّهِ لَا أَمْلِكُ الَّذِي ... قَضَى اللَّهُ فِي لَيْلَى وَلَا مَا قَضَى لِيَا قَضَاهَا لِغَيْرِي وَابْتَلَانِي بِحُبِّهَا ... فَهَلَّا بِشَيْءٍ غَيْرِ لَيْلَى ابْتَلَانِيَا وَلَوْ أَنَّ وَاشٍ بِالْيَمَامَةِ دَارُهُ ... وَدَارِي بِأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا وَمَاذَا لَهُمْ لَا أَحْسَنَ اللَّهُ حَالَهُمْ ... مِنْ الْحَظِّ فِي تَصْرِيمِ لَيْلَى حِبَالِيَا وَالشَّاهِدُ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ وَاشٍ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَاشِيًا؛ لِأَنَّ الْفَتْحَةَ تَظْهَرُ عَلَى الْمَنْقُوصِ، تَقُولُ رَأَيْت قَاضِيًا وَلَكِنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمَرْفُوعِ وَالْمَجْرُورِ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَيْهِ قَالَ وَلَوْ أَنَّ وَاشِي بِالْيَاءِ مِثْلَ قَوْلِ النَّاظِمِ نَدِي، فَنَدِي مَنْصُوبٌ بِفَتْحَةٍ مُقَدَّرَةٍ عَلَى الْيَاءِ لِإِجْرَاءِ حَالَةِ النَّصْبِ مَجْرَى حَالَتَيْ الرَّفْعِ وَالْجَرِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ النَّاظِمُ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ - أَيْ أَتَعَلَّقُ - بِهِ قَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُك رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ وَلَفْظُهُ «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُمْ إنَّ آخِرَ كَلَامٍ فَارَقْت عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ قُلْت أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُك رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْبَزَّارُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: «أَخْبِرْنِي بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ» . وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ أَبِي الْمُخَارِقِ قَالَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَرْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، بِرَجُلٍ مُغَيَّبٍ فِي نُورِ الْعَرْشِ، قُلْت مَنْ هَذَا مَلَكٌ؟ قِيلَ لَا، قُلْت نَبِيٌّ؟ قِيلَ لَا، قُلْت مَنْ هُوَ؟ قَالَ هَذَا رَجُلٌ كَانَ فِي الدُّنْيَا لِسَانُهُ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ وَلَمْ يَسْتَسِبَّ لِوَالِدَيْهِ قَطُّ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا هَكَذَا مُرْسَلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ) : تَقَدَّمَ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِجَمِيلِ أَوْصَافِهِ وَآلَائِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَالدُّعَاءُ سُؤَالُ الْعَبْدِ حَاجَتَهُ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَقُولُ إنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلَاقٍ قِرْنَهُ» . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ الذَّاكِرِ وَالْمُجَاهِدِ، فَإِنَّ الذَّاكِرَ الْمُجَاهِدَ أَفْضَلُ مِنْ الذَّاكِرِ بِلَا جِهَادٍ، وَالْمُجَاهِدَ الْغَافِلَ، وَالذَّاكِرَ بِلَا جِهَادٍ أَفْضَلُ مِنْ الْمُجَاهِدِ الْغَافِلِ عَنْ اللَّهِ، فَأَفْضَلُ الذَّاكِرِينَ الْمُجَاهِدُونَ، وَأَفْضَلُ الْمُجَاهِدِينَ الذَّاكِرُونَ، قَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: لَوْ أَقْبَلَ عَبْدٌ عَلَى اللَّهِ كَذَا كَذَا سَنَةً ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً لَكَانَ مَا فَاتَهُ أَعْظَمُ مِمَّا حَصَّلَهُ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِابْنِ آدَمَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ فِيهَا إلَّا تَحَسَّرَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَذُكِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَرْفَعُهُ أَيْضًا «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا» . وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لِكُلِّ شَيْءٍ سِقَالَةٌ وَإِنَّ سِقَالَةَ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالُوا وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ وَلَوْ يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَأَيْنَ الذِّكْرُ مِنْ الدُّعَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ كَفَّ اللِّسَانِ عَنْ الْعَوْرَاءِ خَشِيَ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ، فَدَفَعَ هَذَا الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ: مَطْلَبٌ: يَنْبَغِي تَحْصِينُ الْجَوَارِحِ عَنْ الْفَحْشَاءِ كُلِّهَا لِتَشْهَدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وَحَصِّنْ عَنْ الْفَحْشَا الْجَوَارِحَ كُلَّهَا ... تَكُنْ لَك فِي يَوْمِ الْجَزَا خَيْرَ شُهَّدِ (وَحَصِّنْ) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مَنْعٌ (عَنْ) جَمِيعِ (الْفَحْشَا) بِالْقَصْرِ ضَرُورَةً مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَكُلِّ مَا اشْتَدَّ قُبْحُهُ مِنْ الذُّنُوبِ، وَكُلِّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَأَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَلُ فِي الزِّنَا وَاللِّوَاطِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] . {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] . وَالْفَحْشَاءُ الْبُخْلُ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ. وَمُرَادُ النَّاظِمِ كُلُّ قَبِيحٍ نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ فَكُفَّ وَحَصِّنْ (الْجَوَارِحَ) جَمْعُ جَارِحَةٍ (كُلَّهَا) وَهِيَ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَنْتَ حَصَّنْتهَا عَنْ الْفَوَاحِشِ (تَكُنْ) الْجَوَارِحُ الْمَذْكُورَةُ (لَك) أَيُّهَا الْأَخُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فِيهَا الْمُحَصِّنُهَا عَنْ كُلِّ مَا يَشِينُهَا (فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ) الَّذِي هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَيُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ بِمَا عَمِلَ مِنْ الْمَلِيحِ وَالْقَبِيحِ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّك أَحَدًا (خَيْرَ شُهَّدِ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ مُشَدَّدَةً جَمْعُ شَاهِدٍ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَيَقُولُ: يَا رَبُّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنْ الظُّلْمِ، يَقُولُ بَلَى، فَيَقُولُ إنِّي لَا أُجِيزُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي شَاهِدًا إلَّا مِنِّي، فَيَقُولُ كَفَى بِنَفْسِك الْيَوْمَ عَلَيْك حَسِيبًا وَالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ انْطِقِي فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ فَيَقُولُ بُعْدًا لَكِنْ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْت أُنَاضِلُ» أَيْ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ يَعْنِي أُجَادِلُ وَأُخَاصِمُ وَأُدَافِعُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ عَمِلَ بِالْجَوَارِحِ مَكْرُوهًا لَمْ تَشْهَدْ عَلَيْهِ إلَّا بِخَيْرِ أَعْمَالِهِ وَسَدِيدِ أَفْعَالِهِ وَطَيِّبِ أَقْوَالِهِ، فَهِيَ حِينَئِذٍ خَيْرُ شُهُودٍ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت: 19] {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت: 20 - 21] الْآيَاتِ. ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ حَثَّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ فِي أَوْقَاتِهَا فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَدَاءِ الْفُرُوضِ الْمَفْرُوضَةِ بِأَوْقَاتِهَا: وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا ... وَخُذْ بِنَصِيبٍ فِي الدُّجَى مِنْ تَهَجُّد (وَحَافِظْ) أَيْ وَاظِبْ (عَلَى فِعْلِ) أَيْ أَدَاءِ (الْفُرُوضِ) الْمَفْرُوضَةِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ (بِ) أَوَّلِ (وَقْتِهَا) لَكِنَّ مُرَادَ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَةُ. قَالَ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] أَيْ مِنْ وَقْتِ زَوَالِهَا إلَى إقْبَالِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، أَيْ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] صَلَاةُ الصُّبْحِ {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] يَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْت ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ سَمِعْته قَالَ: أَفْضَلُ الْعَمَلِ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْجِهَادُ» وَرُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ. وَرَوَى مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ " أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ» . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» وَلَفْظُ مُسْلِمٍ «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِ «لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ» . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ «بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» . وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ» . وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ وَلَا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ الْمَذْهَبِ كُفْرُ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى يَتَضَايَقَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ عَنْهَا وَلَوْ كَسَلًا وَتَهَاوُنًا بِشَرْطِ الدِّعَايَةِ مِنْ إمَامٍ أَوْ نَائِبِهِ. وَعِنْد الْآجُرِّيِّ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا لَا تُعْتَبَرُ الدِّعَايَةُ وَأَنَّهُ يُقْتَلُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا كُفْرًا وَيُصْنَعُ بِهِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ مِنْ مُوَارَاةِ جُثَّتِهِ، وَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُكَفَّنُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَ الْآجُرِّيِّ لَا تُوَارَى جُثَّتُهُ بَلْ يُلْقَى عَلَى الْمَزَابِلِ وَلَا كَرَامَةَ. وَلَا مَعْنَى لِكَثْرَةِ الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ مَعَ شُهْرَتِهِ. وَقَدْ سُئِلْت عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَجَبْت عَنْهَا فِي جُزْءٍ لَطِيفٍ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: جَاءَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبْلٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ فَرْضٍ وَاحِدٍ مُتَعَمِّدًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا عَنْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، وَلَا نَعْلَمُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا لِتَرْكِهَا حَتَّى خَرَجَ جَمِيعُ وَقْتِهَا، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمِنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتْبَةَ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي التَّهَجُّدِ وَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِهِ. (وَخُذْ) أَيُّهَا الْأَخُ الصَّادِقُ، وَالْخِلُّ الْمُوَافِقُ (بِنَصِيبٍ) وَافِرٍ، وَسَهْمٍ صَالِحٍ غَيْرِ قَاصِرٍ (فِي الدُّجَى) أَيْ فِي الظَّلَامِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: دَجَا اللَّيْلُ دَجْوًا وَدُجُوًّا أَظْلَمَ كَأَدْجَى وَتَدَجَّى وَادْجَوْجَى، وَلَيْلَةٌ دَاجِيَةٌ، وَدَيَاجِي اللَّيْلِ حَنَادِسُهُ كَأَنَّهَا جَمْعُ دَيْجَاةٌ انْتَهَى (مِنْ تَهَجُّدٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] يُقَالُ: هَجَدَ وَتَهَجَّدَ أَيْ نَامَ وَسَهِرَ فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ يُطْلَقُ عَلَى النَّوْمِ وَضِدِّهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُرَادَ النَّاظِمِ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ الْأَخْذُ بِنَصِيبٍ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالْمُتَهَجِّدُ الْمُصَلِّي بِاللَّيْلِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: التَّهَجُّدُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النَّوْمِ. وَالنَّاشِئَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ رَقْدَةٍ، وَصَلَاةُ اللَّيْلِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَهِيَ مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهِيَ سُنَّةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا، وَأَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، قَدْ وَرَدَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ، وَتَظَافَرَتْ بِالْحَثِّ عَلَيْهَا الْآثَارُ وَأَفْضَلُ اللَّيْلِ نِصْفُهُ الْأَخِيرِ، وَأَفْضَلُهُ ثُلُثُهُ الْأَوَّلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ أَفْضَلُ اللَّيْلِ الثُّلُثُ بَعْدَ النِّصْفِ كَمَا هُوَ نَصُّ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ غُرْفَةٌ يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، فَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا سُمِعَ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» ،. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُد، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا» . وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَقُرْبَةٌ إلَى رَبِّكُمْ، وَمُكَفِّرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ مِنْ جَامِعِهِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي التَّهَجُّدِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ. قُلْت: وَكَاتِبُ اللَّيْثِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، كَانَ ابْنُ مَعِينٍ يُوَثِّقُهُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: سَمِعْت ابْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَرَأَ هَذِهِ الْكُتُبَ عَلَى اللَّيْثِ وَأَجَازَهَا لَهُ. قَالَ: وَسَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: كَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ مُتَمَاسِكًا ثُمَّ فَسَدَ بِآخِرِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبٍ: ثِقَةٌ مَأْمُونٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوقٌ أَمِينٌ مَا عَلِمْت، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هُوَ عِنْدِي مُسْتَقِيمُ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ يَقَعُ فِي أَسَانِيدِهِ وَمُتُونِهِ غَلَطٌ وَلَا يُعْتَمَدُ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَمَقْرَبَةٌ لَكُمْ إلَى رَبِّكُمْ، وَمُكَفِّرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ جَامِعِهِ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ يُوجِبُ صِحَّةَ الْجَسَدِ وَيَطْرُدُ عَنْهُ الدَّاءَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَضْلُ صَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 كَفَضْلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ مَرْفُوعًا. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَالْمَحْفُوظُ وَقْفُهُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَكْعَةٌ بِاللَّيْلِ خَيْرٌ مِنْ عَشْرِ رَكَعَاتٍ بِالنَّهَارِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا فُضِّلَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ عَلَى صَلَاةِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهَا أَبْلَغُ فِي الْإِسْرَارِ وَأَقْرَبُ إلَى الْإِخْلَاصِ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَجْتَهِدُونَ عَلَى إخْفَاءِ أَسْرَارِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ زُوَّارُهُ فَيَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي لَا يَعْلَمُ بِهِ زُوَّارُهُ. وَكَانُوا يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَلَا يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ. وَكَانَ الرَّجُلُ يَنَامُ مَعَ امْرَأَتِهِ عَلَى وِسَادَةٍ فَيَبْكِي طُولَ لَيْلِهِ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ؛ وَلِأَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَشَقُّ عَلَى النُّفُوسِ، فَإِنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ مِنْ التَّعَبِ بِالنَّهَارِ. فَتَرْكُ النَّوْمِ مَعَ مَيْلِ النَّفْسِ إلَيْهِ مُجَاهَدَةٌ عَظِيمَةٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ. وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ أَقْرَبُ إلَى التَّدَبُّرِ لِقَطْعِ الشَّوَاغِلِ عَنْ الْقَلْبِ بِاللَّيْلِ فَيَحْضُرُ الْقَلْبُ وَيَتَوَاطَأُ هُوَ وَاللِّسَانُ عَلَى الْفَهْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] وَلِهَذَا الْمَعْنَى أُمِرَ بِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ تَرْتِيلًا. وَلِهَذَا كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ مَنْهَاةً عَنْ الْإِثْمِ كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ إنَّ فُلَانًا يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، فَقَالَ سَتَنْهَاهُ صَلَاتُهُ وَمَا يَقُولُ» وَلِأَنَّ وَقْتَ التَّهَجُّدِ مِنْ اللَّيْلِ أَفْضَلُ أَوْقَاتِ التَّطَوُّعِ بِالصَّلَاةِ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ وَقْتُ فَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَاسْتِعْرَاضِ حَوَائِجِ السَّائِلِينَ. وَقَدْ مَدَحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْتَيْقِظِينَ بِاللَّيْلِ لِذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَمُنَاجَاتِهِ بِقَوْلِهِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] وَقَالَ تَعَالَى {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] . وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] . وَنَفَى سُبْحَانَهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُتَهَجِّدِينَ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِرَجُلٍ: «لَا تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَدَعُهُ، وَكَانَ إذَا مَرِضَ أَوْ قَالَتْ كَسِلَ صَلَّى قَاعِدًا» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قَالَتْ: بَلَغَنِي عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ إنْ أَدَّيْنَا الْفَرَائِضَ لَمْ نُبَالِ أَنْ لَا نَزْدَادَ، وَلَعَمْرِي لَا يَسْأَلُهُمْ اللَّهُ إلَّا عَمَّا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَا أَنْتُمْ إلَّا مِنْ نَبِيِّكُمْ، وَمَا نَبِيُّكُمْ إلَّا مِنْكُمْ، وَاَللَّهِ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيَامَ اللَّيْلِ. وَنَزَعَتْ كُلَّ آيَةٍ فِيهَا قِيَامُ اللَّيْلِ» . فَأَشَارَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - إلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ فَائِدَتَانِ عَظِيمَتَانِ: الِاقْتِدَاءُ بِسُنَّةِ يَنْبُوعِ الْهُدَى، وَالتَّأَسِّي بِالشَّفِيعِ غَدًا، وَمَعْدِنِ الِاهْتِدَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، مِنْ مُنَفِّسِ الْكُرُوبِ وَمَانِحِ الْعَطَايَا. فَإِنَّ بَنِي آدَمَ يُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَحْتَاجُونَ إلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْ مُكَفِّرَاتِ الْأَوْزَارِ. وَقِيَامُ اللَّيْلِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُكَفِّرَاتِ، كَمَا قَالَ سَيِّدُ السَّادَاتِ وَمَعْدِنُ السَّعَادَاتِ، لِحَامِلِ لِوَاءِ الْفُقَهَاءِ إلَى الْجَنَّةِ سَيِّدُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قِيَامُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ ثُمَّ تَلَا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة: 16] الْآيَةَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمُتَهَجِّدِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. رُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَاءَ مُنَادٍ يُنَادِي بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: سَيَعْلَمُ الْخَلَائِقُ الْيَوْمَ مَنْ أَوْلَى بِالْكَرَمِ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُنَادِي: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ؟ فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُنَادِي: لِيَقُمْ الَّذِينَ كَانُوا يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُنَادِي: لِيَقُمْ الَّذِينَ كَانُوا تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ، فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ، ثُمَّ يُحَاسَبُ سَائِرُ النَّاسِ» خَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ. وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ قَوْلِهِ. وَيُرْوَى أَيْضًا نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مِنْ قَوْلِهِ وَمَرْفُوعًا أَيْضًا. وَيُرْوَى نَحْوُهُ أَيْضًا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَبِيعَةَ الْجُرَشِيِّ وَالْحَسَنِ وَكَعْبٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: قِيَامُ اللَّيْلِ يُهَوِّنُ طُولَ قِيَامِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا كَانَ أَهْلُهُ يَسْبِقُونَ إلَى الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَقَدْ اسْتَرَاحَ أَهْلُهُ مِنْ طُولِ الْمَوْقِفِ وَالْحِسَابِ. وَفِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الْمَشْهُورِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ «أَنَّ الْمَلَأَ الْأَعْلَى يَخْتَصِمُونَ فِي الدَّرَجَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ. وَفِيهِ أَنَّ الدَّرَجَاتِ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» . فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّهُ تَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ فَهُوَ يَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ «إنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا» وَأَنَّهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ. فَقَدْ ارْتَفَعَتْ دَرَجَاتُ قُوَّامِ اللَّيْلِ بِهِ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ اخْتِيَارُ الْأَوْلَى، فِي شَرْحِ حَدِيثِ اخْتِصَامِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى: الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات: 15] {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16] {كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] الْآيَاتِ. فَوَصَفَهُمْ بِالتَّيَقُّظِ بِاللَّيْلِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ. قَالَ: وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ نَائِمًا فَأَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ قُمْ فَصَلِّ أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ مَعَ أَصْحَابِ اللَّيْلِ هُمْ خُزَّانُهَا هُمْ خُزَّانُهَا. وَمِنْ فَضَائِلِ التَّهَجُّدِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَهْلَهُ وَيُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ وَيَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُمْ. فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ وَيَضْحَكُ إلَيْهِمْ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ فَذَكَرَ مِنْهُمْ الَّذِي لَهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ وَفِرَاشٌ حَسَنٌ فَيَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَذَرُ شَهْوَتَهُ فَيَذْكُرُنِي وَلَوْ شَاءَ رَقَدَ. وَاَلَّذِي إذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَكَانَ مَعَهُ رَكْبٌ فَسَهِرُوا ثُمَّ هَجَعُوا فَقَامَ مِنْ السَّحَرِ فِي ضَرَّاءَ أَوْ سَرَّاءَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ، فَذَكَرَ مِنْهُمْ قَوْمٌ سَارُوا لَيْلَهُمْ حَتَّى إذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ قَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي» وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ وَحِبِّهِ إلَى الصَّلَاةِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي» الْحَدِيثَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي اللَّطَائِفِ: قَوْلُهُ ثَارَ، فِيهِ إشَارَةٌ إلَى قِيَامِهِ بِنَشَاطٍ وَعَزْمٍ. وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ إلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ: رَجُلٌ قَامَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَأَحْسَنَ الطُّهُورَ فَصَلَّى، وَرَجُلٌ نَامَ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَرَجُلٌ فِي كَتِيبَةٍ مُنْهَزِمَةٍ فَهُوَ عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ لَوْ شَاءَ أَنْ يَذْهَبَ لَذَهَبَ» . وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ إلَى ثَلَاثَةٍ: الصَّفُّ فِي الصَّلَاةِ، وَالرَّجُلُ يُصَلِّي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ - أَرَاهُ قَالَ خَلْفَ الْكَتِيبَةِ» . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي لَطَائِفِ الْمَعَارِفِ: رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبَانَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «ثَلَاثَةُ مَوَاطِنَ لَا تُرَدُّ فِيهَا دَعْوَةٌ: رَجُلٌ يَكُونُ فِي بَرِّيَّةٍ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ فَيَقُومُ فَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ أَرَى عَبْدِي هَذَا يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ فَانْظُرُوا مَا يَطْلُبُ عَبْدِي هَذَا؟ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ يَا رَبُّ رِضَاك وَمَغْفِرَتَك، فَيَقُولُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُ وَرَضِيت عَنْهُ. وَرَجُلٌ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَلَيْسَ قَدْ جَعَلْت اللَّيْلَ سَكَنًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا فَقَامَ عَبْدِي هَذَا يُصَلِّي وَيَعْلَمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ اُنْظُرُوا مَا يَطْلُبُ عَبْدِي هَذَا؟ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ يَا رَبُّ رِضَاك وَمَغْفِرَتَك، فَيَقُولُ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُ وَذَكَرَ الثَّالِثَ الَّذِي يَكُونُ فِي فِئَةٍ فَيَفِرُّ أَصْحَابُهُ وَيَثْبُتُ هُوَ» ، وَهُوَ مَذْكُورٌ أَيْضًا فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي يَقُومُ أَحَدُهُمَا مِنْ اللَّيْلِ فَيُعَالِجُ نَفْسَهُ إلَى الطَّهُورِ وَعَلَيْهِ عُقَدٌ فَيَتَوَضَّأُ، فَإِذَا وَضَّأَ يَدَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ وَجْهَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ رِجْلَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لِلَّذِينَ وَرَاءَ الْحِجَابِ اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي هَذَا يُعَالِجُ نَفْسَهُ مَا سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا فَهُوَ لَهُ» وَتَقَدَّمَ فِي آدَابِ الْأَذْكَارِ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ فِي الْعُقَدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ. . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَنَامُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ اللَّيْلِ إلَّا قَلِيلًا» . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ اخْتِصَامِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى: وَمِمَّا يُجْزَى بِهِ الْمُتَهَجِّدُونَ فِي اللَّيْلِ كَثْرَةُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ فِي الْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْمُتَهَجِّدَ قَدْ تَرَكَ لَذَّةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ وَلَذَّةَ التَّمَتُّعِ بِأَزْوَاجِهِ طَلَبًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَعَوَّضَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا مِمَّا تَرَكَهُ وَهُوَ الْحُورُ الْعِينِ فِي الْجَنَّةِ. وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ: طُولُ التَّهَجُّدِ مُهُورُ الْحُورِ الْعِينِ فِي الْجَنَّةِ. كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُحْيِي اللَّيْلَ فِي صَلَاةٍ فَفَتَرَ عَنْ ذَلِكَ فَأَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْت يَا فُلَانُ تَدْأَبُ فِي الْخِطْبَةِ فَمَا الَّذِي قَصَّرَ بِك عَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ كُنْت تَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مَا عَلِمْت أَنَّ الْمُتَهَجِّدَ إذَا قَامَ إلَى التَّهَجُّدِ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ قَدْ قَامَ الْخَاطِبُ إلَى خِطْبَتِهِ. وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي مَنَامِهِ امْرَأَةً لَا تُشْبِهُ نِسَاءَ الدُّنْيَا، فَقَالَ لَهَا: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ حَوْرَاءُ أَمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهَا: زَوِّجِينِي نَفْسَك، قَالَتْ: اُخْطُبْنِي إلَى سَيِّدِي وَأَمْهِرْنِي، قَالَ وَمَا مَهْرُك؟ قَالَتْ: طُولُ التَّهَجُّدِ. نَامَ بَعْضُ الْمُتَهَجِّدِينَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ حَوْرَاءَ تُنْشِدُ: أَتَخْطُبُ مِثْلِي وَعَنِّي تَنَامُ ... وَنَوْمُ الْمُحِبِّينَ عَنَّا حَرَامُ لِأَنَّا خُلِقْنَا لِكُلِّ امْرِئٍ ... كَثِيرِ الصَّلَاةِ بَرَاهُ الصِّيَامُ وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ لَهُ وِرْدٌ فَنَامَ عَنْهُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَتًى فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ بِصَوْتٍ مَحْزُونٍ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 تَيَقَّظْ سَاعَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ يَا فَتَى ... لَعَلَّك تَحْظَى فِي الْجِنَانِ بِحُورِهَا فَتَنْعَمَ فِي دَارٍ يَدُومُ نَعِيمُهَا ... مُحَمَّدُ فِيهَا وَالْخَلِيلُ يَزُورُهَا فَقُمْ فَتَيْقَظْ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ ... عَسَاك تَقْضِي مَا بَقِيَ مِنْ مُهُورِهَا وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ كَثِيرُ التَّعَبُّدِ، وَبَكَى شَوْقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى سِتِّينَ سَنَةً، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ عَلَى ضِفَّةِ نَهْرٍ يَجْرِي بِالْمِسْكِ حَافَّتَاهُ شَجَرُ اللُّؤْلُؤِ وَنَبْتٌ مِنْ قُضْبَانِ الذَّهَبِ، فَإِذَا بِجَوَارٍ مُزَيَّنَاتٍ يَقُلْنَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ: سُبْحَانَ الْمُسَبَّحِ بِكُلِّ لِسَانٍ سُبْحَانَهُ، سُبْحَانَ الْمُوَحَّدِ بِكُلِّ مَكَان سُبْحَانَهُ، سُبْحَانَ الدَّائِمِ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ سُبْحَانَهُ. فَقَالَ لَهُنَّ مَا تَصْنَعْنَ هَاهُنَا؟ فَقُلْنَ: ذَرَأَنَا إلَهُ النَّاسِ رَبُّ مُحَمَّدٍ ... لِقَوْمٍ عَلَى الْأَقْدَامِ بِاللَّيْلِ قُوَّمُ يُنَاجُونَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إلَهَهُمْ ... وَتَسْرِي هُمُومُ الْقَوْمِ وَالنَّاسُ نُوَّمُ فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ لِهَؤُلَاءِ مَنْ هُمْ، لَقَدْ أَقَرَّ اللَّهُ أَعْيُنَهُمْ بِكُنَّ؟ فَقُلْنَ: أَوْ مَا تَعْرِفُهُمْ؟ قَالَ: لَا، فَقُلْنَ: بَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَهَجِّدُونَ أَصْحَابُ الْقُرْآنِ وَالسَّهَرِ. وَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْت أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: بَيْنَمَا أَنَا سَاجِدٌ ذَهَبَ بِي النَّوْمُ، وَإِذَا أَنَا بِالْحَوْرَاءِ قَدْ رَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا فَقَالَتْ يَا حَبِيبِي أَتَرْقُدُ وَالْمَلِكُ يَقْظَانُ يَنْظُرُ إلَى الْمُتَهَجِّدِينَ فِي تَهَجُّدِهِمْ، بُؤْسًا لَعَيْنٍ آثَرَتْ لَذَّةَ نَوْمَةٍ عَلَى لَذَّةِ مُنَاجَاةِ الْعَزِيزِ، قُمْ فَقَدْ دَنَا الْفِرَاقُ وَلَقِيَ الْمُحِبُّونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا فَمَا هَذَا الرُّقَادُ، حَبِيبِي وَقُرَّةَ عَيْنِي أَتَرْقُدُ عَيْنَاك وَأَنَا أُرَبَّى لَك فِي الْخُدُورِ، فَوَثَبْت فَزَعًا وَقَدْ عَرِقْت اسْتِحْيَاءً مِنْ تَوْبِيخِهَا إيَّايَ وَإِنَّ حَلَاوَةَ مَنْطِقِهَا لَفِي سَمْعِي وَقَلْبِي، انْتَهَى. وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ يَقُولُ: أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ، وَلَوْلَا اللَّيْلُ مَا أَحْبَبْت الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ: إذَا جَنَّ اللَّيْلُ وَخَلَا كُلُّ حَبِيبٍ بِحَبِيبِهِ افْتَرَشَ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ أَقْدَامَهُمْ، وَجَرَتْ دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ، أَشْرَفَ الْجَلِيلُ جَلَّ جَلَالُهُ فَنَادَى يَا جِبْرِيلُ بِعَيْنِي مَنْ تَلَذَّذَ بِكَلَامِي وَاسْتَرْوَحَ إلَى مُنَاجَاتِي، نَادِ فِيهِمْ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا الْبُكَاءُ، هَلْ رَأَيْتُمْ حَبِيبًا يُعَذِّبُ أَحِبَّاءَهُ، أَمْ كَيْفَ يَجْمُلُ بِي أَنْ أُعَذِّبَ قَوْمًا إذَا جَنَّهُمْ اللَّيْلُ تَمَلَّقُونِي، فَبِي حَلَفْت إذَا قَدِمُوا عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَأَكْشِفَنَّ لَهُمْ عَنْ وَجْهِي، يَنْظُرُونَ إلَيَّ وَأَنْظُرُ إلَيْهِمْ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ: الْعَبْدُ إذَا رُزِقَ حَظًّا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا تُنَوِّرُ الْوَجْهَ وَتُحَسِّنُهُ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ تُكْثِرُ صَلَاةَ اللَّيْلِ، فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ إنَّهَا تُحَسِّنُ الْوَجْهَ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يُحَسَّنَ وَجْهِي. انْتَهَى. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ اخْتِصَامِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى: سُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِمَ كَانَ الْمُتَهَجِّدُونَ أَحْسَنُ النَّاسِ وُجُوهًا؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ خَلَوْا بِالرَّحْمَنِ فَأَلْبَسَهُمْ نُورًا مِنْ نُورِهِ. فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَمْ تَذْكُرْ حَدِيثَ «مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهَهُ بِالنَّهَارِ» فِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ؟ قُلْت: لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ: اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ شَرِيكٍ لِثَابِتٍ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَإِنْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ. وَالْعَجَبُ مِنْ الْجَلَالِ السُّيُوطِيِّ مَعَ إطْلَاعِهِ عَلَى وَضْعِهِ كَيْفَ أَوْدَعَهُ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَقِصَّةُ الْحَدِيثِ مَشْهُورَةٌ فَلَا نُطِيلُ الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَطْلَبٌ: حِكَايَةٌ لَطِيفَةٌ] " خَاتِمَةٌ قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا نَسْتَطِيعُ قِيَامَ اللَّيْلِ، قَالَ: أَبْعَدَتْكُمْ ذُنُوبُكُمْ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: أَعْجَزَنَا قِيَامُ اللَّيْلِ، قَالَ: قَيَّدَتْكُمْ خَطَايَاكُمْ. وَقَالَ: إنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَذْنَبْت ذَنْبًا فَحُرِمْت بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: إذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ فَاعْلَمْ أَنَّك مَحْرُومٌ مُكَبَّلٌ كَبَّلَتْك خَطِيئَتُك. قَالَ فِي اللَّطَائِفِ: مَا يُؤَهِّلُ الْمُلُوكُ لِلْخَلْوَةِ بِهِمْ إلَّا مَنْ أَخْلَصَ فِي وُدِّهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يُؤَهِّلُونَهُ وَلَا يَرْضَوْنَهُ لِذَلِكَ، وَلِذَا قِيلَ: (شِعْرٌ) اللَّيْلُ لِي وَلِأَحْبَابِي أُحَادِثُهُمْ ... قَدْ اصْطَفَيْتهمْ كَيْ يَسْمَعُوا وَيَعُوا لَهُمْ قُلُوبٌ بِأَسْرَارِي لَهَا مُلِئَتْ ... عَلَى وِدَادِي وَإِرْشَادِي لَهُمْ طُبِعُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 قَدْ أَثْمَرَتْ شَجَرَاتُ الْفَهْمِ عِنْدَهُمْ ... فَمَا جَنَوْا إذْ جَنَوْا مِمَّا بِهِ ارْتَفَعُوا سُرُّوا فَمَا وَهَنُوا عَجْزًا وَمَا ضَعُفُوا ... وَوَاصَلُوا حَبْلَ تَقْرِيبِي فَمَا انْقَطَعُوا وَفِي أَثَرٍ مَشْهُودٍ «كَذَبَ مَنْ ادَّعَى مَحَبَّتِي فَإِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ نَامَ عَنِّي، أَلَيْسَ كُلُّ مُحِبٍّ يُحِبُّ خَلْوَةَ حَبِيبِهِ، فَهَا أَنَا ذَا مُطَّلِعٌ عَلَى أَحِبَّائِي إذَا جَنَّهُمْ اللَّيْلُ جَعَلْت أَبْصَارَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ، فَخَاطَبُونِي عَلَى الْمُشَاهَدَةِ، وَكَلَّمُونِي عَلَى حُضُورِي، غَدًا أُقِرُّ أَعْيُنَ أَحْبَابِي فِي جِنَانِي» . حِكَايَةٌ لَطِيفَةٌ وَفِي الْمَوْرِدِ الْعَذْبِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ: قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ: عَصَفَتْ بِنَا الرِّيحُ عَلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَإِذَا بِرَجُلٍ يَعْبُدُ صَنَمًا. فَقُلْنَا لَهُ أَيُّهَا الرَّجُلُ مَنْ تَعْبُدُ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إلَى الصَّنَمِ، فَقُلْنَا لَهُ إنَّ مَعَنَا فِي الْمَرْكَبِ مَنْ يَعْمَلُ هَذَا، قَالَ فَأَنْتُمْ مَنْ تَعْبُدُونَ؟ قُلْنَا نَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى، قَالَ وَمَنْ هُوَ؟ قُلْنَا الَّذِي فِي السَّمَاءِ عَرْشُهُ، وَفِي الْأَرْضِ سُلْطَانُهُ، وَفِي الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ قَضَاؤُهُ. قَالَ كَيْفَ عَلِمْتُمْ هَذَا؟ قُلْنَا وَجَّهَ إلَيْنَا رَسُولًا أَعْلَمَنَا بِهِ، قَالَ فَمَا فَعَلَ الرَّسُولُ؟ قُلْنَا قَبَضَهُ اللَّهُ إلَيْهِ، قَالَ فَهَلْ تَرَكَ عِنْدَكُمْ عَلَامَةً؟ قُلْنَا: تَرَكَ عِنْدَنَا كِتَابَ الْمَلِكِ، قَالَ أَرُونِيهِ، فَأَتَيْنَاهُ بِالْمُصْحَفِ فَقَالَ مَا أَعْرِفُ هَذَا، فَقَرَأْنَا عَلَيْهِ سُورَةً وَهُوَ يَبْكِي، ثُمَّ قَالَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ لَا يُعْصَى، فَأَسْلَمَ وَحَمَلْنَاهُ مَعَنَا وَعَلَّمْنَاهُ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ وَسُوَرًا مِنْ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ صَلَّيْنَا وَأَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَقَالَ يَا قَوْمُ الْإِلَهُ الَّذِي دَلَلْتُمُونِي عَلَيْهِ أَيَنَامُ إذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ؟ قُلْنَا لَا يَا عَبْدَ اللَّهِ هُوَ حَيٌّ قَيُّومٌ لَا يَنَامُ، قَالَ بِئْسَ الْعَبِيدُ أَنْتُمْ تَنَامُونَ وَمَوْلَاكُمْ لَا يَنَامُ، فَعَجِبْنَا مِنْ كَلَامِهِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَبَّادَانَ جَمَعْنَا لَهُ دَرَاهِمَ وَأَعْطَيْنَاهَا لَهُ وَقُلْنَا لَهُ أَنْفِقْهَا، قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَلَلْتُمُونِي عَلَى طَرِيقٍ لَمْ تَسْلُكُوهُ، أَنَا كُنْت فِي جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ أَعْبُدُ صَنَمًا مِنْ دُونِهِ فَلَمْ يُضَيِّعْنِي فَكَيْفَ الْآنَ وَقَدْ عَرَفْته، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ لِي: إنَّهُ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، فَجِئْته وَقُلْت أَلَكَ حَاجَةً؟ فَقَالَ قَدْ قَضَى حَوَائِجِي مَنْ عَرَّفْتنِي بِهِ. فَبَيْنَمَا أَنَا أُكَلِّمُهُ إذْ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْت فَرَأَيْت فِي الْمَنَامِ رَوْضَةً وَفِي الرَّوْضَةِ قُبَّةً وَفِيهَا سَرِيرٌ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ أَجْمَلُ مِنْ الشَّمْسِ تَقُولُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 سَأَلْتُك بِاَللَّهِ عَجِّلْ عَلَيَّ بِهِ، فَانْتَبَهْت فَإِذَا بِهِ قَدْ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَجَهَّزْته لِقَبْرِهِ ثُمَّ رَأَيْته فِي الْمَنَامِ فِي الْقُبَّةِ وَالْجَارِيَةُ إلَى جَانِبِهِ وَهُوَ يَتْلُو {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ) : فِي قَوْلِ النَّاظِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَخُذْ بِنَصِيبٍ إلَى آخِرِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ قِيَامَ كُلِّ اللَّيْلِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَلَا يَقُومُهُ كُلَّهُ إلَّا لَيْلَةَ عِيدٍ. هَذِهِ عِبَارَةُ الْإِقْنَاعِ. وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلَا يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ خِلَافًا لِمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ وَقَلَّ مَنْ وَجَدْتُهُ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا نَامَ بَعْدَ تَهَجُّدِهِ لَمْ يَبِنْ عَلَيْهِ أَثَرُ السَّهَرِ. وَفِي الْغُنْيَةِ: يُسْتَحَبُّ ثُلُثَاهُ وَالْأَقَلُّ سُدُسُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كُلِّهِ عَمَلُ الْأَقْوِيَاءِ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الْعِنَايَةُ فَجَعَلَ لَهُمْ مَوْهِبَةً. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ قَامَهُ بِرَكْعَةٍ يَخْتِمُ فِيهَا. قَالَ وَصَحَّ عَنْ أَرْبَعِينَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَمُرَادُهُ وَتَابِعِيهِمْ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يَقُومُهُ كُلَّهُ وَلَا لَيَالِي الْعَشْرِ، فَيَكُونُ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَحْيَا اللَّيْلَ» أَيْ كَثِيرًا مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَهُ. قَالَ وَيُتَوَجَّهُ بِظَاهِرِهِ احْتِمَالٌ وَتَخْرِيجٌ مِنْ لَيْلَةِ الْعِيدِ، وَيَكُونُ قَوْلُهَا مَا عَلِمْت «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ أَيْ غَيْرَ الْعَشْرِ أَوْ لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ مِنْهُ» . قَالَ وَاسْتَحَبَّهُ شَيْخُنَا وَقَالَ: قِيَامُ بَعْضِ اللَّيَالِي كُلِّهَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَتُكْرَهُ مُدَاوَمَةُ قِيَامِهِ كُلِّهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْفُرُوعِ وَالْمُنْتَهَى وَغَيْرِهِمَا أَنَّ نَفْسَ مُدَاوَمَةِ قِيَامِ اللَّيْلِ مَكْرُوهَةٌ. وَعِبَارَةُ التَّنْقِيحِ: وَلَا يَقُومُهُ كُلَّهُ إلَّا لَيْلَةَ عِيدٍ، وَتُكْرَهُ مُدَاوَمَتُهُ. انْتَهَى. قَالَ الْحَجَّاوِيّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى التَّنْقِيحِ: يَعْنِي اسْتِيعَابَ كُلِّ لَيْلَةٍ بِالْقِيَامِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا، بَلْ يَقُومُ مِنْ كُلِّ لَيْلَةٍ بَعْضَهَا وَهُوَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُ الْمُصَنَّفِينَ فِي زَمَنِنَا مِنْ كَلَامِ الْمُنَقَّحِ أَنَّهُ يَقُومُ غِبًّا. وَعِبَارَةُ الْفُرُوعِ قَدْ تُوهِمُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِمُرَادٍ عِنْدَ أَحَدٍ، انْتَهَى وَالْغَايَةُ تَبَعٌ فِيهَا عِبَارَةُ الْمُنْتَهَى، وَلَمْ يُشِرْ لِخِلَافِ الْإِقْنَاعِ وَمُرَادُهُ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى. قَالَ الْخَلْوَتِيُّ: وَيُرَدُّ بِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الْمُبْدِعِ تَبَعًا لِجَدِّهِ صَاحِبِ الْفُرُوعِ يُوَافِقُ كَلَامَ الْمُنْتَهَى حَيْثُ قَالَ: وَيُكْرَهُ مُدَاوَمَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ، انْتَهَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 قُلْت: لَيْسَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْمُبْدِعِ إلَّا مُجَرَّدُ احْتِمَالٍ كَمَا فِي كَلَامِ جَدِّهِ فَقَطْ، فَلَا وَجْهَ لِرَدِّ اعْتِرَاضِ الْحَجَّاوِيّ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ عِبَارَةٍ، وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ وَالسَّلَفِ وَالشَّارِعِ عَلَى خِلَافِهَا. مَطْلَبٌ: فِي اسْتِحْبَابِ افْتِتَاحِ التَّهَجُّدِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْتَتَحَ التَّهَجُّدُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. وَفِي الْمُسْنَدِ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» وَحِكْمَةُ تَخْفِيفِهِمَا الْمُبَادَرَةُ لِفَكِّ عُقَدِ الشَّيْطَانِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَطَوُّعَاتٌ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا، وَإِذَا فَاتَتْ يَقْضِيهَا، قَالَ فِي شَرْحِ أَوْرَادِ أَبِي دَاوُد: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ رَكَعَاتٌ مَعْلُومَاتٌ يَقْرَأُ فِيهَا حِزْبَهُ مِنْ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْعَلُهُ. قَالَ وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ بِعَدَدِ التَّهَجُّدِ تَهَجُّدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَقَالَتْ أَيْضًا «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَنَّ قِيَامَهُ كَانَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً غَيْرَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ: فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَأَمَّا تَطْوِيلُ الرَّكَعَاتِ وَتَقْصِيرُهَا فَبِحَسَبِ النَّشَاطِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ رَكَعَاتٌ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعْلُومَةً فَإِذَا نَشِطَ طَوَّلَهَا وَإِذَا لَمْ يَنْشَطْ خَفَّفَهَا. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ عَلَيْك لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ. فَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ الدُّعَاءَ جَوْفَ اللَّيْلِ مُسْتَجَابٌ: وَنَادِ إذَا مَا قُمْت فِي اللَّيْلِ سَامِعًا ... قَرِيبًا مُجِيبًا بِالْفَوَاضِلِ يَبْتَدِي (وَنَادِ) أَيْ اُدْعُ (إذَا مَا قُمْت) أَيْ فِي وَقْتِ قِيَامِك وَمَا زَائِدَةٌ (فِي) جَوْفِ (اللَّيْلِ) وَهُوَ مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي رَبًّا (سَامِعًا) مَفْعُولُ نَادِ فَإِنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ يَسْمَعُ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُ، وَيُبْصِرُ تَضَرُّعَ مَنْ تَضَرَّعَ إلَيْهِ وَنَادَاهُ. فَيَسْمَعُ حَرَكَةَ النَّمْلَةِ الدَّهْمَاءِ، عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ. وَقَوْلُهُ (قَرِيبًا مُجِيبًا) وَصْفَانِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] (بِالْفَوَاضِلِ) أَيْ الْأَيَادِي الْجَسِيمَةِ أَوْ الْجَمِيلَةِ. وَفَوَاضِلُ الْمَالِ مَا يَأْتِيك مِنْ غَلَّتِهِ وَمَرَافِقِهِ، وَلِذَا قَالُوا إذَا عَزَبَ الْمَالُ قَلَّتْ فَوَاضِلُهُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ إذَا بَعُدَتْ الضَّيْعَةُ قَلَّ الْمَرْفِقُ مِنْهَا. وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (يَبْتَدِي) أَيْ يَبْتَدِي بِالْعَطَايَا الْجَسِيمَةِ؛ وَالْمَوَاهِبِ الْوَسِيمَةِ؛ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، فَكَيْفَ بَعْدَ السُّؤَالِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا أَعْطَاهَا إيَّاهُ إمَّا أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلَّا أَعْطَاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 اللَّهُ بِهَا إحْدَى ثَلَاثٍ: إمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا. قَالُوا إذَنْ تَكْثُرُ. قَالَ اللَّهُ أَكْثَرُ» وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ «أَوْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ» قَالَ الْجِرَاحِيُّ فِي «قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُ أَكْثَرُ» يَعْنِي أَكْثَرَ إجَابَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَسْأَلُهُ إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهَا إمَّا أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَا لَمْ يُعَجِّلْ، قَالُوا وَمَا عَجَلَتُهُ؟ قَالَ يَقُولُ دَعَوْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا أُرَاهُ يُسْتَجَابُ لِي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. مَطْلَبٌ: آدَابُ الدُّعَاءِ وَمُدَّ إلَيْهِ كَفَّ فَقْرِك ضَارِعًا ... بِقَلْبٍ مُنِيبٍ وَادْعُ تُعْطَ وَتَسْعَدْ (مُدَّ) أَيُّهَا الدَّاعِي فِي دُعَائِك (إلَيْهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (كَفَّ) أَيْ رَاحَتَك قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْكَفُّ الرَّاحَةُ مَعَ الْأَصَابِعِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَكُفُّ الْأَذَى عَنْ الْبَدَنِ، وَالْجَمْعُ كُفُوفٌ وَأَكُفٌّ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ مِنْ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ مُذَكَّرَةٌ. يُرِيدُ النَّاظِمُ أَنَّك إذَا قُمْت فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَقْتَ ذَلِكَ بَعْدَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ اللَّيْلِ، فَتَوَجَّهْ بِكُلِّيَّتِك إلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَمُدَّ إلَيْهِ كَفَّ (فَقْرِك) إلَيْهِ اللَّازِمَ لِوُجُودِك، فَلَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُك عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً. وَإِلَيْهِ أَشَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَرَّدَ اللَّهُ مَضْجَعَهُ فِي قَوْلِهِ: الْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا ... كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي حَالَ كَوْنِك (ضَارِعًا) أَيْ مُتَذَلِّلًا مُبَالِغًا فِي السُّؤَالِ وَالرَّغْبَةِ، يُقَالُ ضَرَعَ يَضْرَعُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَتَضَرَّعَ إذَا خَضَعَ وَذَلَّ. قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَضَرَّعْ إلَى اللَّهِ أَيْ ابْتَهِلْ. فِي الْقَامُوسِ: ضَرَعَ إلَيْهِ وَيُثَلَّثُ ضَرْعًا مُحَرَّكَةً وَضَرَاعَةً خَضَعَ وَذَلَّ وَاسْتَكَانَ، أَوْ كَفَرِحِ وَمَنَعَ تَذَلَّلَ فَهُوَ ضَارِعٌ، وَذَلَّلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 قَالَ «إنَّ اللَّهَ يَسْتَحْيِ أَنْ يَبْسُطَ الْعَبْدُ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ فِيهِمَا خَيْرًا فَيَرُدَّهُمَا خَائِبَتَيْنِ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ. وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَأَسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد «وَكَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ» . وَقَوْلُهُ (بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) مُتَعَلِّقٌ بِضَارِعٍ، أَيْ تَائِبٌ رَاجِعٌ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الذُّنُوبِ إلَى الطَّاعَاتِ، أَوْ مِنْ الْفِرَارِ مِنْهُ إلَيْهِ، يُقَالُ نَابَ إلَى اللَّهِ تَابَ كَأَنَابَ (وَادْعُ) اللَّهَ سُبْحَانَهُ. وَبِنَبْغِي لَك أَنْ تَتَحَرَّى الْمَأْثُورَ عَنْ مَنْبَعِ الْهُدَى وَيَنْبُوعِ النُّورِ مَعَ مُرَاعَاةِ آدَابِ الدُّعَاءِ. فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ (تُعْطَ) مَا سَأَلْته عَنْ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَتَسْعَدْ) سَعَادَةً لَا شَقَاوَةَ بَعْدَهَا بِتَضَرُّعِك لِمَوْلَاك وَقِيَامِك بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ الْفَاخِرَةِ، وَتَنْجُ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ وَأَلَمِ الْحِجَابِ، وَتُجَاوِرُ رَبًّا كَرِيمًا إذَا سُئِلَ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ أَجَابَ. مَطْلَبٌ: فِيمَا يَقُولُ الرَّجُلُ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَمِنْ الْمَأْثُورِ، عَنْ النَّبِيِّ الْمَبْرُورِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيُّومُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُك الْحَقُّ، وَوَعْدُك الْحَقُّ، وَلِقَاؤُك حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت، وَبِك آمَنْت، وَعَلَيْك تَوَكَّلْت، وَإِلَيْكَ أَنَبْت، وَبِك خَاصَمْت، وَإِلَيْك حَاكَمْت، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَأَخَّرْت، وَأَسْرَرْت وَأَعْلَنْت، أَنْتَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ» هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ. وَعَزَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ إلَى الصَّحِيحَيْنِ وَزَادَ النَّسَائِيُّ «وَمَنْ فِيهِنَّ» فِي الثَّلَاثِ وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ «مَا قَدَّمَتْ وَمَا أَخَّرْت» إلَخْ. وَزَادَ «أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ» . وَلَفْظُ الصَّحِيحَيْنِ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُك حَقٌّ، وَقَوْلُك حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت، وَبِك آمَنْت، وَعَلَيْك تَوَكَّلْت، وَإِلَيْك أَنَبْت، وَبِك خَاصَمْت، وَإِلَيْك حَاكَمْت، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت، وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت» . وَفِي رِوَايَةٍ «وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَلَا إلَهَ غَيْرُك» . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ. فَإِنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ» . قَوْلُهُ تَعَارَّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ اسْتَيْقَظَ. وَتَقَدَّمَ فِي أَدْعِيَةِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ مَا يَكْفِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ بَعْضِ فَضَائِلِ الدُّعَاءِ (فَوَائِدُ) الْأُولَى فِي ذِكْرِ بَعْضِ فَضَائِلِ الدُّعَاءِ. أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرَبِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الرَّخَاءِ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ» . وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا «الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ وَعِمَادُ الدِّينِ وَنُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيث عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ حَيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِ إذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» الصِّفْرُ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ هُوَ الْفَارِغُ. وَرَوَى نَحْوَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ. وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَلْقَاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إلَّا الدُّعَاءُ. وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إلَّا الْبِرُّ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُذْنِبُهُ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ مَرْفُوعًا مِنْ غَيْرِ «وَإِنَّ الرَّجُلَ» إلَخْ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ» . زَادَ ابْنُ مَاجَهْ فِيهِ: «حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» فَلِذَلِكَ كَانُوا يُحِبُّونَ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِلُ حَتَّى إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ نَزَلَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى «إذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَيُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] » قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «تَرْكُ الدُّعَاءِ مَعْصِيَةٌ» وَتَقَدَّمَ فِي السَّلَامِ «أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنْ الدُّعَاءِ، وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: «مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِ» وَفِي سَنَدِهِ أَبُو صَالِحٍ الْخُوزِيُّ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ (الثَّانِيَةُ) : يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى بِدُعَائِهِ أَوْقَاتَ الْإِجَابَةِ وَأَحْوَالَهَا وَأَمَاكِنَهَا. كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَشَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَسَاعَة الْجُمُعَةِ، وَهِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ، أَوْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ حَتَّى يُؤْمِنَّ. وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَكَجَوْفِ اللَّيْلِ، وَنِصْفِهِ الثَّانِي وَثُلُثِهِ الْأَوَّلِ. أَيْ ثُلُثِ اللَّيْلِ بَعْدَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، فَيَنَامُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ وَيَقُومُ الثُّلُثَ ثُمَّ يَنَامُ السُّدُسَ، وَكَثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، وَوَقْتِ السَّحَرِ، وَعِنْدَ النِّدَاءِ بِالصَّلَاةِ، وَبَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَبَيْنَ الْحَيْعَلَتَيْنِ لِلْمُخْبِتِ الْمَكْرُوبِ، وَعِنْدَ الْإِقَامَةِ، وَعِنْدَ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعِنْدَ الْتِحَامِ الْجِهَادِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، وَفِي السُّجُودِ، وَعَقِبَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، لَا سِيَّمَا الْخَتْمُ، وَعِنْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ وَلَا الضَّالِّينَ، وَعِنْدَ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ، وَصِيَاحِ الدِّيَكَةِ، وَاجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَعِنْدَ تَغْمِيضِ الْمَيِّتِ، وَعِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ. وَأَمَّا أَمَاكِنُ الْإِجَابَةِ فَهِيَ الْمَوَاضِعُ الْمُبَارَكَةُ، وَلَا أَعْلَمُ بِوُرُودِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنْ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ «أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ» . قُلْت: إلَّا أَنْ يُقَالَ وَفِي مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ لَمَّا اسْتَجَابَ لَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ. فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ سَعْدٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَتَى مَسْجِدَ الْأَحْزَابِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَقَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ - أَيْ الْأَحْزَابِ - قَالَ جَابِرٌ فَعَرَفْنَا الْبِشْرَ فِي وَجْهِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مَوَاضِعَ اُسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ فِيهَا عَنْ تَجْرِبَةٍ. كَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَبَيْنَ الْجَلَالَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي الطَّوَافِ. وَعِنْدَ الْمُلْتَزَمِ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَرُوِيَ مُسَلْسَلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَقُومُ عَبْدٌ ثُمَّ يَعْنِي فِي الْمُلْتَزَمِ فَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ إلَّا اسْتَجَابَ لَهُ، وَفِي دَاخِلِ الْبَيْتِ، وَعِنْدَ زَمْزَمَ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَفِي الْمَسْعَى، وَخَلْفَ الْمَقَامِ، وَفِي عَرَفَاتٍ، وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَمِنًى وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ. وَفِي أَمَاكِنَ أُخْرَى جَرَّبَهَا النَّاسُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي آدَابِ الدُّعَاءِ (الثَّالِثَةُ) : فِي آدَابِ الدُّعَاءِ. ذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ لِلدُّعَاءِ تِسْعَةَ عَشَرَ أَدَبًا: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَرَصَّدَ بِهِ الْأَوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ. الثَّانِي: أَنْ يَدْعُوَ فِي الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَدْعُوَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ. الرَّابِعُ: خَفْضُ الصَّوْتِ فِي الدُّعَاءِ. الْخَامِسُ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. السَّادِسُ: أَنْ يُسَبِّحَ قَبْلَ الدُّعَاءِ عَشْرًا. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الدُّعَاءِ غَيْرَ مُتَكَلَّفٍ بَلْ عَنْ حُرْقَةٍ وَاجْتِهَادٍ. فَإِنَّ الْمَشْغُولَ بِتَسْجِيعِ الْأَلْفَاظِ وَتَرْتِيبِهَا بَعِيدٌ مِنْ الْخُشُوعِ. نَعَمْ إنْ اتَّفَقَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَعُوذُ بِك مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ. وَمِنْ عَيْنٍ لَا تَدْمَعُ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: إيَّاكَ وَالسَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ صَحِيحَ اللَّفْظِ لِتَضَمُّنِهِ مُوَاجَهَةَ الْحَقِّ بِالْخِطَابِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دُعَاءً مَلْحُونًا» . التَّاسِعُ: الْعَزْمُ فِي الدُّعَاءِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: «إذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلِيَعْزِمْ، وَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ إنْ شِئْت فَأَعْطِنِي. فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 الْعَاشِرُ: حُضُورُ الْقَلْبِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» . الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَسْأَلَ مَا يَصْلُحُ سُؤَالُهُ. فَإِنَّهُ لَوْ سَأَلَ مَرْتَبَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ مُتَعَدِّيًا. الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنْ يَدْعُوَ وَهُوَ مُوقِنٌ بِالْإِجَابَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اُدْعُوَا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ» . الثَّالِثَ عَشَرَ: التَّضَرُّعُ وَالْخُشُوعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] وَقَالَ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] . الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يُلِحَّ فِي الدُّعَاءِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» . الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يَأْكُلَ الْحَلَالَ قَبْلَ الدُّعَاءِ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ثُمَّ يَمُدُّ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ» . السَّادِسَ عَشَرَ: الْخُرُوجُ مِنْ الْمَظَالِمِ لِمَا فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات وَذَكَرَهُ ابْنُ دِينَارٍ " أَصَابَ بَنْيِ إسْرَائِيلَ بَلَاءٌ فَخَرَجُوا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى نَبِيِّهِمْ أَنْ أَخْبِرْهُمْ أَنَّكُمْ تَخْرُجُونَ إلَى الصَّعِيدِ بِأَبْدَانٍ نَجِسَةٍ، وَتَرْفَعُونَ إلَيَّ أَكُفًّا قَدْ سَفَكْتُمْ بِهَا الدِّمَاءَ، وَمَلَأْتُمْ بِهَا بُيُوتَكُمْ مِنْ الْحَرَامِ، الْآنَ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَيْكُمْ، وَلَنْ تَزْدَادُوا مِنِّي إلَّا بُعْدًا ". السَّابِعَ عَشَرَ: دَوَامُ الدُّعَاءِ فِي السَّرَّاءِ قَبْلَ نُزُولِ الضَّرَّاءِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: الدُّعَاءُ بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، فَإِنَّ تَعْلِيمَ الشَّرْعِ خَيْرٌ مِنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ. التَّاسِعَ عَشَرَ: عَدَمُ الْعَجَلَةِ كَمَا مَرَّ، انْتَهَى. زَادَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: وَتَقْدِيمُ عَمَلٍ صَالِحٍ وَالْوُضُوءُ. وَهَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنْ يَدْعُوَ فِي الْأَحْوَالِ الشَّرِيفَةِ. وَالْجَثْوُ عَلَى الرُّكَبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلًا وَآخِرًا وَوَسَطًا، وَبَسْطُ يَدَيْهِ وَرَفْعُهُمَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَكَشْفُهُمَا مَعَ تَأَدُّبٍ وَاعْتِرَافٍ بِالذَّنْبِ، وَيَبْدَأُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَخُصُّهَا إنْ كَانَ إمَامًا، وَلَا يَدْعُو بِإِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا بِأَمْرٍ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ. وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: وَأَنْ يَسْأَلَ مَا يَصْلُحُ، وَيَمْسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَرَّضَ عَلَى بَذْلِ الْجَهْدِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحَثّ عَلَى السَّهَرِ فِي نَيْلِهِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ الْمَنْظُومَةِ: إلَّا مَنْ لَهُ فِي الْعِلْمِ إلَخْ. لِأَنَّ كُلَّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَطَرِيقُهُ الْعِلْمُ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَلَا تَسْأَمَنَّ الْعِلْمَ وَاسْهَرْ لَنَيْلِهِ ... بِلَا ضَجَرِ تَحْمَدْ سُرَى اللَّيْلِ فِي غَدِ (وَلَا تَسْأَمَنَّ) لَا نَاهِيَةٌ وَتَسْأَمَنَّ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ، أَيْ لَا تَمَلَّنَّ (الْعِلْمَ) تَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا وَحِفْظًا وَمُطَالَعَةً وَكِتَابَةً. يُقَالُ سَئِمَ الشَّيْءَ وَسَئِمَ مِنْهُ كَفَرِحَ سَآمَةً وَسَآمًا وَسَآمَةً وَسَأَمًا: مَلَّ فَهُوَ سَئُومٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَقَالَ فِي لُغَةِ الْإِقْنَاعِ: سَئِمْت شَيْئًا أَسْأَمُهُ مَهْمُوزٌ مِنْ بَابِ تَعِبَ سَآمًا وَسَآمَةً بِمَعْنَى ضَجِرَتْهُ وَمَلِلْته. وَفِي التَّنْزِيلِ {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] . (وَاسْهَرْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ لَهُ الرَّاغِبُ فِيهِ لَا عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَنْ يَنَالَ الْكَرَامَةَ إلَّا مَنْ قَالَ لِلْكَرَى مَهْ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: سَهِرَ كَفَرِحَ لَمْ يَنَمْ لَيْلًا، وَرَجُلٌ سَاهِرٌ وَسَهَّارٌ وَسَهْرَانُ (لَنَيْلِهِ) أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تَنَالَهُ وَتُعْطَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِالرَّاحَةِ وَالْأَشَرِ، بَلْ بِالطَّلَبِ وَالسَّهَرِ، فَمَنْ أَلِفَ السُّهَادَ، وَتَرَكَ الْوِسَادَ وَالْمِهَادَ، وَجَابَ الْبِلَادَ، وَحُرِمَ الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ، نَالَ مِنْهُ الْمُرَادَ. مَنْ طَلَبَ وَجَدَّ وَجَدَ، وَمَنْ قَرَعَ الْبَابَ وَلَجَّ وَلَجَ. وَمَنْ أَلِفَ السَّآمَةَ وَالنَّوْمَ، وَلَمْ يَنَلْ مَا نَالَ الْقَوْمُ. فَإِذَا رَأَيْت نَفْسَك لَا تَنْهَضُ لِنَيْلِ الْعُلُوم، وَلَا تَدْأَبُ فِي إدْرَاكِ الْمَنْطُوقِ مِنْهَا وَالْمَفْهُومِ، فَاعْلَمْ أَنَّك مِمَّنْ اسْتَرْذَلَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَأَقْعَدَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 فَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: إذَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا زَهَّدَهُ فِي الْعِلْمِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُثَبِّطُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا جَاهِلٌ. وَقَالَ: لَيْسَ قَوْمٌ خَيْرًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيث. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْعِلْمَ وَتَعَلُّمَهُ وَتَعْلِيمَهُ أَفْضَلُ عَنْ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يَلِيقُ بِهِ. فَإِذَا عَلِمْت هَذَا فَعَلَيْك أَنْ تَرْفُضَ الْوَسَنَ، وَتَصْرِمَ الْحَسَنَ، وَتُجْهِدَ الْبَدَنَ، لِتَتَحَلَّى بِحِلْيَتِهِ، وَتُعَدَّ مِنْ حَمَلَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُنَالُ إلَّا بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَحَذْفِ الْوِسَادِ وَإِلْفِ السُّهَادِ. وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ بِنَشَاطٍ وَعَزْمٍ فَمِنْ ثَمَّ قَالَ (بِلَا ضَجَرِ) مِنْ طَلَبِهِ. وَسَآمَةٍ مِنْ تَعَبِهِ. يُقَالُ ضَجِرَ مِنْهُ وَبِهِ كَفَرِحَ، وَتَضَجَّرَ تَبَرَّمَ فَهُوَ ضَجِرٌ وَفِيهِ ضَجْرَةٌ بِالضَّمِّ. فَإِنْ أَسْهَرْت الْعُيُونَ، فِي حِفْظِ الْمُتُونِ، وَتَرَكْت الْوَسَنَ، وَأَجْهَدْت الْبَدَنَ. مِنْ غَيْرِ سَآمَةٍ وَلَا ضَجَرٍ، وَلَا بَطَالَةٍ وَلَا خَوَرٍ (تَحْمَدْ) أَنْتَ (سُرَى) كَهُدَى سَيْرُ عَامَّةِ اللَّيْلِ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} [الإسراء: 1] فَذَكَرَ اللَّيْلَ تَأْكِيدًا، أَوْ مَعْنَاهُ سَيْرُهُ. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ: فَائِدَةُ ذِكْرِ اللَّيْلِ الْإِشَارَةُ بِتَنْكِيرِهِ إلَى تَقْلِيلِ مُدَّتِهِ. وَالسُّرَى فِي كَلَامِ النَّاظِمِ مُضَافٌ وَ (السَّيْرُ) وَهُوَ الذَّهَابُ كَالْمَسِيرِ مُضَافٌ إلَيْهِ أَيْ تَحْمَدُ سُرَى سَيْرِك (فِي غَدٍ) عِنْدَ كَشْفِ الْغِطَاءِ وَظُهُورِ الصَّوَابِ مِنْ الْخَطَأِ، فَهُنَاكَ تَحْمَدُ جِدَّكَ وَاجْتِهَادَك، اللَّذَيْنِ بَلَّغَاك مُرَادَك، فِي دَارِ الرُّوحِ وَالرَّاحَةِ، وَقِيَامِ الرُّوحِ وَكَرْعِ الرَّاحَةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَعَلُّمُهُ لِلَّهِ حَسَنَةٌ، وَطَلَبُهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتُهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثُ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلُهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ. وَهُوَ الْأُنْسُ فِي الْوَحَدَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْخَلْوَةِ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ تَعَلَّمْ يَا مُوسَى الْخَيْرَ وَعَلِّمْهُ لِلنَّاسِ، فَإِنِّي مُنَوِّرٌ لِمُعَلِّمِ الْخَيْرِ وَمُتَعَلِّمِهِ فِي قُبُورِهِمْ حَتَّى لَا يَسْتَوْحِشُوا مَكَانَهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 وَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَنْ تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ وَعَمِلَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَيْتَ شِعْرِي أَيُّ شَيْءٍ أَدْرَكَ مَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ، وَأَيُّ شَيْءٍ فَاتَ مَنْ أَدْرَكَ الْعِلْمَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَوَّحَ اللَّهِ رُوحَهُ: لَا يَخْفَى فَضْلُ الْعِلْمِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ الْوَسِيلَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ، وَسَبَبِ الْخُلُودِ فِي النَّعِيمِ الدَّائِمِ، وَلَا يُعْرَفُ التَّقَرُّبُ إلَى الْمَعْبُودِ إلَّا بِهِ، فَهُوَ سَبَبٌ لِمَصَالِحِ الدَّارَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا كَانَ طَلَبُ الْعِلْمِ إنَّمَا يَنْفَعُ حَيْثُ خَلَصْتَ فِيهِ النِّيَّةُ وَكَانَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، حَذَّرَ النَّاظِمُ مِنْ طَلَبِهِ لِأَجْلِ الْمَالِ، أَوْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي النَّهْيِ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِلرِّيَاءِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ لِلْمَالِ وَالرِّيَا ... فَإِنَّ مِلَاكَ الْأَمْرِ فِي حُسْنِ مَقْصِدِ (وَلَا تَطْلُبَنَّ) أَنْتَ (الْعِلْمَ) الَّذِي هُوَ أَرْفَعُ الْمَطَالِبِ، وَأَسْنَى الْمَنَاقِبِ، وَهُوَ سُلَّمُ الْمَعْرِفَةِ، وَطَرِيقُ التَّوْفِيقِ لِنَيْلِ الْخُلُودِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ (لِ) نَيْلِ (الْمَالِ) الَّذِي مَآلُهُ إلَى التُّرَابِ، وَلِطَلَبِ عِمَارَةِ الدُّنْيَا الَّتِي سَبِيلُهَا إلَى الْخَرَابِ وَقَدْ وَصَفَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدُّنْيَا فَقَالَ: دَارٌ مَنْ صَحَّ فِيهَا أَمِنَ، وَمَنْ أَمِنَ غُبِنَ، وَمَنْ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ. فِي حَلَالِهَا الْحِسَابُ، وَفِي حَرَامِهَا النَّارُ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُولُ: اتَّقُوا السَّحَّارَةَ، فَإِنَّهَا تَسْحَرُ قُلُوبَ الْعُلَمَاءِ. (وَ) لَا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ أَيْضًا لِ (لرِّيَا) وَالسُّمْعَةِ، فَتَحْصُلْ عَلَى الْخُسْرَانِ وَتَضْمَنْ التَّبِعَةَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي رِيحَهَا. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَفِيهِ «وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْت فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْت فِيك الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْت وَلَكِنَّك تَعَلَّمْت لَيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْت لَيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ. فَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا صَاحِبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ يَعْنِي الْإِمَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ. قِيلَ فَأَيُّ شَيْءٍ تَصْحِيحُ النِّيَّةِ؟ قَالَ يَنْوِي أَنْ يَتَوَاضَعَ فِيهِ وَيَنْفِيَ عَنْهُ الْجَهْلَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِأَبِي دَاوُد: شَرْطُ النِّيَّةِ شَدِيدٌ حُبِّبَ إلَيَّ فَجَمَعْتُهُ. وَقَالَ لِابْنِ هَانِئٍ: الْعِلْمُ لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ. إذَا عَلِمْت هَذَا (فَ) قَدْ ظَهَرَ لَك (أَنَّ مِلَاكَ الْأَمْرِ) يَعْنِي كُلَّ الْأَمْرِ وَرُوحَهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجْتَمِعٌ (فِي حُسْنِ مَقْصِدِ) أَيْ فِي حُسْنِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، وَرَفْضِ شَائِبَةِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْأَغْرَاضِ الدَّنِيَّةِ، وَالْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: مَلَاكُ الْأَمْرِ وَيُكْسَرُ: قِوَامُهُ الَّذِي يُمْلَكُ بِهِ، وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِير: وَفِيهِ يَعْنِي الْحَدِيثَ مِلَاكُ الدِّينِ الْوَرَعُ، الْمِلَاكُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ قِوَامُ الشَّيْءِ وَنِظَامُهُ وَمَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهِ. انْتَهَى. فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِخْلَاصِ لِتَنَالَ الْخَلَاصَ، وَإِلَّا وَقَعْت فِي قَيْدِ الْأَقْفَاصِ، {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] . (تَنْبِيهٌ) : ذَكَرَ الْإِمَامُ الْعَلَامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْفُرُوعِ عَنْ شَيْخِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ طَيَّبَ اللَّهُ مَثْوَاهُ، أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا يَعْنِي طَلَبَ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَحَبَّةِ لَهُ لَا لِلَّهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الشُّرَكَاءِ فَلَيْسَ مَذْمُومًا بَلْ قَدْ يُثَابُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الثَّوَابِ، إمَّا بِزِيَادَةٍ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا فَيَتَنَعَّمُ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ كَانَ فِعْلُ كُلِّ حَسَنٍ لَمْ يُفْعَلْ لِلَّهِ مَذْمُومًا لَمَا أُطْعِمَ الْكَافِرُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ سَيِّئَاتٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ وَثَوَابِهِ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ إلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهَا إلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ: طَلَبُهُمْ لَهُ نِيَّةٌ يَعْنِي نَفْسَ طَلَبِهِ حَسَنٌ يَنْفَعُهُمْ. وَهَذَا قِيلَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ الدَّلِيلُ الْمُرْشِدُ، فَإِذَا طَلَبَهُ بِالْمَحَبَّةِ وَحَصَّلَهُ عَرَّفَهُ الْإِخْلَاصَ، فَالْإِخْلَاصُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالْعِلْمِ، فَلَوْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 طَلَبُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِخْلَاصِ لَزِمَ الدَّوْرُ، انْتَهَى. وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلَاصَةَ التَّحْقِيقِ، وَدَقِيقَةَ التَّدْقِيقِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. مَطْلَبٌ: فِي الْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِلْمِ الْعَمَلَ، فَمَنْ تَرَكَهُ لَمْ يَنَلْ إلَّا الْخَيْبَةَ وَالْوَجَلَ، وَالنَّدَامَةَ وَالْخَجَلَ. أَمَرَك النَّاظِمَ بِهِ فَقَالَ: وَكُنْ عَامِلًا بِالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْته ... لِيُهْدَى بِك الْمَرْءُ الَّذِي بِك يَقْتَدِي (وَكُنْ) أَيُّهَا الطَّالِبُ، الَّذِي فِي مَرْضَاةِ مَوْلَاك رَاغِبًا (عَامِلًا بِالْعِلْمِ) الَّذِي بَذَلْت وُسْعَك فِي تَحْصِيلِهِ، وَتَبْوِيبِهِ وَتَفْصِيلِهِ، وَتَرَكْت فِيهِ الرُّقَادَ، وَرَفَضْت لِأَجْلِهِ الْمِهَادَ وَالْوِسَادَ، وَصَرَمْت النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ، وَهَجَرْت الْوَطَنَ وَالْمِيلَادَ، وَأَلِفْت السُّهَادَ، وَعَزَفْت الْأَخْدَانَ وَالْأَحْفَادَ، وَالْإِخْوَانَ وَالْأَجْدَادَ (فِيمَا) أَيْ الْقَدْرِ الَّذِي (اسْتَطَعْته) مِنْ ذَلِكَ، وَمَعْنَى اسْتَطَاعَ أَطَاقَ، وَيُقَالُ اسْطَاعَ بِحَذْفِ التَّاءِ اسْتِثْقَالًا لَهَا مَعَ الطَّاءِ، وَيَكْرَهُونَ إدْغَامَ الطَّاءِ فِيهَا فَتُحَرَّكُ السِّينُ وَهِيَ لَا تُحَرَّكُ أَبَدًا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ {فَمَا اسْطَاعُوا} [الكهف: 97] بِالْإِدْغَامِ، فَجَمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَهَذَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ. وَلِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ قَالَ: نُبِّئْت أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ تَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ، فَقَالَ لَهُ: وَيْلك مَا كُنْت تَعْمَلُ أَمَا يَكْفِينَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ حَتَّى اُبْتُلِينَا بِك وَبِنَتِنِ رِيحِك، فَيَقُولُ كُنْت عَالِمًا فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِعِلْمِي. فَاعْمَلْ أَيُّهَا الْأَخُ بِعِلْمِك لِتَسْلَمَ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَ (لِيُهْدَى) أَيْ يُرْشَدُ وَيُسْعَدُ بِالِاقْتِدَاءِ (بِك) أَيْ بِعَمَلِك الصَّالِحِ، وَكَدْحِك النَّاجِحِ (الْمَرْءُ) أَيْ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (الَّذِي بِك) أَيْ بِعَمَلِك وَجِدِّك وَاجْتِهَادِك فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى (يَقْتَدِي) أَيْ يَتَّبِعُ وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِك، مُشْتَقٌّ مِنْ الْقُدْوَةِ بِتَثْلِيثِ الْقَافِ وَكَعِدَّةِ مَا سَنَنْت بِهِ وَاقْتَدَيْت بِهِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَلِيَحْذَرْ الْعَالِمُ وَلِيَجْتَهِدْ فَإِنَّ ذَنْبَهُ أَشَدُّ. نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْعَالِمُ يُقْتَدَى بِهِ لَيْسَ الْعَالِمُ مِثْلَ الْجَاهِلِ. وَمَعْنَاهُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: يُغْفَرُ لِسَبْعِينَ جَاهِلًا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِعَالِمٍ وَاحِدٍ. قَالَ: وَقَالَ شَيْخُنَا - يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ -: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَذَنْبُهُ مِنْ جِنْسِ ذَنْبِ الْيَهُودِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَفِي الْقَوْلِ الْعَلِيِّ لِشَرْحِ أَثَرِ سَيِّدِنَا الْإِمَامِ عَلِيٍّ مَا يَكْفِي وَيَشْفِي. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّاسَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَنْ رُزِقَ عِلْمًا وَأُعِينَ بِقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَهُمْ خُلَاصَةُ الْخَلْقِ وَمُرَادُ الْحَقِّ جَلَّ شَأْنُهُ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الأعراف: 42] . الثَّانِي: مَنْ حُرِمَهُمَا مَعًا، وَهُمْ شَرُّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَهَؤُلَاءِ شَرُّ الْبَرِّيَّةِ، يُضَيِّقُونَ الدِّيَارَ، وَيُغَلُّونَ الْأَسْعَارَ، وَعِنْدَ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ، وَلَكِنَّ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ. كَمَا قِيلَ فِيهِمْ وَفِي أَضْرَابِهِمْ وَجُلِّهِمْ إذَا فَكَّرْت فِيهِمْ حَمِيرٌ أَوْ كِلَابٌ أَوْ ذِئَابٌ. وَكَقَوْلِ الْبُحْتُرِيِّ: لَمْ يَبْقَ مِنْ جُلِّ هَذَا النَّاسِ بَاقِيَةٌ ... يَنَالُهَا الْوَهْمُ إلَّا هَذِهِ الصُّوَرُ الثَّالِثُ: مَنْ فُتِحَ عَلَيْهِ بَابُ الْعِلْمِ وَأُغْلِقَ عَنْهُ بَابُ الْعَمَلِ وَالْعَزْمِ، فَهَذَا فِي رُتْبَةِ الْجَاهِلِ بَلْ شَرٌّ مِنْهُ. وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا، فَهَذَا جَهْلُهُ وَعِلْمُهُ سَوَاءٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ جَهْلُهُ أَخَفَّ لِعَذَابِهِ مِنْ عِلْمِهِ، فَمَا زَادَهُ الْعِلْمُ إلَّا وَبَالًا، مَعَ عَدَمِ الطَّمَعِ فِي صَلَاحِهِ، بِخِلَافِ التَّائِهِ عَنْ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُرْجَى لَهُ الْعَوْدُ إلَيْهَا إذَا أَبْصَرَهَا، وَأَمَّا مَنْ رَآهَا وَحَادَ عَنْهَا فَمَتَى تُرْجَى هِدَايَتُهُ؟ ، الرَّابِعُ: مَنْ رُزِقَ حَظًّا مِنْ الْعَمَلِ وَالْإِرَادَةِ وَلَكِنْ قَلَّ نَصِيبُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَهَذَا إذَا وَافَقَ لَهُ الِاقْتِدَاءُ بِدَاعٍ مِنْ دُعَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] الْآيَة. وَيُقَالُ: إذَا فَسَدَ الْعَالِمُ فَسَدَ لِفَسَادِهِ الْعَالَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ ثَلَاثٍ: مِنْ زَلَّةِ عَالِمٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَكُنْ حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ ... تَنَلْ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ (وَكُنْ) أَيْضًا (حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى) كَفَتَى الْخَلْقِ، أَيْ كَمَا أَنَّهُ أَمَرَك أَنْ تَكُونَ عَامِلًا بِالْعِلْمِ أَمَرَك أَيْضًا أَنْ تَكُونَ حَرِيصًا مُجْتَهِدًا عَلَى نَفْعِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ أَبَرُّهُمْ لِعِيَالِهِ (وَ) كُنْ حَرِيصًا أَيْضًا عَلَى (هُدَاهُمْ) إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، وَنَجَاتِهِمْ مِنْ الْغَيِّ وَالضَّلَالَةِ، وَالْمَهْلَكَةِ وَالْجَهَالَةِ (تَنَلْ) بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِكِ (كُلَّ خَيْرٍ) مِنْ خَيْرِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ تَخْلِيدِ الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ، وَإِدَامَةِ الْعِلْمِ وَالسَّنَاءِ، وَالْقُرْبِ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَنُورِ الْبَصِيرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الْحَيْرَةِ مَعَ نُورِ الْيَقِينِ، وَكَشْفِ الْعَارِفِينَ، وَالتَّلَذُّذِ بِمُنَاجَاةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمُجَاوَرَتِهِ فِي دَارِ الْخُلْدِ السَّرْمَدِيِّ (فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ) لَا يَزُولُ أَبَدًا فِي دَارٍ لَا تَبْلَيْ ثِيَابُهَا، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهَا. وَقَدَّمْنَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ بَعْضَ أَخْبَارٍ وَآثَارٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ فَضِيلَةِ الصَّبْرِ مَطْلَبٌ] وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ الْعِلْمَ وَحَثّ عَلَى طَلَبِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَتَعْلِيمِ النَّاسِ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَكَانَ مِنْ لَازِمِ ذَلِكَ عَادَةً فِي الْغَالِبِ الْفَقْرُ حَثَّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ فَضِيلَةِ الصَّبْرِ وَأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ وَاجِبٌ وَكُنْ صَابِرًا بِالْفَقْرِ وَادَّرِعْ الرِّضَا ... بِمَا قَلَّبَ الرَّحْمَنُ وَاشْكُرْهُ تُحْمَدْ (وَكُنْ) أَيُّهَا الْأَخُ الصَّادِقُ، وَالْحِبُّ الْوَاثِقُ، وَالْخِلُّ الْمُوَافِقُ، الدَّائِبُ فِي تَحْصِيلِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، الْبَاذِلُ وُسْعَهُ لِتَقْيِيدِ الدَّقَائِقِ وَاللَّطَائِفِ، الْمَحَافِظُ عَلَى تَخْلِيدِ الرَّقَائِقِ وَالْوَظَائِفِ (صَابِرًا) لِتَحْظَى بِالْمَعِيَّةِ، وَعَنْ سَاقِ الْجِدِّ حَاسِرًا ذَا فِطْنَةٍ أَلْمَعِيَّةٍ، لِتَفُوزَ بِالْأَجْرِ وَالْفَخْرِ، وَتُعَدَّ مِنْ أَهْلِ الْعَزْمِ وَالصَّبْرِ. فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] وَالْآيَاتُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالْهِمَمُ الْعَالِيَةُ لِنَيْلِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ نَاهِضَةٌ مَصْرُوفَةٌ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الصَّبْرُ فِي الْقُرْآنِ فِي تِسْعِينَ مَوْضِعًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَرْبَابِ التَّصَوُّفِ خُلُقٌ فَاضِلٌ مِنْ أَخْلَاقِ النَّفْسِ، يَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ مَا لَا يَحْسُنُ وَلَا يَجْمُلُ، وَهُوَ قُوَّةٌ مِنْ قُوَى النَّفْسِ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ شَأْنِهَا، وَقِوَامُ أَمْرِهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الصَّبْرُ اعْتِرَافُ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِمَا أَصَابَهُ مِنْهُ وَاحْتِسَابُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَرَجَاءُ ثَوَابِهِ. وَقَدْ يَجْزَعُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ مُتَجَلِّدٌ لَا يُرَى مِنْهُ إلَّا الصَّبْرُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَام ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ. إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الرِّضَا. انْتَهَى. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي لَفْظٍ «إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ» . وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّبْرُ ضِيَاءٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» . الْهَمُّ عَلَى الْمَكْرُوهِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْحَزَنُ عَلَى الْمَاضِي، وَالْغَمُّ عَلَى النَّازِلِ بِك الْمُتَلَبِّسُ أَنْتَ بِهِ. وَالْهَمُّ يُسْهِرُ، وَالْغَمُّ يُنَوِّمُ، وَالنَّصَبُ التَّعَبُ، وَالْوَصَبُ الْمَرَضُ. قَالَ الْجُنَيْدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الصَّبْرِ: هُوَ تَجَرُّعُ الْمَرَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّسٍ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] صَبَرُوا عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَعَمَّا نُهُوا عَنْهُ. فَلِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَأَضْعَافِ أَضْعَافِهَا أَمَرَك النَّاظِمُ أَنْ تَكُونَ صَابِرًا مُتَلَبِّسًا (بِالْفَقْرِ) وَمُصَاحِبًا لَهُ. وَهُوَ بِالْفَتْحِ وَيُضَمُّ ضِدُّ الْغِنَى. مَطْلَبٌ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْفَقِيرُ مَنْ وَجَدَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ كِفَايَتِهِ أَوْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَصْلًا. وَالْمِسْكِينُ مَنْ وَجَدَ نِصْفَ كِفَايَتِهِ فَأَكْثَرَ. فَالْفَقِيرُ أَشَدُّ احْتِيَاجًا مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 الْمِسْكِينِ عِنْدَنَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ عَكْسُهُ، اخْتَارَهُ ثَعْلَبٌ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَثَعْلَبٌ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ الَّذِي لَا يُفْتَى إلَّا بِهِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وِفَاقًا لِلشَّافِعِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَقِيرَ يُطْلَقُ عَلَى الْمِسْكِينِ، وَالْمِسْكِينُ يُطْلَقُ عَلَى الْفَقِيرِ، فَهُمَا كَالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إذَا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وَإِذَا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا، وَلَيْسَا سَوَاءً بِاتِّفَاقٍ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي مَسَائِلَ، مِنْهَا إذَا أُوصِيَ لِلْفُقَرَاءِ بِكَذَا وَلِلْمَسَاكِينِ بِكَذَا، وَلَسْنَا بِصَدَدِ مَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ - أَعْلَى اللَّهُ كَعْبَهُمْ - وَإِنَّمَا قَصَدْنَا التَّنْبِيهَ عَلَى بَعْضِ مَنَاقِبِ الْفَقْرِ، فَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، وَآثَارٌ غَزِيرَةٌ. مَطْلَبٌ: فِي التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَنَاقِبِ الْفَقْرِ وَأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ فَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عَقَبَةً كَئُودًا لَا يَنْجُو مِنْهَا إلَّا كُلُّ مُخِفٍّ» وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ قُلْت لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: مَالَك لَا تَطْلُبُ كَمَا يَطْلُبُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ قَالَ: إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ وَرَاءَكُمْ عَقَبَةً كَئُودًا لَا يَجُوزُهَا الْمُثْقَلُونَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَتَخَفَّفَ لِتِلْكَ الْعَقَبَةِ» . الْكَئُودُ بِفَتْحِ الْكَافِّ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَضْمُومَةٌ هِيَ الْعَقَبَةُ الصَّعْبَةُ الشَّاقَّةُ. وَفِي حَدِيثِ الدُّعَاءِ «وَلَا يَتَكَأَّدُكَ عَفْوٌ عَنْ مُذْنِبٍ» أَيْ لَا يَصْعُبُ عَلَيْك وَيَشُقُّ كَمَا فِي النِّهَايَةِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ لَيَحْمِيَ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمْ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ» وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اطَّلَعْت فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وَاطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ «وَاطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْأَغْنِيَاءَ وَالنِّسَاءَ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيق ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ مُوسَى قَالَ: أَيْ رَبِّ عَبْدُك الْمُؤْمِنُ يُقَتَّرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إلَيْهَا، قَالَ لَهُ يَا مُوسَى هَذَا مَا أَعْدَدْت لَهُ، قَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِك وَجَلَالِك لَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقْتَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ لَمْ يَرَ بُؤْسًا قَطُّ. ثُمَّ قَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ عَبْدُكَ الْكَافِرُ تُوَسِّعُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ يَا مُوسَى هَذَا مَا أَعْدَدْت لَهُ، فَقَالَ مُوسَى أَيْ رَبِّ وَعِزَّتِك وَجَلَالِك لَوْ كَانَ لَهُ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقْتُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ كَأَنْ لَمْ يَرَ خَيْرًا قَطُّ» وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالْبَزَّارُ وَرُوَاتُهُمَا ثِقَاتٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «هَلْ تَدْرُونَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تُسَدُّ بِهِمْ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى بِهِمْ الْمَكَارِهُ؛ وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ مَلَائِكَتِهِ ايتُوهُمْ فَحَيُّوهُمْ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ رَبَّنَا نَحْنُ سُكَّانُ سَمَائِك وَخِيرَتُك مِنْ خَلْقِك أَفَتَأْمُرُنَا أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلَاءِ فَنُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ إنَّهُمْ كَانُوا عِبَادًا يَعْبُدُونِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَتُسَدُّ بِهِمْ الثُّغُورُ، وَتُتَّقَى بِهِمْ الْمَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً. قَالَ فَتَأْتِيهِمْ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] » . وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «تَجْتَمِعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ أَيْنَ فُقَرَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا عَمِلْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا ابْتَلَيْتَنَا فَصَبَرْنَا. وَوَلَّيْت الْأَمْوَالَ وَالسُّلْطَانُ غَيْرَنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَدَقْتُمْ، قَالَ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ النَّاسِ وَتَبْقَى شِدَّةُ الْحِسَابِ عَلَى ذَوِي الْأَمْوَالِ وَالسُّلْطَانِ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِي عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِأَرْبَعِمِائَةِ عَامٍ حِينَ يَقُولُ الْمُؤْمِنُ الْغَنِيُّ يَا لَيْتَنِي كُنْت عَيِّلًا، قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِّهِمْ لَنَا بِأَسْمَائِهِمْ، قَالَ هُمْ الَّذِينَ إذَا كَانَ مَكْرُوهٌ بُعِثُوا إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ نَعِيمٌ - وَفِي نُسْخَةٍ مَغْنَمٌ - بُعِثَ إلَيْهِ سِوَاهُمْ، وَهُمْ الَّذِينَ يُحْجَبُونَ عَنْ الْأَبْوَابِ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: رُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِزِيَادَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْتَقَى مُؤْمِنَانِ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مُؤْمِنٌ غَنِيٌّ وَمُؤْمِنٌ فَقِيرٌ كَانَا فِي الدُّنْيَا، فَأُدْخِلَ الْفَقِيرُ الْجَنَّةَ وَحُبِسَ الْغَنِيُّ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُحْبَسَ ثُمَّ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَلَقِيَهُ الْفَقِيرُ فَقَالَ يَا أَخِي مَا حَبَسَك، وَاَللَّهِ لَقَدْ حُبِسْت حَتَّى خِفْت عَلَيْك، فَيَقُولُ يَا أَخِي إنِّي حُبِسْت بَعْدَك مَحْبِسًا فَظِيعًا كَرِيهًا مَا وَصَلْت إلَيْك حَتَّى سَالَ مِنِّي مِنْ الْعِرْقِ مَاءٌ لَوْ وَرَدَهُ أَلْفُ بَعِيرٍ كُلُّهَا آكِلَةُ حِمْضٍ لَصَدَرَتْ عَنْهُ رِوَاءً» الْحَمْضُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَا مَلُحَ وَأَمَرَّ مِنْ النَّبَاتِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قُمْت عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَأَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إلَى النَّارِ. وَقُمْت عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ» الْجَدُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ هُوَ الْحَظُّ وَالْغِنَى. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَتَوَفَّنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ. وَإِنَّ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ مَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ إلَى قَوْلِهِ «الْمَسَاكِينُ» وَالْحَاكِمُ بِتَمَامِهِ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَحْمِلَنَّكُمْ الْعُسْرَةُ عَلَى طَلَبِ الرِّزْقِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «اللَّهُمَّ تَوَفَّنِي فَقِيرًا وَلَا تَوَفَّنِي غَنِيًّا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ فَإِنَّ أَشْقَى الْأَشْقِيَاءِ مَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ» . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «أَحِبُّوا الْفُقَرَاءَ وَجَالِسُوهُمْ، وَأَحِبَّ الْعَرَبَ مِنْ قَلْبِك، وَلْيَرُدَّك عَنْ النَّاسِ مَا تَعْلَمُ مِنْ نَفْسِك» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا مُحْتَجٌّ بِهِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ» . . وَفِي الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَبُو الْأَشْهَبِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَيْمَنَ مَوْلَى كَعْبِ بْنِ سَوْرٍ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ إذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْفُقَرَاءِ فَجَلَسَ إلَى جَنْبِ رَجُلٍ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَ مِنْ ثِيَابِهِ عَنْهُ، فَتَغَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَخَشِيت يَا فُلَانُ أَنْ يَعْدُوَ غِنَاك عَلَيْهِ وَأَنْ يَعْدُوَ فَقْرُهُ عَلَيْك؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَشَرٌّ الْغِنَى؟ قَالَ نَعَمْ إنَّ غِنَاك يَدْعُوك إلَى النَّارِ وَإِنَّ فَقْرَهُ يَدْعُوهُ إلَى الْجَنَّةِ. قَالَ فَمَا يُنْجِينِي مِنْهُ؟ قَالَ تُوَاسِيهِ، قَالَ إذَنْ أَفْعَلُ، فَقَالَ الْآخَرُ لَا أَرَبَ لِي فِيهِ. قَالَ فَاسْتَغْفِرْ وَادْعُ لِأَخِيك» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ " أُعْطِينَا مَا أُعْطِينَا مِنْ الدُّنْيَا، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ. وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا عَمَّارَ بْنَ سَيْفٍ، وَقَدْ وُثِّقَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ثُمَّ أَقْبَلَ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَقَدْ بَطَّأَ بِك غِنَاك مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي حَتَّى خَشِيت أَنْ تَكُونَ هَلَكْت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 وَعَرِقْت عَرَقًا شَدِيدًا فَقَالَ: مَا بَطَّأَ بِك؟ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ كَثْرَةِ مَالِي مَا زِلْت مَوْقُوفًا مُحَاسَبًا أُسْأَلُ عَنْ مَالِي مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْته وَفِيمَا أَنْفَقْته، فَبَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ مِائَةُ رَاحِلَةٍ جَاءَتْنِي اللَّيْلَةَ مِنْ تِجَارَةِ مِصْرَ فَإِنِّي أُشْهِدُك أَنَّهَا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَة وَأَيْتَامِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ يُخَفِّفُ عَنِّي ذَلِكَ الْيَوْمَ» . قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ مَا وَجْهٍ وَمِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا لِكَثْرَةِ مَالِهِ» وَلَا يَسْلَمُ أَجْوَدُهَا مِنْ مَقَالٍ. وَلَا يَبْلُغُ شَيْءٌ مِنْهَا بِانْفِرَادِ دَرَجَةِ الْحُسْنِ. وَلَقَدْ كَانَ مَالُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» فَأَنَّى يُنْقِصُ دَرَجَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُقَصِّرُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَغْنِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، إنَّمَا صَحَّ سَبْقُ فُقَرَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَغْنِيَاءَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْفَقِيرِ الصَّابِرِ آدَابًا. فَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ لَا يَكْرَهَ مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَقْرِ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ. وَأَرْفَعُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِالْفَقْرِ. وَأَرْفَعُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لَهُ وَفَرِحًا بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: مَطْلَبٌ: فِي اتِّخَاذِ الرِّضَا دِرْعًا، وَهَلْ هُوَ كَسْبِي أَوْ وَهْبِي؟ (وَادَّرِعْ) أَصْلُهُ ادْتَرَعَ بَعْدَ نَقْلِ دَرِعَ إلَى الِافْتِعَالِ قُلِبَتْ التَّاءُ دَالًا فَصَارَ ادْدَرَعَ بِدَالَيْنِ فَأُدْغِمَتْ الدَّالُ فِي الدَّالِ الْأُخْرَى لِوُجُوبِ الِادِّغَامِ فَصَارَ ادَّرِعْ أَنْتَ (الرِّضَا) أَيْ اتَّخِذْ الرِّضَا دِرْعًا، يُقَالُ ادَّرَعَ الرَّجُلُ إذَا لَبِسَ الْحَدِيدَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفُلَانٌ ادَّرَعَ اللَّيْلَ إذَا دَخَلَ فِي ظُلْمَتِهِ يَسْرِي كَأَنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ دِرْعًا؛ لِأَنَّ الدِّرْعَ يَسْتُرُ مِنْ وَقْعِ الْأَسِنَّةِ وَاللَّيْلُ يَسْتُرُ بِظُلْمَتِهِ عَنْ أَعْيُنِ الرُّقَبَاءِ. فَإِذَا لَبِسَ الْفَقِيرُ دِرْعَ الرِّضَا فَقَدْ سَلِمَ مِنْ حِرَابِ الْجَزَعِ وَأَسِنَّةِ التَّسَخُّطِ وَنِبَالِ التَّبَرُّمِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرِّضَا ضِدُّ السُّخْطِ. قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدٌ اسْتِحْبَابُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَحْكِيهِمَا قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ يَذْهَبُ إلَى الْقَوْلِ بِاسْتِحْبَابِهِ. قَالَ: وَلَمْ يَجِئْ الْأَمْرُ بِهِ كَمَا جَاءَ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الثَّنَاءُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَمَدْحِهِمْ. قَالَ: وَأَمَّا مَا يُرْوَى مِنْ الْأَثَرِ: مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي فَلْيَتَّخِذْ رَبًّا سِوَائِي، فَهَذَا أَثَرٌ إسْرَائِيلِيٌّ لَيْسَ يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: قُلْت وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الَّتِي لَيْسَتْ مُكْتَسَبَةً وَأَنَّهُ مَوْهِبَةٌ مَحْضَةٌ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ وَلَيْسَ مَقْدُورًا. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَرْبَابُ السُّلُوكِ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ، فَالْخُرَاسَانِيُّونَ قَالُوا إنَّ الرِّضَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ وَهُوَ نِهَايَةُ التَّوَكُّلِ. فَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَيْهِ الْعَبْدُ بِاكْتِسَابِهِ. وَالْعِرَاقِيُّونَ قَالُوا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ، وَلَيْسَ كَسْبِيًّا لِلْعَبْدِ، بَلْ هُوَ نَازِلَةٌ تَحِلُّ بِالْقَلْبِ كَسَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ أَنَّ الْمَقَامَاتِ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَكَاسِبِ، وَالْأَحْوَالَ مُجَرَّدُ الْمَوَاهِبِ. وَحَكَمَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الرِّسَالَةِ يَعْنِي الْقُشَيْرِيَّ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُقَالَ: بِدَايَةُ الرِّضَا مُكْتَسَبَةٌ لِلْعَبْدِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ، وَنِهَايَتُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ، فَأَوَّلُهُ مَقَامٌ وَنِهَايَتُهُ حَالٌ. وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَامَاتِ بِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ أَهْلَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَنَدَبَهُمْ إلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ. وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» وَقَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ» . وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ مَقَامَاتِ الدِّينِ، وَإِلَيْهِمَا يَنْتَهِي، وَقَدْ تَضَمَّنَا الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَالرِّضَا بِرَسُولِهِ وَالِانْقِيَادَ لَهُ، وَالرِّضَا بِدِينِهِ وَالتَّسْلِيمَ لَهُ وَمَنْ اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَهُوَ الصِّدِّيقُ حَقًّا، وَهِيَ سَهْلَةٌ بِالدَّعْوَى وَاللِّسَانِ، وَمِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالِامْتِحَانِ، وَلَا سِيَّمَا إذَا جَاءَ مَا يُخَالِفُ هَوَى النَّفْسِ وَمُرَادَهَا. وَلَسْنَا بِصَدَدِ بَيَانِ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرِّضَا كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ، وَهْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ، فَمَنْ تَمَكَّنَ بِالْكَسْبِ لِأَسْبَابِهِ وَغَرَسَ شَجَرَتَهُ اجْتَنَى مِنْهَا ثَمَرَةَ الرِّضَا، فَإِنَّهُ آخِرُ التَّوَكُّلِ، فَمَنْ رَسَخَ قَدَمُهُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ حَصَلَ لَهُ الرِّضَا وَلَا بُدَّ. وَلَكِنْ لِعِزَّتِهِ وَعَدَمِ إجَابَةِ أَكْثَرِ النُّفُوسِ لَهُ وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ. نَعَمْ نَدَبَهُمْ إلَيْهِ وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ رِضَاهُ عَنْهُمْ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنْ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا، فَمَنْ رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بَلْ رِضَا الْعَبْدِ عَنْ اللَّهِ مِنْ نَتَائِجِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ، فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِنَوْعَيْنِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ، رِضًا قَبْلَهُ أَوْجَبَ لَهُ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، وَرِضًا بَعْدَهُ هُوَ ثَمَرَةُ رِضَاهُ عَنْهُ. وَلِذَا كَانَ الرِّضَا بَابَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، وَجَنَّةَ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحَ الْعَارِفِينَ، وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةَ أَعْيُنِ الْمُشْتَاقِينَ. وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حُصُولِ الرِّضَا أَنْ يَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رِضَاهُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُوَصِّلُهُ إلَى مَقَامِ الرِّضَا وَلَا بُدَّ. قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إلَى مَقَامِ الرِّضَا؟ فَقَالَ إذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ، فَيَقُولُ إنْ أَعْطَيْتنِي قَبِلْت، وَإِنْ مَنَعْتنِي رَضِيت، وَإِنْ تَرَكَتْنِي عَبَدْت، وَإِنْ دَعَوْتنِي أَجَبْت. وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْدَ أَمْرِهِ بِاِتِّخَاذِ الرِّضَا دِرْعًا وَجُنَّةً وَوِقَايَةً يَتَحَصَّنُ بِهِ عَنْ اخْتِلَاجِ الْقَلْبِ وَاضْطِرَابِهِ مِنْ النَّوَائِبِ وَالْخَطَرَاتِ وَالْهَوَاجِسِ وَالشُّبُهَاتِ، بَلْ يَكُونُ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ سَاكِنَ اللُّبِّ (لِ) جَمِيعِ (مَا) أَيْ الَّذِي (قَلَّبَ) هـ (الرَّحْمَنُ) جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصَرَّفَهُ وَقَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمَحْبُوبَاتِ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ وَبَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ قَالَ الْجُنَيْدُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: الرِّضَا هُوَ صِحَّةُ الْعِلْمِ الْوَاصِلِ إلَى الْقَلْبِ، فَإِذَا بَاشَرَ الْقَلْبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ أَدَّاهُ إلَى الرِّضَا، وَلَيْسَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَإِنَّ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يُفَارِقَانِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْبَرْزَخِ وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَإِنَّهُمَا يُفَارِقَانِ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِحُصُولِ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ، وَأَمْنِهِمْ مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَهُ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 رَجَاؤُهُمْ لِمَا يَنَالُونَ مِنْ كَرَامَتِهِ دَائِمًا لَكِنَّهُ لَيْسَ رَجَاءً مَشُوبًا بِشَكٍّ. بَلْ رَجَاءَ وَاثِقٍ بِوَعْدٍ صَادِقٍ مِنْ حَبِيبٍ قَادِرٍ، فَهَذَا لَوْنٌ وَرَجَاؤُهُمْ فِي الدُّنْيَا لَوْنٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ الإسكندراني - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الرِّضَا سُكُونُ الْقَلْبِ إلَى قِدَمِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ اخْتَارَ لَهُ الْأَفْضَلَ فَيَرْضَى بِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا الرِّضَا بِمَا مِنْهُ، وَأَمَّا الرِّضَا بِهِ فَأَعْلَى مِنْ هَذَا وَأَفْضَلُ، فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ هُوَ رَاضٍ بِمَحْبُوبِهِ وَبَيْنَ رِضَاهُ فِيمَا يَنَالُهُ مِنْ مَحْبُوبِهِ مِنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرِّضَا أَنْ لَا يَحُسَّ بِالْأَلَمِ وَالْمَكَارِهِ، بَلْ أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَى الْحُكْمِ وَلَا يَتَسَخَّطَهُ. وَلِهَذَا أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الرِّضَا بِالْمَكْرُوهِ وَطَعَنُوا فِيهِ وَقَالُوا: هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى الطَّبِيعَةِ وَإِنَّمَا هُوَ الصَّبْرُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الرِّضَا وَالْكَرَاهَةُ وَهُمَا ضِدَّانِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ وُجُودَ التَّأَلُّمِ وَكَرَاهَةِ النَّفْسِ لَهُ لَا تُنَافِي الرِّضَا، كَرِضَا الْمَرِيضِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، وَرِضَا الصَّائِمِ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْحَرِّ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ، وَرِضَا الْمُجَاهِدِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ قَالَ الْوَاسِطِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: اسْتَعْمِلْ الرِّضَا جَهْدَك وَلَا تَدَعْ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُك فَتَكُونَ مَحْجُوبًا بِلَذَّتِهِ وَرُؤْيَتِهِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا تُطَالِعُ. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَقَبَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ الْقَوْمِ وَمَقْطَعٌ لَهُمْ، فَإِنَّ مُسَاكَنَةَ الْأَحْوَالِ وَالسُّكُونَ إلَيْهَا وَالْوُقُوفَ عِنْدَهَا اسْتِلْذَاذًا وَمَحَبَّةً حِجَابٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ بِحُظُوظِهِمْ عَنْ مُطَالَعَةِ حُقُوقِ مَحْبُوبِهِمْ وَمَعْبُودِهِمْ، وَهِيَ عَقَبَةٌ لَا يَجُوزُهَا إلَّا أُولُو الْعَزَائِمِ، وَكَانَ الْوَاسِطِيُّ كَثِيرَ التَّحْذِيرِ مِنْ هَذِهِ شَدِيدَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا. وَمِنْ كَلَامِهِ: إيَّاكُمْ وَاسْتِحْلَاءَ الطَّاعَاتِ فَإِنَّهَا سَمُومٌ قَاتِلَةٌ. فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ اسْتَعْمِلْ الرِّضَا لَا تَدَعْ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُك، أَيْ لَا يَكُونُ عَمَلُك لِأَجْلِ حُصُولِ حَلَاوَةِ الرِّضَا بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ الْبَاعِثَةَ لَك عَلَيْهِ، بَلْ اجْعَلْهُ آلَةً لَك وَسَبَبًا مُوَصِّلًا إلَى مَقْصُودِك وَمَطْلُوبِك، فَتَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لَهُ لَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَك. وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالرِّضَا بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي يَسْكُنُ إلَيْهَا الْقَلْبُ. قَالَ ذُو النُّونِ: ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الرِّضَا: تَرْكُ الِاخْتِيَارِ قَبْلَ الْقَضَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 وَفِقْدَانُ الْمَرَارَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَهَيَجَانُ الْحُبِّ فِي حَشْوِ الْبَلَاءِ وَقِيلَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنَّ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: الْفَقْرُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْغِنَى، وَالسَّقَمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصِّحَّةِ، فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: مَنْ اتَّكَلَ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَتَمَنَّ غَيْرَ مَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِبِشْرٍ الْحَافِي: الرِّضَا أَفْضَلُ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الرَّاضِيَ لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ. وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» فَقَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا، وَالرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَاءُ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الرِّضَا، فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَرْضَى وَإِلَّا فَالصَّبْرُ. وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ لَا سِيَّمَا أَرْبَابُ الْقُلُوبِ مِنْ الْكَلَامِ فِي الرِّضَا، فَقِيلَ هُوَ ارْتِفَاعُ الْجَزَعِ فِي أَيِّ حُكْمٍ كَانَ. وَقِيلَ رَفْعُ الِاخْتِيَارِ، وَقِيلَ اسْتِقْبَالُ الْأَحْكَامِ بِالْفَرَحِ. وَقِيلَ سُكُونُ الْقَلْبِ تَحْتَ مَجَارِي الْأَحْكَامِ. وَقِيلَ نَظَرُ الْقَلْبِ إلَى قَدِيمِ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ. وَلِلْفَقِيرِ فِي الرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَّا شِعْرُ: أَنَا فِي الْهَوَى عَبْدُ ... وَمَا لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَعَرَّضَا مَالِي عَلَى مُرِّ الْقَضَا ... مِنْ حِيلَةٍ غَيْرِ الرِّضَا [مَطْلَبٌ: خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ] (تَنْبِيهٌ) : خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فِي نَحْوِ مَا يُخَالِفُ بِهِ الطَّاعَةَ، وَيَكْتَسِبُ بِهِ الْإِثْمَ وَخُسْرَانَ الْبِضَاعَةِ، أَنَّا نَرْضَى بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الرَّبِّ جَلَّ شَأْنُهُ، دُونَ الْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ، وَالْفِعْلَ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ وَاجِبٌ وَهُوَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ وَقَاعِدَةُ الْإِيمَانِ، فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِهِ بِلَا حَرَجٍ وَلَا مُنَازَعَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ وَلَا اعْتِرَاضٍ. قَالَ تَعَالَى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ، وَيَرْتَفِعَ الْحَرَجُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مِنْ حُكْمِهِ، وَيُسَلِّمُوا لِحُكْمِهِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الرِّضَا بِحُكْمِهِ؛ فَالتَّحْكِيمُ فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ، وَالتَّسْلِيمُ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَمَتَى خَالَطَ الْقَلْبُ بَشَاشَةَ الْإِيمَانِ، وَاكْتَحَلَتْ بَصِيرَتُهُ بِحَقِيقَةِ الْيَقِينِ، وَحَيِيَ بِرُوحِ الْوَحْيِ وَتَمَهَّدَتْ طَبِيعَتُهُ، وَانْقَلَبَتْ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ مُطْمَئِنَّةً رَاضِيَةً وَادِعَةً، وَتَلَقَّى أَحْكَامَ الرَّبِّ تَعَالَى بِصَدْرٍ وَاسِعٍ مُنْشَرِحٍ مُسْلِمٍ، فَقَدْ رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا بِهَذَا الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ الْمُوَافِقِ لِمَحَبَّةِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ وَرِضَاهُ مِنْ الصِّحَّةِ وَالْغِنَى وَالْعَافِيَةِ وَاللَّذَّةِ أَمْرٌ لَازِمُ لِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ، فَإِنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَبْدِ مَحْبُوبٌ لَهُ، فَلَيْسَ فِي الرِّضَا بِهِ عُبُودِيَّةٌ فِي مُقَابَلَتِهِ بِالشُّكْرِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْمِنَّةِ وَوَضْعِ النِّعْمَةِ مَوَاضِعَهَا الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ تُوضَعَ فِيهَا، وَأَنْ لَا يَعْصِيَ الْمُنْعِمَ بِهَا. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ الْجَارِي عَلَى خِلَافِ مُرَادِ الْعَبْدِ وَمَحَبَّتِهِ مِمَّا يُلَائِمُ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ، وَهَذَا كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَأَذَى الْخَلْقِ لَهُ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْآلَامِ. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الْجَارِي عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ كَأَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَرَامٌ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ وَلَا يُحِبُّهُ، فَكَيْفَ تَتَّفِقُ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا بِمَا يَسْخَطُهُ الْحَبِيبُ وَيَبْغُضُهُ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَعَلَيْك بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَأَطَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. مَطْلَبٌ: فِي الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الرِّضَا بِالْفَقْرِ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ وَاجِبٌ. وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّبْرَ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ، وَأَرْقَى مِنْهُ الرِّضَا، وَأَرْقَى مِنْهُمَا الشُّكْرُ، بِأَنْ تَرَى نَفْسَ الْفَقْرِ مَثَلًا نِعْمَةً مِنْ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْك، وَأَنَّ لَهُ عَلَيْك شُكْرَهَا، وَلِهَذَا الْمَقَامِ أَشَارَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ (وَاشْكُرْهُ) أَنْتَ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْك مِنْ الْفَرَاغِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِشَهَادَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» . وَتَقَدَّمَ أَنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِيمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ هُوَ أَنْ لَا يَعْصِيَ اللَّهَ بِنِعَمِهِ. وَالشُّكْرُ إمَّا عَلَى مَحْبُوبٍ، وَهَذَا - كَمَا قَالَ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ - شَارَكَتْ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، وَمِنْ سَعَةِ بِرِّ الْبَارِي أَنَّهُ عَدَّهُ شُكْرًا وَوَعَدَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَأَوْجَبَ لَهُ الْمَثُوبَةَ، وَأَمَّا فِي الْمَكَارِهِ، وَهَذَا مِمَّنْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْحَالَاتُ إظْهَارًا لِلرِّضَا وَمِمَّنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ كَظْمًا لِلشَّكْوَى وَرِعَايَةً لِلْأَدَبِ وَسُلُوكُ مَسْلَكِ الْعِلْمِ، وَهَذَا الشَّاكِرُ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ، وَأَمَّا مَنْ عَبَدَ اسْتَغْرَقَ فِي جَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُشْهِدُ إلَّا الْمُنْعِمَ، فَإِذَا شَهَّدَ الْمُنْعِمَ عُبُودَةً اسْتَعْظَمَ مِنْهُ النِّعْمَةَ، فَإِذَا شَهِدَهُ حُبًّا اسْتَحْلَى مِنْهُ الشِّدَّةَ، فَإِذَا شَهِدَهُ تَفْرِيدًا لَمْ يَشْهَدْ مِنْهُ شِدَّةً وَلَا نِعْمَةً. وَإِلَى مَقَامِ مُشَاهَدَتِهِ حُبًّا وَاسْتِحْلَاءَ الشِّدَّةِ مِنْهُ أَمَرَك النَّاظِمَ بِالشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ الشِّدَّةِ؛ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ، فَإِنْ فَعَلْت (تُحْمَدْ) بِالْجَزْمِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَّةِ عَلَى شُكْرِك لَهُ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ، وَالتَّحَدُّثَ بِالنِّعْمَةِ شُكْرٌ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ، وَبَابُ الشُّكْرِ وَاسِعٌ. وَلِلَّهِ عَلَى الْعِبَادِ نِعَمٌ لَوْ أَنْفَقُوا جَمِيعَ عُمُرِهِمْ فِي الطَّاعَةِ مِنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالذِّكْرِ مَا أَدَّوْا شُكْرَ مِعْشَارِ عُشْرِهَا، فَسُبْحَانَ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى خَلْقِهِ بِنِعَمِهِ. مَطْلَبٌ: الْعِزُّ فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا بِالْكَفَافِ فَمَا الْعِزُّ إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا ... بِأَدْنَى كَفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّدِ (فَمَا الْعِزُّ) وَالرِّفْعَةُ (إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ) بِالْفَتْحِ مِنْ قَنِعَ كَتَعِبَ، الرِّضَا بِالْقَسْمِ، وَهُوَ قَنِعٌ وَقَنُوعٌ وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ أَقْنَعَنِي، وَأَمَّا الْقُنُوعُ بِالضَّمِّ فَهُوَ السُّؤَالُ، وَالتَّذَلُّلُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الرِّضَا بِالْقَسْمِ مِنْ بَابِ الْأَضْدَادِ وَفِعْلُهُ كَمَنَعَ. وَمِنْ دُعَائِهِمْ: نَسْأَلُ اللَّهَ الْقَنَاعَةَ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ الْقُنُوعِ. وَفِي الْمَثَلِ: " خَيْرُ الْغِنَى الْقَنُوعُ، وَشَرُّ الْفَقْرِ الْخُضُوعُ ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 فَإِنَّك مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْت فَإِنَّك مُفَارِقُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ النَّاسِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» . وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَاهُ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنِعَ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَفَافِ مَا كَفَّ عَنْ سُؤَالٍ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى» . قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْهَا لَا يَنْقَطِعُ كُلَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا قَنِعَ بِمَا دُونَهُ وَرَضِيَ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ «عَزَّ مَنْ قَنِعَ وَذَلَّ مَنْ طَمِعَ» لِأَنَّ الْقَانِعَ لَا يُذِلُّهُ الطَّلَبُ فَلَا يَزَالُ عَزِيزًا. قُلْت: ذَكَرَ فِي التَّمْيِيزِ حَدِيثَ «الْقَنَاعَةُ مُلْكٌ لَا يَنْفَدُ، وَكَنْزٌ لَا يَفْنَى» وَقَالَ ضَعِيفٌ، وَقَالَ فِي الْقَنَاعَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، انْتَهَى. وَأَوْرَدَهُ السُّيُوطِيّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِدُونِ " وَكَنْزٌ لَا يَفْنَى " وَعَزَاهُ لِلْقُضَاعِيِّ، زَادَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيَّ وَالدَّيْلَمِيَّ ثُمَّ قَالَ بِإِسْنَادٍ وَاهٍ وَرَأَى ابْنُ السَّمَّاكِ رَجُلًا سَأَلَ آخَرَ حَاجَةً فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَالَ: ابْنُ السَّمَّاكِ أَيُّهَا الرَّجُلُ عَلَيْك بِالْقَنَاعَةِ فَإِنَّهَا الْعِزُّ، ثُمَّ أَنْشَدَ: إنِّي أَرَى مَنْ لَهُ قَنُوعُ ... يَعْدِلُ مَنْ نَالَ مَا تَمَنَّى وَالرِّزْقُ يَأْتِي بِلَا عَنَاءِ ... وَرُبَّمَا فَاتَ مَنْ تَعَنَّى وَفَسَّرَ قَوْله تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ الْقَنَاعَةُ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا بُنَيَّ إذَا طَلَبْت الْغِنَى فَاطْلُبْهُ بِالْقَنَاعَةِ فَإِنَّهَا مَالٌ لَا يَنْفُذُ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ فَقْرٌ حَاضِرٌ، وَعَلَيْك بِالْإِيَاسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَإِنَّك لَا تَيْأَسُ مِنْ شَيْءٍ إلَّا أَغْنَاك اللَّهُ عَنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 فَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَأَمْثَالِهَا قَالَ النَّاظِمُ فَمَا الْعِزُّ إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ (وَ) هِيَ (الرِّضَا بِأَدْنَى) أَيْ بِأَقَلِّ (كَفَافٍ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَا يَكْفِيك عَنْ السُّؤَالِ. وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ الْكِفَايَةِ. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ سُئِلَ مَا الْكَفَافُ مِنْ الرِّزْقِ؟ قَالَ: شِبَعُ يَوْمٍ وَجُوعُ يَوْمٍ (حَاصِلٌ) لَك بِأَنْ كَانَ عِنْدَك مَا يَكْفِيك أَوْ يَأْتِيك مِنْ غَلَّةٍ أَوْ ضَيْعَةٍ مَا يَكْفِيك وَيَوْمًا بِيَوْمٍ أَوْ عَامًا بِعَامٍ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا حَصَلْت عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَفُتْك شَيْءٌ مِنْ أُصُولِ الْمَعِيشَةِ وَلَا حَاجَةَ لَك فِيمَا يُنَافِسُ فِيهِ الْمُتْرَفُونَ مِنْ فُضُولِ الْمَعِيشَةِ، فَإِنَّهُ - مَعَ كَوْنِهِ مَسْئُولًا عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - هَمٌّ حَاضِرٌ، وَقَطْعُ أَيَّامَ الْعُمُرِ فِيمَا يَئُولُ إلَى التُّرَابِ، وَأَنْفَاسُ الْعَبْدِ مَحْسُوبَةٌ عَلَيْهِ، وَهِيَ جَوَاهِرُ ثَمِينَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُنْفَقَ فِي التُّرَابِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْقَنَاعَةُ. إنَّ الْقَنَاعَةَ مَنْ يَحْلُلْ بِسَاحَتِهَا ... لَمْ يَلْقَ فِي ظِلِّهَا هَمًّا يُؤَرِّقُهُ وَقَالَ آخَرُ: اقْنَعْ بِرِزْقٍ يَسِيرٍ أَنْتَ نَائِلُهُ ... وَاحْذَرْ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِلْإِرَادَاتِ فَمَا صَفَا الْبَحْرُ إلَّا وَهُوَ مُنْتَقِصُ ... وَلَا تَكَدَّرَ إلَّا بِالزِّيَادَاتِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ لِشَقِيقٍ: أَخْبِرْنِي عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ: قَالَ شَقِيقٌ قُلْت: إنْ رُزِقْت أَكَلْت، وَإِنْ مُنِعْت صَبَرْت، قَالَ: هَكَذَا تَعْمَلُ كِلَابُ بَلْخِي. قُلْت فَكَيْفَ تَعْمَلُ أَنْتَ؟ قَالَ: إذَا رُزِقْت آثَرْت، وَإِذَا مُنِعْت شَكَرْت، فَعَدَّ الْمَنْعَ عَطَاءً يُشْكَرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: تَفَكَّرْت فِي قَوْلِ شَيْبَانَ الرَّاعِي لِسُفْيَانَ: يَا سُفْيَانُ عُدَّ مَنْعَ اللَّهِ إيَّاكَ عَطَاءً مِنْهُ لَك، فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْك بُخْلًا إنَّمَا مَنَعَك لُطْفًا، فَرَأَيْته كَلَامَ مَنْ قَدْ عَرَفَ الْحَقَائِقَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُرِيدُ الْمُسْتَحْسَنَاتِ الْفَائِقَاتِ فَلَا يَقْدِرُ، وَعَجْزُهُ أَصْلَحُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِنَّ تَشَتَّتَ قَلْبُهُ، إمَّا لِحِفْظِهِنَّ أَوْ بِالْكَسْبِ عَلَيْهِنَّ، فَإِنْ قَوِيَ عِشْقُهُ لَهُنَّ ضَاعَ عُمُرُهُ، وَانْقَلَبَ هَمُّ الْآخِرَةِ إلَى الِاهْتِمَامِ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ يُرِدْنَهُ فَذَاكَ الْهَلَاكُ الْأَكْبَرُ، وَإِنْ طَلَبْنَ نَفَقَةً لَمْ يُطِقْهَا كَانَ سَبَبَ ذَهَابِ مُرُوءَتِهِ وَهَلَاكِ عِرْضِهِ، وَإِنْ مَاتَ مَعْشُوقٌ هَلَكَ هُوَ أَسَفًا، فَاَلَّذِي يَطْلُبُ الْفَائِقَ يَطْلُبُ سِكِّينًا لِذَبْحِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 وَمَا يَعْلَمُ، وَكَذَلِكَ إنْفَاذُ قَدْرِ الْقُوَّةِ فَإِنَّهُ نِعْمَةٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا» وَفِي رِوَايَةٍ «كَفَافًا» وَمَتَى كَثُرَ تُشَتَّتُ الْهِمَمُ. فَالْعَاقِلُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لِلتَّنْعِيمِ فَقَنِعَ بِدَفْعِ الْوَقْتِ فِي كُلِّ حَالٍ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الْقَنَاعَةُ فَالْزَمْهَا تَعِشْ مَلِكًا ... لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إلَّا رَاحَةَ الْبَدَنِ وَانْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا ... هَلْ رَاحَ مِنْهَا سِوَى بِالْقُطْنِ وَالْكَفَنِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ عُيُونِ الْحِكَايَاتِ قَالَ الْعُمَرِيُّ السَّقَطِيُّ: رَأَيْت الْبُهْلُولَ وَقَدْ دَلَّى رِجْلَهُ فِي قَبْرٍ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالتُّرَابِ، قُلْت أَنْتَ هَاهُنَا؟ قَالَ: نَعَمْ عِنْدَ قَوْمٍ لَا يُؤْذُونِي، وَإِنْ غِبْت لَا يَغْتَابُونِي. قُلْت لَهُ إنَّ السِّعْرَ قَدْ غَلَا. قَالَ لَوْ بَلَغَتْ كُلُّ حَبَّةٍ بِمِثْقَالٍ لَا أُبَالِي، نَعْبُدُهُ كَمَا أَمَرَنَا، وَيَرْزُقُنَا كَمَا وَعَدَنَا. ثُمَّ أَنْشَدَ يَقُولُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَفْنَيْت عُمُرَك فِيمَا لَسْت تُدْرِكُهُ ... وَلَا تَنَامُ عَنْ اللَّذَّاتِ عَيْنَاهُ يَا مَنْ تَمَتَّعَ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا ... يَقُولُ لِلَّهِ مَاذَا حِينَ يَلْقَاهُ أَنْبَأَنِي كُلٌّ مِنْ مَشَايِخِي، الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ التَّغْلِبِيُّ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُجْلِدُ عَنْ الشَّيْخِ عَبْدِ الْبَاقِي الْحَنْبَلِيِّ الْأَثَرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا الْمُقْرِي عَنْ أَحْمَدَ الْقَاضِي عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَمِّهِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ فَهْدٍ؛ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مُسْنَدِ الْآفَاقِ، عَنْ أَبِي النُّونِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْقَوِيِّ الْعَسْقَلَانِيِّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمُقِيرُ الْبَغْدَادِيُّ نَا لَاحِقُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ كَارَةَ نَا أَبُو عَلِيٍّ نَبْهَانُ نَا الحيسوب دوما نَا أَبُو بَكْرٍ الدَّرَّاعُ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ مَسْرُوقٍ قَالَ: سُئِلَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ الْقَنَاعَةِ فَقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا التَّمَتُّعُ بِعِزِّ الْغِنَى لَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: أَفَادَتْنَا الْقَنَاعَةُ أَيَّ عِزٍّ ... وَلَا عِزَّ أَعَزُّ مِنْ الْقَنَاعَهْ فَخُذْ مِنْهَا لِنَفْسِك رَأْسَ مَالْ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ تَحُزْ حَالَيْنِ تَغْنَى عَنْ بَخِيلٍ ... وَتَسْعَدُ فِي الْجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَهْ ثُمَّ قَالَ: مُرُوءَةُ الْقَنَاعَةِ أَشْرَفُ مِنْ مُرُوءَةِ الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ. وَمِنْ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 وَجَدْت الْقَنَاعَةَ ثَوْبَ الْغِنَى ... فَصِرْت بِأَذْيَالِهَا أَمْتَسِكْ فَأَلْبَسَنِي جَاهُهَا حُلَّةً ... يَمُرُّ الزَّمَانُ وَلَمْ تُنْتَهَكْ فَصِرْت غَنِيًّا بِلَا دِرْهَمٍ ... أَمُرُّ عَزِيزًا كَأَنِّي مَلِكْ مَطْلَبٌ: فِي الزُّهْدِ وَلَمَّا كَانَ مِنْ لَازِمِ الْقَنَاعَةِ الزُّهْدُ، وَكَانَ الْعِزُّ فِيهِمَا جَمِيعًا، عَطَفَ الزُّهْدَ عَلَيْهَا فَقَالَ: (وَ) فِي (التَّزَهُّدِ) تَفَعُّلٌ مِنْ زَهِدَ ضِدُّ رَغِبَ، كَأَنَّهُ تَكَلُّفُ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ جَاءَ فِي مَدْحِ الزُّهْدِ أَخْبَارٌ وَآثَارٌ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَالسَّلَفِ وَالْأَخْيَارِ. فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَحَسَّنَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ كَالنَّوَوِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ، قَالَ ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّك اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّك النَّاسُ» . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مُعْضَلًا عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُحِبُّنِي اللَّهُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّنِي النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّك اللَّهُ عَلَيْهِ فَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي يُحِبُّك النَّاسُ عَلَيْهِ فَانْبِذْ إلَيْهِمْ مَا فِي يَدِك مِنْ الْحُطَامِ» . وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ مُقَارِبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْجَسَدَ» . وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَاجَى مُوسَى بِمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَقَتَهُمْ لِمَا وَقَعَ فِي مَسَامِعِهِ مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا. وَكَانَ فِيمَا نَاجَاهُ بِهِ أَنَّهُ قَالَ يَا مُوسَى إنَّهُ لَمْ يَتَصَنَّعْ لِي الْمُتَصَنِّعُونَ بِمِثْلِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَتَقَرَّبْ إلَيَّ الْمُتَقَرِّبُونَ بِمِثْلِ الْوَرَعِ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَعَبَّدْ لِي الْمُتَعَبِّدُونَ بِمِثْلِ الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَتِي. قَالَ مُوسَى يَا رَبَّ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا وَيَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ وَيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ مَاذَا أَعْدَدْتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 لَهُمْ وَمَاذَا جَزَيْتَهُمْ؟ قَالَ أَمَّا الزُّهَّادُ فِي الدُّنْيَا فَإِنِّي أَبَحْتُهُمْ جَنَّتِي، يَتَبَوَّءُونَ مِنْهَا حَيْثُ شَاءُوا. وَأَمَّا الْوَرِعُونَ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَمْ يَبْقَ عَبْدٌ إلَّا نَاقَشْتُهُ وَفَتَّشْتُهُ إلَّا الْوَرِعُونَ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ وَأُجِلُّهُمْ وَأُكْرِمُهُمْ وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَأَمَّا الْبَكَّاءُونَ مِنْ خَشْيَتِي فَأُولَئِكَ لَهُمْ الرَّفِيقُ الْأَعْلَى لَا يُشَارَكُونَ فِيهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْأَصْبَهَانِيّ وَأَوْرَدَهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ. وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا «مَا تَزَيَّنَ الْأَبْرَارُ فِي الدُّنْيَا بِمِثْلِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا» رَوَاهُ أَبُو يُعْلَى وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَمِثْلُهُ مَا رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَرْفُوعًا «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا فَادْنُوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ» . وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ مَزَايَا الْقَنَاعَةِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ فَقَالَ: مَطْلَبٌ: مَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ الْكَفَافُ لَا سَبِيلَ إلَى رِضَاهُ فَمَنْ لَمْ يُقْنِعْهُ الْكَفَافُ فَمَا إلَى ... رِضَاهُ سَبِيلٌ فَاقْتَنِعْ وَتَقَصَّدْ (فَمَنْ) أَيْ فَالْإِنْسَانُ الَّذِي (لَمْ يُقْنِعْهُ) وَيَكْفِهِ (الْكَفَافُ) وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَزِدْ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَكَفَّ عَنْ الْمَسْأَلَةِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَدِدْت أَنِّي سَلِمْت مِنْ الْخِلَافَةِ كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِي. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْكَفَافُ هُوَ الَّذِي لَا يَفْضُلُ مِنْ الشَّيْءِ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، انْتَهَى. وَفِي شِعْرِ مَجْنُونِ لَيْلَى قَيْسِ بْنِ الْمُلَوَّحِ: وَدِدْت عَلَى حُبِّ الْحَيَاةِ لَوْ أَنَّهُ ... يُزَادُ لَهَا فِي عُمُرِهَا مِنْ حَيَاتِيَا عَلَى أَنَّنِي رَاضٍ بِأَنْ أَحْمِلَ الْهَوَى ... وَأَخْلُصَ مِنْهُ لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَا وَفِي بَعْضِ الدَّوَاوِينِ: فَلَيْتَكُمْ لَمْ تَعْرِفُونِي وَلَيْتنِي ... خَلَصْت كَفَافًا لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَا وَفِيهِ الشَّاهِدِ، فَإِذَا الْإِنْسَانُ لَمْ يَقْنَعْ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ مِنْ الدُّنْيَا (فَمَا) نَافِيَةٌ حِجَازِيَّةٌ (إلَى رِضَاهُ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ خَبَرُهَا مُقَدَّمٌ وَ (سَبِيلٌ) اسْمُهَا مُؤَخَّرٌ وَالْجُمْلَةُ مَحَلُّهَا الْجَزْمُ جَوَابُ مَنْ. وَالْمَعْنَى لَيْسَ طَرِيقٌ وَلَا سَبَبٌ يَنْتَهِي إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 رِضَا هَذَا الشَّرَهِ، لِأَنَّ طَالِبَ الدُّنْيَا كَشَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا وَظَمَأً فَلَا يُتَصَوَّرُ رِضَاهُ بِطَرِيقٍ مَا. وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ أَيْضًا عَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِلَفْظِ «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» وَظَاهِرُ صَنِيعِ السُّيُوطِيِّ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ نَخْلٍ لَتَمَنَّى مِثْلَهُ ثُمَّ تَمَنَّى مِثْلَهُ حَتَّى يَتَمَنَّى أَوْدِيَةً، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ» وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فَاقْتَنِعْ) افْتَعِلْ مِثْلُ اكْتَسِبْ وَاحْتَصِدْ وَاغْتَرِبْ، أَيْ اُطْلُبْ الْقَنَاعَةَ وَاعْتَمِدْ عَلَيْهَا. (وَتَقَصَّدْ) مَعْطُوفٌ عَلَى اقْتَنِعْ، وَالْقَصْدُ مِثْلُ التَّزَهُّدِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَصْدِ وَهُوَ اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ وَالِاعْتِمَادُ وَضِدُّ الْإِفْرَاطِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا كَالِاقْتِصَادِ، وَرَجُلٌ لَيْسَ بِالْجَسِيمِ وَلَا بِالضَّئِيلِ كَالْمُقْصِدِ. وَفِي صِفَتِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَبْيَضَ مُقْصِدًا، وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ بِطَوِيلٍ وَلَا قَصِيرٍ وَلَا جَسِيمٍ كَأَنَّ خَلْقَهُ نَحَى بِهِ الْقَصْدَ مِنْ الْأُمُورِ. وَالْمُعْتَدِلُ الَّذِي لَا يَمِيلُ إلَى حَدِّ طَرَفِي التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ. مَطْلَبٌ: فِي الِاقْتِصَادِ فِي الْأُمُورِ وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «مَا عَالَ مُقْتَصِدٌ وَلَا يُعِيلُ» أَيْ مَا افْتَقَرَ مَنْ لَا يُسْرِفُ فِي الْإِنْفَاقِ وَلَا يُقَتِّرُ قُلْت: وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظِ «مَا عَالَ مَنْ اقْتَصَدَ» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ عَنْ أَبِي عَسِيبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلًا فَمَرَّ بِي فَدَعَانِي فَخَرَجْت إلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 الْحَائِطِ أَطْعِمْنَا، فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ فَقَالَ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَخَذَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ نَعَمْ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: خِرْقَةٌ كَفَّ بِهَا عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٌ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ جُحْرٌ يَتَدَخَّلُ فِيهِ مِنْ الْحَرِّ وَالْقَرِّ» . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَاهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ لِابْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ: بَيْتٌ يَكُنُّهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءُ» الْجِلْفُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ بَعْدَهُمَا فَاءٌ هُوَ غَلِيظُ الْخُبْزِ وَخَشِنُهُ. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: هُوَ الْخُبْزُ لَيْسَ مَعَهُ أُدُمٌ وَلَا مَعْنَى لِكَثْرَةِ الْإِيرَادِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، مَعَ اشْتِهَارِهِ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاقْتِصَادَ مَحْمُودٌ، وَعَمَلٌ فَاعِلُهُ مَقْبُولٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ. فَاقْتَصِدْ فِي كُلِّ شَيْءٍ ... تَحْظَ بِالْعُقْبَى وَتُحْفَظْ لَا تَكُنْ حُلْوًا فَتُؤْكَلْ ... لَا وَلَا مُرًّا فَتُلْفَظْ وَاغْتَنِمْ ذَا الْعُمُرَ وَاعْلَمْ ... أَنَّهُ كَالدُّرِّ مَلْحَظْ فَإِذَا فَرَّطَ فِيهِ الْمَرْءُ ... لَمْ يُحْمَدْ وَيُكْعَظْ نُحْ عَلَى عُمْرٍ تَقَضَّى ... وَمَضَى لَهْوًا يُلَاحَظْ سَاعَةٌ مِنْهُ تُسَاوِي ... قِيمَةَ الدُّنْيَا وَتُدْحَضْ أَيْنَ مَنْ يُبْصِرُ قَوْلِي ... كَيْفَ وَالنَّاظِمُ أَجْحَظْ رَبِّ خَلِّصْنِي لَعَلِّي ... مِنْ قُيُودِ النَّفْسِ أَنْهَضْ مَطْلَبٌ: الْغِنَى الْحَقِيقِيُّ غِنَى النَّفْسِ فَمَنْ يَتَغَنَّى يُغْنِهِ اللَّهُ وَالْغِنَى ... غِنَى النَّفْسِ لَا عَنْ كَثْرَةِ الْمُتَعَدِّدِ (فَمَا) أَيْ أَيُّ إنْسَانٍ (يَتَغَنَّى) أَوْ كُلُّ إنْسَانِ يَتَغَنَّى أَيْ يُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ الْغِنَى وَالْعَفَافَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا بِالْمَالِ (يُغْنِهِ اللَّهُ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَجْزُومٌ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 جَوَابِ مَنْ وَالْأَلِفُ فِي يَتَغَنَّى لِلْإِشْبَاعِ بَعْدَ حَذْفِ الْأَلِفِ. يُقَالُ تَغَنَّيْت وَتَغَانَيْت وَاسْتَغْنَيْت أَيْ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. ثُمَّ قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَالْغِنَى) الْحَقِيقِيُّ (غِنَى النَّفْس) بِالْعَفَافِ وَالْقَنَاعَةِ وَالِاقْتِصَادِ وَعَدَمِ الِانْهِمَاكِ فِي لَذَّاتِ الدُّنْيَا (لَا عَنْ كَثْرَةِ) الْمَالِ (الْمُتَعَدِّدِ) فَإِنَّهُ لَا يُوَرِّثُ غِنًى بَلْ يُوَرِّثُ مَزِيدَ الشَّرَهِ وَالِانْهِمَاكِ، فَكُلَّمَا نَالَ عَنْهُ شَيْئًا طَلَبَ شَيْئًا آخَرَ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَهْلَكَ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَرَى كَثْرَةَ الْمَالِ هُوَ الْغِنَى؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ فَتَرَى قِلَّةَ الْمَالِ هُوَ الْفَقْرُ؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ إنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ هَلْ تَعْرِفُ فُلَانًا؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَكَيْفَ تَرَاهُ أَوْ تَرَاهُ؟ قُلْت إذَا سَأَلَ أُعْطِيَ، وَإِذَا حَضَرَ أُدْخِلَ، قَالَ ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَقَالَ هَلْ تَعْرِفُ فُلَانًا؟ فَقُلْت لَا وَاَللَّهِ مَا أَعْرِفُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا زَالَ يُحَلِّيهِ وَيُنْعِتُهُ حَتَّى عَرَفْتُهُ، فَقُلْت قَدْ عَرَفْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ فَكَيْفَ تَرَاهُ أَوْ تَرَاهُ؟ قُلْت هُوَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، قَالَ هُوَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ مِنْ الْآخَرِ، قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا يُعْطَى بَعْضَ مَا يُعْطَى الْآخَرُ؟ فَقَالَ إذَا أُعْطِيَ خَيْرًا فَهُوَ أَهْلُهُ، وَإِذَا صُرِفَ عَنْهُ فَقَدْ أُعْطِيَ حَسَنَةً» . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُنْظُرْ أَرْفَعَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ فَنَظَرْت فَإِذَا رَجُلٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، قُلْت هَذَا، قَالَ: قَالَ لِي اُنْظُرْ أَوْضَعَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ فَنَظَرْت فَإِذَا رَجُلٌ عَلَيْهِ أَخْلَاقٌ، قَالَ قُلْت هَذَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهَذَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَيْضًا وَمُوَطَّأِ مَالِكٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِيهِ «مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أَعْطَى اللَّهُ أَحَدًا عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» . الْعَرَضُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ هُوَ مَا يُقْتَنَى مِنْ الْمَالِ وَغَيْرِهِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خَبَرْت بَنِي الدُّنْيَا فَلَمْ أَرَ مِنْهُمْ ... سِوَى خَادِعٍ وَالْخُبْثُ حَشْوُ إهَابِهِ فَجَرَّدْت عَنْ غِمْدِ الْقَنَاعَةِ صَارِمًا ... قَطَعْت رَجَائِي مِنْهُمْ بِذُبَابِهِ فَلَا ذَا يَرَانِي وَاقِفًا بِطَرِيقِهِ ... وَلَا ذَا يَرَانِي قَاعِدًا عِنْدَ بَابِهِ غَنِيٌّ بِلَا مَالٍ عَنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ ... وَلَيْسَ الْغِنَى إلَّا عَنْ الشَّيْءِ لَا بِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ وَأَحْسَنَ: إذَا أَعْطَشَتْك أَكُفُّ اللِّئَامِ ... كَفَتْك الْقَنَاعَةُ شِبَعًا وَرِيَّا فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ فِي الثَّرَى ... وَهَامَةُ هِمَّتِهِ فِي الثُّرَيَّا وَقَالَ آخَرُ وَأَحْسَنَ: وَمَنْ يَطْلُبْ الْأَعْلَى مِنْ الْعَيْشِ لَمْ يَزَلْ ... حَزِينًا عَلَى الدُّنْيَا رَهِينَ غُبُونِهَا إذَا شِئْت أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا فَلَا تَكُنْ ... عَلَى حَالَةٍ إلَّا رَضِيت بِدُونِهَا وَقَالَ هَارُونُ بْنُ جَعْفَرٍ: بُوعِدَتْ هِمَّتِي وَقُورِبَ مَالِي ... فَفِعَالِي مُقْصَرٌ عَنْ مَقَالِي مَا اكْتَسَى النَّاسُ مِثْلَ ثَوْبِ اقْتِنَاعِ ... وَهُوَ مِنْ بَيْنِ مَا اكْتَسَوْا سِرْبَالِي وَلَقَدْ تَعْلَمُ الْحَوَادِثُ أَنِّي ... ذُو اصْطِبَارٍ عَلَى صُرُوفِ اللَّيَالِي وَقَالَ: مُؤَيِّدُ الدِّينِ فَخْرُ الْكِتَابِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الْأَصْفَهَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالطُّغْرَاوِيِّ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ نِسْبَةً إلَى مَنْ يَكْتُبُ (الطُّغْرَا) - وَهِيَ الطُّرَّةُ الَّتِي تُكْتَبُ فِي أَعْلَى الْكُتُبِ فَوْقَ الْبَسْمَلَةِ بِالْقَلَمِ الْغَلِيظِ تَتَضَمَّنُ نُعُوتَ الْمَلِكِ وَأَلْقَابَهُ - فِي قَصِيدَتِهِ اللَّامِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ بِلَامِيَّةِ الْعَجَمِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 يَا وَارِدًا سُؤْرَ عَيْشٍ صَفْوُهُ كَدِرٌ ... أَنْفَقْت عُمْرَك فِي أَيَّامِك الْأُوَلِ فِيمَا اعْتِرَاضُك لُجَّ الْبَحْرِ تَرْكَبُهُ ... وَأَنْتَ تَكْفِيك مِنْهُ مَصَّةُ الْوَشَلِ مَلِكُ الْقَنَاعَةِ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ وَلَا ... يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْأَنْصَارِ وَالْخَوَلِ وَمَعْنَى الْبَيْتِ أَنَّ الْقَنَاعَةَ صَاحِبُهَا مَلِكٌ؛ لِأَنَّهُ فِي غِنًى عَنْ النَّاسِ، وَفِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى مِلْكِ مَا سِوَاهَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَهِيَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى خَدَمٍ وَلَا أَنْصَارٍ وَعَسَاكِرَ يَحْفَظُونَهَا. وَلَا يُخْشَى عَلَيْهَا مِنْ زَوَالٍ وَلَا اغْتِصَابٍ، بِخِلَافِ مُلُوكِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْخَوَلِ وَالْأَنْصَارِ لِلْخِدْمَةِ، وَالِاحْتِرَازِ عَلَى نُفُوسِهِمْ مِنْ الْأَعْدَاءِ ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي هَمٍّ وَفِكْرَةٍ فِي تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ وَتَدْبِيرِ الرَّعَايَا، وَفِي خَوْفٍ مِنْ زَوَالِ الْمُلْكِ، إمَّا بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَإِمَّا بِخُرُوجِ أَحَدٍ مِنْ الرَّعَايَا عَنْ الطَّاعَةِ. وَإِمَّا بِوُثُوبِ أَحَدٍ مِنْ حَشَمِهِمْ وَخَدَمِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ عَلَيْهِمْ وَإِطْعَامِهِمْ السُّمَّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَلِكُ الْقَنَاعَةِ سَالِمٌ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْآفَاتِ وَكُلُّ أَمْرٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَعَبٍ وَكُلْفَةٍ خَيْرٌ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: هَلْ الْأَفْضَلُ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَوْ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ؟ (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنْ أَفْضَلُ؟ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ أَوْ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ؟ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْغِنَى مَقْدِرَةٌ وَالْفَقْرَ عَجْزٌ وَالْقُدْرَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْعَجْزِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ النَّبَاهَةِ. قُلْت وَهُوَ ظَاهِرُ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ. قَالَ فِي تَبْصِرَتِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَنِيَّ إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْغِنَى عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مَالُهُ وَقْفًا عَلَى مُسَاعَدَةِ الْفُقَرَاءِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْفَقِيرِ، فَإِنَّ غَايَةَ الْفَقِيرِ أَنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَهُ ثَوَابُ صَبْرِهِ عَنْ أَغْرَاضِهِ، وَلَا يَتَعَدَّى فِعْلُهُ إلَى النَّفْعِ لِلْغَيْرِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي الْغَنِيِّ أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَالِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُمْسِكَهُ عَنْ الْإِنْفَاقِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَتَوَرَّعْ فِي كَسْبِهِ، وَرُبَّمَا أَطْلَقَ نَفْسَهُ فِي شَهَوَاتِهَا الْقَاطِعَةِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فُضِّلَ الْفَقِيرُ الْمُحِقُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَمَّهُ أَجْمَعُ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ وَالْغَنِيَّ مُلَابِسٌ، وَتَرْكُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنْ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 السَّلَامَةِ. قُلْت: وَالسَّلَامَةُ لَا يُعَادِلُهَا شَيْءٌ. قَالَ الْإِمَامُ الْوَزِيرُ بْنُ هُبَيْرَةَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَقْرِ إلَّا أَنَّهُ بَابُ الرِّضَا عَنْ اللَّهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغِنَى أَلَّا أَنَّهُ بَابُ التَّسَخُّطِ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَأَى الْفَقِيرَ رَضِيَ عَنْ اللَّهِ فِي تَقْدِيرِهِ، وَإِذَا رَأَى الْغَنِيَّ سَخِطَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي فَضْلِ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ، انْتَهَى. وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَفْضِيلِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ حَدِّ الْفَقْرِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى لِيَصِلَ إلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيلَ الِاعْتِدَالِ، وَأَنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، انْتَهَى. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ: الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ، انْتَهَى. أَقُولُ: مَنْ تَأَمَّلَ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ وَكَوْنَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَثِيرَ الْجُوعِ، بَعِيدَ الشِّبْعِ، يَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ، وَتُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ، وَرَأَى إعْرَاضَهُ عَنْ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَالِانْهِمَاكِ فِي لَذَّاتِهَا، وَنَفْضَ يَدَيْهِ مِنْ شَهَوَاتِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ عَنْ اخْتِيَارٍ لَا اضْطِرَارٍ، عَلِمَ وَتَحَقَّقَ أَنَّ التَّقَلُّلَ مِنْ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ، وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ - وَإِنْ كَانَ شَاكِرًا - عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْفَقِيرَ يَسْلَمُ مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ. وَيَسْبِقُ الْغَنِيَّ إلَى الْجَنَّةِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَهَلْ يَخْتَارُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ إلَّا أَكْمَلَ الْحَالَاتِ. وَهَلْ يَخْتَارُ الرَّسُولُ لِنَفْسِهِ إلَّا أَفْضَلَ الْمَقَامَاتِ. وَقَدْ أَفْرَدْت لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً أَتَيْت فِيهَا بِأَكْثَرِ أَحَادِيثِ مَدْحِ الْفَقْرِ وَالْفُقَرَاءِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ مَطْلَبٌ: فِي ذِكْرِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا (الثَّانِي) : قَدْ تَرَادَفَتْ الْأَخْبَارُ، وَتَوَاتَرَتْ الْآثَارُ، بِذَمِّ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَمَدْحِ التَّقَلُّلِ مِنْهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالزُّهْدِ فِيهَا وَفِي لَذَّاتِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 قَالَ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15] . وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس: 24] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] . وَقَالَ {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] . وَقَالَ {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16] {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] . وَقَالَ {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ. وَالْمَتَاعُ هُوَ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ صَاحِبُهُ بُرْهَةً ثُمَّ يَنْقَطِعُ وَيَضْمَحِلُّ وَيَفْنَى. فَمَا عِيبَتْ الدُّنْيَا بِأَبْلَغَ مِنْ فَنَائِهَا، وَتَقَلُّبِ أَحْوَالِهَا. وَهُوَ أَدُلُّ دَلِيلٍ عَلَى نُقْصَانِهَا وَزَوَالِهَا. فَتَتَبَدَّلُ صِحَّتُهَا بِالسَّقَمِ، وَوُجُودُهَا بِالْعَدَمِ، وَشَبِيبَتُهَا بِالْهَرَمِ، وَنَعِيمُهَا بِالْبُؤْسِ؛ وَحَيَاتُهَا بِالْمَوْتِ، فَتُفَارِقُ الْأَجْسَامَ النُّفُوسُ، وَعِمَارَتُهَا بِالْخَرَابِ، وَاجْتِمَاعُهَا بِفُرْقَةِ الْأَحْبَابِ. وَكُلُّ مَا فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابٌ. كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: يَا دَارُ تُخَرَّبِينَ وَيَمُوتُ سُكَّانُكِ. وَفِي الْحَدِيثِ «عَجَبًا لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَسُرْعَةَ تَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إلَيْهَا» مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» وَتَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ «اُعْبُدْ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، وَاعْدُدْ نَفْسَك فِي الْمَوْتَى، وَاذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَكُلِّ شَجَرٍ، وَإِذَا عَمِلْت سَيِّئَةً فَاعْمَلْ بِجَنْبِهَا حَسَنَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «خَطَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُوطًا صِغَارًا إلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، فَقَالَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 مُحِيطٌ بِهِ أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ. وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ. فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا. وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَهَذِهِ صُورَةُ مَا خَطَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ» وَتَقَدَّمَ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَالضِّيَاءِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ. قَالَ الْحَافِظ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَاعْلَمْ أَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا سَمِعُوا ذَمَّ الدُّنْيَا وَلَمْ يَفْهَمُوا الْمَذْمُومَ، وَظَنُّوا أَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي خُلِقَتْ لِلْمَنَافِعِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ فَأَعْرَضُوا عَمَّا يُصْلِحهُمْ مِنْهَا فَتَجَفَّفُوا فَهَلَكُوا. وَلَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي الطِّبَاعِ تَوَقَانَ النَّفْسِ إلَى مَا يُصْلِحُهَا، فَكُلَّمَا تَاقَتْ مَنَعُوهَا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَجَهْلًا بِحُقُوقِ النَّفْسِ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْمُتَزَهِّدِينَ. كَذَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ مَسْكَنًا وَمَا عَلَيْهَا مَلْبَسٌ وَمَطْعَمٌ وَمَشْرَبٌ وَمُنْكَحٌ. وَقَدْ جُعِلَتْ الْمَعَادِنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 فِيهَا كَالْخَزَائِنِ فِيهَا مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالْآدَمِيُّ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِصَلَاحِ بَدَنِهِ الَّذِي هُوَ كَالنَّاقَةِ لِلْمُسَافِرِ، فَمَنْ تَنَاوَلَ مَا يُصْلِحُهُ لَمْ يُذَمَّ، وَمَنْ أَخَذَ فَوْقَ الْحَاجَةِ بِكَفِّ الشَّرَهِ وَقَعَ الذَّمُّ لِفِعْلِهِ وَأُضِيفَ إلَى الدُّنْيَا تَجَوُّزًا، وَلَيْسَ لِلشَّرَهِ وَجْهٌ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى الْأَذَى وَيُشْغَلُ عَنْ طَلَبِ الْأُخْرَى فَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ وَيُضِرُّ، بِمَثَابَةِ مَنْ أَقْبَلَ يَعْلِفُ النَّاقَةَ وَيُبْرِدُ لَهَا الْمَاءَ، وَيُغَيِّرُ عَلَيْهَا أَنْوَاعَ الثِّيَابِ، وَيَنْسَى أَنَّ الرُّفْقَةَ قَدْ سَارَتْ فَإِنَّهُ يَبْقَى فِي الْبَادِيَةِ فَرِيسَةَ السِّبَاعِ هُوَ وَنَاقَتُهُ وَلَا وَجْهَ فِي التَّقْصِيرِ فِي تَنَاوُلِ الْحَاجَةِ مِنْ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ النَّاقَةَ لَا تَقْوَى عَلَى السَّيْرِ إلَّا بِتَنَاوُلِ مَا يُصْلِحُهَا. وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ. لَمْ يَخْرُجْ إلَّا مِنْ جَوْفِ صِدِّيقٍ وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَّقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَمَطْلَبُ نُجْحٍ لِمَنْ سَالَمَ، فِيهَا مَسَاجِدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَهْبِطُ وَحْيِهِ، وَمُصَلَّى مَلَائِكَتِهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَائِهِ، فِيهَا اكْتَسَبُوا الرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا فِيهَا الْعَافِيَةَ، فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَنِيهَا، وَنَعَتْ نَفْسَهَا وَأَهْلَهَا، ذَمَّهَا قَوْمٌ غَدَاةَ النَّدَامَةِ، وَحَمِدَهَا آخَرُونَ ذَكَّرَتْهُمْ فَذُكِّرُوا، وَوَعَظَتْهُمْ فَانْتَهَوْا. فَيَا أَيُّهَا الذَّامُّ الدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ بِتَغْرِيرِهَا مَتَى اُسْتُذِمَّتْ إلَيْك، بَلْ مَتَى غَرَّتْك، أَبِمَنَازِل آبَائِك فِي الثَّرَى، أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِك فِي الْبِلَى. كَمْ رَأَيْت مَوْرُوثًا. كَمْ عَلَّلْت بِكَفَّيْك عَلِيلًا. كَمْ مَرَّضْت بِيَدَيْك مَرِيضًا تَبْتَغِي لَهُ الشِّفَاءَ وَتَسْتَوْصِفُ لَهُ الْأَطِبَّاءَ، لَمْ تَنْفَعْهُ بِشَفَاعَتِك، وَلَمْ تُشْفِهِ بِطِلْبَتِك. مَثَّلَتْ لَك الدُّنْيَا غَدَاةَ مَصْرَعِهِ وَمَضْجَعُهُ مَضْجَعُك. ثُمَّ الْتَفَتَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْمَقَابِرِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ، وَيَا أَهْلَ التُّرْبَةِ، أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ، وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ، وَأَمَّا الْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ، فَهَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا، فَهَاتُوا خَبَرَ مَا عِنْدَكُمْ. ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَمَّا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ لَأَخْبَرُوكُمْ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَإِذْ قَدْ عَرَفْت الْمَذْمُومَ مِنْ الدُّنْيَا فَكُنْ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا تَأْخُذْ فَوْقَ مَا يُصْلِحُك، وَلَا تَمْنَعْ نَفْسَك حَظَّهَا الَّذِي يُقِيمُهَا. كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا أَكْلَ الرِّجَالِ، وَإِذَا فَقَدْنَا صَبْرَنَا صَبْرَ الرِّجَالِ. شِعْرٌ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 أَرَى الدُّنْيَا لِمَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ ... وَبَالًا كُلَّمَا كَثُرَتْ عَلَيْهِ تُهِينُ الْمُكْرَمِينَ لَهَا بِصِغَرِ ... وَتُكْرِمُ كُلَّ مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ إذَا اسْتَغْنَيْت عَنْ شَيْءٍ فَدَعْهُ ... وَخُذْ مَا أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَاَللَّهِ لَقَدْ سَقَتْ الدُّنْيَا أَرْبَابَهَا سُمًّا، وَأَبْدَلَتْهُمْ مِنْ أَفْرَاحِهِمْ بِهَا هَمًّا، وَأَثَابَتْهُمْ عَلَى مَدْحِهِمْ لَهَا ذَمًّا، وَقَطَّعَتْ أَكْبَادَهُمْ فَمَاتُوا عَلَيْهَا غَمًّا. فَيَا مَشْغُولًا بِهَا تَوَقَّعْ خَطْبًا مُلِمًّا، إيَّاكَ وَالْأَمَلَ أَمَّا وَأَمَّا، كَمْ نَادَتْ الدُّنْيَا نَادِمًا، أَلْهَتْهُ بِالْمُنَادَمَةِ، حَتَّى سَفَكَتْ بِالْمُنَى دَمَهُ، وَصَاحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَةُ، وَكَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ فِي عَيْنِهِ كَمَهٌ. إيَّاكَ وَإِيَّاهَا فَإِنَّهَا تَسْحَرُ الْعُقُولَ بِالدَّمْدَمَةِ، وَتُحْسِرُ الْمَتْبُولَ بِالزَّمْزَمَةِ، فَشَمِّرْ عَنْ سَاقِ الْجِدِّ لِتَحْظَى بِدَارِ الْجَدِّ وَدَعْ الْقَمْقَمَةَ، فَإِنَّ بُعْدَ الْعَاقِلِ عَنْ دَارِ الْمَكْرِ مَكْرُمَةٌ شِعْرٌ: أَبِالْمَنْزِلِ الْفَانِي تُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى ... كَفَاك بِمَا تَرْجُو وَتَأْمُلُهُ خِرْقَا وَفِي كُلِّ يَوْمٍ مُحْدَثٍ لَك فُرْقَةٌ ... تَرَى خَطْبَهَا خَطْبًا جَلِيلًا وَإِنْ دَقَّا لَعَمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِبَاقِيَةٍ وَلَا ... بِهَا أَحَدٌ يَبْقَى فَيَطْمَعُ أَنْ يَبْقَى كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لَنَا ذُنُوبٌ نَخَافُ عَلَى أَنْفُسِنَا مِنْهَا إلَّا حُبَّ الدُّنْيَا لَخَشِينَا عَلَى أَنْفُسِنَا. وَاَللَّهِ مَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ بُسِطَ لَهُ دُنْيَا فَلَمْ يَخَفْ أَنْ يَكُونَ قَدْ مُكِرَ بِهِ فِيهَا إلَّا كَانَ قَدْ نَقَصَ عَمَلُهُ وَعَجَزَ رَأْيُهُ. وَاَللَّهِ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيَيْبَسُ جِلْدُهُ عَلَى عَظْمِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا شَحْمٌ وَلَا لَحْمٌ يُدْعَى إلَى الدُّنْيَا حَلَالًا فَمَا يَقْبَلُ مِنْهَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا يَقُولُ أَخَافُ أَنْ تُفْسِدَ عَلَيَّ قَلْبِي. وَاَللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا وَصَحِبْنَا طَوَائِفَ مِنْهُمْ. وَاَللَّهِ لَهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ فِي الْحَلَالِ مِنْكُمْ فِي الْحَرَامِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ اللَّيْثِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَأَى الدُّنْيَا فِي صُورَةِ عَجُوزٍ هَتْمَاءَ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ، فَقَالَ لَهَا كَمْ تَزَوَّجْت؟ قَالَتْ لَا أُحْصِيهِمْ قَالَ: فَكُلُّهُمْ مَاتَ عَنْك أَوْ كُلُّهُمْ طَلَّقَك؟ قَالَتْ: بَلْ كُلُّهُمْ قَتَلْت، فَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " بُؤْسًا لِأَزْوَاجِك الْبَاقِينَ، كَيْفَ لَا يَعْتَبِرُونَ بِالْمَاضِينَ "؟ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: يُؤْتَى بِالدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ عَجُوزٍ شَمْطَاءَ زَرْقَاءَ أَنْيَابُهَا بَادِيَةٌ مُشَوَّهَةٌ خَلْقُهَا، فَتُشْرِفُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 الْخَلَائِقِ، فَيُقَالُ لَهُمْ أَتَعْرِفُونَ هَذِهِ؟ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ، فَيُقَالُ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي تَنَاحَرْتُمْ عَلَيْهَا، بِهَا تَقَاطَعْتُمْ الْأَرْحَامَ، وَبِهَا تَحَاسَدْتُمْ وَتَبَاغَضْتُمْ وَاغْتَرَرْتُمْ، ثُمَّ تُقْذَفُ فِي جَهَنَّمَ، فَتُنَادِي يَا رَبُّ أَيْنَ أَتْبَاعِي وَأَشْيَاعِي؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَلْحِقُوا بِهَا أَتْبَاعَهَا وَأَشْيَاعَهَا. وَاعَجَبًا لِمَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا ثُمَّ مَالَ إلَيْهَا، وَرَأَى غَدْرَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ عَوَّلَ عَلَيْهَا. أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَمْ تَزَلْ ... أَفْعَالُهُ فِي خَلْقِهِ مُعْجَبَاتِ قَرْنٌ مَضَى ثُمَّ نَمَا غَيْرُهُ ... كَأَنَّهُ فِي كُلِّ عَامٍ نَبَاتِ أَقَلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَيْقِظٌ ... وَإِنَّمَا أَكْثَرُهُمْ فِي سُبَاتِ لَا تَعْتِبْ الْأَيَّامَ فِي صَرْفِهَا ... فَلَيْسَ أَيَّامُك بِالْمُعْتِبَاتِ حَوْلٌ خَصِيبٌ أَثَرُهُ مُجْدِبٌ ... فَاذْخَرْ مِنْ الْمُخَصَّبِ لِلْمُجْدِبَاتِ إخْوَانِي عُيُوبُ الدُّنْيَا بَادِيَةٌ، مَلَأَتْ الْحَاضِرَةَ وَالْبَادِيَةَ، وَهِيَ بِذَلِكَ فِي كُلِّ نَادٍ مُنَادِيَةٌ، لَوْ تَفْهَمُ النِّدَاءَ الْوُجُوهُ النَّادِيَةُ: قَدْ نَادَتْ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يَسْمَعُ كَمْ وَاثِقٍ بِالْعُمْرِ أَفْنَيْتُهُ ... وَجَامِعٍ بَدَّدْت مَا يَجْمَعُ وَلَمْ تَزَلْ الدُّنْيَا تَصْدَعُ بِالْأَحِبَّةِ وَالْإِخْوَانِ، وَتَفْجَعُ بِأَهْلِ الْمَحَبَّةِ وَالْأَخْدَانِ، وَتَخْدَعُ وَتَتَقَلَّبُ، وَتَلْذَعُ وَتَتَلَهَّبُ: فَإِنْ أَضْحَكَتْ أَبْكَتْ وَإِنْ وَاصَلَتْ قَلَّتْ ... وَإِنْ سَالَمَتْ خَانَتْ وَإِنْ سَامَحَتْ غَلَّتْ وَإِنْ أَفْرَحَتْ يَوْمًا فَيَوْمَانِ لِلْأَسَى ... وَإِنْ مَا جَلَتْ لِلصَّبِّ يَا صَاحِ أَوْ جَلَتْ حَلَاوَتُهَا كَالصَّابِ فَاحْذَرْ مَذَاقَهَا ... إذَا مَا حَلَتْ لِلْمَرْءِ فِي الْبَأْسِ أَوْحَلَتْ مَطْلَبٌ: حِكَايَةُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ جَارِيَتِهِ حُبَابَةَ. كَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ الَّذِي انْتَهَتْ إلَيْهِ الْخِلَافَةُ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَهُ جَارِيَةٌ تُسَمَّى حُبَابَةَ، وَكَانَ شَدِيدَ الشَّغَفِ بِهَا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْصِيلِهَا إلَّا بَعْدَ جَهْدٍ شَدِيدٍ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إلَيْهِ خَلَا بِهَا يَوْمًا فِي بُسْتَانٍ، وَقَدْ طَارَ عَقْلُهُ فَرَحًا بِهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ يُلَاعِبُهَا وَيُضَاحِكُهَا إذْ رَمَاهَا بِحَبَّةِ رُمَّانٍ أَوْ بِحَبَّةِ عِنَبٍ وَهِيَ تَضْحَكُ فَدَخَلَتْ فِي فِيهَا فَشَرِقَتْ بِهَا فَمَاتَتْ، فَمَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِدَفْنِهَا حَتَّى أَرْوَحَتْ، فَعُوتِبَ عَلَى ذَلِكَ فَدَفَنَهَا، وَيُقَالُ إنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 نَبَشَهَا بَعْدَ دَفْنِهَا. وَيُرْوَى أَنَّهُ دَخَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا إلَى خِزَانَتِهَا وَمَقَاصِيرِهَا وَمَعَهُ جَارِيَةٌ لَهَا فَتَمَثَّلَتْ الْجَارِيَةُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: كَفَى حُزْنًا بِالْوَالِهِ الصَّبِّ أَنْ يَرَى ... مَنَازِلَ مَنْ يَهْوَى مُعَطَّلَةً قَفْرَا فَصَاحَ وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَلَمْ يُفِقْ إلَى أَنْ مَضَى هَوَى مِنْ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَبَكَى بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ مَيِّتًا. ذَكَرَ هَذَا الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي اللَّطَائِفِ. قُلْت: وَفِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ الْوَافِي بِالْوَفَيَاتِ لِلصَّلَاحِ الصَّفَدِيِّ: يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بْنُ الْحَكَمِ الْأُمَوِيُّ وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ إحْدَى وَمِائَةٍ وَلَهُ سَبْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَتُوُفِّيَ بِأَرْضِ الْبَلْقَاءِ، وَيُقَالُ مَاتَ بِعُمَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ وَلَهُ إحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، فَكَانَتْ أَيَّامُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَشَهْرًا، وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا مُدَوَّرَ الْوَجْهِ لَمْ يَشِبْ، وَكَانَ شَدِيدَ الْكِبْرِ صَاحِبَ لَهْوٍ وَلَذَّاتٍ، وَصَاحِبَ حُبَابَةَ وَسَلَّامَةَ، وَهُمَا جَارِيَتَانِ شُغِفَ بِهِمَا، وَمَاتَتْ حُبَابَةُ فَمَاتَ بَعْدَهَا بِيَسِيرٍ أَسَفًا عَلَيْهَا. قَالَ: وَلَمَّا مَاتَتْ تَرَكَهَا أَيَّامًا لَمْ يَدْفِنْهَا وَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَدَفَنَهَا، وَقِيلَ إنَّهُ دَفَنَهَا ثُمَّ نَبَشَهَا بَعْدَ الدَّفْنِ، وَكَانَ يُسَمَّى يَزِيدَ الْمَاجِنَ. قَالَ وَفِيهِ قَالَ الْمُخْتَارُ الْخَارِجِيُّ حِينَ ذَمَّ بَنِي أُمَيَّةَ فِي خُطْبَةٍ لَهُ مَعْرُوفَةٍ مِنْهُمْ يَزِيدُ الْفَاسِقُ يَضَعُ حُبَابَةَ عَنْ يَمِينِهِ وَسَلَّامَةَ عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ يَشْرَبُ إلَى أَنْ يَسْكَرَ وَيُغَنِّيَانِهِ فَيَطْرَبَ ثُمَّ يَشُقَّ حُلَّةً ضُرِبَتْ فِي نَسْجِهَا الْأَبْشَارُ، وَهُتِكَتْ فِيهَا الْأَسْتَارُ، ثُمَّ يَقُولُ أَطِيرُ أَطِيرُ، فَيَقُولَانِ إلَى مَنْ تَتْرُكُ الْخِلَافَةَ؟ فَيَقُولُ إلَيْكُمَا. وَإِنِّي أَقُولُ لَهُ طِرْ إلَى لَعْنَةِ اللَّهِ وَنَارِهِ. قَالَ الصَّلَاحُ الصَّفَدِيُّ: وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ هَلْ بَقِيَ لَك أَمَلٌ بَعْدَ الْخِلَافَةِ؟ قَالَ نَعَمْ أَنْ تُحَصَّلَ فِي مُلْكِي حُبَابَةَ، فَسَكَتَتْ عَنْهُ إلَى أَنْ أَنْفَدَتْ تَاجِرًا اشْتَرَاهَا بِمَالٍ عَظِيمٍ وَأَحْضَرْتهَا لَهُ خَلْفَ سِتْرٍ وَأَمَرَتْهَا بِالْغِنَاءِ، فَلَمَّا سَمِعَهَا اهْتَزَّ وَطَرِبَ وَقَالَ هَذَا غِنَاءٌ أَجِدُ لَهُ فِي قَلْبِي وَقْعًا فَمَا الْخَبَرُ؟ فَكَشَفَتْ السِّتْرَ وَقَالَتْ هَذِهِ حُبَابَةُ وَهَذَا غِنَاؤُهَا فَدُونَك وَإِيَّاهَا، فَغَلَبَتْ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ فِي الْخِلَافَةِ. قَالَ: وَقَالَ فِي بَعْضِ أَيَّامِ خَلَوَاتِهِ: النَّاسُ يَقُولُونَ إنَّهُ لَمْ يَصْفُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُلُوكِ يَوْمٌ كَامِلٌ وَأَنَا أُرِيدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 أَنْ أُكَذِّبَهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى لَذَّاتِهِ وَأَمَرَ أَنْ يُحْجَبَ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ كُلُّ مَا يَكْرَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي صَفْوِ عَيْشِهِ إذْ تَنَاوَلَتْ حُبَابَةُ حَبَّةَ رُمَّانٍ فَغَصَّتْ بِهَا فَمَاتَتْ، فَاخْتَلَّ عَقْلُهُ إلَى أَنْ نَبَشَهَا مِنْ قَبْرِهَا وَتَحَدَّثَ النَّاسُ فِي خَلْعِهِ مِنْ الْخِلَافَةِ وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا غَيْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَفِيهَا يَقُولُ لَمَّا دُفِنَتْ: فَإِنْ تَسْلُ عَنْكِ النَّفْسُ أَوْ تَدَعُ الْهَوَى ... فَبِالْيَأْسِ تَسْلُو عَنْكِ لَا بِالتَّجَلُّدِ انْتَهَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: سَبَبُ تَوْسِيعِ الرِّزْقِ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْحَمَاقَةِ (الثَّالِثُ) : قَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ وَهُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ أَنْ يُوَسِّعَ الدُّنْيَا عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ وَالرَّقَاعَةِ، وَالْحَمَاقَةِ وَالْخَلَاعَةِ، وَيُضَيِّقَهَا عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَالْأَدَبِ وَالْفَهْمِ قَالَ الْحُكَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا يَعْنِي أَنَّ الْفُضَلَاءَ يُقَلَّلُ لَهُمْ، وَالْجُهَلَاءَ يُفَاضُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ الْفُضَلَاءُ أَنَّ الْفَضْلَ يَرْزُقُهُمْ، وَإِنَّمَا يَرْزُقُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَقُولُ: النُّفُوسُ إمَّا عُلْوِيَّةٌ مَلَكِيَّةٌ، هَمُّهَا طَلَبُ مَعَالِي الْأُمُورِ وَنَفَائِسِهَا وَمَا يُلْحِقُهَا بِعَالَمِهَا الْعُلْوِيِّ، وَإِمَّا سُفْلِيَّةٌ أَرْضِيَّةٌ تُرَابِيَّةٌ، غَايَةُ مَطْلَبِهَا وَمَرْكَزِهَا الْأُمُورُ التُّرَابِيَّةُ الْأَرْضِيَّةُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ دَنِيَّةٌ سُفْلِيَّةٌ أَرْضِيَّةٌ، فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ النُّفُوسِ السُّفْلِيَّةِ تَمَامُ الْمُنَاسَبَةِ، وَشَبَهُ الشَّيْءِ يَنْجَذِبُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدِ كُلْفَةٍ، بِخِلَافِ النُّفُوسِ الْعُلْوِيَّةِ، فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الدُّنْيَا تَمَامُ الْمُبَايَنَةِ، وَإِذَا فُرِضَ بَعْضُ اتِّفَاقِ مُخَالَطَةٍ فَهِيَ إلَى التَّنَافُرِ وَالتَّبَايُنِ أَقْرَبُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي: أَوَدُّ مِنْ الْأَيَّامِ مَا لَا تَوَدُّهُ ... وَأَشْكُو إلَيْهَا بَيْنَنَا وَهِيَ جُنْدُهُ يُبَاعِدْنَ حُبًّا يَجْتَمِعْنَ وَوَصْلُهُ ... فَكَيْفَ بِحُبٍّ يَجْتَمِعْنَ وَصَدُّهُ أَبِي خُلُقُ الدُّنْيَا حَبِيبًا تُدِيمُهُ ... فَمَا طَلَبِي مِنْهَا حَبِيبًا تَرُدُّهُ وَأَسْرَعُ مَفْعُولٍ فَعَلْتَ تَغَيُّرًا ... تَكَلُّفُ شَيْءٍ فِي طِبَاعِك ضِدُّهُ وَقَالَ أَرِسْطُو طَالِيسَ: الْأَشْكَالُ لَاحِقَةٌ بِأَشْكَالِهَا، كَمَا أَنَّ الْأَضْدَادَ مُبَايِنَةٌ لِأَضْدَادِهَا. وَقَالَ الْمُتَنَبِّي: وَشَبَهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ ... وَأَشْبَهَنَا بِدُنْيَانَا الطَّغَامُ وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: رَأَيْت جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَشْغَلُهُمْ طَلَبُهُمْ لِلْعِلْمِ فِي زَمَنِ الصِّبَا عَنْ الْمَعَاشِ، فَيَحْتَاجُونَ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 فَلَا يَصِلُهُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، وَلَا مِنْ صِلَاتِ الْإِخْوَانِ مَا يَكْفِي، فَيَحْتَاجُونَ إلَى التَّعَرُّضِ بِالْإِذْلَالِ، فَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ إلَّا سَبَبَيْنِ. أَحَدُهُمَا: قَمْعُ إعْجَابِهِمْ بِهَذَا الْإِذْلَالِ. وَالثَّانِي: نَفْعُ أُولَئِكَ بِثَوَابِهِمْ. ثُمَّ أَمْعَنْت الْفِكْرَ فَتَلَمَّحْتُ نُكْتَةً لَطِيفَةً، وَهِيَ أَنَّ النَّفْسَ الْأَبِيَّةَ إذَا رَأَتْ حَالَ الدُّنْيَا كَذَلِكَ لَمْ تُسَاكِنْهَا بِالْقَلْبِ، وَنَبَتْ عَنْهَا بِالْعَزْمِ، وَرَأَتْ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهَا مَزْبَلَةً عَلَيْهَا الْكِلَابُ، وَإِنَّمَا تُؤْتَى لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا نَزَلَ الْمَوْتُ بِالرِّحْلَةِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْقَلْبِ بِهَا مُتَعَلِّقٌ يَتَمَكَّنُ فَتَهُونُ حِينَئِذٍ. وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ نَثْرًا وَنَظْمًا، وَيُسْنِدُونَ ذَلِكَ لِلزَّمَانِ وَالدَّهْرِ وَالدُّنْيَا عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ وَإِلَّا فَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ لَا غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ الْوَرْدِيِّ فِي لَامِيَّتِهِ: قَاطِعْ الدُّنْيَا فَمِنْ عَادَاتِهَا ... تُخْفِضُ الْعَالِي وَتُعْلِي مَنْ سَفَلْ عِيشَةُ الزَّاهِدِ فِي تَحْصِيلِهَا ... عِيشَةُ الْجَاهِلِ بَلْ هَذَا أَذَلّ كَمْ جَهُولٍ وَهُوَ مُثْرٍ مُكْثِرْ ... وَعَلِيلٍ مَاتَ مِنْهَا بِعِلَلْ كَمْ شُجَاعٍ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا الْمُنَى ... وَجَبَانٍ نَالَ غَايَاتِ الْأَمَلِ وَقَوْلُ الطُّغْرَائِيِّ فِي لَامِيَّةِ الْعَجَمِ: أَهَبْت بِالْحَظِّ لَوْ نَادَيْت مُسْتَمِعَا ... وَالْحَظُّ عَنِّي بِالْجُهَّالِ فِي شُغُلِ لَعَلَّهُ إنْ بَدَا فَضْلِي وَنَقْصُهُمْ ... لَعَيْنِهِ نَامَ عَنْهُمْ أَوْ تَنَبَّهَ لِي قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: قَالَ الْحَظُّ لِلْعَقْلِ: إنْ شِئْت سِرْ أَوْ أَقِمْ فَإِنِّي مُسْتَغْنٍ عَنْك. وَقَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ: مَا ضَرَّ جَهْلُ الْجَاهِلِينَ ... وَلَا انْتَفَعْت أَنَا بِحِذْقِي وَزِيَادَتِي فِي الْحِذْقِ فَهِيَ ... زِيَادَتِي فِي نَقْصِ رِزْقِي وَقَالَ شَمْسُ الدِّينِ الْحَكِيمُ بْنُ دَانْيَالَ: قَدْ عَقَلْنَا وَالْعَقْلُ أَيُّ وَثَاقِ ... وَصَبَرْنَا وَالصَّبْرُ مُرُّ الْمَذَاقِ كُلُّ مَنْ كَانَ فَاضِلًا كَانَ مِثْلِي ... فَاضِلًا عِنْدَ قِسْمَةِ الْأَرْزَاقِ وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 لَوْ أَنَّ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدْتنِي ... بِنُجُومِ أَفْلَاكِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الْغِنَى ... ضِدَّانِ مُفْتَرَقَانِ أَيَّ تَفَرُّقِ فَإِذَا سَمِعْت بِأَنَّ مَحْرُومًا أَتَى ... مَاءً لِيَشْرَبَهُ فَغَاصَ فَصَدِّقْ أَوْ أَنَّ مَحْظُوظًا غَدَا فِي كَفِّهِ ... عُودٌ فَأَوْرَقَ فِي يَدَيْهِ فَحَقِّقْ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَيْسَ رِزْقُ الْفَتَى مِنْ حُسْنِ حِيلَتِهِ ... لَكِنْ حُظُوظٌ بِأَرْزَاقٍ وَأَقْسَامِ كَالصَّيْدِ يُحْرَمُهُ الرَّامِي الْمُجِيدُ وَقَدْ ... يَرْمِي فَيُرْزَقُهُ مَنْ لَيْسَ بِالرَّامِي وَقَالَ خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ، وَنَادِرَةُ الْمُدَقِّقِينَ، الْعَلَّامَةُ الْأَوْحَدُ، وَالْفَهَّامَةُ الْأَمْجَدُ، الْوَحِيدُ الْأَلْمَعِيُّ، وَالْفَرِيدُ اللَّوْذَعِيُّ، الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ أَبِي الْمَوَاهِبِ، الْمُنْتَقِلُ إلَى سَعَةِ رَحْمَةِ الْوَاهِبِ، لَيْلَةَ الْأَحَدِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُمَادَى الثَّانِيَةِ فِي سَنَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ، وَقَدْ أَخَذْنَا عَنْ عِدَّةِ شُيُوخٍ أَخَذُوا عَنْهُ، وَقَدْ شَارَكْنَاهُ فِي أَكْثَرِ مَشَايِخِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ، مُشَطِّرًا لِلْأَبْيَاتِ الْمَنْسُوبَةِ لِسَيِّدِنَا جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ آبَائِهِ الْأَطْهَرِينَ، وَهِيَ: عَتَبْت عَلَى الدُّنْيَا وَقُلْت إلَى مَتَى ... تُسِيئِينَ صُنْعًا مَعَ ذَوِي الشَّرَفِ الْجَلِيّ أَفَاقِدَةُ الْإِنْصَافِ حَتَّى عَلَيْهِمْ ... تَجُودِينَ بِالْهَمِّ الَّذِي لَيْسَ يَنْجَلِي فَكُلُّ شَرِيفٍ مِنْ سُلَالَةِ هَاشِمٍ ... بِسَيِّئٍ حَظٍّ فِي مَذَاهِبِهِ اُبْتُلِيَ وَمَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْعِزِّ وَالْعُلَا ... يَكُونُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ غَيْرَ مُسَهَّلِ فَقَالَتْ نَعَمْ يَا بْنَ الْبَتُولِ لِأَنَّنِي ... خَسِيسَةُ قَدْرٍ عَنْ عُلَاكُمْ بِمَعْزِلِ وَأَمَّا إسَاءَاتِي فَذَلِكَ أَنَّنِي ... حَقَدْت عَلَيْكُمْ حِينَ طَلَّقَنِي عَلِيٌّ مَطْلَبٌ: فِي وَصْفِ ضِرَارِ بْنِ ضَمْرَةَ الْإِمَامَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُلْت: وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: حَقَدْت عَلَيْكُمْ حِينَ طَلَّقَنِي عَلِيٌّ، إلَى مَا رَوَيْنَاهُ بِالسَّنَدِ الْمُتَّصِلِ إلَى الْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ، قَالَ نَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي صَادِقٍ الْحُرِّيُّ نَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَاكَوَيْهِ الشِّيرَازِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَهْدٍ حَدَّثَنَا فَهْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ السَّاجِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنُ دِينَارٍ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْأَسَدِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 عَنْ الضَّبِّيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِضِرَارِ بْنِ ضَمُرَةَ: صِفْ لِي عَلِيًّا. فَقَالَ أَوَ تُعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ بَلْ تَصِفْهُ لِي، قَالَ أَوَ تُعْفِنِي، قَالَ لَا أُعْفِيك. قَالَ أَمَّا إذْ لَا بُدَّ فَإِنَّهُ وَاَللَّهِ كَانَ بَعِيدَ الْمَدَى، شَدِيدَ الْقُوَى، يَقُولُ فَصْلًا، وَيَحْكُمُ عَدْلًا، وَيَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ، يَسْتَوْحِشُ مِنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا، وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ، كَانَ وَاَللَّهِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ، طَوِيلَ الْفِكْرَةِ، يُقَلِّبُ كَفَّهُ، وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ، يُعْجِبُهُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا خَشِنَ، وَمِنْ الطَّعَامِ مَا جَشِبَ - أَيْ بِالْجِيمِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى وَزْنِ نَصَرَ وَسَمِعَ أَيْ غَلُظَ أَوْ بِلَا أُدُمٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ انْتَهَى - كَانَ وَاَللَّهِ كَأَحَدِنَا يُجِيبُنَا إذَا سَأَلْنَاهُ، وَيَبْتَدِينَا إذَا أَتَيْنَاهُ، وَيَأْتِينَا إذَا دَعَوْنَاهُ، وَنَحْنُ وَاَللَّهِ مَعَ تَقْرِيبِهِ لَنَا وَقُرْبِهِ مِنَّا لَا نُكَلِّمُهُ هَيْبَةً، وَلَا نَبْتَدِيهِ لِعَظَمَتِهِ، فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ، يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ، وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ، وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ، فَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَرَأَيْته فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ، وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُجُوفَهُ، وَغَارَتْ نُجُومُهُ، وَقَدْ مَثُلَ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ يَعْنِي الْقَرِيصِ وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ، فَكَأَنِّي أَسْمَعُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا أَبِي تَعَرَّضْت، أَمْ لِي تَشَوَّقْت، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، غُرِّي غَيْرِي، قَدْ بَتَتُّكِ ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ لِي فِيك، فَعُمُرُك قَصِيرٌ، وَعَيْشُك حَقِيرٌ، وَخَطَرُك كَبِيرٌ، آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ. قَالَ فَذَرِفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَمَا يَمْلِكُهَا وَهُوَ يُنَشِّفُهَا بِكُمِّهِ، وَقَدْ اخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا الْحَسَنِ كَانَ وَاَللَّهِ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ حُزْنُك عَلَيْهِ يَا ضِرَارُ؟ قَالَ حُزْنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُهَا فِي حِجْرهَا فَلَا تَرْقَأُ عَبْرَتُهَا، وَلَا تَسْكُنُ حَسْرَتُهَا. وَمَرَّ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصَفَ الدُّنْيَا فَقَالَ: دَارٌ مَنْ صَحَّ فِيهَا أَمِنَ، وَمَنْ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ، فِي حَلَالِهَا الْحِسَابُ، وَفِي حَرَامِهَا النَّارُ وَفِي لَفْظٍ الْعَذَابُ. قَالَ فِي التَّمْيِيزِ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مَوْقُوفًا وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ انْتَهَى. وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي الْإِحْيَاءِ مَرْفُوعًا وَقَالَ مَخْرَجُهُ لَمْ أَجِدْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 وَقَالَ السَّخَاوِيُّ: وَفِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَفَعَهُ: يَا بْنَ آدَمَ مَا تَصْنَعُ بِالدُّنْيَا حَلَالُهَا حِسَابٌ، وَحَرَامُهَا عَذَابٌ، وَلَفْظُ الشُّعَبِ: وَحَرَامُهَا النَّارُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَمِمَّا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: يَا دُنْيَا غُرِّي غَيْرِي قَدْ طَلَّقْتُك ثَلَاثًا وَأَنْشَدَ: دُنْيَا تُخَادِعُنِي كَأَنِّي ... لَسْت أَعْرِفُ مَالَهَا مَدَّتْ إلَيَّ يَمِينَهَا ... فَرَدَدْتهَا وَشِمَالَهَا ذَمَّ الْإِلَهُ حَرَامَهَا ... وَأَنَا اجْتَنَبْت حَلَالَهَا وَعَرَفْتهَا غَدَّارَةً ... فَتَرَكْت جُمْلَتَهَا لَهَا وَقَدْ ذَكَرْت لَك بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِي الْقَوْلِ الْعَلِيّ لِشَرْحِ أَثَرِ الْإِمَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ بِقَوْلِهِ: حَقَدْت عَلَيْكُمْ حِينَ طَلَّقَنِي عَلِيٌّ. وَقَالَ آخَرُ فِي مِثْلِ هَذَا وَأَحْسَنَ: عَتَبْت عَلَى الدُّنْيَا لِتَقْدِيمِ جَاهِلٍ ... وَتَأْخِيرِ ذِي فَضْلٍ فَقَالَتْ لَك الْعُذْرَا بَنُو الْجَهْلِ أَبْنَائِي لِهَذَا رَفَعَتْهُمْ ... وَأَمَّا ذَوُو الْأَلْبَابِ مِنْ ضَرَّتِي الْأُخْرَى وَقَالَ السَّيِّدُ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعَبَّاسُ الْإِسْطَنْبُولِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَرَى الدَّهْرَ يُسْعِفُ جُهَّالَهُ ... وَأَوْفَرُ حَظٍّ بِهِ الْجَاهِلُ وَأَنْظُرُ حَظِّي بِهِ نَاقِصًا ... أَيَحْسَبُنِي أَنَّنِي فَاضِلُ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الصَّابِي: قَدْ كُنْت أُعْجَبُ مِنْ مَالِي وَكَثْرَتِهِ ... وَكَيْفَ تَغْفُلُ عَنِّي حِرْفَةُ الْأَدَبِ حَتَّى انْثَنَتْ وَهِيَ كَالْغَضْبَى تُلَاحِظُنِي ... شَزْرًا وَلَمْ تُبْقِ لِي شَيْئًا مِنْ النُّشَبِ وَاسْتَيْقَنْت أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى خَطَأٍ ... فَاسْتَدْرَكَتْهُ وَأَفْضَتْ بِي إلَى الْحَرْبِ الضَّبُّ وَالنُّونُ قَدْ يُرْجَى اجْتِمَاعُهُمَا ... وَلَيْسَ يُرْجَى اجْتِمَاعُ الْمَالِ وَالْأَدَبِ وَقَالَ السَّيِّدُ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 كَفَى حَزَنًا أَنَّ الْغِنَى مُتَعَذَّرٌ ... عَلَيَّ وَأَنِّي بِالْمَكَارِمِ مُغْرَمُ وَوَاللَّهِ مَا قَصَّرْت فِي طَلَبِ الْعُلَا ... وَلَكِنَّنِي أَسْعَى إلَيْهَا وَأُحْرَمُ وَمَا النَّاسُ إلَّا مُخَصَّبٌ بِثَرَائِهِ ... وَآخَرُ ذُو جَدْبٍ مِنْ الْمَالِ مُعْدَمُ كَمَا أَنَّ هَذَا شَاعِرٌ ذُو خَطَابَةٍ ... وَهَذَا بَلِيدٌ مُقْفَلُ الْفَهْمِ مُفْحَمُ وَإِنْ جُمِعَا فِي مَحْفِلٍ وَتَنَسَّبَا ... إلَى أَبِ صَدْقٍ فِعْلُهُ يَتَرَنَّمُ وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ يَزْدَجْرِدْ الْكَسْرَوِيُّ: مَتَى يُدْرِكُ النِّحْرِيرُ بَخْتًا بِعَقْلِهِ ... وَيُحْرِزُ حَظًّا بِالْبَيَانِ وَبِالنُّطْقِ وَيَحْتَالُ لِلْمَقْدُورِ حَتَّى يُزِيلَهُ ... بِحِيلَةِ ذِي الْبَخْتِ الْمُكَمَّلِ بِالْحَلَقِ أَبَتْ سُنَّةُ الْأَقْدَارِ غَيْرَ الَّذِي جَرَى ... بِهِ الْحُكْمُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْخُلُقِ وَالْخَلْقِ فَلَا تَخْدَعْنِي بِالْأَمَانِي فَإِنَّهَا ... تَقُودُ عَزِيزَ الْقَوْمِ حُرًّا إلَى الرِّقِّ وَكُونِي مَعَ الْحَقِّ الْمُصَرَّحِ وَاصْبِرِي ... كَصَبْرِ الْمُسَجَّى فِي السِّيَاقِ عَلَى الْحَقِّ فَمَا صَبْرُ الْمَكْرُوبِ وَهُوَ مُخَيَّرُ ... وَلَكِنَّهُ صَبْرٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ وَفِي مَرْثِيَةِ التِّهَامِيِّ لِوَلَدِهِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الَّتِي أَوَّلُهَا: حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِّيَّةِ جَارِي ... مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ بَيْنَا يُرَى الْإِنْسَانُ فِيهَا مُخَبِّرًا ... حَتَّى يُرَى خَبَرًا مِنْ الْأَخْبَارِ جُبِلَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا ... صَفْوًا مِنْ الْأَقْذَاءِ وَالْأَكْدَارِ وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا ... مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ إلَى أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ الزَّمَانُ وَإِنْ حَرَصْت مُسَالِمًا ... خُلُقُ الزَّمَانِ عَدَاوَةُ الْأَحْرَارِ وَأَخْبَرَنَا شَيْخُنَا الشَّهَابُ الْمَنِينِيُّ فِي مَدْرَسَتِهِ الْعَادِلِيَّةِ فِي مَحْرُوسَةِ الشَّامِ سَنَةَ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَالَ: رَأَيْت فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنِّي بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَكَأَنِّي أَنْشُدُ بَيْتًا مِنْ الشِّعْرِ وَهُوَ: قَدْ قَالَ جَدِّي عَنْ فَهْمٍ وَتَجْرِبَةٍ ... مَا آفَةُ الْجَدِّ إلَّا حِرْفَةَ الْأَدَبِ فَأَخَذْتُهُ وَكَتَبْت فِي الْمَجْلِسِ: لَمَّا رَقِيت الْعُلَا وَظَفِرْت بِالْإِرْثِ ... مِنْ الْعُلُومِ وَفُقْتَ النَّاسَ بِالْأَدَبِ نَعَى الزَّمَانُ لِنَفْسِي حَظَّهَا سَفَهًا ... مِنْ الْمَكَارِمِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ صَحْبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 فَذُو الصَّدَاقَةِ صَارَ الْآنَ يَكْرَهُنِي ... لِجَهْلِهِ بِذَوِي الْأَلْبَابِ وَالرُّتَبِ وَغَاضَ رِزْقِي وَعَادَانِي الزَّمَانُ وَلَمْ ... يَنْظُرْ لِمَا بِي مِنْ الْعُلْيَا وَلَا حَسَبِي وَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ فَاصْغِ لَهَا ... فَمَا لِذِي فِطْنَةٍ فِي النَّاسِ مِنْ نَشَبِ وَشَاهِدِي فِيهِ مَا أَمْلَى الشِّهَابُ عَلَى ... طَيْفٍ أَلَمَّ بِهِ فِي حِنْدِسِ الشُّهُبِ قَدْ قَالَ جَدِّي عَنْ فَهْمٍ وَتَجْرِبَةٍ ... مَا آفَةُ الْجَدِّ إلَّا حِرْفَةَ الْأَدَبِ وَاعْلَمْ حَمَاك اللَّهُ مِنْ الزَّنْدَقَةِ، وَطَهَّرَ لِسَانَك مِنْ اللَّقْلَقَةِ، أَنَّ الزَّمَانَ لَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ، وَلَا يَخْفِضُ وَلَا يَرْفَعُ، وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ رَبُّ الزَّمَانِ، الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. وَلَمَّا أَوْغَلَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ الزِّنْدِيقُ الْمُتَعَدِّي فِي النَّظَرِ فِي الْعُلُومِ الْفَلْسَفِيَّةِ، وَلَمْ يُنَوِّرْ قَلْبَهُ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، قَالَ فِي مَعْرِضِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقًا هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً ... وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقًا فَعَارَضَهُ أَهْلُ الِاهْتِدَاءِ وَنُجُومُ الِاقْتِدَاءِ فَقَالُوا: كَمْ مِنْ أَدِيبٍ فَهِمٍ قَلْبُهُ ... مُسْتَكْمِلُ الْعَقْلَ مُقِلٍّ عَدِيمِ وَمِنْ جَهُولٍ مُكْثِرٍ مَالَهُ ... ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَقَالَ آخَرُ: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ لَا زَالَ ذَا عُسْرِ ... وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ لَا زَالَ فِي يُسْرِ تَحَيَّرَ النَّاسُ فِي هَذَا فَقُلْت لَهُمْ ... هَذَا الَّذِي أَوْجَبَ الْإِيمَانَ بِالْقَدْرِ وَقَالَ آخَرُ: كَمْ مِنْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ فِي تَصَرُّفِهِ ... مُهَذَّبُ الرَّأْيِ عَنْهُ الرِّزْقُ يَنْحَرِفُ وَكَمْ ضَعِيفٍ ضَعِيفٍ فِي تَقَلُّبِهِ ... كَأَنَّهُ مِنْ خَلِيجِ الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ لَهُ ... فِي الْخَلْقِ سِرٌّ خَفِيٌّ لَيْسَ يَنْكَشِفُ وَقَالَ الْأَرْجَانِيُّ: تَنْقِيصُ أَهْلِ الْفَضْلِ دُونَ الْوَرَى ... مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَآفَاتُهَا كَالطَّيْرِ لَا يُحْبَسُ مِنْ بَيْنِهَا ... إلَّا الَّتِي تَطْرَبُ أَصْوَاتُهَا وَلَهُ أَيْضًا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 لَوْ كُنْت أَجْهَلُ مَا عَلِمْت لَسَرَّنِي ... جَهْلِي كَمَا قَدْ سَاءَنِي مَا أَعْلَمُ كَالصَّقْرِ يَرْتَعُ فِي الرِّيَاضِ وَإِنَّمَا ... حُبِسَ الْهَزَارُ لِأَنَّهُ يَتَرَنَّمُ وَلَا مَعْنَى لِلْإِطْنَابِ فِي نَقْلِ كَلَامِ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ وَالْآدَابِ، مِنْ الْحِكَمِ الَّتِي أَوْدَعُوهَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَيَكْفِيك إنْ كُنْت ذَا أَدَبٍ، نَفْيُ الطُّغْرَائِيِّ الْعَجَبَ لِهَذَا السَّبَبِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَ ذَوِي الْفُهُومِ وَالْحَقَائِقِ وَالْعُلُومِ، أَنَّ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالْحُطَامِ الْجَهُولُ الْغَشُومُ، وَأَقَلَّ النَّاسِ حَظًّا مِنْهُ ذُو الشَّرَفِ الْبَاذِخِ، وَالْقَدَمِ الرَّاسِخِ، فِي إدْرَاكِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ، جَعَلَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَجْهُولٍ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَا مُتَعَجَّبٌ مِنْهُ بَلْ مَعْلُومٌ. فَقَالَ: مَا كُنْت أُوثِرُ أَنْ يَمْتَدَّ بِي زَمَنِي ... حَتَّى أَرَى دَوْلَةَ الْأَوْغَادِ وَالسُّفَّلِ تَقَدَّمَتْنِي أُنَاسٌ كَانَ شَوْطُهُمْ ... وَرَاءَ خَطْوِي إذْ أَمْشِي عَلَى مَهَلِ هَذَا جَزَاءُ امْرِئٍ أَقْرَانُهُ دَرَجُوا ... مِنْ قَبْلِهِ فَتَمَنَّى فُسْحَةَ الْأَجَلِ فَإِنْ عَلَانِي مَنْ دُونِي فَلَا عَجَبٍ ... لِي أُسْوَةٌ بِانْحِطَاطِ الشَّمْسِ عَنْ زُحَلِ فَإِنَّ الشَّمْسَ أَشْرَفُ الْكَوَاكِبِ، وَهِيَ كَالْمَلِكِ وَسَائِرُ الْكَوَاكِبِ كَالْأَعْوَانِ وَالْجُنُودِ، وَالْقَمَرُ كَالْوَزِيرِ وَوَلِيِّ الْعَهْدِ، وَعُطَارِدُ كَالْكَاتِبِ، وَالْمِرِّيخُ كَصَاحِبِ الْجَيْشِ الَّذِي عَلَى الشُّرْطَةِ، وَالْمُشْتَرِي كَالْقَاضِي، وَزُحَلُ صَاحِبُ الْخَزَائِنِ وَالزُّهْرَةُ كَالْخَدَمِ وَالْجَوَارِي. فَهَذِهِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ السَّيَّارَةُ. فَالشَّمْسُ مَعَ عُلُوِّ شَأْنِهَا وَقُوَّةِ سُلْطَانِهَا فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَإِنَّمَا نَفَى الْعَجَبَ مِنْ تَقَدُّمِ الْأَوْغَادِ وَالسُّفَّلِ عَلَيْهِ مَعَ نَقْصِهِمْ وَنُزُولِهِمْ عَنْ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَرُسُوخِ قَدَمِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عَادَةُ الدَّهْرِ بِتَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ. كَانْحِطَاطِ الشَّمْسِ إلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ عَلَى شَرَفِهَا وَانْتِفَاعِ الْعَالَمِ بِهَا وَارْتِفَاعِ زُحَلٍ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ النُّجُومِ الْخُنَّسِ حَتَّى أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُهُ. مَطْلَبٌ: فِي النَّهْي عَنْ نِسْبَةِ الْإِذْلَالِ وَالْإِعْزَازِ وَالتَّمَادِي وَالْإِنْجَازِ لِلدَّهْرِ وَأَنَّ ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الصَّانِعِ جَلَّ شَأْنُهُ (الرَّابِعُ) : قَدْ وَلِعَ النَّاسُ فِي شَكْوَى الزَّمَانِ وَالدَّهْرِ وَالْأَوَانِ، وَيَنْسِبُونَ إلَيْهِ الْإِذْلَالَ وَالْإِعْزَازَ، وَالتَّمَادِيَ وَالْإِنْجَازَ، وَالتَّأْخِيرَ وَالتَّقْدِيمَ، وَالْمُهَانَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 وَالتَّكْرِيمَ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الصَّانِعِ جَلَّ شَأْنُهُ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، بَلْ هُوَ صَرِيحُ كَلَامِهِ سَتَقِفُ عَلَيْهِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ صَرَّحَ بِالِاعْتِرَاضِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ «يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: «أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَإِذَا شِئْت قَبَضَتْهُمَا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ «لَا يَسُبُّ أَحَدُكُمْ الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ «لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ، وَلَا تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَقُولُ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ» . وَرَوَاهُ مَالِكٌ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «اسْتَقْرَضْت عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي، وَشَتَمَنِي عَبْدِي وَهُوَ لَا يَدْرِي، يَقُولُ وَادْهَرَاهُ وَادْهَرَاهُ، وَأَنَا الدَّهْرُ» . إلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى ضَرْبٍ عَنْ الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ تَبَرُّمٍ وَلَا انْزِعَاجٍ، بَلْ يُبْدِي الْحِكْمَةَ وَيُسْنِدُ الْفِعْلَ لِلَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِ حُسَيْنٍ الْمَمْلُوكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: كَمْ مِنْ جَهُولٍ فِي الْغِنَى مُكْثِرُ ... وَمِنْ عَلِيمٍ فِي عَنَاءٍ مُقِيمُ قَدْ حَارَتْ الْأَفْكَارُ فِي سِرِّ ذَا ... وَطَاشَتْ النَّاسُ فَقَالَ الْحَكِيمُ لَا يُسْأَلُ الْخَلَّاقُ عَنْ فِعْلِهِ ... ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمُ وَأَمَّا مَنْ اعْتَرَضَ عَلَى اللَّهِ فَقَدْ عَدِمَ التَّوْفِيقَ، وَخَلَعَ عَنْ عُنُقِهِ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ وَالتَّصْدِيقِ، فَهُوَ مُضِلٌّ ضَالٌّ زِنْدِيقٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: مَا رَأَتْ عَيْنِي مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِالْخَلْقِ أَعْظَمَ مِنْ سَبِّهِمْ لِلزَّمَانِ وَعَيْبِهِمْ لِلدَّهْرِ. وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» وَمَعْنَاهُ أَنْتُمْ تَسُبُّونَ مَنْ فَرَّقَ شَمْلَكُمْ وَأَمَاتَ أَهَالِيِكُمْ وَتَنْسُبُونَهُ إلَى الدَّهْرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ. فَتَعَجَّبْت كَيْفَ أُعْلِمُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْحَالِ وَهُمْ عَلَى مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَتَغَيَّرُونَ، حَتَّى رُبَّمَا اجْتَمَعَ الْفُطَنَاءُ الْأُدَبَاءُ الظِّرَافُ عَلَى زَعْمِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُغُلٌ إلَّا ذَمَّ الدَّهْرِ، وَرُبَّمَا جَعَلُوا اللَّهَ الدُّنْيَا وَيَقُولُونَ فَعَلَتْ وَصَنَعَتْ، حَتَّى رَأَيْت لِأَبِي الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيِّ: وَلَمَّا تَعَامَى الدَّهْرُ وَهُوَ أَبُو الْوَرَى ... عَنْ الرُّشْدِ فِي إيجَابِهِ وَمَقَاصِدِهِ تَعَامَيْت حَتَّى قِيلَ إنِّي أَخُو عَمَى ... وَلَا غَرْوَ أَنْ يَحْذُوَ الْفَتَى حَذْوَ وَالِدِهِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَأَيْت خَلْقًا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فُقَهَاءُ وَفُهَمَاءُ وَلَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ هَذَا، وَهَؤُلَاءِ إنْ أَرَادُوا بِالدَّهْرِ مُرُورَ الزَّمَانِ فَذَاكَ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا مُرَادَ، وَلَا يَعْرِفُ رُشْدًا مِنْ ضَلَالٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَامَ فَإِنَّهُ زَمَانٌ مُدَبَّرٌ لَا مُدَبِّرٌ، فَيُتَصَرَّفُ فِيهِ وَلَا يَتَصَرَّفُ، وَمَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَذْمُومَ الْمُعْرِضَ عَنْ الرُّشْدِ الْمُسِيءَ الْحُكْمَ هُوَ الزَّمَانُ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا عَنْ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ وَنَسَبُوا هَذِهِ الْقَبَائِحَ إلَى الصَّانِعِ، فَاعْتَقَدُوا فِيهِ قُصُورَ الْحِكْمَةِ وَفِعْلَ مَا لَا يَصْلُحُ. كَمَا اعْتَقَدَهُ إبْلِيسُ فِي تَفْضِيلِ آدَمَ. وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْفَعُهُمْ مَعَ هَذَا اعْتِقَادُ إسْلَامٍ وَلَا فِعْلُ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ. بَلْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْكُفَّارِ. ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: تَأَمَّلْت عَلَى قَوْمٍ يَدْعُونَ الْعُقُولَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى حِكْمَةِ الْخَالِقِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَيَبْقَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَعْطَاهُمْ الْكَمَالَ، وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالنَّقْصِ. هَذَا الْكُفْرُ الْمَحْضُ الَّذِي يَزِيدُ فِي الْقُبْحِ عَلَى الْجَحْدِ. فَأَوَّلُ الْقَوْمِ إبْلِيسُ فَإِنَّهُ رَأَى بِعَقْلِهِ أَنَّ جَوْهَرَ النَّارِ أَشْرَفُ مِنْ جَوْهَرِ الطِّينِ فَرَدَّ حِكْمَةَ الْخَالِقِ. وَمَرَّ عَلَى هَذَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَرِضِينَ مِثْلُ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَالْمَعَرِّيُّ. قَالَ وَهَذَا الْمَعَرِّيُّ اللَّعِينُ يَقُولُ كَيْفَ يُعَابُ ابْنُ الْحَجَّاجِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 بِالسُّحْقِ وَالدَّهْرُ أَقْبَحُ فِعْلًا مِنْهُ، أَتُرَى يَعْنِي بِهِ الزَّمَانَ كَلًّا، فَإِنَّ مَمَرَّ الْأَوْقَاتِ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا وَإِنَّمَا هُوَ، فَكَانَ يَسْتَعْجِلُ الْمَوْتَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَسْتَرِيحُ. وَكَانَ يُوصِي بِتَرْكِ النِّكَاحِ وَالنَّسْلِ، وَلَا يَرَى فِي الْإِيجَادِ حِكْمَةً إلَّا الْعَنَاءَ وَالتَّعَبَ وَمَصِيرُ الْأَبَدَانِ إلَى الْبِلَى، وَهَذَا لَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّ كَانَ الْإِيجَادُ عَبَثًا وَالْحَقُّ مُنَزَّهٌ عَنْ الْعَبَثِ. قَالَ تَعَالَى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا} [ص: 27] فَإِذَا كَانَ مَا خُلِقَ لَنَا لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا أَفَنَكُونُ نَحْنُ وَنَحْنُ مَوَاطِنُ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَالُّ تَكْلِيفِهِ قَدْ وُجِدْنَا عَبَثًا، مَطْلَبٌ: فِي رَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَا فَائِدَةُ الْإِعْدَامِ بَعْدَ الْإِيجَادِ وَالِابْتِلَاءِ مِمَّنْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْ أَذَانَا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: رَأَيْت كَثِيرًا مِنْ الْمُتَغَفِّلِينَ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ السُّخْطُ بِالْأَقْدَارِ وَفِيهِمْ مَنْ قَلَّ إيمَانُهُ فَأَخَذَ يَعْتَرِضُ، وَفِيهِمْ مَنْ خَرَجَ إلَى الْكُفْرِ، وَرَأَى أَنَّ مَا يَجْرِي كَالْعَبَثِ، وَقَالَ مَا فَائِدَةُ الْإِعْدَامِ بَعْدَ الْإِيجَادِ. وَالِابْتِلَاءِ مِمَّنْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْ أَذَانَا. فَقُلْت لِبَعْضِ مَنْ كَانَ يَرْمِزُ إلَى هَذَا: إنْ حَضَرَ عَقْلُك وَقَلْبُك حَدَّثْتُك. وَإِنْ كُنْت تَتَكَلَّمُ بِمُجَرَّدِ وَاقِعَتِك مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا إنْصَافٍ فَالْحَدِيثُ مَعَك ضَائِعٌ. وَيْحَكَ أَحْضِرْ عَقْلَك وَاسْمَعْ مَا أَقُولُ: أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ مَالِكٌ وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ كَيْفَ شَاءَ. أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حَكِيمٌ وَالْحَكِيمُ لَا يَعْبَثُ. وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ فِي نَفْسِك مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعْنَا عَنْ جَالِينُوسَ أَنَّهُ قَالَ مَا أَدْرِي أَحَكِيمٌ هُوَ أَمْ لَا. وَالسَّبَبُ فِي قَوْلِ هَذَا أَنَّهُ رَأَى نَقْضًا بَعْدَ إحْكَامٍ. فَقَاسَ الْحَالَ عَلَى أَحْوَالِ الْخَلْقِ. وَهُوَ أَنَّ مَنْ بَنَى ثُمَّ نَقَضَ لَا لِمَعْنًى فَلَيْسَ بِحَكِيمٍ. وَجَوَابُهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا أَنْ يُقَالَ بِمَاذَا بَانَ لَك أَنَّ النَّقْضَ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ. أَلَيْسَ بِعَقْلِك الَّذِي وَهَبَهُ الصَّانِعُ لَك وَكَيْفَ يَهَبُ لَك الذِّهْنَ الْكَامِلَ وَيَفُوتُهُ هُوَ الْكَمَالُ. وَهَذِهِ الْمِحْنَةُ الَّتِي جَرَتْ لِإِبْلِيسَ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِعَيْبِ الْحِكْمَةِ بِعَقْلِهِ. فَلَوْ تَفَكَّرَ عَلِمَ أَنَّ وَاهِبَ الْعَقْلِ أَعْلَى مِنْ الْعَقْلِ. وَأَنَّ حِكْمَتَهُ أَوْفَى مِنْ كُلِّ حَكِيمٍ؛ لِأَنَّهُ بِحِكْمَتِهِ التَّامَّةِ أَنْشَأَ الْعُقُولَ. فَهَذَا إذَا تَأَمَّلَهُ الْمُنْصِفُ زَالَ عَنْهُ الشَّكُّ. وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إلَى نَحْوِ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] أَيْ جَعَلَ لِنَفْسِهِ النَّاقِصَاتِ وَأَعْطَاكُمْ الْكَامِلِينَ. فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ نُضِيفَ الْعَجْزَ عَنْ فَهْمِ مَا يَجْرِي إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 أَنْفُسِنَا. وَنَقُولَ هَذَا فِعْلُ عَالِمٍ حَكِيمٍ، وَلَكِنْ مَا تَبَيَّنَ لَنَا مَعْنَاهُ. وَلَيْسَ هَذَا بِعَجَبٍ. فَإِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي نَقْضِ السَّفِينَةِ الصَّحِيحَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ الْجَمِيلِ، فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُ الْخَضِرُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ أَذْعَنَ. فَلْنَكُنْ مَعَ الْخَالِقِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ. أَلَسْنَا نَرَى الْمَائِدَةَ الْمُسْتَحْسَنَةَ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ فُنُونِ الطَّعَامِ النَّظِيفِ الظَّرِيفِ يُقَطَّعُ وَيُمْضَغُ وَلَا يُنْكَرُ الْإِفْسَادُ لَهُ، لِعِلْمِنَا بِالْمَصْلَحَةِ الْبَاطِنَةِ فِيهِ، فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ لَهُ بَاطِنٌ لَا نَعْلَمُهُ. وَمِنْ أَجْهَلِ الْجُهَّالِ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إذَا طَلَبَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى سِرِّ مَوْلَاهُ، فَإِنَّ فَرْضَهُ التَّسْلِيمُ لَا الِاعْتِرَاضُ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الِابْتِلَاءِ بِمَا تُنْكِرُهُ الطِّبَاعُ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ إذْعَانَ الْعَقْلِ وَتَسْلِيمَهُ لَكَفَى. قَالَ: وَلَقَدْ تَأَمَّلْت حَالَةً عَجِيبَةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْمَوْتِ هِيَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ فِي غَيْبٍ لَا يُدْرِكُهُ الْإِحْسَاسُ، فَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ هَذِهِ الْبِنْيَةَ لَتَخَايَلَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ صُنْعٌ لَا يُصَانَعُ فَإِذَا وَقَعَ الْمَوْتُ عَرَفَتْ النَّفْسُ نَفْسَهَا الَّتِي كَانَتْ لَا تَعْرِفُهَا لِكَوْنِهَا فِي الْجَسَدِ، وَتُدْرِكُ عَجَائِبَ الْأُمُورِ بَعْدَ رَحِيلِهَا، فَإِذَا رُدَّتْ إلَى الْبَدَنِ عَرَفَتْ ضَرُورَةَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ أَعَادَهَا، وَتَذَكَّرَتْ حَالَهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْأَذْكَارَ تُعَادُ كَمَا تُعَادُ الْأَبْدَانُ، فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26] . وَمَتَى رَأَتْ مَا قَدْ وُعِدَتْ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، أَيْقَنَتْ يَقِينًا لَا شَكَّ مَعَهُ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِإِعَادَةِ مَيِّتٍ سِوَاهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ هَذَا الْأَمْرِ فِيهَا، فَيَبْنِي بِنِيَّةِ تَقَبُّلِ الْبَقَاءِ، وَيَسْكُنُ جَنَّةً لَا يَنْقَضِي دَوَامُهَا. فَيَصْلُحُ بِذَلِكَ الْيَقِينُ أَنْ تُجَاوِرَ الْحَقَّ؛ لِأَنَّهَا آمَنَتْ بِمَا وَعَدَ، وَصَبَرَتْ بِمَا ابْتَلَى، وَسَلَّمَتْ لِأَقْدَارِهِ فَلَمْ تَعْتَرِضْ، وَرَأَتْ فِي غَيْرِهَا الْعِبَرَ ثُمَّ فِي نَفْسِهَا، فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28] {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 30] . فَأَمَّا الشَّاكُّ وَالْكَافِرُ فَيَحِقُّ لَهُمَا الدُّخُولُ إلَى النَّارِ وَاللُّبْثُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمَا رَأَيَا الْأَدِلَّةَ وَلَمْ يَسْتَفِيدَا، وَنَازَعَا الْحَكِيمَ وَاعْتَرَضَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالدَّلِيلِ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْمَوْتِ وَالْإِعَادَةِ. وَدَلِيلُ بَقَاءِ الْخُبْثِ فِي الْقُلُوبِ قَوْله تَعَالَى {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] . فَنَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَقْلًا مُسْلِمًا يَقِفُ عَلَى حَدِّهِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى خَالِقِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 ثُمَّ الْوَيْلُ لِلْمُعْتَرِضِ أَيَرُدُّ اعْتِرَاضُهُ الْأَقْدَارَ. فَمَا يَسْتَفِيدُ إلَّا الْخِزْيَ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: لَيْسَ فِي التَّكْلِيفِ أَصْعَبُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَلَا فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الرِّضَا بِهِ. فَأَمَّا الصَّبْرُ فَهُوَ فَرْضٌ، وَأَمَّا الرِّضَا فَهُوَ فَضْلٌ، وَإِنَّمَا صَعُبَ الصَّبْرُ؛ لِأَنَّ الْقَدَرَ يَجْرِي فِي الْأَغْلَبِ بِمَكْرُوهِ النَّفْسِ، وَلَيْسَ مَكْرُوهُ النَّفْسِ يَقِفُ عَلَى الْمَرَضِ وَالْأَذَى فِي الْبَدَنِ، بَلْ هُوَ يَتَنَوَّعُ حَتَّى يَتَحَيَّرُ الْعَقْلُ فِي جَرَيَانِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّك إذَا رَأَيْت مَغْمُورًا بِالدُّنْيَا، قَدْ سَالَتْ لَهُ أَوْدِيَتُهَا حَتَّى لَا يَدْرِي مَا صَنَعَ بِالْمَالِ، فَهُوَ يَصُوغُهُ أَوَانِي يَسْتَعْمِلُهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبِلَّوْرَ وَالْعَقِيقَ وَالشَّبَهُ قَدْ يَكُونُ أَحْسَنَ مِنْهَا صُورَةً، غَيْرَ أَنَّ قِلَّةَ مُبَالَاتِهِ بِالشَّرِيعَةِ جَعَلَتْ عِنْدَهُ وُجُودُ النَّهْيِ كَعَدَمِهِ، وَيَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَيَظْلِمُ النَّاسَ وَالدُّنْيَا مُنَصَّبَةٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُرَى خَلْقًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَطُلَّابِ الْعِلْمِ مَغْمُورِينَ بِالْفَقْرِ وَالْبَلَاءِ، مَقْهُورِينَ تَحْتَ وِلَايَةِ ذَلِكَ الظَّالِمِ، فَحِينَئِذٍ يَجِدُ الشَّيْطَانُ طَرِيقًا لِلْوَسْوَاسِ؛ وَيَبْتَدِئُ بِالْقَدْحِ فِي حِكْمَةِ الْقَدَرِ. فَيَحْتَاجُ الْمُؤْمِنُ إلَى صَبْرٍ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا. وَعَلَى جِدَالِ إبْلِيسَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي تَسْلِيطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالْفُسَّاقِ عَلَى أَهْلِ الدِّينِ. وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا إيلَامُ الْحَيَوَانِ وَتَعْذِيبُ الْأَطْفَالِ. فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ يَتَمَحَّضُ الْإِيمَانُ. وَمِمَّا يُقَوِّي الصَّبْرَ عَلَى الْحَالَتَيْنِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ. أَمَّا النَّقْلُ فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَمُنْقَسِمٌ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ سَبَبِ إعْطَاءِ الْكَافِرِ وَالْعَاصِي. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] . {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] . {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: 16] . وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي ابْتِلَاءُ الْمُؤْمِنِ بِمَا يَلْقَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] . {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214] . {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 16] . وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمُنْقَسِمَةٌ إلَى قَوْلٍ وَحَالٍ. أَمَّا الْحَالُ فَإِنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَقَلَّبُ عَلَى رِمَالٍ وَحَصِيرٍ تُؤَثِّرُ فِي جَنْبَيْهِ، فَبَكَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ «كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ. فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفِي شَكٍّ أَنْتَ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا» . وَأَمَّا الْقَوْلُ فَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا تُسَاوِي عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» . وَأَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ يُقَوِّي عَسَاكِرَ الصَّبْرِ بِجُنُودٍ. مِنْهَا أَنْ يَقُولَ: قَدْ ثَبَتَتْ عِنْدِي الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ بِحِكْمَةِ الْقَدَرِ. فَلَا أَتْرُكُ الْأَصْلَ الثَّابِتَ لِمَا يَظُنُّهُ الْجَاهِلُ خَلَلًا. وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: مَا قَدْ اسْتَهْوَلْته أَيُّهَا؛ النَّاظِرُ مِنْ بَسْطِ يَدِ الْعَاصِي فَإِنَّهُ قَبْضٌ فِي الْمَعْنَى. وَمَا قَدْ أَثَّرَ عِنْدَك مِنْ قَبْضِ يَدِ الطَّائِعِ فَإِنَّهُ بَسْطٌ فِي الْمَعْنَى. لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَسْطَ يُوجِبُ عِقَابًا طَوِيلًا. وَهَذَا الْقَبْضُ يُؤْثِرُ انْبِسَاطًا فِي الْأَجْرِ جَزِيلًا. فَزَمَانُ الرَّجُلَيْنِ يَنْقَضِي عَنْ قَرِيبٍ. وَالْمَرَاحِلُ تُطْوَى وَالرُّكْبَانُ فِي الْحَدِيثِ. وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِاَللَّهِ كَالْأَجِيرِ. وَأَنَّ زَمَنَ التَّكْلِيفِ كَبَيَاضِ نَهَارٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْتَعْمَلِ فِي الطِّينِ أَنْ يَلْبَسَ نَظِيفَ الثِّيَابِ. بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُصَابِرَ سَاعَاتِ الْعَمَلِ فَإِذَا فَرَغَ تَنَظَّفَ وَلَبِسَ أَجْوَدَ ثِيَابِهِ. فَمَنْ تَرَفَّهَ وَقْتَ الْعَمَلِ نَدِمَ وَقْتَ تَفْرِيقِ الْأُجْرَةِ. وَعُوقِبَ عَلَى الْتَوَانِي فِيمَا كُلِّفَ. فَهَذِهِ النُّبَذُ تُقَوِّي أَزْرَ الصَّبْرِ. قَالَ وَأَزِيدُهَا بَسْطًا فَأَقُولُ: أَتَرَى إذَا أُرِيدَ اتِّخَاذُ شُهَدَاءَ فَكَيْفَ لَا يَخْلُقُ أَقْوَامًا يَبْسُطُ أَيْدِيَهُمْ لِقَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ. أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ لِعُمَرَ إلَّا مِثْلُ أَبِي لُؤْلُؤَةَ. وَلِعَلِيٍّ إلَّا مِثْلُ ابْنِ مُلْجِمٍ. أَفَيَصْلُحُ أَنْ يُقْتَلَ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الْأَحْبَارُ. وَلَوْ أَنَّ عَيْنَ الْفَهْمِ زَالَ عَنْهَا غِشَاءُ الْعَشَا لَرَأَتْ الْمُسَبِّبَ لَا الْأَسْبَابَ، وَالْمُقَدِّرَ لَا الْأَقْدَارَ، فَصَبَرَتْ عَلَى بَلَائِهِ إيثَارًا لِمَا يُرِيدُ. وَمِنْ هُنَا يَنْشَأُ الرِّضَا. كَمَا قِيلَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْبَلَاءِ: اُدْعُ اللَّهَ بِالْعَافِيَةِ. فَقَالَ أَحَبُّهُ إلَيَّ أَحَبُّهُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. إنْ كَانَ رِضَاكُمْ فِي سَهَرِي ... فَسَلَامُ اللَّهِ عَلَى وَسَنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 مَطْلَبٌ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ مَقَامٌ عَظِيمٌ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَرَاتِ الْمَعْرِفَةِ وَاعْلَمْ - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ مَقَامٌ عَظِيمٌ. وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَرَاتِ الْمَعْرِفَةِ. فَإِذَا عَرَفْته رَضِيت بِقَضَائِهِ. وَقَدْ يَجْرِي فِي ضِمْنِ الْقَضَاءِ مَرَارَاتٌ يَجِدُ بَعْضَ طَعْمِهَا الرَّاضِي. وَأَمَّا الْعَارِفُ فَتَقِلُّ عِنْدَهُ الْمَرَارَةُ لِقُوَّةِ حَلَاوَةِ الْمَعْرِفَةِ. فَإِذَا تَرَقَّى بِالْمَعْرِفَةِ إلَى الْمَحَبَّةِ صَارَتْ مَرَارَةُ الْأَقْدَارِ حَلَاوَةً. كَمَا قِيلَ: عَذَابُهُ فِيك عَذْبٌ ... وَبُعْدُهُ فِيك قُرْبٌ وَأَنْتَ عِنْدِي كَرُوحِي ... بَلْ أَنْتَ مِنْهَا أَحَبُّ حَسْبِي مِنْ الْحُبِّ أَنِّي ... لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ وَقَالَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ فِي الْمَعْنَى: وَيَقْبُحُ عَنْ سِوَاك الْفِعْلُ عِنْدِي ... فَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْك ذَاكَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّضَا إنَّمَا يُمْدَحُ حَيْثُ كَانَ بِمَا مِنْ اللَّهِ مِثْلَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ. وَأَمَّا بِالْكَسَلِ عَنْ خِدْمَتِهِ وَالْبُعْدِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا. فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْك. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ ارْضَ بِمَا مِنْهُ لَا بِمَا مِنْك. فَأَمَّا الْكَسَلُ وَالتَّخَلُّفُ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْك فَلَا تَرْضَ بِهِ مِنْ فِعْلِك. وَكُنْ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ عَلَيْك، مُنَاقِشًا نَفْسَك فِيمَا يُقَرِّبُك مِنْهُ، غَيْرَ رَاضٍ مِنْهَا بِالتَّوَانِي فِي الْمُجَاهَدَةِ وَأَمَّا مَا يَصْدُرُ مِنْ أَقْضِيَتِهِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي لَا كَسْبَ لَك فِيهَا فَكُنْ رَاضِيًا بِهَا. كَمَا قَالَتْ رَابِعَةُ رَحِمَهَا اللَّهُ وَقَدْ ذُكِرَ عِنْدَهَا رَجُلٌ مِنْ الْعُبَّادِ يَلْتَقِطُ مِنْ مَزْبَلَةٍ فَيَأْكُلُ. فَقِيلَ هَلَّا يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ رِزْقَهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا؟ فَقَالَتْ إنَّ الرَّاضِي لَا يَتَخَيَّرُ. وَمَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْمَعْرِفَةِ وَجَدَ فِيهِ طَعْمَ الْمَحَبَّةِ. فَوَقَعَ الرِّضَا عِنْدَهُ ضَرُورَةً. فَيَنْبَغِي الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَدِلَّةِ ثُمَّ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْمَعْرِفَةِ بِالْجِدِّ فِي الْخِدْمَةِ لَعَلَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْمَحَبَّةَ. فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ» فَذَلِكَ الْغِنَى الْأَكْبَرُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. [مَطْلَبٌ: فِي التَّحْذِيرِ عَنْ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِ] وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ جُمَلًا مِنْ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ يَحْصُلُ لِمَنْ حَصَّلَهَا إنْ لَمْ يُدَارِكْهُ لُطْفٌ وَيُلَاحِظْهُ تَوْفِيقٌ إعْجَابٌ وَكِبْرٌ حَذَّرَ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 مَطْلَبٌ: فِي التَّحْذِيرِ عَنْ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِ وَإِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ وَالْكِبْرَ تَحْظَ بِالسَّعَادَةِ ... فِي الدَّارَيْنِ فَارْشُدْ وَأَرْشِدْ (وَإِيَّاكَ) أَيُّهَا الطَّالِبُ الَّذِي حَصَّلَ أَسْنَى الْمَطَالِبِ (وَالْإِعْجَابَ) أَيْ احْذَرْهُ وَانْفِرْ مِنْهُ وَلَا تُسَاكِنْهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصْدُرُ عَنْ رُؤْيَةِ النَّفْسِ وَالرِّضَا عَنْهَا وَاسْتِشْعَارِ وَصْفِ كَمَالٍ. وَتَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ بِأَنَّ الْكِبْرَ خُلُقٌ بَاطِنٌ يَصْدُرُ عَنْهُ أَعْمَالٌ، وَذَلِكَ الْخُلُقُ هُوَ رُؤْيَةُ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ عَلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَنْ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ. وَالْعُجْبُ يُتَصَوَّرُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ غَيْرُ الْمُعْجِبِ. وَقَدْ يَكُونُ الْكِبْرُ نَاشِئًا عَنْ الْعُجْبِ، فَإِنَّ مَنْ أُعْجِبَ بِشَيْءٍ تَكَبَّرَ بِهِ. قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إنَّمَا يَكُونُ الْعُجْبُ لِاسْتِشْعَارِ وَصْفِ كَمَالٍ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِعِلْمِهِ اسْتَعْظَمَهُ، فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِطَاعَتِهِ، وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّهَا جُعِلَتْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَوْضِعًا، وَأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ بِهَا جَزَاءً. وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ مَنَعَهُ عُجْبُهُ مِنْ الِازْدِيَادِ. وَعِلَّةُ الْعُجْبِ الْجَهْلُ الْمَحْضُ. (وَ) إيَّاكَ وَ (الْكِبْرَ) فَإِنَّهُ آفَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَعْصِيَةٌ جَسِيمَةٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ مَثَالِبِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعَادَةِ. فَإِنْ أَنْتَ اجْتَنَبْتهمَا وَأَبْعَدْت عَنْهُمَا وَلَمْ تُسَاكِنْهُمَا وَلَا وَاحِدًا مِنْهُمَا (تَحْظَ بِالسَّعَادَةِ) أَيْ تَمِلْ إلَيْهَا وَتَظْفَرْ بِهَا. وَالسَّعَادَةُ خِلَافُ الشَّقَاوَةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا (فِي الدَّارَيْنِ) أَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَا فِي الْبَرْزَخِ وَهُوَ مَا بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّهُ بِالْآخِرَةِ أَشْبَهُ. فَكَأَنَّ النَّاظِمَ أَلْحَقَهُ بِالْآخِرَةِ (فَارْشُدْ) مِنْ رَشَدَ أَيْ اتَّخِذْ الرُّشْدَ وَاتَّصِفْ بِهِ فِي ذَاتِك، يُقَالُ رَشَدَ كَنَصَرَ وَفَرِحَ رُشْدًا وَرَشَدًا وَرَشَادًا اهْتَدَى (وَأَرْشِدْ) لِغَيْرِك، مِنْ أَرْشَدَ، لِتَكُونَ عَالِمًا عَامِلًا مُعَلِّمًا، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ رَبَّانِيًّا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الرُّشْدُ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَطْلَبٌ: فِي لُزُومِ التَّوْبَةِ] (خَاتِمَةٌ) : فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّوْبَةِ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهَا وَاجِبَةٌ لِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَنْظُومَةِ إمَّا لِاشْتِهَارِ الْكَلَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 عَلَيْهَا، وَإِمَّا لِكَوْنِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ خَاتِمَةً لِمَنْظُومَتِهِ الْكُبْرَى فِي الْفِقْهِ. وَذَكَرَهَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي صَدْرِ الْآدَابِ الْكُبْرَى. فَرَأَيْت أَنْ أَخْتِمَ بِهَا هَذَا الشَّرْحَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَطْلَبٌ: فِي لُزُومِ التَّوْبَةِ شَرْعًا لَا عَقْلًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: تَلْزَمُ التَّوْبَةُ شَرْعًا لَا عَقْلًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، كُلُّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَدْ أَثِمَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَقِيلَ غَيْرَ مَظْنُونٍ. قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِمَّا يَظُنُّ أَنَّهُ إثْمٌ. وَقِيلَ لَا، وَلَا تَجِبُ بِدُونِ تَحَقُّقِ إثْمٍ. قَالَ فِي الْآدَابِ: وَالْحَقُّ وُجُوبُ قَوْلِهِ إنِّي تَائِبٌ إلَى اللَّهِ مِنْ كَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مَذْهَبًا؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَالنَّدَمُ لَا يُتَصَوَّرُ مَشْرُوطًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا حَصَلَ أَبْطَلَ النَّدَمَ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا شَكَّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ هَلْ هُوَ قَبِيحٌ أَمْ لَا فَهُوَ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ هَذَا التَّفْرِيطِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ قُبْحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ حُسْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ أُخِذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ قَبِيحٍ وَلَا عَلَى مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا. فَإِذَا قَدِمَ عَلَى فِعْلٍ يَشُكُّ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ. وَذَلِكَ التَّفْرِيطُ ذَنْبٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ. مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ. أَوْ لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَتَصِحُّ مِنْ بَعْضِ ذُنُوبِهِ فِي الْأَصَحِّ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. نَعَمْ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ أَصَرَّ عَلَى مِثْلِهِ مِثْلُ أَنْ يَتُوبَ مِنْ زِنَاهُ يَوْمَ كَذَا أَوْ فِي فُلَانَةَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَا بِغَيْرِهَا أَوْ بِهَا. وَإِنَّمَا تَابَ مِنْ الزِّنَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ أَوَّلًا دُونَ مَا يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى أَصْلِ فِعْلِ الزِّنَا. فَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنْهُ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالتَّوْبَةُ فِي اللُّغَةِ الرُّجُوعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَفِي الْعُرْفِ النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ. وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهَا دَائِمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِأَجْلِ نَفْعِ الدُّنْيَا أَوْ أَذَى النَّاسِ. وَأَنْ لَا يَكُونَ عَلَى إكْرَاهٍ أَوْ إلْجَاءٍ. بَلْ اخْتِيَارٍ حَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 التَّكْلِيفِ. وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ إنِّي تَائِبٌ إلَيْك مِنْ كَذَا وَكَذَا. وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْمُسْتَوْعِبِ. فَظَاهِرُ هَذَا اعْتِبَارُ التَّوْبَةِ بِالتَّلَفُّظِ وَالِاسْتِغْفَارِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا. قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَلَا أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا انْتَهَى. وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ اعْتِبَارِ وَاحِدٍ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَأَنْ يَكُونَ إذَا ذَكَرَهَا يَعْنِي الْمَعْصِيَةَ انْزَعَجَ قَلْبُهُ وَتَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ وَلَمْ يَرْتَحْ لِذِكْرِهَا وَلَا يُنَمِّقُ فِي الْمَجَالِسِ صِفَتَهَا. فَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ تَوْبَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَذِرَ إلَى الْمَظْلُومِ عَنْ ظُلْمِهِ مَتَى كَانَ ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا مُطْمَئِنًّا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَظْلَمَةِ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ وَقِلَّةِ الْفِكْرَةِ بِالْجُرْمِ السَّابِقِ، وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِخِدْمَةِ الْمُعْتَذَرِ إلَيْهِ، وَيُجْعَلُ كَالْمُسْتَهْزِئِ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْ لَا. قَالَ: وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُمْكِنَ الْمُنَازَعَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ وَقْتَ النَّدَمِ وَالْغَرَضُ النَّدَمُ الْمُعْتَبَرُ وَقَدْ وُجِدَ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ تَكَرُّرِهِ كُلَّمَا ذَكَرَ الذَّنْبَ. وَأَنَّ عَدَمَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ وَعَدَمُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ تَجْدِيدُ النَّدَمِ إذَا ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْأَوَّلُ الْمُعْتَمَدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُوَافِقُونَ غَيْرَهُمْ فِي أَنَّ تَوْبَتَهُ السَّابِقَةَ لَا تَبْطُلُ بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ: وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّدَمَ تَوْبَةٌ مَعَ شَرْطِ الْعَزْمِ أَنْ لَا يَعُودَ وَرَدُّ الْمَظْلَمَةِ مِنْ يَدِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ النَّدَمُ مَعَ هَذِهِ الشَّرَائِطِ هُوَ التَّوْبَةُ وَلَيْسَ فِيهَا شَرْطٌ بَلْ هِيَ بِمَجْمُوعِهَا شَرْطٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا «النَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَلَيْسَ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَقُولُوا أَجْمَعْنَا عَلَى احْتِيَاجِهَا إلَى الْعَزْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ وَلَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْبَةَ. كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ شَرْطِهَا الطَّهَارَةُ وَلَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا وَلَيْسَتْ هِيَ الصَّلَاةُ؛ وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 الذَّنْبِ. فَمَتَى ادَّعَى الزِّيَادَةَ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ اللُّغَةُ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ مُلَخَّصًا مَعَ زِيَادَةٍ فِيهِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ رُكْنٌ. وَالْأَمْرُ فِي هَذَا قَرِيبٌ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُمْ. انْتَهَى. وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّا مَتَى قُلْنَا الْعَزْمُ رُكْنٌ صَارَ شَطْرًا لَا شَرْطًا. إذْ الرُّكْنُ مِنْ الْمَاهِيَّةِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ. فَمَتَى تَوَفَّرَتْ التَّوْبَةُ عَلَى النَّسَقِ الْمَذْكُورِ قُبِلَتْ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَغُفِرَ الذَّنْبُ وَهِيَ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ. كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إنَّهَا نَدَمٌ بِالْقَلْبِ، وَاسْتِغْفَارٌ بِاللِّسَانِ، وَتَرْكٌ بِالْجَوَارِحِ، وَإِضْمَارٌ أَنْ لَا يَعُودَ. مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ عُمَرُ وَأُبَيٌّ وَمُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَى الذَّنْبِ كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إلَى الضَّرْعِ. كَذَا قَالَ. وَفِي صِحَّةِ هَذَا عَنْهُمْ نَظَرٌ. ثُمَّ لَعَلَّ الْمُرَادَ التَّوْبَةُ الْكَامِلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ، وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ، وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ. فَظَاهِرُهُ عَدَمُ اعْتِبَارِ إضْمَارِ أَنْ لَا يَعُودَ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَّا أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ أَنْ يَتُوبَ الْعَبْدُ مِنْ الذَّنْبِ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَعُودَ. [مَطْلَبٌ: إذَا لَمْ يُكَرِّرْ الْعَبْدُ التَّوْبَةَ كُلَّمَا خَطَرَ ذَنْبُهُ بِبَالِهِ] مَطْلَبٌ: هَلْ إذَا لَمْ يُكَرِّرْ الْعَبْدُ التَّوْبَةَ كُلَّمَا خَطَرَ ذَنْبُهُ بِبَالِهِ يَكُونُ نَاقِصًا لِلتَّوْبَةِ أَمْ لَا؟ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ نَدَمٌ يُورِثُ عَزْمًا وَقَصْدًا، وَعَلَامَةُ النَّدَمِ طُولُ الْحُزْنِ عَلَى مَا فَاتَ. وَعَلَامَةُ الْعَزْمِ وَالْقَصْدِ التَّدَارُكُ لِمَا فَاتَ وَإِصْلَاحُ مَا يَأْتِي. فَإِنْ كَانَ الْمَاضِي تَفْرِيطًا فِي عِبَادَةٍ قَضَاهَا، أَوْ مَظْلَمَةٍ أَدَّاهَا، أَوْ خَطِيئَةٍ لَا تُوجِبُ غَرَامَةً حَزِنَ إذْ تَعَاطَاهَا. قَالَ وَمِنْ عَلَامَاتِ التَّائِبِ أَنْ يَغْضَبَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا غَضِبَ مَاعِزٌ وَالْغَامِدِيَّةُ فَأَسْلَمَاهَا إلَى الْهَلَاكِ قَالَ وَهَذَا ذَكَرْنَاهُ مِثَالًا. وَإِنْ كُنَّا لَا نَرَى إلَّا أَنَّ الْعَاصِيَ يَسْتُرُ نَفْسَهُ. وَمِنْهَا أَنْ تَضِيقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 الْأَرْضُ عَلَيْهِ كَمَا ضَاقَتْ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ. فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْحُزْنُ وَالْبُكَاءُ فَيَشْغَلُهُ عَنْ اللَّهْوِ وَالضَّحِكِ. قَالَ وَمَتَى قَصَّرَ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ رَدِّ مَظْلِمَةً دَلَّ عَلَى ضَعْفِ التَّوْبَةِ. انْتَهَى. وَقَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ: قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: التَّوْبَةُ نَدَمُ الْعَبْدِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ كُلَّمَا ذَكَرَهُ، وَتَكْرَارِ فِعْلِ التَّوْبَةِ كُلَّمَا خَطَرَتْ مَعْصِيَتُهُ بِبَالِهِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عَادَ مُصِرًّا نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ. وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ السَّابِقِ، لَكِنْ أَبُو الْحُسَيْنِ يَقُولُ يَكُونُ نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ. وَعِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّدَمِ فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ تَوْبَةٌ شَرْعِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَبُطْلَانُهَا بِالْمُعَاوَدَةِ أَقْرَبُ. قَالَ وَالْأَظْهَرُ مَذْهَبًا وَدَلِيلًا أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ. وَفِي الْفُصُولِ لِابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ الْمُظَاهِرَ إذَا عَزَمَ عَلَى الْوَطْءِ رَاجِعٌ عَنْ تَحْرِيمِهَا بِعَزْمِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ مَعَ التَّصْمِيمِ عَلَى التَّوْبَةِ نَقْضٌ لِلتَّوْبَةِ، فَجَعَلَهُ نَاقِضًا لِلتَّوْبَةِ بِالْعَزْمِ لَا بِغَيْرِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ السَّابِقِ وَكَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ. ثُمَّ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالذَّنْبِ السَّابِقِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ أَرَادَ انْتِقَاضَ التَّوْبَةِ وَقْتَ الْعَزْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّهُ يُؤَاخَذُ مِنْ الْعَزْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَهَذَا يُبْنَى عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ. قَدْ فَصَّلَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ ذَلِكَ تَفْصِيلًا حَسَنًا. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْهَمَّ بِالسَّيِّئَاتِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ لَهَا تَارَةً يَتْرُكُهُ الْهَامُّ بِهِ لِخَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُكْتَبُ حَسَنَةً، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاكِيًا عَنْ اللَّهِ «إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي» يَعْنِي مِنْ أَجْلِي وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا. وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً» وَأَمَّا إنْ تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ مُرَاءَاةً لَهُمْ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ خَوْفِ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ مُحَرَّمٌ. وَكَذَلِكَ قَصْدُ الرِّيَاءِ مُحَرَّمٌ، فَإِذَا اُقْتُرِنَ بِهِ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ لِأَجْلِهِ عُوقِبَ عَلَى هَذَا التَّرْكِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لَا تَأْمَنَنَّ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، وَلِمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ إذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 عَمِلْته - فَذَكَر كَلَامًا - وَقَالَ: وَخَوْفُك مِنْ الرِّيحِ إذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِك وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُك مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إلَيْك، أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ إذَا عَمِلْته. مَطْلَبٌ: هَلْ يُعَاقَبُ الْعَبْدُ إنْ سَعَى فِي حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا أَمْكَنَهُ ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْقَدَرُ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا إنْ سَعَى فِي حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ بِمَا أَمْكَنَهُ ثُمَّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْقَدَرُ فَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ» وَمَنْ سَعَى فِي حُصُولِ الْمَعْصِيَةِ جُهْدَهُ ثُمَّ عَجَزَ عَنْهَا فَقَدْ عَمِلَ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» . وَدَلَّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ الْهَامَّ بِالْمَعْصِيَةِ إذَا تَكَلَّمَ بِمَا هَمَّ بِهِ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الْهَمِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ مَعْصِيَةً وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِلِسَانِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الَّذِي قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِمَا عَمِلَ فُلَانٌ، يَعْنِي الَّذِي يَعْصِي اللَّهَ فِي مَالِهِ، قَالَ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ. وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَالَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى التَّكَلُّمِ بِمَا هَمَّ بِهِ مَا لَمْ تَكُنْ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا قَوْلًا مُحَرَّمًا كَالْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مُتَعَلَّقَهَا الْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ فَلَا يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ التَّكَلُّمِ بِمَا هَمَّ بِهِ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا» وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ هُنَا حَدِيثُ النَّفْسِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ «مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ يَعْمَلْ» وَأَمَّا إنْ انْفَسَخَتْ نِيَّةُ الْعَاصِي وَفَتَرَتْ عَزِيمَتُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ فَهَلْ يُعَاقَبُ عَلَى مَا هَمَّ بِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ أَمْ لَا؟ هَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْهَمُّ بِالْمَعْصِيَةِ خَاطِرًا خَطَرَ وَلَمْ يُسَاكِنْهُ صَاحِبُهُ وَلَمْ يَعْقِدْ قَلْبَهُ عَلَيْهِ بَلْ كَرِهَهُ وَنَفَرَ مِنْهُ، فَهَذَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَهُوَ كَالْوَسَاوِسِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا فَقَالَ ": «ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ» وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] شَقَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَظَنُّوا دُخُولَ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ فِيهِ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا وَفِيهَا قَوْلُهُ {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] فَبَيَّنَتْ أَنَّ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ وَلَا مُكَلَّفٍ بِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: لِلْعَزَائِمِ الْمُصَمِّمَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي النُّفُوسِ وَتَدُومُ وَيُسَاكِنُهَا صَاحِبُهَا فَهَذَا أَيْضًا نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: مَا كَانَ عَمَلًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ كَالشَّكِّ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ أَوْ النُّبُوَّةِ أَوْ الْبَعْثِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَهَذَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَيَصِيرُ بِهِ كَافِرًا وَمُنَافِقًا، وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا سَائِرُ الْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُلُوبِ كَمَحَبَّةِ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ وَبُغْضِ مَا يُحِبُّهُ، وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْحَسَدِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُوءِ الظَّنِّ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ فَهُوَ مَعْفُوٌّ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي الْحَسَدِ. قَالَ: الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَلَعَلَّ هَذَا مَحْمُولٌ مِنْ قَوْلِهِمَا عَلَى مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ فَهُوَ يَكْرَهُهُ وَيَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَنْدَفِعُ، لَا عَلَى مَا يُسَاكِنُهُ وَيَسْتَرْوِحُ إلَيْهِ وَيُعِيدُ حَدِيثَ نَفْسِهِ بِهِ وَيُبْدِيهِ. وَالثَّانِي: مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ بَلْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أَصَرَّ الْعَبْدُ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ فِي الْخَارِجِ أَصْلًا، فَهَذَا فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا يُؤَاخَذُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَيُؤَاخَذُ الْعَبْدُ بِالْهَمَّةِ؟ فَقَالَ إذَا كَانَتْ عَزْمًا أُوخِذَ بِهَا. وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] وَبِقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» وَحَمَلُوا قَوْلَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ» عَلَى الْخَطَرَاتِ، وَقَالُوا مَا سَاكَنَهُ الْعَبْدُ وَعَقَدَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ كَسْبِهِ وَعَمَلِهِ فَلَا يَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ إنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ: وَقِيلَ بَلْ يُحَاسَبُ الْعَبْدُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقِفُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَعْفُو عَنْهُ وَلَا يُعَاقِبُهُ بِهِ، فَيَكُونُ عُقُوبَتُهُ الْمُحَاسَبَةَ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُؤَاخَذُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مُطْلَقًا، وَنُسِبَ ذَلِكَ إلَى نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَمَلًا بِالْعُمُومَاتِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَمَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ وَوَطَّنَ النَّفْسَ عَلَيْهَا أَثِمَ فِي اعْتِقَادِهِ وَعَزْمِهِ، وَخَالَفَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ كَمَا قَالَ الْمَازِرِيُّ وَانْتَصَرَ لَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَلَكِنْ قَالُوا إنَّ هَذَا الْعَزْمَ يُكْتَبُ سَيِّئَةً وَلَيْسَتْ السَّيِّئَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلْهَا وَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْرُ خَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْإِنَابَةِ، لَكِنَّ نَفْسَ الْإِصْرَارِ وَالْعَزْمِ مَعْصِيَةٌ فَتُكْتَبُ مَعْصِيَةً، فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ مَعْصِيَةً ثَانِيَةً، فَإِذَا تَرَكَهَا خَشْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى كُتِبَتْ حَسَنَةً كَمَا فِي الْحَدِيثِ «إنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي» فَصَارَ تَرْكُهُ لَهَا لِخَوْفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُجَاهَدَتُهُ نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ فِي ذَلِكَ وَعِصْيَانُهُ هَوَاهُ حَسَنَةٌ. وَأَمَّا الْهَمُّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ فَالْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا تُوَطَّنُ النَّفْسُ عَلَيْهَا وَلَا يُصَاحِبُهَا عَقْدٌ وَلَا نِيَّةٌ وَلَا عَزْمٌ. وَبِهَذَا ظَهَرَ قَوْلُنَا إنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ. وَقِيلَ لَا تَصِحُّ تَوْبَةُ غَيْرِ؛ عَاصٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي ذَنْبٍ يَتُوبُ مِنْهُ. وَقَالَ مَوْلَانَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فِي الْغُنْيَةِ: التَّوْبَةُ فَرْضُ عَيْنٍ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا أَحَدٌ مِنْ الْبَشَرِ، لِأَنَّهُ إنْ خَلَا عَنْ مَعْصِيَةِ الْجَوَارِحِ فَلَا يَخْلُو عَنْ الْهَمِّ بِالذَّنْبِ بِالْقَلْبِ، وَإِنْ خَلَا عَنْهَا فَلَا يَخْلُو عَنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ بِإِيرَادِ الْخَوَاطِرِ الْمُتَفَرِّقَةِ الْمُذْهِلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ خَلَا عَنْهَا فَلَا يَخْلُو عَنْ غَفْلَةٍ وَقُصُورٍ بِالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلِكُلِّ حَالٍ طَاعَاتٌ وَذُنُوبٌ وَحُدُودٌ وَشُرُوطٌ، فَحِفْظُهَا طَاعَةٌ وَتَرْكُهَا مَعْصِيَةٌ وَالْغَفْلَةُ عَنْهَا ذَنْبٌ، فَيَحْتَاجُ إلَى تَوْبَةٍ وَعَزْمِ الرُّجُوعِ عَنْ التَّعْوِيجِ الَّذِي وُجِدَ إلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ، فَالْكُلُّ مُفْتَقِرٌ إلَى تَوْبَةٍ، وَإِنَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمَقَادِيرِ، فَتَوْبَةُ الْعَوَامّ مِنْ الذُّنُوبِ، وَتَوْبَةُ الْخَوَاصِّ مِنْ الْغَفْلَةِ، وَتَوْبَةُ خَاصِّ الْخَاصِّ مِنْ رُكُونِ الْقَلْبِ إلَى مَا سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَهُ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ صِحَّةُ التَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ مَا حَصَلَتْ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ أَوْ أَدْنَى غَفْلَةٍ وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ. قَالَ وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى وَهُوَ مَعْنَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ وَغَيْرُهُ، وَلَعَلَّهُ مَعْنَى كَلَامِ مُجَاهِدٍ: مَنْ لَمْ يَتُبْ إذَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَرَكَ التَّوْبَةَ الْوَاجِبَةَ مُدَّةً مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا لَزِمَتْهُ التَّوْبَةُ مِنْ تَرْكِ التَّوْبَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ وَاجِبًا، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ مَعَ الْقُدْرَةِ إثْمٌ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: فِي أَنَّ تَوْبَةَ التَّائِبِ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ. وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى وَوَفَّقَك أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي تَابَ مِنْهُ التَّائِبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ أَوْ لِآدَمِيٍّ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ وَقَضَاؤُهُ كَالصَّلَوَاتِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِهَا أَوْ لَا، كَعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَحْلِيلِ مَا حَلَّلَهُ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ، فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ مَعَ التَّوْبَةِ - مِنْ التَّقْصِيرِ فِي عَدَمِ الْأَدَاءِ وَفَوْتِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ الْمُؤَقَّتَةِ - مِنْ قَضَاءِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ حَيْثُ قَدَرَ بِأَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ التَّفْرِيطُ فِي مَعْرِفَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَبْجِيلِهِ، وَتَعْظِيمِ مَا عَظَّمَهُ وَتَحْقِيرِ مَا حَقَّرَهُ، وَتَحْلِيلِ مَا حَلَّلَهُ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ، تُجْزِئُ مِنْهُ التَّوْبَةُ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ الْكُفْرَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِثْبَاتِ مَا أَنْكَرَ وَإِنْكَارِ مَا كَانَ اعْتَقَدَ مِمَّا يُوجِبُ الْكُفْرَ، وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ حَقُّ آدَمِيٍّ مَحْضٌ، هَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ فَكُلُّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ؛ لِأَنَّ مُعَاطَاةَ مَا لَا يُشْرَعُ مَعْصِيَةٌ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ حَدَّ حُدُودًا يَجِبُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، وَلَا يَخْلُو حَقُّ الْآدَمِيِّ مِنْ كَوْنِهِ إمَّا يَنْجَبِرُ بِمِثْلِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْجِرَاحَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ كُلِّ مَظْلَمَةٍ لِأَهْلِهَا مِنْ مَالٍ وَنَحْوِهِ وَتَمْكِينِ ذِي الْقِصَاصِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَإِنْ تَابَ وَنَدِمَ وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ وَلَمْ يَرُدَّ الْمَظَالِمَ إلَى أَهْلِهَا فَهَلْ تُقْبَلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 تَوْبَتُهُ أَمْ لَا؟ ظَاهِرُ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّوْبَةَ تُقْبَلُ، وَيَسْقُطُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْإِقْدَامِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ تَعَالَى وَتَعَدِّيهِ حُدُودَهُ، وَيَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْعَاصِي مَظْلِمَةُ الْآدَمِيِّ وَمُطَالَبَتُهُ عَلَى حَالِهَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ نَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُطَالِبًا بِمَظَالِمِ الْآدَمِيِّينَ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ هَذَا صِحَّةَ التَّوْبَةِ، كَالتَّوْبَةِ مِنْ السَّرِقَةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ مَقْبُولَةٌ وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ لِلْآدَمِيِّ لَا تَسْقُطُ. وَأَمَّا لَا يَنْجَبِرُ بِمِثْلِهِ بَلْ جَزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالْقَذْفِ وَالزِّنَا وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، فَالتَّوْبَةُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ بِالنَّدَمِ وَالْإِقْلَاعِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُغْتَابِ وَنَحْوِهِ وَإِكْذَابِ نَفْسِهِ مِمَّا قَذَفَهُ بِهِ، وَكَثْرَةِ الْإِحْسَانِ لِمَنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ وَزَنَى بِهَا، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعْلَامِهِ وَلَا اسْتِحْلَالِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ. وَقِيلَ إنْ عَلِمَ بِهِ الْمَظْلُومُ اسْتَحَلَّهُ وَإِلَّا دَعَا لَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهُ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «مَنْ اغْتَابَ رَجُلًا ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ مِنْ بَعْدُ غُفِرَ لَهُ غِيبَتُهُ» . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «كَفَّارَةُ مَنْ اُغْتِيبَ أَنْ يُسْتَغْفَرَ لَهُ» لِأَنَّ فِي إعْلَامِهِ إدْخَالُ غَمٍّ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ كَفَّارَةَ الِاغْتِيَابِ مَا رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَهُ. وَخَبَرُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَفِيهِ سَلْمَانُ بْنُ عَمْرٍو كَذَّابٌ، وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْأَيْلِيُّ مَتْرُوكٌ. وَذَكَرَ أَيْضًا حَدِيثَ أَنَسٍ فِي الْحَدَائِقِ مَعَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ لَا يَذْكُرُ فِيهَا إلَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ. مَطْلَبٌ: هَلْ يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْغِيبَةِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُغْتَابِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ؟ وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: مَنْ اغْتَابَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ يُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته بِقَوْلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 الْكَبِيرِ، قَالَ وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ. قَالَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُمَا هَلْ يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْغِيبَةِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُغْتَابِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ وَتَحَلُّلِهِ. قَالَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْلَامِهِ بَلْ يَكْفِيهِ الِاسْتِغْفَارُ وَذِكْرُهُ بِمَحَاسِنِ مَا فِيهِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي اغْتَابَهُ فِيهَا. قَالَ وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ. وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ جَعَلُوا الْغِيبَةَ كَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ يَنْتَفِعُ الْمَظْلُومُ بِعَوْدِ نَظِيرِ مَظْلِمَتِهِ إلَيْهِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا، وَأَمَّا فِي الْغِيبَةِ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِإِعْلَامِهِ إلَّا عَكْسُ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، فَإِنَّهُ يُوغِرُ صَدْرَهُ وَيُؤْذِيهِ إذَا سَمِعَ مَا رُمِيَ بِهِ، وَلَعَلَّهُ يُهَيِّجُ عَدَاوَتَهُ وَلَا يَصْفُو لَهُ أَبَدًا. وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ لَا يُبِيحُهُ وَلَا يُجَوِّزُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَهُ وَيَأْمُرَ بِهِ، وَمَدَارُ الشَّرِيعَةِ عَلَى تَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا لَا عَلَى تَحْصِيلِهَا وَتَكْمِيلِهَا. انْتَهَى. وَأَمَّا ذِكْرُ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ لِحَدِيثِ «إنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته» فِي الْمَوْضُوعَاتِ، فَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي الْبَدِيعَاتِ بِمَا يُشْعِرُ أَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا مَوْضُوعٌ، فَإِنَّهُ قَالَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ وَقَالَ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ ضَعْفٌ وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ قَوْلِهِ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، وَأَوْرَدَ لَهُ شَاهِدًا حَدِيثَ حُذَيْفَةَ «كَانَ فِي لِسَانِي ذَرَبٌ عَلَى أَهْلِي فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ أَوَّلَهُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِغْفَارِ، رَجَاءَ أَنْ يُرْضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَصْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِبَرَكَةِ اسْتِغْفَارِهِ» . هَذَا كَلَامُهُ بِحُرُوفِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي رَائِحَةِ كَلَامِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ بَهْجَةِ الْمَجَالِسِ قَالَ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْته أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: التَّوْبَةُ مِنْ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته، فَقَالَ سُفْيَانُ بَلْ تَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا قُلْت فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا تُؤْذِهِ مَرَّتَيْنِ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْمُبَارَكِ اخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَابْنُ الصَّلَاحِ الشَّافِعِيُّ فِي فَتَاوِيهِ. وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ: فَكُلُّ مَظْلَمَةٍ فِي الْعِرْضِ مِنْ اغْتِيَابِ صَادِقٍ وَبَهْتِ كَاذِبٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ، إذْ الْقَذْفُ قَدْ يَكُونُ صَادِقًا فَيَكُونُ غِيبَةً، وَقَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فَيَكُونُ بَهْتًا، وَاخْتَارَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُعْلِمُهُ بَلْ يَدْعُو لَهُ دُعَاءً يَكُونُ إحْسَانًا إلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ مَظْلِمَتِهِ كَمَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ إعْلَامِهِ، فَإِنَّ فِي إعْلَامِهِ زِيَادَةَ إيذَاءٍ لَهُ، فَإِنَّ تَضَرُّرَ الْإِنْسَانِ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ شَتْمِهِ أَبْلَغُ مِنْ تَضَرُّرِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُ. ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ الْعُدْوَانِ عَلَى الظَّالِمِ أَوَّلًا إذْ النُّفُوسُ لَا تَقِفُ غَالِبًا عِنْدَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، فَفِي إعْلَامِهِ هَذَانِ الْفَاسِدَانِ. وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ ثَالِثَةٌ وَلَوْ كَانَتْ بِحَقٍّ وَهُوَ زَوَالُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ كَمَالِ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ أَوْ تَجَدُّدِ الْقَطِيعَةِ وَالْبِغْضَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ، وَهَذِهِ الْمَفْسَدَةُ قَدْ تَعْظُمُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ فِي إعْلَامِهِ فَائِدَةٌ إلَّا تَمْكِينَهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَمَا لَوْ عَلِمَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ إمَّا بِالْمِثْلِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ بِالتَّعْزِيرِ أَوْ بِالْحَدِّ. وَإِذَا كَانَ فِي الْإِيفَاءِ مِنْ الْجِنْسِ مَفْسَدَةٌ عَدَلَ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ، كَمَا فِي الْقَذْفِ وَالْفِرْيَةِ وَالْجِرَاحِ إذَا خِيفَ الْحَيْفُ. وَهُنَا قَدْ لَا يَكُونُ حَقُّهُ إلَّا فِي غَيْرِ الْجِنْسِ، أَمَّا الْعُقُوبَةُ أَوْ الْأَخْذُ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَلْيَأْتِهِ فَلْيَسْتَحِلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَيْسَ فِيهِ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ إلَّا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِ صَاحِبِهِ فَأُعْطِيَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَأُلْقِيَتْ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي النَّارِ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُعْطِيهِ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً بَدَلَ الْحَسَنَةِ {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فَالدُّعَاءُ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارُ إحْسَانٌ إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بَدَلُ الذَّمِّ لَهُ، وَهَذَا عَامٌّ فِيمَنْ طَعَنَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ لَعَنَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِمَا يُؤْذِيهِ أَمْرًا أَوْ خَبَرًا بِطَرِيقِ الِاقْتِدَاءِ أَوْ التَّحْضِيضِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَعْمَالَ اللِّسَانِ أَعْظَمُ مِنْ أَعْمَالِ الْيَدِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، حَتَّى وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ أَوْ شُبْهَةٍ ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، فَإِنَّ كَفَّارَةَ ذَلِكَ أَنْ يُقَابِلَ الْإِسَاءَةَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّفَاعَةِ لَهُ بِالدُّعَاءِ، فَيَكُونُ الثَّنَاءُ وَالدُّعَاءُ بَدَلَ الطَّعْنِ وَاللَّعْنِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الطَّعْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 وَاللَّعْنِ الْجَارِي بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ، كَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، كَمَا يَقَعُ بَيْنَ أَصْنَافِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالنُّهَى، مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ تَارَةً بِتَأْوِيلٍ مُجَرَّدٍ وَتَارَةً بِتَأْوِيلٍ مَشُوبٍ بِهَوًى وَتَارَةً بِهَوًى مَحْضٍ، بَلْ تَخَاصُمُ هَذَا الضَّرْبِ بِالْكَلَامِ وَالْكُتُبِ كَتَخَاصُمِ غَيْرِهِمْ بِالْأَيْدِي وَالسِّلَاحِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ وَالطَّائِفَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ وَالْعَادِلَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ. مَطْلَبٌ: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ الِاعْتِرَافُ بِمَا فَعَلَ إذَا سَأَلَهُ الْمَقْذُوفُ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَهَذَا بَابٌ نَافِعٌ جِدًّا. فَعَلَى هَذَا لَوْ سَأَلَ الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْبُوبُ لِقَاذِفِهِ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ، إذْ تَوْبَتُهُ صَحَّتْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ، وَفِي حَقِّ الْإِنْسَانِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِهِ. وَهَلْ يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ أَوْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُكْرَهُ، الْأَشْبَهُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَقَدْ يَكُونُ الِاعْتِرَافُ أَصْفَى لِلْقُلُوبِ كَمَا يَجْرِي بَيْنَ الْأَوِدَّاءِ مِنْ ذَوِي الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةُ الْعُدْوَانِ عَلَى النَّاسِ أَوْ رُكُوبُ كَبِيرَةٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِرَافُ حِينَئِذٍ. قَالَ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ بِالْجُحُودِ الصَّرِيحِ، لِأَنَّ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ مُحَرَّمٌ وَالْمُبَاحُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ هَلْ هُوَ التَّعْرِيضُ أَوْ التَّصْرِيحُ، فِيهِ خِلَافٌ وَتَقَدَّمَ، فَمَنْ جَوَّزَ التَّصْرِيحَ هُنَاكَ فَهَلْ يُجَوِّزُهُ هُنَا، فِيهِ نَظَرٌ، وَلَكِنْ يُعَرِّضُ، فَإِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ، فَإِذَا اُسْتُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيُعَرِّضَ؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالِاسْتِحْلَافِ، فَإِنَّهُ إذَا تَابَ وَصَحَّتْ تَوْبَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِذَلِكَ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَا تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ. نَعَمْ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْمَظْلُومِ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى عُدْوَانِهِ وَظُلْمِهِ، فَإِذَا أَنْكَرَ بِالتَّعْرِيضِ كَانَ كَاذِبًا، فَإِذَا حَلَفَ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَيْضًا وَقَدْ سُئِلْت عَنْ نَظَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ رَجُلٌ تَعَرَّضَ لِامْرَأَةِ غَيْرِهِ فَزَنَى بِهَا ثُمَّ تَابَ مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلَهُ زَوْجُهَا عَنْ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 فَأَنْكَرَ فَطَلَبَ اسْتِحْلَافَهُ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ كَانَتْ يَمِينُهُ غَمُوسًا، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ، وَإِنْ أَقَرَّ جَرَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا مِنْ الشَّرِّ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ فَأَفْتَيْته أَنَّهُ يَضُمُّ إلَى التَّوْبَةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِحْسَانَ إلَى الزَّوْجِ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ أَوْ الصَّدَقَةِ عَنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ ذَابًّا إيذَاءَهُ لَهُ فِي أَهْلِهِ، فَإِنَّ الزِّنَا بِهَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ زَوْجِهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فِي عِرْضِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَنْجَبِرُ بِالْمِثْلِ كَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقَذْفِ الَّذِي جَزَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَتَكُونُ تَوْبَةُ هَذَا كَتَوْبَةِ الْقَاذِفِ وَتَعْرِيضُهُ كَتَعْرِيضِهِ، وَحَلِفُهُ عَلَى التَّعْرِيضِ كَحَلِفِهِ. وَأَمَّا لَوْ ظَلَمَهُ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إيفَاءِ الْحَقِّ فَإِنَّ لَهُ بَدَلًا. وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَتَوْبَةِ الْقَاذِفِ. قَالَ: وَهَذَا الْبَابُ وَنَحْوُهُ فِيهِ خَلَاصٌ عَظِيمٌ، وَتَفْرِيجُ كُرُبَاتٍ لِلنُّفُوسِ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي وَالْمَظَالِمِ، فَإِنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَجَمِيعُ النُّفُوسِ لَا بُدَّ أَنْ تُذْنِبَ فَتَعْرِيفُ النُّفُوسِ مَا يُخَلِّصُهَا مِنْ الذُّنُوبِ مِنْ التَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَاتِ كَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ فَوَائِدِ الشَّرِيعَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى أَنَّ الزِّنَا حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِحْلَالَ مِنْهُ بَعْدَ وُقُوعِ الْمَظْلَمَةِ لَا إبَاحَتَهَا ابْتِدَاءً كَالدَّمِ وَالْقَذْفِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ آدَمِيٌّ أَنَّهُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ وَيَفْسَخُ نِكَاحَهَا لِأَجْلِ التُّهْمَةِ بِهِ وَغَلَبَةِ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ. وَإِنَّمَا يَتَحَالَفُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. انْتَهَى. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ. وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِمْ أَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ أَيْ فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِهَذَا لَوْ اقْتَصَّ مِنْ الْقَاتِلِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ، مَعَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّ الْآدَمِيِّ هُنَا. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَخْتَصَّ بِعُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا سِوَى الْحَدِّ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقِصَاصِ وَقَذْفِ الْآدَمِيِّ بِزِنًا أَوْ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ كَمَا فِي الْآدَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 مَطْلَبٌ: فِي تَوْبَةِ الْمُرَابِي وَالْمُبْتَدِعِ (تَنْبِيهَاتٌ) : (الْأَوَّلُ) : تَوْبَةُ الْمُرَابِي بِأَخْذِ رَأْسِ مَالِهِ وَبِرَدِّ رِبْحِهِ إنْ أَخَذَهُ. وَتَوْبَةُ الْمُبْتَدِعِ أَنْ يَعْتَرِفَ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ بِدْعَةٌ. قَالَ فِي الشَّرْحِ: فَأَمَّا الْبِدْعَةُ فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا بِالِاعْتِرَافِ بِهَا، وَالرُّجُوعِ عَنْهَا، وَاعْتِقَادِ ضِدِّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ مِنْهَا. وَفِي الرِّعَايَةِ: مَنْ كَفَرَ بِبِدْعَةٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، قِيلَ إنْ اعْتَرَفَ بِهَا وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِي الرَّجُلِ يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْبِدْعَةِ فَيَجْحَدُ: لَيْسَتْ لَهُ تَوْبَةٌ إنَّمَا التَّوْبَةُ لِمَنْ اعْتَرَفَ فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ. وَفِي إرْشَادِ ابْنِ عَقِيلٍ الرَّجُلُ إذَا دَعَا إلَى بِدْعَةٍ ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ، وَقَدْ ضَلَّ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَمَاتُوا فَإِنَّ تَوْبَتَهُ صَحِيحَةٌ إذَا وُجِدَتْ الشَّرَائِطُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ وَيَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَيُسْقِطَ ذَنْبَ مَنْ ضَلَّ بِهِ بِأَنْ يَرْحَمَهُ وَيَرْحَمَهُمْ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ، وَأَنَّهَا لَا تُقْبَلُ، ثُمَّ احْتَجَّ بِالْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي فِيهِ " فَكَيْفَ مَنْ أَضْلَلْت " وَبِحَدِيثِ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَبِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ الْعُكْبَرِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ احْتَجَبَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ» . وَاخْتَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ صِحَّةَ التَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ وَصَوَّبَهُ، وَقَالَ إنَّهُ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَغَلِطَ مَنْ اسْتَثْنَى بَعْضَ الذُّنُوبِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ بِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الدَّاعِيَةِ بَاطِنًا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَتُوبُ عَلَى أَئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: التَّوْبَةُ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ مَقْبُولَةٌ، خِلَافًا لِإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَلَا الزِّنْدِيقِ ثُمَّ بَحَثَ الْمَسْأَلَةَ وَقَالَ: الزِّنْدِيقُ إذَا أَظْهَرَ لَنَا هَذَا يَجِبُ أَنْ نَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ بِالظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَافِرًا؛ لِأَنَّ الزَّنْدَقَةَ نَوْعُ كُفْرٍ، فَجَازَ أَنْ تَحْبَطَ بِالتَّوْبَةِ كَسَائِرِ الْكُفْرِ مِنْ التَّوَثُّنِ، وَالتَّمَجُّسِ، وَالتَّهَوُّدِ، وَالتَّنَصُّرِ، وَكَمَنْ تَظَاهَرَ بِالصَّلَاحِ إذَا أَتَى مَعْصِيَةً وَتَابَ مِنْهَا. قَالَ وَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةَ الْبَاطِنِ جُمْلَةً وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ عَلَيْنَا حُكْمُ الظَّاهِرِ، فَإِذَا بَانَ فِي الظَّاهِرِ حُسْنُ طَرِيقَتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 وَتَوْبَتِهِ وَجَبَ قَبُولُهَا وَلَمْ يَجُزْ رَدُّهَا لِمَا بَيَّنَّا، وَأَنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ تَتَعَلَّقُ بِهَا. قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ شُبْهَةً أُورِدُهَا إلَّا أَنَّهُمْ حَكَوْا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَتَلَ زِنْدِيقًا وَلَا أَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا رَأَى قَتْلَهُ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ تَوْبَتُهُ لَمْ تُقْبَلْ فَلَا بِدَلَالَةِ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ، فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَسْقُطْ الْقَتْلُ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ. قَالَ: وَلَعَلَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنَى بِقَوْلِهِ لَا تُقْبَلُ فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ، فَيَكُونُ مَا قَبْلَهُ هُوَ مَذْهَبُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً. انْتَهَى. وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ كَالْإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهَا عَدَمُ قَبُولِ تَوْبَةِ زِنْدِيقٍ فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي بِحَسْبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ، يَعْنِي مَنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُخْفِي الْكُفْرَ، وَلَا مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ. وَاسْتَوْجَهَ فِي الْغَايَةِ أَنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ كَعَادَةِ حَائِضٍ، وَكَالْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ، وَمَنْ يُفَضِّلُ مَتْبُوعَهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَنَّهُ إذَا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّحْقِيقُ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ، أَوْ أَنَّ الْعَارِفَ الْمُحَقِّقَ يَجُوزُ لَهُ التَّدَيُّنُ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَلَا مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَوْ مَلَكًا صَرِيحًا أَوْ تَنَقَّصَهُ، وَلَا لِسَاحِرٍ الَّذِي يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ، وَيُقْتَلُونَ بِكُلِّ حَالٍ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمَنْ صَدَقَ مِنْهُمْ فِي تَوْبَتِهِ قُبِلَتْ بَاطِنًا، وَمَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ وَأَبْطَنَ الْفِسْقَ فَكَالزِّنْدِيقِ فِي تَوْبَتِهِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجِدْ بِالتَّوْبَةِ سِوَى مَا يُظْهِرُهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ ابْنِ عَقِيلٍ تُقْبَلُ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَهُوَ أَوْلَى فِي الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] وَهُوَ ظَاهِرُ مَا قَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَةِ الصُّغْرَى وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَاخْتِيَارُ الْخَلَّالِ فِيمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ وَالسَّاحِرِ وَالزِّنْدِيقِ قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي: سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ اللَّهَ احْتَجَرَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ» وَحَجْرُ التَّوْبَةِ أَيْش مَعْنَاهُ؟ قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُوَفَّقُ وَلَا يُيَسَّرُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ كَذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ نَظَرًا تَامًّا إلَى دَلِيلِ خِلَافِهِ فَلَا يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ: إنَّ الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ السِّجِسْتَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا يَرْجِعُ. وَقَالَ أَيْضًا: التَّوْبَةُ مِنْ الِاعْتِقَادِ الَّذِي كَثُرَ مُلَازَمَةُ صَاحِبِهِ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِحُجَجِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدِلَّةِ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَبَابَهُمْ» قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: لِأَنَّ الشَّيْخَ قَدْ سَعَى فِي الْكُفْرِ فَإِسْلَامُهُ بَعِيدٌ بِخِلَافِ الشَّابِّ فَإِنَّ قَلْبَهُ لَيِّنٌ فَهُوَ قَرِيبٌ إلَى الْإِسْلَامِ. [مَطْلَبٌ: إذَا نَدِمَ الْغَاصِبُ وَرَدَّ مَا غَصَبَهُ لِوَرَثَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ] مَطْلَبٌ: هَلْ إذَا نَدِمَ الْغَاصِبُ وَرَدَّ مَا غَصَبَهُ لِوَرَثَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ يَبْرَأُ مِنْ إثْمِ الْغَصْبِ أَمْ لَا؟ (الثَّانِي) : سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَجُلٍ غَصَبَ رَجُلًا شَيْئًا فَمَاتَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَلَهُ وَرَثَةٌ، وَنَدِمَ الْغَاصِبُ فَرَدَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَلَى وَرَثَتِهِ. فَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ قَدْ بَرِيءَ مِنْ إثْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ إثْمِ الْغَصْبِ الَّذِي غَصَبَ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ: أَمَّا إثْمُ الْغَصْبِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ أَخَذَ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَظْلُومِ الَّذِي أُخِذَ مَالُهُ وَأُعِيدَ إلَى وَرَثَتِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الظَّالِمَ بِمَا حَرَمَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ. وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ: تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِالتَّوْبَةِ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْمَظْلُومِينَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُوَفِّيهِمْ إيَّاهَا إمَّا مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ، وَإِمَّا مِنْ عِنْدِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ حِكَايَةً عَنْ الْعُلَمَاءِ: فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ وَالْخُرُوجِ عَنْهُ، عَيْنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ فَالْعَزْمُ أَنَّهُ يُؤَدِّيهِ إذَا قَدَرَ فِي أَعْجَلِ وَقْتٍ وَأَسْرَعِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا، وَأَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ وَلِلْعَجْزِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَقَدْ أَفْتَى بِهَذَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي عَصْرِهِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَصْحَابِنَا. وَشَرَطَ الْمَالِكِيُّ فِي جَوَابِهِ أَنْ يَكُونَ اسْتِدَانَةً لِمَصْلَحَةٍ لَا سَفَهًا. انْتَهَى. مَطْلَبٌ: رُوحُ الْمَدْيُونِ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ أَنَّ رُوحَ الْمَدْيُونِ مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: سَأَلْت أَبِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَجُلٍ اسْتَدَانَ دَيْنًا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ فَتَلِفَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ وَأَصَابَهُ بَعْضُ حَوَادِثِ الدُّنْيَا فَصَارَ مُعْدِمًا لَا شَيْءَ لَهُ فَهَلْ يُرْجَى لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرٌ وَخَلَاصٌ مِنْ دَيْنِهِ إنْ مَاتَ عَلَى عُدْمِهِ وَلَمْ يَقْضِ دَيْنَهُ؟ فَقَالَ هَذَا عِنْدِي أَسْهَلُ مِنْ الَّذِي اخْتَانَ وَإِنْ مَاتَ عَلَى عُدْمِهِ فَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُحْتَمَلُ الْعِقَابُ وَالتَّرْكُ وَاَللَّهُ يُعَوِّضُ الْمَظْلُومَ إنْ شَاءَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ وَيَدَعُ بَعْضًا. وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصْحَابُ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ دَيْنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ كَوْنِ سَبَبِهِ مُحَرَّمًا أَوْ لَا، وَبَيْنَ التَّائِبِ لِامْتِنَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ أَوْ دِينَارَانِ وَلَمْ يَخْلُفْ وَفَاءً حَتَّى ضَمِنَهَا أَبُو قَتَادَةَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهَا. وَالظَّاهِرُ مِنْ الصَّحَابَةِ قَصْدُ الْخَيْرِ وَنِيَّةُ الْأَدَاءِ، وَأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ. وَعِنْدَنَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ عَلَى السَّارِقِ. وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي إجْمَاعًا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ، مَعَ أَنَّ الْحَدَّ كَفَّارَةٌ لِإِثْمِ ذَلِكَ الذَّنْبِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي الْمُجَلَّدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ فُنُونِ ابْنِ عَقِيلٍ مَا نَصُّهُ: وَأَنَا أَقُولُ الْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ فَرْعٌ عَلَى الْمُطَالَبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَكُلُّ حَقٍّ لَمْ يَثْبُتْ فِي الدُّنْيَا فَلَا ثَبَاتَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَمَنْ خَلَفَ مَالًا وَوَرِثَهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي الْقَضَاءِ وَالدَّيْنُ كَانَ مُؤَجَّلًا، فَالنَّائِبُ عَنْهُ يَقْضِي مُؤَجَّلًا وَالذِّمَّةُ عِنْدِي بَاقِيَةٌ وَلَا أَقُولُ الْحَقُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَعْيَانِ، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَيَصِحُّ ضَمَانُ دَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 الْمَيِّتِ بِبَقَاءِ حُكْمِ الذِّمَّةِ، فَلَا وَجْهَ لِمُطَالَبَةِ الْآخِرَةِ. فَقِيلَ لَهُ الَّذِي امْتَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ كَانَ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ هَلْ خَلَفَ وَفَاءً فَقِيلَ لَا، وَقَدْ أَجَّلَ الشَّرْعُ دَيْنَ الْمُعْسِرِ أَجَلًا حَكِيمًا بِقَوْلِهِ {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ثُمَّ أَجَّلَهُ حَالَ الْحَيَاةِ لَمْ يُوجِبْ بَقَاءَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى شَهِدَ الشَّرْعُ بِارْتِهَانِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: تِلْكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمٌ بِأَنَّهُ كَانَ مُمَاطِلًا بِالدَّيْنِ ثُمَّ افْتَقَرَ بَعْدَ الْمَطْلِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ، فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي عُرِفَ مِنْهُ. وَقَضِيَّةُ الْأَعْيَانِ إذَا اُحْتُمِلَتْ وَقَفَتْ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْأَصْلِ الْمُسْتَقِرِّ لِأَجْلِهَا، وَالْأَصْلُ الْمُسْتَقِرُّ هُوَ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ مُوَسَّعٍ لَا يَحْصُلُ بِتَأْخِيرِهِ فِي زَمَانِ السَّعَةِ وَالْمُهْلَةِ نَوْعُ مَأْتَمٍ، بِدَلِيلِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا يَأْثَمُ بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ مَعَ التَّأْخِيرِ وَالْإِمْكَانِ مِنْ الْأَدَاءِ. وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ فِي مَسْأَلَةِ صَرْفِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ: الْغَارِمُ الَّذِي لَمْ يَقْدِرْ فِي وَقْتٍ فِي الْأَوْقَاتِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، فَاعْتُبِرَ الْقُدْرَةُ لَا الْمُطَالَبَةُ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآجُرِّيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْخَبَرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ تُكَفِّرُ غَيْرَ الدَّيْنِ. هَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ تَهَاوَنَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ وَأَمَّا مَنْ اسْتَدَانَ دَيْنًا وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ صَرْفٍ وَلَا تَبْذِيرٍ ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْهُ قَضَاؤُهُ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقْضِيهِ عَنْهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ. انْتَهَى. وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَالًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَرَّمٍ بِقَصْدِ الْأَدَاءِ وَعَجَزَ إلَى أَنْ مَاتَ فَإِنَّهُ يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ حَتَّى وَلَوْ صَرَفَهُ فِي مُبَاحٍ، وَفِي كَوْنِهِ صَرِيحًا أَوْ ظَاهِرًا نَظَرٌ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَلَمْ أَجِدْ مَنْ صَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْحَابِ. وَعِنْدَ الْقَاضِي وَالْآجُرِّيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي يَعْلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْدِ وَجَمَاعَةٍ لَا يُطَالَبُ بِهِ. وَظَاهِرُ إطْلَاقِ كَلَامِهِمْ وَلَوْ صَرَفَهُ فِي مُحَرَّمٍ أَوْ أَتْلَفَهُ عَبَثًا وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادِهِمْ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتُوبَ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ مُفْلِحٍ صَرَّحَ بِأَنَّ إنْفَاقَهُ فِي إسْرَافٍ وَتَبْذِيرٍ لَيْسَ سَبَبًا فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ خِلَافًا لِلْآجُرِّيِّ، مَعَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِنْفَاقِهِ فِي وَجْهٍ غَيْرِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ أَخَذَهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ وَعَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ وَلَوْ نَدِمَ وَتَابَ فَهَذَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَمْ نَرَ مَنْ ذَكَرَ خِلَافَ هَذَا مِنْ مُتَقَدِّمِي الْأَصْحَابِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ أَنْفَقَهُ فِي مُبَاحٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 أَوْ مَطْلُوبٍ. نَعَمْ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الرِّعَايَةِ أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ وَنَدِمَ وَتَابَ لَا يُطَالَبُ بِهِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى عَنْ كَلَامِ صَاحِبِ الرِّعَايَةِ: إنَّهُ غَرِيبٌ بَعِيدٌ لَمْ أَجِدْ بِهِ قَائِلًا، وَإِنْ احْتَجَّ أَحْمَدُ لِذَلِكَ بِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا فَالْجَوَابُ الْحُكْمُ الْمَعْلُومُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ كَذَا فَأَقَرَّ بِهِ أُلْزِمَ بِأَدَائِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَجَابَ بِأَنْ قَالَ تُبْت مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُنِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ، وَأَنَّهُ لَوْ قَبِلَ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ وَبَطَلَتْ الْحُقُوقُ، وَلِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ. وَمَنْ أَخَذَهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لَا يُمْنَعُ مِنْ طَلَبِهِ بِهِ وَإِلْزَامِهِ بِهِ إجْمَاعًا، فَهَذَا أَوْلَى لِظُلْمِهِ. وَأَمَّا إنْ أَنْفَقَهُ وَأَتْلَفَهُ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ الْقَوْلُ بِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُجَازَى عَلَيْهِ وَلَا أَنَّهُ يَتْبَعُ بِهِ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَكْلِيفِهِ وَدُخُولِهِ النَّارَ بِتَحْمِيلِهِ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِ الْمَالِ. وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا صَغِيرًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حَرْقِهِ وَغَرَقِهِ مِنْ الْمَصَائِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مَا لَمْ يُعَايِنْ التَّائِبُ مَلَكَ الْمَوْتِ (الثَّالِثُ) : تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مَا لَمْ يُعَايِنْ التَّائِبُ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَقِيلَ مَا دَامَ مُكَلَّفًا. كَذَا فِي الرِّعَايَةِ وَالْآدَابِ، وَقِيلَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ تُفَارِقُ الْقَلْبَ قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ فَلَا يَبْقَى لَهُ نِيَّةٌ وَلَا قَصْدٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ جُرِحَ جُرْحًا مُوحِيًا صَحَّتْ، وَالْمُرَادُ مَعَ ثَبَاتِ عَقْلِهِ لِصِحَّةِ وَصِيَّةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَاعْتِبَارِ كَلَامِهِمَا. وَفِي الْكَافِي: تَصِحُّ وَصِيَّةُ مَنْ لَمْ يُعَايِنْ الْمَوْتَ وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ. قَالَ: لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ وَالْوَصِيَّةُ قَوْلٌ. قُلْت: وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ يَظْهَرُ لَك مَا أَفْتَيْت بِهِ سَنَةَ أَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ وَقَدْ طَبَقَ الطَّاعُونُ الْمَمْلَكَةَ الشَّامِيَّةَ بَلْ وَالْمِصْرِيَّةَ وَالرُّومِيَّةَ وَغَيْرَهَا حَتَّى لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ إلَّا الْقَلِيلُ، فَرُفِعَ إلَيْنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ بَعْضِ الْمُحْتَضِرِينَ كَلِمَاتٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ بِحَيْثُ لَوْ صَدَرَتْ مِنْ الصَّحِيحِ قُضِيَ بِرِدَّتِهِ فَكَيْفَ تَقُولُ فِيمَنْ صَدَرَ مِنْهُ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَمُرْتَدٌّ هُوَ أَوْ لَا؟ فَأَفْتَيْت بِأَنَّ الْمُحْتَضِرَ إذَا وَصَلَ إلَى حَالَةٍ تَمْنَعُ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْ الْعَاصِي، وَالْإِسْلَامِ مِنْ الْكَافِرِ، فَصَدَرَ مِنْهُ كَلِمَةٌ تَخْرُجُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَخْرُجْ بِهَا عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِأَقْوَالِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 وَأَفْعَالِهِ، وَلَوْ اُعْتُدَّ بِأَقْوَالِهِ لَقُبِلَ إسْلَامُهُ مَعَ تَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى قَبُولِهِ. وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ فِي حَالَةٍ يُؤَاخَذُ بِهَا بِالْكُفْرِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ فِيهَا الْإِسْلَامُ مَعَ تَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى الْإِسْلَامِ وَحِرْصِهِ عَلَيْهِ. وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهَذَا غَيْرَ أَنَّهُ ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَبُولُ التَّوْبَةِ تَفَضُّلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا، وَتَحْبَطُ الْمَعَاصِي بِهَا، وَالْكُفْرُ بِالْإِسْلَامِ، وَالطَّاعَةُ بِالرِّدَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَوْتِ، وَلَا تَحْبَطُ طَاعَةٌ بِمَعْصِيَةٍ غَيْرِ الرِّدَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمَنَّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ الصَّدَقَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَحْبَطُ طَاعَةٌ بِمَعْصِيَةٍ إلَّا مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَيَتَوَقَّفُ الْإِحْبَاطُ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْكَبِيرَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ. وَلَكِنْ قَدْ تُحْبِطُ مَا يُقَابِلُهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاخْتَارَهُ أَيْضًا فِي مَكَان آخَرَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَاحْتَجَّ بِإِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى. وَقَالَ فِي مَكَان آخَرَ: كَفَّارَةُ الشِّرْكِ التَّوْحِيدُ، وَالْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: هَلْ تُغْفَرُ خَطِيئَةُ مَنْ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فَقَطْ أَمْ تُغْفَرُ وَيُعْطَى بَدَلَهَا حَسَنَةً؟ (الرَّابِعُ) : مَنْ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فَهَلْ تُغْفَرُ خَطِيئَتُهُ فَقَطْ أَمْ تُغْفَرُ وَيُعْطَى بَدَلَهَا حَسَنَةً. ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْأَوْلَى وَهُوَ حُصُولُ الْمَغْفِرَةِ خَاصَّةً. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] فَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: اخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّبْدِيلِ وَفِي زَمَانِ كَوْنِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُبَدِّلُ اللَّهُ شِرْكَهُمْ إيمَانًا، وَقَتْلَهُمْ إمْسَاكًا، وَزِنَاهُمْ إحْصَانًا. قَالَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَالثَّانِي يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ قَالَهُ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنُ مِهْرَانَ: يُبَدِّلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّئَاتِ الْمُؤْمِنِ إذَا غَفَرَهَا لَهُ حَسَنَاتٍ حَتَّى إنَّ الْعَبْدَ يَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ سَيِّئَاتُهُ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ. وَعَنْ الْحَسَنِ كَالْقَوْلَيْنِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْقَوْلَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَيُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ فَيُقَالُ عَمِلْت يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ إنَّ لَك مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فَيَقُولُ رَبِّ قَدْ عَمِلْت أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هُنَا. فَلَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهَذَا الْحَدِيثُ فِي رَجُلٍ خَاصٍّ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّوْبَةِ، فَيَجُوزُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ هَذَا بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا بِسَبَبٍ مِنْهُ بِتَوْبَتِهِ وَلَا غَيْرِهَا، كَمَا يُنْشِئُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِهَذَا الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ لِلْقَوْلَيْنِ، وَالْأَوَّلُ يُوَافِقُهُ ظَوَاهِرُ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَلَا ظُهُورَ فِيهَا لِلْقَوْلِ الثَّانِي، فَكَيْفَ يُقَالُ بِتَبْدِيلٍ خَاصٍّ بِلَا دَلِيلٍ خَاصٍّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلظَّوَاهِرِ، لَا يُقَالُ كِلَاهُمَا تَبْدِيلٌ، فَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي فَقَدْ قَالَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ لَا عُمُومَ فِيهِ، فَإِذَا قِيلَ بِتَبْدِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ يُوَافِقُهُ ظَوَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ أَوْلَى. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ أَوْ لِمَنْ بَالَغَ بِأَنْ عَمِلَ صَالِحًا. فَالْقَوْلُ بِالْعُمُومِ لِكُلِّ تَائِبٍ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ، وَفِي الْآيَةِ وَظَوَاهِرُ الْأَدِلَّةِ مَا يُخَالِفُهُ. قُلْت: وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَرَأَيْت مَنْ عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً إلَّا أَتَاهَا فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ فَهَلْ أَسْلَمْت؟ قَالَ فَأَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّك رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ يَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ لَك خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ. قَالَ وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 تَوَارَى» فَهَذَا أَيْضًا شَخْصٌ لَا عُمُومَ فِيهِ عِنْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَمَنْ نَحَا نَحْوَ قَوْلِهِ. وَاخْتَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ أَنَّ تَبْدِيلَ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِظَاهِرِ آيَةِ الْفُرْقَانِ، وَلِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الرَّجُلِ الَّذِي تُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: التَّائِبُ عَمَلُهُ أَعْظَمُ عَنْ عَمَلِ غَيْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ مَكَانَ سَيِّئَاتِ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ فَهَذَا دَرَجَتُهُ بِحَسْبِ حَسَنَاتِهِ، فَقَدْ يَكُونُ أَرْفَعَ مِنْ التَّائِبِ إنْ كَانَتْ حَسَنَاتُهُ أَرْفَعَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ سَيِّئَاتٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا فَهَذَا نَاقِصٌ، وَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا لَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ فَهَذَا التَّائِبُ الَّذِي اجْتَهَدَ فِي التَّوْبَةِ وَالتَّبْدِيلِ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ وَالْمُجَاهَدَةِ مَا لَيْسَ لِذَلِكَ الْبَطَّالِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَقْدِيمَ السَّيِّئَاتِ وَلَوْ كُفْرًا إذَا تَعَقَّبَهَا التَّوْبَةُ الَّتِي يُبَدِّلُ اللَّهُ فِيهَا السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتُ نَقْصًا بَلْ كَمَالًا. اهـ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْك مَا يَرُدُّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ لُزُومِ أَنَّ مَنْ كَثُرَتْ سَيِّئَاتُهُ جِدًّا ثُمَّ تَابَ مِنْهَا وَقُلْنَا إنَّهَا تُبَدَّلُ حَسَنَاتٍ أَنَّهُ يَكُونُ أَرْفَعَ مَنْزِلَةً مِنْ الَّذِي لَمْ يُسِئْ قَطُّ، وَحَسَنَاتُهُ أَكْثَرُ مِنْ حَسَنَاتِ هَذَا التَّائِبِ حَيْثُ لَا تَبْدِيلَ، وَالتَّائِبُ أَكْثَرُ حَسَنَاتٍ بَعْدَ التَّبْدِيلِ. وَقَدْ عَلِمْت الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. مَطْلَبٌ: فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ التَّوْبَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا (الْخَامِسُ) : فِي ذِكْرِ بَعْضِ أَخْبَارٍ نَبَوِيَّةٍ وَأَحَادِيثَ مُحَمَّدِيَّةٍ وَآثَارٍ سَلَفِيَّةٍ فِي فَضْلِ التَّوْبَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. قَدْ عَلِمْت أَنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا، وَأَنَّ الذُّنُوبَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: تَرْكُ وَاجِبٍ فَعَلَيْك أَنْ تَقْضِيَهُ أَوْ مَا أَمْكَنَك مِنْهُ، أَوْ ذَنْبٌ بَيْنَك وَبَيْنَهُ تَعَالَى كَشُرْبِ الْخَمْرِ فَتَنْدَمُ عَلَيْهِ وَتُوَطِّنُ الْقَلْبَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ أَبَدًا، أَوْ ذَنْبٌ بَيْنَك وَبَيْنَ الْعِبَادِ، وَهَذَا أَشْكَلُهَا وَأَصْعَبُهَا، وَهَذَا يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا لِأَنَّهُ إمَّا فِي الْمَالِ أَوْ النَّفْسِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ فِي الْحُرْمَةِ أَوْ الدِّينِ بِأَنْ كَفَّرَهُ أَوْ بَدَّعَهُ. فَمَا كَانَ فِي الْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهِ إنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 أَمْكَنَ أَوْ الِاسْتِحْلَالِ مِنْهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ لِغَيْبَةِ الرَّجُلِ أَوْ مَوْتِهِ فَوَارِثُهُ مَقَامَهُ، وَإِلَّا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الْحَسَنَاتِ، وَمَرَّ مَا يُفْهَمُ عَنْهُ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ الْجَمِيعِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ اهْتِمَامًا. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ أَنَّهُ قَالَ: دَعَوْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثَلَاثِينَ سَنَةً أَنْ يَرْزُقَنِي تَوْبَةً نَصُوحًا ثُمَّ تَعَجَّبْت فِي نَفْسِي وَقُلْت سُبْحَانَ اللَّهِ حَاجَةٌ دَعَوْت اللَّهَ فِيهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً فَمَا قُضِيَتْ إلَى الْآنَ فَرَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ قَائِلًا يَقُولُ لِي أَتَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ أَتَدْرِي مَاذَا تَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى؟ إنَّمَا تَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُحِبَّك، أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] . إذَا عَلِمْت هَذَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] ، وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْكَلِمَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ. وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَنَذْكُرُ مِنْهَا هُنَا طَرْفًا فَنَقُولُ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَابَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ لَبَابًا مَسِيرَةُ عَرْضِهِ أَرْبَعُونَ عَامًا أَوْ سَبْعُونَ سَنَةً فَتَحَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلتَّوْبَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَلَا يُغْلِقُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ» " وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، سَبْعَةٌ مُغْلَقَةٌ وَبَابٌ مَفْتُوحٌ لِلتَّوْبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَبْلُغَ السَّمَاءَ ثُمَّ تُبْتُمْ لَتَابَ عَلَيْكُمْ» . وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُهُ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ» . وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» . مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى «غَفَرْت لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ يَا رَبُّ إنِّي أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَغَفَرَ لَهُ. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ وَرُبَّمَا قَالَ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ يَا رَبُّ إنِّي أَذْنَبْت ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَغَفَرَ لَهُ. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ وَرُبَّمَا قَالَ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ فَقَالَ يَا رَبُّ إنِّي أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَقَالَ رَبُّهُ: غَفَرْت لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَا دَامَ كُلَّمَا أَذْنَبَ ذَنْبًا اسْتَغْفَرَ وَتَابَ مِنْهُ وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ» فَلْيَفْعَلْ إذَا كَانَ هَذَا دَأْبَهُ مَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا أَذْنَبَ كَانَتْ تَوْبَتُهُ وَاسْتِغْفَارُهُ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ فَلَا يَضُرُّهُ " لَا أَنَّهُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ ثُمَّ يُعَاوِدُهُ فَإِنَّ هَذِهِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ. انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى مَا فِي مَفْهُومِ كَلَامِهِ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَأَقْلَعَ عَنْهُ وَعَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ أَبَدًا ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ، وَالصَّوَابُ خِلَافُهُ، بَلْ حُكْمُهُ فِي الْقَبُولِ وَالْغُفْرَانِ كَمَا لَوْ عَاوَدَ ذَنْبًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي تَابَ مِنْهُ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَابَ وَأَقْلَعَ وَعَزَمَ أَنْ لَا يَعُودَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ قَالَ فِي إحْدَاهُمَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ مِنْهَا، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يُغْلَقَ بِهَا قَلْبُهُ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] » . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «إنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» أَيْ بِغَيْنَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَةٌ وَبِرَاءٍ مُكَرَّرَةٍ مَعْنَاهُ مَا لَمْ تَبْلُغْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يَتَغَرْغَرُ بِهِ الْمَرِيضُ. وَالْغَرْغَرَةُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَشْرُوبُ فِي الْفَمِ وَيُرَدَّدُ إلَى أَصْلِ الْحَلْقِ وَلَا يُبْلَعَ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ غَيْرَ أَنَّ عَطَاءً لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا وَالْبَيْهَقِيُّ فَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا رَجُلًا لَمْ يُسَمَّ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا «عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْت، وَاذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَشَجَرٍ، وَمَا عَمِلْت مِنْ سُوءٍ فَأَحْدِثْ لَهُ تَوْبَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ» . وَرَوَى الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «إذَا تَابَ الْعَبْدُ عَنْ ذُنُوبِهِ أَنْسَى اللَّهُ حَفَظَتَهُ ذُنُوبَهُ، وَأَنْسَى ذَلِكَ جَوَارِحَهُ وَمَعَالِمَهُ مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ بِذَنْبٍ» . وَرَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا. وَصَنِيعُ الْحَافِظِ الْمُنْذِرِيِّ يُشْعِرُ بِضَعْفِهِ؛ لِأَنَّهُ أُورِدَ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ كِلَاهُمَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ «وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنْ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ» . وَقَدْ رُوِيَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مَوْقُوفًا وَلَعَلَّهُ أَشْبَهُ. وَرِجَالُ الطَّبَرَانِيِّ رِجَالُ الصَّحِيحِ لَوْلَا الِانْقِطَاعُ. وَقَدْ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ بِشَوَاهِدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَرَوَى الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ وَهُوَ سَاقِطٌ وَقَالَ صَحِيحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 الْإِسْنَادِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا «مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً عَلَى ذَنْبٍ إلَّا غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ مِنْهُ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ لَا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ الْمِائَةَ. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ مَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ ، انْطَلِقْ إلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إلَى أَرْضِك فَإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إذَا نَصَّفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَنَا تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ فَكَانَ إلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ «فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي وَإِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَقَالَ قِيسُوا بَيْنَهُمَا فَوَجَدُوهُ إلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ قَتَادَةُ قَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَا أَتَى مَلَكُ الْمَوْتِ نَأَى بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادَيْنِ أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مَرْفُوعًا: «فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلَى دَيْرِ التَّوَّابِينَ بِأُنْمُلَةٍ فَغُفِرَ لَهُ» . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَذَكَرَ إلَى أَنْ قَالَ «ثُمَّ أَتَى رَاهِبًا آخَرَ فَقَالَ إنِّي قَتَلْت مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ أَسْرَفْت وَمَا أَدْرِي وَلَكِنْ هَاهُنَا قَرْيَتَانِ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا نَصْرَةُ، وَالْأُخْرَى يُقَالُ لَهَا كَفْرَةُ، فَأَمَّا أَهْلُ نَصْرَةَ فَيَعْمَلُونَ عَمَلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَثْبُتُ فِيهَا غَيْرُهُمْ، وَأَمَّا أَهْلُ كَفْرَةَ فَيَعْمَلُونَ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ لَا يَثْبُتُ فِيهَا غَيْرُهُمْ، فَانْطَلِقْ إلَى أَهْلِ نَصْرَةَ فَإِنْ ثَبَتَّ فِيهَا وَعَمِلْت عَمَلَ أَهْلِهَا فَلَا شَكَّ فِي تَوْبَتِك، فَانْطَلَقَ يُرِيدُهَا حَتَّى إذَا كَانَ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَسَأَلَتْ الْمَلَائِكَةُ رَبَّهَا عَنْهُ فَقَالَ اُنْظُرُوا إلَى أَيِّ الْقَرْيَتَيْنِ كَانَ أَقْرَبَ فَاكْتُبُوهُ مِنْ أَهْلِهَا. فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلَى نَصْرَةَ بِقَيْدِ أُنْمُلَةٍ فَكُتِبَ مِنْ أَهْلِهَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي وَاَللَّهِ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالْفَلَاةِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ إلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْت إلَيْهِ أُهَرْوِلُ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «مَنْ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شِبْرًا تَقَرَّبَ إلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيْهِ ذِرَاعًا تَقَرَّبَ إلَيْهِ بَاعًا. وَمَنْ أَقْبَلَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَاشِيًا أَقْبَلَ إلَيْهِ مُهَرْوِلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ عَنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى، شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّك، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مُهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ فَطَلَبَهَا حَتَّى إذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ أَرْجِعُ إلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْت فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ عَلَيْهَا زَادُهُ وَشَرَابُهُ، فَاَللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ» . قَوْلُهُ «فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ» الدَّوِّيَّةُ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ جَمِيعًا هِيَ الْفَلَاةُ الْقَفْرُ وَالْمَفَازَةُ. قَالَ الْمُحَقِّقُ بْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: وَلَيْسَ فِي أَنْوَاعِ الْفَرَحِ أَكْمَلُ وَلَا أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْفَرَحِ، وَلَوْلَا الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ لِلتَّوْبَةِ وَلِأَهْلِهَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْفَرَحُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ وُجُودَ الْمُسَبَّبِ بِدُونِ سَبَبِهِ مُمْتَنِعٌ، وَهَلْ يُوجَدُ مَلْزُومٌ بِدُونِ لَازِمِهِ أَوْ غَايَةٌ بِدُونِ وَسِيلَتِهَا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ لَمَا ابْتَلَى بِالذَّنْبِ أَكْرَمَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَيْهِ. فَالتَّوْبَةُ هِيَ غَايَةُ كَمَالِ كُلِّ آدَمِيٍّ. وَإِنَّمَا كَانَ كَمَالُ أَبِيهِمْ بِهَا، فَكَمْ بَيْنَ حَالِهِ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118] {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه: 119] وَبَيْنَ قَوْلِهِ {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] فَالْحَالُ الْأُولَى حَالُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَتَمَتُّعٍ، وَالْحَالُ الْأُخْرَى حَالُ اجْتِبَاءٍ وَاصْطِفَاءٍ وَهِدَايَةٍ، فَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ التَّائِبَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ أَعْظَمَ فَرَحٍ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَلَا تَنْسَ الْفَرْحَةَ الَّتِي تَظْفَرُ بِهَا عِنْدَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَجِدُ الْقَلْبَ يَرْقُصُ فَرَحًا وَأَنْتَ لَا تَدْرِي سَبَبَ ذَلِكَ الْفَرَحِ مَا هُوَ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحُسُّ بِهِ إلَّا حَيُّ الْقَلْبِ، وَأَمَّا مَيِّتُ الْقَلْبِ فَإِنَّمَا يَجِدُ الْفَرَحَ عِنْدَ ظَفَرِهِ بِالذَّنْبِ وَلَا يَعْرِفُ فَرَحًا غَيْرَهُ. فَوَازِنْ إذًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَرْحَيْنِ، وَانْظُرْ مَا يَعْقُبُ فَرَحَ الظَّفَرِ بِالذَّنْبِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْزَانِ وَالْهُمُومِ وَالْمَصَائِبِ. فَمَنْ يَشْتَرِي فَرْحَةَ سَاعَةٍ بِغَمِّ الْأَبَدِ، وَانْظُرْ مَا يَعْقُبُ فَرَحَ الظَّفَرِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْ الِانْشِرَاحِ الدَّائِمِ وَالنَّعِيمِ وَطِيبِ الْعَيْشِ، وَوَازِنْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثُمَّ اخْتَرْ مَا يَلِيقُ بِك وَيُنَاسِبُك، وَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ، وَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي أَمَالِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ، مِنْ الضَّالِّ الْوَاجِدِ، وَمِنْ الظَّمْآنِ الْوَارِدِ» . رَوَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَرْكَانَ الْهَمْدَانِيُّ فِي كِتَابِ التَّائِبِينَ عَنْ أَبِي الْجَوْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 مُرْسَلًا «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ مِنْ الظَّمْآنِ الْوَارِدِ، وَمِنْ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ، وَمِنْ الضَّالِّ الْوَاجِدِ. فَمَنْ تَابَ إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا أَنْسَى اللَّهُ حَافِظَيْهِ وَجَوَارِحَهُ وَبِقَاعَ الْأَرْضِ كُلَّهَا خَطَايَاهُ وَذُنُوبَهُ» . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا «مَنْ أَحْسَنَ فِيمَا بَقِيَ غُفِرَ لَهُ مَا مَضَى، وَمَنْ أَسَاءَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذَ بِمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ» . وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا «إذَا عَمِلْت سَيِّئَةً فَأَتْبِعْهَا حَسَنَةً تَمْحُهَا. قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ الْحَسَنَاتِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ هِيَ أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ» . وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُ مَا كُنْت، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. مَطْلَبٌ: فِي تَعْرِيفِ بَعْضِهِمْ التَّوْبَةَ بِتَرْكِ اخْتِيَارِ ذَنْبٍ سَبَقَ مِثْلُهُ مِنْهُ مَنْزِلَةً لَا صُورَةً. (السَّادِسُ) : عَرَّفَ بَعْضُهُمْ التَّوْبَةَ بِتَرْكِ اخْتِيَارِ ذَنْبٍ سَبَقَ مِثْلُهُ مِنْهُ مَنْزِلَةً لَا صُورَةً تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحَذَرًا مِنْ سَخَطِهِ، فَشَمِلَ هَذَا التَّعْرِيفُ أَرْبَعَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: تَرْكُ الِاخْتِيَارِ لِلْمُذْنِبِ بِأَنْ يُوَطِّنَ قَلْبَهُ وَيُجَرِّدَ عَزْمَهُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إلَى الذَّنْبِ أَلْبَتَّةَ. فَأَمَّا إنْ تَرَكَ الذَّنْبَ وَفِي نَفْسِهِ الْعَوْدُ إلَيْهِ أَوْ يَتَرَدَّدُ فِي الْعَوْدِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَائِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ. الثَّانِي: أَنْ يَتُوبَ عَنْ ذَنْبٍ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ مِثْلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَ لَهُ ذَنْبٌ فَهُوَ مُتَّقٍ غَيْرُ تَائِبٍ. (الثَّالِثُ) : إنَّ الَّذِي سَبَقَ يَكُونُ مِثْلَ مَا يَتْرُكُ اخْتِيَارَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالدَّرَجَةِ لَا فِي الصُّورَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِي الْهَرِمَ الَّذِي قَدْ كَانَ سَبَقَ مِنْهُ الزِّنَا وَقَطْعٌ لِلطَّرِيقِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ عَنْ ذَلِكَ تُمْكِنُهُ التَّوْبَةُ وَتُقْبَلُ مِنْهُ تَوْبَتُهُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُغْلَقْ عَنْهُ بَابُهَا، مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَرْكُ اخْتِيَارِ الزِّنَا وَقَطْعِ الطَّرِيقِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ تَارِكٌ لَهُ مُمْتَنِعٌ عَنْهُ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ فِعْلِهِ لَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مَا هُوَ مِثْلُ الزِّنَا وَقَطْعِ الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالدَّرَجَةِ كَالْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ إذْ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعَاصٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 وَإِنْ تَفَاوَتَ الْإِثْمُ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ وَمَعْصِيَةٍ بِقَدْرِهَا وَلَكِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَاصِي الْفَرْعِيَّةِ كُلِّهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ دُونَ مَنْزِلَةِ الْبِدْعَةِ، وَمَنْزِلَةُ الْبِدْعَةِ دُونَ مَنْزِلَةِ الْكُفْرِ، فَإِنْ كَانَتْ الْبِدْعَةُ مُكَفِّرَةً اتَّحَدَتْ مَنْزِلَتُهَا مَعَ الْكُفْرِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْمَنَازِلَ ثَلَاثَةٌ: مَنْزِلَةُ الْكُفْرِ، وَمَنْزِلَةُ الْبِدَعِ، وَمَنْزِلَةُ الْمَعَاصِي. ثُمَّ إنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَسَّمُ إلَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ. وَلِلْكَبَائِرِ مِنْهَا الْمُوبِقَاتُ السَّبْعُ، وَهِيَ قَتْلُ النَّفْسِ وَالزِّنَا وَأَكْلُ الرِّبَا وَالسِّحْرُ وَالْقَذْفُ وَأَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَتَصِحُّ تَوْبَةُ مَنْ عَجَزَ عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ كَتَوْبَةِ الْأَقْطَعِ عَنْ السَّرِقَةِ. وَالزَّمِنِ عَنْ السَّعْيِ إلَى حَرَامٍ، وَالْمَجْبُوبِ عَنْ الزِّنَا. وَمَقْطُوعِ اللِّسَانِ عَنْ الْقَذْفِ، وَالْمُرَادُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا تَابَ مِنْهُ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ عَنْ عَزْمِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهَا. انْتَهَى. الرَّابِعُ: كَوْنُ التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ تَعْظِيمًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِتَائِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُرَاءٍ أَوْ خَائِفٌ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا تَوْبَةً نَصُوحًا تُمْحَى بِهَا الْأَوْزَارُ، وَنَرْتَقِي مِنْهَا إلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ، مَعَ السَّادَةِ الْأَخْيَارِ. إنَّهُ التَّوَّابُ الْغَفَّارُ. لَا رَبَّ لَنَا سِوَاهُ. وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ [خَاتِمَة الْكتاب] ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي النُّصْحِ إيفَاءً بِمَا وَعَدَ فِي أَوَّلِ مَنْظُومَتِهِ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ سَأَبْذُلُهَا جُهْدِي الْبَيْتَ، فَقَالَ: وَهَا قَدْ بَذَلْت النُّصْحَ جَهْدِي وَإِنَّنِي ... مُقِرٌّ بِتَقْصِيرِي وَبِاَللَّهِ أَهْتَدِي (وَهَا) قَالَ فِي الْقَامُوسِ: كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ، وَتَدْخُلُ فِي ذَا وَذِي، تَقُولُ هَذَا وَهَذِي، وَهَا تَكُونُ اسْمًا لِفِعْلٍ وَهُوَ " خُذْ " وَيُمَدُّ، وَيُسْتَعْمَلَانِ بِكَافِ الْخِطَابِ، وَيَجُوزُ فِي الْمَمْدُودَةِ أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ الْكَافِ بِتَصْرِيفِ هَمْزَتِهَا تَصَارِيفَ الْكَافِ، هَاءَ لِلْمُذَكَّرِ، وَهَاءِ لِلْمُؤَنَّثِ، وَهَاؤُمَا وَهَاؤُمْ وَهَاؤُنْ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] وَفِي كَلَامِ النَّاظِمِ كَذَلِكَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذْ، وَتَقْدِيرُهَا وَهَاكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ لِنِظَامِي، الْمُتَهَيِّئُ لِحِفْظِ كَلَامِي (قَدْ بَذَلْت) لَك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 (النُّصْحَ) مِنْ نَفْسِي بِحَسْبِ (جَهْدِي) . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْجَهْدُ الطَّاقَةُ وَيُضَمُّ (وَ) مَعَ بَذْلِ جَهْدِي وَطَاقَتِي فِي النُّصْحِ (إنَّنِي مُقِرٌّ) وَمُعْتَرِفٌ (بِتَقْصِيرِي) فَإِنِّي لَمْ أَسْتَقْصِ جَمِيعَ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ يَتَّسِعْ الْوَقْتُ وَالزَّمَانُ لِلْإِحَاطَةِ وَالشُّمُولِ، سِيَّمَا وَبَابُ النَّظْمِ أَضْيَقُ مِنْ النَّثْرِ، مَعَ مَلَلِ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ، وَعَدَمِ مَيْلِهِمْ لِلْإِطَالَةِ، وَالْفَهْمِ الْكَسِلِ وَالْمَلَالَةِ (وَبِاَللَّهِ) سُبْحَانَهُ لَا بِغَيْرِهِ (أَهْتَدِي) لِاقْتِنَاصِ الْمَعَانِي الشَّارِدَةِ، وَالنَّوَادِرِ النَّادِرَةِ فَإِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ، لَا يَخِيبُ مَنْ تَرَجَّاهُ، وَلَا يَضِلُّ مَنْ اسْتَهْدَاهُ. ثُمَّ أَخَذَ يُثْنِي عَلَى مَنْظُومَتِهِ بِبَعْضِ مَا هِيَ أَهْلُهُ وَجَمِيلِ بَعْضِ أَوْصَافِهَا فَقَالَ: تَقَضَّتْ بِحَمْدِ اللَّهِ لَيْسَتْ ذَمِيمَةً ... وَلَكِنَّهَا كَالدُّرِّ فِي عِقْدِ خُرَّدِ (تَقَضَّتْ) هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ الْفَائِقَةُ بِالْمَعَانِي الرَّائِقَةِ (بِحَمْدِ اللَّهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (لَيْسَتْ) هِيَ (ذَمِيمَةً) الذَّمُّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ ضِدُّ الْمَدْحِ، يُقَالُ ذَمَّهُ ذَمًّا وَمَذَمَّةً فَهُوَ مَذْمُومٌ وَذَمِيمٌ، وَبِئْرٌ ذَمِيمَةٌ قَلِيلَةُ الْمَاءِ وَغَزِيرَةٌ مِنْ بَابِ الْأَضْدَادِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ لَيْسَتْ حَقِيرَةً (لَكِنَّهَا) مَمْدُوحَةُ الْمَعَانِي، فَائِقَةُ الْمَبَانِي كُلُّ مَنْ تَحَلَّى بِحِفْظِهَا وَإِدْرَاكِ مَعَانِيهَا زَانَتْهُ وَأَكْسَبَتْهُ بَهْجَةً وَرَوْنَقًا (كَالدُّرِّ) النَّفِيسِ (فِي عِقْدِ) نِسَاءٍ غِيدٍ حِسَانٍ (خُرَّدٍ) جَمْعُ خَرِيدَةٍ وَهِيَ الْبِكْرُ الَّتِي لَمْ تُمْسَسْ، أَوْ الْخَفْرَةُ الطَّوِيلَةُ السُّكُوتِ، الْخَافِضَةُ الصَّوْتِ، فَكَمَا تَزْدَادُ الْخُرَّدُ بِالدُّرِّ جَمَالًا عَلَى جَمَالِهَا. وَكَمَالًا عَلَى كَمَالِهَا، فَمَنْ تَحَلَّى بِهَذِهِ الْمَنْظُومَةِ يَزْدَادُ بِهَا كَمَالًا. أَوْ أَنَّ نَظْمَهَا فِي الْحُسْنِ وَالِاتِّسَاقِ وَالْجَوْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ كَنَظْمِ الدُّرِّ الَّذِي أَحْكَمَتْ الْخُرَّدُ نَظْمَهُ وَتَأْلِيفَهُ وَأَجَادَتْ تَنْفِيذَهُ وَتَرْصِيفَهُ. وَالْعِقْدُ بِالْكَسْرِ: الْقِلَادَةُ وَالْجَمْعُ: عُقُودٌ. يُحَيَّرُ لَهَا قَلْبُ اللَّبِيبِ وَعَارِفِ ... كَرِيمَانِ إنْ جَالَا بِفِكْرِ مُنَضَّدِ (يَحِيرُ لَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الْمَنْظُومَةِ. يُقَالُ تَحَيَّرَ وَاسْتَحَارَ إذَا نَظَرَ إلَى الشَّيْءِ فَغَشِيَ وَلَمْ يَهْتَدِ لِسَبِيلِهِ فَهُوَ حَيْرَانُ وَحَائِرٌ وَهِيَ حَيْرَى وَهُمْ حَيَارَى وَيُضَمُّ، وَحَارَ الْمَاءُ تَرَدَّدَ، وَالْحَائِرُ مُجْتَمَعُ الْمَاءِ وَحَوْضٌ يُنْسَبُ إلَيْهِ مَسِيلُ مَاءِ الْأَمْطَارِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْمَنْظُومَةَ لَا تَنْسَاقُ مَبَانِيهَا، وَبَلَاغَةُ مَعَانِيهَا، إذَا نَظَرَ إلَيْهَا الْإِنْسَانُ دُهِشَ وَحَارَ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ ذَلِكَ فَيَحِيرُ لَهَا (قَلْبُ اللَّبِيبِ) الْعَاقِلِ (وَ) يَحِيرُ لَهَا أَيْضًا قَلْبُ رَجُلٍ (عَارِفٍ) بِالنَّظْمِ وَلِلْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَمَعَانِي الْكَلَامِ، وَمَفْهُومِ النِّظَامِ، وَالْمَعْرِفَةُ تُرَادِفُ الْعِلْمَ إلَّا أَنَّهَا مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ وَيَخُصُّهَا بَعْضُ النَّاسِ بِالْبَسَائِطِ أَوْ الْجُزْئِيَّاتِ، وَلِهَذَا لَا تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ بِخِلَافِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ وَلَا يُقَالُ لَهُ عَارِفٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَعْرِفَةُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الْعِلْمُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مَعَ الصِّدْقِ لِلَّهِ فِي مُعَامَلَاتِهِ. وَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ التَّحْرِيرِ: يُطْلَقُ الْعِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ مَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَيُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ، وَهِيَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عِلْمٌ مُسْتَحْدَثٌ أَوْ انْكِشَافٌ بَعْدَ لَبْسٍ أَخَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُسْتَحْدَثِ وَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَشْمَلُ الْمُسْتَحْدَثَ وَهُوَ عِلْمُ الْعِبَادِ. وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا يَقِينٌ وَظَنٌّ أَعَمُّ مِنْ الْعِلْمِ لِاخْتِصَاصِهِ حَقِيقَةً بِالْيَقِينِ. قَالَ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَارِفٌ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. حَكَاهُ الْقَاضِي إجْمَاعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هُمَا يَعْنِي اللَّبِيبَ وَالْعَارِفَ (كَرِيمَانِ) لَا لَئِيمَانِ فَإِنَّ الْكَرِيمَ وَاسِعُ الْخُلُقِ صَفُوحٌ عَنْ الزَّلَلِ، غَيْرُ مُتَتَبِّعٍ لِلْخَلَلِ، وَاللَّئِيمُ بِضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ (إنْ جَالَا) مِنْ جَالَ فِي الْحَرْبِ جَوْلَةً وَفِي الطَّوَافِ. وَالْمُرَادُ هُنَا إنْ أَمْعَنَا (بِفِكْرٍ) بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ هُوَ إعْمَالُ النَّظَرِ فِي الشَّيْءِ كَالْفِكْرَةِ وَالْفِكْرَى، وَالْجَمْعُ أَفْكَارٌ وَتَقَدَّمَ (مُنَضِّدِ) مُتَتَابِعٍ يُقَالُ نَضَّدَ مَتَاعَهُ يُنَضِّدُهُ جَعَلَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ كَنَضَدَهُ فَهُوَ مَنْضُودٌ وَنَضِيدٌ وَمُنَضَّدٌ، أَوْ أَرَادَ بِفِكْرٍ مُقِيمٍ مُحْكَمٍ، يُقَالُ انْتَضَدَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ، وَهَذَا أَنْسَبُ، أَوْ بِفِكْرٍ غَزِيرٍ مُتَرَاكِمٍ، فَإِنَّ النَّضَدَ مِنْ السَّحَابِ مَا تَرَاكَمَ وَتَرَاكَبَ. وَعَلَى كُلٍّ فَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا اللَّبِيبُ وَالْعَارِفُ يَحِيرَانِ وَيَدْهَشَانِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ مِنْ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ. وَالْمَسَائِلِ الْأَنِيقَةِ، وَالْأَحْكَامِ الْوَثِيقَةِ، وَالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآثَارِ الصَّرِيحَةِ، وَالْكَلِمَاتِ الْفَصِيحَةِ، مَعَ وَجَازَةِ لَفْظِهَا، وَانْسِجَامِ نَظْمِهَا، وَعُذُوبَةِ كَلِمَاتِهَا، وَسُهُولَةِ أَبْيَاتِهَا. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَنْ تُعْدَمَ مِنْ هَذَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ إمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْكُرَمَاءِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 فَمَا رَوْضَةٌ حُفَّتْ بِنَوْرِ رَبِيعِهَا ... بِسَلْسَالِهَا الْعَذْبِ الزُّلَالِ الْمُبَرَّدِ (فَمَا) نَافِيَةٌ حِجَازِيَّةٌ وَ (رَوْضَةٌ) اسْمُهَا وَبِأَحْسَنَ خَبَرُهَا. وَالرَّوْضَةُ وَالرِّيضَةُ بِالْكَسْرِ مِنْ الرَّمْلِ وَالْقُشُبِ مُسْتَنْقَعُ الْمَاءِ فِيهِمَا كَمَا فِي الْقَامُوسِ. وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» كُلُّ مَكَان فِيهِ نَبَاتٌ مُجْتَمِعٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَلَا يَكُونُ إلَّا فِي ارْتِفَاعٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مَاءٍ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ النَّاظِمِ (حُفَّتْ) هِيَ (بِنَوْرِ) بِالْفَتْحِ وَكَرُمَّانٍ هُوَ الزَّهْرُ مُطْلَقًا أَوْ الْأَبْيَضُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْأَصْفَرُ فَزَهْرٌ وَالْجَمْعُ أَنْوَارٌ، يُقَالُ نَوَّرَ الشَّجَرُ تَنْوِيرًا خَرَجَ نَوْرُهُ. أَيْ فَمَا رَوْضَةٌ يَانِعَةٌ حُفَّتْ بِمَعْنَى مُطْبِقٍ وَمُحِيطِ نَوْرٍ (رَبِيعِهَا) أَيْ الرَّوْضَةِ بِأَحِفَّتِهَا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} [الكهف: 32] أَيْ جَعَلْنَا النَّخْلَ مُطْبِقَةً بِأَحِفَّتِهَا {حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] مُحْدِقِينَ بِأَحِفَّتِهِ أَيْ جَوَانِبِهِ «وَحَفَّتْ بِهِمْ الْمَلَائِكَةُ» ، أَيْ أَحْدَقُوا بِهِمْ وَصَارُوا أَحِفَّتَهُمْ أَيْ جَوَانِبَهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «، حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» أَيْ أُحْدِقَتْ بِهَا (بِسَلْسَالِهَا) أَيْ مَائِهَا الْعَذْبِ الْبَارِدِ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: سَلْسَلٌ كَجَعْفَرٍ وَخَلْخَالٍ الْمَاءُ الْبَارِدُ أَوْ الْعَذْبُ كَالسُّلَاسِلِ بِالضَّمِّ، وَسَلْسَلَ الْمَاءَ جَرَى فِي حُدُورٍ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ (الْعَذْبِ) أَيْ الْمُسْتَسَاغِ وَاسْتَعْذَبَ أَيْ اسْتَسْقَى عَذْبًا (الزُّلَالِ) كَغُرَابِ (الْمُبَرَّدِ) أَيْ الْبَارِدِ ضِدَّ الْحَارِّ، وَالزُّلَالُ وَالزَّلِيلُ كَأَمِيرٍ، وَالزَّلُولُ كَصَبُورٍ هُوَ السَّرِيعُ الْمَرُّ فِي الْحَلْقِ أَيْ الْبَارِدُ وَالْعَذْبُ الصَّافِي السَّهْلُ السَّلِسُ، وَيُقَالُ زُلَائِلٌ كَعُلَابِطٍ. قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. وَفِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لِلدَّمِيرِيِّ: الزُّلَالُ بِضَمِّ الزَّايِ دُودٌ يَتَرَبَّى فِي الثَّلْجِ وَهُوَ مُنَقَّطٌ بِصُفْرَةٍ يَقْرُبُ مِنْ الْأُصْبُعِ يَأْخُذُهُ النَّاسُ مِنْ أَمَاكِنِهِ لِيَشْرَبُوا مَا فِي جَوْفِهِ لِشِدَّةِ بَرْدِهِ وَلِذَلِكَ يُشَبِّهُ النَّاسُ الْمَاءَ الْبَارِدَ بِالزُّلَالِ، لَكِنْ فِي الصِّحَاحِ مَاءٌ زُلَالٌ أَيْ عَذْبٌ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْعِجْلِيُّ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ: الْمَاءُ الَّذِي فِي دُودِ الثَّلْجِ طَهُورٌ. وَهَذَا وَيُوَافِقُ أَنَّهُ الدُّودُ. نَعَمْ الْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنَّ الزُّلَالَ هُوَ الْمَاءُ الْبَارِدُ. قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنُ نُفَيْلِ بْنُ سَعِيدِ بْنُ زَيْدٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهُ يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 وَأَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي الْفِرَاسِ بْنِ حَمْدَانَ: قَدْ كُنْت عُدَّتِي الَّتِي أَسْطُو بِهَا ... وَيَدِي إذَا اشْتَدَّ الزَّمَانُ وَسَاعِدِي فَرَمَيْت مِنْك بِضِدِّ مَا أَمَّلْته ... وَالْمَرْءُ يَشْرَقُ بِالزُّلَالِ الْبَارِدِ وَقَالَ آخَرُ: وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مَرِيضٍ ... يَجِدْ مُرًّا بِهِ الْمَاءَ الزُّلَالَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ وَجِيهِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْمُطَاعِ بْنِ حَمْدَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قَالَتْ لِطَيْفِ خَيَالٍ زَارَنِي وَمَضَى ... بِاَللَّهِ صِفْهُ وَلَا تُنْقِصْ وَلَا تَزِدْ فَقُلْت أَبْصَرْته لَوْ مَاتَ مِنْ ظَمَأٍ ... وَقُلْت قِفْ عَنْ وُرُودِ الْمَاءِ لَمْ يَرِدْ قَالَتْ صَدَقْت الْوَفَا فِي الْحُبِّ عَادَتُهُ ... يَا بَرْدَ ذَاكَ الَّذِي قَالَتْ عَلَى كَبِدِي فَهَذَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهِ يَشْهَدُ أَنَّهُ الْمَاءُ، وَقَدْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْقَامُوسِ كَمَا عَلِمْت، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَمَا هَذِهِ الرَّوْضَةُ بِهَذِهِ الْأَزْهَارِ وَالنَّوَارِ وَالْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ الزُّلَالِ: بِأَحْسَنَ مِنْ أَبْيَاتِهَا وَمَسَائِلُ ... أَحَاطَتْ بِهَا يَوْمًا بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ (بِأَحْسَنَ) مَنْظَرًا، وَأَبْهَجَ مَرْأًى، وَأَتَمَّ رَوْنَقًا (مِنْ أَبْيَاتِهَا) أَيْ أَبْيَاتِ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ الَّتِي هِيَ مُشَبَّهَةٌ بِالرَّوْضَةِ الْمَعْلُومَةِ. (وَ) لَا زَهْرُهَا وَنَوْرُهَا وَمَاؤُهَا الْعَذْبُ الزُّلَالُ وَسَلْسَالُهَا الَّذِي أَرْبَى عَلَى الْجِرْيَالِ بِأَحْسَنَ لَوْنًا وَأَعْذَبَ مَسَاغًا وَأَلَذَّ طَعْمًا وَأَسْهَلَ وُصُولًا وَأَسْلَسَ انْحِدَارًا فِي الْحَلْقِ مِنْ (مَسَائِلَ) جَمْعُ مَسْأَلَةٍ وَهِيَ مَا يُبَرْهَنُ عَنْهُ لِإِفَادَةِ الْعِلْمِ (أَحَاطَتْ) هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ (بِهَا) أَيْ بِالْمَسَائِلِ الْمَخْدُومَةِ، وَالْأَحْكَامِ الْمَعْلُومَةِ، وَالْآثَارِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ، وَالْآدَابِ الْمَطْلُوبَةِ، وَالْمَعَانِي الْمَجْلُوبَةِ، وَالْمُخَدَّرَاتِ الْمَخْطُوبَةِ، وَالْخَرَائِدِ الْمَحْبُوبَةِ (يَوْمًا) أَيْ لَمْ تَكُنْ الرَّوْضَةُ بِأَزْهَارِهَا وَنُوَّارِهَا وَمَائِهَا يَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ أَحْسَنَ وَلَا أَبْهَجَ وَلَا أَلْطَفَ مِنْ هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ بِمَسَائِلِهَا وَآدَابِهَا وَأَخْبَارِهَا وَأَسْرَارِهَا (بِغَيْرِ تَرَدُّدِ) فِي ذَلِكَ. بَلْ الْمَنْظُومَةُ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَسْرَارِ، وَالْأَحْكَامِ وَالْآثَارِ، أَتَمُّ حُسْنًا وَأَبْهَجُ مَنْظَرًا مِنْ الرَّوْضَةِ الْمَذْكُورَةِ. عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ الْمَخْبُورَةِ، وَالْعُقُولِ الْمَشْهُورَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 وَالْآرَاءِ الْمَنْصُورَةِ. كَيْفَ لَا وَتِلْكَ عَنْ قَرِيبٍ يُصَوَّعُ نَوْرُهَا، وَيَذْهَبُ حُبُورُهَا، وَتَنْطَمِسُ أَنْهَارُهَا، وَتَنْدَرِسُ آثَارُهَا. وَهَذِهِ كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهَا زَمَانٌ ازْدَادَ جَمَالُهَا وَعَذُبَ سَلْسَالُهَا، وَرَاقَتْ مَعَانِيهَا، وَزَهَتْ مَبَانِيهَا. وَبَهْجَةُ تِلْكَ مَدِيدَةٌ وَتَنْقَضِي، وَالسَّعَادَةُ بِهَذِهِ لَا تَزُولُ وَلَا تَمْضِي. فَإِنَّ مَعْنَى تِلْكَ فَرْحَةُ سَاعَةٍ وَتَزُولُ، وَمَعْنَى هَذِهِ فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَةُ آدَابِ الرَّسُولِ، وَفِي الْآخِرَةِ الْمَقَامُ فِي دَارِ الْخُلْدِ فِي سُرُورٍ وَحُبُورٍ لَا يَحُولُ، إذَا عَلِمْت هَذَا: فَخُذْهَا بِدَرْسٍ لَيْسَ بِالنَّوْمِ تُدْرِكْنَ ... لِأَهْلِ النُّهَى وَالْفَضْلِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ (فَخُذْهَا) أَيُّهَا الطَّالِبُ الَّذِي فِي عِلْمِ الْآدَابِ رَاغِبٌ (بِدَرْسٍ) أَيْ بِقِرَاءَةٍ وَرِيَاضَةِ نَفْسٍ وَتَمْرِينٍ. يُقَالُ دَرَسَ الْكِتَابَ يَدْرُسُهُ دَرْسًا وَدِرَاسَةً قَرَأَهُ (لَيْسَ) أَنْتَ (بِالنَّوْمِ تُدْرِكَنْ) فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (لِ) مَقَامِ (أَهْلِ النُّهَى) بِالضَّمِّ أَيْ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْعِلْمِ جَمْعُ نُهْيَةٍ بِالضَّمِّ أَيْضًا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْهَى عَنْ الْقَبَائِحِ (وَالْفَضْلِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ) أَيْ مَحْضَرِ النَّاسِ وَمَجْمَعِهِمْ. ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَتَمَ مَنْظُومَتَهُ بِمَا بَدَأَهَا بِهِ وَهُوَ حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ: وَقَدْ كَمُلَتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ... عَلَى كُلِّ حَالٍ دَائِمًا لَمْ يَصْدُدْ (وَقَدْ كَمُلَتْ) هَذِهِ الْمَنْظُومَةُ، الَّتِي بِمَنْظُومَةِ الْآدَابِ مَوْسُومَةٌ (وَالْحَمْدُ) أَيْ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ (لِلَّهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (وَحْدَهُ) لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ (عَلَى كُلِّ حَالٍ) مِنْ الْأَحْوَالِ مِنْ يُسْرٍ وَعُسْرٍ، وَسَعَةٍ وَضِيقٍ، وَرَخَاءٍ وَشِدَّةٍ، وَسَرَّاءَ وَضَرَّاءَ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، حَالَ كَوْنِ الْحَمْدِ لَهُ سُبْحَانَهُ (دَائِمًا) مُسْتَمِرًّا فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالشُّؤُونِ (لَمْ يُصَدِّدْ) أَيْ لَمْ يَمْنَعْ وَلَمْ يَصْرِفْ. يُقَالُ صَدَّ زَيْدٌ فُلَانًا عَنْ كَذَا مَنَعَهُ وَصَرَفَهُ كَأَصَدَّهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَ بَسَطَ بِسَاطَ الْوُجُودِ عَلَى مُمْكِنَاتٍ لَا تُحْصَى، وَوَضَعَ عَلَيْهَا مَوَائِدَ كَرَمِهِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى، وَأَفَاضَ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 الْمَوْجُودَاتِ مِنْ عَظِيمِ كَرَمِهِ. وَبَاهِي فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ، مَا أَذْعَنَتْ الْأَلْبَابُ الْمُسْتَقِيمَةُ، وَالْقُلُوبُ السَّلِيمَةُ، وَالنُّفُوسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، بِالْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ اللَّائِقِ بِعَظِيمِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ، أَطْلَقَ الْحَمْدَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصْطَفَى وَهُوَ خُلَاصَةُ الْعَالَمِ وَصَفْوَةُ بَنِي آدَمَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مُعْتَرِفًا وَمُذْعِنًا «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك» فَالْعَبْدُ وَإِنْ أَنْفَقَ جَمِيعَ عُمْرِهِ، وَرُزِقَ أَعْمَارًا مُتَتَابِعَةً، فَصَرَفَهَا جَمِيعًا فِي الثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ هَذَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. (وَقَدْ آنَ) أَوَانُ قَطِّ عِنَانِ الْقَلَمِ عَنْ الِانْبِسَاطِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَنْظُومَةِ الْبَدِيعَةِ، وَالْقَصِيدَةِ الرَّفِيعَةِ، وَلَقَدْ بَذَلْت جُهْدِي فِي تَنْقِيحِ مَسَائِلهَا، وَتَوْضِيحِ دَلَائِلهَا، وَاسْتِخْرَاجِ مَعَانِيهَا، وَاسْتِدْمَاجِ مَبَانِيهَا، وَحُسْنِ إدْرَاجِهَا، وَلُطْفِ إنْتَاجِهَا. وَتَشْقِيقِ أَحْكَامِهَا، وَتَرْصِيفِ انْتِظَامِهَا، وَعَزْوِ أَخْبَارِهَا، وَكَشْفِ أَسْرَارِهَا، فَجَاءَ هَذَا الشَّرْحُ كَمَا أَمَّلْته. وَأَعْظَمَ مِمَّا تَخَيَّلْته، وَقَدْ سَهِرْت اللَّيَالِيَ فِي جَمْعِ مَسَائِلِهِ، وَبَذَلْت مَجْهُودِي فِي تَهْذِيبِ دَلَائِلِهِ، وَلَمْ آلُ جُهْدًا فِي زِيَادَةِ تَبْيِينِهِ، وَتَوْضِيحِهِ وَتَمْكِينِهِ، وَجَمْعِهِ وَتَأْلِيفِهِ، وَتَحْرِيرِهِ وَتَصْنِيفِهِ، وَعَزَوْت غَالِبًا كُلَّ قَوْلٍ لِقَائِلِهِ، لِأَخْرُجَ مِنْ مَعَرَّةِ تَبِعَةِ مَسَائِلِهِ. وَإِذَا لَمْ يُسْتَغْرَبْ الْحُكْمُ لَمْ أَعْزُهُ اعْتِمَادًا عَلَى شُهْرَتِهِ. وَمَنْ تَأَمَّلَهُ بِالْإِنْصَافِ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ نَسِيجٌ وَحْدَهُ فِي مَعْنَاهُ. وَفَرِيدُ عِقْدِهِ فِي مَعْنَاهُ. فَهُنَاكَ كِتَابًا جَمَعَ فَأَوْعَى، وَسِفْرًا حَوَى مِنْ الْعُلُومِ فَصْلًا وَنَوْعًا. لَوْ سَافَرْت إلَى صَنْعَاءَ الْيَمَنِ فِي تَحْصِيلِهِ لَمَا خَابَتْ سَفْرَتُك، وَلَوْ تَاجَرْت فِيهِ بِأَعْلَى بِضَاعَتِك لَمَا خَسِرْت تِجَارَتُك. وَقَدْ جَلَبْت إلَيْك فِيهِ نَفَائِسَ فِي مِثْلِهَا يَتَنَافَسُ الْمُتَنَافِسُونَ، وَجَلَيْت عَلَيْك فِيهِ عَرَائِسَ إلَى مِثْلِهَا يُبَادِرُ الْخَاطِبُونَ. فَإِنْ شِئْت اقْتَبَسْت مِنْهُ آدَابًا شَرْعِيَّةً، وَإِنْ أَحْبَبْت تَنَاوَلْت مِنْهُ آثَارًا نَبَوِيَّةً، وَإِنْ شِئْت وَجَدْت فِيهِ نِكَاتٍ أَدَبِيَّةً، وَإِنْ رُمْت مَعْرِفَةَ تَهْذِيبِ النَّفْسِ وَجَدْت أَدِلَّةَ ذَلِكَ فِيهِ وَفِيَّةً، أَوْ مَعْرِفَةَ أَخْبَارِ النَّاسِ ظَفِرْت فِيهِ بِشَذْرَةٍ عَلِيَّةٍ. فَيَا أَيُّهَا النَّاظِرُ فِيهِ، وَالْمُقْتَبِسُ مِنْ مَعَانِيهِ، أَحْسِنْ بِجَامِعِهِ الظَّنَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ، فَإِنَّهُ قَدْ زَفَّ بَنَاتِ أَفْكَارِهِ إلَيْك، وَعَرَضَ بِضَاعَتَهُ عَلَيْك، فَلَكَ مِنْ تَأْلِيفِهِ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ وَلَك صَفْوُهُ، وَعَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 عُهْدَتُهُ وَهَفْوُهُ. فَلَا يَعْدَمْ عَنْك أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إمَّا إمْسَاكًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ. فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَالْبُنْيَانِ، وَالْكَرِيمُ فِي نَظَرِهِ مُنْصِفٌ، وَاللَّئِيمُ مُتَبَجِّحٌ وَمُتَعَسِّفٌ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْبَى الْعِصْمَةَ لِغَيْرِ كِتَابِهِ. وَالسَّعِيدُ مَنْ عُدَّتْ هَفَوَاتُهُ فِي جَنْبِ صَوَابِهِ، وَالْمُنْصِفُ الْكَرِيمُ يُعَادِلُ بِالسَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ، وَيَقْضِي عَلَى كُلٍّ بِحَسْبِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ. وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصْطَفَى عَلَى أَنَّ كُفْرَانَ الْإِحْسَانِ لُؤْمٌ، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ النِّسَاءُ لِكُفْرِهِنَّ النِّعَمَ. فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَحْفَظُ السَّيِّئَاتِ، وَتَنْسَى الْحَسَنَاتِ. وَلِهَذَا مَثَّلَ حَالَهُنَّ بِحَامِلٍ خَرَجَ عَلَى كَتِفِهِ أَحَدُ شُقَّتَيْهِ صَحِيحَةٌ جَعَلَهَا أَمَامَهُ، وَالْأُخْرَى مُخَرَّقَةٌ جَعَلَهَا خَلْفَهُ. فَإِذَا عَمِلَ الزَّوْجُ مَعَهَا حَسَنَةً جَعَلَتْهَا فِي الشُّقَّةِ الَّتِي إلَى خَلْفٍ، وَهِيَ مَخْرُوقَةٌ فَتَسْقُطُ مِنْهَا فَلَا تَرَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً جَعَلَتْهَا بِاَلَّتِي أَمَامَهَا وَهِيَ مَحْرُوزَةٌ مَضْبُوطَةٌ، كُلَّمَا نَظَرَتْ رَأَتْهَا. وَهَذِهِ حَالُ جَمِيعِ اللُّؤَمَاءِ، يَحْفَظُونَ السَّيِّئَاتِ، وَلَا يَذْكُرُونَ الْحَسَنَاتِ. فَنَبْتَهِلُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَصُونَ كِتَابَنَا هَذَا عَمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَهَذَا النَّعْتُ نَعْتُهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسَبَبًا لِلْفَوْزِ بِدَارِ الْخُلْدِ وَالنَّعِيمِ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ مَنْ قَرَأَهُ أَوْ كَتَبَهُ وَنَظَرَ فِيهِ، وَدَعَا إلَيَّ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَفِيهِ: إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ، رَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ. (وَكَانَ الْخَلَاصُ) مِنْ تَسْوِيدِهِ ضُحَى نَهَارِ السَّبْتِ لِسِتٍّ بَقِيَتْ مِنْ رَبِيعٍ الثَّانِي سَنَةَ 1154 هِجْرِيَّةً عَلَى يَدِ مُؤَلِّفِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبَهُ وَمَثْوَاهُ، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ آمِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604