الكتاب: السِّيرةُ النّبوية - عرضُ وقائع وَتحليل أحدَاث المؤلف: عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان الطبعة: السابعة، 1429 هـ - 2008 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث علي محمد الصلابي الكتاب: السِّيرةُ النّبوية - عرضُ وقائع وَتحليل أحدَاث المؤلف: عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان الطبعة: السابعة، 1429 هـ - 2008 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، أما بعد: فإن دراسة الهدي النبوي أمر له أهميته لكل مسلم، فهو يحقق عدة أهداف من أهمها: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال معرفة شخصيته وأعماله وأقواله وتقريراته، وتكسب المسلم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتنميها وتباركها، ويتعرف على حياة الصحابة الكرام الذين جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتدعوه تلك الدراسة لمحبتهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم، كما أن السيرة النبوية توضح للمسلم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، بدقائقها وتفاصيلها, منذ ولادته وحتى موته، مرورًا بطفولته وشبابه ودعوته وجهاده وصبره، وانتصاره على عدوه، وتظهر بوضوح أنه كان زوجًا وأبًا وقائدًا ومحاربًا، وحاكمًا، وسياسيًا ومربيًا وداعية وزاهدًا وقاضيًا، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته فيها (1) فالداعية يجد له في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أساليب الدعوة، ومراحلها المتسلسلة، ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة من مراحلها، فيستفيد منها في اتصاله بالناس ودعوتهم للإسلام، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات، والصعوبات وما هو الموقف الصحيح أمام   (1) انظر: السيرة النبوية دراسة وتحليل، د. محمد أبو فارس، ص50 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الشدائد والفتن؟ ويجد المربي في سيرته صلى الله عليه وسلم دروسًا نبوية في التربية والتأثير على الناس بشكل عام, وعلى أصحابه الذين رباهم على يده وكلأهم بعنايته، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًا فريدًا، وكوَّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس, تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها، ويجد القائد المحارب في سيرته صلى الله عليه وسلم نظامًا محكمًا، ومنهجًا دقيقًا في فنون قيادة الجيوش والقبائل والشعوب والأمة، فيجد نماذج في التخطيط واضحة، ودقة في التنفيذ بينة, وحرصًا على تجسيد مبادئ العدل وإقامة قواعد الشورى بين الجند والأمراء والراعي والرعية، ويتعلم منها السياسي كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أشد خصومه السياسيين المنحرفين، كرئيس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر والبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يحوك المؤامرات، وينشر الإشاعات التي تسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإضعافه وتنفير الناس منه، وكيف عامله صلى الله عليه وسلم، وصبر عليه وعلى حقده, حتى ظهرت حقيقته للناس فنبذوه جميعًا حتى أقرب الناس له وكرهوه والتفوا حول قيادة النبي صلى الله عليه وسلم. ويجد العلماء فيها ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى؛ لأنها هي المفسرة للقرآن الكريم في الجانب العملي، ففيها أسباب النزول، وتفسير لكثير من الآيات فتعينهم على فهمها, والاستنباط منها, ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية، وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية، ويجد فيها الزهاد معاني الزهد وحقيقته ومقصده، ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها، ويتعلم منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات، فتقوى عزائمهم على السير في طريق دعوة الإسلام وتعظم ثقتهم بالله عز وجل، ويوقنوا أن العاقبة للمتقين (1). وتتعلم منها الأمة الآداب الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والعقائد السليمة، والعبادة الصحيحة، وسمو الأخلاق، وطهارة القلب، وحب الجهاد في سبيل الله, وطلب الشهادة في سبيله؛ ولهذا قال علي بن الحسن: «كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن» سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمي الزهري يقول: «في علم المغازي علم الآخرة والدنيا» (2). وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدها علينا ويقول هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها» (3).   (1) انظر: مدخل لدراسة السيرة، د. يحيى اليحيى، ص14. (2) البداية والنهاية: لابن كثير (3/ 256، 257) ط/ دار المعرفة، (3/ 242) ط2/ 1978م مكتبة المعارف - لبنان، مكتبة النصر- الرياض. (3) انظر: البداية والنهاية (2/ 242). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 إن دراسة الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، يساعد العلماء والقادة والفقهاء والحكام على معرفة الطريق إلى عز الإسلام والمسلمين, من خلال معرفة عوامل النهوض، وأسباب السقوط، ويتعرفون على فقه النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأفراد وبناء الجماعة المسلمة، وإحياء المجتمع، وإقامة الدولة، فيرى المسلم حركةَ النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة, والمراحل التي مر بها وقدرته على مواجهة أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وتخطيطه الدقيق في الهجرة إلى الحبشة، ومحاولته إقناع أهل الطائف بالدعوة، وعرضه لها على القبائل في المواسم، وتدرُّجه في دعوة الأنصار ثم هجرته المباركة إلى المدينة. إن من تأمل حادثة الهجرة، ورأى دقة التخطيط ودقة التنفيذ من ابتدائها إلى انتهائها, ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها, يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قائم، وأن التخطيط جزء من السنة وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم. إن المسلم يتعلم من المنهاج النبوي كل فنون إدارة الصراع والبراعة في إدارة كل مرحلة وفي الانتقال من مستوى إلى آخر, وكيف واجه القوى المضادة من اليهود والمنافقين والكفار والنصارى, وكيف تغلب عليها كلها بسبب توفيق الله تعالى والالتزام بشروط النصر وأسبابه التي أرشد إليها المولى عز وجل في كتابه الكريم. إن قناعتي الراسخة في التمكين لهذه الأمة وإعادة مجدها وعزتها وتحكيم شرع ربها منوط بمتابعة الهدي النبوي, قال تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) [النور:54]. فقد بينت الآية الكريمة أن طريق التمكين في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءت الآيات التي بعدها تتحدث عن التمكين وتوضح شروطه قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النور:55 - 56]. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بتحقيق شروط التمكين، فحققوا الإيمان بكل معانيه وكافة أركانه، ومارسوا العمل الصالح بكل أنواعه وحرصوا على كل أنواع الخير وصنوف البر، وعبدوا الله عبودية شاملة في كافة شؤون حياتهم، وحاربوا الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأخذوا بأسباب التمكين المادية والمعنوية على مستوى الأفراد والجماعة, حتى أقاموا دولتهم في المدينة؛ ومن ثم نشروا دين الله بين الشعوب والأمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 إن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض نتيجة منطقية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا من مكانتها، وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على حد سواء، وأهملوا السنن الربانية، وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام. إن هذا الضعف الإيماني والجفاف الروحي، والتخبط الفكري والقلق النفسي، والشتات الذهني، والانحطاط الخلقي الذي أصاب المسلمين بسبب الفجوة الكبيرة التي حدثت بين الأمة والقرآن الكريم والهدي النبوي الشريف، وعصر الخلفاء الراشدين، والنقاط المشرقة المضيئة في تاريخنا المجيد. أما ترى معي ظهور الكثير من المتحدثين باسم الإسلام, وهم بعيدون كل البعد عن القرآن الكريم والهدي النبوي، وسيرة الخلفاء الراشدين، وأدخلوا في خطابهم مصطلحات جديدة ومفاهيم مائعة نتيجة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية، وأصبحوا يتلاعبون بالألفاظ ويَلْوُونها، ويتحدثون الساعات الطوال، ويدبجون المقالات، ويكتبون الكتب في فلسفة الحياة والكون والإنسان، ومناهج التغيير ولا نكاد نلمس في حديثهم أو نلاحظ في مقالاتهم عمقا في فهم فقه التمكين، وسنن الله في تغير الشعوب وبناء الدول من خلال القرآن الكريم والمنهاج النبوي الشريف أو دعوة الأنبياء والمرسلين لشعوبهم أو تقصيًّا لتاريخنا المجيد، فيخرجوا لنا، عوامل النهوض عند نور الدين محمود، أو صلاح الدين، أو يوسف بن تاشفين، أو محمود الغزنوي، أو محمد الفاتح ممن ساروا على الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة, بل يستدلون ببعض الساسة أو المفكرين والمثقفين من الشرق أو الغرب ممن هم أبعد الناس عن الوحي السماوي والمنهج الرباني. وأنا لست ممن يعارض الاستفادة من تجارب الشعوب والأمم فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنَّى وجدها، ولكنني ضد الذين يجهلون أو يتجاهلون المنهاج الرباني، وينسون ذاكرة الأمة التاريخية المليئة بالدروس والعبر والعظات، ثم بعد ذلك يحرصون على أن يتصدروا قيادة المسلمين بأهوائهم وآرائهم البعيدة عن نور القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف. ومن أجمل ما قاله ابن القيم: والله ما خوفي من الذنوب فإنها لعلى ... طريق العفو والغفران لكنما أخشى انسلاخ القلب عن تحكيم ... هذا الوحي والقرآن ورضا بآراء الرجال وخرصها ... لا كان ذاك بمنة الرحمن إننا في أشد الحاجة لمعرفة المنهاج النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، ومعرفة سنن الله في الشعوب والأمم والدول، وكيف تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم عندما انطلق بدعوة الله في دنيا الناس حتى نلتمس من هديه صلى الله عليه وسلم الطريق الصحيح في دعوتنا والتمكين لديننا، ونقيم بنياننا على منهجية سليمة مستمدة أصولها وفروعها من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]. فقد كان فقه النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وإقامة الدولة شاملاً ومتكاملاً ومتوازنًا, وخاضعًا لسنن الله في المجتمعات وإحياء الشعوب وبناء الدول، فتعامل صلى الله عليه وسلم مع هذه السنن في غاية الحكمة وقمة الذكاء، كسنة التدرج، والتدافع، والابتلاء، والأخذ بالأسباب، وتغيير النفوس، وغرس صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه المنهج الرباني وما يحمله من مفاهيم وقيم وعقائد وتصورات صحيحة عن الله والإنسان، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتأثرون بمنهجه في التربية غاية التأثر ويحرصون كل الحرص على الالتزام بتوجيهاته فكان الغائب إذا حضر من غيبته يسأل أصحابه عما رأوا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وعن تعليمه وإرشاده وعما نزل من الوحي حال غيبته، وكانوا يتبعون خطى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، ولم يكونوا يقصرون هذا الاستقصاء على أنفسهم، بل كانوا يلقنونه لأبنائهم ومن حولهم. ففي هذا الكتاب تقصٍّ لأحداث السيرة، فيتحدث عن أحوال العالم قبل البعثة، والحضارات السائدة والأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية في زمن البعثة، وعن الأحداث المهمة قبل المولد النبوي، وعن نزول الوحي، ومراحل الدعوة، والبناء التصوري والأخلاقي والتعبدي في العهد المكي، وعن أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وعن الهجرة إلى الحبشة، ومحنة الطائف، ومنحة الإسراء والمعراج، والطواف على القبائل، ومواكب الخير وطلائع النور من أهل يثرب, والهجرة النبوية، ويقف الكتاب بالقارئ على الأحداث مستخرجا منها الدروس والعبر والفوائد لكي يستفيد منها المسلمون في عالمنا المعاصر. وتحدث عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة إلى وفاته, وبين فقه النبي صلى الله عليه وسلم في إرساء دعائم المجتمع وتربيته ووسائله في بناء الدولة، ومحاربة أعدائها في الداخل والخارج، فيقف الباحث على فقه النبي صلى الله عليه وسلم في سياسة المجتمع ومعاهداته مع أهل الكتاب التي سجلت في الوثيقة, وحركته الجهادية، ومعالجته الاقتصادية والارتقاء بالمسلم نحو مفاهيم هذا الدين, الذي جاء لإنقاذ البشرية من دياجير الظلام، وعبادة الأوثان، وانحرافها عن شريعة الحكيم المتعال، وقد حاولت أن أعالج مشكلة اختزال السيرة النبوية في أذهان الكثير من أبناء الأمة، ففي العقود الماضية ظهرت دراسات رائعة في مجال السيرة النبوية، وكتب الله لها قبولاً وانتشارًا، كالرحيق المختوم، لصفي الدين المباركفوري، وفقه السيرة للغزالي، وفقه السيرة النبوية للبوطي، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، وكانت هذه الدراسات مختصرة، ولم تكن شاملة لأحداث السيرة، واعتمدت بعض الجامعات هذه الكتب، وظن بعض طلابها أن من استوعب هذه الكتب فقد أحاط بالسيرة النبوية، وهذا - في رأيي- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 خطأ فادح وخطير في حق السيرة النبوية المشرفة، وقد تسرب هذا الأمر إلى بعض أئمة المساجد وبعض قيادات الحركات الإسلامية، وانعكس ذلك على الأتباع فأحدث تصورًا ناقصًا للسيرة عند كثير من الناس، وقد حذر الشيخ محمد الغزالي من خطورة هذا التصور في نهاية كتابه فقه السيرة فقال: قد تظن أنك درست حياة محمد صلى الله عليه وسلم إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة، وهذا خطأ بالغ. إنك لن تفقه السيرة حقًّا إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبقدر ما تنال من ذلك، تكون صلتك بنبي الإسلام (1). ففي هذه الدراسة يجد القارئ تسليط الأضواء على البعد القرآني الذي له علاقة بالسيرة النبوية، كغزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وبني النضير، وصلح الحديبية، وغزوة تبوك، فبيَّن الباحث الدروس والعبر، وسنن الله في النصر والهزيمة، وكيف عالج القرآن الكريم أمراض النفوس من خلال الأحداث والوقائع؟ إن السيرة النبوية تعطي كل جيل ما يفيده في مسيرة الحياة، وهي صالحةٌ لكل زمان ومكان ومُصلِحةٌ كذلك. لقد عشت سنين من عمري في البحث في القرآن الكريم والسيرة النبوية, فكانت من أفضل أيام حياتي، فنسيت أثناء البحث غربتي وهجرتي، وتفاعلت مع الدرر والكنوز والنفائس الموجودة في بطون المراجع والمصادر، فعملت على جمعها وترتيبها وتنسيقها وتنظيمها حتى تكون في متناول أبناء أمتي العظيمة، وقد لاحظت التفاوت في ذكر الدروس والعبر والفوائد والأحداث بين كتاب السيرة قديما وحديثا، فأحيانًا يذكر ابن هشام ما لم يذكره الذهبي، ويذكر ابن كثير ما لم يذكره أصحاب السنن هذا قديما، أما حديثا فقد ذكر السباعي ما لم يذكره الغزالي، وذكر البوطي ما لم يذكره الغضبان، وهكذا. ووجدت في التفسير، وشروح الحديث، كفتح الباري، وشرح النووي، وكتب الفقهاء ما لم يذكره كُتَّاب السيرة قديمًا ولا حديثًا؛ فأكرمني الله تعالى بجمع تلك الدروس والعبر والفوائد، ونظمتها في عقد جميل يسهل الاطلاع عليه، ويساعد القارئ على تناول تلك الثمار اليانعة بكل سهولة. إن في هذا الكتاب حصيلة علمية وأفكار عملية جمعت من مئات المراجع والمصادر، وقد أثرى هذا الجهد بالحوار والنقاش والندوات، فأفاد بعضهم في الإشارة إلى بعض المراجع والمصادر النادرة وعمل على توفيرها، والبعض الآخر أرشد إلى ضرورة التركيز على السنن والقوانين التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم في حركته المباركة، كقانون الفرصة في فتح خيبر، وفتح مكة، وأشار البعض إلى أهمية ربط السيرة التاريخية بالسيرة السلوكية, والسيرة المعبر عنها بحديث شريف أو فعل نبوي والسيرة كما يقررها القرآن الكريم- ببعضها ومزجها في منهجية متناسقة- تمد أبناء الجيل بعلم غزير، وفقه عميق، وعاطفة جياشة، فهي غذاء للروح،   (1) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص476. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وتثقيف للعقول وحياة للقلوب، وصفاء للنفوس. إن السيرة النبوية غنية في كل جانب من الجوانب التي تحتاجها مسيرة الدعوة الإسلامية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك سوابق كثيرة لمن يريد أن يقتدي به في الدعوة والتربية والثقافة والتعليم والجهاد، وكافة شؤون الحياة، كما أن التعمق في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يساعد القارئ على التعرف على الرصيد الخلقي الكبير الذي تميز به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل البشر ويتعرف على صفاته الحميدة التي عاش بها في دنيا الناس فيرى من خلال سيرته مصداق قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - عندما قال: وأجمل منك لم تر قط عيني ... وأفضل منك لم تلد النساء خُلقت مبرءا من كل عيبٍ ... كأنك قد خلقت كما تشاء (1) هذا ولا أدعي أني أتيت بما لم تستطعه الأوائل، فشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبير، وتوضيح بعض معالم سيرته يحتاج إلى نفس أرق، وفقه أدقّ وذكاء أكبر وإيمان أعمق، كما أنني لا أدعي لعملي هذا العصمة أو الكمال، فهذا شأن الرسل والأنبياء، ومن ظن أنه قد أحاط بالعلم فقد جهل نفسه، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85]. فالعلم بحر لا شاطئ له وما أصدق الشاعر إذ يقول: وقل لمن يدّعي في العلم فلسفة ... حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء يقول الثعالبي: لا يكتب أحد كتابا فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غيرها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة، فكيف في سنين معدودة؟ وقال العماد الأصبهاني: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده، لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر .. وأخيرًا أرجو من الله تعالى أن يكون عملاً لوجهه خالصًا, ولعباده نافعًا, وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الكتاب قال الشاعر: أسير خلف ركاب القوم ذا عرج ... مؤملا جبر ما لاقيت من عوج   (1) شرح ديوان حسان بن ثابت: ضبطه وصححه عبد الرحمن البرقوقي ص 66، ب - ث، ديوان حسان بن ثابت ص 10 تحت عنوان: (خلقت مبرءًا) طبعة دار صادر - بيروت، ب - ث، ديوان حسان بن ثابت ص 12 طبعة دار الشرق العربي - بيروت - 1991 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا ... فكم لرب السماء في الناس من فرج وإن ظللت بقفر الأرض منقطعا ... فما على أعرج في ذاك من حرج سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورضوانه علي محمد الصلابي 18رجب 1421هـ 16 أكتوبر 2000م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الفصل الأول أهم الأحداث التاريخية من قبل البعثة حتى نزول الوحي المبحث الأول الحضارات السائدة قبل البعثة ودياناتها أولاً: الإمبراطورية الرومانية: كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تعرف بالإمبراطورية البيزنطية، فكانت تحكم دول اليونان والبلقان وآسيا وسوريا وفلسطين وحوض البحر المتوسط بأسره, ومصر وكل إفريقيا الشمالية، وكانت عاصمتها القسطنطينية، وكانت دولة ظالمة مارست الظلم والجور والتعسف على الشعوب التي حكمتها، وضاعفت عليها الضرائب، وكثرت الاضطرابات والثورات، وكانت حياتهم العامة قائمة على كل أنواع اللهو واللعب والطرب والترف. أما مصر فكانت عرضة للاضطهاد الديني والاستبداد السياسي، واتخذها البيزنطيون شاة حلوبا يحسنون حلبها، ويسيئون علفها. وأما سوريا فقد كثرت فيهم المظالم والرقيق، ولا يعتمدون في قيادة الشعب إلا على القوة والقهر الشديد، وكان الحكم حكم الغرباء، الذي لا يشعر بأي عطف على الشعب المحكوم، وكثيرا ما كان السوريون يبيعون أبناءهم ليوفوا ما كان عليهم من ديون (1). كان المجتمع الروماني مليئا بالتناقض والاضطرابات، وقد جاء تصويره في كتاب «الحضارة ماضيها وحاضرها» كالآتي: «كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعية للبيزنطيين، فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم، وعمت الرهبانية، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل العادي في البلاد يتدخل في الأبحاث الدينية العميقة، والجدل البيزنطي، ويتشاغل بها، كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطني، ولكن نرى هؤلاء - في جانب آخر- حريصين أشد الحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب، والطرب والترف، فقد كانت هناك ميادين رياضية   (1) انظر: السيرة النبوية للندوي ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 واسعة تتسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرجون فيها على مصارعات بين الرجال والرجال أحيانًا، وبين الرجال والسباع أحيانًا أخرى، وكانوا يقسمون الجماهير في لونين: لون أزرق ولون أخضر، لقد كانوا يحبون الجمال، ويعشقون العنف والهمجية، وكانت ألعابهم دموية ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوبتهم فظيعة تقشعر منها الجلود، وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيئة» (1). ثانيًا: الإمبراطورية الفارسية: كانت الإمبراطورية الفارسية تعرف بالدولة الفارسية أو الكسروية، وهي أكبر وأعظم من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وقد كثرت فيها الديانات المنحرفة كالزرادشتية والمانية التي أسسها ماني في أوائل القرن الثالث الميلادي، ثم ظهرت المزْدكية في أوائل القرن الخامس الميلادي التي دعت إلى الإباحية في كل شيء؛ مما أدى إلى انتشار ثورات الفلاحين وتزايد النهابين للقصور فكانوا يقبضون أو يأسرون النساء ويستولون على الأملاك والعقارات فأصبحت الأرض والمزارع والدور كأن لم تسكن من قبل. وكان ملوكهم يحكمون بالوراثة، ويضعون أنفسهم فوق بني آدم، لأنهم يعتبرون أنفسهم من نسل الآلهة، وأصبحت موارد البلاد ملكًا لهؤلاء الملوك يتصرفون فيها ببذخ لا يتصور, ويعيشون عيش البهائم، حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم أو دخلوا الأديرة والمعابد فرارًا من الضرائب والخدمة العسكرية، وكانوا وقودًا حقيرًا في حروب طاحنة مدمرة قامت في فترات من التاريخ دامت سنين طوال بين الفرس والروم لا مصلحة للشعوب فيها إلا تنفيذ نزوات ورغبات الملوك (2). ثالثًا: الهند: اتفقت كلمة المؤرخين على أن أحط أدوارها ديانة وخلقا واجتماعا وسياسة - ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي، فانتشرت الخلاعة حتى في المعابد؛ لأن الدين أعطاها لونًا من القدس والتعبد، وكانت المرأة لا قيمة لها ولا عصمة، وانتشرت عادة إحراق المرأة المتوفى زوجها، وامتازت الهند عن أقطار العالم بالتفاوت الفاحش بين طبقات الشعب، وكان ذلك تابعا لقانون مدني سياسي ديني وضعه المشرعون الهنديون الذين كانت لهم صفة دينية، وأصبح هو القانون العام في المجتمع ودستور حياتهم، وكانت الهند في حالة فوضى وتمزق, انتشرت فيها الإمارات التي اندلعت بينها الحروب الطاحنة، وكانت بعيدة عن أحداث عالمها في عزلة واضحة يسيطر عليها التزمت والتطرف في العادات والتقاليد, والتفاوت الطبقي والتعصب الدموي والسلالي، وقد تحدث مؤرخ هندوكي- أستاذ   (1) انظر: السيرة النبوية ص31. (2) نفس المصدر ص32، 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 للتاريخ في إحدى جامعات الهند- عن عصر سابق لدخول الإسلام في الهند فقال: «كان أهل الهند منقطعين عن الدنيا، منطوين على أنفسهم، لا خبرة عندهم بالأوضاع العالمية، وهذا الجهل أضعف موقفهم، فنشأ فيهم الجمود، وعمت فيهم أمارات الانحطاط والتدهور، كان الأدب في هذه الفترة بلا روح، وهكذا كان الشأن في الفن المعماري، والتصوير، والفنون الجميلة الأخرى» (1). «وكان المجتمع الهندي راكدًا جامدًا، كان هناك تفاوت عظيم بين الطبقات وتمييز معيب بين أسرة وأسرة، وكانوا لا يسمحون بزواج الأيامى، ويشددون على أنفسهم في أمور الطعام والشراب، أما المنبوذون فكانوا يعيشون مضطرين خارج بلدهم ومدينتهم» (2). كان تقسيم سكان الهند إلى أربع طبقات: 1 - طبقة الكهنة ورجال الدين، وهم (البراهمة). 2 - ورجال الحرب والجندية وهم (شترى). 3 - ورجال الفلاحة والتجارة وهم (ويش). 4 - ورجال الخدمة وهم (شودر) وهم أحط الطبقات، فقد خلقهم خالق الكون من أرجله -كما يزعمون-، وليس لهم إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث وإراحتها. وقد منح هذا القانون البراهمة مركزا ومكانة لا يشاركهم فيها أحد، والبرهمي رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله، ولا يجوز فرض جباية عليه، ولا يعاقب بالقتل في حال من الأحوال، أما (شودر) فليس لهم أن يقتنوا مالا، أو يدخروا كنزا، أو يجالسوا برهميًّا، أو يمسوه بيدهم، أو يتعلموا الكتب المقدسة (3). رابعًا: أحوال العالم الدينية قبل البعثة المحمدية: كانت الإنسانية قبل بزوغ فجر الإسلام العظيم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في شؤونها الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتعاني من فوضى عامة في كافة شؤون حياتها، وهيمن المنهج الجاهلي على العقائد والأفكار والتصورات والنفوس، وأصبح الجهل والهوى والانحلال والفجور، والتجبر والتعسف من أبرز ملامح المنهج الجاهلي المهيمن على دنيا الناس (4).   (1) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص38. (2) نفس المصدر، ص39. (3) راجع القانون المدني الاجتماعي المسمى منو شانز، الأبواب 1 - 2 - 8 - 9 - 10. نقلا عن السيرة النبوية للندوي، ص38. (4) انظر: الغرباء الأولون، سلمان العودة ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وضاع تأثير الديانات السماوية على الحياة أو كاد بسبب ما أصابها من التبديل والتحريف والتغيير الذي جعلها تفقد أهميتها باعتبارها رسالة الله إلى خلقه، وانشغل أهلها بالصراعات العقدية النظرية التي كان سببها دخول الأفكار البشرية، والتصورات الفاسدة على هذه الأديان، حتى أدى إلى الحروب الطاحنة بينهم، ومن بقي منهم لم يحرف ولم يبدل قليل نادر, وآثر الابتعاد عن دنيا الناس ودخل في حياة الخلوة والعزلة طمعًا في النجاة بنفسه يأسًا من الإصلاح، ووصل الفساد إلى جميع الأصناف والأجناس البشرية، ودخل في جميع المجالات بلا استثناء. ففي الجانب الديني تجد الناس إما أن ارتدوا عن الدين أو خرجوا منه أو لم يدخلوا فيه أصلا، أو وقعوا في تحريف الديانات السماوية وتبديلها، وأما في الجانب التشريعي، فإن الناس نبذوا شريعة الله وراءهم ظهريًا, واخترعوا من عند أنفسهم قوانين، وشرائع لم يأذن بها الله, تصطدم مع العقل وتختلف مع الفطرة. وتزعم هذا الفساد زعماء الشعوب والأمم من القادة والرهبان والقساوسة والدهاقين والملوك، وأصبح العالم في ظلام دامس وليل بهيم, وانحراف عظيم عن منهج الله سبحانه وتعالى. فاليهودية: أصبحت مجموعة من الطقوس والتقاليد لا روح فيها ولا حياة, وتأثرت بعقائد الأمم التي جاورتها واحتكت بها، والتي وقعت تحت سيطرتها فأخذت كثيرا من عاداتها وتقاليدها الوثنية الجاهلية، وقد اعترف بذلك مؤرخو اليهود (1) فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية: «إن سخط الأنبياء وغضبهم على عبادة الأوثان يدل على أن عبادة الأوثان والآلهة، كانت قد تسربت إلى نفوس الإسرائيليين، ولم تستأصل شأفتها إلى أيام رجوعهم من الجلاء والنفي في بابل، وقد اعتقدوا معتقدات خرافية وشركية. إن التلمود أيضًا يشهد بأن الوثنية كانت فيها جاذبية خاصة لليهود» (2). إن المجتمع اليهودي قبل البعثة المحمدية قد وصل إلى الانحطاط العقلي وفساد الذوق الديني، فإذا طالعت تلمود بابل الذي يبالغ اليهود في تقديسه, والذي كان متداولاً بين اليهود في القرن السادس المسيحي، تجد فيه نماذج غريبة من خفة العقل وسخف القول، والاجتراء على الله، والعبث بالحقائق والتلاعب بالدين والعقل (3). أما المسيحية: فقد امتحنت بتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين واختفى نور التوحيد وإخلاص العبادة لله وراء السحب الكثيفة (4)، واندلعت الحروب بين النصارى في الشام   (1) انظر: السيرة النبوية، أبو الحسن الندوي ص20. (2) المصدر نفسه، ص20. (3) المصدر السابق نفسه ص21. (4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 والعراق، وبين نصارى مصر حول حقيقة المسيح وطبيعته، وتحولت البيوت والمدارس والكنائس إلى معسكرات متنافسة وظهرت الوثنية في المجتمع المسيحي في مظاهر مختلفة وألوان شتى، فقد جاء في تاريخ المسيحية في ضوء العلم المعاصر: «لقد انتهت الوثنية، ولكنها لم تلق إبادة كاملة، بل إنها تغلغلت في النفوس واستمر كل شيء فيها باسم المسيحية وفي ستارها، فالذين تجردوا عن آلهتهم وأبطالهم وتخلوا عنهم أخذوا شهيدًا من شهدائهم ولقبوه بأوصاف الآلهة، ثم صنعوا له تمثالا، وهكذا انتقل هذا الشرك وعبادة الأصنام إلى هؤلاء الشهداء المحليين، ولم ينته هذا القرن حتى عمت فيه عبادة الشهداء والأولياء، وتكونت عقيدة جديدة، وهي أن الأولياء يحملون صفات الألوهية، وصار هؤلاء الأولياء والقديسون خلقا وسيطا بين الله والإنسان يحمل صفة الألوهية على أساس عقائد الأريسيين، وأصبحوا رمزا لقداسة القرون الوسطى وورعها وطهرها، وغيرت أسماء الأعياد الوثنية بأسماء جديدة، حتى تحول في عام 400 ميلادي عيد الشمس القديم إلى عيد ميلاد المسيح» (1)، وجاء في دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة: «تغلغل الاعتقاد بأن الإله الواحد مركب من ثلاثة أقانيم في أحشاء حياة العالم المسيحي وفكره، منذ ربع القرن الرابع الأخير، ودامت كعقيدة رسمية مسلَّمة، عليها الاعتماد في جميع أنحاء العالم المسيحي، ولم يرفع الستار عن تطور عقيدة التثليث وسرها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي» (2). لقد اندلعت الحروب بين النصارى وكفَّر بعضهم بعضًا، وقتل بعضهم بعضًا، وانشغل النصارى ببعضهم عن محاربة الفساد وإصلاح الحال ودعوة الأمم إلى ما فيه صلاح البشرية (3). وأما المجوس: فقد عرفوا من قديم الزمان بعبادة العناصر الطبيعية, أعظمها النار، وانتشرت بيوت النار في طول البلاد وعرضها, وعكفوا على عبادتها وبنوا لها معابد وهياكل، وكانت لها آداب وشرائع دقيقة داخل المعابد، أما خارجها فكان أتباعها أحرارًا يسيرون على هواهم لا فرق بينهم وبين من لا دين له. ويصف المؤرخ الدنماركي طبقة رؤساء الدين ووظائفهم عند المجوس في كتابه «إيران في عهد الساسانيين» فيقول: «كان واجبًا على هؤلاء الموظفين أن يعبدوا الشمس أربع مرات في اليوم، ويضاف إلى ذلك عبادة القمر والنار والماء، وكانوا مكلفين بأدعية خاصة، عند النوم والانتباه والاغتسال ولبس الزنار والأكل والعطس وحلق الشعر وتقليم الأظافر،   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص23. (2) دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة، مقال التثليث (14/ 395). (3) انظر: فتح العرب لمصر، تعريب محمد أبو حديد ص37، 38، 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وقضاء الحاجة وإيقاد السرج، وكانوا مأمورين بألا يدعوا النار تنطفئ، وألا تمس النار والماء بعضها بعضا، وألا يدعوا المعدن يصدأ لأن المعادن عندهم مقدسة» (1). وكان أهل إيران يستقبلون في صلاتهم النار، وقد حلف (يزدجرد) آخر ملوك الساسانيين - بالشمس مرة وقال: «أحلف بالشمس التي هي الإله الأكبر». وقد دان المجوس بالثنوية في كل عصر وأصبح ذلك شعارًا لهم، فآمنوا بإلهين اثنين، أحدهما النور أو إله الخير والثاني الظلام أو إله الشر (2). أما البوذية: في الهند وآسيا الوسطى، فقد تحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت ونزلت (3). أما البرهمية: دين الهند الأصلي، فقد امتازت بكثرة المعبودات والآلهة, وقد بلغت أوجها في القرن السادس الميلادي، ولا شك أن الديانتين الهندوكية والبوذية وثنيتان سواء بسواء، لقد كانت الدنيا المعمورة من البحر الأطلسي إلى المحيط الهادي غارقة في الوثنية, وكأنما كانت المسيحية واليهودية والبوذية والبرهمية تتسابق في تعظيم الأوثان وتقديسها، وكانت كخيل رهان تجري في حلبة واحدة. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عموم هذا الفساد لجميع الأجناس وجميع المجالات بلا استثناء فقد قال صلى الله عليه وسلم ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل ما نحلته (4) عبدًا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء (5) كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم (6) وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب» (7). والحديث يشير إلى انحراف البشرية في جوانب متعددة كالشرك بالله، ونبذ شريعته وفساد المصلحين من حملة الأديان السماوية وممالأتهم للقوم على ضلالهم (8).   (1) إيران في عهد الساسانيين ص155، نقلا عن السيرة النبوية للندوي، ص27. (2) المصدر نفسه ص27 (3) انظر السيرة النبوية للندوي، ص28. (4) نحلته: أعطيته (النهاية في غريب الحديث) (5/ 29). (5) حنفاء: مائلين عن الشرك إلى التوحيد. (6) اجتالتهم: ذهبت بهم. (7) مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات (4/ 2197) رقم 2197 (8) انظر: الغرباء الأولون ص59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المبحث الثاني أصول العرب وحضارتهم أولاً: أصول العرب: قسم المؤرخون أصول العرب إلى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي انحدروا (1) منها: 1 - العرب البائدة: وهي قبائل عاد، وثمود، والعمالقة، وطَسْم، وجَديس، وأمَيْم، وجُرهم وحضرموت ومن يتصل بهم, وهذه درست معالمها واضمحلت من الوجود قبل الإسلام وكان لهم ملوك امتد ملكهم إلى الشام ومصر (2). 2 - العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يَعْرُب بن يشجُب بن قحطان وتسمى بالعرب القحطانية (3) ويعرفون بعرب الجنوب (4) ومنهم ملوك اليمن، ومملكة معين، وسبأ وحمير (5). 3 - العرب العدنانية: نسبة إلى عدنان الذي ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام, وهم المعروفون بالعرب المستعربة، أي الذين دخل عليهم دم ليس عربيًّا, ثم تم اندماج بين هذا الدم وبين العرب، وأصبحت اللغة العربية لسان المزيج الجديد. وهؤلاء هم عرب الشمال، موطنهم الأصلي مكة، وهم إسماعيل عليه السلام وأبناؤه, والجراهمة الذين تعلم منهم إسماعيل عليه السلام العربية، وصاهرهم، ونشأ أولاده عربًا مثلهم، ومن أهم ذرية إسماعيل (عدنان) جد النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى، ومن عدنان كانت قبائل العرب وبطونها فقد جاء بعد عدنان ابنه معد، ثم نزار، ثم جاء بعده ولداه مُضَر وربيعة. أما ربيعة بن نزار فقد نزل من انحدر من صلبه شرقا، فقامت عبد القيس في البحرين، وحنيفة في اليمامة، وبنو بكر بن وائل ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة (6).   (1) انظر: فقه السيرة النبوية، للغضبان ص45. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 46). (3) فقه السيرة، للغضبان ص45. (4) مدخل لفهم السيرة ص98. (5) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 47). (6) مدخل لفهم السيرة ص98، 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أما فرع مضر: فقد نزلت سليم بالقرب من المدينة، وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت سائر هوازن شرقي مكة، وسكنت أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة، وسكنت ذُبيان وعَبس من تيماء إلى حوران (1) وتقسيم العرب إلى عدنانية وقحطانية هو ما عليه جمهرة علماء الأنساب وغيرهم من العلماء. ومن العلماء من يرى أن العرب: عدنانية، وقحطانية ينتسبون إلى إسماعيل (2) عليه الصلاة والسلام. وقد ترجم البخاري في صحيحه لذلك فقال: باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام، وذكر في ذلك حديثًا عن سلمة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يتناضلون بالسهام، فقال: «ارموا بني إسماعيل، وأنا مع بني فلان» -لأحد الفريقين- فأمسكوا بأيديهم، فقال: «ما لكم؟» قالوا: كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ فقال: «ارموا وأنا معكم كلكم» (3) وفي بعض الروايات «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا». قال البخاري: وأسلم بن أَفْصَى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، يعني: أن خزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم (4). ووُلد الرسول صلى الله عليه وسلم من مضر، وقد أخرج البخاري عن كليب بن وائل قال: حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة قال: «قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ فقالت: فممن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة» (5). وكانت قريش قد انحدرت من كنانة وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وانقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها جمح وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب، وهي عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي، وكان من عبد مناف أربع فصائل: عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم. وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم (6). قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (7).   (1) انظر: الطريق إلى المدائن، عادل كمال ص40. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شبهة (1/ 48). (3) البخاري، كتاب الجهاد والسير (3/ 298) رقم 2899. (4) انظر السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 48). (5) البخاري، كتاب المناقب (4/ 185) رقم 3491. (6) انظر: فقه السيرة النبوية، للغضبان ص47. (7) رواه مسلم، باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - (4/ 1782) رقم 2276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ثانيًا: حضارات الجزيرة العربية: نشأت من قديم الزمان ببلاد العرب حضارات أصيلة، ومدنيات عريقة من أشهرها: 1 - حضارة سبأ باليمن: وقد أشار القرآن الكريم إليها، ففي اليمن استفادوا من مياه الأمطار والسيول التي كانت تضيع في الرمال، وتنحدر إلى البحار، فأقاموا الخزانات والسدود بطرق هندسية متطورة، وأشهر هذه السدود (سد مأرب) واستفادوا بمياهها في الزروع المتنوعة، والحدائق ذات الأشجار الزكية، والثمار الشهية، قال عز شأنه: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ - فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ - ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ) [سبأ: 15 - 17]. ودل القرآن الكريم على وجود قرى متصلة في الزمن الماضي ما بين اليمن، إلى بلاد الحجاز، إلى بلاد الشام، وأن قوافل التجارة والمسافرين كانوا يخرجون من اليمن إلى بلاد الشام، فلا يعدمون ظلا، ولا ماء، ولا طعاما، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ - فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سبأ: 18، 19]. 2 - حضارة عاد بالأحقاف: وكانوا في شمال حضرموت وهم الذين أرسل الله إليهم نبي الله هودا عليه السلام، وكانوا أصحاب بيوت مشيدة، ومصانع متعددة، وجنات، وزروع وعيون (1) قال تعالى: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ - وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ - أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ - وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ - وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ - فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ - وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ - أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ - وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء:123 134]. 3 - حضارة ثمود بالحجاز: دل القرآن الكريم على وجود حضارة في بلاد الحِجْر، وأشار إلى ما كانوا يتمتعون به   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 50). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 من القدرة على نحت البيوت في الجبال، وعلى ما كان يوجد في بلادهم من عيون وبساتين وزروع (1)، قال تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ - وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ - أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ - فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ - وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ - فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء: 141 - 150]. وقال فيهم أيضا: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الأعراف: 74]. لقد زال كل ذلك من زمن طويل، ولم يبق إلا آثار ورسوم وأطلال، فقد اضمحلت القرى والمدن، وتخربت الدور والقصور، ونضبت العيون، وجفت الأشجار وأصبحت البساتين والزروع أرضا جُرُزًا (2). المبحث الثالث الأحوال الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية عند العرب أولاً: الحالة الدينية: ابتليت الأمة العربية بتخلف ديني شديد، ووثنية سخيفة لا مثيل لها، وانحرافات خلقية، واجتماعية, وفوضى سياسية، وتشريعية, ومن ثم قل شأنهم وصاروا يعيشون على هامش التاريخ، ولا يتعدون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدولة الفارسية أو الرومانية، وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء والأجداد واتباع ما كانوا عليه مهما يكن فيه من الزيغ والانحراف والضلال ومن ثم عبدوا الأصنام، فكان لكل قبيلة صنم، فكان لهذيل بن مدركة: سواع، ولكلب: ود، ولمذحج: يغوث, ولخيوان: يعوق، ولحمير: نسر، وكانت خزاعة وقريش تعبد إسافًا ونائلة، وكانت مناة على ساحل البحر، تعظمها العرب كافة والأوس والخزرج خاصة، وكانت اللات في ثقيف، وكانت العزى فوق ذات عرق، وكانت أعظم الأصنام عند قريش (3). وإلى جانب هذه الأصنام الرئيسية يوجد عدد لا يحصى كثرة من الأصنام الصغيرة والتي يسهل نقلها في أسفارهم ووضعها في بيوتهم.   (1) نفس المصدر (1/ 51). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 51) (3) انظر: الغرباء الأولون, ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي قال: «كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا آخر هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به» (1). وقد حالت هذه الوثنية السخيفة بين العرب, وبين ومعرفة الله وتعظيمه وتوقيره والإيمان به، وباليوم الآخر وإن زعموا أنها لا تعدو أن تكون وسائط بينهم وبين الله، وقد هيمنت هذه الآلهة المزعومة على قلوبهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وجميع جوانب حياتهم وضعف توقير الله في نفوسهم قال تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام: 36]. أما البقية الباقية من دين إبراهيم عليه السلام فقد أصابها التحريف، والتغيير والتبديل، فصار الحج موسما للمفاخرة والمنافرة، والمباهاة وانحرفت بقايا المعتقدات الحنيفية عن حقيقتها وألصق بها من الخرافات والأساطير الشيء الكثير. وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام, وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم، وكان يقول: أربًّا واحدًا أم ألفَ رب؟؟ ... أدين إذا تقسِّمت الأمورُ؟ عزلتُ اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الجلد الصبورُ فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزورُ ولا غنمًا (2) أدين وكان ربا ... لنا في الدهر، إذا حلمي يسيرُ إلى أن قال: ولكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الربُّ الغفور (3) وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قُس بن ساعدة الإيادي, فقد كان خطيبًا، حكيمًا، عاقلاً، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: «إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول   (1) البخاري، كتاب المغازي، وفد بني حنيفة (5/ 119). (2) وفي كتاب الأصنام لابن الكلبي: "هًبَلاً"، انظر: السيرة النبوية لابن هشام (ق1/ 226 هـ 4). (3) انظر: السيرة النبوية، لابن كثير (1/ 163). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 من يسعى إليه» وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة (1). ومما كان ينشده من شعره: في الذاهبين الأوليـ ... ـن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي إليّ ... ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر (2) كان بعض العرب قد تنصر، وبعضهم دخل في اليهودية، أما الأغلبية فكانت تعبد الأوثان والأصنام. ثانيًا: الحالة السياسية: كان سكان الجزيرة العربية ينقسمون إلى بدو وحضر، وكان النظام السائد بينهم هو النظام القبلي، حتى في الممالك المتحضرة التي نشأت بالجزيرة، كمملكة اليمن في الجنوب ومملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ومملكة الغساسنة في الشمال الغربي، فلم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد، وإنما ظلت القبائل وحدات متماسكة. والقبيلة العربية مجموعة من الناس، تربط بينها وحدة الدم (النسب) ووحدة الجماعة، وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقات بين الفرد والجماعة، على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت تتمسك به القبيلة في نظامها السياسي والاجتماعي (3). وزعيم القبيلة ترشحه للقيادة منزلته القبلية وصفاته، وخصائصه من شجاعة ومروءة، وكرم ونحوها، ولرئيس القبيلة حقوق أدبية ومادية، فالأدبية أهمها: احترامه وتبجيله، والاستجابة لأمره، والنزول على حكمه وقضائه، وأما المادية فقد كان له في كل غنيمة تغنمها (المرباع) وهو ربع الغنيمة، (والصفايا) وهو ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة (والنشيطة) وهي ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء (والفضول) وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة، وقد أجمل الشاعر العربي ذلك بقوله: لك المرباع فينا، والصفايا ... وحكمك، والنشيطة، والفضول (4) ومقابل هذه الحقوق, واجبات ومسئوليات، فهو في السلم جواد كريم، وفي الحرب يتقدم   (1) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة (1/ 80). (2) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 81). (3) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 60). (4) انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الصفوف، ويعقد الصلح، والمعاهدات. والنظام القبلي تسود فيه الحرية، فقد نشأ العربي في جو طليق، وفي بيئة طليقة، ومن ثم كانت الحرية من أخص خصائص العرب، ويعشقونها ويأبون الضيم والذل وكل فرد في القبيلة ينتصر لها، ويشيد بمفاخرها، وأيامها، وينتصر لكل أفرادها محقًا أو مبطلاً، حتى صار من مبادئهم: «انصر أخاك ظالمًا، أو مظلومًا». وكان شاعرهم يقول: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا والفرد في القبيلة تبع للجماعة، وقد بلغ من اعتزازهم برأي الجماعة أنه قد تذوب شخصيته في شخصيتها، قال دريد بن الصمة: وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت، وإن ترشد غزية أرشد (1) وكانت كل قبيلة من القبائل العربية لها شخصيتها السياسية, وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى، وبهذه الشخصية أيضًا كانت تشن الحرب عليها, ولعل من أشهر الأحلاف التي عقدت بين القبائل العربية، حلف الفضول (حلف المطيبين) (2). وكانت الحروب بين القبائل على قدم وساق ومن أشهر هذه الحروب حرب الفجار (3) وكان -عدا هذه الحروب الكبرى- تقع إغارات فردية بين القبائل تكون أسبابها شخصية أحيانًا، أو طلب العيش أحيانًا أخرى، إذ كان رزق بعض القبائل في كثير من الأحيان في حد سيوفها، ولذلك ما كانت القبيلة تأمن أن تنقض عليها قبيلة أخرى في ساعة من ليل أو نهار لتسلب أنعامها ومؤنها، وتدع ديارها خاوية كأن لم تسكن بالأمس (4). ثالثًا: الحالة الاقتصادية: يغلب على الجزيرة العربية الصحاري الواسعة الممتدة، وهذا ما جعلها تخلو من الزراعة إلا في أطرافها وخاصة في اليمن والشام، وبعض الواحات المنتشرة في الجزيرة كان يغلب على البادية رعي الإبل والغنم، وكانت القبائل تنتقل بحثًا عن مواقع الكلأ، وكانوا لا يعرفون الاستقرار إلا في مضارب خيامهم. وأما الصناعة فكانوا أبعد الأمم عنها، وكانوا يأنفون منها، ويتركون العمل فيها للأعاجم والموالي، حتى عندما أرادوا بنيان الكعبة استعانوا برجل قبطي نجا من السفينة التي غرقت   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 61). (2) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول، د. محمد قلعجي ص31. (3) نفس المصدر ص33 - 35. (4) المصدر السابق، ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 بجدة ثم أصبح مقيما في مكة (1). وإذا كانت الجزيرة العربية قد حرمت من نعمتي الزراعة والصناعة، فإن موقعها الاستراتيجي بين إفريقيا وشرق آسيا جعلها مؤهلة لأن تحتل مركزا متقدما في التجارة الدولية آنذاك. وكان الذين يمارسون التجارة من سكان الجزيرة العربية هم أهل المدن، ولا سيما أهل مكة فقد كان لهم مركز ممتاز في التجارة، وكان لهم بحكم كونهم أهل الحرم منزلة في نفوس العرب فلا يعرضون لهم، ولا لتجارتهم بسوء، وقد امتن الله عليهم بذلك في القرآن الكريم: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: 67] وكانت لقريش رحلتان عظيمتان شهيرتان: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، يذهبون فيها آمنين بينما الناس يتخطفون من حولهم، هذا عدا الرحلات الأخرى التي يقومون بها طوال العام، قال تعالى: (لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ - فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 1 - 4]. وكانت القوافل تحمل الطيب والبخور، والصمغ، واللبان، والتوابل والتمور، والروائح العطرية، والأخشاب الزكية، والعاج، والأبنوس، والخرز، والجلود، والبرود اليمنية والأنسجة الحريرية، والأسلحة وغيرها مما يوجد في شبه الجزيرة، أو يكون مستوردًا من خارجها، ثم تذهب به إلى الشام وغيرها ثم تعود محملة بالقمح، والحبوب، والزبيب، والزيتون، والمنسوجات الشامية وغيرها. واشتهر اليمنيون بالتجارة، وكان نشاطهم في البر وفي البحار، فسافروا إلى سواحل إفريقيا وإلى الهند وإندونيسيا، وسومطرة وغيرها من بلاد آسيا، وجزر المحيط الهندي أو البحر العربي كما يسمى، وقد كان لهم فضل كبير بعد اعتناقهم الإسلام، في نشره في هذه الأقطار. وكان التعامل بالربا منتشرًا في الجزيرة العربية، ولعل هذا الداء الوبيل سرى إلى العرب من اليهود (2) وكان يتعامل به الأشراف وغيرهم وكانت نسبة الربا في بعض الأحيان إلى أكثر من مائة في المائة (3). وكان للعرب أسواق مشهورة: عكاظ، ومجنّة، وذو المجاز، ويذكر بعض المؤلفين في أخبار مكة أن العرب كانوا يقيمون بعكاظ هلال ذي القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد   (1) انظر: فقه السيرة النبوية، منير الغضبان ص60. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 98 إلى 101). (3) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم محمد ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 مضي عشرين يومًا من ذي القعدة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة ذهبوا إلى ذي المجاز فلبثوا فيها ثمانيَ ليال، ثم يذهبون إلى عرفة، وكانوا لا يتبايعون في عرفة ولا أيام منى حتى جاء الإسلام فأباح لهم ذلك, قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة: 198]. وقد استمرت هذه الأسواق في الإسلام إلى حين من الدهر ثم دَرَست، ولم تكن هذه الأسواق للتجارة فحسب، بل كانت أسواقًا للأدب والشعر والخطابة يجتمع فيها فحول الشعراء ومصاقع الخطباء، ويتبارون فيها في ذكر أنسابهم، ومفاخرهم، ومآثرهم، وبذلك كانت ثروة كبرى للغة، والأدب، إلى جانب كونها ثروة تجارية (1). رابعًا: الحالة الاجتماعية: هيمنت التقاليد والأعراف على حياة العرب، وأصبحت لهم قوانين عرفية فيما يتعلق بالأحساب والأنساب، وعلاقة القبائل ببعضها والأفراد كذلك، ويمكن إجمال الحالة الاجتماعية فيما يأتي: 1 - الاعتزاز الذي لا حد له بالأنساب، والأحساب، والتفاخر بهما: فقد حرصوا على المحافظة على أنسابهم، فلم يصاهروا غيرهم من الأجناس الأخرى، ولما جاء الإسلام قضى على ذلك وبين لهم أن التفاضل إنما هو بالتقوى والعمل الصالح. 2 - الاعتزاز بالكلمة، وسلطانها، لا سيما الشعر: كانت تستهويهم الكلمة الفصيحة، والأسلوب البليغ، وكان شعرهم سجل مفاخرهم، وأحسابهم، وأنسابهم، وديوان معارفهم، وعواطفهم، فلا تعجب إذا كان نجم فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء الفطاحل، وكان البيت من الشعر يرفع القبيلة, والبيت يخفضها، ولذلك ما كانوا يفرحون بشيء فرحهم بشاعر ينبغ في القبيلة. 3 - المرأة في المجتمع العربي: كانت المرأة عند كثير من القبائل كسقط المتاع، فقد كانت تورث، وكان الابن الأكبر للزوج من غيرها من حقه أن يتزوجها بعد وفاة أبيه, أو يعضلها عن النكاح، حتى حَرَّم الإسلام ذلك، وكان الابن يتزوج امرأة أبيه (2) فنزل قول الله تعالى: (وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً) [النساء: 22].   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 102). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 87). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وكانت العرب تحرم نكاح الأصول كالأمهات، والفروع كالبنات، وفروع الأب كالأخوات، والطبقة الأولى من فروع الجد كالخالات والعمات (1). وكانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان، ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل، وبقي حرمان النساء والصغار من الميراث عرفا معمولاً به عندهم إلى أن توفي أوس بن ثابت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بنتين كانت بهما دمامة، وابنًا صغيرًا، فجاء ابنا عمه وهما عصبته فأخذا ميراثه كله، فقالت امرأته لهما: تزوجا البنتين، فأبيا ذلك لدمامتهما، فأتت رسول الله فقالت: يا رسول الله توفي أوس وترك ابنًا صغيرًا وابنتين، فجاء ابنا عمه سويد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقلت لهما: تزوجا ابنتيه، فأبيا، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تحركا في الميراث شيئًا» (2)، ونزل قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) [النساء: 7]. وكان العرب يُعيّرون بالبنات؛ لأن البنت لا تخرج في الغزو، ولا تحمي البيضة من المعتدين عليها، ولا تعمل فتأتي بالمال شأن الرجال، وإذا ما سبيت اتخذت للوطء تتداولها الأيدي لذلك، بل ربما أكرهت على احتراف البغاء، ليضم سيدها ما يصير إليها من المال بالبغاء إلى ماله، وقد كانت العرب تبيح ذلك، وقد كان هذا يورث الهم والحزن والخجل للأب عندما تولد له بنت، وقد حدثنا القرآن الكريم عن حالة من تولد له بنت فقال تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ - يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل: 58 - 59]. وكثيرا ما كانوا يختارون دسها في التراب، ووأدها حية، ولا ذنب لها إلا أنها أنثى (3)؛ ولذلك أنكر القرآن الكريم عليهم هذه الفعلة الشنيعة قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ - بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) [التكوير: 8 - 9]. وكان بعض العرب يقتل أولاده من الفقر أو خشية الفقر فجاء الإسلام وحرم ذلك قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام: 151]. وقال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) [الإسراء: 31].   (1) دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ص22، 23، 24. (2) تفسير القرطبي (5/ 45). (3) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ص25، 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وكانت بعض القبائل لا تئد البنات، كما كان فيهم من يستقبحون هذه الفعلة الشنعاء كزيد بن عمرو بن نفيل (1). وكانت بعض القبائل تحترم المرأة وتأخذ رأيها في الزواج، وكانت المرأة العربية الحرة تأنف أن تفترش لغير زوجها وحليلها، وكانت تتسم بالشجاعة وتتبع المحاربين وتشجعهم، وقد تشارك في القتال إذا دعت الضرورة، وكانت المرأة البدوية العربية تشارك زوجها في رعي الماشية، وسقيها، وتغزل الوبر والصوف وتنسج الثياب، والبرود، والأكسية، مع التصون والتعفف (2). 4 - النكاح: تعارف العرب على أنواع النكاح، لا يعيب بعضهم على بعض إتيانها، وقد ذكرت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: «إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها (3): أرسلي إلى فلان فاستبضعي (4) منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت، ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لها القافة (5) ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط (6) به ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم» (7).   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 92). (2) نفس المصدر (1/ 8). (3) الطمث: الحيض. (4) استبضعي: الاستبضاع, طلب الجماع حتى تحمل منه. (5) القافة: جمع القائف، وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد. (6) التاطه: أستلحقه. (7) البخاري، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي رقم 5127. (7) فتح الباري (9/ 150). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وذكر بعض العلماء أنحاء أخرى لم تذكرها عائشة رضي الله عنها كنكاح الخدن وهو في قوله تعالى: (وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) كانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم، وهو إلى الزنا أقرب منه إلى النكاح، وكنكاح المتعة وهو النكاح المعين بوقت، ونكاح البدل: كان الرجل في الجاهلية يقول للرجل: انزل لي على امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك (1). ومن الأنكحة الباطلة نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق (2). وكانوا يحلون الجمع بين الأختين في النكاح، وكانوا يبيحون للرجل أن يجمع في عصمته من الزوجات ما شاء دون التقيد بعدد، وكان الذين جمعوا بين أكثر من أربع زوجات أكثر من أن ينالهم العد (3)، وجاء الإسلام ومنهم من له العشرة من النساء والأكثر، والأقل، فقصر ذلك على أربع إن علم أنه يستطيع الإنفاق عليهن، والعدل بينهن، فإن خاف عدم العدل فليكتف بواحدة، وما كانوا في الجاهلية يلتزمون العدل بين الزوجات، وكانوا يسيئون عشرتهن، ويهضمون حقوقهن حتى جاء الإسلام فأنصفهن، وأوصى بالإحسان إليهن في العشرة، وقرر لهن حقوقا ما كن يحلمن بها (4). 5 - الطلاق: كانوا يمارسون الطلاق، ولم يكن للطلاق عندهم عدد محدد, فكان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها هكذا أبدًا، وبقي هذا الأمر معمولاً به في صدر الإسلام (5) إلى أن أنزل الله تبارك وتعالى قوله: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 229]. فقيد الإسلام عدد الطلقات، وأعطى للزوج فرصة لتدارك أمره، ومراجعة زوجته مرتين، فإن طلق الثالثة فقد انقطعت عروة النكاح، ولا تحل له إلا بعد زوج آخر، ففي الكتاب الكريم) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ) [البقرة: 230]. ومما كان يلحق بالطلاق في التحريم الظهار، وهو أن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي، وكان تحريمًا مؤبدًا حتى جاء الإسلام، فوسمه بأنه منكر من القول وزور، وجعل   (1) فتح الباري (9/ 150) ذكره ابن حجر عن الدارقطني عن أبي هريرة فانظره. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 90). (3) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص24، 25. (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 88). (5) دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 للزوج مخرجًا منه، وذلك بالكفارة (1) قال تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة:2 - 4]. 6 - الحروب، والسطو، والإغارة: كانت الحروب تقوم بينهم لأتفه الأسباب، فهم لا يبالون بشن الحروب وإزهاق الأرواح في سبيل الدفاع عن المثل الاجتماعية التي تعارفوا عليها وإن كانت لا تستحق التقدير، وقد روى لنا التاريخ سلسلة من أيام العرب في الجاهلية مما يدل على تمكن الروح الحربية من نفوس العرب وغلبتها على التعقل والتفكير، فمن تلك الأيام مثلا يوم البسوس، وقد قامت الحرب فيه بين بكر وتغلب بسبب ناقة للجرمي وهو جار للبسوس بنت منقذ خالة جساس بن مرة، وقد كان كليب سيد تغلب قد حمى لإبله مكانًا خاصًا به فرأى فيه هذه الناقة فرماها فجزع الجرمي وجزعت البسوس، فلما رأى ذلك جساس تحين الفرصة لقتل كليب فقتله فقامت الحروب الطاحنة بين القبيلتين لمدة أربعين سنة (2). وكذلك يوم داحس والغبراء، وقد كان سببه سباقًا أقيم بين داحس وهو فرس لقيس ابن زهير، والغبراء وهي لحذيفة بن بدر فأوعز هذا إلى رجل ليقف في الوادي فإن رأى داحسا قد سبق يرده وقد فعل ذلك فلطم الفرس حتى أوقعها في الماء فسبقت الغبراء، وحصل بعد ذلك القتل والأخذ بالثأر، وقامت الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان (3). وكذلك الحروب التي قامت بين الأوس والخزرج في الجاهلية وهم أبناء عم، حيث إن الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة الأزدي، واستمرت الحروب بينهم وكان آخر أيامهم (بُعاث) وذلك أن حلفاء الأوس من اليهود جددوا عهودهم معهم على النصرة، وهكذا كان كثير من حروب الأوس والخزرج يذكيها اليهود حتى يضعفوا القبيلتين فتكون لهم السيادة الدائمة، واستعان كل فريق منهم بحلفائه من القبائل المجاورة فاقتتلوا قتالاً شديدًا كانت نهايته لصالح الأوس (4). وكانت بعض القبائل تسطو وتغير بغية نهب الأموال وسبي الأحرار وبيعهم، كزيد ابن حارثة فقد كان عربيًّا حرًا، وكسلمان الفارسي فقد كان فارسيًّا حرًّا، وقد قضى الإسلام على ذلك حتى كانت تسير المرأة والرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخافان إلا الله والذئب   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 91). (2) الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/ 312). (3) نفس المصدر (1/ 343). (4) التاريخ الإسلامي، د. عبد العزيز الحميدي (1/ 55). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 على أغنامهما (1). 7 - العلم والقراءة والكتابة: لم يكن العرب أهل كتاب وعلم كاليهود والنصارى، بل كان يغلب عليهم الجهل والأمية، والتقليد والجمود على القديم -وإن كان باطلا- وكانت أمة العرب لا تكتب ولا تحسب وهذه هي الصفة التي كانت غالبة عليها، وكان فيهم قليل ممن يكتب ويقرأ ومع أميتهم وعدم اتساع معارفهم فقد كانوا يشتهرون بالذكاء، والفطنة، والألمعية، ولطف المشاعر، وإرهاف الحس، وحسن الاستعداد، والتهيؤ لقبول العلم والمعرفة، والتوجيه الرشيد؛ ولذلك لما جاء الإسلام صاروا علماء، حكماء، فقهاء، وزالت عنهم الأمية، وأصبح العلم والمعرفة من أخص خصائصهم، وكان فيهم من مهر في علم قص الأثر، وهو القيافة, وكان فيهم أطباء كالحارث بن كلدة، وكان طبهم مبنيا على التجارب التي اكتسبوها من الحياة والبيئة (2). خامسًا: الحالة الأخلاقية: كانت أخلاق العرب قد ساءت وأولعوا بالخمر والقمار، وشاعت فيهم الغارات وقطع الطريق على القوافل، والعصبية والظلم، وسفك الدماء، والأخذ بالثأر، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، والتعامل بالربا، والسرقة والزنا، ومما ينبغي أن يعلم أن الزنا إنما كان في الإماء وأصحاب الرايات من البغايا، ويندر أن يكون في الحرائر، وليس أدل على هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ البيعة على النساء بعد الفتح: «على أن لا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين» «قالت السيدة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: أَوَتزني الحرة (3)؟!!. وليس معنى هذا أنهم كانوا كلهم على هذا, لا. لقد كان فيهم كثيرون لا يزنون ولا يشربون الخمر، ولا يسفكون الدماء ولا يظلمون، ويتحرجون من أكل أموال اليتامى، ويتنزهون عن التعامل بالربا (4) وكانت فيهم سمات وخصال من الخير كثيرة أهلتهم لحمل راية الإسلام ومن تلك الخصال والسمات: 1 - الذكاء والفطنة: فقد كانت قلوبهم صافية, لم تدخلها تلك الفلسفات والأساطير والخرافات التي يصعب إزالتها, كما في الشعوب الهندية والرومانية والفارسية، فكأن قلوبهم كانت تعد لحمل أعظم رسالة في الوجود وهي دعوة الإسلام الخالدة؛ ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن، وقد وجه الإسلام قريحة الحفظ والذكاء إلى حفظ الدين وحمايته، فكانت   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 93). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 93). (3) المصدر السابق (1/ 94). (4) انظر: السيرة للندوي ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة (1). واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم، فإذا كان للعسل ثمانون اسمًا وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفًا، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا شك أن استيعاب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقَّادة (2). وقد بلغ بهم الذكاء والفطنة إلى الفهم بالإشارة فضلا عن العبارة، والأمثلة على ذلك كثيرة (3). 2 - أهل كرم وسخاء: كان هذا الخُلُق متأصلا في العرب، وكان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ذبحها، أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان بل كان يطعم الوحش، والطير، وكرم حاتم الطائي سارت به الركبان، وضربت به الأمثال (4). 3 - أهل شجاعة ومروءة ونجدة: كانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفًا، ولكن قطعًا بأطراف الرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف: وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طُلّ (5) منا حيث كان قتيل تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل وكان العرب لا يقدمون شيئا على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، واسترخصوا في سبيل ذلك نفوسهم قال عنترة: بَكَرَت تخوفني الحُتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزلِ فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أُسْقى بكأس المنهلِ فأقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل (6) وقال عنترة: لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل   (1) انظر السيرة النبوية للندوي ص12. (2) بلوغ الأرب (1/ 39 - 40). (3) انظر: مدخل لفقه السيرة ص79، 80 (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 95). (5) الطل: هدر الدم، وقيل: هو أن لا يثأر به أو تقبل ديته. (6) ديوان عنترة: د. فاروق الطباع ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل (1) وكان العرب بفطرتهم أصحاب شهامة ومروءة، فكانوا يأبون أن ينتهز القوي الضعيف، أو العاجز، أو المرأة أو الشيخ، وكانوا إذا استنجد بهم أحد أنجدوه ويرون من النذالة التخلي عمن لجأ إليهم. 4 - عشقهم للحرية، وإباؤهم للضيم والذل: كان العربي بفطرته يعشق الحرية, يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقًا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلاً، أو يمس في شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته (2) , فقد كانوا يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار, وإليك مثال على ذلك. جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحدًا من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك. فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك، فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وا ذلاه يا لتغلب .. فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفا للملك معلقا بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلا: بأي مشيئة عمرو بن هند ... نكون لقيلكم (3) فيها قطينا (4) ... بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا تهددنا وتوعدنا رويدًا ... متى كنا لأمك مقتوينا (5) إذا ما الملك سام الناس خسفًا ... أبينا أن نقر الذل فينا (6) 5 - الوفاء بالعهد وحبهم للصراحة والوضوح والصدق: كانوا يأنفون من الكذب ويعيبونه، وكانوا أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام,   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 95). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 95). (3) القيل: هو الملك دون الملك الأعظم. (4) القطين: هم الخدم. (5) مقتوينا: خدمة الملوك. (6) انظر: شرح المعلقات للحسين الزوزني ص196، 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ويدل على أنفتهم من الكذب قصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحروب بينهم قائمة قال: «لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت عنه» (1). أما وفاؤهم: فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: «وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي وَلث (2) وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه فلا يُغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به, وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب, فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله» (3). والوفاء خلق متأصل بالعرب, فجاء الإسلام ووجهه الوجهة السليمة, فغلظ على من آوى محدثًا مهما كانت منزلته وقرابته، قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من آوى محدثا» (4). ومن القصص الدالة على وفائهم (5): «أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث، وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه, فقال دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك، فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه» وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار (6). ومن وفائهم: أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان، فأبى، فسير إليه كسرى جيشًا لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: «يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من قدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد» (7)، واستطاع بنو بكر أن يهزموا الفرس في موقعة ذي قار، بسبب هذا الرجل الذي احتقر حياة الصغار والمهانة، ولم يبال بالموت في سبيل الوفاء بالعهود.   (1) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 7. (2) الولث: الوعد الضعيف. (3) بلوغ الأرب (1/ 150). (4) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، رقم 1978. (5) انظر: مدخل لفهم السيرة ص 90. (6) نفس المصدر ص91. (7) تاريخ الطبري عن يوم ذي قار (2/ 207). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 6 - الصبر على المكاره وقوة الاحتمال، والرضا باليسير: كانوا يقومون من الأكل ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع, قال شاعرهم: إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل (1) وكانت لهم قدرة عجيبة على تحمل المكاره والصبر في الشدائد، وربما اكتسبوا ذلك من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حر الظهيرة، ولم يتأثروا بالحر ولا بالبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ، ولما دخلوا الإسلام ضربوا أمثلة رائعة في الصبر، والتحمل وكانوا يرضون باليسير، فكان الواحد منهم يسير الأيام مكتفيا بتمرات يقيم بها صلبه، وقطرات من ماء يرطب بها كبده (2). 7 - قوة البدن وعظمة النفس: واشتهروا بقوة أجسادهم مع عظمة النفس وقوة الروح، وإذا اجتمعت البطولة النفسية إلى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب، وهذا ما حدث بعد دخولهم في الإسلام. كما كانوا ينازلون أقرانهم وخصومهم، حتى إذا تمكنوا منهم عفوا عنهم وتركوهم، يأبون أن يجهزوا على الجرحى، وكانوا يرعون حقوق الجيرة، ولا سيما رعاية النساء والمحافظة على العرض قال شاعرهم: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها وكانوا إذا استجار أحد الناس بهم أجاروه، وربما ضحوا بالنفس والولد والمال في سبيل ذلك. كانت هذه الفصائل والأخلاق الحميدة رصيدا ضخما في نفوس العرب، فجاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الخير والحق، فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من الصحاري كما تنطلق الملائكة الأطهار، فتحوا الأرض، وملئوها إيمانا بعد أن ملئت كفرا، وعدلا بعد أن ملئت جورا، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيرا بعد أن طفحت شرا (3). هذه بعض أخلاق المجتمع الذي نشأ فيه الإنسان العربي فهو أفضل المجتمعات، لهذا اختير رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختير له هذا المجتمع العربي، وهذه البيئة النادرة، وهذا الوسط الرفيع مقارنة بالفرس والروم والهنود واليونان، فلم يختر من الفرس على سعة علومهم   (1) بلوغ الإرب (1/ 377). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 96، 97). (3) انظر: السيرة النبوية بأبي شهبة (1/ 97) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ومعارفهم ولا من الهنود على عمق فلسفاتهم، ولا من الرومان على تفننهم، ولا من اليونان على عبقرية شاعريتهم وخيالهم، وإنما اختير من هذه البيئة البكر؛ لأن هؤلاء الأقوام وإن كانوا على ما هم عليه وما هم فيه من علوم ومعارف، إلا أنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه العرب من سلامة الفطرة، وحرية الضمير، وسمو الروح (1). * * * المبحث الرابع أهم الأحداث قبل مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أراد الله سبحانه وتعالى أن يرحم البشرية ويكرم الإنسانية فحان وقت الخلاص بمبعث الحبيب صلى الله عليه وسلم وقبل أن نشرع في بيان ميلاده الكريم ونشأته العزيزة، ورعاية الله عز وجل له قبل نزول الوحي عليه, وسيرته العطرة قبل البعثة، نريد أن نتحدث عن الآيات العظيمة، والأحداث الجليلة التي سبقت ميلاده عليه الصلاة والسلام، فقد سبق مولده الكريم أمور عظيمة دلت على اقتراب تباشير الصباح. إن من سنن الله في الكون أن الانفراج يكون بعد الشدة، والضياء يكون بعد الظلام، واليسر بعد العسر (2). ومن أهم هذه الأحداث: أولاً: قصة حفر عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم لزمزم: ذكر الشيخ إبراهيم العلي في كتابه القيم «صحيح السيرة النبوية» رواية صحيحة في قصة حفر عبد المطلب لزمزم من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آتٍ فقال لي: احفر طيبة (3)، قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني. قال: فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة (4)، قال: قلت وما برة؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة (5). قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت:   (1) انظر: نظرات في السيرة للإمام حسن البنا، ص14. (2) انظر: هذا الحبيب يا محب، للجزائري، ص51. (3) طيبة: مشتقة من الطيب، وبه سميت المدينة. (4) برة: مشتقة من البر، والبر: هو الخير والطهارة. (5) المضنونة: الغالية النفسية التي يضن بمثلها، أي يبخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وما زمزم؟ قال لا تنزف (1) أبدأ ولا تُذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم (2)، عند قرية النمل (3). قال: فلما بين شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعول ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس معه يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الطيّ (4) كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل، وإنا لنا فيها حق، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام. (5) فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه، فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من كانوا معهم فأبوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة (6) وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واراه، حتى يكون آخرهم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه، فقالوا: نعم ما أمرت به. فحفر كل رجل لنفسه حفرة ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا، فارتحلوا حتى إذ بعث (7) عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب، وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستسقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال، فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاءوا فشربوا، واستقوا كلهم، ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك   (1) لا تنزف: أي لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها. (2) الغراب الأعصم: الذي في ساقيه بياض. (3) قرية النمل: المكان الذي يجتمع فيه النمل. (4) الطي: حافة البئر (5) أشراف الشام: ما ارتفع من أرضه. (6) المفازة: جمعها مفاوز: القفار. (7) بعث راحلته: أقامها من بروكها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم». قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم (1) وقد ورد في فضل ماء زمزم أحاديث كثيرة فمنها، ما رواه مسلم في صحيحه في قصة إسلام أبي ذر - رضي الله عنه -: «إنها طعام طعم» (2). وروى الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له: إن شربته لتستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة (3) جبريل، وسقيا الله إسماعيل». قال الشيخ محمد أبو شهبة رحمه الله (4): ومهما يكن من شيء فقد صحح الحافظ الدمياطي، وهو من الحفاظ المتأخرين المتقنين حديث: «ماء زمزم لما شرب له» وأقره الحافظ العراقي (5). ثانيًا: قصة أصحاب الفيل: هذه الحادثة ثابتة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وأتت تفاصيلها في كتب السير والتاريخ وذكرها المفسرون في كتبهم. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ - أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ - وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ - تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ) [الفيل: 1 - 5]. أما إشارات الرسول إلى الحادث فمنها: - أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج زمن الحديبية سار حتى إذا كان بالثنيَّة التي يهبط عليهم منها بركت بها راحلته فقال الناس! حَل حَل (6) , فألحت (7) فقالوا: خلأت القصواء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل» (8).   (1) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 142 - 155) السير والمغازي لابن إسحاق ص24، 25، تحقيق سهيل زكار، البيهقي في الدلائل (1/ 93 - 95) وصرح ابن إسحاق بالسماع فسنده صحيح، وله شاهد من مرسل الزهري، فالحديث صحيح من طريق البيهقي وابن هشام. (2) مسلم، فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر، ورقمه 132 - (274) (طعام طعم): أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام. (3) هزمة أو همزة: أثر ضربته في الأرض بعقبه، أو جناحه. (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 158). (5) مقدمة ابن الصلاح، وشرحها للحافظ العراقي ص13. (6) كلمة تقال للناقة إذا تركت السير (فتح الباري: 5/ 335). (7) ألحت: أي تمادت على عدم القيام وهو من الإلحاح، فتح الباري (5/ 335). (8) البخاري، الشروط (5/ 388). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وجاء في السيرة النبوية لأبي حاتم ما يلي: «كأن من شأن الفيل أن ملكًا كان باليمن غلب عليها، وكان أصله من الحبشة يقال له أبرهة، بنى كنيسة بصنعاء فسماها القُلَّيَس، وزعم أنه يصرف إليها حج العرب، وحلف أن يسير إلى الكعبة فيهدمها، فخرج ملك من ملوك حمير فيمن أطاعه من قومه, يقال له ذو نفر فقاتله، فهزمه أبرهة وأخذه، فلما أتى به قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي، فاستبقاه، وأوثقه، ثم خرج سائرًا يريد الكعبة حتى إذا دنا من بلاد خثعم, خرج إليه النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ النفيل، فقال النفيل: أيها الملك. إني عالم بأرض العرب فلا تقتلني، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه وخرج معه يدله حتى إذا بلغ الطائف خرج إليه مسعود بن مُعَتَّب في رجال ثقيف فقال: أيها الملك نحن عبيد لك ليس لك عندنا خلاف، وليس بيننا وبينك الذي تريد -يعنون اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه مولى لهم يقال له أبو رغال فخرج معهم حتى إذا كان بالمغمس (1) مات أبو رغال وهو الذي رجم قبره, وبعث أبرهة من المغمس رجلا، يقال له الأسود بن مقصود على مقدمة خيله، فجمع إليه أهل الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير بالأرك، ثم بعث أبرهة حُناطة الحميري إلى أهل مكة فقال: سل عن شريفها ثم أبلغه أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حناطة حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال: إن الملك أرسلني إليك ليخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما عندنا له قتال، فقال: سنخلي بينه وبين البيت، فإن خلى الله بينه وبينه فوالله ما لنا به قوة، قال: فانطلق معي إليه، قال: فخرج معه حتى قدم المعسكر وكان «ذو نفر» صديقا لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندكم من غناء فيما نزل بنا؟ فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن من أن يقتل بكرة أو عشية، ولكن سأبعث لك إلى أُنيَس سائس الفيل فآمره أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال: إن هذا سيد قريش صاحب عين مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه فانفعه، فإنه صديق لي. فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك! هذا سيد قريش وصاحب عين مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال يستأذن عليك وأنه أحب أن تأذن له، فقد جاءك غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له وكان عبد المطلب رجلاً عظيمًا جسيمًا وسيمًا،   (1) المغمس: مكان قرب مكة في طريق الطائف مات فيه أبو رغال .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه معه، فقال له عبد المطلب: أيها الملك إنك قد أصبت لي مالا عظيما فاردده علي، فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتك ولقد زهدت فيك، قال: ولم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم ومنعتكم فأهدمه فلم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير لك؟. قال: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه، قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك، قال: فأمر بإبله فردت عليه، ثم خرج عبد المطلب وأخبر قريش الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وعبأ جيشه، وقرب فيله وحمل عليه ما أراد أن يحمل وهو قائم, فلما حركه وقف وكاد أن يرزم إلى الأرض فيبرك، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجن لهم تحت مراقه ومرافقه فأبى، فوجهوه إلى اليمن فهرول، فصرفوه إلى الحرم فوقف، ولحق الفيل بجبل من تلك الجبال، فأرسل الله الطير من البحر كالبلسان (1) مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، ويحملن أمثال الحمص والعدس من الحجارة, فإذا غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك وليس كل القوم أصيب فذلك قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ - أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ - وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ - تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ - فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ) [الفيل: 1 - 5] وبعث الله على أبرهة داء في جسده، ورجعوا سراعا يتساقطون في كل بلد، وجعل أبرهة تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة أتبعها مِدَّة من قيح ودم، فانتهى إلى اليمن وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، ثم مات (2). وذكر ابن إسحاق - رحمه الله- في سيرته كما نقله ابن هشام عنه في السير, أن عبد المطلب أخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: لا هم إن العبد يمـ ... نع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غَدْوًا محالك إن كنت تاركهم وقبلـ ... ـتنا فأمر ما بَدَا لك ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شغف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، وذكر بعد ذلك ما حدث من هلاك لأبرهة وجيشه (3).   (1) البلسان: الزرازير .. (2) السيرة النبوية لأبي حاتم البستي ص34 - 39، وانظر السيرة النبوية لابن كثير (1/ص30 - 37). (3) السيرة النبوية لابن هشام مع شرح أبي ذر الخشني (1/ 84 - 91). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 دروس وعبر وفوائد من حادثة الفيل: 1 - بيان شرف الكعبة, أول بيت وضع للناس: وكيف أن مشركي العرب كانت تعظمه وتقدسه، ولا يقدمون عليه شيئا، وتعود هذه المنزلة إلى بقايا ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام. 2 - حسد النصارى وحقدهم على مكة وعلى العرب: الذين يعظمون هذا البيت، ولذلك أراد أبرهة أن يصرف العرب عن تعظيم بيت الله ببناء كنيسة القليس، وعلى الرغم من استعماله أساليب الترغيب والترهيب, إلا أن العرب امتنعوا ووصل الأمر إلى مداه بأن أحدث في كنيسة القليس أحد الأعراب. قال الرازي -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ): اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية. (إن قيل) لما سماه كيدًا وأمره كان ظاهرًا، فإنه كان يصرح أن يهدم البيت؟ (قلنا) نعم، لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر؛ لأنه كان يضمر الحسد للعرب، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم, بسبب الكعبة, منهم ومن بلدهم إلى نفسه وإلى بلدته (1). 3 - التضحية في سبيل المقدسات: قام ملك من ملوك حمير في وجه جيش أبرهة ووقع الملك أسيرًا، وقام النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع معه من قبائل اليمن فقاتلوا أبرهة إلا أنهم انهزموا أمام الجيش العرمرم وبذلوا دماءهم دفاعا عن مقدساتهم. إن الدفاع عن المقدسات والتضحية في سبيلها شيء غريزي في فطرة الإنسان. 4 - خونة الأمة مخذولون: فهؤلاء العملاء الذين تعاونوا مع أبرهة وصاروا عيونا له وجواسيس وأرشدوه إلى بيت الله العتيق ليهدمه، لُعنوا في الدنيا والآخرة، لعنهم الناس، ولعنهم الله سبحانه وتعالى، وأصبح قبر أبي رغال رمزًا للخيانة والعمالة، وصار ذاك الرجل مبغوضا في قلوب الناس، وكلما مر أحد على قبره رجمه. 5 - حقيقة المعركة بين الله وأعدائه: في قول عبد المطلب زعيم مكة: «سنخلي بينه وبين البيت فإن خلى الله بينه وبينه، فوالله ما لنا به قوة» وهذا تقرير دقيق لحقيقة المعركة بين الله وأعدائه, فمهما كانت قوة العدو وحشوده, فإنها لا تستطيع الوقوف لحظة واحدة أمام قدرة الله وبطشه ونقمته, فهو سبحانه واهب الحياة وسالبها في أي وقت شاء (2). قال القاسمي -رحمه الله-: قال القاشاني -رحمه الله-: قصة أصحاب الفيل مشهورة وواقعتهم قريبة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي إحدى آيات قدرة الله، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه   (1) انظر: تفسير الرازي (32/ 94). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 بهتك حرمه (1). 6 - تعظيم الناس للبيت وأهله: ازداد تعظيم العرب لبيت الله الحرام الذي تكفل بحفظه وحمايته من عبث المفسدين، وكيد الكائدين (2) وأعظمت العرب قريشا، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم العدو، وكان ذلك آية من الله، ومقدمة لبعثة نبي يبعث من مكة ويطهر الكعبة من الأوثان، ويعيد لها ما كان لها من رفعة وشأن. 7 - قصة الفيل من دلائل النبوة: قال بعض العلماء: إن حادثة الفيل من شواهد النبوة ودلالاتها ومن هؤلاء: الماوردي -رحمه الله-: آيات الملك باهرة، وشواهد النبوة ظاهرة، تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس فيها كذب بصدق، ولا منتحل بحق, وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها، ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنًا وأشهرها عيانًا وبيانًا أصحاب الفيل .. إلى أن قال: وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة؛ لأنه ولد بعد خمسين يومًا من الفيل، وبعد موت أبيه في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، فكانت آية في ذلك من وجهين. أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجري عليه السبي حملاً ووليدًا. والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب؛ لأنهم كانوا بين عابد صنم، أو متدين وثن أو قائل بالزندقة، أو مانع من الرجعة، ولكن لما أراد الله تعالى من ظهور الإسلام، تأسيًا للنبوة، وتعظيمًا للكعبة .. ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى في جيش الفيل تهيبوا الحرم وأعظموه، وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم، فزادوهم تشريفًا وتعظيمًا وقامت قريش لهم بالرفادة والسدانة والسقاية، والرفادة مال تخرجه قريش في كل عام من أموالهم يصنعون به طعامًا للناس أيام منى، فصاروا أئمة ديّانين، وقادة متبوعين، وصار أصحاب الفيل مثلاً في الغابرين (3). وقال ابن تيمية -رحمه الله-: وكان ذلك عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان ودين النصارى خير منهم، فعلم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ، بل كانت لأجل البيت، أو لأجل النبي صلى الله عليه وسلم الذي ولد في ذلك العام عند البيت أو لمجموعهما، وأي ذلك كان فهو من دلائل نبوته (4).   (1) انظر: محاسن التفسير للقاسمي (17/ 262). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص112. (3) انظر: السيرة النبوية للندوي ص92. (4) انظر: أعلام النبوة للماوردي ص185 - 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقال ابن كثير -رحمه الله- عندما تحدث عن حادثة الفيل: كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدرة يقول: لم ينصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق، الذي سنشرفه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء (1). 8 - حفظ الله للبيت العتيق: وهي أن الله لم يقدر لأهل الكتاب -أبرهة وجنوده - أن يدمروا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة، حتى والشرك يدنسه، والمشركون هم سدنته ليبقى هذا البيت عتيقًا من سلطان المتسلطين، مصونًا من كيد الكائدين وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة، لا يهيمن عليها سلطان، ولا يطغى فيها طاغية ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان، وعلى العباد، ويقود البشرية ولا يُقاد، وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام (2). ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من قِبل الصليبية العالمية والصهيونية العالمية، ولا تني أن تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة، فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته من المشركين، سيحفظه إن شاء الله ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين (3). 9 - جعل الحادثة تاريخًا للعرب: استعظم العرب ما حدث لأصحاب الفيل، فأرخوا به، وقالوا وقع هذا عام الفيل وولد فلان عام الفيل، ووقع هذا بعد عام الفيل بكذا من السنين، وعام الفيل صادف عام 570م (4). المبحث الخامس من المولد النبوي الكريم إلى حلف الفضول أولاً: نسب النبي صلى الله عليه وسلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف الناس نسبا، وأكملهم خَلْقًا وخُلُقًا، وقد ورد في شرف نسبه أحاديث صحاح، منها ما رواه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (5).   (1) انظر: تفسير ابن كثير (4/ 548، 549). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص113. (3) في ظلال القرآن (6/ 3980) (4) انظر: السيرة النبوية للندوي ص93. (5) مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي (4/ 1782) رقم 2276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله نسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان» (1). وقال البغوي في شرح السنة بعد ذكر النسب إلى عدنان: «ولا يصح حفظ النسب فوق عدنان» (2). وقال ابن القيم: بعد ذكر النسب إلى عدنان أيضا: «إلى هنا معلوم الصحة، ومتفق عليه بين النسابين، ولا خلاف البتة، وما فوق عدنان مختلف فيه، ولا خلاف بينهم أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام» (3). وقد جاء عن ابن سعد في طبقاته: «الأمر عندنا الإمساك عما وراء عدنان إلى إسماعيل» (4). وعن عروة بن الزبير أنه قال: «ما وجدنا من يعرف وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا» (5). قال الذهبي -رحمه الله-: «وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بإجماع الناس، لكن اختلفوا فيما بين عدنان وإسماعيل من الآباء» (6). لقد كان وما زال شرف النسب له المكانة في النفوس؛ لأن ذا النسب الرفيع لا تنكر عليه الصدارة، نبوة كانت أو ملكا، وينكر ذلك على وضيع النسب، فيأنف الكثير من الانضواء تحت لوائه، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعد للنبوة هيأ الله تعالى له شرف النسب ليكون مساعدا له على التفاف الناس حوله (7). إن معدن النبي صلى الله عليه وسلم طيب ونفيس، فهو من نسل إسماعيل الذبيح, وإبراهيم خليل الله، واستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، وبشارة أخيه عيسى عليه السلام كما حدث هو عن نفسه، فقال: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى» (8).   (1) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مبعث النبي (4/ 288) رقم 3851. (2) شرح السنة 13/ 193. (3) زاد المعاد (1/ 71). (4) ابن سعد (1/ 58). (5) نفس المصدر. (6) السيرة النبوية للذهبي ص1. (7) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص96. (8) انظر: الحاكم (2/ 600). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وطيب المعدن والنسب الرفيع يرفع صاحبه عن سفاسف الأمور ويجعله يهتم بمعاليها وفضائلها, والرسل والدعاة يحرصون على تزكية أنسابهم وطهر أصلابهم، ويُعرفون عند الناس بذلك فيحمدونهم ويثقون بهم (1). ومما تبين يتضح لنا من نسبه الشريف, دلالة واضحة على أن الله سبحانه وتعالى ميز العرب على سائر الناس، وفضل قريشًا على سائر القبائل الأخرى، ومقتضى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، محبة القوم الذين ظهر فيهم والقبيلة التي ولد فيها، لا من حيث الأفراد والجنس بل من حيث الحقيقة المجردة؛ ذلك لأن الحقيقة العربية القرشية، قد شرف كل منها -ولا ريب- بانتساب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، ولا ينافي ذلك ما يلحق من سوء بكل من قد انحرف من العرب أو القرشيين، عن صراط الله عز وجل، وانحط عن مستوى الكرامة الإسلامية التي اختارها الله لعباده، لأن هذا الانحراف أو الانحطاط من شأنه أن يودي بما كان من نسبة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ويلغيها من الاعتبار (2). ثانيًا: زواج عبد الله بن عبد المطلب من آمنة بنت وهب, ورؤيا آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم: كان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه، ولما نجا من الذبح وفداه عبد المطلب بمائة من الإبل، زوجه من أشرف نساء مكة نسبًا، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب (3). ولم يلبث أبوه أن توفي بعد أن حملت به آمنة، ودُفن بالمدينة عند أخواله بني (عدي بن النجار) , فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام فأدركته منيته بالمدينة وهو راجع، وترك هذه النسمة المباركة، وكأن القدر يقول له: قد انتهت مهمتك في الحياة وهذا الجنين الطاهر يتولى الله -عز وجل- بحكمته ورحمته تربيته وتأديبه وإعداده لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور. ولم يكن زواج عبد الله من آمنة هو بداية أمرك (4) النبي صلى الله عليه وسلم، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان أول بدء أمرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام» (5). ودعوة إبراهيم عليه السلام هي قوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص102. (2) انظر: فقه السنة للبوطي ص45. (3) انظر: وقفات تربوية مع السيرة، أحد فريد ص46. (4) المصدر نفسه، ص46. (5) رواه أحمد (5/ 262)، الحاكم (2/ 600) مجمع الزوائد (8/ 222) , وإسناد أحمد حسن وله شواهد تقويه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة: 129]. وبشرى عيسى: كما أشار إليه قوله عز وجل حاكيا عن المسيح عليه السلام: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف: 6]. وقوله: «ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام» قال ابن رجب: «وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزالت به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15 - 16]. وقال ابن كثير: «وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام؛ ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها, ولهذا جاء في الصحيحين: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»، وفي صحيح البخاري: «وهم بالشام» (1). ثالثًا: ميلاد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين بلا خلاف، والأكثرون على أنه لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول (2). والمجمع عليه أنه عليه الصلاة والسلام ولد عام الفيل (3) وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم (4). قال أحمد شوقي -رحمه الله- في مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ولد الهدى فالكائنات ضياء ... وفم الزمان تبسم وثناء الروح، والملأ، الملائك حوله ... للدين والدنيا به بشراء والعرش يزهو، والحظيرة تزدهي ... والمنتهى والسدرة العصماء   (1) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 184) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (8/ 189) رقم 7311. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي ص47. (3) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (1/ 203). (4) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بك بشر الله السماء فزينت ... وتضوعت مسكا بك الغبراء يوم يتيه على الزمان صباحه ... ومساؤه بمحمد وضاء ذعرت عروش الظالمين فزلزلت ... وعلت على تيجانهم أصداء والنار خاوية الجوانب حولهم ... جمعت ذوائبها وغاض الماء والآي تترى، والخوارق جمة ... جبريل رَّواح بها غدَّاء (1) وقد قال الشاعر الأديب الليبي الأستاذ محمد بشير المغيربي في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم عام 1947م في جريدة الوطن الصادرة في بنغازي: بلغ الزمان من الحياة عتيا ... لكن يومًا لا يزال فتيا يمشي على الأحقاب مشية فاتح ... في موكب جعل السنين مطيا تخدت له الأعوام في أيامها ... عرشًا فأصبح تاجها الأبديا ومضت به الأجيال خطوات من ... بلغ الرشاد وكان قبل صبيا أعظم بيوم جاء يحمل (رحمة ... للعالمين) وعزة ورقيا ولدت به للكائنات حقيقة ... أضحى بها سر الحياة جليا وأنار في الأولى الطريق إلى الورى ... ليسير للأخرى الأنام تقيا كادت به الدنيا تقول لشمسها ... عني فقد رجع الضياء إليا وقال أيضًا في نادي طرابلس الغرب الثقافي في القاهرة في عام 1949م. ما لي وما بي من شمول ... أشدو على رغم العذولْ إِني أطالع في السماء ... كأنها سفر جليل وأرى النجوم تمثلت ... لي كالملائك في مثول والبدر خلت شعاعه ... وحي الرسالة في نزول وإذا بصوت من ضمير ... الكون مبتهجًا يقول في مثل هذي الليلة ... الغراء قد ولد الرسول وأشع نور محمد ... فوق الروابي والسهول ملأ الزمان وكان قبل ... يهيم في ليل طويل رابعًا: مرضعاته عليه الصلاة والسلام: - كانت حاضنته صلى الله عليه وسلم أم أيمن بركة الحبشية أَمَةَ أبيه، وأول من أرضعته ثويبة أَمةُ عمه   (1) انظر: ديوان شوقي (1/ 34، 35). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أبي لهب (1) فمن حديث زينب ابنة أبي سلمة أن أم حبيبة رضي الله عنها أخبرتها أنها قالت: يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: «أو تحبين ذلك؟» فقالت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك لا يحل لي» قالت: فإنا نُحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: «بنت أم سلمة؟» قلت: نعم، فقال: «لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن» (2). وكان من شأن أم أيمن، أم أسامة بن زيد، أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد ما تُوفي أبوه، فكانت أم أيمن تحضنه حتى كَبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة ثم توفيت بعد ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر (3). - حليمة السعدية مرضعته في بني سعد: وهذه حليمة السعدية تقص علينا خبرا فريدا، عن بركات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم التي مستها في نفسها وولدها، ورعيها وبنتها. عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، قال: «لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت حليمة بنت الحارث، في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسون الرضعاء بمكة قالت حليمة: فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي، قمراء (4) ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى، أحد بني سعد بن بكر، ثم أحد بني ناضرة، قد أدمت (5) أتاننا، ومعي بالركب شارف (6) والله ما تبض (7) بقطرة لبن، في سنة شهباء (8) قد جاع الناس حتى خلص إليهم الجهد، ومعي ابن لي، والله ما ينام ليلنا، وما أجد في يدي شيئا أعلله به، إلا أنا نرجو الغيث وكانت لنا غنم، فنحن نرجوها. فلما قدمنا مكة فما بقي منا أحد إلا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهته، فقلنا: إنه يتيم، وإنما يكرم الظئر ويحسن إليها الوالد، فقلنا: ما عسى أن تصنع بنا أمه أو عمه أو جده، فكل صواحبي أخذت رضيعًا، فلما لم أجد غيره، رجعت إليه وأخذته، والله ما أخذته إلا إني لم أجد غيره، فقلت لصاحبي: والله لأخذن هذا اليتيم من بني عبد المطلب، فعسى   (1) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية ص48. (2) البخاري، كتاب النكاح، باب (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ) رقم 5101. (3) مسلم، كتاب الجهاد، باب رد المهاجرين إلى الأنصار، رقم 1771. (4) قمراء: القُمرة لون إلى الخضرة أو بياض فيه كدرة. (5) وأدمت: حدثت في ركبها جروح دامية لاصطكاكها. (6) الشارف: الناقة المسنة. (7) تبض: لا ترشح قطرة لبن. (8) شهباء: سنة مجدبة لا خضرة فيها ولا مطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي ولا آخذ شيئًا، فقال: قد أصبت. قالت: فأخذته، فأتيت به الرحل، فوالله ما هو إلا أن أتيت به الرَّحل، فأمسيت أقبل ثدياي باللبن، حتى أرويته، وأرويت أخاه، وقام أبوه إلى شارفنا تلك يلمسها، فإذا هي حافل (1) فحلبها، فأرواني وروي، فقال: يا حليمة، تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة (2)، ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمن، قالت: فبتنا بخير ليلة، شباعًا، وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا. ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت أتاني القمراء فحملته معي، فوالذي نفس حليمة بيده لقطعت الركب (3) حتى إن النسوة ليقلن: أمسكي علينا، أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟ قالت: فقلت: والله حملت عليها غلاما مباركا. قالت: فخرجنا، فما زال يزيدنا الله في كل يوم خيرًا، حتى قدمنا والبلاد سنة، ولقد كان رعاتنا يسرحون ثم يروحون، فتروح أغنام بني سعد جياعًا، وتروح غنمي بطانًا (4)، حُفَّلاً (5) فنحلب، ونشرب، فيقولون: ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى، وغنم حليمة تروح شباعًا حُفَّلاً، وتروح غنمكم جياعًا، ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعائهم، فيسرحون معهم، فما تروح إلا جياعًا كما كانت، وترجع غنمي كما كانت. قالت: وكان يشب شبابًا ما يشبُّه أحد من الغلمان، يشب في اليوم شباب السنة، فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة، أنا وأبوه، فقلنا: والله لا نفارقه أبدًا ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه، قلنا: والله ما رأينا صبيًا قط أعظم بركة منه، وإنا نتخوف عليه وباء (6) مكة وأسقامها، فدعيه نرجع به حتى تبرئي من دائك، فلم نزل بها حتى أذنت، فرجعنا به، فأقمنا أشهرًا ثلاثة أو أربعة فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه في بهم لنا (7) إذ أتى أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه إن أخي القرشي، أتاه رجلان عليهما ثياب بيض، فأخذاه واضجعاه، فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه يشتد، فوجدناه قائما، قد انتقع لونه (8) فلما رآنا أجهش إلينا، وبكى، قالت: فالتزمته أنا وأبوه، فضممناه إلينا: ما لك بأبي وأمي؟ فقال: «أتاني رجلان   (1) حافل: كثير اللبن. (2) نسمة: نفس. (3) قطعت الركب: سبقت الركب. (4) بطانًا: الممتلئة البطون. (5) حُفَّلاً: كثيرات اللبن. (6) الوباء: المرض (7) البهم: صغار الضأن والماعز. (8) انتقع لونه: تغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وأضجعاني، فشقا بطني، ووضعا به شيئًا، ثم رداه كما هو» فقال أبوه: والله ما أرى ابني إلا وقد أصيب، الحقي بأهله، فرديه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوف منه، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فلما رأتنا أنكرت شأننا، وقالت: ما رجعكما به قبل أن أسألكماه، وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أن قضى الله الرضاعة وسرنا ما نرى، وقلنا: نؤويه كما تحبون أحب إلينا، قال: فقالت: إن لكما شأنا فأخبراني ما هو، فلم تدعنا حتى أخبرناها، فقالت: كلا والله، لا يصنع الله ذلك به، إن لابني شأنا، أفلا أخبركما خبره، إني حملت به، فوالله ما حملت حملا قط، كان أخف علي منه، ولا أيسر منه، ثم أريت حين حملته خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصرى -أو قالت: قصور بصرى-، ثم وضعته حين وضعته فوالله ما وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمدًا بيديه على الأرض رافعًا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما فقبضته، وانطلقنا) (1). 1 - دروس وعبر: أ- بركة النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة حليمة: فقد ظهرت هذه البركة على حليمة السعدية في كل شيء، ظهرت في إدرار ثدييها وغزارة حليبها، وقد كان لا يكفي ولدها، وظهرت بركته في سكون الطفل ولدها، وقد كان كثير البكاء مزعجًا لأمه يؤرقها ويمنعها من النوم، فإذا هو شبعان ساكن جعل أمه تنام وتستريح، وظهرت بركته في شياههم العجفاوات التي لا تدر شيئًا, وإذا بها تفيض من اللبن الكثير الذي لم يُعهد. ب- كانت هذه البركات من أبرز مظاهر إكرام الله له، وأكرم بسببه بيت حليمة السعدية التي تشرفت بإرضاعه، وليس من ذلك غرابة ولا عجب (2)، فخلف ذلك حكمة أن يُحب أهل هذا البيت هذا الطفل ويحنوا عليه ويحسنوا في معاملته ورعايته وحضانته، وهكذا كان فقد كانوا أحرص عليه وأرحم به من أولادهم (3). جـ- خيار الله للعبد أبرك وأفضل: اختار الله لحليمة هذا الطفل اليتيم وأخذته على مضض؛ لأنها لم تجد غيره، فكان الخير كل الخير فيما اختاره الله، وبانت نتائج هذا الاختيار مع بداية أخذه وهذا درس لكل مسلم بأن يطمئن قلبه إلى قدر الله واختياره والرضا به، ولا يندم على ما مضى وما لم يقدره الله تعالى.   (1) أبو يعلي في مجمع الزوائد (8/ 221)، السيرة النبوية بشرح الخشني: (1/ 214) من طريق ابن إسحاق وقد صرح ابن إسحاق بالسماع في رواية السيرة، قال الذهبي في السيرة النبوية ص8: هذا حديث جيد الإسناد وله شواهد تقويها ولذلك فالحديث حسن لشواهده. (2) فقه السيرة النبوية للبوطي, ص44. (3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 د- أثر البادية في صحة الأبدان وصفاء النفوس، وذكاء العقول: قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: وتنشئة الأولاد في البادية, ليمرحوا في كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوها الطلق وشعاعها المرسل، أدنى إلى تزكية الفطرة وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف. إنها لتعاسة أن يعيش أولادنا في شقق ضيقة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش. ولا شك أن اضطراب الأعصاب الذي قارن الحضارة الحديثة يعود -فيما يعود- إلى البعد عن الطبيعة، والإغراق في التصنع، ونحن نقدر لأهل مكة اتجاههم إلى البادية لتكون عرصاتها الفساح مدارج طفولتهم، وكثير من علماء التربية يودون لو تكون الطبيعة هي المعهد الأول للطفل حتى تتسق مداركه مع حقائق الكون الذي وجد فيه ويبدو أن هذا حلم عسر التحقيق (1). وتعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد اللسان العربي الفصيح، وأصبح فيما بعد من أفصح الخلق، فعندما قال له أبو بكر - رضي الله عنه - يا رسول الله ما رأيت أفصح منك. فقال صلى الله عليه وسلم: «وما يمنعني وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد» (2). 2 - ما يستفاد من حادثة شق الصدر: تعد حادثة شق الصدر التي حصلت له عليه الصلاة والسلام أثناء وجوده في مضارب بني سعد من إرهاصات النبوة ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل (3). وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حادثة شق الصدر في صغره، فعن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه (4)، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره- فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال إنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره (5). ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوة، وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه إلا التوحيد الخالص، وقد دلت أحداث   (1) انظر: فقه السيرة ص60، 61. (2) الروض الأنف للسهيلي (1/ 188). (3) انظر: فقه السيرة للبوطي ص47. (4) جمعه وضم بعضه إلى بعض (شرح النووي على مسلم 2/ 216). (5) مسلم، كتاب الإيمان، (1/ 45) رقم 259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 صباه على تحقق ذلك فلم يرتكب إثمًا، ولم يسجد لصنم (1) رغم انتشار ذلك في قريش (2). وتحدث الدكتور البوطي عن الحكمة في ذلك فقال: يبدو أن الحكمة في ذلك إعلان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتهييؤه للعصمة والوحي منذ صغره بوسائل مادية ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به وتصديقهم برسالته، إنها إذن عملية تطهير معنوي، ولكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي، ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس وأبصارهم (3) , إن إخراج العلقة منه تطهير للرسول صلى الله عليه وسلم من حالات الصبا اللاهية العابثة المستهترة, واتصافه بصفات الجد والحزم والاتزان وغيرها من صفات الرجولة الصادقة، كما تدلنا على عناية الله به وحفظه له، وأنه ليس للشيطان عليه سبيل (4). خامسًا: وفاة أمه وكفالة جده ثم عمه: توفيت أم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة, (5) ودفنت بالأبواء, وبعد وفاة أمه كفله جده عبد المطلب، فعاش في كفالته، وكان يؤثره على أبنائه أي أعمام النبي صلى الله عليه وسلم - فقد كان جده مهيبًا, لا يجلس على فراشه أحد من أبنائه مهابة له، وكان أعمامه يتهيبون الجلوس على فراش أبيهم، وكان صلى الله عليه وسلم يجلس على الفراش ويحاول أعمامه أن يبعدوه عن فراش أبيهم, فيقف الأب الجد بجانبه, ويرضى أن يبقى جالسًا على فراشه متوسمًا فيه الخير، وأنه سيكون له شأن عظيم (6) وكان جده يحبه حبًا عظيمًا، وكان إذا أرسله في حاجة جاء بها وذات يوم أرسله في طلب إبل فاحتبس عليه (7) فطاف بالبيت وهو يرتجل يقول: رب رد راكبي محمدا ... رده لي واصنع عندي يدا فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل فقال له: يا بني, لقد حزنت عليك كالمرأة حزنًا لا يفارقني أبدًا (8).   (1) زعم المستشرق نيكلسون أن حديث شق الصدر أسطورة نشأت عن تفسير الآية (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وأنه لو كان لها أصل فعلينا أن نخمن أنها تشير إلى نوع من الصرع، وهذا الذي زعمه نيكسون سبقه إليه المشركون حين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون فنفى الله عنه ذلك (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 104). (3) انظر: فقه السيرة للبوطي, ص47. (4) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص106، 107. (5) ابن هشام في السيرة (1/ 168) وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث. (6) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص101. (7) صحيح السيرة النبوية للعلي (ص 56) وقال: أخرجه الحاكم: (2/ 603، 604) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (8/ 224): رواه أبو يعلى والطبراني وإسناده حسن. (8) صحيح السيرة النبوية للعلي (ص 56) وقال: أخرجه الحاكم: (2/ 603، 604) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (8/ 224): رواه أبو يعلى والطبراني وإسناده حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ثم توفي عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره (1)، فأوصى جده به عمه أبا طالب فكفله عمه وحنّ عليه ورعاه (2). أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيمًا، تتولاه عناية الله وحدها، بعيدًا عن الذراع التي تمعن في تدليله, والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فيلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني (3) وكانت المصائب التي أصابت النبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته كموت أمه ثم جده بعد أن حرم عطف الأب وذاق كأس الحزن مرة بعد مرة، كانت تلك المحن قد جعلته رقيق القلب مرهف الشعور، فالأحزان تصهر النفوس وتخلصها من أدران القسوة والكبر والغرور، وتجعلها أكثر رقة وتواضعًا. سادسًا: عمله صلى الله عليه وسلم في الرعي: كان أبو طالب مُقلاًّ في الرزق فعمل النبي صلى الله عليه وسلم برعي الغنم مساعدة منه لعمه، فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه الكريمة وعن إخوانه من الأنبياء أنهم رعوا الغنم، أما هو فقد رعاها لأهل مكة وهو غلام وأخذ حقه عن رعيه، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم» فقال: أصحابه: وأنت؟ قال: «نعم, كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (4)، إن رعي الغنم كان يتيح للنبي صلى الله عليه وسلم الهدوء الذي تتطلبه نفسه الكريمة، ويتيح له المتعة بجمال الصحراء، ويتيح له التطلع إلى مظاهر جلال الله في عظمة الخلق، ويتيح له مناجاة الوجود في هدأة الليل وظلال القمر ونسمات الأشجار، يتيح له لونًا من التربية النفسية من الصبر والحلم والأناة, والرأفة والرحمة, والعناية بالضعيف حتى يقوى, وزم قوى القوي (5) حتى يستمسك للضعيف ويسير بسيره، وارتياد مشارع الخصب والري وتجنب الهلكة ومواقع الخوف من كل ما لا تتيحه حياة أخرى بعيدة عن جو الصحراء وهدوئها وسياسة هذا الحيوان الأليف الضعيف (6). وتذكرنا رعايته للغنم بأحاديثه صلى الله عليه وسلم التي توجه المسلمين للإحسان للحيوانات (7) فكان   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص101. (2) انظر: مدخل لفهم السيرة، اليحيى ص119. (3) انظر: فقه السيرة للبوطي ص46. (4) البخاري، كتاب الأطعمة (9/ 488) رقم 2262،والقيراط جزء من الدينار أو الدرهم. (5) كذا جاءت هذه الكلمات، ولم أتبين معناها - "المراجع". (6) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (1/ 177). (7) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 106). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 رعي الغنم للنبي صلى الله عليه وسلم دربة ومرانًا له على سياسة الأمم. ورعي الغنم يتيح لصاحبه عدة خصال تربوية منها: 1 - الصبر: على الرعي من طلوع الشمس إلى غروبها، نظرا لبطء الغنم في الأكل، فيحتاج راعيها إلى الصبر والتحمل، وكذا تربية البشر (1). إن الراعي لا يعيش في قصر منيف ولا في ترف وسرف، وإنما يعيش في جو حار شديد الحرارة، وبخاصة في الجزيرة العربية، ويحتاج إلى الماء الغزير ليذهب ظمأه، وهو لا يجد إلا الخشونة في الطعام وشظف العيش، فينبغي أن يحمل نفسه على تحمل هذه الظروف القاسية، ويألفها ويصبر عليها (2). 2 - التواضع: إذ طبيعة عمل الراعي خدمة الغنم, والإشراف على ولادتها، والقيام بحراستها والنوم بالقرب منها، وربما أصابه ما أصابه من رذاذ بولها أو شيء من روثها فلم يتضجر من هذا، ومع المداومة والاستمرار يبعد عن نفسه الكبر والكبرياء، ويرتكز في نفسه خلق التواضع (3)، وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس» (4). 3 - الشجاعة: فطبيعة عمل الراعي الاصطدام بالوحوش المفترسة، فلا بد أن يكون على جانب كبير من الشجاعة تؤهله للقضاء على الوحوش ومنعها من افتراس أغنامه (5). 4 - الرحمة والعطف: إن الراعي يقوم بمقتضى عمله في مساعدة الغنم إن هي مرضت أو كُسرت أو أصيبت، وتدعو حالة مرضها وألمها إلى العطف عليها وعلاجها والتخفيف من آلامها, فمن يرحم الحيوان يكون أشد رحمة بالإنسان، وبخاصة إذا كان رسولاً أرسله الله تبارك وتعالى لتعليم الإنسان, وإرشاده وإنقاذه من النار وإسعاده في الدارين (6). 5 - حب الكسب من عرق الجبين: إن الله قادر على أن يغني محمدا صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمته للأكل من كسب اليد وعرق الجبين، ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد.   (1) انظر: مدخل لفهم السيرة، اليحيى ص124. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص114، 115. (3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص114. (4) مسلم رقم 11. (5) انظر السيرة النبوية لأبي فارس ص114. (6) انظر: مدخل لفهم السيرة ص 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 روى البخاري عن المقدام - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده» (1). ولا شك أن الاعتماد على الكسب الحلال يكسب الإنسان الحرية التامة والقدرة على قول كلمة الحق والصدع بها (2) وكم من الناس يطأطئون رؤوسهم للطغاة، ويسكتون على باطلهم، ويجارونهم في أهوائهم خوفًا على وظائفهم عندهم (3). إن إقبال النبي صلى الله عليه وسلم على رعي الأغنام لقصد كسب القوت والرزق يشير إلى دلائل هامة في شخصيته المباركة منها: الذوق الرفيع والإحساس الدقيق اللذان جمّل الله تعالى بهما نبيه صلى الله عليه وسلم، لقد كان عمه يحوطه بالعناية التامة، وكان له في الحنو والشفقة كالأب الشفوق، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب ويتعب نفسه لمساعدة عمه في مؤونة الإنفاق، وهذا يدل على شهامة في الطبع وبر في المعاملة، وبذل للوسع (4). والدلالة الثانية: تتعلق ببيان نوع الحياة التي يرتضيها الله تعالى لعباده الصالحين في دار الدنيا، لقد كان سهلاً على الله أن يهيئ للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو في صدر حياته من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعيًا وراء الرزق. ولكن الحكمة الربانية تقتضي منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بكد يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه (5). سابعًا: حفظ الله تعالى لنبيه قبل البعثة: إن الله تعالى صان نبيه صلى الله عليه وسلم عن شرك الجاهلية وعبادة الأصنام, روى الإمام أحمد في مسنده عن هشام بن عروة عن أبيه قال: حدثني جار لخديجة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخديجة: «أي خديجة، والله لا أعبد اللات والعزى أبدًا» (6) وكان لا يأكل ما ذبح على النصب، ووافقه في ذلك زيد بن عمرو بن نفيل (7). «وقد حفظه الله تعالى في شبابه من نزعات الشباب ودواعيه البرئية التي تنزع إليها الشبوبية بطبعها، ولكنها لا تلائم وقار الهداة وجلال المرشدين» (8) فعن علي بن أبي   (1) البخاري، كتاب البيوع رقم 2072. (2) انظر: مدخل لفهم السيرة ص128. (3) انظر: فقه السيرة للغضبان ص93. (4) انظر: فقه السيرة للبوطي ص50. (5) المصدر نفسه. (6) المسند ورقمه (17947) وقال محققو طبعة مؤسسة الرسالة: إسناده صحيح، وانظر: وقفات تربوية، أحمد فريد ص51. (7) انظر: وقفات تربوية، أحمد فريد ص51. (8) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (1/ 51). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 طالب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به، إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام أهله يرعاها: أبصر إليَّ غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة، كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء، وضرب دفوف، ومزامير، فقلت: ما هذا؟» فقالوا: فلان تزوج فلانة، رجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا حر الشمس فرجعت فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت، فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته» (1). وهذا الحديث يوضح لنا حقيقتين كل منهما على جانب كبير من الأهمية: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا بخصائص البشرية كلها، وكان يجد في نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميول الفطرية التي اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها، فكان يحس بمعنى السمر واللهو، ويشعر بما في ذلك من متعة، وتحدثه نفسه لو تمتع بشيء من ذلك كما يتمتع الآخرون. 2 - أن الله عز وجل قد عصمه مع ذلك عن جميع مظاهر الانحراف وعن كل ما لا يتفق مع مقتضيات الدعوة التي هيأه الله لها (2). ثامنًا: لقاء الراهب بحيرا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو غلام: «خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش فلما أشرفوا (3) على الراهب (4) هبطوا فحلوا رحالهم (5) فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يسيرون، فلا يخرج إليهم ولا يلتفت. قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب (6) حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من   (1) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي ص57. (2) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص50، 51. (3) أشرفوا: طلعوا. (4) الراهب: زاهد النصارى. (5) حلو رحالهم: أي أنزلوها وفتحوها. (6) يتخللهم: يمشي بينهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرَّ (1) ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف (2) كتفه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به، وكان هو في رعية الإبل (3) قال: أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة (4) تظله, فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة (5) عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. قال: فبينما هو قائم عليهم، وهو يناشدهم (6) أن لا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إذا عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما اخترنا خيره لك لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه. قال: أنشدكم الله أيكم وليه (7)؟ قالوا: أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب (8). ومما يستفاد من قصة بحيرا عدة أمور منها: 1 - أن الصادقين من رهبان أهل الكتاب يعلمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الرسول للبشرية، وعرفوا ذلك لما وجدوه من أمارات وأوصاف عنه في كتبهم. 2 - إثبات سجود الشجر والحجر للنبي صلى الله عليه وسلم، وتظليل الغمام له وميل فيء الشجرة عليه. 3 - أن النبي صلى الله عليه وسلم استفاد من سفره وتجواله مع عمه وبخاصة من أشياخ قريش، حيث اطلع على تجارب الآخرين وخبرتهم، والاستفادة من آرائهم، فهم أصحاب خبرة، ودراية، وتجربة لم يمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في سنه تلك. 4 - حذر بحيرا من النصارى, وناشد عمه وأشياخ مكة ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا عرفوه بالصفة يقتلونه لقد كان الرومان على علم بأن مجيء هذا الرسول سيقضي على نفوذهم الاستعماري في المنطقة، ومن ثم فهو العدو الذي سيقضي على مصالح دولة روما، ويعيد هذه المصالح إلى أربابها، وهذا ما يخشاه الرومان.   (1) خر: سقط. (2) الغضروف: رأس لوح الكتف. (3) رعية الإبل: رعايتها. (4) غمامة: السحابة. (5) مال فيء الشجرة عليه، مال ظلها (6) يناشدهم: يقسم عليهم. (7) أيكم وليه: قريبه. (8) انظر: صحيح السيرة النبوية ص58، 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 تاسعًا: حرب الفِجَار: اندلعت هذه الحرب بين قريش ومن معهم من كنانة وبين هوازن, وسببها أن عروة الرحّال بن عتبة بن هوازن أجار لطيمة (1) للنعمان بن المنذر إلى سوق عكاظ، فقال البرّاض بن قيس بن كنانة: أتجيرها على كنانة؟ قال: نعم، وعلى الخلق, فخرج بها عروة، وخرج البراض يطلب غفلته حتى قتله، وعلمت بذلك كنانة فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم، ثم بلغهم الخبر، فأتبعوهم، فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل ودخلوا الحرم، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم أيامًا، وعاونت قريش كنانة (2) وشهد محمد صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم. وسميت يوم الفجار بسبب ما استحل فيه من حرمات مكة التي كانت مقدسة عند العرب (3).وقد قال صلى الله عليه وسلم عن تلك الحرب: «كنت أنبل على أعمامي» أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها (4). وكان صلى الله عليه وسلم حينئذ ابن أربع عشرة أو خمس عشرة سنة، وقيل ابن عشرين، ويرجح الأول أنه كان يجمع النبال ويناولها لأعمامه، مما يدل على حداثة سنة. وبذلك اكتسب الجرأة والشجاعة والإقدام، وتمرن على القتال منذ ريعان شبابه، وهكذا انتهت هذه الحرب التي كانت كثيرًا ما تشبه حروب العرب، حتى ألف الله بين قلوبهم، وأزاح عنهم هذه الضلالات بانتشار نور الإسلام بينهم (5). عاشرا: حلف الفضول: كان حلف الفضول بعد رجوع قريش من حرب الفجار، وسببه أن رجلا من زبيد (6) قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة ونادى بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر   (1) اللطيمة: الجمال التي تحمل الطيب والبز والتجارة. (2) قريش فرع من كنانة. (3) وقفات تربوية مع السيرة النبوية, ص53. (4) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 221 - 224) , السيرة الحلبية (1/ 127 - 129) (5) انظر: وقفات تربوية, ص53. (6) زبيد: بلد باليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحِجر والحَجَر إن الحرام لم تمت كرامته ... ولا حرم لثوب الفاجر الغُدر (1) فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه ما بل بحر صوفة، وما بقي جَبَلا ثبير وحراء مكانهما (2). ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه. وسمت قريش هذا الحلف حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر. وفي هذا الحلف قال الزبير بن عبد المطلب: إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا ... ألا يقيم ببطن مكة ظالم أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا ... فالجار والمُعترّ (3) فيهم سالم وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحلف الذي هدموا به صرح الظلم، ورفعوا به منار الحق، وهو يعتبر من مفاخر العرب وعرفانهم لحقوق الإنسان. (4) وقد قال صلى الله عليه وسلم: «شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه» (5). وقال صلى الله عليه وسلم: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت» (6). دروس وعبر وفوائد: 1 - إن العدل قيمة مطلقة وليست نسبية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يظهر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين، فالقيم الإيجابية تستحق الإشادة بها حتى لو صدرت من أهل الجاهلية (7). 2 - كان حلف الفضول واحة في ظلام الجاهلية، وفيه دلالة بينة على أن شيوع الفساد في نظام   (1) انظر: الروض الأنف للسهيلي (1/ 155 - 156). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 213). (3) المعتر: الزائر من غير البلاد. (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 214). (5) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي, ص59، وصححه الألباني رحمه الله. (6) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 134) فقه السيرة للغضبان، ص102. (7) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 112). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 أو مجتمع لا يعني خلوه من أي فضيلة, فمكة مجتمع جاهلي هيمنت عليه عبادة الأوثان والمظالم والأخلاق الذميمة كالظلم والزنا والربا، ومع هذا كان فيه رجال أصحاب نخوة ومروءة يكرهون الظلم ولا يقرونه، وفي هذا درس عظيم للدعاة في مجتمعاتهم التي لا تحكِّم الإسلام، أو تحارب الإسلام (1). 3 - إن الظلم مرفوض بأي صورة، ولو وقع الظلم على أقل الناس (2)، إن الإسلام يحارب الظلم ويقف بجانب المظلوم دون النظر إلى لونه ودينه ووطنه وجنسه (3). 4 - جواز التحالف والتعاهد على فعل الخير وهو من قبيل التعاون المأمور به في القرآن الكريم قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]، ويجوز للمسلمين أن يتعاقدوا في مثل هذا الحال لأنه تأكيد لشيء مطلوب شرعًا، على ألا يكون ذلك شبيهًا بمسجد الضرار، بحيث يتحول التعاقد إلى نوع من الحزبية الموجهة ضد مسلمين آخرين ظلمًا وبغيًا، وأما تعاقد المسلمين مع غيرهم على دفع ظلم أو في مواجهة ظالم، فذلك جائز لهم، على أن تلحظ في ذلك مصلحة الإسلام والمسلمين في الحاضر والمستقبل، وفي هذا الحديث دليل (4). والدليل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أن لي به حمر النعم» (5) لما يحقق من عدل، ويمنع من ظلم، أو النكث به مقابل حمر النعم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولو دعيت به في الإسلام لأجبت» (6) طالما أن يردع الظالم عن ظلمه, وقد بين صلى الله عليه وسلم استعداده للإجابة بعد الإسلام لمن ناداه بهذا الحلف (7). 5 - وعلى المسلم أن يكون في مجتمعه إيجابيًا فاعلاً، لا أن يكون رقمًا من الأرقام على هامش الأحداث في بيئته ومجتمعه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محط أنظار مجتمعه، وصار مضرب المثل فيهم، حتى ليلقبوه بالأمين وتهفو إليه قلوب الرجال والنساء على السواء بسبب الخلق الكريم الذي حبا الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم، وما زال يزكو وينمو حتى تعلقت به قلوب قومه, وهذا يعطينا صورة حية عن قيمة الأخلاق في المجتمع، وعن احترام صاحب الخلق ولو في المجتمع المنحرف (8). * * *   (1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان ص110. (2) انظر: فقه السيرة للغضبان ص110. (3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص121. (4) انظر: الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية (1/ 171، 172). (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 134). (6) المصدر نفسه. (7) انظر: الأساس في السنة (4/ 172). (8) انظر: فقه السيرة للغضبان ص110، 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 المبحث السادس تجارته لخديجة وزواجه منها وأهم الأحداث إلى البعثة أولاً: تجارته لخديجة وزواجه منها: كانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أرملة (1) ذات شرف ومال، تستأجر الرجال ليتجروا بمالها، فلما بلغها عن محمد صدق حديثه, وعظم أمانته, وكرم أخلاقه, عرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرًا وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار، فقبل وسافر معه غلامها ميسرة، وقدما الشام، وباع محمد صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد من السلع، فلما رجع إلى مكة وباعت خديجة ما أحضره لها تضاعف مالها. وقد حصل محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة على فوائد عظيمة بالإضافة إلى الأجر الذي ناله، إذ مر بالمدينة التي هاجر إليها من بعد, وجعلها مركزًا لدعوته، وبالبلاد التي فتحها ونشر فيها دينه، كما كانت رحلته سببًا لزواجه من خديجة بعد أن حدثها ميسرة عن سماحته وصدقه وكريم أخلاقه (2)، ورأت خديجة في مالها من البركة ما لم تر قبل هذا وأُخبرت بشمائله الكريمة، ووجدت ضالتها المنشودة, فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه، وهذه ذهبت إليه تفاتحه أن يتزوج خديجة (3) فرضي بذلك، وعرض ذلك على أعمامه، فوافقوا كذلك، وخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب فخطبها إليه، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عشرين بَكرة، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت رضي الله عنها (4)، وقد ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع بنات، وابناه هما: القاسم، وبه كان صلى الله عليه وسلم يكنى وعبد الله، ويلقب بالطاهر والطيب. وقد مات القاسم بعد أن بلغ سنًّا تمكنه من ركوب الدابة، ومات عبد الله وهو طفل، وذلك قبل البعثة. أما بناته فهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وقد أسلمن وهاجرن إلى المدينة وتزوجن (5). هذا وقد كان عمر الرسول صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة رضي الله عنها خمسًا وعشرين سنة، وكان عمرها أربعين سنة (6).   (1) تزوجها عتيق بن عائذ ثم مات عنها، فتزوجها أبو هالة ومات أيضا. (2) انظر: رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر (3/ 27). (3) انظر: مواقف تربوية ص56. (4) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص122. (5) انظر: رسالة الأنبياء (3/ 28). (6) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 دروس وعبر وفوائد: 1 - إن الأمانة والصدق أهم مواصفات التاجر الناجح، وصفة الأمانة والصدق في التجارة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم, هي التي رغبت السيدة خديجة في أن تعطيه مالها ليتاجر به ويسافر به إلى الشام، فبارك الله لها في تجارتها، وفتح الله لها من أبواب الخير ما يليق بكرم الكريم. 2 - إن التجارة مورد من موارد الرزق التي سخرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة, وقد تدرب النبي صلى الله عليه وسلم على فنونها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن التاجر الصدوق الأمين في هذا الدين يُحشر مع الصديقين والشهداء والنبيين، وهذه المهنة مهمة للمسلمين ولا يقع صاحبها تحت إرادة الآخرين واستعبادهم وقهرهم وإذلالهم, فهو ليس في حاجة إليهم, بل هم في حاجة إليه وبحاجة إلى خبرته وأمانته وعفته. 3 - كان زواج الحبيب المصطفى من السيدة خديجة بتقدير الله تعالى، ولقد اختار الله سبحانه وتعالى لنبيه زوجة تناسبه وتؤازره، وتخفف عنه ما يصيبه، وتعينه على حمل تكاليف الرسالة وتعيش همومه (1). قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: وخديجة مثلٌ طيب للمرأة التي تكمل حياة الرجل العظيم، إن أصحاب الرسالات يحملون قلوبًا شديدة الحساسية, ويلقون غَبنا بالغًا من الواقع الذي يريدون تغييره، ويقاسون جهادًا كبيرًا في سبيل الخير الذي يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، وكانت خديجة سباقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمد صلى الله عليه وسلم أثر كريم (2). 4 - نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذاق مرارة فقْد الأبناء، كما ذاق من قبل مرارة فقد الأبوين، وقد شاء الله -وله الحكمة البالغة- ألا يعيش له صلى الله عليه وسلم أحد من الذكور حتى لا يكون مدعاة لافتتان بعض الناس بهم، وادعائهم لهم النبوة، فأعطاه الذكور تكميلا لفطرته البشرية، وقضاء لحاجات النفس الإنسانية، ولئلا ينتقص النبي في كمال رجولته شانئ، أو يتقول عليه متقول، ثم أخذهم في الصغر، وأيضا ليكون ذلك عزاء وسلوى للذين لا يرزقون البنين، أو يرزقون ثم يموتون، كما أنه لون من ألوان الابتلاء، وأشد الناس بلاء الأنبياء (3) , وكأن الله أراد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الرقة الحزينة جزءًًا من كيانه؛ فإن الرجال الذين يسوسون الشعوب لا يجنحون إلى الجبروت, إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة والأثرة، وعاشت في أفراح لا يخامرها كدر، أما الرجل الذي خبر الآلام فهو أسرع الناس إلى مواساة المحزونين ومداواة المجروحين (4).   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 122، 123). (2) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص75. (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 223، 224). (4) انظر: فقه السيرة، للغزالي ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 5 - يتضح للمسلم من خلال قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة، عدم اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسدية ومكملاتها، فلو كان مهتما بذلك كبقية الشباب لطمع بمن هي أقل منه سنًا، أو بمن لا تفوقه في العمر، وإنما رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم لشرفها ومكانتها في قومها، فقد كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة. 6 - وفي زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة ما يلجم ألسنة وأقلام الحاقدين على الإسلام وقوة سلطانه, من المستشرقين وعبيدهم العلمانيين, الذين ظنوا أنهم وجدوا في موضوع زواج النبي صلى الله عليه وسلم مقتلا يصاب منه الإسلام، وصوروا النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل الشهواني الغارق في لذاته وشهواته، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش إلى الخامسة والعشرين من عمره في بيئة جاهلية، عفيف النفس، دون أن ينساق في شيء من التيارات الفاسدة التي تموج حوله، كما أنه تزوج من امرأة لها ما يقارب ضعف عمره، وعاش معها دون أن تمتد عينه إلى شيء مما حوله، وإن من حوله الكثير وله إلى ذلك أكثر من سبيل، إلى أن يتجاوز مرحلة الشباب، ثم الكهولة، ويدخل في سن الشيوخ، وقد ظل هذا الزواج قائما حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عاما، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي امرأة أخرى، وما بين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزمن الذي تتحرك فيه رغبة الاستزادة من النساء والميل إلى تعدد الزوجات للدوافع الشهوانية. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفكر في هذه الفترة بأن يضم إلى خديجة مثلها من النساء: زوجة أو أمة، ولو أراد لكان الكثير من النساء والإماء طوع بنانه. أما زواجه بعد ذلك من السيدة عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين فإن لكل منهن قصة، ولكل زواج حكمة وسبب, يزيدان في إيمان المسلم بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم ورفعة شأنه وكمال أخلاقه (1). ثانيًا: اشتراكه في بناء الكعبة الشريفة: لما بلغ محمد صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لتجديد بناء الكعبة لما أصابها من حريق وسيل جارف صدّع جدرانها، وكانت لا تزال كما بناها إبراهيم عليه السلام رضما (2) فوق القامة فأرادوا هدمها ليرفعوها ويسقفوها, ولكنهم هابوا هدمها، وخافوا منه، فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم نزغ، ولا نريد إلا الخير. وهدم من ناحية الركنين: فتربص الناس تلك الليلة, وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم   (1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص53، 54. (2) الرضم: حجارة منضودة بعضها على بعض من غير طين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد غاديًا يهدم، وهدم الناس معه حتى انتهوا إلى حجارة خُضرة كالأسنمة (1) آخذ بعضها ببعض. وكانوا قد جزؤوا العمل, وخصوا كل قبيلة بناحية، واشترك سادة قريش وشيوخها في نقل الحجارة ورفعها، وقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس في بناء الكعبة وكانا ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة، فخر إلى الأرض (2) وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق فقال: «إزاري إزاري» فشد عليه إزاره (3) فلما بلغوا موضع الحجر الأسود اختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، وكادوا يقتتلون فيما بينهم، لولا أن أبا أمية بن المغيرة قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب المسجد، فلما توافقوا على ذلك دخل محمد صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا, فلما أخبروه الخبر قال: «هلموا ثوبًا؟» فأتوه به فوضع الحجر فيه بيديه ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعًا» فرفعوه، حتى إذا بلغوا موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه. وأصبح ارتفاع الكعبة ثمانية عشر ذراعًا, ورفع بابها عن الأرض بحيث يصعد إليه بدرج، لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاؤوا، وليمنعوا الماء من التسرب إلى جوفها، وأسند سقفها إلى ستة أعمدة من الخشب، إلا أن قريشًا قصرت بها النفقة الطيبة عن إتمام البناء على قواعد إسماعيل، فأخرجوا منها الحِجر، وبنوا عليه جدارًا قصيرًا دلالة على أنه منها؛ لأنهم شرطوا على أنفسهم أن لا يدخل في بنائها إلا نفقة طيبة، ولا يدخلها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة لأحد (4). دروس وعبر وفوائد: 1 - بنيت الكعبة خلال الدهر كله أربع مرات على يقين: فأما المرة الأولى منها: فهي التي قام بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، يعينه ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام. والثانية: فهي تلك التي بنتها قريش قبل البعثة، واشترك في بنائها النبي صلى الله عليه وسلم. والثالثة: عندما احترق البيت من رميه بالمنجنيق في زمن يزيد بن معاوية بفعل الحصار الذي ضربه الحصين السكوني, على ابن الزبير حتى يستسلم، فأعاد ابن الزبير بناءها.   (1) جمع سنام وهو أعلى ظهر البعير. (2) ففعل ذلك فوقع. (3) رواه البخاري، كتاب الحج رقم 1582. (4) انظر: وقفات تربوية ص 57، رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر، (3/ 29، 30). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وأما الرابعة: في زمن عبد الملك بن مروان بعدما قتل ابن الزبير, حيث أعاده على ما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم (1) , لأن ابن الزبير باشر في رفع بناء البيت، وزاد فيه الأذرع الستة التي أخرجت منه، وزاد في طوله إلى السماء عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه، وإنما جرأه على إدخال هذه الزيادة حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا فبلغت به أساس إبراهيم» (2). 2 - طريقة فض التنازع كانت موفقة وعادلة، ورضي بها الجميع وحقنت دماء كثيرة، وأوقفت حروبًا طاحنة، وكان من عدل حكمه أن رضيت به جميع القبائل, ولم تنفرد بشرف وضع الحجر قبيلة دون الأخرى، وهذا من توفيق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وتسديده قبل البعثة، إن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الصفا كان قدرًا من الله، لحل هذه الأزمة المستعصية، التي حُلت نفسيًّا قبل أن تحل على الواقع، فقد أذعن الجميع لما يرتضيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الأمين الذي لا يظلم وهو الأمين الذي لا يحابي ولا يفسد, وهو الأمين على البيت والأرواح والدماء (3). 3 - إن حادثة تجديد بناء الكعبة قد كشفت عن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الأدبية في الوسط القرشي (4) , وحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة شرفان، شرف فصل الخصومة ووقف القتال المتوقع بين قبائل قريش، وشرف تنافس عليه القوم وادخره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ألا وهو وضع الحجر الأسود بيديه الشريفتين، وأخذه من البساط بعد رفعه ووضعه في مكانه من البيت (5). 4 - إن المسلم يجد في حادثة تجديد بناء الكعبة كمال الحفظ الإلهي, وكمال التوفيق الرباني في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما يلاحظ كيف أن الله أكرم رسوله بهذه القدرة الهائلة على حل المشكلات بأقرب طريق وأسهله، وذلك ما تراه في حياته كلها صلى الله عليه وسلم وذلك معلم من معالم رسالته، فرسالته إيصال للحقائق بأقرب طريق، وحل للمشكلات بأسهل أسلوب وأكمله (6). ثالثًا: تهيئة الناس لاستقبال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: شاءت حكمة الله تعالى أن يعد الناس لاستقبال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأمور منها: 1 - بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم: دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يبعث في العرب رسولاً منهم، فأرسل محمدًا إجابة لدعوته، قال تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة: 129] وذكر القرآن الكريم أن الله تعالى أنزل البشارة بمبعث   (1) السيرة النبوية للبوطي، ص57، 58. (2) البخاري: كتاب العلم رقم 126. (3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص125. (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 116). (5) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس, ص125، 126. (6) انظر: الأساس في السنة وفقهها- السيرة النبوية (1/ 175). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء السابقين فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]. وبشر به عيسى عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. وأعلم الله تعالى جميع الأنبياء ببعثته، وأمرهم بتبليغ أتباعهم بوجوب الإيمان به, واتباعه إن هم أدركوه (1) كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]. وقد وقع التحريف في نسخ التوراة والإنجيل, وحذف منهما التصريح باسم محمد صلى الله عليه وسلم إلا توراة السامرة, وإنجيل برنابا الذي كان موجودًا قبل الإسلام, وحرمت الكنيسة تداوله في آخر القرن الخامس الميلادي، وقد أيدته المخطوطات التي عثر عليها في منطقة البحر الميت حديثًا، فقد جاء في إنجيل برنابا العبارات المصرحة باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما جاء في الإصحاح الحادي والأربعين منه ونص العبارة: ([29] فاحتجب الله وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس [30] فلما التفت آدم رأى مكتوبا فوق الباب: لا إله إلا الله محمد رسول الله) (2). قال ابن تيمية: «والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم» ثم قال: «ثم العلم بأن الأنبياء قبله بشروا به يُعلم من وجوه: أحدهما: ما في الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب. الثاني: إخبار من وقف على تلك الكتب, ممن أسلم وممن لم يسلم, بما وجدوه من ذكره بها، وهذا مثل ما تواتر عن الأنصار, أن جيرانهم من أهل الكتاب كانوا يخبرون بمبعثه، وأنه رسول الله, وأنه موجود عندهم، وكانوا ينتظرونه، وكان هذا من أعظم ما دعا الأنصار إلى الإيمان به لما دعاهم إلى الإسلام حتى آمن الأنصار به وبايعوه» (3). فمن حديث سلمة بن سلامة بن وقش - رضي الله عنه - وكان من أصحاب بدر قال: «كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير،   (1) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص101، 102. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 118). (3) انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (1/ 340). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 فوقف على مجلس عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنًّا عليَّ بردة مضطجعًا فيها بفناء أهلي, فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقومٍ، وكانوا أهل شرك وأصحاب أوثان، لا يرون أن بعثًا كائن بعد الموت. فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنًا أن الناس يُبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يُحلف به ولوَدَّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور (1) في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه (2) وأن ينجو من تلك النار غدا. قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد, وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليَّ -وأنا من أحدثهم سنًّا- فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: «فوالله ما ذهب الليل والنهار، حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو حيٌّ بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا فقلنا: ويلك يا فلان: ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى: وليس به» (3). وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله: «قد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم باسمه، ورأيت نسخة أخرى من الزبور فلم أر ذلك فيها، وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس في أخرى» (4). وقد ذكر عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: « .. والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين (5)، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق (6)، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء (7)، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا» (8).   (1) التنور: الفرن. (2) يطبق عليه: يغلق عليه. (3) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي ص31. (4) الجواب الصحيح (1/ 340). (5) حرزا للأميين: حفاظا لهم. (6) السخاب: رفع الصوت بالخصام. (7) العوجاء: ملة إبراهيم التي غيرتها العرب عن استقامتها. (8) البخاري، كتاب التفسير رقم 4838. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ومن حديث كعب الأحبار قال: «إني أجد في التوراة مكتوبًا: محمد رسول الله، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح أمته الحمادون، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبرونه على كل نجد، يأتزرون إلى أنصافهم، ويوضئون أطرافهم, صفُّهم في الصلاة، وصفُّهم في القتال سواء، مناديهم ينادي في جو السماء، لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل، مولده بمكة، ومهجره بطابة، وملكه بالشام» (1). 2 - بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته: أخبر سلمان الفارسي - رضي الله عنه - في قصة إسلامه المشهورة عن راهب عمورية حين حضرته المنية قال لسلمان: «إنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حَرَّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى, يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل» (2). «ثم قصَّ سلمان خبر قدومه إلى المدينة واسترقاقه ولقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم حين الهجرة، وإهدائه له طعامًا على أنه صدقة, فلم يأكل منه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إهدائه له طعاما على أنه هدية وأكله منه، ثم رؤيته خاتم النبوة بين كتفيه، وإسلامه على أثر ذلك» (3). ومن ذلك إخبار أحبار اليهود ورجالاتها بقرب مبعثه عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك قصة أبي التيهان الذي خرج من بلاد الشام ونزل في بني قريظة ثم توفي قبل البعثة النبوية بسنتين، فإنه لما حضرته الوفاة قال لبني قريظة: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير -الشام- إلى أرض البؤس والجوع -يعني: الحجاز-؟ قالوا: أنت أعلم، قال: إني قدمت هذه البلدة أتوكف -أنتظر- خروج نبي قد أظل زمانه، وكنت أرجو أن يبعث فأتبعه. وقد شاع حديث ذلك, وانتشر بين اليهود وغيرهم حتى بلغ درجة القطع عندهم، وبناء عليه كان اليهود يقولون لأهل المدينة المنورة: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم (4)، وكان ذلك الحديث سببًا في إسلام رجال من الأنصار وقد قالوا: «إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى وهداه، لما كنا نسمع من رجال اليهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم» (5).   (1) صحيح السيرة النبوية ص30. (2) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (1/ 300). (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 122). (4) انظر: دراسة تحليلية، د. محمد قلعجي ص107. (5) ابن هشام، بإسناد حسن (1/ 231). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وقد قال هرقل ملك الروم عندما استلم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: «وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم» (1). 3 - الحالة العامة التي وصل إليها الناس: لخص الأستاذ الندوي الحال التي كان عليها العرب وغيرهم وقتذاك بقوله: كانت الأوضاع الفاسدة، والدرجة التي وصل إليها الإنسان في منتصف القرن السادس المسيحي أكبر من أن يقوم لإصلاحها مصلحون ومعلمون في أفراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفي له المصلحون والمعلمون الذين لم يخل منهم عصر ولا مصر. ولكن القضية كانت قضية إزالة أنقاض الجاهلية، ووثنية تخريبية, تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين، وجهود المصلحين والمعلمين، وإقامة بناء شامخ مشيد البنيان، واسع الأرجاء، يسع العالم كله، ويؤوي الأمم كلها، قضية إنشاء إنسان جديد، يختلف عن الإنسان القديم في كل شيء، كأنه ولد من جديد، أو عاش من جديد قال تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122]. قضية اقتلاع جرثومة الفساد واستئصال شأفة الوثنية، واجتثاثها من جذورها، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية, ترسيخًا لا يتصور فوقه، وغرس ميل إلى إرضاء الله وعبادته، وخدمة الإنسانية والانتصار للحق، يتغلب على كل رغبة، ويقهر كل شهوة، ويجرف كل مقاومة وبالجملة الأخذ بحجز الإنسانية المنتحرة التي استجمعت قواها للوثوب في جحيم الدنيا والآخرة، والسلوك بها على طريق أولها سعادة، يحظى بها العارفون المؤمنون, وآخرها جنة الخلد التي وُعد المتقون، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قوله تعالى في معرض المن ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103] (2). 4 - إرهاصات نبوته صلى الله عليه وسلم: ومن إرهاصات نبوته صلى الله عليه وسلم تسليم الحجر عليه قبل النبوة، فعن جابر بن سَمُرَة قال:   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية ص146. (2) السيرة النبوية، للندوي (ص 58، 59)، ونقلها عنه صاحب الأساس في السنة (1/ 180، 181). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن» (1). ومنها الرؤيا الصادقة وهي أول ما بدئ له من الوحي فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (2). وحبب إليه صلى الله عليه وسلم العزلة والتحنث (التعبد) فكان يخلو في غار حراء وهو جبل يقع في الجانب الشمالي الغربي من مكة، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشرة, وتارة أكثر من ذلك إلى شهر، ثم يعود إلى بيته فلا يكاد يمكث فيه قليلا حتى يتزود من جديد لخلوة أخرى، ويعود الكرة إلى غار حراء، وهكذا إلى أن جاءه الوحي وهو في إحدى خلواته تلك (3). * * *   (1) مسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي وتسليم الحجر عليه قبل النبوة رقم 2277. (2) البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 3. (3) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الفصل الثاني نزول الوحي والدعوة السرية المبحث الأول نزول الوحي على سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأربعين من عمره وكان يخلو في غار حراء بنفسه، ويتفكر في هذا الكون وخالقه، وكان تعبده في الغار يستغرق ليالي عديدة حتى إذا نفد الزاد عاد إلى بيته فتزود لليالٍ أخرى (1)، وفي نهار يوم الاثنين من شهر رمضان جاءه جبريل بغتة لأول مرة داخل غار حراء (2)، وقد نقل البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني قال: اقرأ، فقلت: «ما أنا بقارئ» فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: «ما أنا بقارئ» فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [العلق: 1: 4] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجُف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: «زملوني! زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل (3) وتكسب المعدوم (4)،وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق (5)، فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى, ابن عم خديجة، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب   (1) انظر: صحيح السيرة للعلي ص67. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 125). (3) تحمل الكل: تنفق على الضعيف، واليتيم والعيال، والكل أصله: الثقل والإعياء. (4) وتكسب المعدوم: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق .. (5) نوائب الحق: الكوارث والحوادث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى: فقال له ورقة: هذا الناموس (1) الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا (2)، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيّ هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا (3)، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي (4)» (5). عندما نتأمل في حديث السيدة عائشة يمكن للباحث أن يستنتج قضايا مهمة تتعلق بسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن أهمها: أولاً: الرؤيا الصالحة: ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن أول ما بدئ به محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، وتسمى أحيانًا بالرؤيا الصادقة، والمراد بها هنا رؤى جميلة ينشرح لها الصدر وتزكو بها الروح (6) ولعل الحكمة من ابتداء الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي بالمنام، أنه لو لم يبتدئه بالرؤيا, وأتاه الملك فجأة ولم يسبق له أن رأى ملكًا من قبل, فقد يصيبه شيء من الفزع، فلا يستطيع أن يتلقى منه شيئا، لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يأتيه الوحي أولا في المنام ليتدرب عليه ويعتاده (7) والرؤيا الصادقة الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ورد في الحديث الشريف (8) وقد قال العلماء: وكانت مدة الرؤيا الصالحة ستة أشهر، ذكره البيهقي، ولم ينزل عليه شيء من القرآن في النوم بل نزل كله يقظة. والرؤيا الصالحة من البشرى في الحياة الدنيا فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «أيها الناس, إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له» (9). فكان صلى الله عليه وسلم قبل نزول جبريل عليه السلام عليه بالوحي في غار حراء يرى الرؤى الجميلة فيصحو منشرح الصدر، متفتح النفس لكل ما في الحياة من جمال (10)، لقد أجمعت الروايات من   (1) الناموس: هو جبريل عليه السلام. (2) جَذَعا: الشاب القوي. (3) مؤزرا: قويًا بالغًا. (4) فتر الوحي: تأخر نزوله. (5) البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 3. (6) انظر: طريق النبوة والرسالة، حسين مؤنس ص 21. (7) انظر: منامات الرسول صلى الله عليه وسلم، عبد القادر الشيخ إبراهيم ص57. (8) انظر: الرؤيا ضوابطها وتفسيرها، هشام الحمصي ص7. (9) ابن ماجه، كتاب تعبير الرؤيا رقم 3899 حسن الإسناد. (10) انظر: طريق النبوة والرسالة ص22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 حديث بدء الوحي أن أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة الصالحة، يراها في النوم فتجيء في اليقظة كاملة، واضحة كما رآها في النوم، لا يغيب عليه منها شيء كأنما نقشت في قلبه وعقله، وقد شبهت السيدة عائشة رضي الله عنها- وهي من أفصح العرب- ظهور رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا استيقظ بها من كمال وضوحها بظهور ضوء الصبح ينفلق عنه غبش الظلام، وهو تصوير بياني لا تنفلق دنيا العرب في ذرى فصاحتهم عن أبلغ منه (1). ثانيًا: ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه: وقبيل النبوة حبب إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم الخلوة، ليتفرغ قلبه وعقله وروحه إلى ما سيلقى إليه من أعلام النبوة، فاتخذ من غار حراء متعبدًا، لينقطع عن مشاغل الحياة ومخالطة الخلق، واستجماعًا لقواه الفكرية، ومشاعره الروحية، وإحساساته النفسية، ومداركه العقلية، تفرغًا لمناجاة مبدع الكون وخالق الوجود (2) والغار الذي كان يتردد عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يبعث على التأمل والتفكر، تنظر إلى منتهى الطرف فلا ترى إلا جبالاً كأنها ساجدة متطامنة لعظمة الله، وإلا سماء صافية الأديم، وقد يرى من يكون فيه, مكة إذا كان حاد البصر (3). كانت هذه الخلوة التي حببت إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم لونًا من الإعداد الخاص، وتصفية النفس من علائق المادية البشرية إلى جانب تعهده الخاص بالتربية الإلهية والتأديب الرباني في جميع أحواله، وكان تعبده صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بالتفكر في بديع ملكوت السماوات، والنظر في آياته الكونية الدالة على بديع صنعه وعظيم قدرته، ومحكم تدبيره، وعظيم إبداعه (4). وقد أخذ بعض أهل السلوك إلى الله من ذلك, فكرة الخلوة مع الذكر والعبادة في مرحلة من مراحل السلوك، لتنوير قلبه وإزالة ظلمته وإخراجه من غفلته وشهوته وهفوته، ومن سنن النبي صلى الله عليه وسلم سنة الاعتكاف في رمضان (5) وهي مهمة لكل مسلم سواء كان حاكمًا أو عالمًا، أو قائدًا، أو تاجرًا .. لتنقية الشوائب التي تعلق بالنفوس والقلوب، ونصحح واقعنا على ضوء الكتاب والسنة، ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب (6). ويمكن لأهل فقه الدعوة أن يعطوا لأنفسهم فترة من الوقت للمراجعة الشاملة والتوبة، والتأمل في واقع الدعوة وما هي عليه من قوة أو ضعف واكتشاف عوامل الخلل، ومعرفة الواقع بتفاصيله، خيره وشره.   (1) انظر: محمد رسول الله، محمد صادق عرجون (1/ 254). (2) المصدر نفسه (1/ 254). (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 256). (4) انظر: محمد رسول الله، محمد صادق عرجون (1/ 469). (5) انظر: الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية، سعيد حوى (1/ 195). (6) انظر: فقه السيرة للغضبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وفي قول السيدة عائشة: «فيتحنث الليالي ذوات العدد» يقول الشيخ محمد عبد الله دراز: «هذا كناية عن كون هذه الليالي لم تصل إلى نهاية القلة ولا إلى نهاية الكثرة، وما زال هذا الهدي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من التوسط والاقتصاد في الأعمال، شعارًا للملة الإسلامية ورمزًا للهدي النبوي الكريم بعد أن أرسله الله رحمة للعالمين» (1). ثالثًا: حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاء المَلَك فقال: اقرأ. قال: قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [العلق: 1 - 4]. لقد كانت هذه الآيات الكريمات المباركات أول شيء نزل من القرآن الكريم وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وإن من كرم الله تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم, فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به آدم عليه السلام على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون بالكتابة بالبنان (2) وبهذه الآيات كانت بداية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقد كان هذا الحادث ضخمًا، لقد عبر عنه الشهيد سيد قطب -رحمه الله- في ظلاله فقال: «إنه حادث ضخم, ضخم جدًا، ضخم إلى غير حد، ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا! إنه حادث ضخم بحقيقته، وضخم بدلالته، وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعًا، وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد -بغير مبالغة- هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل. ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟ حقيقته أن الله جل جلاله، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم -في عليائه- فأراد أن يرحم هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون, لا يكاد يُرى اسمه الأرض، وكرَّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة .. » (3). كانت بداية الوحي الإلهي فيها إشادة بالقلم وخطره، والعلم ومنزلته, في بناء الشعوب والأمم وفيها إشارة واضحة بأن من أخص خصائص الإنسان العلم والمعرفة (4). وفي هذا الحادث العظيم تظهر مكانة ومنزلة العلم في الإسلام، فأول كلمة في النبوة تصل إلى رسول الله هي الأمر بالقراءة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1].   (1) المختار من كنوز السنة /19 ط2 1978، دار الأنصار / القاهرة. (2) انظر: تفسير ابن كثير (4/ 528). (3) في ظلال القرآن (6/ 3936) (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 260). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وما زال الإسلام يحث على العلم ويأمر به ويرفع درجة أهله ويميزهم على غيرهم قال تعالى: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11] وقال سبحانه (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) [الزمر: 9]. إن مصدر العلم النافع من الله عز وجل، فهو الذي علم بالقلم, وعلم الإنسان ما لم يعلم، ومتى حادت البشرية عن هذا المنهج، وانفصل علمها عن التقيد بمنهج الله تعالى رجع علمها وبالاً عليها وسببًا في إبادتها (1). رابعًا: الشدة التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم ووصف ظاهرة الوحي: لقد قام جبريل عليه السلام بضغط النبي صلى الله عليه وسلم مرارا حتى أجهده وأتعبه، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من الوحي شدة وتعبًا وثقلاً كما قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً) [المزمل: 5]. كان في ذلك حكمة عظيمة لعل منها: بيان أهمية هذا الدين وعظمته وشدة الاهتمام به، وبيان للأمة أن دينها الذي تتنعم به ما جاءها إلا بعد شدة وكرب (2). إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن والقوانين الطبيعية, حيث تلقى النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله (القرآن) بواسطة الملك جبريل (عليه السلام)؛ وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام (3) أو التأمل الباطني, أو الاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وتنحصر وظيفته بحفظ الموحى وتبليغه، وأما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي كما يظهر في أحاديثه وأقواله صلى الله عليه وسلم (4). إن حقيقة الوحي, هي الأساس الذي تترتب عليه جميع حقائق الدين, بعقائده وتشريعاته وأخلاقه, ولذلك اهتم المستشرقون والملاحدة من قبلهم, بالطعن والتشكيك في حقيقة الوحي، وحاولوا أن يأولوا ظاهرة الوحي ويحرفوها عن حقيقتها عما جاءنا في صحاح السنة الشريفة، وحدثنا به المؤرخون الثقات، فقائل يقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، وبعضهم قال بأن محمدًا كان رجلاً عصبيًا أو مصابًا بداء الصرع (5).   (1) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د. يحيى اليحيى ص34. (2) نفس المصدر ص30، 31. (3) أي حديث النفس المجرد. (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 129). (5) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 والحقيقة تقول: إن محمدًا عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيًا داخليًا مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلقٍّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات، وضم الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصور، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخليًا فقط. ولقد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بالرعب والخوف مما سمع ورأى, وأسرع إلى بيته يرجف فؤاده, وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوقا للرسالة التي سيكلف بثقلها وتبليغها للناس, (1) وقد قال تعالى تأكيدا لهذا المعنى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إلى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) [الشورى: 52 - 53]. وقال تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [يونس: 15، 16]. لقد تساقطت آراء المشككين في حقيقة الوحي أمام الحديث الصحيح الذي حدثتنا به السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد استمر الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي، وأنه ليس كما أراد المشككون. وقد أجمل الدكتور البوطي هذه الدلالة فيما يلي: 1 - التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورًا، وعلى حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه؛ لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنبوة به، بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام، أما الحديث فمعناه وحي من الله عز وجل، ولكن لفظه وتركيبه من عنده عليه الصلاة والسلام، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عز وجل الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو. 2 - كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن بعض الأمور، فلا يجيب عليها وربما مر على سكوته زمن طويل، حتى تنزل آية من القرآن في شأن سؤاله، وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزلت آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له. 3 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميًّا .. وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية، كقصة يوسف عليه السلام, وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليم، وقصة   (1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فرعون, ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه صلى الله عليه وسلم أميًّا: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت: 48]. 4 - إن صدق النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة مع قومه واشتهاره فيهم بذلك، يستدعي أن يكون صلى الله عليه وسلم من قبل ذلك صادقًا مع نفسه، ولذا فلا بد أن يكون قد قضى في دراسته لظاهرة الوحي على أي شك يخايل لعينيه أو فكره, وكأن هذه الآية جاءت ردًا لدراسته الأولى لشأن نفسه مع الوحي (فَإِن كُنْتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [يونس: 94]. ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول هذه الآية: «لا أشك ولا أسأل» (1). خامسًا: أنواع الوحي: تحدث العلماء عن أنواع الوحي فذكروا منها: 1 - الرؤيا الصادقة: وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم, وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد جاء في الحديث «رؤيا الأنبياء وحي»، قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ). 2 - الإلهام: وهو أن ينفث الملك في روعه - أي قلبه من غير أن يراه- كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن روح القدس نفث في روعي» (2) أي: إن جبريل عليه السلام نفخ في قلبي: «أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» (3). 3 - أن يأتيه مثل صلصلة الجرس، أي مثل صوته في القوة، وهو أشده، كما في حديث عائشة: أن الحارث - رضي الله عنه - سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي, فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول» (4).   (1) أخرجه الطبراني 17906، 17908، بسنده عن قتادة، تفسير القرطبي، (8/ 340). (2) حديث صحيح بشواهده (زاد المعاد (1/ 78) مؤسسة الرسالة. (3) نفس المصدر (زاد المعاد 1/ 79). (4) البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 4 - ما أوحاه الله تعالى إليه، بلا وساطة ملك, كما كلم الله موسى بن عمران عليه السلام، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعًا بنص القرآن وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء (1). 5 - أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله تعالى أن يوحيه. 6 - أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا (2). هذا ما قاله ابن القيم عن مراتب الوحي. لقد كان نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بداية عهد جديد في حياة الإنسانية بعد ما انقطع، وتاهت البشرية في دياجير الظلام. وكان وقْع نزول الوحي شديدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو واضح من النص, بالرغم من أنه كان أشجع الناس وأقواهم قلبًا، كما دلت على ذلك الأحداث خلال ثلاث وعشرين سنة، وذلك لأن الأمر ليس مخاطبة بشر لبشر، ولكنه كان مخاطبة عظيم الملائكة وهو يحمل كلام الله تعالى, ليستقبله من اصطفاه الله جل وعلا لحمل هذا الكلام وإبلاغه لعامة البشر. ولقد كان موقفًا رهيبًا ومسئولية عظمى, لا يقوى عليها إلا من اختاره الله تبارك وتعالى لحمل هذه الرسالة وتبليغها (3). ومما يصور رهبة هذا الموقف ما جاء في هذه الرواية من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد خشيت على نفسي» وقول عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: (فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها قال: «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع. ومما يبين شدة نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الإمام البخاري ومسلم -رحمهما الله- من حديث عائشة رضي الله عنها: قالت: (ولقد رأيته -تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقًا) (4) وحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وترَبَّد وجهه) (5). سادسًا: أثر المرأة الصالحة في خدمة الدعوة: (فرجع بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: "زملوني زملوني"! فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت   (1) انظر: الرؤى والأحلام في النصوص الشرعية، أسامة عبد القادر ص108. (2) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، (1/ 33 - 34). (3) انظر: التاريخ الإسلامي مواقف وعبر للحميدي (1/ 60). (4) البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 2، مسلم، كتاب الفضائل رقم 2333. (5) مسلم، كتاب الفضائل رقم 2334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 على نفسي". فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك اللّه أبدًا، إِنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). كان موقف خديجة رضي الله عنها يدل على قوة قلبها، حيث لم تفزع من سماع هذا الخبر، واستقبلت الأمر بهدوء وسكينة، ولا أدل على ذلك من ذهابها فور سماعها الخبر إلى ورقة بن نوفل، وعرضت الأمر عليه (1). كان موقف خديجة رضي الله عنها من خبر الوحي يدل على سعة إدراكها، حيث قارنت بين ما سمعت, وواقع النبي صلى الله عليه وسلم, فأدركت أن من جُبِل على مكارم الأخلاق لا يخزيه الله أبدًا، فقد وصفته بأنه يصل الرحم، وكون الإنسان يصل أقاربه دليل على استعداده النفسي لبذل الخير والإحسان إلى الناس، فإن أقارب الإنسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه، فإن نجح في احتواء أقاربه, وكسبهم بما له عليهم من معروف كان طبيعيا بأن ينجح في كسب غيرهم من الناس (2). كانت أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها قد سارعت إلى إيمانها الفطري، وإلى معرفتها بسنن الله تعالى في خلقه، وإلى يقينها بما يملك محمد صلى الله عليه وسلم من رصيد الأخلاق، وفضائل الشمائل، ليس لأحد من البشر رصيد مثله في حياته الطبيعية التي يعيش بها مع الناس، وإلى ما ألهمت بسوابق العناية الربانية التي شهدت آياتها من حفاوة الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم في مواقف, لم تكن من مواقف النبوة والرسالة، ولا من إرهاصاتها المعجزة، وأعاجيبها الخارقة، ولكنها كانت من مواقف الفضائل الإنسانية السارية في حياة ذوي المكارم، من أصحاب المروءات في خاصة البشر (3). كانت موقنة بأن زوجها فيه من خصال الجبلة الكمالية ومحاسن الأخلاق الرصينة، وفضائل الشيم المرضية، وأشرف الشمائل العلية، وأكمل النحائز الإنسانية ما يضمن له الفوز, ويحقق له النجاح والفلاح, فقد استدلت بكلماتها العميقة على الكمال المحمدي (4) , فقد استنبطت خديجة رضي الله عنها من اتصاف محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الصفات على أنه لن يتعرض في حياته للخزي قط؛ لأن الله تعالى فطره على مكارم الأخلاق، وضربت المثل بما ذكرته من أصولها الجامعة لكمالاتها. ولم تعرف الحياة في سنن الكون الاجتماعية أن الله تعالى جمَّل أحدًا من عباده بفطرة الأخلاق الكريمة، ثم أذاقه الخزي في حياته، ومحمد صلى الله عليه وسلم بلغ من المكارم ذروتها، فطرة فطره   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/ 61). (2) انظر التاريخ الإسلامي للحميدي (1/ 64). (3) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (1/ 307). (4) انظر: محمد رسول الله، عرجون (1/ 307، 308). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الله عليها، لا تُطاول ولا تُسامى (1). ولم تكتفِ خديجة رضي الله عنها بمكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم دليلاً على نبوته, بل ذهبت إلى ابن عمها العالم الجليل ورقة بن نوفل -رحمه الله- الذي كان ينتظر ظهور نبي آخر الزمان, لما عرفه من علماء أهل الكتاب, على دنو زمانه, واقتراب مبعثه، وكان لحديث ورقة أثر طيب في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه, وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الذي خاطبه هو صاحب السر الأعظم الذي يكون سفيرا بين الله تعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ومن أشعار ورقة التي تدل على انتظاره لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: لَجِجت وكنت في الذكرى لجوجًا ... لَهمٍّ طالما بعث النَّشيجا ووصفٍ من خديجة بعد وصفٍ ... فقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكَّتين (2) على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا بما خَبرَّتنا من قول قَس ... من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمدًا سيسود فينا ... ويَخْصِم من يكون له حجيجا (3) لقد صدَّق ورقة بن نوفل برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد له النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة فقد جاء في رواية أخرجها الحاكم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين» (4). وعن عائشة رضي الله عنها أن خديجة رضي الله عنها سألت رسول الله عن ورقة فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثيابًا بيضًا، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» قال الهيثمي: وروى أبو يعلى بسند حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال: «أبصرته في بُطنان (5) الجنة وعليه السندس» (6). لقد قامت خديجة رضي الله عنها بدور مهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما لها من شخصية في مجتمع قومها، ولما جبلت عليه من الكفاءة في المجالات النفسية التي تقوم على الأخلاق العالية, من الرحمة والحلم والحكمة والحزم, وغير ذلك من مكارم الأخلاق, والرسول صلى الله عليه وسلم قد وفقه الله تعالى إلى هذه الزوجة المثالية؛ لأنه قدوة للعالمين وخاصة للدعاة إلى الله، فقيام   (1) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (1/ 232). (2) المكتين: جانبا مكة، أو بطاحها وظواهرها. (3) سيرة ابن هشام (1/ 191، 192). (4) المستدرك (2/ 609) وقال: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي. (5) بطنان: البطنان من الشيء: وسطه. (6) رواه أبو يعلى برقم (2047) جـ 4/ 41، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 416) وقال: فيه مجالد -وهذا مما مدح من حديث مجالد- وبقية رجاله رجال الصحيح، وأورده عن جابر أيضاً، وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير مجالد وقد وثق .. إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 خديجة بذلك الدور الكبير إعلام من الله تعالى لجميع حملة الدعوة الإسلامية بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق لهم بلوغ المقاصد العالية التي يسعون لتحقيقها (1). إن السيدة خديجة رضي الله عنها مثال حسن, وقدوة رفيعة لزوجات الدعاة، فالداعية إلى الله ليس كباقي الرجال الذين هم بعيدون عن أعباء الدعوة، ومن الصعب أن يكون مثلهم في كل شيء، إنه صاحب همٍّ ورسالة، همٍّ على ضياع أمته، وانتشار الفساد، وزيادة شوكة أهله، وهمٍّ لما يصيب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من مؤامرات, وظلم وجوع، وإذلال، وما يصيب الدعاة منهم من تشريد وتضييق وتنكيل، وبعد ذلك هو صاحب رسالة واجب عليه تبليغها للآخرين، وهذا الواجب يتطلب وقتًا طويلاً يأخذ عليه أوقات نومه وراحته، وأوقات زوجته وأبنائه، ويتطلب تضحية بالمال والوقت والدنيا بأسرها ما دام ذلك في سبيل الله ومرضاته، وإن أوتيت الزوجة من الأخلاق والتقوى والجمال والحسب ما أوتيت، إنه يحتاج إلى زوجة تدرك واجب الدعوة وأهميته، وتدرك تمامًا ما يقوم به الزوج وما يتحمله من أعباء، وما يعانيه من مشاقّ, فتقف إلى جانبه تيسر له مهمته وتعينه عليها، لا أن تقف عائقا وشوكة في طريقه (2). إن المرأة الصالحة لها أثر في نجاح الدعوة، وقد اتضح ذلك في موقف خديجة رضي الله عنها وما قامت به من الوقوف بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه الوحي لأول مرة، ولا شك أن الزوجة الصالحة المؤهلة لحمل مثل هذه الرسالة لها دور عظيم في نجاح زوجها في مهمته في هذه الحياة، وبخاصة الأمور التي يعامل بها الناس، وإن الدعوة إلى الله تعالى هي أعظم أمر يتحمله البشر، فإذا وفق الداعية لزوجة صالحة ذات كفاءة فإن ذلك من أهم نجاحه مع الآخرين (3) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» (4). سابعًا: وفاء النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة خديجة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً عاليًا للوفاء ورد الجميل لأهله، فقد كان في غاية الوفاء مع زوجته المخلصة, في حياتها وبعد مماتها، وقد بشرها صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة في حياتها، وأبلغها سلام الله جل وعلا, وسلام جبريل عليه السلام، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام -أو طعام أو شراب- فإذا هي أتتك فاقرأ   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/ 69). (2) انظر: وقفات تربوية من السيرة النبوية، البلالي ص40. (3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/ 68). (4) رواه مسلم رقم 1467, ص1090، كتاب الرضاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 عليها السلام من ربها, عز وجل, ومني, وبشرها ببيت في الجنة من قصب (1) لا صخب فيه ولا نصب» (2). وتذكر عائشة رضي الله عنها وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بعد وفاتها بقولها: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة, وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطّعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها الولد» (3). وأظهر صلى الله عليه وسلم البشاشة والسرور لأخت خديجة لما استأذنت عليه لتذكُّره خديجة, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة (4) فارتاح لذلك، فقال: «اللهم هالة بنت خويلد» فغرت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين (5) هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرًا منها (6)، وأظهر صلى الله عليه وسلم الحفاوة بامرأة كانت تأتيهم زمن خديجة وبين أن حفظ العهد من الإيمان (7). ثامنًا: سنة تكذيب المرسلين: (يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَوَ مُخرجيّ هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا) (8) فقد بين الحديث سنة من سنن الأمم مع من يدعوهم إلى الله عز وجل وهي التكذيب والإخراج, كما قال تعالى عن قوم لوط: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النمل: 56]. وكما قال قوم شعيب: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) [الأعراف: 88]. وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم: 13].   (1) يعني: من لؤلؤ أو ذهب. (2) مسلم، كتاب فضائل الصحابة ص1887، رقم 2432. (3) البخاري، كتاب مناقب الأنصار (7/ 132) (4) يعني لتشابه صوتيهما. (5) يعني لا أسنان لها من الكبر. (6) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، ص1889 رقم 2437. (7) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/ 71). (8) البخاري، كتاب الوحي، مسلم (2/ 197 - 204) الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 تاسعًا: قوله «وفتر الوحي»: تحدث علماء السيرة قديمًا وحديثًا عن فترة الوحي، فقال الحافظ ابن حجر: وفتور الوحي عبارة عن تأخيره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود (1). فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث- أي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم- عن فترة الوحي: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر:1 - 5] فحمى الوحي وتتابع» (2). وقال صفي الرحمن المباركفوري: أما مدة فترة الوحي فاختلفوا فيها على عدة أقوال, والصحيح أنها كانت أيامًا, وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك، وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنين أو سنتين ونصف فليس بصحيح (3) , وأما ما جاء بلاغًا أنه صلى الله عليه وسلم حزن حزنًا جعله يغدو ليتردى من شواهق الجبال، وأن جبريل عليه السلام كان يظهر له في كل مرة ويبشره بأنه رسول الله فمرسل ضعيف، كما أنه يتنافى مع عصمة النبي صلى الله عليه وسلم (4) (5). المبحث الثاني الدعوة السرية أولاً: الأمر الرباني بتبليغ الرسالة: عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أصبح نبيا لله الرحيم الكريم، وجاء جبريل عليه السلام للمرة الثانية، وأنزل الله على نبيه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 1 - 4].   (1) فتح الباري (1/ 36). (2) البخاري، بدء الوحي رقم 4. (3) انظر: الرحيق المختوم (ص 79، 80). (4) انظر: الروض الأنف للسهيلي، (2/ 433 - 434). (5) تعليق: ما ورد حول روايات هَم رسول - صلى الله عليه وسلم - بالتردي من شواهق الجبال في مدة فترة الوحي، يرجع فيه إلى فتح الباري -على سبيل المثال- (جـ 1/ 27، جـ 12/ 352، 359 - 361) وإلى معالجة الشيخ العلامة محمد الصادق عرجون في كتابه (محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) جـ 1/ 385 - 458 - على سبيل المثال أيضاً- ليقف على الاجتهادات والفهوم النبيلة، التي لا تقصد إلا الوصول إلى ما يتفق مع جلال هذا الدين، ومستيقنات أركانه الركينة، رَحِمَ الله ررضيَ عن أئمة هذا الدين وعلمائه المكرمين (المراجع). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 كانت هذه الآيات المتتابعة إيذانًا للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الماضي قد انتهى بمنامه وهدوئه، وأنه أمامه عمل عظيم, يستدعي اليقظة والتشمير، والإنذار والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس، وليأنس بالوحي، وليقوَ على عنائه فإنه مصدر رسالته ومدد دعوته (1). وتعد هذه الآيات أول أمر بتبليغ الدعوة، والقيام بالتبعة، وقد أشارت هذه الآيات إلى أمور هي خلاصة الدعوة المحمدية، والحقائق الإسلامية التي بني عليها الإسلام كله، وهي الوحدانية, والإيمان باليوم الآخر، وتطهير النفوس، ودفع الفساد عن الجماعة، وجلب النفع (2). كانت هذه الآيات تهييجًا لعزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لينهض بعبء ما كُلِّفه من تبليغ رسالات ربه، فيمضي قُدمًا بدعوته، لا يبالي العقبات والحواجز، كان هذا النداء المتلطف (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) إيذانا بشحذ العزائم, وتوديعًا لأوقات النوم والراحة, وجاء عقب هذا النداء الأمر الجازم بالنهوض (قُمْ) في عزيمة ناهضة وقوة حازمة، تتحرك في اتجاه تحقيق واجب التبليغ، وفي مجيء الأمر بالإنذار منفردًا عن التبشير في أول خطاب وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي, إيذان بأن رسالته تعتمد على الكفاح الصبور، والجهاد المرير، ثم زادت الآيات في تقوية عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم، وشد أزره وحضه على المضي قدما إلى غاية ما أمر به، غير عابئ بما يعترض طريقه من عقبات مهما يكن شأنها فقيل له: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي: لا تعظم شيئا من أمور الخلق, ولا يتعاظمك منهم شيء, فلا تتهيب فعلا من أفعالهم، ولا تخشى أحدًا منهم، ولا تعظم إلا ربك الذي تعهدك وأنت في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، فرباك على موائد فضله، ورعاك بإحسانه وجوده, حتى أخرجك للناس نبيًّا ورسولاً، بعد أن أعدّك خَلْقًا وخُلُقًا، لتحمل أمانة أعظم رسالاته، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) فكل تعظيم وتكبير وإجلال حق لله تعالى وحده، لا يشاركه فيه أحد، أو شيء من مخلوقاته (3). وفي قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) فكأنه قيل له صلى الله عليه وسلم: فأنت على طهرك وتطهرك بفطرتك في كمال إنسانيتك بما جبلك الله عليه من أكرم مكارم الأخلاق، وبما حباك به من نبوته ليعدَّك بها ليومك هذا, أحوج إلى أن تزداد في تطهرك النفسي، فتزداد من المكارم في حياتك مع الناس والأشياء، فأنت اليوم رسول الله إلى العالمين، وكمال الرسالة في كمال الخلق الاجتماعي, صبرًا، وحلمًا، وعفوًا، وإحسانًا ودُؤُوبًا على الجد في تبليغ الدعوة إلى الله تعالى, ولا يثنيك إيذاء, ولا يقعدك عن المضي إلى غايتك فادح البلاء (4).   (1) انظر: فقه السيرة للغزالي ص90. (2) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، د. كامل سلامة، ص181. (3) انظر: محمد رسول الله, صادق عرجون (1/ 589، 590، 591). (4) محمد رسول الله ص (1/ 592، 593). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وفي قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فكأنه قيل له صلى الله عليه وسلم: ليكن قصدك ونيتك في تركك ما تركت، فطرة وطبعًا هَجْرَه تكليفًا وتعبدًا لتكون قدوة أمتك، وعنوان تطهرها بهداية رسالتك (1). ثانيًا: بدء الدعوة السرية: بعد نزول آيات المدثر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرًّا، وكان طبيعيًا أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه، وأقرب الناس إليه. 1 - إسلام السيدة خديجة رضي الله عنها: كان أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من النساء، بل أول من آمن به على الإطلاق السيدة خديجة رضي الله عنها، فكانت أول من استمع إلى الوحي الإلهي من فم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت أول من تلا القرآن بعد أن سمعته من صوت الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وكانت كذلك أول من تعلم الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتها هو أول مكان تُلي فيه أول وحي نزل به جبريل على قلب المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم بعد غار حراء (2). كان أول شيء فرضه الله من الشرائع بعد الإقرار بالتوحيد إقامة الصلاة، وقد جاء في الأخبار حديث تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم زوجه خديجة الوضوء والصلاة, حين افترضت على رسول الله؛ أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين, فتوضأ جبريل عليه السلام, والرسول ينظر ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ، ثم قام جبريل عليه السلام فصلى به وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل عليه السلام فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها, يريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل عليه السلام، فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل عليه السلام (3). 2 - إسلام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: وبعد إيمان السيدة خديجة دخل علي بن أبي طالب في الإسلام، وكان أول من آمن من الصبيان، وكانت سنه إذ ذاك عشر سنين على أرجح الأقوال، وهو قول الطبري وابن إسحاق (4)، وقد أنعم الله عليه بأن جعله يتربى في حجر رسوله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام, حيث أخذه من عمه أبي طالب وضمه إليه. (5) وكان علي - رضي الله عنه - ثالث من أقام الصلاة بعد رسول الله وبعد   (1) المصدر نفسه (1/ 592، 593) بتصرف كبير. (2) انظر: المرأة في العهد النبوي، د. عصمة الدين كركر ص36. (3) انظر: ابن هشام (1/ 244) , من معين السيرة صالح الشامي ص41. (4) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 284). (5) ابن هشام (1/ 246). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 خديجة رضي الله عنها (1). وقد ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه، ومن جميع أعمامه, وسائر قومه, فيصليان الصلوات فيها, فإذا أمسيا رجعا, ليضمهما ذلك البيت الطاهر التقي بالإيمان, المفعم بصدق الوفاء وكرم المنبت (2). 3 - إسلام زيد بن حارثة - رضي الله عنه -: هو أول من آمن بالدعوة من الموالي (3) حِبّ النبي صلى الله عليه وسلم ومولاه، ومُتَبنَّاه: زيد بن حارثة الكلبي, الذي آثر رسولَ الله على والده وأهله، عندما جاءوا إلى مكة لشرائه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فترك رسول الله الأمر لحارثة فقال زيد لرسول الله: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، وأنت مني بمنزلة الأب والعم، فقال له والده وعمه: ويحك تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم، وإني رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا (4). 4 - إسلام بنات النبي صلى الله عليه وسلم: وكذلك سارع إلى الإسلام بنات النبي صلى الله عليه وسلم، كل من زينب، وأم كلثوم، وفاطمة ورقية، فقد تأثرن قبل البعثة بوالدهن صلى الله عليه وسلم في الاستقامة وحسن السيرة، والتنزه عما كان يفعله أهل الجاهلية، من عبادة الأصنام والوقوع في الآثام، وقد تأثرن بوالدتهن، فأسرعن إلى الإيمان (5)، وبذلك أصبح بيت النبي صلى الله عليه وسلم أول أسرة مؤمنة بالله تعالى منقادة لشرعه في الإسلام، ولهذا البيت النبوي الأول مكانة عظمى في تاريخ الدعوة الإسلامية, لما حباه الله به من مزايا وخصه بشرف الأسبقية في الإيمان وتلاوة القرآن وإقام الصلاة فهو: * أول مكان تُلي فيه وحي السماء بعد غار حراء. * وهو أول بيت ضم المؤمنة الأولى سابقة السبق إلى الإسلام. * وهو أول بيت أقيمت فيه الصلاة. * وهو أول بيت اجتمع فيه المؤمنون الثلاثة السابقون إلى الإسلام، خديجة وعلي وزيد بن حارثة.   (1) عيون الأثر، ابن سيد الناس (1/ 115). (2) انظر: المرأة في العهد النبوي، د. عصمة الدين ص42. (3) يطلق المولى على السيد، وعلى المملوك الذي أعتق وهو المراد هنا. (4) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول د. محمد قلعجي ص191. (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 284). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وهو أول بيت تعهد بالنصرة، ولم يتقاعس فيه فرد من أفراده كبارا أو صغارا عن مساندة الدعوة (1). يحق لهذا البيت أن يكون قدوة، ويحق لربته أن تكون مثالاً ونموذجًا حيًّا لبيوت المسلمين ولنسائهم ورجال المؤمنين كافة، فالزوجة فيه طاهرة مؤمنة, مخلصة, وزيرة الصدق والأمان، وابن العم المحضون والمكفول, مستجيب ومعضد ورفيق، والمتبنى مؤمن صادق مساعد ومعين، والبنات مصدقات مستجيبات مؤمنات ممتثلات (2). وهكذا كان للبيت النبوي مكانته الأولى, والواجب يدعو إلى أن يكون قدوتنا والأنموذج الذي نسير على هديه في المعاشرة, ومثالية السلوك بالصدق والتصديق، في الاستجابة والعمل لكل من آمن بالله ربًّا وبمحمد نبيًّا ورسولاً (3). إن الحقيقة البارزة في المنهج الرباني تشير إلى أهمية بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة، كأول حلقة من حلقات الإصلاح، والبناء، ثم المجتمع الصالح، ولقد تجلت عناية الإسلام بالفرد المسلم وتكوينه ووجوب أن يسبق أي عمل آخر، فالفرد المسلم هو حجر الزاوية في أي بناء اجتماعي, ولما كانت الأسرة التي تستقبل الفرد منذ ولادته وتستمر معه مدة طويلة من حياته، بل هي التي تحيط به طوال حياته، فهي المحضن المتقدم الذي تتحدد به معالم الشخصية وخصائصها وصفاتها، كما أنها الوسيط بين الفرد والمجتمع، فإذا كان هذا الوسط سليمًا قويًّا أمد طرفيه -الفرد والمجتمع- بالسلامة والقوة (4). ولهذا اهتم الإسلام بالأسرة واتجه إليها, يضع لها الأسس التي تكفل قيامها ونموها نموًّا سليمًا، ويوجهها الوجهة الربانية لتكون حلقة قوية في بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية التي تسعى لصناعة الحضارة الربانية في دنيا الناس (5). 5 - إسلام أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال الأحرار، والأشراف، فهو من أخص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة, وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة، وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عكم (6) حين دعوته ولا تردد   (1) انظر: المرأة في العهد النبوي د. عصمة الدين ص43. (2) نفس المصدر ص45. (3) نفس المصدر ص46. (4) انظر: دولة الرسول من التكوين حتى التمكين، كامل سلامة ص208. (5) نفس المصدر ص208. (6) ما تلبث بل سارع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فيه» (1)، فأبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو حسنة من حسناته عليه الصلاة والسلام, لم يكن إسلامه إسلام رجل، بل كان إسلامه إسلام أمة، فهو في قريش كما ذكر ابن إسحاق في موقع العين منها: - كان رجلا مألفًا لقومه محببًا سهلاً. - وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها, وبما كان فيها من خير وشر. - وكان رجلاً تاجرًا. - ذا خلق ومعروف. - وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر, لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته (2). لقد كان أبو بكر كنزًا من الكنوز، ادخره الله تعالى لنبيه، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه, جعله من الموطئين أكنافا، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كافٍ لألفة القوم, وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر» (3) وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصديق بأنه أعلمها بأنسابها، وأعلمها بتاريخها، وما فيه من خير وشر فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علمًا لا تجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون، والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائمًا، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته، وطبقة رجال الأعمال، ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق، فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قصاده، ولطيبته وحسن خلقه تلقى عوام الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه (4) كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيما، ولذلك عندما تحرك في دعوته للإسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق وهم: * عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في الرابعة والثلاثين من عمره.   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 284). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 371). (3) أورده الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/ 8) ج3. (4) انظر: التربية القيادية للغضبان (1/ 115). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 *عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في الثلاثين من عمره. * سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وكان في السابعة عشرة من عمره. * والزبير بن العوام - رضي الله عنه - وكان في الثانية عشرة من عمره. * وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - وكان في الثالثة عشرة من عمره (1). كان هؤلاء الأبطال الخمسة أول ثمرة من ثمار الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - , دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا، وجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرادى، فأسلموا بين يديه، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهم أعزه الله وأيده, وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، رجالاً ونساءً، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد، والاثنين، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الإسلام (2). إن تحرك أبي بكر - رضي الله عنه - في الدعوة إلى الله تعالى يوضح صورة من صور الإيمان بهذا الدين والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم, صورة المؤمن الذي لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما تخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسته إلى أن توفاه الله جل وعلا لم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز. ونلاحظ أن أصحاب الجاه لهم أثر كبير في كسب أنصار للدعوة، ولهذا كان أثر أبي بكر - رضي الله عنه - في الإسلام أكثر من غيره (3). بعد أن كانت صحبة الصديق لرسول الله، مبنية على مجرد الاستئناس النفسي والخلقي, صارت الأنسة بالإيمان بالله وحده، وبالمؤازرة في الشدائد، واتخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام من مكانة أبي بكر، وأُنس الناس به ومكانته عندهم قوة لدعوة الحق، فوق ما كان له عليه الصلاة والسلام من قوة نفس، ومكانة عند الله وعند الناس (4). ومضت الدعوة سرية وفردية على الاصطفاء, والاختيار للعناصر التي تصلح أن تتكون منها الجماعة المؤمنة, التي ستسعى لإقامة دولة الإسلام ودعوة الخلق إلى دين رب العباد والتي ستقيم حضارة ربانية ليس لها مثيل.   (1) انظر: التربية القيادية (1/ 116). (2) انظر: محمد رسول الله، عرجون (1/ 533). (3) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة د. يحيى اليحيى ص62. (4) انظر: خاتم النبيين لأبي زهرة ص398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 6 - الدفعة الثانية: جاء دور الدفعة الثانية، بعد إسلام الدفعة الأولى، فأول من أسلم من هذه الدفعة: أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن مخزوم بن مرة ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم (برة بنت عبد المطلب) وأخوه من الرضاع، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقدامة وعبد الله ابنا مظعون، وفاطمة بنت الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب، وزوجة سعيد بن زيد، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وخباب بن الأرت حليف بني زهرة (1). 7 - الدفعة الثالثة: أسلم عمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم .. بن هذيل, ومسعود بن القاري، وهو مسعود بن ربيعة، بن عمرو، بن سعيد بن عبد العزى، بن حمالة بن القارة. وأسلم سليط بن عمرو، وأخوه حاطب بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلامة، وخنيس بن حذافة السهمي، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب وعبد الله بن جحش وأخوه أحمد، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فاطمة بنت المجلل، وأخوه حطاب بن الحارث, وامرأته فُكَيهة بنت يسار وأخوهما مَعْْمَر بن الحارث، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب ابن أزهر، وامرأته رملة بنت أبي عوف، والنحَّام بن عبد الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وفهيرة وأمه، وكان عبدًا للطفيل بن الحارث بن سخبرة، فاشتراه الصديق وأعتقه، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وامرأته أُمَينة بنت خلف، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف، وخالد وعامر وعاقل وإياس بنو البكير بن عبد ياليل، وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم بن يقظة، وقال ابن هشام: عَنْسي من مَذْحج. وصهيب بن سنان, هو (سابق الروم). ومن السابقين إلى الإسلام: أبو ذر الغفاري، وأخوه أنيس، وأمه (2). ومن أوائل السابقين: بلال بن رباح الحبشي. وهؤلاء السابقون من جميع بطون قريش, عدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفرًا (3).   (1) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين, ص212. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 287). (3) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 245 إلى 262). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وقال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام في مكة، وتُحدِّث به (1). ويتضح من عرض الأسماء السابقة، أن السابقين الأولين إلى الإسلام كانوا خيرة أقوامهم، ولم يكونوا كما يقول بعض الباحثين في السيرة: إنهم من حثالة الناس، أو من الأرقاء الذين أرادوا استعادة حريتهم أو ما شابه ذلك- وجانب الصواب بعض كُتَّاب السيرة لدى حديثهم عن السابقين الأولين إلى الإسلام، عندما وصفوهم بأن معظمهم كان خليطًا من الفقراء والضعفاء والأرقاء فما الحكمة في ذلك؟). وبقولهم: كان رصيد هذه الدعوة بعد سنوات ثلاث من بدايتها, أربعين رجلاً وامرأة, عامتهم من الفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء، وفي مقدمتهم أخلاط من مختلف الأعاجم: صهيب الرومي وبلال الحبشي) إن البحث الدقيق يثبت أن مجموع من أشير إليهم بالفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء والأخلاط من مختلف الأعاجم هو ثلاثة عشر، ونسبة هذا العدد من العدد الكلي من الداخلين في الإسلام لا يقال «أكثرهم» ولا «معظمهم» ولا «عامتهم». إن الذين أسلموا يومئذ لم يكن يدفعهم دافع دنيوي، وإنما هو إيمانهم بالحق الذي شرح الله صدورهم له, ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم, يشترك في ذلك الشريف والرقيق، والغني والفقير, ويتساوى في هذا أبو بكر وبلال وعثمان وصهيب (2)، رضي الله عنهم. ويقول الأستاذ صالح الشامي: نحن لا نريد أن ننفي وجود الضعفاء والأرقاء ولكن نريد أن ننفي أن يكونوا هم الغالبية - لأن هذا مخالف للحقائق الثابتة - ولو كانوا كذلك لكانت دعوة طبقية, يقوم فيها الضعفاء والأرقاء ضد الأقوياء وأصحاب السلطة والنفوذ، ككل الحركات التي تقاد من خلال البطون، إن هذا لم يدر بخلد أي من المسلمين وهو يعلن إسلامه، إنهم يدخلون في هذا الدين على اعتبارهم إخوة في ظل هذه العقيدة، عبادا لله، وإنه لمن القوة لهذه الدعوة أن يكون غالبية أتباعها في المرحلة الأولى بالذات من كرام أقوامهم، وقد آثروا في سبيل العقيدة أن يتحملوا أصنافًا من الهوان ما سبق لهم أن عانوها أو فكروا بها (3). لقد كان الإسلام ينساب إلى النفوس الطيبة, والعقول النيرة, والقلوب الطاهرة التي هيأها الله لهذا الأمر، ولقد كان في الأوائل خديجة وأبو بكر وعلى وعثمان والزبير،   (1) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 262). (2) انظر: من معين السيرة صالح الشامي ص40. (3) انظر: من معين السيرة صالح الشامي، ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وعبد الرحمن وطلحة، وأبو عبيدة وأبو سلمة والأرقم وعثمان بن مظعون، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن جحش، وجعفر بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، وفاطمة بنت الخطاب وخالد بن سعيد، وأبو حذيفة بن عتبة وغيرهم، رضي الله عنهم, وهم من سادة القوم وأشرافهم (1). هؤلاء هم السابقون الأولون الذين سارعوا إلى الإيمان والتصديق بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثًا: استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة: استمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته السرية, يستقطب عددا من الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه، وخاصة الذين يتمكن من ضمهم في سرية تامة, بعد إقناعهم بالإسلام، وهؤلاء كانوا نعم العون والسند للرسول صلى الله عليه وسلم لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية, وهذه المرحلة العصيبة من حياة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهرت فيها الصعوبة والمشقة, في تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه بالدعوة، فهم لا يخاطبون إلا من يأمنوا من شره، ويثقون به، وهذا يعني أن الدعوة خطواتها بطيئة وحذرة, كما تقتضي صعوبة المواظبة على تلقي مطالب الدعوة من مصدرها، وصعوبة تنفيذها، إذا كان الداخل في هذا الدين ملزمًا منذ البداية بالصلاة, ودراسة ما تيسر من القرآن -مثلا- ولم يكن يستطيع أن يصلي بين ظهراني قومه، ولا أن يقرأ القرآن، فكان المسلمون يتخفون في الشعاب والأودية إذا أرادوا الصلاة (2). 1 - الحس الأمني: إن من معالم هذه المرحلة، الكتمان والسرية حتى عن أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة، وكان صلى الله عليه وسلم يكوّن من بعض المسلمين أُسرًا (مجموعات) وكانت هذه الأسر تختفي اختفاء استعداد وتدريب, لا اختفاء جبن وهروب حسب ما تقتضيه التدبيرات، فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام ينظم أصحابه من أسر ومجموعات صغيرة، فكان الرجل يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما, عند الرجل به قوة وسعة من المال، فيكونان معه ويصيبان منه فضل طعامه، ويجعل منهم حلقات, فمن حفظ شيئًا من القرآن علم من لم يحفظ، فيكون من هذه الجماعات أسر أخوة، وحلقات تعليم. إن المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أتباعه هو: القرآن الكريم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه تربية شاملة في العقائد والعبادات والأخلاق والحس الأمني وغيرها؛ ولذلك نجد في القرآن الكريم آيات كريمة تحدثت عن الأخذ بالحس الأمني؛ لأن من أهم عوامل نهوض الأمة أن ينشأ الحس الأمني في جميع أفرادها، وخصوصا في الصف المنظم الذي يدافع عن الإسلام, ويسعى لتمكينه في دنيا الناس، ولذلك نجد النواة الأولى   (1) المصدر السابق ص 40. (2) انظر: الغرباء الأولون، سلمان العودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 للتربية الأمنية كانت في مكة, وتوسعت مع توسع الدعوة ووصولها إلى دولة. ولا شك أن الصحابة كانوا يجمعون المعلومات عمن يريدون دعوته للإسلام وكانت القيادة تشرف على ذلك، ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم بترتيب جهاز أمني رفيع يشرف على الاتصال المنظم بين القيادة والقواعد ليضمن تحقيق مبدأ السرية. إن السيرة النبوية غنية في أبعادها الأمنية, منذ تربية الأفراد, وحتى بعد قيام الدولة، وتظهر الحاجة للحركات الإسلامية والدول المسلمة, لإيجاد أجهزة أمنية متطورة (في زمننا المعاصر) تحمي الإسلام والمسلمين من أعدائها اليهود والنصارى والملاحدة، وتعمل على حماية الصف المسلم في الداخل من اختراقات الأعداء فيه، وتجتهد لرصد أعمال المعارضين والمحاربين للإسلام، حتى تستفيد القيادة من المعلومات التي تقدمها لها أجهزتها المؤمنة الأمنية، ولا بد أن تؤسس هذه الأجهزة على قواعد منبعها القرآن الكريم والسنة النبوية، وتكون أخلاق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال الأمن المسلمين. إن اهتمام المسلمين بهذا الأمر يجنبهم المفاجآت العدوانية «إذا عرفت العدو وعرفت نفسك, فليس هناك ما يدعوك إلى أن تخاف نتائج مائة معركة، وإذا عرفت نفسك, ولم تعرف العدو فإنك ستواجه الهزيمة في كل معركة» (1). كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرف بنفسه على تربية أصحابه في كافة الجوانب، ووزعهم في أسر، فمثلا كانت فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد، وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، كانوا في أسرة واحدة مع نعيم بن عبد الله النحام بن عدي، وكان معلمهم خباب بن الأرت، وكان اشتغالهم بالقرآن لا يقتصرون منه على تجويد تلاوته وضبط مخارج حروفه ولا على الاستكثار من سرده، والإسراع في قراءته, بل كان همهم دراسته وفهمه, ومعرفة أمره ونهيه والعمل به (2). كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بالتخطيط الدقيق المنظم ويحسب لكل خطوة حسابها، وكان مدركًا تمامًا أنه سيأتي اليوم الذي يؤمر فيه بالدعوة علنًا وجهرًا، وأن هذه المرحلة سيكون لها شدتها وقوتها، فحاجة الجماعة المؤمنة المنظمة تقتضي أن يلتقي الرسول المربي مع أصحابه، فكان لا بد من مقر لهذا الاجتماع، فقد أصبح بيت خديجة رضي الله عنها لا يتسع لكثرة الأتباع، فوقع اختيار النبي وصحبه على دار الأرقم بن أبي الأرقم، إذ أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأمر يحتاج إلى الدقة المتناهية في السرية والتنظيم، ووجوب التقاء القائد المربي بأتباعه في مكان آمن بعيد عن الأنظار، ذلك أن استمرار اللقاءات الدورية المنظمة بين القائد وجنوده, خير   (1) انظر: الاستخبارات العسكرية في الإسلام (ص 111، 112). (2) انظر: الدعوة الإسلامية، د. عبد الغفار محمد عبد العزيز ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وسيلة للتربية العملية والنظرية، وبناء الشخصية القيادية الدعوية. ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد أتباعه ليكونوا بناة الدولة وحملة الدعوة، وقادة الأمم, هو حرصه الشديد على هذا التنظيم السري الدقيق، فلو كان مجرد داعية لما احتاج الأمر إلى كل هذا. ولو كان يريد مجرد إبلاغ الدعوة للناس لكان خير مكان في الكعبة حيث منتدى قريش كلها، ولكن الأمر -غير ذلك- فلابد من السرية التامة في التنظيم، وفي المكان الذي يلتقي فيه مع أصحابه، وفي الطريقة التي يحضرون بها إلى مكان اللقاء (1). 2 - دار الأرقم بن أبي الأرقم (مقر القيادة): تذكر كتب السيرة أن اتخاذ دار الأرقم مقرًا لقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد المواجهة الأولى, التي برز فيها سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. قال ابن إسحاق: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعب من شعاب مكة إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحي بعير فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام» (2). أصبحت دار الأرقم السرية مركزًا جديدًا للدعوة يتجمع فيه المسلمون، ويتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جديد من الوحي، ويستمعون له -عليه الصلاة والسلام- وهو يذكرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم, عليه الصلاة والسلام على عينه. كما تربى هو على عين الله عز وجل، وأصبح هذا الجمع هو قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم (3). رابعًا: أهم خصائص الجماعة الأولى التي تربت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت الجماعة الأولى التي تربت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برزت فيها خصائص مهمة جعلتها تتقدم بخطوات رصينة نحو صياغة الشخصية المسلمة، التي تقيم الدولة المؤمنة، وتصنع الحضارة الرائعة، فمن أبرز هذه الخصائص: 1 - الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التقديم بين يديه: إن العلم والفقه الصحيح الكامل في العقائد والشرائع, والآداب وغيرها لا يكون إلا عن طريق الوحي المنزل, قرآنًا وسنة؛ والتزام الدليل الشرعي هو منهج الذين أنعم الله عليهم بالإيمان   (1) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ص218. (2) انظر: ابن هشام (1/ 236). (3) انظر: التربية القيادية (1/ 198). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الصحيح (1) قال تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف: 181]. لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم من غيرهم انتفاعا بالدليل والوحي، وتسليمًا له، لأسباب عديدة، منها: أ- نزاهة قلوبهم، وخلوها من كل ميل أو هوى غير ما جاءت به النصوص، واستعدادها التام لقبول ما جاء عن الله ورسوله والإذعان والانقياد له انقيادا مطلقا، دون حرج ولا تردد، ولا إحجام. ب- معاصرتهم لوقت التشريع ونزول الوحي، ومصاحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم, ولذلك كانوا أعلم الناس بملابسات الأحوال التي نزلت النصوص فيها، والعلم بملابسات الواقعة أو النص من أعظم أسباب فقهه وفهمه وإدراك مغزاه. ج- وكانت النصوص -قرآنًا وسنة- تأتي في كثير من الأحيان لأسباب تتعلق بهم -بصورة فردية، أو جماعية- فتخاطبهم خطابًا مباشرًا، وتؤثر فيهم أعظم التأثير؛ لأنها تعالج أحداثًا واقعية، وتعقب في حينها، حيث تكون النفوس مشحونة بأسباب التأثر متهيئة لتلقي الأمر والاستجابة له. فكانوا إذا سمعوا أحدا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارهم، كما يقول ابن عباس - رضي الله عنه - (2). 2 - التأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان: كان الصحابة يتعاملون مع العلم الصحيح ليس كحقائق علمية مجردة يتعامل معها العقل فحسب، دون أن يكون لها علاقة بالقلب والجوارح، فقد أورثهم العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله: محبته والتأله إليه، والشوق إلى لقائه, والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن، وأورثهم تعظيمه، والخوف منه، والحذر من بأسه وعقابه، وبطشه ونقمته وأورثهم رجاء ما عنده، والطمع في جنته ورضوانه، وحسن الظن به، فاكتملت لديهم بذلك آثار العلم بالله والإيمان به، وهذه المعاني الوجدانية هي المقصود الأعظم في تحصيل العلم، وإذا فقدت، فلا ينفع مع فقدها علم، بل هو ضرر في العاجل والآجل (3). وكان الصحابة فرسانًا بالنهار، ورهبانا بالليل، لا يمنعهم علمهم وإيمانهم وخشوعهم لله من القيام بشؤونهم الدنيوية، من بيع، وشراء، وحرث، ونكاح، وقيام على الأهل والأولاد وغيرهم فيما يحتاجون.   (1) انظر صفة الغرباء، سلمان العودة ص83. (2) نفس المصدر ص94. (3) انظر: صفة الغرباء ص97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 خامسًا: شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة: كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أعظم مدرسة للتربية والتعليم عرفتها البشرية, كيف لا، وأستاذها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أستاذ البشرية كلها، وتلاميذها هم الدعاة والهداة، والقادة الربانيون, الذين حرروا البشرية من رق العبودية وأخرجوهم من الظلمات إلى النور، بعد أن رباهم الله تعالى على عينه تربية غير مسبوقة ولا ملحوقة (1). في دار الأرقم وفق الله تعالى رسوله إلى تكوين الجماعة الأولى من الصحابة, حيث قاموا بأعظم دعوة عرفتها البشرية. لقد استطاع الرسول المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يربي في تلك المرحلة السرية، وفي دار الأرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد، والجهاد والدعوة فدانت لهم الجزيرة، وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن. كانت قدرة النبي صلى الله عليه وسلم فائقة في اختيار العناصر الأولى للدعوة في خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الدعوة، وتربيتهم وإعدادهم إعدادا خاصا ليؤهلهم لاستلام القيادة، وحمل الرسالة، فالرسالات الكبرى والأهداف الإنسانية العظمى لا يحملها إلا أفذاذ الرجال، وكبار القادة, وعمالقة الدعاة. كانت دار الأرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا وجامعات العالم، التقى فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من الرعيل الأول (السابقين الأولين) فكان ذلك اللقاء الدائم تدريبًا عمليًا لجنود المدرسة على مفهوم الجندية والسمع والطاعة والقيادة وآدابها وأصولها، ويشحذ فيه القائد الأعلى جنده وأتباعه بالثقة بالله والعزيمة والإصرار، ويأخذهم بالتزكية والتهذيب، والتربية والتعليم، كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم، ويقوي الهمم، ويدفع إلى البذل والتضحية والإيثار (2). كانت نقطة البدء في حركة التربية الربانية الأولى لقاء المدعو بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيحدث للمدعو تحول غريب, واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم, فيخرج المدعو من دائرة الظلام إلى دائرة النور، ويكتسب الإيمان ويطرح الكفر، ويقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة. كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرك الأول للإسلام، وشخصيته صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض, والعظمة دائما تُحب، وتحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون,   (1) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ص219. (2) المصدر السابق ص220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 يلتصقون بها التصاقًا بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيف إلى عظمته تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بُعد آخر له أثر في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه, فهو لا يحبه لذاته فقط كما يحب العظماء من الناس، ولكن أيضا لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئًا واحدًا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية، حب عميق شامل للرسول البشر, أو للبشر الرسول, ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك. كان هذا الحب -الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة- هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه (1). سادسًا: المادة الدراسية في دار الأرقم: كانت المادة الدراسية التي قام بتدريسها النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم القرآن الكريم, فهو مصدر التلقي الوحيد، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج والفكرة المركزية التي يتربى عليها الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، وكان روح القدس ينزل بالآيات غضة طرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسمعها الصحابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فتسكب في قلوبهم، وتتسرب في أرواحهم، وتجري في عروقهم مجرى الدم، وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن وتنفعل به، فيتحول الواحد منهم إلى إنسان جديد, بقيمه ومشاعره، وأهدافه، وسلوكه وتطلعاته، لقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم حرصًا شديدًا على أن يكون القرآن الكريم وحده هو المادة الدراسية، والمنهج الذي تتربى عليه نفوس أصحابه, وألا يختلط تعليمه بشيء من غير القرآن (2). لقد تلقى الرعيل الأول القرآن الكريم بجدية ووعي, وحرص شديد, على فهم توجيهاته، والعمل بها بدقة تامة، فكانوا يلتمسون من آياته ما يوجههم في كل شأن من شؤون   (1) انظر: منهج التربية الإسلامية، محمد قطب ص34، 35. (2) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ص225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 حياتهم الواقعية، والمستقبلية. فنشأ الرعيل الأول على توجيهات القرآن الكريم، وجاؤوا صورة عملية لهذه التوجيهات الربانية، فالقرآن كان هو المدرسة الإلهية، التي تخرج فيها الدعاة والقادة الربانيون، ذلك الجيل الذي لم تعرف له البشرية مثيلاً من قبل ومن بعد, لقد أنزل الله القرآن الكريم على قلب رسوله، لينشئ به أمة ويقيم به دولة، وينظم به مجتمعًا, وليربي به ضمائرَ وأخلاقًا وعقولاً، ويبني به عقيدة وتصورًا وأخلاقًا، ومشاعرَ، فخرّج الجماعة المسلمة الأولى التي تفوقت على سائر المجتمعات في جميع المجالات، العقدية، والروحية والخلقية، والاجتماعية والسياسية والحربية (1). سابعًا: الأسباب في اختيار دار الأرقم: كان اختيار دار الأرقم لعدة أسباب منها: 1 - أن الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، فما كان يخطر ببال أحد أن يتم لقاء محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بداره. 2 - أن الأرقم بن الأرقم - رضي الله عنه - من بني مخزوم, وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم. فلو كان الأرقم معروفا بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون اللقاء في داره؛ لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو. 3 - أن الأرقم بن أبي الأرقم كان فتى عند إسلامه، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي, فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه عليه الصلاة والسلام. فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الأغلب في دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكر - رضي الله عنه - أو غيره، ومن أجل هذا نجد أن اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية الأمنية، ولم نسمع أبدا أن قريشًا داهمت ذات يوم هذا المركز وكشفت مكان اللقاء (2). ثامنًا: من صفات الرعيل الأول: كانت الفترة الأولى من عمر الدعوة, تعتمد على السرية والفردية, وكان التخطيط النبوي دقيقًا ومنظمًا، وكان تخطيطًا سياسيًا محكمًا، فما كان اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لدار الأرقم لمجرد اجتماع المسلمين فيها لسماع نصائح ومواعظ وإرشادات، وإنما كانت مركزًا للقيادة، ومدرسة للتعليم والتربية والإعداد والتأهيل للدعوة والقيادة، بالتربية الفردية العميقة الهادئة، وتعهد بعض العناصر والتركيز عليها تركيزًا خاصًّا، لتأهيلها لأعباء الدعوة والقيادة، فكان الرسول المربي قد حدد لكل فرد من هؤلاء عمله بدقة وتنظيم حكيم، اشترك في ذلك الكل، الكل يعرف دوره المنوط به، والكل يدرك طبيعة الدعوة والمرحلة التي تمر بها، والكل ملتزم جانب الحيطة والحذر والسرية والانضباط التام (3).   (1) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ص 335. (2) انظر: المنهج الحركي للغضبان (1/ 49). (3) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين, ص237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 كان بناء الجماعة المؤمنة في الفترة المكية يتم بكل هدوء وتدرج وسرية, وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عز وجل المتمثل في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28]. فالآية الكريمة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على تقصير وأخطاء المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم, خاصة إن كانت خاطئة، وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة، وأن يوضح لهم طبيعة طريق الدعوة، وأنها شاقة، وأن لا يغرر به مغرر ليبعده عنهم، وأن لا يسمع فيهم منتقصًا، ولا يطيع فيهم متكبرًا, أغفل الله قلبه عن حقيقة الأمور وجوهرها (1). إن الآيات الكريمة السابقة من سورة الكهف تصف لنا بعض صفات الجماعة المسلمة الأولى والتي من أهمها: أ- الصبر في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ): إن كلمة الصبر تتردد في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم, ويوصي الناس بها بعضهم بعضا، وتبلغ أهميتها أن تصير صفة من أربع للفئة الناجية من الخسران. قال تعالى: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر] فحكم المولى عز وجل على جميع الناس بالخسران إلا من أتى بهذه الأمور الأربعة: 1 - الإيمان بالله. 2 - العمل الصالح. 3 - التواصي بالحق. 4 - التواصي بالصبر. لأن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا أكمل الإنسان نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وأكمل غيره بالنصح والإرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، «والتواصي بالصبر كذلك ضرورة؛ فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة، ولابد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة، والصبر على تبجح الباطل، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم وبعد النهاية» (2).   (1) انظر: الطريق إلى جماعة المسلمين، حسين بن محسن ص170. (2) انظر: الظلال (6/ 3968). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ب- كثرة الدعاء والإلحاح على الله: وهذا يظهر في قوله تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات, فلا بد من تربية الأفراد الذين يعدون لحمل الرسالة وأداء الأمانة, على حسن الصلة بالله, وكثرة الدعاء؛ لأن ذلك من أعظم وأقوى عوامل النصر (1). ج- الإخلاص: ويظهر في قوله تعالى: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) , ولا بد عند إعداد الأفراد إعدادًا ربانيًا أن يتربى المسلم على أن تكون أقواله، وأعماله، وجهاده كله لوجه الله وابتغاء مرضاته, وحسن مثوبته, من غير نظر إلى مغنم، أو جاه، أو لقب، أو تقدم، أو تأخر، وحتى يصبح جنديًّا من أجل العقيدة والمنهج الرباني ولسان حاله قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ ... الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162 - 163] إن الإخلاص ركن من أركن قبول العمل, ومعلوم أن العمل عند الله لا يقبل إلا بالإخلاص وتصحيح النية وبموافقة السنة والشرع. د- الثبات: ويظهر في قوله تعالى: (وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف:28]. وهذا الثبات المذكور فرع عن ثبات أعم, ينبغي أن يتسم به الداعية الرباني، قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23]. ففي الآيات الكريمة ثلاث صفات، إيمان, ورجولة، وصدق. وهذه العناصر مهمة للثبات على المنهج الحق؛ لأن الإيمان يبعث على التمسك بالقيم الرفيعة والتشبث بها، ويبعث على التضحية بالنفس ليبقى المبدأ الرفيع، والرجولة محركة للنفس نحو هذا الهدف غير مهتمة بالصغائر والصغار، وإنما دائمًا دافعة نحو الهدف الأسمى، والمبدأ الرفيع، والصدق يحول دون التحول أو التغيير أو التبديل، ومن ثم يورث هذا كله الثبات الذي لا يتلون معه الإنسان, وإن رأى شعاع السيف على رقبته، أو رأى حبل المشنقة ينتظره، أو رأى الدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها. ولا شك أن اللبنات التي تعد لحمل الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الحضارة تحتاج إلى   (1) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم ص221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 الثبات الذي يعين على تحقيق الأهداف السامية, والغايات الجميلة والقيم الرفيعة (1). هذه من أهم الصفات التي اتصفت بها الجماعة المؤمنة الأولى. تاسعًا: انتشار الدعوة في بطون قريش وعالميتها: كان انتشار الإسلام في المرحلة السرية, في سائر فروع قريش بصورة متوازنة دون أن يكون ثقل كبير لأي قبيلة، وهذه الظاهرة مخالفة لطبيعة الحياة القبلية آنذاك. وهي إذا أفقدت الإسلام الاستفادة الكاملة من التكوين القبلي والعصبية لحماية الدعوة الجديدة ونشرها، فإنها في الوقت نفسه لم تؤلب عليها العشائر الأخرى بحجة أن الدعوة تحقق مصالح العشيرة التي انتمت إليها وتعلي من قدرها على حساب العشائر الأخرى، ولعل هذا الانفتاح المتوازن على الجميع أعان في انتشار الإسلام في العشائر القرشية العديدة دون تحفظات متصلة بالعصبية، فأبو بكر الصديق من (تيم)، وعثمان بن عفان من (بني أمية)، والزبير بن العوام من (بني أسد)، ومصعب بن عمير من (بني عبد الدار)، وعلي بن أبي طالب من (بني هاشم)، وعبد الرحمن بن عوف من (بني زهرة)، وسعيد بن زيد من (بني عدي)، وعثمان بن مظعون من (بني جُمَح)، بل إن عددًا من المسلمين في هذه المرحلة لم يكونوا من قريش، فعبد الله بن مسعود من (هُذيل)، وعتبة بن غزوان من (مازن)، وعبد الله بن قيس من (الأشعريين)، وعمار بن ياسر من (عنس) من مَذْحج، وزيد بن حارثة من (كلب)، والطفيل بن عمرو من (دوس)، وعمرو بن عبسة من (سليم)، وصهيب النمري من (بني النمر بن قاسط)، لقد كان واضحا أن الإسلام لم يكن خاصًّا بمكة (2). لقد شق النبي صلى الله عليه وسلم طريقه بكل تخطيط ودقة, وأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، فاهتم بالتربية العميقة، والتكوين الدقيق، والتعليم الواسع، والاحتياط الأمني، والانسياب الطبيعي في المجتمع، والإعداد الشامل للمرحلة التي بعد السرية، لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم أن الدعوة إلى الله لم تنزل لتكون دعوة سرية, يخاطب بها الفرد بعد الفرد، بل نزلت لإقامة الحجة على العالمين، وإنقاذ من شاء الله إنقاذه من الناس من ظلمات الشرك والجاهلية, إلى نور الإسلام والتوحيد، ولذلك كشف الله تعالى عن حقيقة هذه الدعوة وميدانها, منذ خطواتها الأولى، حيث إن القرآن المكي بين شمول الدعوة وعالميتها: قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) [ص: 87]. وقال تعالى: (وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) [القلم: 52].   (1) انظر: دعوة الله بين التكوين والتمكين، د. علي جريشة ص91، 92. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 133). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 إن الدعوة جاءت لتخاطب البشر، كل البشر، ولتنقذ منهم من سبقت له من الله الحسنى، وهذا يعني أن الدعوة جاءت ومن خصائصها، الإعلان والصدع، والبلاغ، والبيان، والإنذار، وتحمل ما يترتب على هذا من التكذيب، والإيذاء والقتل. إن استسرار النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته أول الأمر، إنما هو حال استثنائي لظروف وملابسات خاصة، وهي ظروف بداية الدعوة وضعفها وغربتها، وينبغي أن يفهم هذا ضمن هذا الإطار. وإن كان الكتمان والاستسرار, سياسة مصلحية في كثير من أمور الإسلام في الحرب والسلام، فهو كذلك في موضوع الدعوة، فالاستسرار بها كان لضرورة فرضها الواقع, وإلا فالأصل هو بيان دين الله وشرعه, وحكمه لكل الناس، أما الاستسرار بما سوى ذلك من الوسائل والخطط والتفصيلات, فهو أمر مصلحي, خاضع للنظر والاجتهاد البشري، إذ لا يترتب عليه كتمان للدين، ولا سكوت عن حق، ولا يتعلق به بيان، ولا بلاغ، ومن ذلك مثلا معرفة عدد الأتباع المؤمنين بالدعوة، فهذا أمر مصلحي لا يخل بقضية البلاغ والنذارة, التي نزلت الكتب وبعثت الرسل من أجلها، فيمكن أن يظل سرًّا متى كانت المصلحة في ذلك مع القيام بأمر الدعوة والتبليغ؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعد أن صدع بدعوته، وأنذر الناس وأعلن النبوة, ظل يخفي أشياء كثيرة, لا تؤثر على مهمة البلاغ والبيان كعدد أتباعه، وأين يجتمع بهم؟ وما هي الخطط التي يتخذونها إزاء الكيد الجاهلي (1). * * * المبحث الثالث البناء العقدي في العهد المكي أولاً: فقه النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع السنن: إن بناء الدول وتربية الأمم, والنهوض بها يخضع لقوانين وسنن ونواميس تتحكم في مسيرة الأفراد والشعوب والأمم والدول، وعند التأمل في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نراه قد تعامل مع السنن والقوانين بحكمة وقدرة فائقة. إن السنن الربانية هي أحكام الله تعالى الثابتة في الكون، وعلى الإنسان في كل زمان ومكان, وهي كثيرة جدًا, والذي يهمنا منها في هذا الكتاب ما يتعلق بحركة النهوض تعلقًا وثيقًا. إن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجدها حافلة بالحديث عن سنن الله تعالى, التي لا تتبدل ولا تتغير، ويجد عناية ملحوظة بإبراز تلك السنن وتوجيه النظر إليها واستخراج العبرة منها,   (1) انظر: الغرباء الأولون ص124: 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 والعمل بمقتضياتها لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر الله, والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين إلى سنن الله تعالى في الأرض, فهو بذلك يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها، فهم ليسوا بدعًا في الحياة، فالنواميس التي تحكم الكون والشعوب والأمم والدول والأفراد جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافًا, والحياة لا تجري في الأرض عبثًا، وإنما تتبع هذه النواميس، فإذا درس المسلمون هذه السنن، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين, لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بالأسباب المؤدية إليه (1). والسنن التي تحكم الحياة واعدة، فما وقع منها من زمان مضى، وسيقع في كل زمان (2). والمسلمون أولى أن يدركوا سنن ربهم, المبرزة لهم في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, حتى يصلوا إلى ما يرجون من عزة وتمكين «فإن التمكين لا يأتي عفوًا ولا ينزل اعتباطًا، ولا يخبط عشواء، بل إن له قوانينه التي سجلها الله تعالى في كتابه الكريم؛ ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة» (3). «إن من شروط التعامل المنهجي السليم مع السنن الإلهية والقوانين الكونية في الأفراد والمجتمعات والأمم، هو أن نفهم، بل نفقه فقهًا شاملاً رشيدًا هذه السنن، وكيف تعمل ضمن الناموس الإلهي أو ما نعبر عنه بـ «فقه السنن» ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعية, والمعادلات الحضارية (4). يقول الأستاذ البنا في منهجية التعامل مع السنن: «لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها, واستخدموها, وحوّلوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد» (5). ونلاحظ عدة أمور مهمة: 1 - عدم المصادمة. 2 - المغالبة   (1) انظر في ظلال القرآن (1/ 478). (2) انظر في ظلال القرآن (1/ 478). (3) انظر: جيل النصر المنشود للقرضاوي, ص15. (4) انظر: المشروع الإسلامي لنهضة الأمة- قراءة في فكر البنا, ص58. (5) انظر: رسالة المؤتمر الخامس, ص127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 3 - الاستخدام. 4 - التحويل. 5 - الاستعانة ببعضها على بعض. 6 - ترقب ساعة النصر (1). إن ما وصل إليه الأستاذ البنا يدل على دراسته العميقة للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وتجارب الشعوب، والأمم, ومعرفة صحيحة للواقع الذي يعيشه وتوصيف سليم للداء والدواء. إن حركة الإسلام الأولى التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم في تنظيم جهود الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الإنسان النموذجي الرباني الحضاري خضعت لسنن وقوانين قد ذكرت بعضها بنوع من الإيجاز، كأهمية القيادة في صناعة الحضارات، وأهمية الجماعة المؤمنة المنظمة في مقاومة الباطل، وأهمية المنهج الذي تستمد منه العقائد والأخلاق والعبادات، والقيم والتصورات، ومن سنن الله الواضحة فيما ذكر سنة التدرج وهي من سنن الله تعالى في خلقه وكونه، وهي من السنن الهامة التي يجب على الأمة أن تراعيها وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين الله. ومنطلق هذه السنة أن الطريق طويل، لا سيما في هذا العصر الذي سيطرت فيه الجاهلية, وأخذت أهبتها واستعدادها، كما أن الشر والفساد قد تجذر في الشعوب واستئصاله يحتاج إلى تدرج. فقد بدأت الدعوة الإسلامية الأولى متدرجة، تسير بالناس سيرًا دقيقًا، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء والتأسيس، ثم مرحلة المواجهة والمقاومة، ثم مرحلة النصر والتمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت واحد، وإلا كانت المشقة والعجز, وما كان يمكن كذلك أن تقدم واحدة منها على الأخرى، وإلا كان الخلل والإرباك (2). واعتبار هذه السنة في غاية الأهمية «ذلك أن بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية يحسبون أن التمكين يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، ويريدون أن يغيروا الواقع الذي تحياه الأمة الإسلامية في طرفة عين، دون النظر في العواقب, ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ودون إعداد جيد للمقدمات أو للأساليب والوسائل» (3) «إننا إذا درسنا القرآن الكريم والسنة المطهرة دراسة عميقة علمنا كيف، وبأي تدرج   (1) انظر: المشروع الإسلامي لنهضة الأمة، ص58. (2) انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص227. (3) انظر: آفات على الطريق (1/ 57) وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وانسجام تم التغيير الإسلامي في بلاد العرب، ومنها إلى العالم كله على يد النبي صلى الله عليه وسلم ... فلقد كانت الأمور تسير رويدًا رويدًا حسب مجراها الطبيعي حتى تستقر في مستقرها الذي أراده الله رب العالمين .. » (1). «وهذه السنة الربانية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق الإسلام في الحياة، واستئناف حياة إسلامية متكاملة يكون التمكين ثمرتها، فإذا أردنا أن نقيم مجتمعًا إسلاميًا حقيقًا، فلا نتوهم أن ذلك يمكن أن يتحقق بقرار يصدر من رئيس, أو ملك, أو من مجلس قيادي أو برلماني، إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أي بالإعداد، والتهيئة الفكرية، والنفسية، والاجتماعية. وهو نفس المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى الحياة الإسلامية، فقد ظل ثلاثة عشر عامًا في مكة، كانت مهمته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن, الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع بقدر ما كانت مرحلة تربية وتكوين» (2). ثانيًا: سنة التغيير وعلاقتها بالبناء العقدي: من السنن الهامة على طريق النهضة: السنة التي يقررها قول الله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن والٍ) [الرعد: 11] وارتباط هذه السنة الربانية بالتمكين للأمة الإسلامية واضح غاية الوضوح، ذلك أن التمكين لا يمكن أن يتأتى في ظل الوضع الحالي للأمة الإسلامية، فلابد من التغيير، كما أن التمكين لن يتحقق لأمة ارتضت لنفسها حياة المذلة والتخلف، ولم تحاول أن تغير ما حل بها من واقع، وأن تتحرر من أسره (3). إن التغيير الذي قاده النبي صلى الله عليه وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية, وصنع منها الرجال العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع، حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة (4). لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم - بمنهجه القرآني- بتغيير في العقائد والأفكار والتصور، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه, فتغير ما حوله في دنيا الناس، فتغيرت المدينة، ثم مكة، ثم   (1) انظر: التمكين للأمة الإسلامية - نقلا عن المودودي, ص229. (2) انظر: الخصائص العامة للإسلام، ص168 بتصرف يسير. (3) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص210. (4) انظر: نفوس ودروس في إطار التصوير القرآني ص367 لتوفيق محمد سبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الجزيرة، ثم بلاد فارس والروم, في حركة عالمية تسبّح وتذكر خالقها بالغدو والآصال. كان اهتمام المنهج القرآني في العهد المكي بجانب العقيدة، فكان يعرضها بشتى الأساليب, فغمرت قلوبهم معاني الإيمان, وحدث لهم تحول عظيم. قال تعالى موضحا ذلك الارتقاء العظيم: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122]. ثالثًا: تصحيح الجانب العقدي لدى الصحابة: كان تصور الصحابة -رضي الله عنهم- لله قبل البعثة تصورًا فيه قصور ونقص، فهم ينحرفون عن الحق في أسمائه وصفاته (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180] فجاء القرآن الكريم لترسيخ العقيدة الصحيحة, وتثبيتها في قلوب المؤمنين, وإيضاحها للناس أجمعين, ذلك ببيان توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والإيمان بكل ما أخبر الله به من الملائكة والكتاب والنبيين والقدر خيره وشره, واليوم الآخر وإثبات الرسالة للرسل عليهم السلام، والإيمان بكل ما أخبروا به (1). وتربى الرعيل الأول رضوان الله عليهم على فهم صفات الله وأسمائه الحسنى, وعبدوه بمقتضاها فَعَظُم الله في نفوسهم، وأصبح رضاه سبحانه غاية مقصدهم وسعيهم, واستشعروا مراقبته لهم في كل الأوقات (2). إن التربية النبوية الرشيدة للأفراد على التوحيد هي الأساس الذي قام عليه البناء الإسلامي وهي المنهجية الصحيحة التي سار عليها الأنبياء والمرسلون من قبل. وقد آتت تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ثمارها المباركة, فتطهر الصحابة في الجملة مما يضاد توحيد الألوهية, وتوحيد الربوبية, وتوحيد الأسماء والصفات، فلم يحتكموا إلا إلى الله وحده ولم يطيعوا غير الله، ولم يتبعوا أحدًا على غير مرضاة الله, ولم يحبوا غير الله كحب الله، ولم يخشوا إلا الله, ولم يتوكلوا إلا على الله, ولم يلتجئوا إلا إلى الله، ولم يدعوا دعاء المسألة والمغفرة إلا لله وحده، ولم يذبحوا إلا لله, ولم ينذروا إلا لله, ولم يستغيثوا إلا بالله ولم يستعينوا- فيما لا يقدر عليه إلا الله- إلا بالله وحده، ولم يركعوا أو يسجدوا أو يحجوا أو يطوفوا أو يتعبدوا إلا لله وحده، ولم يشبهوا الله لا بالمخلوقات ولا بالمعدومات بل نزهوه غاية التنزيه (3). وكما رسَّخ القرآن المكي في قلوب الصحابة رضي الله عنهم العقيدة الصحيحة, حول التوحيد   (1) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة، علي العلياني ص47. (2) انظر: المصدر السابق, ص 53. (3) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة، ص54، 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 بأنواع, وحول الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة, صحح عقيدتهم حول سائر أركان الإيمان الأخرى. رابعًا: وصف الجنة في القرآن الكريم وأثره على الصحابة: ركز القرآن المكي على اليوم الآخر غاية التركيز, فقل أن توجد سورة مكية لم يذكر فيها بعض أحوال يوم القيامة وأحوال المنعمين وأحوال المعذبين، وكيفية حشر الناس ومحاسبتهم وحتى لكأن الإنسان ينظر إلى يوم القيامة رأي العين. 1 - الجنة لا مثيل لها: وقد جاءت الآيات الكريمة مبينة وواصفة للجنة، بما لا يمكن أن يكون له مثيل في الكون، فأثر ذلك في نفوس الصحابة أيما تأثير. إن نعيم الجنة شيء أعده الله لعباده المتقين, نابع من كرم الله وجوده وفضله، ووصف لنا المولى عز وجل شيئًا من نعيمها, إلا أنه ما أخفاه الله عنا من نعيم شيء عظيم لا تدركه العقول، ولا تصل إلى كنهه الأفكار قال تعالى: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16 - 17]. 2 - أفضل ما يعطاه أهل الجنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيرفع الحجاب، فينظرون إلى وجه الله, فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى» وجاء في رواية أخرى: ثم تلا هذه الآية: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس: 26] (1). إن التصور البديع للجنان والاعتقاد الجازم بها مهم في نهضة أمتنا، فعندما تحيا صورة الجنان في نفوس أفراد الأمة, يندفعون لمرضات الله تعالى ويقدمون الغالي والنفيس ويتخلصون من الوهن وكراهة الموت, وتتفجر في نفوسهم طاقات هائلة تمدهم بعزيمة وإصرار, ومثابرة على إعزاز دين الله. خامسًا: وصف النار في القرآن الكريم وأثره في نفوس الصحابة: كان الصحابة يخافون الله تعالى ويخشونه ويرجونه، وكانت لتربية الرسول صلى الله عليه وسلم أثر في نفوسهم عظيم، وكان المنهج القرآني الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل الأفاعيل في نفوس الصحابة؛ لأن القرآن الكريم وصف أهوال يوم القيامة ومعالمها, من قبض الأرض ودكها،   (1) مشكاة المصابيح للبغوي (3/ 88). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وطي السماء، ونسف الجبال، وتفجير البحار وتسجيرها، وموران السماء وانفطارها, وتكوير الشمس, وخسوف القمر, وتناثر النجوم، وصَّور القرآن الكريم حال الكفار وذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم وإحباط أعمالهم، وتحدث القرآن الكريم عن حشر الكفار إلى النار، ومرور المؤمنين على الصراط، وخلاص المؤمنين من المنافقين (1)، وكان لهذا الحديث أثره العظيم في نفوس الصحابة، وصور القرآن الكريم ألوان العذاب في النار فأصبح الرعيل الأول يراها رأي العين. سادسًا: مفهوم القضاء والقدر وأثره في تربية الصحابة رضي الله عنهم: اهتم القرآن الكريم في الفترة المكية بقضية القضاء والقدر، قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]، وكان صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس الصحابة مفهوم القضاء والقدر. فكان للفهم الصحيح, والاعتقاد الراسخ في قلوب الصحابة لحقيقة القضاء والقدر, ثمار نافعة ومفيدة, عادت عليهم بخيرات الدنيا والآخرة, فمن تلك الثمرات: 1 - أداء عبادة الله عز وجل. 2 - الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك؛ لأن المؤمن يعتقد أن النافع والضار، والمعز والمذل، والرافع والخافض هو الله وحده سبحانه وتعالى. 3 - الشجاعة والإقدام، فإيمانهم بالقضاء والقدر جعلهم يوقنون أن الآجال بيد الله تعالى وأن لكل نفس كتابًا. 4 - الصبر والاحتساب ومواجهة الصعاب. 5 - سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال. 6 - عزة النفس والقناعة والتحرر من رق المخلوقين. إن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر كثيرة وهذه من باب الإشارة. ولم تقتصر تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه على تعليمهم أركان الإيمان الستة المتقدمة، بل صحح عندهم كثيرًا من المفاهيم والتصورات والاعتقادات, عن الإنسان والحياة والكون والعلاقة بينهما, ليسير المسلم على نور من الله, يدرك هدف وجوده في الحياة، ويحقق ما أراد الله منه غاية التحقيق، ويتحرر من الوهم والخرافات (2)   (1) انظر: الوسطية في القرآن الكريم ص402. (2) انظر أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية، ص59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 سابعًا: معرفة الصحابة لحقيقة الإنسان: إن القرآن الكريم عرَّف الإنسان بنفسه بعد أن عرفه بربه وباليوم الآخر، ويجيب على تساؤلات الفطرة، من أين؟ وإلى أين؟ وهي تساؤلات تفرض نفسها على كل إنسان سوي، وتلح في طلب الجواب (1). وبين القرآن الكريم للصحابة الكرام حقيقة نشأة الإنسانية وأصولهم التي يرجعون إليها، وما هو المطلوب منهم في هذه الحياة؟ وما هو مصيرهم بعد الموت؟ ثامنًا: تصور الصحابة لقصة الشيطان مع آدم عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنهج القرآني، يحدثهم عن قصة الشيطان مع آدم ويشرح لهم حقيقة الصراع بين الإنسان مع عدوه اللدود, الذي حاول إغواء أبيهم آدم عليه السلام من خلال الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 27]. كانت الآيات الكريمة التي تحدثت عن قصة آدم وصراعه مع الشيطان, قد علمت الرعيل الأول قضايا مهمة في مجال التصور والاعتقاد والأخلاق فمنها: 1 - أن آدم هو أصل البشر. 2 - جوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله. 3 - قابلية الإنسان للوقوع في الخطيئة. 4 - خطيئة آدم تعلم المسلم ضرورة التوكل على ربه. 5 - ضرورة التوبة والاستغفار. 6 - الاحتراز من الحسد والكبر. 7 - إبليس هو العدو الأول لآدم وزوجه وذريتهما. من الوسائل التي استخدمها الصحابة الكرام لمحاربة الشيطان، التخاطب بأحسن الكلام امتثالاً لقول الله تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) [الإسراء: 53]. هذه صورة موجزة عن حقيقة إبليس وتصور الصحابة رضي الله عنهم لهذا العدو اللعين. تاسعًا: نظرة الصحابة إلى الكون والحياة وبعض المخلوقات: ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة كتاب الله تعالى ويربيهم على التصور الصحيح, في   (1) انظر: منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، (2/ 54). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 قضايا العقائد, والنظر السليم للكون والحياة من خلال الآيات القرآنية الكريمة، فبين بدء الكون ومصيره. وقرر القرآن الكريم حقائق عن الحيوان، لا تقل في الأهمية والدقة عن الحقائق التي قررها في كل جوانب الكون والحياة. وهكذا نظم القرآن الكريم أفكار وتصورات الرعيل الأول عن الكون وما فيه من مخلوقات وعجائب, وعن حقيقة هذه الحياة الفانية، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في غرس حقيقة المصير, وسبيل النجاة في نفوس أصحابه, موقنًا أن من عرف منهم عاقبته وسبيل النجاة والفوز, سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك السبيل، حتى يظفر غدًا بهذه النجاة وذلك الفوز، وركز صلى الله عليه وسلم في هذا البيان على جانب مهم هو: أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير. إن كثيرا من العاملين في مجال الدعوة بهتت في نفوسهم حقيقة أن الدنيا لهو ولعب وغرور، لأنهم انغمسوا في هذه الحياة الدنيا ومتاعها, وشغفتهم حبا، فهم يلهثون وراءها، وكلما حصل على شيء من متاعها طلب المزيد, فهو لا يشبع ولا يقنع، بسبب التصاقه بالدنيا وإنها لكارثة عظيمة على الدعوة والنهوض بالأمة، أما التمتع بهذه الحياة في حدود ما رسمه الشرع واتخاذها مطية للآخرة، فذلك فعل محمود. * * * المبحث الرابع البناء التعبدي والأخلاقي في العهد المكي أولاً: تزكية أرواح الرعيل الأول بأنواع العبادات: رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على تزكية أرواحهم وأرشدهم إلى الطريق التي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب من خلال القرآن الكريم ومن أهمها: 1 - التدبر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى. 2 - التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل ما في الكون، بل ما في عالم الغيب والشهادة. 3 - عبادة الله عز وجل، من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلها قدرا، إذ العبادة غاية التذلل لله سبحانه ولا يستحقها إلا الله وحده. والعبادات التي تسمو بالروح وتطهر النفس نوعان: أ- النوع الأول: العبادات المفروضة كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ب- النوع الثاني: العبادات بمعناها الواسع، ويشمل كل شيء يُنْتَوى به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فهو عبادة يثاب صاحبها، وتربى روحه تربية حسنة (1). إن تزكية الروح بالصلاة وتلاوة القرآن, وذكر الله تعالى, والتسبيح له سبحانه أمر مهم في الإسلام، فإن النفس البشرية إذا لم تتطهر من أدرانها وتتصل بخالقها لا تقوم بالتكاليف الشرعية الملقاة عليها، والعبادة والمداومة عليها تعطي الروح وقودًا وزادًا ودفعًا قويًّا إلى القيام بما تؤمر به. إن الصلاة تأتي في مقدمة العبادات التي لها أثر عظيم في تزكية روح المسلم, ولعل من أبرز آثارها التي أصابت الرعيل الأول. 1 - الاستجابة لأمر الله تعالى وإظهار العبودية له سبحانه: وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين استجابوا لأمره، فقال عز وجل: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الشورى: 38]. وكان الرعيل الأول يرى أن لكل عمل من أعمال الصلاة عبودية خاصة وتأثيرا في النفس وتزكية للروح. 2 - مناجاة العبد ربه: وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا من مشاهد هذه المناجاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم: قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين: قال: مجدني عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين, قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» (2). 3 - طمأنينة النفس وراحتها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى, (3) وقد جُعلت قرة عينه في الصلاة (4) , وقد علّم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة كثيرًا من السنن والنوافل ليزدادوا صلة بربهم، وتأمن بها نفوسهم, وتصبح الصلاة سلاحًا مهما لحل همومهم ومشاكلهم.   (1) فقه الدعوة، عبد الحليم محمود (1/ 471، 472). (2) مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم 395. (3) أبو داود في الصلاة, رقم 1319. (4) الحاكم (2/ 160) وأقره الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 4 - الصلاة حاجز عن المعاصي: قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45]. كان الصحابة رضي الله عنهم عندما يؤدون صلاتهم تستريح بها نفوسهم، وتمدهم بقوة دافعة لفعل الخيرات والابتعاد عن المنكرات، فكانت لهم سياجًا منيعًا حماهم من الوقوع في المعاصي (1). ثانيًا: التربية العقلية: كانت تربية النبيصلى الله عليه وسلم لأصحابه شاملة؛ لأنها مستمدة من القرآن الكريم، الذي خاطب الإنسان ككل, يتكون من الروح، والجسد، والعقل، فقد اهتمت التربية النبوية بتربية الصحابي على تنمية قدرته في النظر والتأمل والتفكر والتدبر؛ لأن ذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى الله، وهذا مطلب قرآني. ولذلك وضع القرآن الكريم منهجًا لتربية العقل, سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه ومن أهم نقاط هذا المنهج: 1 - تجريد العقل من المسلمات المبنية على الظن والتخمين، أو التبعية والتقليد. 2 - إلزام العقل بالتحري والتثبت. 3 - دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون. 4 - دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع الله. 5 - دعوة العقل إلى النظر إلى سنة الله في الناس عبر التاريخ البشري، ليتعظ الناظر في تاريخ الآباء والأجداد والأسلاف، ويتأمل في سنن الله في الأمم والشعوب والدول. ثالثًا: التربية الجسدية: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه جسديًّا، واستمد أصول تلك التربية من القرآن الكريم، بحيث يؤدي الجسم وظيفته التي خلق لها من دون إسراف أو تقتير، ودون محاباة لطاقة من طاقاته على حساب طاقة أخرى. لذلك ضبط القرآن الكريم حاجات الجسم البشري على النحو التالي: 1 - ضبط حاجته إلى الطعام والشراب. 2 - وضبط حاجته إلى الملبس والمأوى، بأن أوجب من اللباس ما يستر العورة، ويحفظ الجسم من   (1) انظر: منهج الإسلام في تزكية النفس (1/ 227). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 عاديات الحر والبرد، وندب إلى ما يكون زينة عند الذهاب إلى المسجد. 3 - وضبط الحاجة إلى المأوى. 4 - وضبط حاجته إلى الزواج والأسرة بإباحة النكاح، بل إيجابه في بعض الأحيان وتحريم الزنا والمخادنة، واللواط. 5 - وضبط حاجته إلى التملك والسيادة، وأباح التملك للمال والعقار وفق ضوابط شرعية. 6 - وضبط الإسلام السيادة بتحريم الظلم والعدوان والبغي. 7 - وضبط حاجته إلى العمل والنجاح، بأن جعل من اللازم أن يكون العمل مشروعًا، وغير ضار بأحد من الناس، ونادى على المسلمين أن يعملوا في هذه الدنيا ما يكفل لهم القيام بعبء الدعوة والدين، وما يدخرون عند الله سبحانه. 8 - وحذر سبحانه من الدعة والبطر، والاغترار بالنعمة. هذه بعض الأسس التي قامت عليها التربية النبوية للأجسام، حتى تستطيع أن تتحمل أثقال الجهاد، وهموم الدعوة وصعوبة الحياة. رابعًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق، وتنقيتهم من الرذائل: إن الأخلاق الرفيعة جزء مهم من العقيدة، فالعقيدة الصحيحة لا تكون بغير خلق وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على مكارم الأخلاق بأساليب متنوعة. فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء» (1). وسئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحسن الخلق» وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: «الفم والفرج» (2). إن الأخلاق ليست شيئًا ثانويًا في هذا الدين، وليست محصورة في نطاق معين من نطاقات السلوك البشري، إنما هي الترجمة العملية للاعتقاد والإيمان الصحيح؛ لأن الإيمان ليس مشاعر مكنونة في داخل الضمير فحسب، إنما هو عمل سلوكي ظاهر كذلك، بحيث يحق لنا حين لا نرى ذلك السلوك العملي, أو حين نرى عكسه، أن نتساءل أين الإيمان إذن؟ وما قيمته إذا لم يتحول إلى سلوك (3)؟   (1) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق رقم 2002 «حسن صحيح». (2) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق رقم 2004 «صحيح غريب». (3) انظر: دراسات قرآنية، لمحمد قطب، ص130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ولذلك نجد القرآن الكريم يربط الأخلاق بالعقيدة ربطًا قويًا والأمثلة على ذلك كثيرة (1). لقد تربى الصحابة رضي الله عنهم على أن العبادة نوع من الأخلاق؛ لأنها من باب الوفاء لله، والشكر للنعمة، والاعتراف بالجميل، والتوقير لمن هو أهل التوقير والتعظيم, وكلها من مكارم الأخلاق (2)، فكانت أخلاق الصحابة ربانية، باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرجاء في الآخرة وغرضها رضوان الله ومثوبته. إن الأخلاق في التربية النبوية شيء شامل يعم كل تصرفات الإنسان وكل أحاسيسه ومشاعره وتفكيره، فالصلاة لها أخلاق، هي: الخشوع، والكلام له أخلاق, هي: الإعراض عن اللغو، والجنس له أخلاق, هي: الالتزام بحدود الله وحرماته، والتعامل مع الآخرين له أخلاق, هي: التوسط بين التقتير والإسراف، والحياة الجماعية لها أخلاق, هي: أن يكون الأمر شورى بين الناس، والغضب له أخلاق, هي: العفو والصفح، ووقوع العدوان من الأعداء يستتبعه أخلاق, هي: الانتصار أي رد العدوان، وهكذا لا يوجد شيء واحد في حياة المسلم ليست له أخلاق تكيفه ولا شيء واحد ليست له دلالة أخلاقية مصاحبة. إن الله سبحانه وتعالى، قد جعل التوحيد، أي: إفراد الله بالعبادة على رأس هذا المنهج الخلقي الذي رسمته آيات سورة الإسراء [38:23] مدحًا وذمًا؛ لأن التوحيد له في الحقيقة جانب أخلاقي أصيل، إذ الاستجابة إلى ذلك ترجع إلى خلق العدل والإنصاف، والصدق مع النفس، كما أن الإعراض عن ذلك يرجع في الحقيقة إلى بؤرة سوء الأخلاق في المقام الأول، مثل الكبر عن قبول الحق، والاستكبار عن اتباع الرسل غرورًا وأنفة، أو الولوع بالمراء, والجدل بالباطل مغالبة وتطالعًا للظهور، أو تقليدًا وجمودًا على الإلف والعرف مع ضلاله وبهتانه، وكلها -وأمثالها- أخلاق سوء تهلك أصحابها، وتصدهم عن الحق بعد ما تبين، وعن سعادة الدارين مع استيقان أنفسهم بأن طريق الرسل هو السبيل إليها. خامسًا: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق من خلال القصص القرآني: إن القصص القرآني غني بالمواعظ والحكم والأصول العقدية، والتوجيهات الأخلاقية، والأساليب التربوية، والاعتبار بالأمم والشعوب، والقصص القرآني ليس أمورًا تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وإنما هي أعلى وأشرف وأفضل من ذلك؛ فالقصص القرآني مملوء بالتوحيد، والعلم، ومكارم الأخلاق، والحجج العقلية، والتبصرة والتذكرة، والمحاورات العجيبة. وأضرب لك مثلاً من قصة يوسف -عليه السلام- متأملاً في جانب الأخلاق التي عرضت في   (1) انظر آيات سورة (المؤمنون - الآيات: 1 - 11)، وسورة (الأنعام- الآيات: 151 - 153)، وسورة (الرعد- الآيات: 19 - 22) وسورة (الإسراء - الآيات: 23 - 38) وغيرها. (2) انظر: الوسطية في القرآن الكريم ص591. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 مشاهدها الرائعة، قال علماء الأخلاق والحكماء: «لا ينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء مرشدين هادين، لهم شروط معلومة وأخلاق معهودة، فإن كان القائم بالأعمال نبيًّا فله أربعون خصلة ذكروها، كلها آداب وفضائل بها يسوس أمته، وإن كان رئيسًا فاضلاً، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها، وسيدنا يوسف -عليه السلام- حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين، ولقد جاء في سيرته هذه ما يتخذه عقلاء الأمم هديًا لاختيار الأكفاء في مهام الأعمال، إذ قد حاز الملك والنبوة، ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر ما يليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها اثنتي عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة, لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن وتنبيهًا للمتعلمين الساعين للفضائل» (1). أهم ما شرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة: 1 - العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24]. 2 - الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه (قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) [يوسف: 77]. 3 - وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: (وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلاَ تَقْرَبُونِ) [يوسف: 59، 60] فبداية الآية لين، ونهايتها للشدة. 4 - ثقته بنفسه بالاعتماد على ربه: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55]. 5 - قوة الذاكرة, ليمكنه تذكر ما غاب ومضى له سنون، ليضبط السياسات، ويعرف للناس أعمالهم: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) [يوسف: 58]. 6 - جودة المصَوِّرة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف: 4]. 7 - استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) [يوسف:38] (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَِ) [يوسف:101].   (1) انظر: تفسير القاسمي، (9/ 310). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 8 - شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: (يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف: 39] وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما بقوله: (قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ) [يوسف: 37] والثاني بقوله: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) [يوسف:37] وشهدا له بقولهما: (نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:36]. 9 - العفو مع المقدرة: (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 92]. 10 - إكرام العشيرة: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) [يوسف: 93]. 11 - قوة البيان والفصاحة بتعبير رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة، ما كان هذا إلا بالفصاحة المبنية على الحكمة والعلم: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف: 54]. 12 - حسن التدبير (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ) [يوسف: 47] تالله، ما أجمل القرآن, وما أبهج العلم. لا شك أن العلاقة بين القصص القرآني والأخلاق متينة؛ لأن من أهداف القصص القرآني التذكير بالأخلاق الرفيعة التي تفيد الفرد، والأسرة، والجماعة والدولة، والأمة، والحضارة، كما أن من أهداف القصص القرآني التنفير من الأخلاق الذميمة التي تكون سببًا في هلاك الأمم والشعوب. لقد استخدم المنهاج النبوي أساليب التأثير والاستجابة, والالتزام في تربيته للصحابة، لكي يحول الخلق من دائرة النظريات إلى صميم الواقع التنفيذي والعمل التطبيقي سواء كانت اعتقادية، كمراقبة الله تعالى ورجاء الآخرة، أو عبادية كالشعائر التي تعمل على تربية الضمائر، وصقل الإرادات، وتزكية النفس. ومع تطور الدعوة الإسلامية ووصولها إلى الدولة أصبحت هناك حوافز إلزامية تأتي من خارج النفس متمثلة في: أ- التشريع: الذي وضع لحماية القيم الخلقية, كشرائع الحدود والقصاص, التي تحمي الفرد والمجتمع من رذائل البغي على الغير: (بالقتل أو السرقة) وانتهاك الأعراض، (بالزنى، والقذف) أو البغي على النفس وإهدار العقل: (بالخمر، والمسكرات المختلفة). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ب- سلطة المجتمع: التي تقوم على أساس ما أوجبه الله تعالى من الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, والتناصح بين المؤمنين، ومسئولية بعضهم على بعض، وقد جعل الله تعالى هذه المسئولية قرينة الزكاة، والصلاة، وطاعة الله ورسوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71]. بل جعلها المقوم الأصلي لخيرية هذه الأمة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 110]. وقد ظهرت هذه السلطة وأثرها في الفترة المدنية. ج- سلطة الدولة: التي وجب قيامها، وأقيمت على أسس أخلاقية وطيدة، ولزمها أن تقوم على رعاية هذه الأخلاق وبثها في سائر أفرادها ومؤسساتها، وتجعلها من مهام وجودها ومبرراته (1). وبذلك اجتمع للخلق الإسلامي أطراف الكمال كلها, وأصبح للمجتمع النبوي نظام واقعي مثالي بسبب الالتزام بالمنهج الرباني. هذه بعض الخطوط في البناء العقائدي والروحي والأخلاقي في الفترة المكية، ولقد آتت هذه التربية أكُلها فقد كان ما ينوف على العشرين من الصحابة الكرام الخمسين الأوائل السابقين إلى الإسلام مارسوا مسؤوليات قيادية بعد توسع الدعوة وانطلاقها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته وأصبحوا القادة الكبار للأمة، وعشرون آخرون منهم معظمهم استشهدوا أو ماتوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان في الرعيل الأول أعظم شخصيات الأمة على الإطلاق، كان فيه تسعة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنهم نماذج ساهمت في صناعة الحضارة العظيمة بتضحياتهم الجسيمة، كعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وأبي ذر، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم رضي الله عنهم، وكان من هذا الرعيل أعظم نساء الأمة خديجة رضي الله عنها، ونماذج عالية أخرى، مثل أم الفضل بنت الحارث، وأسماء ذات النطاقين، وأسماء بنت عميس، وغيرهن. لقد أتيح للرعيل الأول أكبر قدر من التربية العقدية والروحية، والعقلية والأخلاقية .. على يد مربي البشرية الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم, فكانوا هم حداة الركب، وهداة الأمة (2) , فقد كان   (1) المنهاج القرآني في التشريع، ص433. (2) انظر: التربية القيادية للغضبان (1/ 201). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 رسول الله صلى الله عليه وسلم يزكيهم ويربيهم وينقيهم من أوضار الجاهلية، فإذا كان السعيد الذي فاز بفضل الصحبة من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة في حياته وآمن به، فكيف بمن كان الرفيق اليومي له، ويتلقى منه، ويتعبق من نوره، ويتغذى من كلامه ويتربى على عينه (1). * * *   (1) المصدر نفسه (1/ 202، 203). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الفصل الثالث الجهر بالدعوة وأساليب المشركين في محاربتها المبحث الأول الجهر بالدعوة بعد الإعداد العظيم الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه, وبناء الجماعة المسلمة المنظمة الأولى على أسس عقدية, وتعبدية وخلقية رفيعة المستوى, حان موعد إعلان الدعوة بنزول قول الله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ - وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 214، 215]. فجمع قبيلته صلى الله عليه وسلم وعشيرته, ودعاهم علانية إلى الإيمان بإله واحد، وخوَّفهم من العذاب الشديد إن عصوه، وأمرهم بإنقاذ أنفسهم من النار، وبين لهم مسؤولية كل إنسان عن نفسه (1). عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما نزلت (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: «فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (2). وفي رواية- ناداهم بطنًا بطنًا، ويقول لكل بطن: «أنقذوا أنفسكم من النار .... » ثم قال: «يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحما سأبُلها ببلالها» (3). كان القرشيون واقعيين عمليين، فلما رأوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الأمين، قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ما وراءه، وهم ما يرون إلا ما هو أمامهم، فهداهم إنصافهم   (1) رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر (3/ 46). (2) البخاري- كتاب التفسير- سورة الشعراء ورقمه (4770)، الآيتان من سورة المسد (1، 2). (3) مسلم, كتاب الإيمان [348 - (204)]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وذكاؤهم إلى تصديقه، فقالوا: نعم. ولما تمت هذه المرحلية الطبيعية البدائية، وتحققت شهادة المستمعين, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وكان ذلك تعريفًا بمقام النبوة، وما ينفرد به من علم بالحقائق الغيبية والعلوم الوهبية، وموعظة وإنذارًا، في حكمة وبلاغة، لا نظير لهما في تاريخ الديانات والنبوات، فلم تكن طريق أقصر من هذا الطريق، ولا أسلوب أوضح من هذا الأسلوب، فسكت القوم (1) ولكن أبا لهب قال: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟ .. وبهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع للأمة أسس الإعلام, فقد اختار مكانًا عاليًا وهو الجبل ليقف عليه, وينادي على جميع الناس فيصل صوته إلى الجميع، وهذا ما تفعله محطات الإرسال في عصرنا الحديث, لتزيد من عمليات الانتشار الإذاعي، ثم اختار لدعوته الأساس المتين ليبني عليه كلامه وهو الصدق؛ وبهذا يكون صلى الله عليه وسلم قد علم رجال الإعلام والدعوة أن الاتصال بالناس بهدف إعلامهم أو دعوتهم، يجب أن يعتمد وبصفة أساسية على الثقة التامة بين المرسل والمستقبل, أو بين مصدر الرسالة والجمهور الذي يتلقى الرسالة، كما أن المضمون أو المحتوى يجب أن يكون صادقا لا كذب فيه (2). «ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ أن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة, قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص, لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش؛ لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن الكريم اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية» (3) فقد جاءت الآيات المكية تبين عالمية الدعوة، قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان: 1]. وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]. وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [سبأ: 28]. ثم جاءت مرحلة أخرى بعدها، فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم ويتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، ويدعو من لقيه من حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير (4) , حين نزول قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ - الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص138. (2) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص121. (3) انظر: دراسات في السيرة، عماد الدين خليل، ص66. (4) انظر: رسالة الأنبياء (3/ 48، 49). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 يَعْمَلُونَ - وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) [الحجر: 94 - 97]. كانت النتيجة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، وقد اشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه, وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وكان هذا في حد ذاته مكسبًا عظيمًا للدعوة، ساهم فيه أشد وألد أعدائها, ممن كان يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يسلمون بدعاوي زعماء الكفر والشرك. كانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة, وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار هذا الحدث العظيم حديث الناس في المجالس ونوادي القبائل، وفي بيوت الناس (1). أهم اعتراضات المشركين: كانت أهم اعتراضات زعماء الشرك موجهة نحو وحدانية الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم الذي أنزل عليه من رب العالمين. وفيما يلي تفصيل لهذه الاعتراضات والرد عليها: أولاً: اعتراضهم على الوحدانية: لم يكن كفار مكة ينكرون بأن الله خلقهم وخلق كل شيء: قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [لقمان: 25]. لكنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله، قال تعالى: (أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (2) [الزمر: 3]. وقد انتقلت عبادة الأصنام إليهم من الأمم المجاورة لهم، ولهذا قابلوا الدعوة إلى التوحيد بأعظم إنكار وأشد استغراب (3) قال تعالى: (وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ - أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ - وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ - مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ) (4) [ص: 4 - 7]. ولم يكن تصورهم لله تعالى ولعلاقته بخلقه صحيحًا، إذ كانوا يزعمون أن لله تعالى صاحبة من الجن، وأنها   (1) انظر: الغرباء الأولون، ص167 (2) زلفى: قربى. (3) انظر: رسالة الأنبياء (3/ 52). (4) احتجوا بما عليه النصارى من الشرك والتثليث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ولدت الملائكة، وأن الملائكة بنات الله -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. فكانت الآيات تنزل مبيِّنة أن الله عز وجل خلق الجن والملائكة كما خلق الإنس، وأنه لم يتخذ ولدًا، ولم تكن له صاحبة, قال تعالى: (وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا (1) لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ - بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام: 100 - 101]. ومبينةٌ أن الجن يقرون لله بالعبودية، وينكرون أن يكون بينهم وبينه علاقة نسب: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات: 158]. ومطالبةً المشركين باتباع الحق وعدم القول بالظنون والأوهام: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى - وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) [النجم: 27 - 28]. وموضحةً أنه لا يعقل أن يمنح الله المشركين البنين، ويكون له بنات، وهن أدنى قيمة في رأيهم من البنين: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا) [الإسراء: 40]. ومحملةً المشركين مسئولية أقوالهم التي لا تقوم على دليل: (وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) [الزخرف: 19]. ثانيًا: كفرهم بالآخرة: أما دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان باليوم الآخر، فقد قابلها المشركون بالسخرية والتكذيب: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ - أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ) [سبأ: 7 - 8] فقد كانوا ينكرون بعث الموتى: (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام: 29]. ويقسمون على ذلك بالأيمان المغلظة. (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ - لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ) [النحل: 38، 39] وكانوا يظنون أنه لا توجد حياة في غير الدنيا, ويطلبون إحياء آبائهم ليصدقوا بالآخرة: قال تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ - قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ - وَللهِ مُلْكُ   (1) اختلقوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) [الجاثية: 24 - 27]. وفاتهم أن الذي خلقهم أول مرة قادر على أن يحييهم يوم القيامة, قال مجاهد وغيره: جاء أُبي بن خلف (1) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذروه في الهواء، وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار» ونزلت هذه الآيات (2) (أَوَ لَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ - وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ - قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس: 77 - 79]. كانت أساليب القرآن الكريم في إقناع الناس بالبعث اعتمدت على خطاب العقل، والانسجام مع الفطرة، والتجاوب مع القلوب، فقد ذكَّر الله عباده أن حكمته تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل, وأنزل الكتب, لبيان الطريق الذي به يعبدونه ويطيعونه ويتبعون أمره ويجتنبون نهيه، فمن العباد من رفض الاستقامة على طاعة الله، وطغى وبغى، أفليس بعد أن يموت الطالح والصالح, ولا بد أن يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته, قال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ - أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ - إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ) [القلم:35 - 38] إن الملاحدة الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يظنون الكون خلق عبثًا وباطلاً لا لحكمة، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح والكافر المفسد، ولا بين التقي والفاجر (3)، قال تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ - أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص: 27، 28]. وضرب القرآن الكريم للناس الأمثلة في إحياء الأرض بالنبات, وإن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم: 50]. وذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه إحياء بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، فأخبر الناس في كتابه عن أصحاب الكهف, بأنه ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين, ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة, قال تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) [الكهف: 12]. (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) [الكهف: 19].   (1) وفي رواية عن ابن عباس أنه العاص بن وائل. (2) تفسير ابن كثير (3/ 581). (3) انظر: الوسطية في القرآن الكريم ص402. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) [الكهف: 25] وغير ذلك من الأدلة والبراهين التي استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناظراته مع زعماء الكفر والشرك. ثالثًا: اعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعترضوا على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يتصورون أن الرسول لا يكون بشرا مثلهم، وأنه ينبغي أن يكون ملكا، أو مصحوبا بالملائكة: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً) [الإسراء: 94] (وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ) [الأنعام:8] (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) [الأنعام:9] أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً من الملائكة لكان على هيئة الرجل يمكنهم مخاطبته والأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشر (1) , وكانوا يريدون رسولاً لا يحتاج إلى طعام وسعى في الأسواق: (وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا - أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا) [الفرقان: 7، 8] وكأنهم لم يسمعوا بأن الرسل جميعًا كانوا يأكلون ويسعون ويعملون (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) (2) [الفرقان: 20]. ويريدون أن يكون الرسول كثير المال كبيرًا في أعينهم: (وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31]. يريدون الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف (3). ونسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجنون: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ - لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الحجر: 6،7] (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ - ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ) [الدخان: 13، 14]   (1) تفسير ابن كثير (2/ 124). (2) اختبرنا بعضكم ببعض. (3) تفسير ابن كثير (4/ 126، 127). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ورد الله عليهم بقوله: (مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم: 2] كما نسبوه إلى الكهانة والشعر: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ - أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور: 29، 30]. كما أنهم كانوا يعلمون أنه لا ينظم الشعر، وأنه راجح العقل، وأن ما يقوله بعيد عن سجع الكهان وقول السحرة (1). ونسبوه صلى الله عليه وسلم إلى السحر والكذب: (وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص: 4]. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا - انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الإسراء: 47، 48]، وكانت الآيات تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفند مزاعم المشركين، وتبين له أن الرسل السابقين استهزئ بهم، وأن العذاب عاقبة المستهزئين: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأنعام: 10] وتعلمه أن المشركين لا يكذبون شخصه، ولكنهم يكذبون رسالته، ويدفعون آيات الله بتلك الأقاويل (2): (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33]. رابعًا: موقفهم من القرآن الكريم: كذلك لم يصدقوا أن القرآن الكريم منزل من الله واعتبروه ضربًا من الشعر الذي كان ينظمه الشعراء، مع أن كل من قارن بين القرآن وبين أشعار العرب يعلم أنه مختلف عنها: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ - لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) [يس: 69، 70] وكيف يكون القرآن شعرًا وقد نزل فيه ذم للشعراء الذين يضلون الناس, ويقولون خلاف الحقيقة (3). (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (4) - أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ - وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء: 224 - 226]. فهو كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وليس شبيهًا بقول الشعراء، ولا بقول الكهان: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ - وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ - تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) [الحاقة: 40 - 43].   (1) انظر: رسالة الأنبياء (3/ 57). (2) انظر: رسالة الأنبياء (3/ 58). (3) نفس المصدر (3/ 59). (4) يعني الضالون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقد أدرك الشعراء قبل غيرهم أن القرآن الكريم ليس شعرًا (1) ومن فرط تكذيبهم وعنادهم قالوا: إن محمدًا يتعلم القرآن من رجل أعجمي (2) كان غلامًا لبعض بطون قريش، وكان بياعًا يبيع عند الصفا، وربما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف من العربية إلا اليسير، بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه، ولهذا قال تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) [النحل: 103]. أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن من فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل (3). واعترضوا على طريقة نزول القرآن، فطلبوا أن ينزل جملة واحدة، مع أن نزوله مفرقًا أدعى لتثبيت قلوب المؤمنين به وتيسير فهمه وحفظه وامتثاله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان: 32]. فلما اعترض المشركون على القرآن, وعلى من أنزل عليه بهذه الاعتراضات تحداهم الله بأن يأتوا بمثله، وأعلن عن عجز الإنس والجن مجتمعين عن ذلك: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: 88]. بل هم عاجزون عن أن يأتوا بعشر سور مثله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ) [هود: 13، 14]. وحتى السورة الواحدة هم عاجزون عنها: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُّفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [يونس: 37 - 38]. فعجزهم مع أن الفصاحة كانت من سجاياهم، وكانت أشعارهم ومعلقاتهم في قمة البيان دليل على أن القرآن كلام الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، وكلامه لا يشبه كلام المخلوقين (4).   (1) نفس المصدر (3/ 59) (2) انظر: تهذيب السيرة (1/ 74، 90) (3) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 586). (4) انظر: رسالة الأنبياء (3/ 66). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 المبحث الثاني سنة الابتلاء الابتلاء - بصفة عامة- سنة الله في خلقه, وهذا واضح في تقريرات القرآن الكريم, قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام: 165] وقال سبحانه: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف: 7] وقال جل شأنه: (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان: 2]. الابتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطا وثيقا، فلقد جرت سنة الله تعالى ألا يُمكِّن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب, وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف, فقد شاء الله تعالى أن يبتلي المؤمنين ويختبرهم، ليمحص إيمانهم ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك، ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الإمام الشافعي - رضي الله عنه - حين سأله رجل: أيهما أفضل للمرء، أن يُمكن أو يبتلى؟ فقال الإمام الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله تعالى ابتلى نوحًا وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم, فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة (1). حكمة الابتلاء وفوائده: للابتلاء حكم كثيرة من أهمها: 1 - تصفية الصفوف: جعل الله الابتلاء وسيلة لتصفية نفوس الناس، ومعرفة المحق منهم والمبطل؛ وذلك لأن المرء قد لا يُكشف في الرخاء، لكنه تكشفه الشدة، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) [العنكبوت: 2]. 2 - تربية الجماعة المسلمة: وفي هذا يقول سيد قطب رحمه الله: «ثم إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة, التي تحمل هذه الدعوة وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة، وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف, والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة، ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها, إذن بالصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون» (2).   (1) الفوائد لابن القيم, ص283. (2) في ظلال القرآن (2/ 180). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 3 - الكشف عن خبايا النفوس: وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر, فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحدًا إلا بما استعلن من أمره وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه» (1). 4 - الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة: وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات, وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام, وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله وثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء، والنفس تصهرها الشدائد, فتنفي عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدًا إلا أصلبها عودًا وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار» (2). 5 - معرفة حقيقة النفس: وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية، ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها، حقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم مع الشهوات في أنفسهم، وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق ومسارب الضلال» (3). 6 - معرفة قدر الدعوة: وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: «وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم، وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من غث وبلاء، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغالٍ، فلا يفرطوا فيها بعد ذلك مهما كانت الأحوال» (4). 7 - الدعاية لها: فصبر المؤمنين على الابتلاء دعوة صامتة لهذا الدين وهي التي تدخل الناس في دين   (1) في ظلال القرآن (6/ 387). (2) نفس المصدر (6/ 389). (3) نفس المصدر (2/ 181). (4) في ظلال القرآن (2/ 180). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الله، ولو وهنوا أو استكانوا لما استجاب لهم أحد، لقد كان الفرد الواحد يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ثم يأتيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي إلى قومه يدعوهم، ويصبر على تكذيبهم وأذاهم، ويتابع طريقه حتى يعود بقومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1). وسنرى ذلك في الصفحات القادمة إن شاء الله. 8 - جذب بعض العناصر القوية إليها: وأمام صمود المسلمين وتضحياتهم، تتوق النفوس القوية إلى هذه العقيدة، ومن خلال الصلابة الإيمانية تكبر عند هذه الشخصيات الدعوة وحاملوها، فيسارعون إلى الإسلام دون تردد، وأعظم الشخصيات التي يعتز بها الإسلام دخلت إلى هذا الدين من خلال هذا الطريق (2). 9 - رفع المنزلة والدرجة عند الله، وتكفير السيئات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة» (3) فقد يكون للعبد درجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمله فيبتليه الله تعالى حتى يرفعه إليها، كما أن الابتلاء طريق لتكفير سيئات المسلم (4). كما أن للابتلاء فوائد عظيمة منها: معرفة عز الربوبية وقهرها، معرفة ذل العبودية وكسرها، الإخلاص، الإنابة إلى الله والإقبال عليه، التضرع والدعاء، الحلم عمن صدرت عنه المصيبة، العفو عن صاحبها، الصبر عليها، الفرح بها لأجل فوائدها، الشكر عليها، رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم، معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها، ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها، وغير ذلك من الفوائد. ومن أراد التوسع فليراجع كتاب فقه الابتلاء (5). المبحث الثالث أساليب المشركين في محاربة الدعوة أجمع المشركون على محاربة الدعوة التي عرَّت واقعهم الجاهلي, وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم، أي آراءهم وأفكارهم، وتصوراتهم عن الله والحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها، أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها.   (1) انظر: فقه السيرة النبوية، ص192، 193. (2) انظر: فقد السيرة النبوية، ص193، 194. (3) مسلم شرح النووي (6/ 127، 128) كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن. (4) انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص244، وانظر: فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك ص8: 11. (5) انظر: فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك، ص15: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أولاً: محاولة قريش لإبعاد أبي طالب عن مناصرة وحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: «ترون هذه الشمس؟» قالوا: نعم، قال: «فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها بشعلة» وفي رواية: «والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار» فقال أبو طالب: «والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا راشدين» (1)، وحاولت قريش مرات عديدة الضغط على رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة عائلته ولكنها فشلت. ذاع أمر حماية أبي طالب لابن أخيه, وتصميمه على مناصرته وعدم خذلانه، فاشتد ذلك على قريش غمًّا وحسدًا ومكرًا, فمشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: «يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد, أنهد فتى في قريش, وأجملهم، فلك عقله (2) ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك، ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامنا، فنقتله فإنما هو رجل برجل» قال: «والله لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدا» (3). وإن المرء ليسمع عجبًا، ويقف مذهولاً أمام مروءة أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضم بني هاشم وبني المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت، تأييدًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, مسلمهم ومشركهم على السواء, (4) وأجار ابن أخيه محمدا إجارة مفتوحة لا تقبل التردد أو الإحجام، كانت هذه الأعراف الجاهلية والتقاليد العربية تسخر من قبل النبي صلى الله عليه وسلم لخدمة الإسلام، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشًا تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه، من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله اللعين. فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جهدهم معهم، وحدبهم عليه، جعل يمدحهم، ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم، وليحدبوا معه على أمره فقال: إذا اجتمعت يومًا قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها وصميمُها وإن حُصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافُها وقديمها وإن فَخَرَت يومًا فإن محمدا ... هو المصطفى من سر وكريمُها   (1) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، ص78. (2) فلك عقله: أي ديته إذا قتل. (3) البداية والنهاية (3/ 48). (4) انظر: فقه السيرة النبوية، ص184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 تداعت قريش غثها وثمينها ... علينا فلم تظفر وطاشت حلومها وكنا قديمًا لا نُقر ظُلامة ... إذا ما ثنوا صُعْر الخدود نُقيمها (1) وحين حاول أبو جهل أن يخفر جوار أبي طالب تصدى له حمزة، فشجه بقوسه، وقال له: تشتم محمدا وأنا على دينه، فرد ذلك إن استطعت. إنها ظاهرة فذة أن تقوم الجاهلية بحماية من يسب آلهتها، ويعيب دينها، ويسفه أحلامها، وباسم هذه القيم يقدمون المهج والأرواح، ويخوضون المعارك والحروب، ولا يُمسُّ محمد صلى الله عليه وسلم بسوء. ولما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرمة مكة، وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم في ذلك من شعره أنه غير مُسْلِمٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه فقال: ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل وقد حالفوا قومًا علينا أَظِنَّةً ... يعضون غيظًا خلفنا بالأنامل صبرت لهم نفسي بسمراء (2) سمحة ... وأبيض عضب (3) من ترات المقاول ... وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل (4) وتعوذ بالبيت وبكل المقدسات التي فيه، وأقسم بالبيت بأنه لن يسلم محمدا ولو سالت الدماء أنهارًا واشتدت المعارك مع بطون قريش: كذبتم وبيت الله نُبْزَى (5) محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه (6) حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل (7) وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الروايا (8) تحت ذات الصلاصل (9) وقرّع زعماء بني عبد مناف بأسمائهم لخذلانهم إياه، فلعتبة بن ربيعة يقول: فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح ... حسود كذوب مبغض ذي دغاول (10) ولأبي سفيان بن حرب يقول: ومر أبو سفيان عني معرضا ... كما مَرَّ قَيْل (11) من عظام المقاول   (1) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 269) (2) سمراء: كناية عن الرمح. (3) أبيض عضب: كناية عن السيف. (4) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 273) (5) نبزى: أي نسلبه ونغلب عليه. (6) ونسلمه حتى نصرع حوله: أي كذبتم أن نسلمه قبل أن نصرع حوله. (7) الحلائل: الزوجات. (8) الروايا: الإبل التي تحمل الماء للساقية. (9) الصلاصل: المزادات لها صلصلة بالماء. (10) الدغاول: الدواهي. (11) قيل: الرئيس الكبير في اليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 يفر إلى نجد وبردَِ مياهه ... ويزعم أني لست عنكم بغافل (1) وللمطعِم بن عدي سيد بني نوفل يقول: أمطعِم لم أخذُلك في يوم نجدة ... ولا معظم عند الأمور الجلائل أمطعم إن القوم ساموك خطة ... وإني متى أوكل فلست بوائل (2) ... جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً ... عقوبة شر عاجلاً غير آجل (3) لقد كان كسب النبي صلى الله عليه وسلم عمه في صف الدفاع عنه، نصرًا عظيمًا، وقد استفاد صلى الله عليه وسلم من العرف القبلي فتمتع بحماية العشيرة، ومنع من أي اعتداء يقع عليه, وأعطى حرية التحرك والتفكير، وهذا يدل على فهم النبي صلى الله عليه وسلم للواقع الذي يتحرك فيه, وفي ذلك درس بالغ للدعاة إلى الله تعالى, للتعامل مع بيئتهم ومجتمعاتهم والاستفادة من القوانين والأعراف والتقاليد لخدمة دين الله. ثانيًا: محاولة تشويه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: قام مشركو مكة بمحاولة تشويه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم, ولذلك نظمت قريش حربًا إعلامية ضده لتشويهه, قادها الوليد بن المغيرة، حيث اجتمع مع نفر من قومه، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر موسم الحج فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضا. - فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس, فقل وأقم لنا رأيًا نقول به. - قال: بل أنتم قولوا أسمع. - فقالوا: نقول كاهن. - فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة (4) الكاهن وسجعه. - فقالوا: نقول مجنون. - فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخنقه, ولا تخالجه ولا وسوسته. - فقالوا: نقول شاعر. - فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.   (1) انظر: فقه السيرة النبوية ص212. (2) بوائل: ناج. (3) انظر: فقه السيرة النبوية، ص212. (4) الزمزمة: كلام خفي لا يسمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 - قالوا: فنقول ساحر. - قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثه، ولا عقده. - قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق (1) وإن فرعه لجناة (2)، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر، فقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته (3). فأنزل الله تعالى في الوليد: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا - وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا (4) - وَبَنِينَ شُهُودًا - وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا - ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ - كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآَيَاتِنَا عَنِيدًا - سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (5) - إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ - فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (6) - ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ - ثُمَّ نَظَرَ - ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (7) - ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ - فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (8) - إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ - سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) [المدثر: 11 - 26]. ويتضح من هذه القصة أن الحرب النفسية المضادة للرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن توجه اعتباطًا، وإنما كانت تعد بإحكام ودقة بين زعماء الكفار، وحسب قواعد معينة, هي أساس القواعد المعمول بها في تخطيط الحرب النفسية في العصر الحديث، كاختيار الوقت المناسب، فهم يختارون وقت تجمع الناس في موسم الحج، والاتفاق وعدم التناقض، وغير ذلك من هذه الأسس حتى تكون حملتهم منظمة، وبالتالي لها تأثير على وفود الحجيج، فتؤتي ثمارها المرجوة منها، ومع اختيارهم للزمان المناسب, فقد اختاروا أيضا مكانًا مناسبًا حتى تصل جميع الوفود القادمة إلى مكة (9) , ويتضح من هذا الخبر عظمة النبي صلى الله عليه وسلم وقوته في التأثير بالقرآن على سامعيه، فالوليد بن المغيرة كبير قريش ومن أكبر ساداتهم، ومع ما يحصل عادة للكبراء من التكبر والتعاظم فإنه قد تأثر بالقرآن، ورق له، واعترف بعظمته ووصفه بذلك   (1) العذق: النخلة. (2) الجناة: ما يجني من الثمر. (3) السير والمغازي لابن إسحاق، ص150، 151، تهذيب السيرة (1/ 64، 65). (4) واسعاً. (5) أي: عذاباً شديداً. (6) أي: تروى ماذا يقول في القرآن. (7) أي: قبض بين عينيه وكلح وقطب. (8) أي: هذا سحر ينقله محمد عن غيره ممن قبله ويحكيه عنهم. (9) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الوصف البليغ (1) وهو في حالة استجابة لنداء العقل، ولم تستطع تلك الحرب الإعلامية المنظمة أن تحاصر دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يخترق حصار الأعداء, الذين لم يكتفوا بتنفير ساكني مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتشويه سمعته عندهم, بل صاروا يتلقون الوافدين إليهم ليسمموا أفكارهم, وليحولوا بينهم وبين سماع كلامه، والتأثر بدعوته، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم النجاح في دعوته, بليغًا في التأثير على من خاطبه، حيث يؤثر على من جالسه بهيئته وسمته ووقاره, قبل أن يتكلم، ثم إذا تحدث أَسَرَ سامعيه بمنطقه البليغ المتمثل في العقل السليم, والعاطفة الجياشة بالحب والصفاء, والنية الخالصة في هداية الأمة, بوحي الله تعالى (2). ومن أبرز الأمثلة على قوته في التأثير بالكلمة المعبرة والأخلاق الكريمة, وقدرته على اختراق الجدار الحديدي الذي حاول زعماء مكة ضربه عليه, ما كان من موقفه مع ضماد الأزدي، وعمرو بن الطفيل الدوسي، وأبي ذر، وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم. 1 - إسلام ضماد الأزدي - رضي الله عنه -: وفد ضماد الأزدي إلى مكة, وتأثر بدعاوى المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى استقر في نفسه أنه مصاب بالجنون، كما يتهمه بذلك زعماء مكة، وكان ضماد من أزد شنوءة، وكان يعالج من الجنون, فلما سمع سفهاء مكة يقولون إن محمدًا صلى الله عليه وسلم مجنون فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. قال: فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح (3)، وإن الله يشفي على يدي من شاء. فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ومن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد». قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر, (4) فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «هات يدك أبايعك على الإسلام» قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعلى قومك»، قال: وعلى قومي. وعندما قامت دولة الإسلام في المدينة, وكانت سرايا رسول الله تبعث, فمروا على قوم ضماد, فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم:   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (1/ 123). (2) انظر التاريخ الإسلامي للحميدي, (1/ 127: 137). (3) الريح هنا: المراد بها الجنون ومس الجن. (4) قاموس البحر: معناه وسطه، أو لجته أو قعره الأقصى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أصبت منهم مطهرة، فقال: ردوها. فإن هؤلاء قوم ضماد (1). دروس وفوائد: أ- دعاية قريش وتشويه شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، واتهامه بالجنون حمل ضمادًا على السير للرسول صلى الله عليه وسلم من أجل رقيته، فكانت الحرب الإعلامية المكية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم سببًا في إسلامه وإسلام قومه. ب- تتضح صفتا الصبر والحلم في شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقد عرض ضماد على رسول الله صلى الله عليه وسلم معالجته من مرض الجنون، وهذا موقف يثير الغضب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الأمر بحلم وهدوء، مما أثار إعجاب ضماد واحترامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ج- أهمية هذه المقدمة التي يستفتح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض خطبه, فقد اشتملت على تعظيم الله وتمجيده, وصرف العبادة له سبحانه، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يجعلها بين يدي خطبه ومواعظه. د- تأثر ضماد بفصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم وقوة بيانه؛ لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم انبعث من قلب مُليء إيمانًا ويقينًا وحكمة، فأصبح حديثه يصل إلى القلوب ويجذبها إلى الإيمان. هـ- في سرعة إسلام ضماد دليل على أن الإسلام دين الفطرة، وأن النفوس إذا تجردت من الضغوط الداخلية والخارجية فإنها غالبًا تتأثر وتستجيب، إما بسماع قول مؤثر، أو الإعجاب بسلوك قويم. وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على انتشار دعوته, حيث رأى في ضماد صدق إيمانه, وحماسته للإسلام، وقوة اقتناعه به، فدفعه ذلك إلى أخذ البيعة منه لقومه. ز- وفي هذا بيان واضح لأهمية الدعوة إلى الله تعالى، حيث جعلها النبي صلى الله عليه وسلم قرينة الالتزام الشخصي، فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتزام بالدين، فلم يكتف رسول الله بذلك بل أخذ منه البيعة على دعوة قومه إلى الإسلام. ح- حفظ المعروف والود لأهل السابقة والفضل «ردوها فإن هؤلاء من قوم ضماد» (2). ط- في الحديث بعض الوسائل التربوية التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم مع ضماد كالتأني في الحديث، وأسلوب الحوار، والتوجيه المباشر، وتظهر بعض الصفات في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم كمربٍّ، كالحلم والصبر، والتشجيع على الإكثار من الخيرات.   (1) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة رقم 868. (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/ 132، 133) وانظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د. يحيى اليحيى. ص111: 113 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 2 - إسلام عمرو بن عَبَسة - رضي الله عنه -: قال عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان, فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارًا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا، جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟ قال: «أنا نبي» فقلت: وما نبي؟ قال: «أرسلني الله» فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يُشرك به شيء» قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: «حر وعبد» قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به فقلت: إني متبعك قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني». قال فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي, فجعلت أتخير الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم عليَّ نفر من أهل يثرب من أهل المدينة فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سِراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: «نعم. أنت الذي لقيتني بمكة». وذكر بقية الحديث وفيه أنه سأله عن الصلاة والوضوء (1). دروس وعبر: أ- عمرو بن عبسة كان من الحنفاء المنكرين لعبادة غير الله تعالى في الجاهلية. ب- كانت الحروب الإعلامية الضروس التي شنتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم سببًا في تتبع عمرو بن عبسة لأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم. ج- جرأة وشدة قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد وجده عمرو بن عبسة مستخفيًا وقومه جرآء عليه. د- الأدب في الدخول على أهل الفضل والمنزلة, قال عمرو بن عبسة: «فتلطفت حتى دخلت عليه». هـ- الرسالة المحمدية تقوم على ركيزتين: حق الله، وحق الخلق قال صلى الله عليه وسلم: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان». وفي هذا دليل على أهمية صلة الأرحام حيث كان هذا الخلق العظيم ألصق ما يكون بدعوة الإسلام، مع اقترانه بالدعوة إلى التوحيد، وقد ظهر في هذا البيان الهجوم على الأوثان بقوة, مع أنها كانت أقدس شيء عند العرب، وفي هذا دلالة   (1) انظر: صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين. رقم 832. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 على أهمية إزالة معالم الجاهلية، وأن دعوة التوحيد لا تستقر ولا تنتشر إلا بزوال هذه المعالم. ووفي اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم المبكر بإزالة الأوثان مع عدم قدرته على تنفيذ ذلك في ذلك الوقت دلالة على أن أمور الدين لا يجوز تأخير بيانها للناس بحجة عدم القدرة على تطبيقها، فالذين يبينون للناس من أمور الدين ما يستطيعون تطبيقه بسهولة وأمن، ويحجمون عن بيان أمور الدين التي يحتاج تطبيقها إلى شيء من المواجهة والجهاد, هؤلاء دعوتهم ناقصة، ولم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي واجه الجاهلية وطغاتها وهو في قلة من أنصاره، والسيادة في بلده لأعدائه (1). ز- حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمان صحابته وتوفير الجو الآمن، والسير بهم إلى بر الأمان وإبعادهم عن التعرض للمضايقات، قال لعمرو بن عبسة: «إنك لا تستطيع يومك هذا». ح- تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحوال أصحابه وعدم نسيان مواقفهم، قال: «أنت الذي لقيتني بمكة». ط- لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعطي كل من أسلم قائمة بأسماء أتباعه، فهذا ليس للسائل منه مصلحة ولا يتعلق به بلاغ؛ ولذلك لما سأل عمرو بن عبسة عمن تبعه قال: «حر وعبد» وهذه تورية كما قال ابن كثير: بأن هذا اسم جنس فهم منه عمرو أنه اسم عين (2). ي- في قوله صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي ظهرت فأتني» نأخذ منه درسًا في الدعوة: إن تكديس المريدين والأعضاء حيث المحنة والإيذاء ليس هو الأصل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه نحو الرجوع إلى الأقوام، وأمر كما نرى بالهجرتين إلى الحبشة، فذلك تخفيف عن المسلمين وإبعاد لهم عن مواطن الخطر وستر لقوة المسلمين، وإعطاء فرصة للقائد حتى لا ينشغل، وضمان للسرية، وإفادة للمكان المرسل إليه، وإعداد للمستقبل وملاحظة لضمان الاستمرار وتجنب الاستئصال (3). وممن أسلم بسبب الحرب الإعلامية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسي، وجاءت قصته مفصلة في كتب السيرة، ويرى الدكتور أكرم ضياء العمري أنه لم يثبت منها إلا أنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للالتجاء إلى حصن دوس المنيع فأبى رسول الله ذلك (4) وأشارت رواية   (1) انظر: التاريخ الإسلامي، (1/ 109) للحميدي. (2) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص106: 109. (3) انظر: الأساس في السنة (1/ 126) سعيد حوى. (4) صحيح مسلم (1/ 109). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 صحيحة إلى أن الطفيل دعا قومه إلى الإسلام ولقي منهم صدودا حتى طلب الطفيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالهداية (1) وكان الرسول آنئذ بالمدينة المنورة (2). 3 - إسلام الحصين والد عمران رضي الله عنهما: جاءت قريش إلى الحصين -وكانت تعظمه- فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا، ويسبهم, فجاءوا معه حتى جلسوا قريبًا من باب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أوسعوا للشيخ» وعمران وأصحابه متوافرون فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك, أنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة (3) وخيرًا؟ فقال: «يا حصين، إن أبي وأباك في النار, يا حصين، كم تعبد من إله؟» قال: سبعًا في الأرض، وواحدًا في السماء، فقال: «فإذا أصابك الضر من تدعو؟» قال: الذي في السماء، قال: «فإذا هلك المال من تدعو؟» قال: الذي في السماء، قال: «فيستجيب لك وحده وتشركهم معه، أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟» قال: ولا واحدة من هاتين، قال: وعلمت أني لم أكلم مثله، قال: «يا حصين، أسلم تسلم» قال: إن لي قومًا وعشيرة، فماذا أقول؟ قال: «قل: اللهم أستهديك لأرشد أمري وزدني علمًا ينفعني» فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم، فقام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى، وقال: «بكيت من صنيع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقه فدخلني من ذلك الرقة» فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه: «قوموا فشيعوه إلى منزله» فلما خرج من سدة الباب رأته قريش، فقالوا: صبأ وتفرقوا عنه» (4). ولعل الذي حدا بالحصين والد عمران أن يسلم بهذه السرعة، سلامة فطرته، وحسن استعداده من ناحية، وقوة حجة الرسول صلى الله عليه وسلم وسلامة منطقه من ناحية أخرى (5). ونلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم أسلوب الحوار مع الحصين - رضي الله عنه - , لغرس معاني التوحيد في نفسه ونسف العقائد الباطلة التي كان يعتقدها. 4 - إسلام أبي ذر - رضي الله عنه -: كان أبو ذر - رضي الله عنه - منكرًا لحال الجاهلية، ويأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله،   (1) صحيح البخاري فتح البخاري (6/ 107). (2) السيرة النبوية، ابن كثير (2/ 76) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للدكتور العمري (1/ 146). (3) حصينة: يعني عاقلاً متحصنًا بدين آبائه وأجداده، ومعتقداتهم، انظر: النهاية لابن الأثير (1/ 234). (4) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (1/ 337) وعنه نقل الشيخ محمد يوسف في: حياة الصحابة (1/ 75، 76). (5) انظر: فقه الدعوة الفردية، د. السيد محمد نوح ص104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وكان يصلي لله قبل إسلامه بثلاث سنوات, دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه، ويظهر أنه كان على نهج الأحناف، ولما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى مكة وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علي - رضي الله عنه - فعرف أنه غريب فاستضافه ولم يسأله عن شيء، ثم غادره صباحًا إلى المسجد الحرام فمكث حتى أمسى، فرآه علي فاستضافه لليلة ثانية، وحدث مثل ذلك في الليلة الثالثة، ثم سأله عن سبب قدومه، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره بأنه يريد مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له علي: فإنه حق وهو رسول الله, فإذا أصبحت فاتبعني, فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني, فتبعه وقابل الرسول صلى الله عليه وسلم واستمع إلى قوله فأسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري» فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وثار القوم حتى أضجعوه, فأتى العباس بن عبد المطلب فحذرهم من انتقام غفار, والتعرض لتجارتهم التي تمر بديارهم إلى الشام، فأنقذه منهم (1). وكان أبو ذر قبل مجيئه قد أرسل أخاه، ليعلم له علم النبي صلى الله عليه وسلم, ويسمع من قوله ثم يأتيه، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني (2) مما أردت (3) وعزم على الذهاب بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أخوه له: «وكن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا» (4). دروس وعبر وفوائد: * شيوع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبائل، وأكثر من ساهم في ذلك مشركو قريش, بما اتخذوه من منهج التحذير والتشويه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما جاء به، حتى وصل ذكره قبيلة غفار. * تميز أبي ذر بأنه رجل مستقل في رأيه, لا تؤثر عليه الإشاعات، ولا تستفزه الدعايات, فيقبل كل ما تنشره قريش؛ ولذلك أرسل أخاه يستوثق له من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن التأثيرات الإعلامية. * شدة اهتمام أبي ذر بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكتف بالمعلومات العامة التي جاء بها أخوه أنيس بل أراد أن يقف على الحقيقة بعينها، حيث إن مجال البحث ليس عن رجل يأمر بالخير فحسب، وإنما عن رجل يذكر أنه نبي؛ ولذلك تحمل المشاق والمتاعب وشظف العيش، والغربة عن الأهل والوطن في سبيل الحق، فأبو ذر ترك أهله واكتفى من الزاد   (1) صحيح البخاري (فتح الباري) (7/ 173). (2) ما شفيتني مما أردت: ما بلغتني غرضي وأزلت عني همي .. (3) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي, ص83. (4) صحيح مسلم (4/ 1923) وشنفوا له: أي أبغضوه، وانظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 145). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بجراب، وارتحل إلى مكة لمعرفة أمر النبوة (1). * التأني والتريث في الحصول على المعلومة: حيث تأنى أبو ذر - رضي الله عنه - لما يعرفه من كراهية قريش لكل من يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم, وهذا التأني تصرف أمني تقتضيه حساسية الموقف, فلو سأل عنه لعلمت به قريش، وبالتالي قد يتعرض للأذى والطرد, ويخسر الوصول إلى هدفه, الذي من أجله ترك مضارب قومه, وتحمل في سبيله مصاعب ومشاق السفر. * الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة: حين سأل علي - رضي الله عنه - أبا ذر - رضي الله عنه - عن أمره وسبب مجيئه إلى مكة، لم يخبره بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام، إمعانًا في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي الوقت ذاته أن يرشده فهذا غاية في الاحتياط، وتم ما أراده. * التغطية الأمنية للتحرك: تم الاتفاق بين علي وأبي ذر رضي الله عنهما على إشارة أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء, وذلك عندما يرى علي - رضي الله عنه - من يترصدهما، أو يراقبهما، فهذه تغطية أمنية لتحركهم اتجاه المقر (دار الأرقم). هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من علي, فيعد هذا الموقف احتياطًا، وتحسبًا لكل طارئ قد يحدث أثناء التحرك. * هذه الإشارات الأمنية العابرة تدل على تفوق الصحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنية، وعلى مدى توافر الحس الأمني لديهم, وتغلغله في نفوسهم, حتى أصبح سمة مميزة لكل تصرف من تصرفاتهم الخاصة والعامة، فأتت تحركاتهم منظمة ومدروسة، فما أحوجنا لمثل هذا الحس الذي كان عند الصحابة, بعد أن أصبح للأمن في عصرنا أهمية بالغة في زوال واستمرار الحضارات (2)، وأصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة، وأساليبه ووسائله المتطورة، وأجهزته المستقلة, وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة، وأضحت المعلومات عامة والمعلومات الأمنية خاصة، تباع بأغلى الأثمان، ويضحي في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر. وما دام الأمر كذلك فعلى المسلمين الاهتمام بالناحية الأمنية، حتى لا تصبح قضايانا مستباحة للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم (3). * صدق أبي ذر في البحث عن الحق, ورجاحة عقله وقوة فهمه، فقد أسلم بعد عرض الإسلام عليه. * حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم واهتمامه بأمن أصحابه وسلامتهم: حيث أمر أبا ذر بالرجوع إلى أهله وكتمان أمره حتى يظهره الله.   (1) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د. يحيى اليحيى ص91: 93. (2) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، د. إبراهيم علي, ص58،59. (3) انظر: دروس في الكتمان، محمود خطاب، ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 * شجاعة أبي ذر وقوته في الحق: فقد جهر بإسلامه في نوادي قريش, ومجتمعاتهم تحديًّا لهم وإظهارًا للحق (1) وكأنه فهم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتمان ليس على الإيجاب بل على سبيل الشفقة عليه, فأعلمه بأنه به قوة على ذلك؛ ولهذا أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ويؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله, وإن كان السكوت جائزًا، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد, وبحسب ذلك يترتب وجود الأجر وعدمه (2). * كان موقف أبي ذر مفيدًا للدعوة, وساهم في مقاومة الحرب النفسية التي شنتها قريش ضد الرسول صلى الله عليه وسلم, وكانت ضربة معنوية أصابت كفار مكة في الصميم, بسبب شجاعة ورجولة أبي ذر وقدرته على التحمل، فقد سالت الدماء من جسده ثم عاد مرة أخرى للصدع بالشهادة. * مدافعة العباس عن المسلمين, وسعيه لتخليص أبي ذر من أذى قريش, دليل على تعاطفه مع المسلمين، وكان أسلوبه في رد الاعتداء يدل على خبرته بنفوس كفار مكة، حيث حذرهم من الأخطار التي ستواجهها تجارتهم عندما تمر بديار غفار (3). * امتثل أبو ذر للترتيبات الأمنية التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فمع تعلق أبي ذر بالرسول صلى الله عليه وسلم وحبه له وحرصه على لقائه، إلا أنه امتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغادرة مكة إلى قومه، واهتم بصلاح وهداية الأهل, ودعوتهم للإسلام، فبدأ بأخيه، وأمه وقومه. * أثر أبي ذر الدعوي على قومه وقدرته على هدايتهم وإقناعهم بالإسلام، ومع ذلك فلا يصلح للإمارة, روى مسلم في صحيحه عن أبي قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» (4). فلكل شخص مجاله الذي سخره الله فيه, وميدانه الذي يقوم بواجبه فيه، فلا يعني أنه نجح في الدعوة، وإقناع الناس أنه يصلح لكل شيء. * تفويض أبي ذر الإمامة إلى سيد غفار (أيماء بن رَحَضة) ومع تقدم أبي ذر عليه في الإسلام وعلو منزلته, يدل على مهارة إدارية, وهي عدم جمع كل الأعمال في يده، وتقدير الناس وإنزالهم منازلهم (5).   (1) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة ص95. (2) انظر: فتح الباري (7/ 134). (3) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص94، 95. (4) مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة (3/ 1457) رقم 1825. (5) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 * نجاح أبي ذر الباهر في الدعوة: حيث أسلمت نصف غفار، وأسلم نصفها الثاني بعد الهجرة (1). لقد فشلت محاولات التشويه والحرب الإعلامية, والحجر الفكري الذي كان الكفار يمارسونه على الدعوة الإسلامية في بداية عهدها؛ لأن صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أقوى من أصواتهم، ووسائله في التبليغ كانت أبلغ من وسائلهم، وثباته على مبدئه السامي, كان أعلى بكثير مما كان يتوقعه أعداؤه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يجلس في بيته، ولم ينزو في زاوية من زوايا المسجد الحرام، ليستخفي بدعوته، وليقي نفسه من سهام أعدائه المسمومة، بل إنه غامر بنفسه، فكان يخرج في مضارب العرب, قبل أن يفدوا مكة، وكان يجهر بتلاوة القرآن في المسجد الحرام, ليسمع من كان في قلبه بقية من حياة, وأثارة من حرية وإباء, فيتسرب نور الهدى إلى مجامع لبه، وسويداء قلبه (2) , وكان من هؤلاء ضماد الأزدي، وعمرو بن عبسة، وأبي ذر الغفاري، والطفيل بن عمرو الدوسي, وحصين والد عمران بن الحصين رضي الله عنهم, وهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع, على فشل حملات التشويه التي شنتها قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعلينا أن نعتبر ونستفيد من الدروس والعبر. ثالثًا: ما تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى والتعذيب: لم يفتر المشركون عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم, منذ أن صدع بدعوته إلى أن خرج من بين أظهرهم, وأظهره الله عليهم، ويدل على مبلغ هذا الأذى تلك الآيات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة تأمره بالصبر، وتدله على وسائله وتنهاه عن الحزن، وتضرب له أمثلة من واقع إخوانه المرسلين، مثل قوله تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً) [المزمل: 10]. وقوله: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان: 24]. وقوله: (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النمل: 70]. وقوله: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) [فصلت: 43]. وهذه أمثلة تدل على ما تعرض له صلى الله عليه وسلم من الإيذاء: 1 - قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه (3) بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته, أو لأعفرنَّ وجهه في التراب. قال:   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 45). (2) التاريخ الإسلامي للحميدي (1/ 144). (3) يعفر وجهه: أي يسجد ويلصق وجهه بالعفر وهو التراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجِئَهم (1) منه إلا وهو ينكص على عقبيه (2) ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» (3). وفي حديث ابن عباس قال: كان النبي يصلي فجاء أبو جهل: فقال: (ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فزبره (4) فقال: أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثرُ مني، فأنزل الله تعالى (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ - سَنَدْعُو الزَّبَانِيَةَ) [العلق: 17، 18] قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله» (5). 2 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جَزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسَلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام -وهي جويرية- فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم, فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش» ثم سمّى: «اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد» قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب (6) -قليب بدر-، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأتبع أصحاب القليب لعنة» (7). وقد بينت الروايات الصحيحة الأخرى أن الذي رمى الفرث عليه هو عقبة بن أبي معيط، وأن الذي حرضه هو أبو جهل (8)، وأن المشركين تأثروا لدعوة الرسول، وشق عليهم الأمر؛ لأنهم يرون أن الدعوة بمكة مستجابة (9).   (1) فجئهم: بغتهم. (2) عقبيه: رجع يمشي إلى الوراء. (3) مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب قوله (إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى) رقم 2797. (4) زبره: نهره. (5) الترمذي رقم 3349، حسن صحيح غريب. (6) القليب: البئر المفتوحة. (7) البخاري (فتح الباري 1/ 594) مسلم (3/ 1418 - 1420). (8) صحيح مسلم (3/ 1420). (9) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 149). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 3 - اجتماع الملأ من قريش وضربهم الرسول صلى الله عليه وسلم: اجتمع أشراف قريش يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط, سفه أحلامنا وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا وثبة رجل واحد, وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا - لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم- فيقول: «نعم، أنا الذي أقول ذلك» , ثم أخذ رجل منهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر - رضي الله عنه - دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله (1). 4 - كان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس عداوة له، وكذلك كانت امرأته أم جميل من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم, وكانت تسعى بالإفساد بينه وبين الناس بالنميمة, وتضع الشوك في طريقه، والقذر على بابه فلا عجب, أن نزل فيهما قول الله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ - مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ - سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ - وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ - فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ) [المسد] فحين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فهر من حجارة، فلما وقفت عليهما قالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه. ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال: «لقد أخذ الله ببصرها عني»، وكانت تنشد: مذمم أبينا .. ودينه قلينا .. وأمره عصينا .. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح؛ لأن المشركين يسبون مذممًا يقول: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا ويلعنون مذممًا وأنا محمد» (2). وقد بلغ من أمر أبي لهب أنه كان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسواق والمجامع، ومواسم الحج ويكذبه (3). هذا بعض ما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذية المشركين، وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاولة قتله في أواخر المرحلة المكية (4). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما لاقاه من أذى قريش قبل أن ينال الأذى أحدًا من أتباعه يقول: «لقد أخفت في الله عز وجل وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال» (5).   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي من طرق أخرى، ص96. (2) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 554، 555). (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 293). (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 153). (5) سنن الترمذي (4/ 645) صححه الألباني صحيح الجامع (5001). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ومع ما له صلى الله عليه وسلم من عظيم القدر ومنتهى الشرف، إلا أنه قد حظي من البلاء بالحِمْل الثقيل، والعناء الطويل, منذ أول يوم صدع فيه بالدعوة، ولقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من سفهاء قريش أذى كثيرًا، فكان إذا مر على مجالسهم بمكة استهزءوا به، وقالوا ساخرين: هذا ابن أبي كبشة (1) يُكلم من السماء، وكان أحدهم يمر على الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول له ساخرًا: أما كُلمت اليوم من السماء؟ (2). ولم يقتصر الأمر على مجرد السخرية والاستهزاء والإيذاء النفسي، بل تعداه إلى الإيذاء البدني، بل قد وصل الأمر إلى أن يبصق عدو الله أمية بن خلف في وجه النبي صلى الله عليه وسلم (3) , وحتى بعد هجرته عليه السلام إلى المدينة لم تتوقف حدة الابتلاء والأذى، بل أخذت خطًّا جديدا بظهور أعداء جدد، فبعد أن كانت العداوة تكاد تكون مقصورة على قريش بمكة، صار له صلى الله عليه وسلم أعداء من المنافقين المجاورين بالمدينة، ومن اليهود والفرس والروم، وأحلافهم، وبعد أن كان الأذى بمكة شتمًا وسخرية، وحصارًا، وضربًا، صار مواجهة عسكرية مسلحة، حامية الوطيس، فيها كر وفر وضرب وطعن، فكان ذلك بلاء في الأموال والأنفس على السواء (4) , وهكذا كانت فترة رسالته صلى الله عليه وسلم وحياته سلسلة متصلة من المحن والابتلاء، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، بل صبر واحتسب حتى لقي ربه (5). لقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم من الفتن والأذى والمحن ما لا يخطر على بال، في مواقف متعددة، وكان ذلك على قدر الرسالة التي حملها، ولذلك استحق المقام المحمود, والمنزلة الرفيعة عند ربه، وقد صبر على ما أصابه، إشفاقًا على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب، وليكون قدوة للدعاة والمصلحين (6)، فإذا كان الاعتداء الأثيم، قد نال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعد هناك أحد, لكرامته, هو أكبر من الابتلاء والمحنة، وتلك سنة الله في الدعوات. فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» (7).   (1) والد الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة. (2) الروض الأنف (2/ 33) وما بعدها. (3) المصدر السابق نفسه (2/ 48) (4) زاد اليقين لأبي شنب ص137. (5) انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص243. (6) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، د. سليمان السويكت، ص197. (7) ابن ماجة باب الصبر على البلاء رقم الحديث 4023. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 رابعًا: ما تعرض له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى والتعذيب: 1 - ما لاقاه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: تحمل الصحابة رضوان الله عليهم من البلاء العظيم ما تنوء به الرواسي الشامخات وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فلقد أوذي أبو بكر - رضي الله عنه -، وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى ما يعرف وجهه من أنفه, وحُمل إلى بيته في ثوبه، وهو ما بين الحياة والموت (1). فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها, أنه لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر - رضي الله عنه - على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: «يا أبا بكر إنا قليل» فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوهم في نواحي المسجد ضربًا شديدًا، ووُطئ أبو بكر وضرب ضربًا شديدًا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر - رضي الله عنه -، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون, فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة, فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، إنني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح. قل: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس   (1) التمكين للأمة الإسلامية، ص243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها, وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها, عسى الله أن يستنقذها بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعاها إلى الله فأسلمت (1). دروس وعبر وفوائد: أ- حرص أبي بكر - رضي الله عنه - على إعلان الإسلام، وإظهاره أمام الكفار, وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته، وقد تحمل الأذى العظيم حتى إن قومه كانوا لا يشكون في موته. ب- مدى الحب الذي كان يكنه أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث إنه- وهو في تلك الحال الحرجة- يسأل عنه ويلح إلحاحًا عجيبًا في السؤال، ثم يحلف ألا يأكل ولا يشرب حتى يراه، كيف يتم ذلك وهو لا يستطيع النهوض بل المشي؟ ولكنه الحب في الله، والعزائم التي تقهر الصعاب، وكل مصاب في سبيل الله ومن أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم هين ويسير. ج- إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبو بكر (2). د- الحس الأمني لأم جميل -رضي الله عنها- فقد برز في عدة تصرفات لعل من أهمها: * إخفاء الشخصية والمعلومة عن طريق الإنكار: عندما سألت أم الخير أم جميل، عن مكان الرسول صلى الله عليه وسلم أنكرت أنها تعرف أبا بكر ومحمد بن عبد الله، فهذا تصرف حذر سليم، إذ لم تكن أم الخير ساعتئذ مسلمة، وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولا تود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول صلى الله عليه وسلم مخافة أن تكون عينًا لقريش (3). * استغلال الموقف لإيصال المعلومة: فأم جميل أرادت أن تقوم بإيصال المعلومة بنفسها لأبي بكر - رضي الله عنه - , وفي ذات الوقت لم تظهر ذلك لأم الخير إمعانًا في السرية والكتمان، فاستغلت الموقف لصالحها قائلة: «إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت» , وقد عرضت عليها هذا الطلب بطريقة تنم عن الذكاء, وحسن التصرف، فقولها: «إن كنت تحبين» وهي أمه وقولها: «إلى ابنك» ولم تقل لها: إلى أبي بكر، كل ذلك يحرك في أم الخير عاطفة الأمومة، فغالبًا ما ترضخ لهذا   (1) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 439: 441) البداية والنهاية (3/ 30). (2) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص79. (3) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الطلب، وهذا ما تم بالفعل، حيث أجابتها بقولها: «نعم» وبالتالي نجحت أم جميل في إيصال المعلومة بنفسها. * استغلال الموقف في كسب عطف أم أبي بكر: يبدو أن أم جميل حاولت أن تكسب عطف أم الخير، فاستغلت وضع أبي بكر - رضي الله عنه - الذي يظهر فيه صريعًا دنفًا، فأعلنت بالصياح، وسبَّت من قام بهذا الفعل بقولها: «إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر» فلا شك أن هذا الموقف من أم جميل يشفي بعض غليل أم الخير، من الذين فعلوا ذلك بابنها، فقد تكن شيئًا من الحب لأم جميل, وبهذا تكون أم جميل كسبت عطف أم الخير وثقتها, الأمر الذي يسهل مهمة أم جميل في إيصال المعلومة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - (1). * الاحتياط والتأني قبل النطق بالمعلومة: لقد كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر, من أن تتسرب هذه المعلومة الخطيرة عن مكان قائد الدعوة، فهي لم تطمئن بعد إلى أم الخير؛ لأنها ما زالت مشركة آنذاك، وبالتالي لم تأمن جانبها، لذا ترددت عندما سألها أبو بكر - رضي الله عنه - , عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: «هذه أمك تسمع؟» فقال لها: لا شيء عليك منها، فأخبرته ساعتها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سالم صالح (2) , وزيادة في الحيطة والحذر والتكتم لم تخبره بمكانه, إلا بعد أن سألها عنه قائلا: أين هو؟ فأجابته في دار الأرقم. * تخير الوقت المناسب لتنفيذ المهمة: حين طلب أبو بكر - رضي الله عنه - الذهاب إلى دار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما، فهذا هو أنسب وقت للتحرك وتنفيذ هذه المهمة حيث تنعدم الرقابة من قبل أعداء الدعوة، مما يقلل من فرص كشفها، وقد نفذت المهمة بالفعل دون أن يشعر بها الأعداء, حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر إلى دار الأرقم، وهذا يؤكد أن الوقت المختار كان أنسب الأوقات (3). د- قانون المنحة بعد المحنة، حيث أسلمت أم الخير أم أبي بكر, بسبب رغبة الصديق في إدخال أمه إلى حظيرة الإسلام، وطلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء لها، لما رأى من برها به،   (1) المصدر نفسه. (2) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص51. (3) نفس المصدر، ص50: 52، وقد استفدت من هذا الكتاب في هذه الدروس الأمنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقد كان - رضي الله عنه - حريصًا على هداية الناس الآخرين فكيف بأقرب الناس إليه (1). هـ- إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الأذى والفتنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - نظرا لصحبته الخاصة له، والتصاقه به في المواطن التي كان يتعرض فيها للأذى من قومه، فينبري الصديق مدافعًا عنه وفاديًا إياه بنفسه، فيصيبه من أذى القوم وسفههم, هذا مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان (2). 2 - بلال رضي الله عنه: تضاعف أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه, حتى وصل إلى ذروة العنف, وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين، فنكلت بهم لتفتنهم عن عقيدتهم وإسلامهم، ولتجعلهم عبرة لغيرهم، ولتنفس عن حقدها, وغضبها, بما تصبه عليهم من العذاب. قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأعطوه الولدان, وأخذوا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد» (3). لم يكن لبلال - رضي الله عنه - ظهر يسنده، ولا عشيرة تحميه، ولا سيوف تذود عنه، ومثل هذا الإنسان في المجتمع الجاهلي المكي, يعادل رقمًا من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم ويطيع، ويباع ويشترى كالسائمة، أما أن يكون له رأي, أو يكون صاحب فكر، أو صاحب دعوة, أو صاحب قضية، فهذه جريمة شنعاء في المجتمع الجاهلي المكي تهز أركانه وتزلزل أقدامه، ولكن الدعوة الجديدة التي سارع لها الفتيان, وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرمي المنسي، فأخرجته إنسانًا جديدًا على الوجود (4) , فقد تفجرت معاني الإيمان في أعماقه بعد أن آمن بهذا الدين، وانضم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه في موكب الإيمان العظيم, وها هو الآن يتعرض للتعذيب من أجل عقيدته ودينه, فقصد وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق, موقع التعذيب وفاوض أمية بن خلف وقال له: «ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى! قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى، فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به، قال: قد قبلت، فقال: هو لك فأعطاه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - غلامه ذلك وأخذه فاعتقه» (5)، وفي رواية:   (1) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص79. (2) نفس المصدر، ص75. (3) مسند أحمد (1/ 404) بإسناد حسن. (4) انظر: التربية القيادية (1/ 136). (5) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 394). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 اشتراه بسبع أواق, أو بأربعين أوقية ذهبًا (1)، ما أصبر بلالاً وما أصلبه - رضي الله عنه - , فقد كان صادق الإسلام، طاهر القلب، ولذلك صَلُبَ, ولم تلن قناته أمام التحديات وأمام صنوف العذاب، وكان صبره وثباته مما يغيظهم ويزيد حنقهم, خاصة أنه كان الرجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على الإسلام فلم يوات الكفار فيما يريدون, مرددًا كلمة التوحيد بتحدٍّ صارخ، وهانت عليه نفسه في الله وهان على قومه (2). وبعد كل محنة منحة فقد تخلص بلال من العذاب والنكال، وتخلص من أسر العبودية، وعاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية حياته ملازمًا له، ومات راضيًا عنه مبشرًا إياه بالجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم لبلال: « ... فإني سمعت خشف نعليك بين يدي في الجنة» (3). وأما مقامه عند الصحابة فقد كان عمر - رضي الله عنه - يقول: «أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا» يعني بلالاً (4). وأصبح منهج الصديق في فك رقاب المستضعفين, ضمن الخطة التي تبنتها القيادة الإسلامية لمقاومة التعذيب الذي نزل بالمستضعفين، فمضى يضع ماله في تحرير رقاب المؤمنين المنضمين إلى هذا الدين الجديد من الرق: ( .. ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب, بلال سابعهم: عامر بن فهيرة شهد بدرًا وأحدًا، وقتل يوم بئر معونة شهيدًا، وأم عُبيس، وزنِّيرة وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: «كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله بصرها» وأعتق النهدية وبنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمرَّ بهما، وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا: فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: حِل (5) يا أم فلان، فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما» (6). وهنا وقفة تأمل ترينا كيف سوَّى الإسلام بين الصديق والجاريتين حتى خاطبتاه، خطاب الند للند، لا خطاب المسود للسيد، وتقبل الصديق على شرفه وجلالته في الجاهلية والإسلام منهما ذلك، مع أنه له يدًا عليهما بالعتق، وكيف صقل الإسلام الجاريتين حتى تخلقتا بهذا   (1) انظر: التربية القيادية (1/ 140). (2) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص92. (3) صحيح مسلم (2/ 1910) رقم الحديث 2458. (4) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 232) ورجاله ثقات. (5) حل: تحللي من يمينك. (6) حل: تحللي من يمينك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم, أن تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرياح، أو يأكله الحيوان والطير، ولكنهما أبتا، تفضلاً, إلا أن تفرغا منه وترداه إليها (1). ومر الصديق بجارية بني مؤمل, حي من بني عدي بن كعب, وكانت مسلمة, وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا ملَّ قال: إني أعتذر إليك, إني لم أتركك إلا عن ملالة فتقول: كذلك فعل الله بك, فابتاعها أبو بكر فأعتقها (2). هكذا كان واهب الحريات، ومحرر العبيد، شيخ الإسلام الوقور، الذي عرف بين قومه بأنه يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، لم ينغمس في إثم في جاهليته، أليف مألوف, يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء، والأرقاء، أنفق جزءًا كبيرًا من ماله في شراء العبيد وأعتقهم لله، وفي الله، قبل أن تنزل التشريعات الإسلامية المحببة في العتق، والواعدة عليه أجزل الثواب (3). كان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر - رضي الله عنه - الذي يبذل هذا المال كله لهؤلاء المستضعفين, أما في نظر الصديق، فهؤلاء إخوانه في الدين الجديد، فكل واحد من هؤلاء لا يساوي عنده مشركي الأرض وطغاتها، وبهذه العناصر وغيرها تبنى دولة التوحيد، وتصنع حضارة الإسلام الرائدة والرائعة (4) , ولم يكن الصديق يقصد بعمله هذا محمدة، ولا جاهًا، ولا دنيا، وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام، لقد قال له أبوه ذات يوم: «يا بني إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك، ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصديق قرآنًا يتلى إلى يوم الدين، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى - وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى - إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى - وَإِنَّ لَنَا لَلآَخِرَةَ وَالأُولَى - فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى - لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى - وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى - إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (5) [الليل: 5 - 21]. كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة الإسلامية الأولى, قمة من قمم الخير والعطاء، وأصبح   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 346). (2) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 393). (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 345). (4) انظر: التربية القيادية (1/ 342). (5) سيرة ابن هشام (1/ 319)، تفسير الآلوسي (30/ 152). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 هؤلاء العبيد بالإسلام أصحاب عقيدة وفكرة, يناقشون بها وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، وكان إقدام أبي بكر - رضي الله عنه - على شرائهم ثم إعتاقهم دليلاً على عظمة هذا الدين, ومدى تغلغله في نفسية الصديق - رضي الله عنه -، وما أحوج المسلمين اليوم أن يحيوا هذا المثل الرفيع، والمشاعر السامية ليتم التلاحم والتعايش, والتعاضد بين أبناء الأمة التي يتعرض أبناؤها للإبادة الشاملة من قبل أعداء العقيدة والدين. 3 - عمار بن ياسر وأبوه وأمه رضي الله عنهم: كان والد عمار بن ياسر من بني عنس من قبائل اليمن، قدم مكة وأخواه الحارث ومالك يطلبون أخًا لهم، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي, (1) فزوجه أبو حذيفة أَمّة له يقال لها: سُمية بنت خياط، فولدت له عمارًا، فأعتقه أبو حذيفة الذي لم يلبث أن مات، وجاء الإسلام فأسلم ياسر وسمية وعمار, وأخوه عبد الله بن ياسر، فغضب عليهم مواليهم بنو مخزوم غضبًا شديدًا صبوا عليهم العذاب صبًّا، كانوا يخرجونهم إذا حميت الظهيرة فيعذبونهم برمضاء مكة (2) ويقلبونهم ظهرًا لبطن, (3) فيمر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فيقول: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» (4) وجاء أبو جهل إلى سمية فقال لها: ما آمنت بمحمد إلا لأنك عشقته لجماله، فأغلظت له القول, فطعنها بالحربة في ملمس العفة فقتلها، فهي أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها, (5) وبذلك سطرت بهذا الموقف الشجاع أعلى وأغلى ما تقدمه امرأة في سبيل الله، لتبقى كل امرأة مسلمة, حتى يرث الله الأرض ومن عليها ترنو إليها ويهفو قلبها في الاقتداء بها، فلا تبخل بشيء في سبيل الله، بعد أن جادت سمية بنت خياط بدمها في سبيل الله (6). وقد جاء في حديث عثمان - رضي الله عنه - قال: «أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذًا بيدي نتمشى بالبطحاء، حتى أتى على آل عمار بن ياسر، فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اصبر»، ثم قال: «اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت» (7) ثم لم يلبث ياسر أن مات تحت العذاب.   (1) انظر: أنساب الأشراف للبلاذري (1/ 100، 157). (2) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 68). (3) بهجة المحافل للعامري (1/ 92). (4) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، ص97، 98. (5) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص99. (6) التربية القيادية (1/ 217). (7) صحيح السيرة النبوية ص 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 لم يكن في وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدم شيئًا لآل ياسر, رموز الفداء والتضحية, فليسوا بأرقاء حتى يشتريهم ويعتقهم، وليست لديه القوة ليستخلصهم من الأذى والعذاب، فكل ما يستطيعه صلى الله عليه وسلم أن يزف لهم البشرى بالمغفرة والجنة, ويحثهم على الصبر, لتصبح هذه الأسرة المباركة قدوة للأجيال المتلاحقة، ويشهد الموكب المستمر على مدار التاريخ هذه الظاهرة «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» (1). أما عمار - رضي الله عنه - فقد عاش بعد أهله زمنًا يكابد من صنوف العذاب ألوانًا، فهو يصنف في طائفة المستضعفين الذين لا عشائر لهم بمكة تحميهم، وليست لهم منعة ولا قوة، فكانت قريش تعذبهم في الرمضاء بمكة أنصاف النهار, ليرجعوا عن دينهم، وكان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول (2)، ولما أخذه المشركون ليعذبوه لم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما وراءك؟» قال: شر، والله ما تركني المشركون حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنًا بالإيمان، قال: «فإن عادوا فعد» (3)، ونزل الوحي بشهادة الله تعالى على صدق إيمان عمار، قال تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل: 106] وقد حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (4). وفي حادثتي بلال وعمار فقه عظيم يتراوح بين العزيمة والرخصة, يحتاج من الدعاة أن يستوعبوه, ويضعوه في إطاره الصحيح, وفي معاييره الدقيقة دون إفراط أوتفريط. 4 - سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: تعرض للفتنة من قبل والدته الكافرة، فامتنعت عن الطعام والشراب, حتى يعود إلى دينها. قال ابن كثير: «قال الطبراني في كتاب العشرة إن سعدًا قال: أنزلت فيّ هذه الآية: (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا) [العنكبوت: 8]. قال: كنت رجلاً برًا بأمي فلما أسلمتُ قالت: يا سعد: ما هذا الدين الذين أراك قد أحدثت، لتدعنَّ دينك هذا, أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي, فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني لشيء, فَمَكَثت يومًا وليلة لم تأكل, فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًأ آخر وليلة أخرى لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يومًا وليلة أخرى لا تأكل, فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت يا أُمَّه   (1) التربية القيادية (1/ 217، 218). (2) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص100. (3) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص103. (4) المصدر السابق، ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي, فأكلت (1). وروى مسلم: أن أم سعد حلفت ألا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثًا حتى غَشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له: عُمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن الكريم هذه الآية: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ... ) (2) وفيها (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا). قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أوجروها (3) , فمحنة سعد محنة عظيمة، وموقفه موقف فذ يدل على مدى تغلغل الإيمان في قلبه، وأنه لا يقبل فيه مساومة مهما كانت النتيجة (4). ومن خلال تتبع القرآن المكي نجد أنه رغم قطع الولاء سواء في الحب أو النصرة بين المسلم وأقاربه الكفار، فإن القرآن أمر بعدم قطع صلتهم وبرهم والإحسان إليهم ومع ذلك فلا ولاء بينهم؛ لأن الولاء لله ورسوله ودينه والمؤمنين (5). 5 - مصعب بن عمير - رضي الله عنه - كان مصعب بن عمير - رضي الله عنه - أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال (6) , وبلغ من شدة كلف أمه به أنه يبيت وقعب الحيس (7) عند رأسه   (1) تفسير ابن كثير (3/ 446). (2) تعقيب: هكذا وردت ألفاظ الآية في صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص، وفي شرح النووي على مسلم، ولم يتكلم عليها الإمام النووي؛ والصواب هو أن نص الآية: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) [وهي الآية 8 من سورة العنكبوت] وكذلك نص الآية (14) من سورة لقمان هو: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) والآية (15) التالية لها نصها: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فلا أدري كيف جاء هذا في رواية مسلم المذكورة. (المراجع). (3) صحيح مسلم (2/ 1877، 1878) ورقم الحديث [43، 44 - (1748)] وشجروا فاها، وأوجروها، يعني: فتحوا فمها وصبوا فيه الطعام. (4) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص106. (5) انظر: الولاء والبراء، محمد القحطاني، ص174، 175. (6) الطبقات الكبرى (3/ 116). (7) القعب: القدح الغليظ، والحيس: تمر وأقط وسمن تخلط وتعجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فإذا استيقظ من نومه أكل (1) , ولما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم دخل عليه فأسلم وصدق به، وخرج فكتم إسلامه خوفًا من أمه وقومه، فكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًّا، فبصر به عثمان بن طلحة (2) يصلي, فأخبر أمه وقومه، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى (3). قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: لقد رأيته جهد في الإسلام جهدًا شديدًا حتى لقد رأيت جلده يتحشّف، أي يتطاير، تحشف جلد الحية عنها، حتى إن كنا لنعرضه على قتبنا فنحمله مما به من الجهد (4). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما ذكره قال: «ما رأيت بمكة أحدًا أحسن لمة ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير» (5)، ومع كل ما أصابه - رضي الله عنه - من بلاء ومحنة ووهن في الجسم والقوة، وجفاء من أقرب الناس إليه, لم يقصر عن شيء مما بلغه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخير, والفضل، والجهاد في سبيل الله تعالى, حتى أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد (6). يعتبر مصعب - رضي الله عنه - نموذجًا من تربية الإسلام للمترفين الشباب، للمنعمين من أبناء الطبقات الغنية المرفهة، لأبناء القصور والمال والجاه، للمعجبين بأشخاصهم، المبالغين في تأنقهم، الساعين وراء مظاهر الحياة كيف تغيرت؟ ووقف بعد إسلامه قويًّا لا يضعف ولا يتكاسل ولا يتخاذل، ولا تقهره نفسه وشهواته فيسقط في جحيم النعيم الخادع (7). لقد ودع ماضيه بكل ما فيه من راحة ولذة وهناءة، يوم دخل هذا الدين وبايع تلك البيعة، وكان لا بد له من المرور في درب المحنة لكي يصقل إيمانه ويتعمق يقينه، وكان مصعب مطمئنا راضيا رغم ما حوله من جبروت ومخاوف، ورغم ما نزل به من البؤس والفقر والعذاب، ورغم ما فقده من مظاهر النعم والراحة (8) , فقد تعرض لمحنة الفقر، ومحنة فقد الوجاهة والمكانة عند أهله، ومحنة الأهل والأقارب والعشيرة، ومحنة الجوع والتعذيب، ومحنة الغربة والابتعاد عن الوطن، فخرج من كل تلك المحن منتصرا بدينه وإيمانه، مطمئنا أعمق الاطمئنان، ثابتًا أقوى الثبات (9) ولنا معه وقفات في المدينة بإذن الله تعالى.   (1) الروض الأنف (2/ 195). (2) سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 10 - 12). (3) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص107. (4) السير والمغازي لابن إسحاق ص193. (5) الطبقات الكبرى (3/ 116). (6) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص108. (7) انظر: مصعب بن عمير الداعية المجاهد، محمد بريغش ص105. (8) المصدر السابق نفسه، ص105: 107. (9) انظر: مصعب بن عمير الداعية المجاهد، ص126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 6 - خباب بن الأرت - رضي الله عنه -: كان خباب - رضي الله عنه - قينا (1) , وأراد الله له الهداية مبكرًا، فدخل في الإسلام قبل دخول دار الأرقم بن أبي الأرقم (2) , فكان من المستضعفين الذين عذبوا بمكة لكي يرتد عن دينه، وصل به العذاب بأن ألصق المشركون ظهره بالأرض على الحجارة المحماة حتى ذهب ماء مَتْنه (3). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يألف خبابًا ويتردد عليه بعد أن أسلم، فلما علمت مولاته بذلك، وهي أم أنمار الخزاعية، أخذت حديدة قد أحمتها، فوضعتها على رأسه، فشكا خبابًا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «اللهم انصر خبابًا»، فاشتكت مولاته رأسها، فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها: اكتوي، فجاءت إلى خباب ليكويها، فكان يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها، وإن في ذلك لعبرة لمن أراد أن يعتبر, ما أقرب فرج الله ونصره من عباده المؤمنين الصابرين، فانظر كيف جاءت إليه بنفسها تطلب منه أن يكويها على رأسها (4)، ولما زاد ضغط المشركين على ضعفاء المسلمين ولقوا منهم شدة، جاء خباب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقال له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا، فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه، قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (5). وللشيخ سلمان العودة حفظه الله تعليق لطيف على هذا الحديث: يا سبحان الله ماذا جرى حتى احمرَّ وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقعد من ضجعته؟ وخاطب أصحابه بهذا الأسلوب القوي المؤثر، ثم عاتبهم على الاستعجال؟ لأنهم طلبوا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم؟ كلا: حاشاه من ذلك، وهو الرءوف الرحيم بأمته. إن أسلوب الطلب: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ يوحي بما وراءه وأنه صادر من قلوب أمضَّها العذاب، وأنهكها الجهد، وهدتها البلوى فهي تلتمس الفرج العاجل، وتستبطئ النصر, فتستدعيه.   (1) قينًا: حدادًا. (2) سير أعلام النبلاء (2/ 479). (3) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص95. (4) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص96. (5) البخاري، مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي وأصحابه (4/ 238). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن الأمور مرهونة بأوقاتها، وأسبابها، وأن قبل النصر البلاء، فالرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف: 110]. ويلمس عليه السلام من واقع أصحابه وملابسات أحوالهم، برمهم بالعذاب الذي يلاقون، حتى يفتنوا عن دينهم، ويستعلي عليهم الكفرة، ويموت منهم من يموت تحت التعذيب. وقد لا يكون من الميسور أن يدرك المرء, بمجرد قراءة النص، حقيقة الحال التي كانوا عليها حين طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الدعاء والاستنصار، ولا أن يعرف المشاعر والإحساسات التي كانت تثور في نفوسهم إلا أن يعيش حالاً قريبًا من حالهم ويعاني في سبيل الله بعض ما عانوا. لقد كان صلى الله عليه وسلم يربيهم على: أ- التأسي بالسابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم, في تحمل الأذى في سبيل الله ويضرب لهم الأمثلة في ذلك. ب- التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا. ج- التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه الإسلام في هذه الحياة الدنيا، ويذل فيه أهل الذل والعصيان. وثمة أمر آخر كبير ألا وهو: أنه صلى الله عليه وسلم مع هذه الأشياء كلها كان يخطط ويستفيد من الأسباب المادية المتعددة لرفع الأذى والظلم عن أتباعه، وكف المشركين عن فتنتهم، وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل الدين، وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه حيث شاء، وتزيل الحواجز والعقبات التي تعترض طريق الدعوة إلى الله (1). وقد تحدث خباب - رضي الله عنه - عن بعض ما كان يلقون من المشركين من عنت, وسوء معاملة ومساومة على الحقوق, حتى يعودوا إلى الكفر, قال: كنت قينًا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لن أكفر حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إن مت ثم بعثت جئتني, ولي ثَمَّ مالٌ وولد فأعطيتك, فأنزل الله: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا) إلى قوله (فَرْدًا) (2).   (1) انظر: الغرباء الأولون، ص145، 146. (2) مسند أحمد (5/ 111). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وذكر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خلافته سأل خبابًا عما لقي في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره، فإذا هو قد برص، فقال عمر: ما رأيت كاليوم، فقال خباب: يا أمير المؤمنين لقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رَجُل رجله على صدري فما اتقيت الأرض أو قال: برد الأرض- إلا بظهري، وما أطفأ تلك النار إلا شحمي (1). 7 - عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: كان منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته للناس حكيمًا، وكان يعامل الأكابر وزعماء القبائل بلطف وترفق, وكذلك الصبيان الصغار, فهذا ابن مسعود - رضي الله عنه - يحدثنا عن لقائه اللطيف برسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلامًا يافعًا أرعى غنما لعقبة بن أبي مُعَيط فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال: «يا غلام هل من لبن؟» قلت: نعم ولكني مؤتمن، قال: «فهل من شاة لم ينز عليها فحل؟» فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: «اقلص»، فقلص قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي وقال: «يرحمك الله فإنك غليم معلم» (2). وهكذا كان مفتاح إسلامه كلمتين عظيمتين: الأولى قالها عن نفسه، «إني مؤتمن»، والثانية كانت من الصادق المصدوق حيث قال له: «إنك غليم معلم» ولقد كان لهاتين الكلمتين دور عظيم في حياته، وأصبح فيما بعد من أعيان علماء الصحابة -رضوان الله عليهم- ودخل عبد الله في ركب الإيمان، وهو يمخر بحار الشرك في قلعة الأصنام، فكان واحدًا من أولئك السابقين الذين مدحهم الله في قرآنه العظيم (3). قال عنه ابن حجر: «أحد السابقين الأولين، أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا والمشاهد بعدها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وكان صاحب نعليه» (4). أول من جهر بالقرآن الكريم: بالرغم من أن ابن مسعود كان حليفًا وليس له عشيرة تحميه، ومع أنه كان ضئيل الجسم, دقيق الساقين، فإن ذلك لم يحل دون ظهور شجاعته وقوة نفسه - رضي الله عنه - , وله مواقف رائعة في ذلك, منها ذلك المشهد المثير في مكة، وإبان الدعوة وشدة وطأة قريش عليها، فلقد وقف على ملئهم وجهر بالقرآن، فقرع به أسماعهم المقفلة وقلوبهم المغلَّفة (5) فكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة: اجتمع يومًا أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا   (1) الروض الأنف (2/ 98). (2) البداية والنهاية (3/ 32)، سير أعلام النبلاء (1/ 465). (3) انظر: عبد الله بن مسعود، عبد الستار الشيخ، ص43. (4) الإصابة، (6/ 214). (5) انظر: عبد الله بن مسعود، ص45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهوه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) رافعا بها صوته (الرَّحْمَنُ - عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال: فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون (1). وبهذا كان عبد الله بن مسعود أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا غرو أن هذا العمل الذي قام به عبد الله يعتبر تحديًّا عمليًّا لقريش, التي ما كانت لتتحمل مثل هذا الموقف، ويلاحظ جرأة عبد الله عليهم بعد هذه التجربة على الرغم مما أصابه من أذى (2). 8 - خالد بن سعيد بن العاص - رضي الله عنه -: كان إسلام خالد قديمًا، لرؤيا رآها عند أول ظهور النبي صلى الله عليه وسلم, إذ رأى كأنه وقف على شفير النار، وهناك من يدفعه فيها, والرسول يلتزمه لئلا يقع، ففزع من نومه، معتقدًا أن هذه الرؤيا حق، فقصها على أبي بكر الصديق، فقال له: أُريد بك خيرًا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فذهب إليه فأسلم، وأخفى إسلامه خوفًا من أبيه، لكن أباه علم لما رأى كثرة تغيبه عنه، فبعث إخوته الذين لم يكونوا قد أسلموا بعد في طلبه، فجيء به، فأنبه وضربه بمقرعة أو عصا كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم حبسه بمكة, ومنع إخوته من الكلام معه، وحذرهم من عمله، ثم ضيق عليه الخناق فأجاعه, وقطع عنه الماء ثلاثة أيام، وهو صابر محتسب، ثم قال له أبوه: والله لأمنعنك القوت، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه، ويكون معه، ثم رأى أن يهاجر إلى الحبشة مع من هاجر إليها من المسلمين في المرة الثانية (3). 9 - عثمان بن مظعون - رضي الله عنه -: لما أسلم عدا عليه قومه بنو جمح فآذوه، وكان أشدهم عليه وأكثرهم إيذاء له أمية بن خلف؛ ولذلك قال بعد أن خرج إلى الحبشة يعاتبه (4):   (1) انظر: ابن هشام (1/ 314، 315) أسد الغابة (3/ 385، 386). (2) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص88. (3) انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 260). (4) السيرة النبوية للذهبي، ص112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أأخرجتني من بطن مكة آمنًا ... وأسكنتني في صرح بيضاء تقذع تريش نبالاً لا يواتيك ريشها ... وتبري نبالاً ريشها لك أجمع وحاربت أقواما كرامًا أعزة ... وأهلكت أقوامًا بهم كنت تفزع ستعلم إن نابتك يومًا ملمة ... وأسلمك الأوباش ما كانت تصنع وبقي عثمان بن مظعون فترة في الحبشة، لكنه لم يلبث أن عاد منها ضمن من عاد من المسلمين في المرة الأولى، ولم يستطع أن يدخل مكة إلا بجوار من الوليد بن المغيرة، حيث ظل يغدو في جواره آمنًا مطمئنًا، فلما رأى ما يصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من البلاء, وما هو فيه من العافية أنكر ذلك على نفسه، وقال: والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي, (1) فذهب إلى الوليد بن المغيرة وقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك، فقال: لم يا ابن أخي؟ فلعلك أوذيت، أو انتهكت، قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله تعالى ولا أريد أن أستجير بغيره، قال: فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواري علانية، كما أجرتك علانية، فانطلقا إلى المسجد فرد عليه جواره أمام الناس, ثم انصرف عثمان إلى مجلس من مجالس قريش فجلس معهم، وفيهم لبيد بن ربيعة (2) الشاعر ينشدهم فقال لبيد: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) فقال عثمان: صدقت, واستمر لبيد في إنشاده فقال: (وكل نعيم لا محالة زائل) فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، قال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فاخضرت، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي إن عينك لغنية عما أصابها، ولقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس، ثم عرض عليه الوليد الجوار مرة أخرى فرفض (3). وهذا يدل على مدى قوة إيمانه - رضي الله عنه -، ورغبته في الأجر، والمثوبة عند الله, ولذلك لما مات, رأت امرأة في المنام أن له عينًا تجري, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «ذلك عمله» (4). وغير ذلك من الصحابة الكرام تعرض للتعذيب، وهكذا نرى أولئك الرهط من الشباب القرشي, قد أقبلوا على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واستجابوا لها والتفوا حول صاحبها، على الرغم   (1) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 120). (2) انظر: طبقات الشعراء لابن سلام، ص48، 49. (3) السير والمغازي لابن إسحاق، ص178: 180. (4) صحيح البخاري (4/ 265). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 من مواقف آبائهم وذويهم وأقربائهم المتشددة تجاههم، فضحوا بكل ما كانوا يتمتعون به من امتيازات قبل دخولهم في الإسلام، وتعرضوا للفتنة رغبة فيما عند الله تعالى من الأجر والثواب، وتحملوا أذى كثيرًا، وهذا فعل الإيمان في النفوس، عندما يخالطها فتستهين بكل ما يصيبها من عنت وحرمان, إذا كان ذلك يؤدي إلى الفوز برضا الله تعالى وجنته. هذا, ولم يكن التعذيب والأذى مقصورًا على رجال المسلمين دون نسائهم، وإنما طال النساء أيضا قسط كبير من الأذى والعنت بسبب إسلامهن كسمية بنت خياط وفاطمة بنت الخطاب ولبيبة جارية بني المؤمل، وزنيرة الرومية، والنهدية وابنتها، وأم عبيس، وحمامة أم بلال وغيرهن (1). خامسًا: حكمة الكفّ عن القتال في مكة واهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالبناء الداخلي: كان المسلمون يرغبون في الدفاع عن أنفسهم, ويبدو أن الموقف السلمي أغاظ بعضهم وخاصة الشباب منهم، وقد أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم» (2) وتعرض بعض الباحثين للحكمة الربانية في عدم فرضية القتال في مكة ومن هؤلاء الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- فقد قال: لا نجزم بما نتوصل إليه لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض أسبابًا وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية، أو وقد تكون. ذلك أن شأن المؤمن أمام أي تكليف, أو أي حكم من أحكام الشريعة, هو التسليم المطلق؛ لأن الله سبحانه هو العليم الخبير، وإنما نقول هذه الحكمة والأسباب من باب الاجتهاد, وعلى أنه مجرد احتمال؛ لأنه لا يعلم الحقيقة إلا الله، ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح (3). ومن هذه الأسباب والحكم والعلل بإيجاز: 1 - أن الكف عن القتال في مكة, ربما لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة، ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة: تربية الفرد العربي على الصبر, على ما لا يصبر عليه عادة, من الضيم حين يقع عليه أو على من يلوذون به, ليخلص من شخصه ويتجرد من ذاته، فلا يندفع لأول مؤثر، ولا يهتاج لأول مهيج, ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته، ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد بأوامر القيادة الجديدة، حيث لا يتصرف إلا وفق ما تأمره -مهما يكن مخالفًا   (1) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ص116، 117. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، (1/ 158). (3) الظلال: (2/ 714). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي المسلم لإنشاء (المجتمع المسلم). 2 - وربما كان ذلك أيضا؛ لأن الدعوة السلمية, أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها -في مثل هذه الفترة- إلى زيادة العناد, ونشأة ثارات دموية جديدة, كثارات العرب المعروفة أمثال داحس والغبراء وحرب البسوس، وحينئذ يتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات, تنسى معها فكرته الأساسية. 3 - وربما كان ذلك أيضًا اجتنابًا لإنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين، وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد, ومعنى الإذن بالقتال، في مثل هذه البيئة، أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الإسلام، ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال، فقد كانت دعاية قريش في المواسم، إن محمدًا يفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته, فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي؟ 4 - وربما كان ذلك أيضًا, لما يعلمه الله, من أن كثيرًا من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم, هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته، ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟ 5 - وربما كان ذلك أيضًا؛ لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع, وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم، وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة، فابن الدُّغُنَّة (1) لم يرض أن يترك أبا بكر وهو رجل كريم يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عارًا على العرب، وعرض عليه جواره وحمايته، وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب. 6 - وربما كان ذلك أيضًا لقلة عدد المسلمين حينئذ, وانحصارهم في مكة، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش، وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف, ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة، حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم، ويبقى الشرك ولا يقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة. 7 - إنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع   (1) ابن الدغنة: رجل جاهلي أجار أبي بكر عندما أخرجه قومه وأراد الهجرة إلى الحبشة، انظر: الإصابة (2/ 344). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الأذى؛ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة, كان قائمًا ومحققًا وهو (وجود الدعوة) , ووجودها في شخص الداعية محمد صلى الله عليه وسلم، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع، ولذلك لا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغ الدعوة وإعلانها في ندوات قريش حول الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي الاجتماعات العامة، ولا يجرؤ أحد على سجنه أو قتله، أو أن يفرض عليه كلامًا بعينه يقوله. إن هذه الاعتبارات كلها -فيما نحسب- كانت بعض ما اقتضت حكمة الله - معه- أن يأمر المسلمين بكف أيديهم, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، لتتم تربيتهم وإعدادهم، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ، لتكن خالصة وفي سبيل الله (1). وقد تعلم الصحابة من القرآن الكريم فقه المصالح والمفاسد، وكيفية التعامل مع هذا الفقه من خلال الواقع, قال تعالى: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 108]. وهكذا تعلم الصحابة رضي الله عنهم, أن المصلحة إن أدت إلى مفسدة أعظم تترك, (2) وفي هذا تهذيب أخلاقي، وسمو إيماني، وترفع عن مجاراة السفهاء الذين يجهلون الحقائق، وتخلو أفئدتهم من معرفة الله وتقديسه، وقد ذكر العلماء بأن الحكم باقٍ في الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة, وغير خاضع لسلطان الإسلام والمسلمين، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم, ولا دينهم, ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه فعل بمنزلة التحريض على المعصية، وهذا نوع من الموادعة, ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع (3). والناظر في الفترة المكية, والتي كانت ثلاثة عشر عامًا, كلها في تربية وإعداد وغرس لمفاهيم لا إله إلا الله, يدرك ما لأهمية هذه العقيدة من شأن في عدم الاستعجال, واستباق الزمن، فالعقيدة بحاجة إلى غرس يتعهد بالرعاية والعناية والمداومة, بحيث لا يكون للعجلة والفوضى فيها نصيب، وما أجدر الدعاة إلى الله أن يقفوا أمام تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأصحابه على هذه العقيدة وقفة طويلة، فيأخذوا منها العبرة والأسوة؛ لأنه لا يقف في وجه الجاهلية أيًّا كانت قديمة أو حديثة أم مستقبلة, إلا رجال اختلطت قلوبهم ببشاشة العقيدة الربانية،   (1) الولاء والبراء, محمد القحطاني، لخص نقاطًا من الظلال ص169: 171، وفي ظلال القرآن (2/ 714، 715) وفي معالم في الطريق (ص69: 71). (2) انظر: التفسير المنير للزحيلي (7/ 325). (3) المصدر السابق نفسه، (7/ 326). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وتعمقت جذور شجرة التوحيد في نفوسهم (1). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بضبط النفس والتحلي بالصبر، وكان يربي أصحابه على عينه, ويوجههم نحو توثيق الصلة بالله، والتقرب إليه بالعبادة، وقد نزلت الآيات في المرحلة المكية: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً - نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً - أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل: 1 - 4]. فقد أرشدت سورة المزمل الصحابة إلى حاجة الدعاة إلى قيام الليل، والدوام على الذكر، والتوكل على الله في جميع الأمور، وضرورة الصبر, ومع الصبر الهجر الجميل، والاستغفار بعد الأعمال الصالحة. كانت الآيات الأولى من سورة المزمل تأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصص شطرًا من الليل للصلاة، وقد خيره الله تعالى أن يقوم للصلاة نصف الليل, أو يزيد عليه, أو ينقص منه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه معه قريبًا من عام, حتى ورمت أقدامهم, فنزل التخفيف عنهم, بعد أن علم الله منهم اجتهادهم في طلب رضاه، وتشميرهم لتنفيذ أمره ومبتغاه، فرحمهم ربهم فخفف عنهم, فقال: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المزمل: 20]. كان امتحانهم في الفرش, ومقاومة النوم, ومألوفات النفس, لتربيتهم على المجاهدة، وتحريرهم من الخضوع لأهواء النفس، تمهيدًا لحمل زمام القيادة والتوجيه في عالمهم، إذ لابد من إعداد روحي عالٍ لهم، وقد اختارهم الله لحمل رسالته، وائتمنهم على دعوته، واتخذ منهم شهداء على الناس، فالعشرات من المؤمنين في هذه المرحلة التاريخية كانت أمامهم المهمات العظيمة في دعوة الناس إلى التوحيد، وتخليصهم من الشرك، وهي مهمة عظيمة يقدر على تنفيذها أولئك الذين: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا). وقد وصف الله قيام الليل والصلاة فيه وقراءة القرآن ترتيلاً -أي مع البيان والتؤدة- بقوله: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً) فهو أثبت أثرًا في النفس مع سكون الليل وهدأة الخلق، حيث تخلو من شواغلها وتفرغ للذكر، والمناجاة بعيدًا عن علائق الدنيا وشواغل النهار, وبذلك يتحقق الاستعداد اللازم لتلقي الوحي الإلهي (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً) , والقول الثقيل هو القرآن الكريم، وقد ظهر أثر هذا الإعداد الدقيق للمسلمين الأوائل في قدرتهم على تحمل أعباء الجهاد وإنشاء الدولة بالمدينة, وفي إخلاصهم العميق للإسلام وتضحيتهم من أجل إقامته في دنيا الناس ونشره بين العالمين (2).   (1) انظر: الولاء والبراء، ص171. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 160). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مهتمًا بجبهته الداخلية, وحريصًا على تعبئة أصحابه بالعقيدة القوية التي لا تتزعزع ولا تلين، وكان هذا مبعثا لروح معنوية مرتفعة وقوية للدفاع وتحمل العذاب والأذى في سبيل الدعوة، وأصبحت الجماعة الأولى وحدة متماسكة لا تؤثر فيها حملات العدو النفسية، ولا تجد لها مكانا في هذه الجماعة عن طريق المؤاخاة بين المسلمين, فقد أصبحت رابطة الأخوة في الله تزيد على رابطة الدم والنسب, وتفضلها في الدين الإسلامي، وتعايش الرعيل الأول بمعاني الأخوة الرفيعة القائمة على الحب والمودة والإيثار، وكانت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تفعل فعلها في نفوس الصحابة, فكان صلى الله عليه وسلم يحث المسلمين على الأخوة والترابط والتعاون وتفريج الكرب لا لشيء إلا لرضى الله سبحانه, لا نظير خدمة مقابلة أو نحو ذلك، وإنما يفعل المسلم ذلك ابتغاء وجه الله وحده، وهذه المبادئ هي سر استمرار الأخوة الإسلامية, وتماسك المجتمع الإسلامي (1) , وبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه سبحانه وتعالى: «المتحابون في جلالي، لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» (2). وهكذا أصبحت الأخوة الصادقة من مقاييس الأعمال، وأصبحت المحبة في الله من أفضل الأعمال، ولها أفضل الدرجات عند الله, وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين من أن تهون عليهم هذه الرابطة، ووضع لهم أساس الحفاظ عليها, فقال لهم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا» (3). واستعان النبي صلى الله عليه وسلم في ربط المجتمع الداخلي, وتوحيد جبهته لتكون قوية في مواجهة الحرب النفسية الموجهة ضدها، بالمساواة بين أفراد هذه الجبهة وإعطائهم الحرية, فهم لا يدخلون إلى هذا المجتمع إلا بالحرية، ثم كانت لهم في داخله حرية الرأي, وحرية التعبير والمشورة، أتى محمد صلى الله عليه وسلم بمبدأ المساواة بين جميع الناس، الحاكم والمحكوم, والغني والفقير، وبين جميع الطبقات، وقد كان لهذا المبدأ العظيم أكبر الأثر في نفوس أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلهم يتحابون ويتماسكون ويفتدون بأرواحهم ويدافعون عنه بكل ما أوتوا من قوة وعزيمة, فهو صلى الله عليه وسلم لم يقر تفاوتًا بين البشر, بسبب مولد أو أصل, أو حسب أو نسب أو وراثة، أو لون. والاختلاف في الأنساب والأجناس والألوان، لا يؤدي إلى اختلاف في الحقوق والواجبات أو العبادات، فالكل أمام الله سواسية، وعندما طلب أشراف مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلسًا غير مجلس العبيد والضعفاء, حتى لا يضمهم وإياهم مجلس واحد, بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن جميع الناس متساوون في تلقي الوحي والهداية، ورفض   (1) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص128. (2) أخرجه الترمذي وصححه، كتاب الزهد (4/ 515) رقم 2390. (3) البخاري، كتاب الأدب، رقم 6076، (7/ 119). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 كفار مكة وسادتها في ذلك الوقت أن يجلسوا مع العبيد, ومن يعتبرونهم ضعفاء أذلاء من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم, فنزل القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا - وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف: 28، 29] بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعرض عن ابن أم مكتوم الأعمى، منشغلاً بمحاورة بعض الأشراف، عاتبه الله أشد العتاب. وكان من أكبر أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في ربطه المجتمع الإسلامي وتوحيده، وتقويته للجبهة الداخلية, وجعلها قوية البنيان متماسكة، ما دعا إليه صلى الله عليه وسلم من التكافل المادي, والمعنوي بين المسلمين، ليعين منهم القوي الضعيف، وليعطف الغني على الفقير، ولم يترك صلى الله عليه وسلم ثغرة واحدة تنفذ منها الحرب النفسية إلى هذا الصف الإسلامي الأول, وأصبحت الجماعة الأولى صخرة عظيمة, تحطمت عليها كل الجهود والخطط التي بذلها زعماء مكة للقضاء على الدعوة (1). سادسًا: أثر القرآن الكريم في رفع معنويات الصحابة: كان للقرآن الكريم أثر عظيم في شد أزر المؤمنين من جانب, وتوعده الكفار بالعذاب من جانب آخر، مما كان له وقع القنابل على نفوسهم، وقد كان دفاع القرآن الكريم عن الصحابة يتمثل في نقطتين: الأولى: حث الرسول صلى الله عليه وسلم على رعايتهم وحسن مجالستهم واستقبالهم, ومعاتبته على بعض المواقف التي ترك فيها بعض الصحابة لانشغاله بأمر الدعوة أيضا. الثانية: التخفيف عن الصحابة بضرب الأمثلة والقصص لهم, من الأمم السابقة، وأنبيائها، وكيف لاقوا من قومهم الأذى، والعذاب, ليصبروا ويستخفوا بما يلاقون، وأيضًا بمدح بعض تصرفاتهم، ثم بوعدهم بالثواب والنعيم المقيم في الجنة، وكذلك بالتنديد بأعدائهم الذين كانوا يذيقونهم الألم والأذى (2). أما النقطة الأولى: حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في المسجد مع المستضعفين من أصحابه: خباب وعمار، وابن فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية, وصهيب وأشباههم، فكانت قريش تهزأ بهم، وقال الكفار بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، ثم يقولون أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق، لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا (3).   (1) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، ص125: 140. (2) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، ص269. (3) نفس المصدر، ص270، 271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ورد الله سبحانه وتعالى على استهزاء هؤلاء الكفار مبينًا لهم أن رضا الله لبعض عباده، لا يتوقف على منزلته ولا مكانته بين الناس في الدنيا، كما يؤكد لرسوله صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم، حتى لا يتأثر بما يقوله الكفار، من محاولات الانتقاص من شأن هؤلاء الصحابة، ومبينًا له أيضًا مكانتهم فيقول الله تبارك وتعالى: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ - وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ - وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام:52 - 54]. وهكذا بين الله لرسوله شأن هؤلاء الصحابة وقيمتهم ومنزلتهم التي يجهلها أو يتجاهلها الكفار، ويحاولون أن ينالوا منها، بل ويزيد الله على ذلك أن ينهى الرسول عن طردهم، كما يأمر بحسن تحيتهم، ويأمره أيضا أن يبشرهم بأن الله سبحانه، قد وعد بمغفرة ذنوبهم بعد توبتهم. كيف تكون الروح المعنوية لهؤلاء، كيف يجدون الأذى من الكفار بعد ذلك, إنهم يفرحون بهذا الأذى الذي وصلوا بسببه إلى هذه المنازل العظيمة (1). ثم نرى عتاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وكان هذا العتاب في شأن رجل فقير أعمى من الصحابة, أعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، ولم يجبه على سؤاله لانشغاله بدعوة بعض أشراف مكة (2). فنزل قول الله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى - أَن جَاءَهُ الأعْمَى - وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى - أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى - أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى - فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى - وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى - وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى - وَهُوَ يَخْشَى - فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) [عبس: 1 - 10]. إنه لا مجال للامتيازات في دعوة الحق بسبب الحسب والنسب, أو المال والجاه، فهي إنما جاءت لتأصيل النظرة إلى الإنسان وبيان وحدة الأصل، وما تقتضيه من المساواة والتكافؤ، من هنا يمكن تعليل شدة أسلوب العتاب الذي وجهه الله تعالى لرسوله للاهتمام الكبير الذي أظهره لأبي بن خلف, على حساب استقباله لابن أم مكتوم الضعيف - رضي الله عنه - , فابن أم مكتوم يرجح في ميزان الحق على البلايين من أمثال أبي بن خلف (3) لعنه الله. وكانت لهذه القصة دروس وعبر, استفاد منها الرعيل الأول، ومن جاء بعدهم من المسلمين ومن أهم هذه الدروس، الإقبال على المؤمنين, على الدعاة البلاغ, وليس عليهم   (1) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، ص270، 271. (2) نفس المصدر، ص271. (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 167) مع تصرف في العدد بدل مائة بلايين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الهداية، في قصة الأعمى دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلو لم يكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله لكتم هذه الحادثة، ولم يخبر الناس بها لما فيها من عتاب له صلى الله عليه وسلم ولو كان كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآيات وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش (1) , فعلى الدعاة تقديم أهل الخير والإيمان (2). أما النقطة الثانية: في دفاع القرآن الكريم عن الصحابة، فقد كانت بالتخفيف عنهم، وكانت أهم وسائل التخفيف بإظهار أن هذا الأذى الذي يلقونه لم يكن فريدًا من نوعه، وإنما حدث قبل ذلك مثله وأشد منه كانت القصص التي تتحدث عن حياة الرسل في القرآن الكريم من لدن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلام- تثبيتًا للمسلمين ولروح التضحية والصبر فيهم من أجل الدين وبينت لهم القدوة الحسنة التي كانت في العصور القديمة من أنجح الوسائل في ميادين الإعلام والتربية والتعليم, والعلاقات العامة، فالقصص القرآني يحوي الكثير من العبر والحكم والأمثال. كان أيضًا من أساليب القرآن في تخفيفه عن الصحابة والدفاع عنهم أسلوبه في مدحهم ومدح أعمالهم في القرآن الكريم, يقرؤها الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما حدث مع الصديق لما أعتق سبع رقاب من الصحابة لينقذهم من الأذى والتعذيب، في نفس الوقت الذي يندد فيه بأمية بن خلف الذي كان يعذب بلال بن رباح، فالقرآن بدستوره الأخلاقي قد قدم قواعد الثواب والعقاب وشجع المؤمنين وحذر المخالفين، وحمل هذا التنديد مغزى عميقًا، فقد أنار الطريق للصحابة، وكان غمة وكربًا على نفوس الكفار المترددين، إذ جاء قول الله تعالى: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى - لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى - الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى - وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى - الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى - وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى - إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى - وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل: 14 - 21]. وكذلك خلَّد القرآن ثبات وفد نصارى نجران على الإسلام, رغم استهزاء الكفار ومحاولاتهم لصدهم عن الإسلام، لذا نزلت فيهم بعض الآيات كما يذكر بعض المؤرخين (3) قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ - وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ - أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [القصص: 52 - 54].   (1) تفسير ابن عطية (15/ 316)، القاسمي (17/ 54). (2) انظر: المستفاد من قصص القرآن، عبد الكريم زيدان (2/ 89). (3) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/ 4). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وكانت الآيات بعد ذلك تبشر الصحابة بالثواب العظيم وبالنعيم المقيم في الجنة، جزاء بما صبروا وما تحملوا من الأذى، وتشجيعًا لهم على الاستمرار في طريق الدعوة غير مبالين بما يسمعونه وما يلاقونه، فالنصر والغلبة لهم في النهاية كما بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، وكما بين لهم القرآن، كما بين القرآن الكريم في نفس الوقت مصير أعدائهم, كفار مكة قال: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ - يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر: 51،52]. وبين فضل تمسكهم بالقرآن وإيمانهم به, قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ - لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29،30]. وبين سبحانه فضل التمسك بعبادته رغم الأذى والتعذيب، وبين جزاء الصبر على ذلك قال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ - قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 9،10]. وهكذا كان القرآن الكريم يخفف عن الصحابة ويدافع عنهم، ويحصنهم ضد الحرب النفسية، وبذلك لم تؤثر تلك الحملات ووسائل التعذيب على قلوب الصحابة؛ بفضل المنهج القرآني، والأساليب النبوية الحكيمة، لقد تحطمت كل أساليب المشركين في محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمام العقيدة الصحيحة, والمنهج السليم الذي تشرَّبه الرعيل الأول. سابعًا: أسلوب المفاوضات: اجتمع المشركون يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر، والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يردُّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم: أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أيها الرجل: إن كان إنما بك الحاجة, جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك - الباه - فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فرغت؟» قال: نعم، فقال رسول الله: (حم - تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) إلى أن بلغ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: «لا» فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم (1). وفي رواية ابن إسحاق: فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوا، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم (2). دروس وعبر وفوائد: أ- لم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة جانبية حول أفضليته على أبيه وجده أو أفضليتهما عليه، ولو فعل ذلك لقضي الأمر دون أن يسمع عتبة شيئًا. ب- لم يخض صلى الله عليه وسلم معركة جانبية حول العروض المغرية، وغضبه الشخصي لهذا الاتهام، إنما ترك ذلك كله لهدف أبعد، وترك عقبة يعرض كل ما عنده، وبلغ من أدبه صلى الله عليه وسلم أن قال: «أفرغت يا أبا الوليد؟» فقال: نعم (3). ج- كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسمًا، إن اختياره لهذه الآيات لدليل على حكمته، وقد تناولت الآيات الكريمة قضايا رئيسية منها: إن هذا القرآن تنزيل من الله، بيان موقف الكافرين وإعراضهم، بيان مهمة الرسول, وأنه بشر، بيان أن الخالق واحد هو الله, وأنه خالق السماوات والأرض، بيان تكذيب الأمم السابقة وما أصابها، وإنذار قريش صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (4). د- خطورة المال، والجاه، والنساء على الدعاة، فكم سقط من الدعاة على الطريق تحت بريق المال، وكم عرضت الآلاف من الأموال على الدعاة ليكفوا عن دعوتهم، والذين ثبتوا أمام إغراء المال هم المقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخطورة الجاه واضحة؛ لأن الشيطان في هذا المجال يزين ويغوي بطرق أكبر وأمكر وأفجر. والداعية الرباني هو الذي يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) البداية والنهاية لابن كثير (3/ 68، 69). (2) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 294). (3) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، منير الغضبان ص33. (4) انظر: معين السيرة للشامي، ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 في حركته وأقواله وأفعاله, ولا ينسى الهدف الذي عاش له ويموت من أجله: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162،163]، وأما النساء فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت فتنة على أمتي أضر على الرجال من النساء» (1) سواء كانت زوجة تثبط الهمة عن الدعوة والجهاد، أو تسليط بعض الفاجرات عليه ليسقطنه في شباكهن، أو في تهيئة أجواء البغي والإثم والمجون ليرتادها خطوة بعد خطوة، أيًّا كانت, فإنها فتنة عظيمة في الدين, فها هي قريش تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءها، يختار عشرًا منهن، أجملهن وأحسنهن يكن زوجات له, إن كان عاجزًا عن الزواج من أكثر من واحدة، إن خطر المرأة حين لا تستقيم على منهج الله, أشد من خطر السيف المصلت على الرقاب (2) , فعلى الدعاة أن يقتدوا بسيد الخلق, ويتذكروا دائما قول يوسف عليه السلام: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ - فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف:33 - 34]. هـ- تأثر عتبة من موقف النبي صلى الله عليه وسلم: وكان هذا التأثير واضحًا لدرجة أن أصحابه أقسموا على ذلك التأثير قبل أن يخبرهم، فبعد أن كان العدو ينوي القضاء على الدعوة، إذا به يدعو لعكس ذلك, فيطلب من قريش أن تخلي بين محمد صلى الله عليه وسلم وما يريد (3). واستمع الصحابة لما حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عتبة، وكيف رفض حبيبهم صلى الله عليه وسلم كل عروضه المغرية، فكان ذلك درسًا تربويًّا خالط أحشاءهم، تعلموا منه الثبات على المبدأ، والتمسك بالعقيدة، ووضع المغريات تحت أقدام الدعاة. ز- تعلم الصحابة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الحلم ورحابة الصدر, فقد استمع صلى الله عليه وسلم إلى ترهات عتبة بن ربيعة ونيله منه وقوله عنه: (إن في قريش ساحرًًا)، و (إن في قريش كاهنًا)، (ما رأينا سخلة أشأم على قومك منك)، و (إن كان بك رَئِيٌّ من الجن) فقد أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وأغض عن هذا السباب بحيث لا يصرفه ذلك دعوته وتبليغه إياها لسيد بني عبد شمس, فقد كانت كل كلمة تصدر من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم مبدأ يحتذى، وكل تصرف دينًا يتبع، وكل إغضاء خلقًا يتأسى به (4). وذكرت بعض كتب السيرة بأن قيادات مكة دخلوا في مفاوضات بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضوا عليه إغراءات تلين أمامها القلوب البشرية ممن أراد الدنيا, وطمع   (1) صحيح الجامع الصغير (5/ 138). (2) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص169. (3) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر، ص87. (4) انظر: التربية القيادية (1/ 304). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 في مغانمها إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ موقفا حاسمًا في وجه الباطل دون مراوغة أو مداهنة, أو دخول في دهاء سياسي, أو محاولة وجود رابطة استعطاف أو استلطاف مع زعماء قريش (1)؛ لأن قضية العقيدة تقوم على الوضوح والصراحة والبيان بعيدة عن المداهنة والتنازل؛ ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي ما تقولون, ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» (2). بهذا الموقف الإيماني الثابت رجع كيدهم في نحورهم، وثبتت قضية من أخطر قضايا العقيدة الإسلامية وهي خلوص العقيدة من أي شائبة غريبة عنها سواء في جوهرها أو في الوسيلة الموصلة إليها (3). لكم دينكم ولي دين ولما رأى المشركون صلابة المسلمين واستعلاءهم بدينهم, ورفعة نفوسهم فوق كل باطل، ولما بدأت خطوط اليأس في نفوسهم من أن المسلمين يستحيل رجوعهم عن دينهم سلكوا مهزلة أخرى من مهازلهم الدالة على طيش أحلامهم, ورعونتهم الحمقاء، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الأسود بن عبد المطلب, والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد, وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه» (4). فأنزل الله فيهم: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ - لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ - وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ - وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ - وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ - لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون]. ومثل هذه السورة آيات أخرى تشابهها في إعلان البراء من الكفر وأهله, مثل قوله تعالى: (وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس: 41]. وقوله تعالى (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ   (1) انظر: الوفود في العهد المكي، لعلي الأسطل، ص37. (2) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 296,295) التربية القيادية (1/ 305). (3) تاريخ صدر الإسلام، عبد الرحمن الشجاع، ص39. (4) ابن هشام (1/ 362). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ - قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) [الأنعام: 56،57]. ولقد بينت سورة الكافرون بأن طريق الحق واحد لا عوج فيه، ولا فجاج له، إنه العبادة الخالصة لله وحده رب العالمين، فنزلت هذه السورة على الرسول صلى الله عليه وسلم للمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج، وتصور وتصور، وطريق وطريق، نعم نزلت نفيًا بعد نفي, وجزمًا بعد جزم، وتوكيدًا بعد توكيد، بأنه لا لقاء بين الحق والباطل، ولا اجتماع بين النور والظلام، فالاختلاف جوهري كامل يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق، والأمر لا يحتاج إلى مداهنة أو مراوغة، نعم فالأمر هنا ليس مصلحة ذاتية، ولا رغبة عابرة، ولا سمًّا في عسل، وليس الدين لله والوطن للجميع كما تزعم الجاهلية المعاصرة، ويدعي المنافقون والمستغربون الذين يتبعون الضالين والمغضوب عليهم، ولا كما يعتقد الملحدون أعداء الله سبحانه في كل مكان، كان الرد حاسمًا على زعماء قريش المشركين، ولا مساومة، ولا مشابهة، ولا حلول وسط، ولا ترضيات شخصية، فإن الجاهلية جاهلية والإسلام إسلام، في كل زمان ومكان، والفارق بينهم بعيد كالفرق بين التبر والتراب، والسبيل الوحيد هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته عبادة وحكما، وإلا فهي البراءة التامة والمفاصلة الكاملة والحسم الصريح بين الحق والباطل في كل زمان (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (1). وجاء وفد آخر بعد فشل الوفد السابق، يتكون من عبد الله بن أبي أمية، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس، والعاص بن عامر (2) جاء ليقدم عرضًا آخر للتنازل عن بعض ما في القرآن، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزع من القرآن ما يغيظهم من ذم آلهتهم، فأنزل الله لهم جوابًا حاسمًا، قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [يونس: 15]. وهذه الوفود والمفاوضات تبين مدى الفشل الذي أصاب زعماء قريش في عدم حصولها على التنازل الكلي عن الإسلام، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى طلب الحصول على شيء من التنازل، ويلاحظ أن التنازل الذي طلبوه في المرة الأولى، أكبر مما طلبوه في المرة الثانية، وهذا يدل على تدرجهم في التنازل من الأكبر إلى الأصغر، علهم يجدون آذانًا صاغية لدى قائد الدعوة، كما أنهم كانوا يغيرون الأشخاص المتفاوضين، فالذين تفاوضوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى غير الذين تفاوضوا معه في المرة الثانية، ما خلا الوليد بن المغيرة وذلك حتى   (1) انظر: في ظلال القرآن (6/ 3991). (2) أسباب النزول للواحدي، ص200، ونور اليقين للخضري، ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 لا تتكرر الوجوه، وفي ذات الوقت تنويع الكفاءات, والعقول المفاوضة، فربما أثر ذلك في نظرهم بعض الشيء، وفي هذا درس للدعاة إلى يوم القيامة؛ بأن لا تنازل عن الإسلام ولو كان هذا التنازل شيئًا يسيرًا، فالإسلام دعوة ربانية ولا مجال فيها للمساومة إطلاقًا، مهما كانت الأسباب والدوافع، والمبررات (وعلى الدعاة اليوم الحذر من مثل هذه العروض، والإغراءات المادية، التي قد لا تعرض بطريق مباشر، فقد تأخذ شكلاً غير مباشر، في شكل وظائف عليا، أو عقود عمل مجزية، أو صفقات تجارية مربحة، وهذا ما تخطط له المؤسسات العالمية المشبوهة لصرف الدعاة عن دعوتهم وبخاصة القيادين منهم، وهناك تعاون تام في تبادل المعلومات بين هذه المؤسسات التي تعمل من مواقع متعددة لتدمير العالم الإسلامي) (1) ولقد جاء في التقرير الذي قدمه (ريتشارد ب. ميشيل) أحد كبار العاملين في مجال الشرق الأوسط، لرصد الصحوة الإسلامية، وتقديم النصح بكيفية ضربها, جاء في هذا التقرير: وضع تصور لخطة جديدة يمكن من خلالها تصفية الحركات الإسلامية، فكان من بين فقرات هذا التقرير فقرة خاصة بإغراء قيادات الدعوة، فاقترح لتحقيق ذلك الإغراء ما يلي: أ- تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا، حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلامية فارغة المضمون، وغيرها من الأعمال التي تستنفد جهدهم، وذلك مع الإغداق عليهم أدبيًّا وماديًا، وتقديم تسهيلات كبيرة لذويهم، وبذلك يتم استهلاكهم محليًّا، وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية. ب- العمل على جذب ذوي الميول التجارية والاقتصادية, إلى المساهمة في المشروعات ذات الأهداف المشبوهة، التي تقام في المنطقة العربية لمصالح أعدائها. ج- العمل على إيجاد فرص عمل, وعقود مجزية في البلاد العربية الغنية، الأمر الذي يؤدي إلى بُعدهم عن النشاط الإسلامي (2). فالمتدبر في النقاط الثلاث السابقة، يلاحظ أنها إغراءات مادية غير مباشرة، وبنظرة فاحصة للعالم الإسلامي اليوم، نلاحظ أن هذه النقاط تنفذ بكل هدوء, فقد أشغلت المناصب العليا بعض الدعاة، واستهلكت بعض الدول العربية الغنية جمًا غفيرًا من الدعاة، وألهت التجارة بعضهم (3). ثامنًا: أسلوب المجادلة ومحاولة التعجيز: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام الحجج والبراهين والأدلة على صحة دعوته, وكان صلى الله عليه وسلم يتقن اختيار الأوقات، وانتهاز الفرص والمناسبات، ويقوى على الرد على الشبهات مهما كان نوعها، وقد   (1) في السيرة النبوية، قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص89. (2) مجلة المجتمع الكويتية، عدد رقم 428، 17 صفر 1399هـ، نقلا عن السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية. (3) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 استخدم في مجادلته مع الكفار أساليب كثيرة, استنبطها من كتاب الله تعالى في إقامة الحجة العقلية, واستخدام الأقيسة المنطقية, واستحضار التفكير والتأمل، ومن الأساليب التي استخدمها صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة: 1 - أسلوب المقارنة: وذلك بعرض أمرين: أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه، وذلك باستثارة العقل, للتفكر في كلا الأمرين, وعاقبتهما الوصول -بعد المقارنة- إلى تفضيل الخير واتِّباعه: قال تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122]. قال ابن كثير في تفسيره: «هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتًا أي: في الضلالة هالكًا حائرًا، فأحياه الله, أي: أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله» (1). 2 - أسلوب التقرير: وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية, إلى الإقرار بالمطلوب, الذي هو مضمون الدعوة، قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ - أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ - أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ - أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ - أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ - أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ - أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ - وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ - فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) [الطور: 35 - 45]. قال ابن كثير في تفسيره: «هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) أي أُوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا, بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورا» (2). وهذه الآية في غاية القوة من حيث الحجة العقلية؛ لأن «وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطق الفطرة ابتداء, ولا يحتاج إلى جدال كثير أو قليل، أما أن يكونوا هم الخالقين   (1) تفسير ابن كثير (2/ 172). (2) تفسير ابن كثير (4/ 244). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه، ولا يدَّعيه مخلوق، وإذا كان هذان الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة, فإنه لا يبقى سوى الحقيقة التي يقولها القرآن. وهي أنهم من خلق الله جميعا من خلق الله الواحد الذي لا يشاركه أحد» (1) والتعبير بالفطرة مضمون الأمر المقرر بداهة في العقل. 3 - أسلوب الإمرار والإبطال: وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب الغرور والصلف, بإمرار أقوالهم, وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة, منعًا للجدل والنزاع خلوصًا إلى الحجة القاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك, فتبطل الأولى بالتبع، وفي قصة موسى عليه السلام مع فرعون، نموذج مطول لهذا الأسلوب, حيث أعرض موسى عن كل اعتراض وشبهة أوردها فرعون، ومضى إلى إبطال دعوى الألوهية لفرعون من خلال إقامة الحجة العقلية الظاهرة على ربوبية الله وألوهية الله (2) , وذلك في الآيات من سورة الشعراء قال تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ - قَالَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ - قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ - قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ - قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ - قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ - قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء: 23 - 29]. وهكذا كانت الأساليب القرآنية الكريمة, هي الركيزة في مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين، ولما احتار المشركون في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم, ولم يكونوا على استعداد في تصديقه أنه رسول من عند الله, ليس لأنهم يكذبونه, وإنما عنادًا وكفرًا، كما قال تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33]. لذلك هداهم تفكيرهم المعوج أن يطلبوا من الرسول عليه السلام مطالب, ليس الغرض منها التأكد من صدق النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن غرضهم منها التعنت والتعجيز, وهذا ما طلبوه من الرسول عليه الصلاة والسلام: أ- أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا: أي يجري لهم الماء عيونًا جارية. ب- أو تكون له جنة من نخيل وأعناب يفجر الأنهار خلالها تفجيرًا، أي تكون له حديقة فيها النخل والعنب, والأنهار تتفجر بداخلها. ج- أو يسقط السماء كسفًا: أي يسقط السماء قطعًا كما سيكون يوم القيامة. د- أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً.   (1) في ظلال القرآن (6/ 3399) (2) انظر: مقومات الداعية الناجح، د. علي بادحدح، ص59: 68، الأساليب السابقة من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 هـ- أو يكون له بيت من زخرف: أي ذهب. وأو يرقى في السماء: أي يتخذ سلمًا يرتقي عليه ويصعد إلى السماء. ز- إنزال كتاب من السماء يقرؤونه، يقول مجاهد: أي مكتوب فيه إلى كل واحد صحيفة, هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان تصبح موضوعة عند رأسه (1). ح- لبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم فيسير لهم الجبال، ويقطع الأرض، ويبعث من مضى من آبائهم من الموتى (2). إن عملية طلب الخوارق والمعجزات هي خطة متبعة على مدى تاريخ البشرية الطويل، ورغم حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان قومه، وتفانيه في ذلك، لكن التربية الربانية التي تلقاها من ربه، والأدب النبوي الذي تأدب عليه، جعله يرفض طلب المعجزة (3) وإنما كانت إجابته صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي، أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم» (4). وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا أسفًا لما فاته مما طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه, (5) وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التعنتات والرد عليها في قوله سبحانه (وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا - أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا - أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً - أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرُؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً - وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً - قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً - قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء: 90 - 96]. ونزل قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للهِ الأمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا   (1) انظر: المعوقون للدعوة الإسلامية، د. سميرة محمد، ص171، 172. (2) انظر: التربية القيادية (1/ 311). (3) نفس المصدر (1/ 311). (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 459). (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 317). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (1) [الرعد: 31]. إن الحكمة في أنهم لم يجابوا لما طالبوا، لأنهم لم يسألوا مسترشدين وجادين، وإنما سألوا متعنتين ومستهزئين، وقد علم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما طلبوا لما آمنوا، وللجُّوا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يترددون، قال سبحانه: (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ - وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ - وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام: 109 - 111]. ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية ألا يجابوا على ما سألوا؛ لأن سنته سبحانه أنه إذا طلب قوم آيات فأجيبوا، ثم لم يؤمنوا, عذَّبهم عذاب الاستئصال كما فعل بعاد وثمود وقوم فرعون. وليس أدل على أن القوم كانوا متعنتين وساخرين، ومعوقين لا جادين, من أن عندهم القرآن وهو آية من الآيات، وبينة البينات، ولذلك لما سألوا ما اقترحوا من هذه الآيات وغيرهم رد عليهم سبحانه (2) بقوله: (وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ - أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ - قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [العنكبوت: 50 - 52]. وقد ذكر عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - رواية مفادها: أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ادعُ لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك, قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، قال فدعاه: فأتاه جبريل فقال: إن ربك -عز وجل- يقرأ عليك السلام، ويقول إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة، والرحمة، فقال: بل باب التوبة والرحمة، فأنزل الله تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59] (3).   (1) يعني لو أن هناك قرآنا بهذه المثابة لكان هذا القرآن الكريم، فهو ليس له مثيل لا من قبل ولا من بعد، جواب (لو) محذوف دل عليه المقام. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 320، 321). (3) صحيح السيرة النبوية، ص90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 لقد كان هدف زعماء قريش من تلك المطالب, هو شن حرب إعلامية ضد الدعوة والداعية, والتآمر على الحق, كي تبتعد القبائل العربية عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يطالبون بأمور يدركون أنها ليست طبيعة هذه الدعوة؛ ولهذا أصروا عليها، بل لقد صرحوا بأن لو تحقق شيء من ذلك فلن يؤمنوا أيضا بهذه الدعوة، وهذا كله محاولة منهم لإظهار عجز الرسول صلى الله عليه وسلم واتخاذ ذلك ذريعة لمنع الناس عن اتباعه (1). تاسعًا: دور اليهود في العهد المكي واستعانة مشركي مكة بهم: تحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل طويلاً في سور كثيرة, بلغت خمسين سورة في المرحلة المكية، وفي المرحلة المدنية, كان دور اليهود كبيرًا في محاولة إطفاء نور الله, والقضاء على دعوة الإسلام, وعلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تحظ ملة من الملل؛ ولا قوم من الأقوام بالحديث عنهم بمثل هذا الشمول, وهذه التفصيلات ما حظي به اليهود، وحديث القرآن عنهم يتسم بمنهج دقيق يتناسب مع المراحل الدعوية التي مرت بها دعوة الإسلام، فقد جاءت الآيات الكريمة تشير إلى أن غفلة المشركين عن الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم اكتراثهم به وبدعوته, له نماذج بشرية تقدمتهم، مثل عاد وثمود وفرعون وبني إسرائيل وقوم تبع، وأصحاب الرس (2) عندما وجدت قريش نفسها عاجزة أمام دعوة الحق، وكان المعبر عن هذا العجز, النضر بن الحارث الذي صرح قائلا: «يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد .. فانظروا في شأنكم, فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم» فقرروا بعد ذلك إرسال النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط, إلى أحبار اليهود بالمدينة, لمعرفة حقيقة هذه الدعوة, لا لكي يتبعوها، ولكن لإدراكهم أن اليهود قد يمدونهم بأشياء تظهر عجز الرسول صلى الله عليه وسلم لمعرفة زعماء مكة بحقد اليهود المنصب على الأنبياء جميعًا وأصحاب الحق أينما كانوا، كانت بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم صدمة قوية لليهود؛ وذلك لأنهم عاشوا في جزيرة العرب على حلم توارثوه طوال السنين الماضية, وهو أنه سيُبعث نبي مخلص في ذلك الزمان والمكان، فرجوا أن يكون منهم، آملين أن يخلصهم من الفرقة والشتات الذي كانوا فيه (3). كان التقارب بين معسكر الكفر والشرك مع اليهود, ينسجم مع أهدافهم المشتركة للقضاء على دعوة الإسلام، ولذلك زودوا الوفد المكي ببعض الأسئلة محاولة لتعجيز النبي صلى الله عليه وسلم. عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى   (1) انظر: الوفود في العهد المكي، ص40: 51. (2) معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص30، 31، مصطفى مسلم. (3) انظر: اليهود في السنة المطهرة، د. عبد الله الشقاري (1/ 188). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد, وصفوا لهم صفته, وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدنية، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله, وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح, ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غدًا بما سألتم عنه، ولم يستثن (1) فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمدًا غدًا واليوم خمس عشرة، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً). كانت سورة الكهف قد احتوت على الإجابة لأسئلتهم, وإشارة إلى أن كهفًا من عناية الله سوف يأوي هؤلاء المستضعفين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, كما آوى الكهف الجبلي الفتية المؤمنين الفارين بدينهم من الفتنة. وأن نفوسًا ستبش في وجوه هذه العصبة, من أنصار دين الله في يثرب, بالقرب من الذين عاضدوا قريشًا في شكهم، وحاولوا معهم طمس نور الحق بتلقينهم المنهج التعجيزي في التثبت في أمر النبوة, وهو منهج غير سليم، فمتى كانت الأسئلة التعجيزية وسيلة التحقق من صدق الرسالة وصاحبها، فهذا نبي الله موسى عليه السلام وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل لم يعلم تأويل الأحداث الثلاثة التي جرت أمامه، وأنكر على الخضر تصرفاته, على الرغم من تعهده أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرًا، على الرغم من كل ذلك لم تؤثر الأحداث وما دار حولها في نبوة موسى عليه السلام شيئا، ولم يشكك بنو إسرائيل في نبوته, فلم يجعلوا مثل هذه الأسئلة أسلوبًا للتحقق من صدق الرسالة (2).   (1) أي: لم يقل: (إن شاء الله). (2) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم، ص189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 جعل الله هذه المناسبة وسيلة للإشارة إلى قرب الفرج للعصبة المؤمنة ليجدوا مأوى كما وجد الفتية المأوى، وليبش في وجوههم أهل المدينة كما بش أهل المدينة في وجه هؤلاء الفتية, ثم ذهبوا إليهم ليكرموهم وليخلدوا ذكراهم (1). عاشرًا: الحصار الاقتصادي والاجتماعي في آخر العام السابع من البعثة: ازداد إيذاء المشركين من قريش, أمام صبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى وإصرارهم على الدعوة إلى الله، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، وبلوغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي, الذي ضربته قريش ظلمًا وعدوانًا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, ومن عطف عليهم من قرابتهم (2). قال الزهري: «ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا, حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها, أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب, وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم, ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانًا ويقينًا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودًا ومواثيق، لا يتقبلوا من بني هاشم أبدًا صلحًا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل (3). وفي رواية: ... على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببًا من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحًا، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم (4). فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاما يقدم من مكة ولا بيعًا إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).   (1) انظر: تأملات في سورة الكهف للشيخ أبي الحسن الندوي، ص46، وانظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص61. (2) انظر: ظاهرة الإرجاء، د. سفر الحوالي (1/ 50). (3) تفاصيل قصة الشعب وما تخللها من أحداث، دلائل النبوة للبيهقي (2/ 80: 85) السيرة النبوية لابن كثير (2/ 43: 71) الروض الأنف (2/ 101: 129). (4) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 350)، زاد المعاد (2/ 46) , الكامل في التاريخ (2/ 87). (5) انظر: ظاهرة الإرجاء (1/ 51). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى فراشه, حتى يراه من أراد به مكرًا أو غائلة، فإذا نام الناس أخذ أحد بنيه أو إخواته أو بني عمه, فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها (1). واشتد الحصار على الصحابة, وبني هاشم, وبني المطلب, حتى اضطروا إلى أكل ورق الشجر، وحتى أصيبوا بظلف العيش وشدته، إلى حد أن أحدهم يخرج ليبول فيسمع بقعقعة شيء تحته، فإذا هي قطعة من جلد بعير فيأخذها فيغسلها، ثم يحرقها ثم يسحقها، ثم يستفها، ويشرب عليها الماء فيتقوى بها ثلاثة أيام (2)، وحتى لتسمع قريش صوت الصبية يتضاغون من وراء الشِّعب من الجوع (3). فلما كان رأس ثلاث سنين، قيض الله سبحانه وتعالى لنقض الصحيفة أناسًا من أشراف قريش، وكان الذي تولى الانقلاب الداخلي لنقض الصحيفة هشام بن عمرو الهاشمي، فقصد زهير بن أبي أمية المخزومي، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب, فقال له: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم, ما أجابك إليه أبدًا, قال: ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبغنا ثالثا. فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعًا قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد قال: قد وجدت لك ثانيًا: قال من؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثًا: قال: قد فعلت، قال: من؟ قال زهير بن أبي أمية، فقال أبغنا رابعًا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحو ما قال للمطعم بن عدي، فقال له: ويحك وهل نجد أحد يعين على ذلك؟ قال: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا، فقال: أبغنا خامسًا، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابته وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال نعم، ثم سمى له القوم، فاتَّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت   (1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص180. (2) انظر: الغرباء الأولون ص 148، نقلا عن حلية الأولياء ترجمة رقم 7. (3) المصدر السابق نفسه، ص148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل، وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، فقال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كُتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كُتبت فيها، ولا نقر به، فقال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ من الله منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك؟ فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، تُشووِر فيه في غير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلم. وقام المعطم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم) (1)، وروى ابن إسحاق أن الله عز وجل أرسل على الصحيفة الأرضة فلم تدع فيها اسمًا لله عز وجل إلا أكلته، وبقي فيها الظلم والقطعية والبهتان وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عمه فذهب أبو طالب إلى قومه وأخبرهم بذلك، وقال لهم: فإن كان كاذبًا فلكم علي أن أدفعه إليكم تقتلونه، وإن كان صادقًا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المطعم بن عدي وهشام بن عمرو: نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالئ أحدًا في فساد أنفسنا وأشرافنا، وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش فخرجوا من الشِّعب (2). دروس وعبر وفوائد: 1 - إن مشركي بني هاشم وبني المطلب تضامنوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحموه كأثر من أعراف الجاهلية، ومن هنا ومن غيره نأخذ أنه يسع المسلم أن يستفيد من قوانين الكفر فيما يخدم الدعوة, على أن يكون ذلك مبنيًّا على فتوى صحيحة من أهلها (3). 2 - إن حقوق الإنسان في عصرنا ضمان للمسلم، والحرية الدينية في كثير من البلدان يستفاد منها، وقوانين كثيرة من أقطار العالم تعطي للمسلمين فرصًا وعلى المسلمين أن يستفيدوا من ذلك وغيره من خلال موزانات دقيقة (4). 3 - من المهم أن تعلم بأن حماية أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغل هذه الحماية من قبل المسلمين كوسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم فأنعم   (1) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/ 43: 50، 67: 69) (2) السير والمغازي لابن إسحاق ص156: 162. (3) انظر: الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية، سعيد حوى، (1/ 264). (4) المصدر السابق نفسه، ص264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بذلك من جهد مشكور وسبيل ينتبهون إليها (1). 4 - انتصر أبو طالب في غزو المجتمع القرشي بقصائده الضخمة, التي هزت كيانه هزًّا وتحرك لنقض الصحيفة من ذكرنا من قبل، أولئك الخمسة الذين يمتون بصلة قرابة أو رحم لبني هاشم, وبني المطلب واستطاعوا أن يرفعوا هذا الظلامة, وهذا الحيف عن المسلمين وأنصارهم وحلفائهم وخططوا له ونجحوا فيه وفي هذا الموقف إشارة إلى أن كثيرًا من النفوس, والتي تبدو في ظاهر الأمر من أعمدة الحكم الجاهلي، قد تملك في أعماقها رفضًا لهذا الظلم والبغي، وتستغل الفرصة المناسبة لإزاحته، وعلى أبناء المسلمين أن يهتموا بهذه الشرائح، وينفذوا إلى أعماقها، وتوضح لهم حقيقة القرآن الكريم, والسنة النبوية الشريفة، وتبين لها طبيعة العداء بين الإسلام واليهود والصليبيين والعلمانية، فقد يستفاد منهم في خدمة الإسلام (2). 5 - وظاهرة أبي لهب تستحق الدراسة والعناية؛ لأنها تتكرر في التاريخ الإسلامي، فقد يجد الدعاة من أقرب حلفائهم من يقلب لهم ظهر المجن، ويبالغ في إيذاء الدعاة، وحربهم أكثر بكثير يلقونه من خصومهم الألداء الأشداء (3). 6 - كانت تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم لأفراد المسلمين ألاَّ يواجهوا العدو، وأن يضبطوا أعصابهم، فلا يشعلوا فتيل المعركة, أو يكونوا وقودها، وإن أعظم تربية في هذه المرحلة هي صبر أبطال الأرض على هذا الأذى, دون مقاومة. حمزة وعمر، وأبو بكر وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم، سمعوا وأطاعوا، فلقوا كل هذا الأذى وهذا الحقد، وهذا الظلم، فكفوا أيديهم، وصبروا ليس على حادثة واحدة فقط، أو يومًا واحدًا فقط بل ثلاث سنين عجاف, تحترق أعصابهم ولا يسمح لهم برمية سهم أو شجة رأس (4). 7 - أثبتت الأحداث عظمة الصف المؤمن, في التزامه بأوامر قائده، وبعده عن التصرفات الطائشة، فلم يكن شيء أسهل من اغتيال أبي جهل، وإشعال معركة غير مدروسة لا يعلم إلا الله مداها، وغير متكافئة. 8 - كانت الدعوة الإسلامية تحقق انتصارات رائعة في الحبشة، وفي نجران، وفي أزد شنوءة، وفي دَوْس، وفي غفار، وكانت تتم في خط واضح, سيكون سندًا للإسلام والمسلمين ومراكز قوى يمكن أن تتحرك في اللحظة الحاسمة، وامتدادات للدعوة، تتجاوز حدود مكة الصلدة المستعصية.   (1) انظر: فقه السيرة النبوية، للبوطي، ص88. (2) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص185. (3) المرجع السابق، ص186. (4) انظر: التربية القيادية (1/ 371). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 9 - كانت هذه السنوات الثلاثة للجيل الرائد, زادًا عظيمًا في البناء والتربية, حيث ساهم بعضه في تحمل آلام الجوع والخوف، والصبر على الابتلاء، وضبط الأعصاب، والضغط على النفوس والقلوب، ولجم العواطف عن الانفجار. 10 - كانت بعض الشخصيات في الصف المشرك, تبني في داخلها بالتربية النبوية، وتتأثر بعظمة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وتتفاعل في أعماقها مع المبادئ التي يقدمها الدين الجديد، لكن سيطرة الملأ وسطوة الكبراء, كانت تحول دون إبراز هذا التفاعل وهذا الحب وهذه التربية، وختام قصة الصحيفة تقدم لنا أجلى بيان عن ذلك (1). 11 - قيام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة, والمعجزات الخارقة لا يؤثر في أصحاب الهوى وعبدة المصالح والمنافع؛ لأنهم يلغون عقولهم عن التدبر، ويصمون آذانهم عن سماع الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر والتأمل والاهتداء إلى الحق بعد قيام الأدلة عليه، فلقد أخبرهم أبو طالب بما اخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث للصحيفة من أكل الأرضة لها وبقاء اسم الله فقط (باسمك اللهم) ورأوا ذلك بأم أعينهم فما آمن منهم أحد، إنه الهوى الذي يُغشي عن الحق، ويصم الآذان عن سماعه (2). 12 - كانت حادثة المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية سببًا في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج, ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة التي يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش والعزلة لكل هذا الوقت، أثار ذلك في نفوسهم أن هذه الدعوة حق، ولولا ذلك لما تحمل صاحب الرسالة وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب. 13 - أثار هذا الحصار سخط العرب على كفار مكة لقسوتهم على بني هاشم وبني المطلب، كما أثار عطفهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما أن انفك الحصار حتى أقبل الناس على الإسلام، وحتى ذاع أمر هذه الدعوة وتردد صداها في كل بلاد العرب، وهكذا ارتد سلاح الحصار الاقتصادي على أصحابه، وكان عاملاً قويًّا من عوامل انتشار الدعوة الإسلامية عكس ما أراد زعماء الشرك تمامًا (3). 14 - كان لوقوف بني هاشم وبني المطلب مع رسول الله وتحملهم معه الحصار الاقتصادي والاجتماعي أثر في الفقه الإسلامي، حيث إن سهم ذوي القربى من الخمس يعطى لبني هاشم وبني المطلب, ويوضح ابن كثير هذا الحكم لدى تفسيره قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ   (1) التربية القيادية (1/ 384، 385). (2) السيرة النبوية لأبي فارس، ص167. (3) انظر: الحرب النفسية ضد الإسلام، د. عبد الوهاب كحيل، ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنفال: 41]. فيقول: «وأما سهم ذوي القربى, فإنه يصرف إلى بني هاشم, وبني المطلب؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية, وفي أول الإسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية لهم، مسلمهم طاعة لله ورسوله وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب، وأما بنو عبد شمس, وبنو نوفل, وإن كانوا بني عمهم, فلم يوافقوهم على ذلك, بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم لشدة قربهم .. وفي بعض الروايات هذا الحديث: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» وهذا قول جمهور العلماء إنهم بنو هاشم وبنو المطلب» (1). 15 - لما أذن الله بنصر دينه، وإعزاز رسوله، وفتح مكة، ثم حجة الوداع، كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر أن ينزل في خَيْف بني كنانة ليتذكر ما كانوا فيه من الضيق والاضطهاد، فيشكر الله على ما أنعم عليه من الفتح العظيم، ودخولهم مكة، التي أخرجوا منها، وليؤكد قضية انتصار الحق واستعلائه، وتمكين الله لأهله الصابرين, (2) فعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله أين تنزل غدًا؟ في حجته، قال: «وهل ترك لنا عقيل منزلا؟» ثم قال: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة، المحصب، حيث قاسمت قريش على الكفر» وذلك أن بني كنانة حالفت قريشًا على بني هاشم, أن لا يبايعوهم, ولا يؤوهم، قال الزهري: والخيف الوادي (3). 16 - على كل شعب في أي وقت، يسعى لتطبيق شرع الله عليه، أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل، فالكفر ملة واحدة. فعلى قادة الأمة الإسلامية تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هذه الظروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها إذا حصلت، وأن تفكر بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة, كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار (4). * * *   (1) تفسير ابن كثير، (2/ 312). (2) انظر: الغرباء الأولون، ص149. (3) البخاري، كتاب الجهاد 180، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب (4/ 33). (4) انظر: في السيرة النبوية قراءة في جوانب الحذر والحماية، ص98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الفصل الرابع هجرة الحبشة ومحنة الطائف ومنحة الإسراء المبحث الأول تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع سنة الأخذ بالأسباب من السنن الربانية التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم سنة الأخذ بالأسباب، والأسباب جمع سبب، وهو كل شيء توصل به إلى غيره، وسنة الأخذ بالأسباب مقررة في كون الله تعالى، بصورة واضحة، فلقد خلق الله هذا الكون بقدرته، وأودعه من القوانين والسنن, ما يضمن استقراره واستمراره، وجعل المسببات مرتبطة بالأسباب بعد إرادته تعالى، فأرسى الأرض بالجبال، وأنبت الزرع بالماء ... وغير ذلك. ولو شاء الله رب العالمين, لجعل كل هذه الأشياء وغيرها -بقدرته المطلقة- غير محتاجة إلى سبب، ولكن هكذا اقتضت مشيئة الله تعالى وحكمته، الذي يريد أن يوجه خلقه إلى ضرورة مراعاة هذه السنة ليستقيم سير الحياة على النحو الذي يريده سبحانه، وإذا كانت سنة الأخذ بالأسباب مبرزة في كون الله تعالى بصورة واضحة، فإنها كذلك مقررة في كتاب الله تعالى، ولقد وجه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شؤونهم الدنيوية, والأخروية سواء، قال تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105]. وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15]. ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة مريم أن تباشر الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها قال تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم: 25]. وهكذا يؤكد الله تعالى على ضرورة مباشرة الأسباب في كل الأمور والأحوال. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوعى الناس بهذه السنة الربانية، فكان -وهو يؤسس لبناء الدولة الإسلامية- يأخذ بكل ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئًا يسيرًا جزافًا وقد لمسنا ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فيما مضى وسنلمس ذلك فيما بقي بإذن الله تعالى. وكان عليه الصلاة والسلام يوجه أصحابه دائمًا إلى مراعاة هذه السنة الربانية في أمورهم الدنيوية والأخروية على السواء (1). التوكل على الله والأخذ بالأسباب: التوكل على الله تعالى لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتوكل عليها. إن الذي ينشئ النتائج كما ينشئ الأسباب هو قدر الله, ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن، اتخاذ السبب عبادة بالطاعة، وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله؛ وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها، وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته, لينال ثواب طاعة الله في استيفائها (2). ولقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالأسباب, مع التوكل على الله تعالى، كما نبه عليه السلام على عدم تعارضهما. يروي أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلا وقف بناقته على باب المسجد وهم بالدخول، فقال يا رسول الله، أرسل راحلتي وأتوكل؟ - وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التوكل على الله تعالى، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مباشرة الأسباب أمر مطلوب ولا ينافي بحال من الأحوال التوكل على الله تعالى ما صدقت النية في الأخذ بالأسباب- فقال له صلى الله عليه وسلم: «بل قيدها وتوكل» (3). وهذا الحديث من الأحاديث التي تبين أنه لا تعارض بين التوكل والأخذ بالأسباب، بشرط عدم الاعتقاد في الأسباب, والاعتماد عليها ونسيان التوكل على الله، وروى عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» (4). وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب, حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها. ولا بد للأمة الإسلامية أن تدرك أن الأخذ بالأسباب للوصول إلى التمكين أمر لا محيص عنه، وذلك بتقرير الله تعالى حسب سنته التي لا تتخلف, ومن رحمة الله تعالى أنه لم يطلب من المسلمين فوق ما يستطيعونه من الأسباب، ولم يطلب منهم أن يعدوا العدة التي تكافئ   (1) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص248، 249. (2) في ظلال القرآن (3/ 1476). (3) رواه الترمذي (4/ 576) كتاب صفة القيامة باب ما جاء في التوكل. (4) رواه أحمد في مسنده (1/ 52) ورقمه (370)، وقال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 تجهيز الخصم ولكنه سبحانه قال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60]. فكأنه تعالى يقول لهم: افعلوا أقصى ما تستطيعون, احشدوا أقصى إمكاناتكم, ولو كانت دون إمكانات الخصوم، فالاستطاعة هي الحد الأقصى المطلوب، وما يزيد على ذلك يتكفل الله تعالى به, بإمكاناته التي لا حدود لها؛ وذلك لأن فعل أقصى المستطاع هو برهان الإخلاص، وهو الشرط المطلوب لينزل عون الله ونصره (1). إن النداء اليوم موجه لجماهير الأمة الإسلامية بأن يتجاوزوا مرحلة الوهن والغثاء, إلى مرحلة القوة والبناء, وأن يودّعوا الأحلام والأمنيات وينهضوا للأخذ بكل الأسباب, التي تعينهم على إقامة دولة الإسلام، وصناعة حضارة الإنسان الموصول برب العالمين. * * * المبحث الثاني الهجرة إلى الحبشة أولاً: الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة: 1 - أسباب الهجرة إلى الحبشة: اشتد البلاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الكفار يحبسونهم ويعذبونهم, بالضرب والجوع والعطش, ورمضاء مكة والنار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من تصلب في دينه وعصمه الله منهم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية لمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجا مما أنتم فيه»، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام. (2) وقد ذكر الباحثون أسبابا عديدة في سبب هجرة المسلمين إلى الحبشة منها ما ذكرت، ومنها: * ظهور الإيمان: حيث كثر الداخلون في الإسلام، وظهر الإيمان, وتحدث الناس به، قال الزهري في   (1) انظر: الإسلام في خندق، مصطفى محمود، ص64. (2) الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 حديثه عن عروة في هجرة الحبشة: فلما كثر المسلمون، وظهر الإيمان فُتحدث به, ثار المشركون من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم يعذبونهم ويسجنونهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذين آمنوا به: «تفرقوا في الأرض» قالوا: فأين نذهب يا رسول الله، قال: «هاهنا» وأشار إلى أرض الحبشة (1). * ومنها الفرار بالدين: كان الفرار بالدين خشية الافتتان فيه سببًا مهمًّا من أسباب هجرتهم للحبشة قال ابن إسحاق: «فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم» (2). * ومنها: نشر الدعوة خارج مكة: قال الأستاذ سيد قطب: «ومن ثم كان يبحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة، وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة، ولقد سبق الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، القول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند إلى قرائن قوية، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس وجاهة وقوة ومنعة من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوو عصبيات، لهم من عصبيتهم في بيئة قبلية ما يعصمهم من الأذى, ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين ... » (3). ووافق الأستاذ الغضبان الأستاذ سيد في ما ذهب إليه: «وهذه اللفتة العظيمة من (سيد) رحمه الله لها في السيرة ما يعضدها ويساندها، وأهم ما يؤكدها في رأيي هو الوضع العام الذي انتهى إليه أمر مهاجرة الحبشة، فلم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث في طلب مهاجرة الحبشة حتى مضت هجرة يثرب, وبدر وأحد والخندق والحديبية، لقد بقيت يثرب معرضة لاجتياح كاسح من قريش خمس سنوات، وكان آخرها هذا الهجوم والاجتياح في الخندق، وحين اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن المدينة قد أصبحت قاعدة أمينة للمسلمين, وانتهى خطر اجتياحها من المشركين, عندئذ بعث في طلب المهاجرين من الحبشة، ولم يعد ثمة ضرورة لهذه القاعدة الاحتياطية, التي كان من الممكن   (1) المغازي النبوية، للزهري، تحقيق: سهيل زكار، ص96. (2) السيرة النبوية لابن هشام، (1/ 398). (3) في ظلال القرآن (1/ 29). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أن يلجأ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سقطت يثرب في يد العدو (1). ويميل الأستاذ دروزة إلى أن فتح مجال للدعوة في الحبشة كان سببًا من أسباب هجرة الحبشة حيث يقول: «بل إنه ليخطر بالبال أن يكون من أسباب اختيار الحبشة النصرانية أمل وجود مجال للدعوة فيها، وأن يكون هدف انتداب جعفر متصلاً بهذا الأمل» (2) وذهب إلى هذا القول الدكتور سليمان بن حمد العودة: ومما يدعم الرأي القائل بكون الدعوة للدين الجديد في أرض الحبشة سببًا وهدفًا من أسباب الهجرة, إسلام النجاشي، وإسلامُ آخرين من أهل الحبشة، وأمر آخر، فإذا كان ذهاب المهاجرين للحبشة بمشورة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه فبقاؤهم في الحبشة إلى فتح خيبر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه، وفي صحيح البخاري: فقال جعفر: للأشعريين - حين وافقوه بالحبشة: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا، وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا» (3). وهذا يعني أنهم ذهبوا لمهمة معينة -ولا أشرف من مهمة الدعوة لدين الله- وأن هذه المهمة قد انتهت حين طلب المهاجرون (4). * ومنها البحث عن مكان آمن للمسلمين: كانت الخطة الأمنية للرسول صلى الله عليه وسلم تستهدف الحفاظ على الصفوة المؤمنة؛ ولذلك رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحبشة تعتبر مكانًا آمنًا للمسلمين ريثما يشتد عود الإسلام وتهدأ العاصفة، وقد وجد المهاجرون في أرض الحبشة ما أمنهم وطمأنهم، وفي ذلك تقول أم سلمة رضي الله عنها: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أَمِنَّا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ... ) (5). 2 - لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة؟ هناك عدة أسباب تساعد الباحث للإجابة عن لماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة؟ منها: أ- النجاشي العادل: ب- النجاشي الصالح: فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ثناؤه على ملك الحبشة بقوله: «وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يظلم أحد بأرضه»، وكان يُنْثَي (يشاع) عليه مع ذلك صلاحه (6) ويظهر هذا الصلاح في   (1) المنهاج الحركي للسيرة (1/ 67، 68). (2) سيرة الرسول (1/ 265) عن الشامي، ص111. (3) الصحيح مع الفتح (6/ 237). (4) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، د. سليمان العودة، ص34. (5) السيرة النبوية لابن هشام تحقيق همام أبو صعيليك (1/ 413). (6) انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري (2/ 328). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 حمايته للمسلمين، وتأثره بالقرآن الكريم عندما سمعه من جعفر - رضي الله عنه -، وكان معتقده في عيسى عليه السلام صحيحًا. ج- الحبشة متجر قريش: إن التجارة كانت عماد الاقتصاد القرشي، والحبشة تعتبر من مراكز التجارة في الجزيرة، فربما عرفها بعض المسلمين عندما ذهبوا إليها في التجارة، أو ذكرها لهم من ذهب إليهم قبلهم, وقد ذكر الطبري في معرض ذكره لأسباب الهجرة للحبشة: «وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش، يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغا (1) من الرزق وأمنًا، ومتجرًا حسنًا» (2). د- الحبشة البلد الآمن: فلم يكن في حينها في خارج الجزيرة بلد أكثر أمنًا من بلاد الحبشة، ومن المعلوم بُعد الحبشة عن سطوة قريش من جانب وهي لا تدين لقريش بالاتباع كغيرها (3) من القبائل، وفي حديث ابن إسحاق عن أسباب اتخاذ الحبشة مكانًا للهجرة أنها: أرض صدق، وأن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد (4) فهي أرض صدق، وملكها عادل، وتلك من أهم سمات البلد الآمن (5). هـ- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للحبشة ومعرفته بها: ففي حديث الزهري أن الحبشة كانت أحب الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إليها (6) ولعل تلك المحبة لها أسباب منها: * حكم النجاشي العاجل. * التزام الأحباش بالنصرانية، وهي أقرب إلى الإسلام من الوثنية. * معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأخبار الحبشة من خلال حاضنته أم أيمن رضي الله عنها، وأم أيمن هذه ثبت في صحيح مسلم وغيره أنها كانت حبشية (7)، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خبيرًا بطبائع وأحوال الدول التي في زمانه. 3 - وقت خروج المهاجرين، وسرية الخروج والوصول إلى الحبشة: غادر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في رجب من السنة الخامسة للبعثة، وكانوا عشرة   (1) رفاغا: الرفغ والرفاغة: سعة العيش والخصب. (لسان العرب - رفغ). (2) مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن الزبير، ص104. (3) انظر: هجرة الرسول وأصحابه في القرآن والسنة، أحمد الجمل، ص97. (4) السيرة النبوية لابن هشام، (1/ 397). (5) الهجرة الأولى في الإسلام، ص46. (6) مغازي الزهري، ص96. (7) صحيح مسلم (3/ 1392)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (3/ 357). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 رجال، وأربع نسوة، وقيل: خمس نسوة، وحاولت قريش أن تدركهم لتردهم إلى مكة, وخرجوا في أثرهم حتى وصلوا البحر، ولكن المسلمين كانوا قد أبحروا متوجهين إلى الحبشة (1). وعند التأمل في فقه المرويات يتبين لنا سرية المهاجرين, ففي رواية الواقدي: «فخرجوا متسللين سرًا» (2) وعنه الطبري (3) وممن ذكر السرية في الهجرة، ابن سيد الناس (4)، وابن القيم (5) والزرقاني (6)، ولما وصل المسلمون إلى أرض الحبشة أكرم النجاشي مثواهم، وأحسن لقاءهم ووجدوا عنده من الطمأنينة بالأمن ما لم يجدوه في وطنهم وأهليهم. إن المتأمل في أسماء الصحابة الذين هاجروا (7) لا يجد فيهم أحدًا من الموالي الذين نالهم من أذى قريش وتعذيبها أشد من غيرهم، كبلال، وخباب، وعمار رضي الله عنهم، بل نجد غالبيتهم من ذوي النسب والمكانة في قريش، ويمثلون عددًا من القبائل، صحيح أن الأذى شمل ذوي النسب والمكانة كما طال غيرهم، ولكنه كان على الموالي أشد في بيئة تقيم وزنًا للقبيلة وترعى النسب، وبالتالي فلو كان الفرار من الأذى وحده, هو السبب في الهجرة، لكان هؤلاء الموالي المعذبون أحق بالهجرة من غيرهم، ويؤيد هذا أن ابن إسحاق وغيره ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ولم يذكر هجرتهم للحبشة (8). ويصل الباحث إلى حقيقة مهمة ألا وهي أن ثمة أسبابًا أخرى, تدفع للهجرة غير الأذى اختار لها النبي صلى الله عليه وسلم نوعية من أصحابه، تمثل عددًا من القبائل، وقد يكون لذلك أثر في حمايتهم, لو وصلت قريش إلى إقناع أهل الحبشة بإرجاعهم من جانب، وتهز هجرتهم قبائل قريش كلها أو معظمهم من جانب آخر، فمكة ضاقت بأبنائها، ولم يجدوا بدًّا من الخروج عنها بحثًا عن الأمن في بلد آخر، ومن جانب ثالث, يرحل هؤلاء المهاجرون بدين الله لينشروه إلى الآفاق، وقد تكون محلاً أصوب وأبرك للدعوة إلى الله فتتفتح عقول وقلوب حين يستغلق سواها (9). عاش المسلمون ثلاثة أشهر من بدء الهجرة، وحدث تغير كبير على حياة المسلمين في   (1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290، 291. (2) الطبقات (1/ 204). (3) تاريخ الطبري (2/ 329). (4) عيون الأثر (1/ 116). (5) زاد المعاد (3/ 23). (6) شرح المواهب (1/ 271). (7) ارجع إليهم في: البداية والنهاية (3/ 96، 97)، سيرة ابن هشام، (1/ 344: 352). (8) الأنساب, البلاذري (1/ 156: 198) ابن هشام (1/ 392: 396). (9) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 مكة، وهناك ظروف نشأت لم تكن موجودة من قبل، بعثت في المسلمين الأمل في إمكان نشر الدعوة في مكة، حيث أسلم في تلك الفترة حمزة بن عبد المطلب, عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عصبية لابن أخيه, ثم شرح الله صدره للإسلام، فثبت عليه, وكان حمزة أعز فتيان قريش وأشدهم شكيمة، فلما دخل في الإسلام عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع وأن عمه سيمنعه ويحميه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه (1). وبعد إسلام حمزة - رضي الله عنه - أسلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكان عمر ذا شكيمة لا يرام، فلما أسلم امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازَّوا قريشًا (2). كان إسلام الرجلين العظيمين بعد خروج المسلمين إلى الحبشة، فكان إسلامُهما عزةً للمسلمين وقهرًا للمشركين وتشجيعًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجاهرة بعقيدتهم. قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه (3). وعن ابن عمر قال: «لما أسلم عمر قال: أيُّ قريش أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجُمحي، قال: فغدا عليه، قال عبد الله: وغدوت معه أتبع أثره, وأنظر ماذا يفعل حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه وتبعه عمر، واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن ابن الخطاب قد صبأ (4) قال: يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت, وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وَطَلِح (5) فقعد, وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها أو تركتموها لنا (6) «لقد أصبح المسلمون إذًا في وضع غير الذي كانوا فيه قبل الهجرة إلى الحبشة، فقد امتنعوا بحمزة وعمر رضي الله عنهما، واستطاعوا أن يصلوا عند الكعبة بعد أن كانوا لا يقدرون على ذلك، وخرجوا من بيت الأرقم بن أبي الأرقم مجاهرين حتى دخلوا المسجد، وكفت قريش عن إيذائهم بالصورة الوحشية التي كانت تعذبهم بها قبل ذلك، فالوضع قد تغير بالنسبة للمسلمين، والظروف التي كانوا يعيشون فيها قبل   (1) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الوهاب، ص90. (2) السيرة النبوية (1/ 294)، وعازوا قريشا: أي غلبوهم. (3) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 365) (4) صبأ: خرج من دين إلى دين آخر: القاموس المحيط، باب الهمزة (1/ 20). (5) طلح: أعيا. (6) سبل الهدى والرشاد للصالحي (2/ 498، 499). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الهجرة قد تحولت إلى أحسن، فهل ترى هذا يخفى على أحد؟ وهل تظن أن هذه التغييرات التي جرت على حياة المسلمين في مكة لم تصل إلى أرض الحبشة، ولو عن طريق البحارة الذين كانوا يمرون بجدة؟ لا بد أن كل ذلك قد وصلهم، ولا شك أن هؤلاء الغرباء قد فرحوا بذلك كثيرًا، ولا يستغرب أحد بعد ذلك أن يكون الحنين إلى الوطن، وهو فطرة فطر الله عليها جميع المخلوقات، قد عاودهم ورغبت نفوسهم في العودة إلى حيث الوطن العزيز مكة أم القرى، وإلى حيث يوجد الأهل والعشيرة فعادوا إلى مكة في ظل الظروف الجديدة والمشجعة، وتحت إلحاح النفس وحنينها إلى حرم الله وبيته العتيق» (1). لقد رجع المهاجرون إلى مكة بسبب ما علموا من إسلام حمزة وعمر, واعتقادهم أن إسلام هذين الصحابيين الجليلين سيعتز به المسلمون وتقوى شوكتهم. ولكن قريشًا واجهت إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما بتدبيرات جديدة يتجلى فيها المكر والدهاء من ناحية، والقسوة والعنف من ناحية أخرى، فزادت في أسلحة الإرهاب التي تستعملها ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم سلاحًا قاطعًا وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية، وقد تحدثت عنه, وكان من جراء ذلك الموقف العنيف أن رجع المسلمون إلى الحبشة مرة ثانية، وانضم إليهم عدد كبير ممن لم يهاجروا قبل ذلك (2). ثانيًا: هجرة المسلمين الثانية إلى الحبشة: قال ابن سعد: قالوا: لما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكة من الهجرة الأولى, اشتد عليهم قومهم، وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدًا، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الثانية أعظمها مشقة، ولقوا من قريش تعنيفًا شديدًا ونالوهم بالأذى، واشتد عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة ولست معنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم مهاجرون إلى الله تعالى وإليَّ، لكم هاتان الهجرتان جميعًا» قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله (3). وهاجر معهم كثيرون غيرهم أكثر منهم وعدتهم -كما قال ابن إسحاق وغيره ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان عمار بن ياسر فيهم واثنان وثمانون رجلاً إن لم يكن فيهم، قال   (1) تأملات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، لمحمد سيد الوكيل، ص59، الهجرة في القرآن الكريم، ص302. (2) انظر: القول المبين في سيرة سيد المرسلين، د. محمد النجار، ص111، الهجرة في القرآن الكريم، ص302. (3) طبقات ابن سعد (1/ 207) (ط. بيروت) الهجرة في القرآن الكريم، ص303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 السهيلي وهو الأصح عند أهل السير كالواقدي، وابن عقبة وغيرهما (1) وثماني عشرة امرأة: إحدى عشرة قرشيات، وسبع غير قرشيات، وذلك عدا أبنائهم الذين خرجوا معهم صغارًا، ثم الذين ولدوا لهم فيها (2). 1 - سعي قريش لدى النجاشي في رد المهاجرين: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا، واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارًا واستقرارًا، وحسن جوار من النجاشي، وعبدوا الله لا يؤذيهم أحد، ائتمروا فيما بينهم أن يبعثوا وفدا للنجاشي لإحضار من عنده من المسلمين إلى مكة بعد أن يوقعوا بينهم وبين ملك الحبشة, إلا أن هذا الوفد خدم الإسلام والمسلمين من حيث لا يدري، فقد أسفرت مكيدته عند النجاشي عن حوار هادف دار بين أحد المهاجرين وهو جعفر بن أبي طالب، وبين ملك الحبشة, أسفر هذا الحوار عن إسلام النجاشي، وتأمين المهاجرين المسلمين عنده (3). فعن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خيرَ جار (النجاشي) أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى, لا نؤذى, ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين (4) وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم (5) فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته (6) بطريقًا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يُسلِمَهم إليكم قبل أن يكلمهم قالت: فخرجا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار وخير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه صبأ (7) إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشرف قومهم، لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى (8) بهم عينًا، وأعلم بما عابوا   (1) انظر: الروض الأنف للسهيلي (3/ 228). (2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص303. (3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص304. (4) الجلد، القوة، الشدة. (5) الأدم: جمع أديم وهو الجلد المدبوغ. (6) جمع بطريق: وهو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم. (7) صَبَا: لعل المعنى حَنَّ ومال. (8) أعلى بهم عينا: قال السهيلي: أي أبصر بهم، أي عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم في أمرهم، الروض الأنف (1/ 92) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 عليهم، فقالوا لهما: نعم ثم إنهما قرَّبا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا: أيها الملك، إنه صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم, ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت, وقد بَعَثَنَا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم, لتردهم إليهم, فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه. قالت: ولم يكن شيء أبغضَ إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومَهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لا هَيْمُ (1) الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا أُكادُ (2) قومًا جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما, ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم، ما جاوروني (3). 2 - حوار بين جعفر والنجاشي: ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبيّنا صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاءه وقد دعا النجاشي أساقفته (4) فنشروا مصاحفهم (5) حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال له: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده, لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.   (1) والمعنى: لا والله. (2) لا أكاد: قال في اللسان: يقولون إذا حمل أحدهم ما يكره، لا والله ولا كيد. (3) أخرجه أحمد (5/ 290) إسناده صحيح. (4) أساقفته: جمع الأسقف، وهو العالم والرئيس من علماء النصارى. (5) أي أناجيلهم وكانوا يسمونها مصاحف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قالت: فعدد عليه أمور الإسلام .. فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به. فعبدنا الله وحده, فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقَّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا, خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي، فاقرأه عليَّ؟ فقرأ عليه صدرًا من (كهيعص) قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أخضل (1) لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أُسلِمُهم إليكم أبدًا ولا أكاد. 3 - محاولة أخرى للدس بين المهاجرين والنجاشي: قالت أم سلمة: فلما خرجا (عمرو بن العاص, وعبد الله بن أبي ربيعة) من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنه غدًا عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم (2) قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا، لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيمًا فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه، ما قال الله، وما جاء به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه, وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء (3)، البتول (4). قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن   (1) ابتلت بالدموع: يقال خضل وأخضل إذا ندي، النهاية (3/ 43). (2) استأصل به خضراءهم: أي أقضي به على دهمائهم وسوادهم، الهجرة في القرآن الكريم، ص307. (3) العذراء: الجارية التي لم يمسها رجل وهي البكر. (4) يقال امرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 مريم ما قلت هذا العود فتناخرت (1) بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي (والسيوم الآمنون) من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دَبرًا ذهبًا، وإني آذيت رجلا منكم، والدبر بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناسَ في فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما، ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار (2). 4 - إسلام النجاشي: وقد أسلم النجاشي وصدق بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد أخفى إيمانه عن قومه، لما علمه فيهم من الثبات على الباطل, وحرصهم على الضلال، وجمودهم على العقائد المنحرفة وإن صادمت العقل والنقل (3)، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم, وكبر عليه أربع تكبيرات» (4) وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: «مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة» (5). رضي الله عنه وأرضاه، وكانت وفاته رحمه الله, سنة تسع عند الأكثر وقبل سنة ثمان قبل فتح مكة (6). دروس وعبر وفوائد: 1 - إن ثبات المؤمنين على عقيدتهم, بعد أن يُنْزِل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب والاضطهاد، دليل على صدق إيمانهم, وإخلاصهم في معتقداتهم، وسمو نفوسهم وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضمير, واطمئنان النفس والعقل، وما يأملونه من رضا الله جل شأنه, أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من تعذيب وحرمان واضطهاد؛ لأن السيطرة في المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين، تكون دائمًا وأبدًا لأرواحهم لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطالب أرواحهم من حيث لا يبالون بما تتطلبه أجسامهم من راحة وشبع ولذة؛ وبهذا تنتصر الدعوات وبهذا تتحرر الجماهير من الظلمات والجهالات (7).   (1) فتناخرت: أي تكلمت وكأنه كلام مع غضب ونفور. (2) مسند الإمام أحمد (1/ 203) ورجاله رجال الصحيح. (3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص309. (4) البخاري، كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنازة (5/ 64) رقم 1333. (5) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب موت النجاشي، حديث رقم 3877. (6) أسد الغابة (1/ 99) الإصابة (1/ 109). (7) السيرة النبوية للدكتور مصطفى السباعي، ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 2 - مما يتبادر إلى الذهن من هذه الهجرة العظيمة, هو شفقة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على أصحابه ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عما فيه أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى الملك العادل الذي لا يُظلم أحد عنده، فكان الأمر كما قال صلوات الله وسلامه عليه، فأمنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل (1) فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وجَّه الأنظار إلى الحبشة وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ودعوته، كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر, أن تخطط بحكمة وبعد نظر لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزًا من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه فجنود الدعوة هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايتهم، دون أن يتم أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ما على الأرض من بشر خارجين عن دين الله وتوحيده (2). 3 - كانت الأهداف من هجرة الحبشة متعددة، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار نوعيات معينة لتحقيق هذه الأهداف، كشرح قضية الإسلام وموقف قريش منه، وإقناع الرأي العام بعدالة قضية المسلمين، على نحو ما تفعله الدول الحديثة من تحرك سياسي يشرح قضاياها وكسب الرأي العام إلى جوارها (3) وفتح أرض جديدة للدعوة، فلذلك هاجر سادات الصحابة في بداية الأمر ثم لحق بهم أكثر الصحب وأوكل الأمر إلى جعفر - رضي الله عنه - (4). 4 - إن وجود ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر، وصهره عثمان، وابنته رقية رضي الله عنهم جميعًا, في مقدمة المهاجرين له دلالة عميقة تشير إلى أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد, وأهله ورحمه، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة فهو منهج بعيد عن نهج النبي صلى الله عليه وسلم (5). 5 - مشروعية الخروج عن الوطن -وإن كان الوطن مكة على فضلها- إذا كان الخروج فرارًا بالدين وإن لم يكن إلى إسلام، فإن أهل الحبشة كانوا نصارى يعبدون المسيح ولا يقولون: هو عبد الله، وقد تبين ذلك في هذا الحديث -يعني حديث أم سلمة- المتقدم، وسموا بهذه مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين الذين أثنى عليهم بالسبق فقال: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ)   (1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص312. (2) انظر: التربية القيادية للغضبان (1/ 333). (3) أضواء على الهجرة، توفيق محمد سبع، ص427. (4) انظر: التربية القيادية، (1/ 333). (5) نفس المصدر (1/ 333). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وجاء في التفسير: إنهم هم الذين شهدوا بيعة الرضوان (1) فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة، وهم قد خرجوا من بيت الله الحرام إلى دار الكفر، لما كان فعلهم ذلك احتياطًا على دينهم, ورجاء أن يُخلى بينهم وبين عبادة ربهم, يذكرونه آمنين مطمئنين، وهذا حكم مستمر متى غلب المنكر في بلد, وأوذي على الحق مؤمن ورأى الباطل قاهرًا للحق ورجا أن يكون في بلد آخر، أي بلد كان، خلى بينه وبين دينه ويظهر فيه عبادة ربه فإن الخروج على هذا الوجه حق على المؤمن، هذه الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة (وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقر: 115] (2). 6 - يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي، إذ كان نصرانيًّا عندئذ، ولكنه أسلم بعد ذلك، أو كان مشركًا كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة، وكأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمطعم بن عدي الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من الطائف (3). وهذا مشروط -بحكم البداهة- بألا تستلزم مثل هذه الحماية إضرارًا بالدعوة الإسلامية، أو تغييرًا لبعض أحكام الدين، أو سكوتًا على اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز على المسلم الدخول فيها، ودليل ذلك ما كان من فقهه صلى الله عليه وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقي على نفسه ولا يحمله ما لا يطيق فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه إذ ذاك على الخروج من حماية عمه وأَبَى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه (4). 7 - إن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الحبشة يشير إلى نقطة إستراتيجية هامة، تمثلت في معرفة الرسول بما حوله من الدول والممالك، فكان يعلم طيبها من خبيثها، وعادلها من ظالمها، الأمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة لهجرة أصحابه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال قائد الدعوة الذي لا بد أن يكون ملمًّا بما يجري حوله، مطلعًا على أحوال وأوضاع الأمم والحكومات (5). 8 - يظهر الحس الأمني عند الرعيل الأول, في هجرتهم الأولى, وكيفية الخروج, فيتمثل في كونه تم تسللاً وخفية حتى لا تفطن له قريش فتحبطه كما أنه تم على نطاق ضيق لم   (1) تفسير الطبري (11/ 6) تفسير ابن كثير (2/ 331). (2) الروض الأنف للسهيلي (2/ 92) الهجرة في القرآن الكريم، ص312. (3) الهجرة في القرآن الكريم، ص316. (4) فقه السيرة للبوطي ص 126، الهجرة في القرآن الكريم، ص317. (5) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 يزد على ستة عشر فردًا، فهذا العدد لا يلفت النظر في حالة تسللهم فردًا أو فردين، وفي ذات الوقت يساعد على السير بسرعة، وهذا ما يتطلبه الموقف فالركب يتوقع المطاردة والملاحقة في أي لحظة، ولعل السرية المضروبة على هذه الهجرة، فوتت على قريش العلم بها في حينها، فلم تعلم بها إلا مؤخرًا، فقامت في إثرهم لتلحق بهم، لكنها أخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحدًا، وهذا مما يؤكد على أن الحذر هو مما يجب أن يلتزمه المؤمن في تحركاته الدعوية، فلا تكون التحركات كلها مكشوفة ومعلومة للعدو بحيث يترتب عليها الإضرار به وبالدعوة (1). 9 - لم ترض قريش بخروج المسلمين إلى الحبشة وشعرت بالخطر الذي يهدد مصالحها في المستقبل، فربما تكبر الجالية هناك وتصبح قوة خطرة، ولذلك جد المشركون وشرعوا في الأخذ بالأسباب لإعادة المهاجرين، وبدأت قريش تلاحق المهاجرين؛ لكي تنزع هذا الموقع الجديد منهم في تخطيط محكم ذكي، فالهدايا إلى النجاشي والهدايا إلى بطارقته ووضعت الخطة داخل مكة، وكيف توزع الهدايا، وما نوعية الكلام الذي يرافق الهدايا، وصفات السفراء، فعمرو من أصدقاء النجاشي ومعروف بالدهاء! وما أحوجنا إلى ألا نستصغر عدونا، وألا ننام عن مخططاته، وأن نعطيه حجمه الحقيقي، وندرس تحركاته، لنستعد لمواجهة مخططاته الماكرة (2). 10 - نفذت خطة قريش بحذافيرها كاملة، ولكنها فشلت؛ لأن شخصية النجاشي, التي تم جوارها, رفضت أن تسلم المسلمين قبل السماع منهم، وبذلك أتاحت الفرصة للمسلمين إلى أن يعرضوا قضيتهم العادلة ودينهم القويم. 11 - اجتمع الصحابة حين جاءهم رسول النجاشي وطلب منهم الحضور، وتدارسوا الموقف، وهكذا كان أمر المسلمين شورى بينهم، وكل أمر يتم عن طريق الشورى هو أدعى إلى نجاحه؛ لأنه يضم خلاصة عقول كثيرة، وتبدو مظاهر السمو التربوي في كون الصحابة لم يختلفوا بل أجمعوا على رأي واحد، ألا وهو أن يعرض الإسلام كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كائنًا في ذلك ما هو كائن، وعزموا على عرض الإسلام بعزة، وإن كان في ذلك هلاكهم (3). 12 - كان وعي القيادة النبوية على مستوى الأحداث؛ ولذلك وضع جعفر بن أبي طالب على إمارة المسلمين في الهجرة، وتم اختياره من قبل المسلمين المهاجرين ليتحدث باسمهم بين يدي الملك، وليتمكن من مواجهة داهية العرب عمرو بن العاص، وقد امتازت شخصية   (1) نفس المصدر، ص101. (2) انظر: التربية القيادية (1/ 317). (3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (2/ 92). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 جعفر بعدة أمور جعلتها تتقدم لسد هذه الثغرة العظيمة منها: * جعفر بن أبي طالب من ألصق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عاش معه في بيت واحد، فهو أخبر الناس بقائد الدعوة, وسيد الأمة من بين كل المهاجرين إلى الحبشة. * وهذا الموقف بين يدي النجاشي يحتاج إلى بلاغة وفصاحة، وبنو هاشم قمة قريش نسبًا وفضلاً، وجعفر في الذؤابة من بني هاشم، والله تعالى قد اختار هاشمًا من كنانة، واختار نبيه من بني هاشم، فهم أفصح الناس لسانًا وأوسطهم نسبًا. * وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يجعل النجاشي أكثر اطمئنانًا وثقة بما يعرض عن ابن عمه (1). * خلق جعفر المقتبس من مشكاة النبوة، وجمال خلقه المنحدر من أصلاب بني هاشم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر: «أشبهت خَلْقي وخُلُقي» (2) فالسفير بين يدي النجاشي كان قدوة لسفراء المسلمين على مر الزمان, وكر العصور، فقد اتصف بسمات السفراء المسلمين، كالإسلام والانتماء إليه، والفصاحة، العلم، حسن الخلق، الصبر، الشجاعة، الحكمة، سعة الحيلة، المظهر الجذاب (3). 13 - كان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - وهو يمثل في تلك المرحلة عداوة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على مستوى كبير من الذكاء والدهاء والمكر، وكان قبل دخول جعفر وحديثه قد شحن كل ما لديه من حجة، وألقى بها بين يدي النجاشي من خلال النقاط الآتية: * تحدث عن بلبلة جو مكة وفساد ذات بينها من خلال دعوة محمد صلى الله عليه وسلم, وهو سفير مكة وممثلها بين يدي النجاشي، فكلامه مصدق لا يعتريه الشك، وهو عند النجاشي موضع ثقة. * تحدث عن خطورة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وربما سيزلزلون الأرض تحت قدمي النجاشي، كما أفسدوا جوّ مكة، ولولا حب قريش للنجاشي وصداقتها معه, ما تعنوا هذا العناء لنصحه «وأنت لنا عيبة صدق، تأتي إلى عشيرتنا بالمعروف، ويأمن تاجرنا عندك» فلا أقل من رد المعروف بمثله، ولا أقل من وفاء حسن الجوار والعلاقة بين مكة والحبشة من تحذيره من هذه الفتنة المخيفة. * وأخطر ما في أمرهم, هو خروجهم على عقيدة النجاشي وكفرهم بها «فهم لا يشهدون أن عيسى ابن مريم إله، فليسوا على دين قومهم وليسوا على دينك» فهم مبتدعة دعاة فتنة. * ودليل استصغارهم لشأن الملك، واستخفافهم به أن كل الناس يسجدون للملك لكنهم لا يفعلون ذلك، فكيف يتم إيواؤهم عندك وهو عودة إلى إثارة الرعب في نفسه, من عدم   (1) انظر: التربية القيادية، (1/ 335). (2) نفس المصدر (1/ 336). (3) انظر: سفراء النبي صلى الله عليه وسلم, لمحمود شيت خطاب (2/ 252: 317). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 احترام الدعاة له حين يستخفون بملكه، ولا يسجدون له، فكان على جعفر أن يفند كل الاتهامات الباطلة التي ألصقها سفير قريش بالمهاجرين (1). 14 - كان رد جعفر على أسئلة النجاشي في غاية الذكاء, وقمة المهارة السياسية، والإعلامية والدعوية، والعقدية، فقام بالتالي: * عدَّد عيوب الجاهلية، وعرضها بصورة تنفر السامع، وقصَدَ بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك، وركز على الصفات الذميمة التي لا تنتزع إلا بنبوة. * عرض شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجتمع الآسن المليء بالرذائل، وكيف كان بعيدًا عن النقائص كلها، ومعروفًا بنسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فهو المؤهل للرسالة. * أبرز جعفر محاسن الإسلام وأخلاقه التي تتفق مع أخلاقيات دعوات الأنبياء، كنبذ عبادة الأوثان، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة، وكون النجاشي وبطارقته موغلين في النصرانية فهم يدركون أن هذه رسالات الأنبياء, التي بعثوا بها من لدن موسى, وعيسى عليهما الصلاة والسلام. * فضح ما فعلته قريش بهم؛ لأنهم رفضوا عبادة الأوثان، وآمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وتخلقوا بخلقه. * أحسن الثناء على النجاشي بما هو أهله، بأنه لا يُظلم عنده أحد، وأنه يقيم العدل في قومه. * وأوضح أنهم اختاروه كهفًا من دون الناس، فرارًا من ظلم هؤلاء الذين يريدون تعذيبهم؛ وبهذه الخطوات البينة الواضحة دحر بها بلاغة عمرو وفصاحته، واستأثر بلب النجاشي وعقله، وكذلك استأثر بلب وعقل البطارقة, والقسيسين الحاضرين. * وعندما طلب الملك النجاشي شيئًا مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم جاء صدر سورة مريم في غاية الإحكام والروعة والتأثير، حتى بكى النجاشي، وأساقفته، وبللوا لحاهم ومصاحفهم من الدموع، واختيار جعفر لسورة مريم، يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب المهاجرين، فسورة مريم تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السلام (2). * إن عبقرية جعفر - رضي الله عنه - في حسن اختيار الموضوع، والزمن المناسب، والقلب المتفتح، والشحنة العاطفية، أدت إلى أن يربح الملك إلى جانبه (3). * كان رده في قضية عيسى عليه السلام دليلاً على الحكمة والذكاء النادر، فرد بأنهم لا يألهون   (1) انظر: التربية القيادية (1/ 319، 340). (2) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص106. (3) انظر: التربية القيادية، (1/ 337). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 عيسى ابن مريم، ولكنهم كذلك لا يخوضون في عرض مريم عليها السلام، كما يخوض الكاذبون, بل عيسى ابن مريم كلمته وروحه ألقاها إلى مريم البتول العذراء الطاهرة، وليس عند النجاشي زيادة عما قال جعفر، ولا مقدار هذا العود (1). * هم لا يسجدون للنجاشي، فهم معاذ الله أن يعدلوه بالله، ولا ينبغي السجود إلا لله، لكنهم لا يستخفون بالملك، بل يوقرونه ويسلمون عليه كما يسلمون على نبيهم، ويحيونه بما يحيي أهل الجنة أنفسهم به في الجنة. * انتهى الأمر بأن أعلن النجاشي صدق القوم، وأيقن بأن هؤلاء صديقون, وعزم على أن يكون في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الناموس كناموس موسى، وأن يتقرب إلى الله بحماية أصحابه، وأكد لعمرو أنه لا يضيره تجارة قريش، ولا مال قريش، ولا جاهها، ولو قطعت علاقتها معه. 15 - وبذلك انهزمت قريش في هذه الجبهة سياسيًّا ومعنويًّا، وإعلاميًّا أمام مقاومة المسلمين الموفقة وخطواتهم، وأساليبهم الرصينة. 16 - كان موقف جعفر وإخوانه مثالاً تطبيقيًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضا الله بسخط الناس, كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» (2) فهؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- قد التمسوا رضا الله عز وجل، مع أن الظاهر في الأمر أنه يترتب عليه في هذه القضية سخط أولئك النصارى وهم الذين لهم الهيمنة عليهم، فكانت النتيجة أن الله عز وجل سخر لهم ملك الحبشة حتى نطق بالحق الموافق لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم, مع مخالفته الصريحة لمعتقدهم المنحرف, الذي قام عليه ملكهم وما يغلب على الظن من ثورة النصارى المتعصبين عليه (3). 17 - كان عند بعض النصارى إيمان صحيح بدينهم، ولكنهم يكتمون ذلك, لكون الغلبة والسيادة في الأرض لأصحاب الدين المحرف، ومن الذين كانوا على الاعتقاد الصحيح ملك الحبشة، وكان يخفي إيمانه هذا مداراة لقومه إبقاء على نفسه وملكه، فلما وقع في هذا الابتلاء أظهر إيمانه، إرضاءً لربه وإراحة لضميره وانتصارًا لحزب الله المؤمنين مهما ترتب على ذلك من نتائج, فكان بهذا الموقف من عظماء التاريخ (4). 18 - ومن دروس هجرة الحبشة أن الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحة لا يضر، قال ابن تيمية -رحمه الله- وهو يقرر العذر بالجهل: «ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان مَنْ بعيدًا عنه مثل من كان بمكة، وبأرض الحبشة يصلون ركعتين، ولم   (1) نفس المصدر (1/ 342). (2) سنن الترمذي، كتاب الزهد تحفة الأحوذي (7/ 97) صحيح الجامع الصغير، رقم 5973. (3) التاريخ الإسلامي للحميدي (2/ 105). (4) المصدر نفسه (2/ 106). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة» (1). وقال الذهبي: «فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة، وقد كان سادة الصحابة بالحبشة ينزل الواجب والتحريم على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يبلغهم إلا بعد أشهر فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص ... » (2). 19 - ومن دروس هجرة الحبشة، تفاضل الجهاد حسب الحاجة، فإذا كانت الهجرة للمدينة جهادًا ميز الله أصحابها وخصهم بالذكر والفضيلة، فقد نال هذا الفضل أصحاب هجرة الحبشة وإن تأخر لحوقهم بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى فتح خيبر، وذلك للحاجة لبقائهم في الحبشة، وهذا ما أكده النبي لأصحاب السفينتين (3) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: ودخلت أسماء بنت عميس, وهي ممن قدم معنا, على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر, فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم, ويعظ جاهلكم, وكنا في دار -أو في أرض- البُعداء البُغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعامًأ ولا أشرب شرابًا, حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نُؤذى ونُخاف وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا، قال: «فما قلتِ له؟» قالت: قلت له كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتون أرسالا يسألوني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرحُ ولا أعظمُ في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (4). 20 - كانت بداية إسلام عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بأرض الحبشة، وهذا بلا شك أثر من آثار الهجرة للحبشة، وبرهان على ما حققه المهاجرون من مكاسب للدعوة من خلال مكوثهم بأرض الحبشة، وإن كانت كثير من المرويات تتجه إلى أن بداية إسلام عمرو بن العاص كانت على يد النجاشي وهو المشهور كما يقول ابن حجر (5) وهي لطيفة لا مثل لها, إذ   (1) الفتاوى (22/ 43). (2) الكبائر، ص12. (3) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص205. (4) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، (5/ 8). (5) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أسلم صحابي على يد تابعي، كما يقول الزرقاني (1) وهناك ما يفيد إسلام عمرو على يد جعفر رضي الله عنهم. 21 - يرتبط زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بهجرة الحبشة ارتباطًا وثيقًا، ويحمل هذا الزواج منه صلى الله عليه وسلم, لأحد المهاجرات الثابتات, معنى كبيرًا، وكان عقد الزواج على أم حبيبة -رضي الله عنها- وهي في أرض الحبشة، وجاء تأكيده في كتب السنة، فقد روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن أم حبيبة -رضي الله عنها- أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشيُّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة (2). ويستنتج الباحث من دلالات هذا الحديث المهم متابعةَ الرسول صلى الله عليه وسلم لأحوال المهاجرين، ومشاركتهم في مصابهم، وتطييب أنفس الصابرين، وتقديرَ ثبات الثابتين وبالتتبع لأحوال المهاجرات لا نجد (أم حبيبة) رضي الله عنها هي الوحيدة التي يعني الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأمرها، ويواسيها في مصابها، بل سبق ذلك صنيعه مع (سودة) رضي الله عنها (3) فلما رجعت مع زوجها إلى مكة من الحبشة توفي زوجها السكران بن عمرو، فلما حلت أرسل إليها صلى الله عليه وسلم وخطبها، فقالت: أمري إليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مري رجلاً من قومك يزوجك» فأمرت حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود فزوجها، فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة (4). وهذان الحدثان مؤشران, من مؤشرات حكمة تعدده صلى الله عليه وسلم في الزواج بشكل عام ولهما دلالتهما وحكمتهما بالاهتمام بالنساء المجاهدات بشكل خاص, هذا فضلاً عن ما يمكن أن يقال, إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهدف أيضا من وراء الزواج بأم حبيبة تخفيف عداوة (بني أمية) بشكل عام، وتخفيف عداوة زعيمهم أبي سفيان (والدها) بشكل أخص للإسلام ونبيه والمسلمين (5). فالتأليف للإسلام وارد في السيرة والرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على قومه بكل وسيلة لا تتنافى مع قيم الإسلام (6). 22 - يرى بعض الباحثين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحب أن يهاجر إلى الحبشة لأسباب كثيرة منها:   (1) انظر: شرح المواهب (1/ 271). (2) صحيح سنن أبي داود للألباني (2/ 396) (3) انظر: الهجرة الأولى في الإسلام، ص188. (4) الطبقات (8/ 3). (5) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله، ص706، 707. (6) انظر: الهجرة الأولى، ص188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 * أنه ثبت -كما سيجيء- رؤية النبي صلى الله عليه وسلم دار الهجرة أرضًا ذات نخل بين حرتين، وأنه ظنها هجر (1). * ومنها طبيعة الوضع الجغرافي للحبشة الذي يعوق انتشار الدعوة وبسط سلطانها على العالم. * ومنها أن اختيار الجزيرة العربية، ومكة بالذات ثم المدينة لنزول الوحي وانطلاق الدين لم يكن اتفاقيًّا بل كان لمميزات كثيرة (2). * ومنها أن هذه البيئة الحبشية لم تكن لتسمح لهذا الدين اللاجئ أن ينمو إلى جوار المسيحية، ولم تكن الرومان -وهي المهيمنة على المسيحية في العالم- لتسمح للحبشة بذلك (3). 23 - كان للهجرة إلى الحبشة أثر في الحط من مكانة القرشيين عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدعوة وحملتها، إذ كانت البيئة العربية تفتخر بإيواء الغريب وإكرام الجار وتتنافس في ذلك، وتحاذر السبة والعار في خلافه، فهاهم الأحباش يسبقون قريشًا ويؤوون مَنْ طردتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس، ومن ضعفائهم، ومن غربائهم (4) * * * المبحث الثالث عام الحزن ومحنة الطائف أولاً: عام الحزن: 1 - وفاة أبي طالب: كانت وفاة أبي طالب بعد مغادرة بني هاشم شعبه، وذلك في آخر السنة العاشرة من المبعث (5) وقد كان أبو طالب (يحوط النبي ويغضب له) (6) و (ينصره) (7)، وكانت قريش تحترمه، وعندما حضرته الوفاة جاء زعماء الشرك وحرضوه على الاستمساك بدينه وعدم الدخول في الإسلام قائلين: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام قائلاً: «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة» فقال أبو طالب: لولا تعيرني بها   (1) هجر: هي الاحساء. (2) انظر: الغرباء الأولون، ص169، 170. (3) انظر: أضواء على الهجرة ص 156: 161، الهجرة في القرآن الكريم، ص320. (4) انظر: الغرباء الأولون، ص170، 171. (5) فتح الباري (7/ 194). (6) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 193) (7) صحيح مسلم (1/ 195). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 قريش, يقولون: إنما حمله عليها الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص: 56] كانت أفكار الجاهلية راسخة في عقل أبي طالب، ولم يتمكن من تغييرها، فهو شيخ كبير يصعب عليه تغيير فكره وما ألفه عن آبائه، وكان أقرانه حاضرين وقت احتضاره, فأثروا عليه خوفًا من شيوع خبر إسلامه وتأثير ذلك على قومه (1). 2 - وفاة خديجة رضي الله عنها: أما السيدة خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فقد توفيت قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين (2) في نفس عام وفاة أبي طالب (3). وبموت أبي طالب الذي أعقبه موت خديجة رضي الله عنها، تضاعف الأسى والحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقد هذين الحبيبين, اللذين كانا دعامتين من دعائم سير الدعوة في أزماتها، كان أبو طالب السند الخارجي الذي يدفع عنه القوم، وكانت خديجة السند الداخلي الذي يخفف عنه الأزمات والمحن، فتجرأ كفار قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونالوا منه ما لم يكونوا يطمعون به في حياة أبي طالب (4) وابتدأت مرحلة عصيبة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم واجه فيها كثيرًا من المشكلات والمصاعب, والمحن والفتن, حينما أصبح في الساحة وحيدًا لا ناصر له إلا الله سبحانه وتعالى، ومع هذا, فقد مضى في تبليغ رسالة ربه إلى الناس كافة على ما يلقى من الخلاف والأذى الشديد, الذي أفاضت كتب الحديث وكتب السير بأسانيدها الصحيحة الثابتة في الحديث عنه، وتحمل صلى الله عليه وسلم من ذلك ما تنوء الجبال بحمله، ولما تكالبت الفتن والمحن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلده الذي نبت فيه وبين قومه الذين يعرفون عنه كل صغيرة وكبيرة, عزم صلى الله عليه وسلم على أن ينتقل إلى بلد غير بلده, وقوم غير قومه, يعرض عليهم دعوته، ويلتمس منهم نصرتهم, رجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إلى الطائف، وهي من أقرب البلاد إلى مكة (5). ثانيًا: رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتدي بالأنبياء والمرسلين الذين سبقوه في الدعوة إلى الله، فهذا نوح لبث في قومه داعيًا: (أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا) [العنكبوت: 14] فكانت هذه الأعوام الطويلة عملاً دائبًا، وتنويعًا متكررًا (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 184). (2) نفس المصدر (1/ 185). (3) المصدر السابق، (1/ 185). (4) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص34. (5) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص36: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أَلِيمٌ - قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ - يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا - فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا - وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا - ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا - ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) [نوح: 1 - 9] ومع امتداد الزمن الطويل، ما توقف عن الدعوة, ولا ضعُفت همته في تبليغها، ولا ضعُفت بصيرته وحيلته في تنويع أوقاتها وأساليبها، قال الآلوسي في تفسيره (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) أي إلى الإيمان والطاعة (لَيْلاً وَنَهَارًا) أي دائمًا من غير فتور ولا توانٍ، ثم وصف إعراضهم الشديد، وإصرارهم العنيد، ثم علق على قوله تعالى: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) فقال: أي دعوتهم مرة بعد مرة، وكرة غِبَّ كرة، على وجوه مختلفة وأساليب متفاوتة، وهو تعميم لوجوه الدعوة, بعد تعميم الأوقات، وقوله (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا) يشعر بمسبوقية الجهر بالسر، وهو الأليق بمن همه الإجابة؛ لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو (1). فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينوع ويبتكر في أساليب الدعوة, ودعا سرًا وجهرًا، وسلمًا وحربًا، وجمعًا، وفردًا، وسفرًا وحضرًا، كما أنه عليه الصلاة والسلام قص القصص، وضرب الأمثال، واستخدم وسائل الإيضاح بالخط على الأرض وغيره, كما رغب وبشر، ورهب وأنذر، ودعا في كل آنٍ، وعلى كل حال وبكل أسلوب مؤثر فعَّال (2) فها هو عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى الطائف، ثم يتردد على القبائل، ثم يهاجر ويستمر في دعوة الخلق إلى الله تعالى. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى لإيجاد مركز جديد للدعوة، وطلب النصرة من ثقيف لكنها لم تستجب له، وأغرت به صبيانها فرشقوه بالحجارة، وفي طريق عودته من الطائف التقى بعدَّاس الذي كان نصرانيًّا فأسلم، وأرخ الواقدي الرحلة في شوال سنة عشر من المبعث بعد موت أبي طالب وخديجة، وذكر أن مدة إقامته بالطائف كانت عشرة أيام (3). 1 - لماذا اختار الرسول صلى الله عليه وسلم الطائف؟ كانت الطائف تمثل العمق الإستراتيجي لملأ قريش، بل كانت لقريش أطماع في الطائف، ولقد حاولت في الماضي أن تضم الطائف إليها، ووثبت على وادي وج وذلك لما فيه من الشجر والزرع، حتى خافتهم ثقيف وحالفتهم, وأدخلت معهم بني دوس (4)، وقد كان كثير   (1) انظر: تفسير الآلوسي (10/ 89). (2) انظر: مقومات الدعوة والداعية، بادحدح، ص123. (3) طبقات ابن سعد (1/ 221) نقلا عن السيرة النبوية الصحيحة (1/ 185). (4) انظر: فتح الباري، كتاب الكفالة (4/ 373 شرح - ح - رقم 2294). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 من أغنياء مكة يملكون الأملاك في الطائف, ويقضون فيها فصل الصيف، وكانت قبيلة بني هاشم وعبد شمس على اتصال مستمر مع الطائف، كما كانت تربط مخزوم مصالح مالية مشتركة بثقيف (1) فإذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فذلك توجه مدروس، وإذا استطاع أن يجد له فيها موضع قدم, وعصبة تناصره، فإن ذلك سيفزع قريشًا، ويهدد أمنها ومصالحها الاقتصادية تهديدًا مباشرًا، بل قد يؤدي لتطويقها وعزلها عن الخارج، وهذا التحرك الدعوي السياسي الاستراتيجي, الذي يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على حرصه في الأخذ بالأسباب لإيجاد دولة مسلمة أو قوة جديدة, تطرح نفسها داخل حلبة الصراع؛ لأن الدولة أو إيجاد القوة التي لها وجودها, من الوسائل المهمة في تبليغ دعوة الله إلى الناس. عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف اتجه مباشرة إلى مركز السلطة وموضع القرار السياسي في الطائف (2). 2 - أين كان موضع السلطة في الطائف؟ كان بنو مالك والأحلاف -بحكم أسبقيتهم الزمنية للاستيطان- هما المسيطرين عليها وتنتهي إليهما قيادتها, فكانت لهما الرئاسة الدينية المتمثلة في رعاية المسجد, بالإضافة إلى الزعامة السياسية العامة والعلاقة الخارجية, والنفوذ الاقتصادي، إلا أنهما مع ذلك لم يكونا في وضع يمكنهما من الدفاع عن منطقة الطائف، التي كانت من أخصب بلاد العرب وأكثرها جذبًا للأنظار والأطماع، فكانا يخافان قبيلة هوازن، ويخافان قريش ويخافان بني عامر، وكلها قبائل قوية وقادرة على الانقضاض والاستلاب؛ ولذلك فقد اعتمد زعماء الطائف على سياسة المهادنة وحفظ الاستقرار السياسي عن طريق المعاهدات والموازنات وهي عين الطريق التي كانت تسير عليها قريش، فصار بنو مالك يوثقون علاقاتهم مع هوازن ليأمنوا شرها، وصار الأحلاف يرتبطون بقريش لتأمين جانبها (3). هذا ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم غافلاً عن هذه الشبكة من العلاقات والمعاهدات, وهو يتجه إلى الطائف، بل كان يعرف أن الطائف لم تكن توجد بها سلطة مركزية واحدة، وإنما يقتسم السلطة فيها بطنان من بطون العرب بموجب اتفاقية داخلية، وأن أيا منهما كان يدور في فلك قبيلة خارجية أقوى، فإذا استطاع أن يستميل إليه أيا منهما, فسوف يكون لذلك أثر كبير في ميزان القوى السياسية، هذا على وجه العموم، أما إذا استطاع على وجه الخصوص أن يستميل إليه الأحلاف، وهو المعسكر المتحالف مع قريش، فإن خطته تكون قد بلغت تمامها وهو أمر غير مستحيل، فهو يعلم أن موادة هذا المعسكر لقريش لا تقوم على القناعة   (1) انظر: أصول الفكر السياسي، ص173. (2) المصدر السابق نفسه، ص174. (3) انظر: أصول الفكر السياسي، ص174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 المذهبية أو الولاء الديني بقدر ما تقوم على أساس التخوف من قريش، وعلى هذا التقدير للوضع السياسي اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة حينما دخل الطائف، إلى بني عمرو بن عمير الذين يترأسون الأحلاف، ويرتبطون بقريش، ولم يذهب إلى بني مالك الذين يتحالفون مع هوازن (1) قال ابن هشام في السيرة: «لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل بن عمرو، ومسعود بن عمرو، وحبيب بن عمرو وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جُمح (2) غير أن بني عمرو كانوا شديدي الحذر وكثيري التخوف، فلم يستجيبوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بل بالغوا في السفه وسوء الأدب معه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم, وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم: «إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني» (3) وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيؤزرهم ذلك عليه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يود أن تتم اتصالاته تلك في جو من السرية، وألا تنكشف تحركاته لقريش (4) فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم كثيرا بجوانب الحيطة والحذر فقد: أ- كان خروجه من مكة على الأقدام, حتى لا تظن قريش أنه ينوي الخروج من مكة؛ لأنه لو خرج راكبًا فذلك مما يثير الشبهة والشكوك، وأنه ينوي الخروج والسفر إلى جهة ما، مما قد يعرضه للمنع من الخروج من مكة دون اعتراض من أحد. ب- واختيار الرسول صلى الله عليه وسلم زيدًا كي يرافقه في رحلته فيه جوانب أمنية، فزيد هو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبني، فإذا رآه معه أحد، لا يثير ذلك أي نوع من الشك لقوة الصلة بينهما، كما أنه صلى الله عليه وسلم عرف زيدًا عن قرب, فعلم فيه الإخلاص والأمانة والصدق, فهو إذن مأمون الجانب فلا يفشي سرَّا، ويعتمد عليه في الصحبة، وهذا ما ظهر عندما كان يقي النبي صلى الله عليه وسلم الحجارة بنفسه، حتى أصيب بشجاج في رأسه. ج- وعندما كان رد زعماء الطائف ردًا قبيحًا مشوبًا بالاستهزاء والسخرية، تحمله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يغضب أو يثُُر، بل طلب منهم أن يكتموا عنه، فهذا تصرف غاية في الحيطة، فإذا علمت قريش بهذا الاتصال فإنها لا تسخر منه فحسب، بل ربما شددت عليه في العذاب والاضطهاد، وحاولت رصد تحركاته داخل وخارج مكة (5). 3 - تضرع ودعاء: كان بنو عمرو لئامًا فلم يكتموا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم بل أغروا به سفهاءهم وعبيدهم   (1) المصدر السابق ص175. (2) سيرة ابن هشام، (2/ 78). (3) سيرة ابن هشام، (2/ 78). (4) انظر: أصول الفكر السياسي ص 175 .. (5) السيرة النبوية جوانب الحذر والحماية، ص109، 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 يسبونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتى دمت عقباه وتلطخت نعلاه، وسال دمه الزكي على أرض الطائف، وما زالوا به وبزيد بن حارثة حتى ألجأوهما إلى حائط- بستان- لعتبة وشيبة ابني ربيعة, وهما فيه، فكره مكانهما لعداوتهما لله ورسوله، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل شجرة من عنب، فجلس فيه هو وصاحبه زيد، ريثما يستريحا من عنائهما، وما أصابهما، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، ولم يحركا ساكنًا، وفي هذه الغمرة من الأسى والحزن, والآلام النفسية والجسمانية توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه بهذا الدعاء الذي يفيض إيمانًا ويقينًا، ورضى بما ناله في الله، واسترضاء لله: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرفت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة, من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك لك العتبى (1) حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله» (2). 4 - الرحمة والشفقة النبوية: كانت رحمته وشفقته العظيمة هي التي تغلب في المواقف العصيبة التي تبلغ فيها المعاناة أشد مراحلها، وتضغط بعنف على النفس لتشتد وتقسو، وعلى الصدر ليضيق ويتبرم، ومع ذلك تبقى نفسه الكبيرة ورحمته العظيمة هي الغالبة (3). فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي, فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (4) فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا   (1) العتبى: الاسترضاء. (2) ذهب الدكتور العمري إلى تضعيف الحديث في كتابه السيرة النبوية الصحيحة (1/ 186) وذهب إبراهيم العلي إلى صحته وبين أن للحديث شاهدًا يقويه ولذلك اعتبره صحيحًا وذكره في كتابه صحيح السيرة النبوية، ص136، وذهب الدكتور عبد الرحمن عبد الحميد البر مدرس الحديث وعلومه في جامعة الأزهر أن الحديث بطريقيه قوي مقبول, وخرج طرقه في كتابه الهجرة النبوية المباركة، ص38. (3) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص76. (4) هو قرن المنازل ميقات أهل نجد ويسمى الآن السيل الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال: ذلك فيما شئت, إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين». فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشركُ به شيئًا» (1). كانت إصابته صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبلغ من الناحية الجسمية، أما من الناحية النفسية, فإن إصابته يوم الطائف أبلغ وأشد؛ لأن فيها إرهاقًا كبيرًا لنفسه ومعاناة فكرية شديدة جعلته يستغرق في التفكير من الطائف إلى قرن الثعالب (2). وإنا لنلمح في هذا الدعاء عمق توحيد النبي صلى الله عليه وسلم ومبلغ تجرده لله جل وعلا، فرضوان الله تعالى إذن هو الهدف الأعلى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المطلب الأعظم الذي تسخر له كل المطالب، وإذا كان البلاء من الله تعالى, من أجل أن يحل رضاه وينجلي سخطه فحيهلا بالبلاء، وهو ساعتئذ نعمة ورخاء. ثم يختم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءه بالكلمة العظيمة التي يقولها, وعلم أصحابه أن يقولوها عند حلول المكاره «ولا حول ولا قوة إلا بك» فلا تحول للمؤمن من حال الشدة إلى حال الرخاء، ولا من الخوف إلى الأمن إلا بالله تعالى، ولا قوة على مواجهة الشدائد وتحمل المكاره إلا بالله جل وعلا (3). إن الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعال في مجال الحماية للإنسان, وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء, فهو عرضة للزلل والإخفاق، وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تمامًا، فليس له مخرج منها سوى أن يجأر إلى الله بالدعاء، ليجد فرجا ومخرجًا، فعندما لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف الأذى والطرد والسخرية والاستهزاء وأصبح هائما على وجهه، لجأ إلى الله بالدعاء فما أن انتهى من الدعاء حتى جاءت الإجابة من رب العالمين مع جبريل وملك الجبال (4). 5 - من مناهج التغيير: كان مقترح ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين, وهو يدخل تحت أسلوب الاستئصال، وقد نفذ في قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط قال تعالى: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت: 40].   (1) صحيح البخاري رقم 3231. (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (3/ 26، 27). (3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/ 20). (4) انظر: السيرة النبوية جوانب الحيطة والحذر، ص112، 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وكان هناك اقتراح آخر وهو أن يستمر في هجرته, والابتعاد عن مكة والطائف الكافرتين، فالأولى أخرجته والثانية خذلته, وعرض ذلك الأمر زيد بن حارثة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن لم يجد ناصرًا في الطائف، انصرف إلى مكة ومعه مولاه زيد بن حارثة محزونًا، وهو يدعو بدعاء الطائف المشهور، فأرسل ربه تبارك وتعالى ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، وهما جبلاها اللذان كانت بينهما، فقال: «لا، بل أستأني بهم, لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئا» .. وأقام بنخلة أيامًا، فقال له زيد بن حارثة: (كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك، يعني قريشًا، وخرجت تستنصر فلم تنصر، يعني الطائف) فقال: «يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه» (1). إن النبي صلى الله عليه وسلم رفض منهج الاستئصال، وامتنع عن فكرة الاعتزال, أو الهجرة المستمرة، ونظر إلى المستقبل بنور الإيمان، وقرر الدخول إلى مكة الكافرة ليواصل جهاده الميمون، ويستثمر كل ما يستطيعه من أجل دعوة التوحيد, لم يَحْتَرْ النبي صلى الله عليه وسلم بين المنهجين السابقين, بل تقدم نحو المنهج البديل, الذي عزم عليه وهو منهج يقوم على فكرة دخول مكة الكافرة وليس الانسحاب منها، ويقوم على ضرورة الوجود على ذات الأرض التي يقف عليها الكافرون، واعتصار مؤسساتها واستثمار علاقاتها، وتحوير غاياتها ليتغذى بكل ذلك مجتمع المؤمنين الذي سيولد من أحشائها، أي أنه كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يتخذ من أصلاب الكافرين مصانع بشرية تخرج أجيالاً من المسلمين المقاتلين في سبيل الله، فالنظر النبوي هنا مصوب نحو المستقبل بصورة جلية، ولم يكن ذلك يعني الانسحاب من الحاضر (2) كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على دخول مكة مرة ثانية، غير أن ظاهر الأحوال تدل على أن دخول مكة لم يكن أمرًا هينًا ولا آمنًا، وهنالك احتمال كبير للغدر به ولاغتياله من قبل قريش، التي لا يمكن أن تصبر أكثر, وهو قد أعلن الخروج عليها وذهب يستنصر بالقبائل الأخرى, ويوقع بينها وبين حلفائها، ثم إنه حتى لو لم تكن هناك خطورة على شخصه، فإن دخوله إلى مكة بصورة (عادية) وقد طردته الطائف، سيجعل أهل مكة يصورون الأمر كهزيمة كبيرة أصابت المسلمين ويجترئون عليهم ويزدادون سفهًا، ولذلك فقد اتجه نظر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرة إلى تفجير مكة من الداخل بدلاً من تطويقها من الخارج، أي أراد أن يتغلغل في داخل بطون قريش ذاتها، ويُوجِد له حلفاء من بينهم وَيُكَوِّن له وجودًا في قلبها (3). وذكر ابن هشام في السيرة في معرض الحديث عن إجارة المطعم بن عدي: إنه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه, من تصديقه ونصرته، صار إلى   (1) انظر: زاد المعاد (2/ 46). (2) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن المكي ص176. (3) نفس المصدر، ص177، 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 حِراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره فقال: أنا حليف والحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال له: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي -سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف- بعث إليه رجلاً من خزاعة، «أدخل في جوارك؟» فقال: نعم: ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته, فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم, فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته, والمطعم بن عدي وولده محدقون بالسلاح حتى دخل بيته (1). لقد تغير الوضع كثيرًا بسبب منهجية الرسول صلى الله عليه وسلم الجديدة، فبدلاً من أن يدخل مكة منهزمًا مختفيًا دخلها ويحرسه بالسلاح سيد من سادات قريش, على مسمع منهم ومرأى، هذا ونلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختار رجلاً من خزاعة فبعثه رسولاً، وفي هذين الاختيارين حنكة سياسية مدهشة، ووعي تاريخي ودبلوماسي عميق، لأن نوفلاً، وهو الأب الأكبر لقبيلة نوفل التي يتزعمها المطعم بن عدي آنئذ، كان خصيمًا لعبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فقد وثب على أفنية وساحات كانت لعبد المطلب، واغتصبها، فاضطرب عبد المطلب لذلك واستنهض قومه فلم ينهض كبير أحد منهم، فكتب إلى أخواله من بني النجار من الخزرج قصيدة يستنصرهم، قالوا: فقدم عليه منهم جمع كثيف فأناخوا بفناء الكعبة وتنكبوا القسي وعلقوا التراس، فلما رآهم نوفل، قال: لشرٍّ ما قدم هؤلاء؟ فكلموه فخافهم ورد أركاح عبد المطلب إليه، فلما نصر بنو الخزرج عبد المطلب قالت خزاعة, وهم قد قووا وعزوا: والله ما رأينا بهذا الوادي أحدًا أحسن وجهًا ولا أتم خلقًا ولا أعظم حلمًا من هذا الإنسان، يعنون عبد المطلب، وقد نصره أخواله من الخزرج، ولقد ولدناه كما ولدوه, وإن جده عبد مناف لابن حبي بنت حليل بن حبشية سيد خزاعة، ولو بذلنا له نصرنا وحالفنا، انتفعنا به وبقومه وانتفع بنا، فأتاه وجوههم، فقالوا: يا أبا الحارث إنا قد ولدناك كما ولدك قوم من بني النجار، ونحن بعد متجاورون في الدار، وقد أماتت الأيام ما يكون في قلوب بعضنا على قريش من الأحقاد، فهلم فنحالفك فأعجب ذلك عبد المطلب وقبله وسارع إليه، ولم يحضر أحد من بني نوفل ولا عبد شمس (2). هذا النص يشير إلى جذور الصراع التاريخي القديم بين خزاعة وقريش، حينما جمع قصي بن كلاب قريشًا من متفرقات المواقع، وقاتل بهم خزاعة التي كانت لديها رئاسة البيت وسيادة العرب، فأخرج خزاعة من البيت, وقسم مكة أرباعًا على قريش، فما زالت   (1) سيرة ابن هشام (1/ 381) ثم زاد المعاد (2/ 47). (2) انظر: أنساب الأشراف للبلاذري (1/ 71) تحقيق محمد حميد الله، دار المعارف بمصر، بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 خزاعة مبغضة لقريش كارهين لها، ولما اضطرب الأمر بين قريش وعبد المطلب, تحالفت خزاعة مع عبد المطلب, نكاية بقريش, وإضعافًا لها، وليس صحيحًا أن الأيام قد أماتت ما كان في قلوب بعضهم على قريش من الأحقاد, كما ذكر وفدهم, بل الصحيح أن الأحقاد لم تزل حية والصراع لم يزل مستمرًا، ومما يدل على ذلك أن بني نوفل وبني عبد شمس لم يدخلا ولم يحضرا هذا الحلف، إذ أنه حلف مضاد لهما. فإذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً من خزاعة إلى سيد قبيلة بني نوفل فإن هذا الفعل إشارة ظاهرة إلى تلك الوقائع التاريخية, التي ذكرناها, كما فيها تذكير بالحلف القديم بين عبد المطلب وخزاعة، ضد بني نوفل وعبد شمس ليفهم من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقف معزولاً في مكة، وأنه قد يفعل ما فعله جده عبد المطلب، فيتحالف مع خزاعة، أو يستنصر بالخزرج؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن في الواقع (يستعطف) المطعم بن عدي سيد بني نوفل ليدخل في جواره، بقدر ما كان يهدده ويثير مخاوفه، وحماية المطعم بن عدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن مجرد (أريحية) ونبل بقدر ما كانت رعاية لمصلحته وحماية لوضعه، وصمت قريش وهي ترى محمدًا صلى الله عليه وسلم يدخل في جوار بني نوفل ويحرسونه بالسلاح, لم يكن خوفًا من سلاح نوفل، وإنما خوفا من سلاح خزاعة وقسي الخزرج (1). كما لا ننسى أن المطعم ممن قام بنقض الصحيفة الظالمة, مع من ذكرنا فيما مضى. أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة ... ولا معظم عند الأمور الجلائل جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً ... عقوبة شر عاجلاً غير آجل (2) وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيع مطعم بن عدي، وعرف مدى الخطورة التي عرض نفسه وولده وقومه لها من أجله، فقال عن أسارى بدر السبعين يوم أسرهم: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» (3). فمع العداء العقدي فرسول الله صلى الله عليه وسلم يفرق بين من يعادي هذه العقيدة ويحاربها، ومن يناصرها ويسالمها، إنهم وإن كانوا كفارًا فليس من سمة النبوة أن تتنكر للجميل (4). وهكذا صلى الله عليه وسلم, كان يوظف الأعراف والتقاليد التي في مجتمعه لمصلحة الإسلام، فكان ينظر للبناء الاجتماعي القائم، باعتباره حقيقة موضوعية، تاريخية، وينظر للإنسان الكافر ليس   (1) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن المكي، ص180. (2) انظر: التحالف السياسي في الإسلام (ص 36). (3) البخاري، كتاب 64 باب شهود الملائكة (3/ 110). (4) انظر: التحالف السياسي، ص44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 باعتباره رقمًا حسابيًا فرديًا منقطعًا، وإنما ينظر إليه كفرد في شبكة اجتماعية متداخلة العلاقات ومتنوعة الدوافع، وإن الإنسان يملك الفرصة والإمكان لأن يتحول هو نفسه وطوع إرادته إلى قوة اجتماعية مؤثرة، وله وزن في اتخاذ القرار ونقضه، وفقًا للقيم التي يختارها، والمطعم بن عدي لم يكن فردًا وإنما كان مؤسسة، وهي مؤسسة لم تولد بميلاده، وإنما يرجع وجودها إلى تاريخ قديم، تصارعت فيها قيم التوحيد والإشراك، فإن صارت مؤسسة خالصة للكافرين الآن، فلا يعني ذلك استحالة الانتفاع بها وتسخيرها للعودة للإيمان والتوحيد (1). 6 - قصة عداس النصراني, وإسلام الجن: لقد حققت رحلة النبي صلى الله عليه وسلم انتصارات دعوية رفيعة المستوى، فقد تأثر بالدعوة الغلام النصراني عداس، الذي أسلم (2) كما وصلت الدعوة إلى الجن السبعة, الذين أسلموا ثم انطلقوا إلى قومهم منذرين. أ- قصة عداس: لما تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم للأذى من أهل الطائف، وخرج من عندهم, وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، فلما رآه عتبة وشيبة رقَّا له، ودعوا غلامًا لهما نصرانيًّا يقال له: عدَّاس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب, فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كل. فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده, قال: «باسم الله» ثم أكل، فنظر عدَّاس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام, ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟» قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى» فقال له عدَّاس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي»، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه، أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عدَّاس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه (3). * إن تسمية النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأكل تطبيق لسنة من سنة الإسلام الظاهرة، وقد كان من   (1) انظر: أصول الفكر السياسي، ص181. (2) انظر: الرسول المبلغ للخالدي، ص39، 40. (3) صحيح السيرة النبوية، 136، 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 بركة ذلك انجذاب الرجل النصراني إلى الإسلام، فما أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الله تعالى قبل الأكل حتى اهتز كيان ذلك المولى النصراني، وجاشت مشاعره فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعجبه من ذلك حيث لا يعرف أهل تلك البلاد ذكر اسم الله تعالى. * إن التسمية قبل الأكل كسائر السنن الظاهرة من أسباب تميز المسلمين على من حولهم من الوثنين، وهذا التميز يلفت أنظار الكفار ويدفعهم إلى السؤال عن سبب ذلك, ثم يقودهم ذلك إلى فهم الدين الإسلامي والانجذاب إليه (1). * كان يقين عداس بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قويًّا، يدل على ذلك موقفه من سيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة لما أرادا الخروج إلى بدر, وأمراه بالخروج معهما, حيث قال لهما: قتال ذلك الرجل الذي رأيت في حائطكما تريدان؟ فوالله لا تقوم له الجبال، فقال ويحك يا عداس قد سحرك بلسانه (2). * في قول عداس والله ما على الأرض خير من هذا, مواساة عظيمة، فلئن آذاه قومه، فهذا وافد من العراق, من نينوى, يكبُّ على يديه ورجليه ويقبلهما، ويشهد له بالرسالة، وإن هذا لقدر رباني, يسوق من نينوى من يؤمن بالله ورسوله، حيث كان الصد من أقرب الناس إليه (3). ب- إسلام الجن: لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة, قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى، وكانوا سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا لتلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته، ولَّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا, فقص الله تعالى خبرهم على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ - قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الأحقاف: 29 - 30]. هبط هؤلاء الجن على النبي صلى الله عليه وسلم, وهو يقرأ ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: (أَنْصِتُوا). هذه الدعوة التي رفضها المشركون بالطائف, تنتقل إلى عالم آخر هو عالم الجن، فتلقوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم, ومضوا بها إلى قومهم، كما مضى بها أبو ذر الغفاري إلى قومه، والطفيل بن عمرو إلى قومه، وضماد الأزدي إلى قومه، فأصبح في عالم الجن دعاة يبلغون دعوة الله   (1) انظر: التاريخ الإسلامي، (3/ 22). (2) انظر: سبل الهدى والرشاد (2/ 578). (3) انظر: التربية القيادية (1/ 437). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 تعالى: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف: 31]. وأصبح اسم محمد صلى الله عليه وسلم تهفو إليه قلوب الجن، وليس قلوب المؤمنين من الإنس فقط، وأصبح من الجن حواريون, حملوا راية التوحيد, ووطنوا أنفسهم دعاة إلى الله. ونزل في حقهم قرآن يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, قال تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا - يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا - وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا - وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا - وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِبًا - وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقًا - وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا - وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا - وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا - وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا - وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا - وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا - وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا) [الجن: 1 - 13]. كان هذا الفتح الرباني في مجال الدعوة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عاجز عن دخول مكة، فهل يستطيع عتاة مكة وثقيف أن يأسروا هؤلاء المؤمنين من الجن، وينزلوا بهم ألوان التعذيب؟ (1) وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جوار المطعم بن عدي كان يتلو على صحابته سورة الجن فتتجاوب أفئدتهم خشوعًا وتأثرًا من روعة الفتح العظيم في عالم الدعوة، وارتفاع راياتها، فليسوا هم وحدهم في المعركة، هناك إخوانهم من الجن يخوضون معركة التوحيد مع الشرك. وبعد عدة أشهر من لقاء الوفد الأول من الجن برسول الله صلى الله عليه وسلم جاء الوفد الثاني متشوقًا لرؤية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والاستماع إلى كلام رب العالمين. (2) فعن علقمة قال سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكننا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشِّعاب، فقلنا: استُطِير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا شر ليلة بات بها قوم، فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن» قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» (3).   (1) انظر: التربية القيادية (1/ 443). (2) نفس المصدر (1/ 445). (3) مسلم، كتاب الصلاة، (1/ 332) رقم 150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 كان هذا الفتح العظيم والنصر المبين في عالم الجن إرهاصًا وتمهيدًا لفتوحات وانتصارات عظيمة في عالم الإنس، فقد كان اللقاء مع وفد الأنصار بعد عدة أشهر (1). * * * المبحث الرابع الإسراء والمعراج ... ذروة التكريم نرى أن لهذه المعجزة الجليلة أهدافًا تتمثل في أمور من أهمها: * إن الله عز وجل أراد أن يتيح لرسوله فرصة الاطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته, حتى يملأ قلبه ثقة فيه واستنادًا إليه, حتى يزداد قوة في مهاجمة سلطان الكفر القائم في الأرض، كما حدث لموسى عليه السلام، فقد شاء الله أن يريه عجائب قدرته، فلما ملأ قلبه بمشاهد هذه الآيات الكبرى قال له بعد ذلك: (لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى) [طه: 23]. في رحلة الإسراء والمعراج أطلع الله نبيه على هذه الآيات الكبرى، توطئة للهجرة ولأعظم مواجهة على مدى التاريخ للكفر والضلال والفسوق، والآيات التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة: الذهاب إلى بيت المقدس، العروج إلى السماء، رؤية الغيب الذي دعا إليه الأنبياء والمرسلين، الملائكة، السماوات، الجنة والنار، نماذج من النعيم والعذاب. كان حديث القرآن الكريم عن الإسراء في سورة الإسراء, وعن المعراج في سورة النجم، وذكر حكمة الإسراء في سورة الإسراء بقوله: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) [الإسراء: 1] وفي سورة النجم بقوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) [النجم: 18] وفي الإسراء والمعراج علوم وأسرار ودقائق ودروس وعبر (2) يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: «لم يكن الإسراء مجرد حادث فردي بسيط رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات الكبرى، وتجلى له ملكوت السماوات والأرض مشاهدة وعيانًا، بل زيادة إلى ذلك, اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معانٍ دقيقة كثيرة، وشارات حكيمة بعيدة المدى: فقد ضمت قصة الإسراء، وأعلنت السورتان الكريمتان اللتان نزلتا في شأنه تسميان (الإسراء) , (النجم) أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو نبي القبلتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، وصلى بالأنبياء خلفه، فكان هذا إيذانًا بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان، وأفادت هذه السورة الكريمة تعيين   (1) انظر: التربية القيادية، (1/ 445). (2) انظر: الأساس في السنة، سعيد حوى (1/ 291، 292). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ووصف إمامته وقيادته وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به، وبيان رسالته ودورها الذي ستمثله في العالم، ومن بين الشعوب والأمم (1). أولاً: قصة الإسراء والمعراج كما جاءت في بعض الأحاديث: * عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُتيت بالبراق -وهو دابة أبيضٌ طويلٌ فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه- قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال: فربطته بالحلقة (2) التي يربط بها الأنبياء قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال: جبريل اخترت الفطرة» (3) فذكر الحديث (4). * وفي حديث مالك بن صعصعة: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري يه، قال: «بينما أنا في الحطيم» (5) وربما قال: «في الحجر مضطجعًا إذ أتاني آت (6) فقدَّ» قال: وسمعته يقول: «فشق ما بين هذه» فقلت للجارود وهو إلى جانبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرة نحره (7) إلى شعرته (8) وسمعته يقول: من قصه (9) إلى شعرته، «فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي ثم حَشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض» فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم, يضع خطوه عند أقصى طرفه (10)، فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتيت السماء الدنيا فاستفتح (11) قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به (12) فنعم المجيء جاء, ففتح، فلما خَلَصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح،   (1) انظر: الأساس في السنة (1/ 292). (2) الحلقة المراد باب مسجد بيت المقدس. (3) الفطرة: الإسلام والاستقامة. (4) مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول رقم 162. (5) الحطيم: هو ما بين الركن والمقام. (6) آت: هو جبريل عليه السلام. (7) ثغره النحر: الموضع المنخفض في أدنى الرقبة من الأمام. (8) شعرته: شعر عانته وما ما ينبت حول العانة. (9) القص: رأس عظام الصدر. (10) يضع خطوه عند أقصى طرفه: يضع رجله عند منتهى بصره. (11) استفتح: طلب فتح باب السماء الدنيا. (12) مرحبًا به: أصاب رحبًا وسعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فَفَتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما فسلمت، فردَّا ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت إذا يوسف, قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى السماء الرابعة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت فإذا إدريس, قال: هذا إدريس, فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, ففتح فلما خلصت, فإذا هارون قال: هذا هارون، فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى السماء السادسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء, فلما خلصت فإذا موسى قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا (1) بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي. ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به ونعم المجيء جاء, فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم رفعت لي (2) سدرة فإذا نبقها مثل (3)   (1) أبكي لأن غلاما. ليس هذا على سبيل النقص بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظم كرمه. (2) رفعت لي: قربت لي. (3) النبق: هو ثمر السدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 قلال هجر (1) وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار, نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما البطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ثم رفع لي البيت المعمور. ثم أتيت بإناء من خمر, وإناء من لبن, وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة (2) التي أنت عليها وأمتُك. ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة (3) فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال: مثله فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأُسَلِّم، قال: فلما جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي وخففت عن عبادي» (4). * كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرته عليه السلام بسنة هكذا قال القاضي عياض في الشفا (5). * فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحلته الميمونة أخبر قومه بذلك فقال لهم في مجلس حضره المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة، فقال: «إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى وصليت بهم وكلمتهم» فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صفهم لي، فقال: «أما عيسى، ففوق الربعة، ودون الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد، أشعر تعلوه صهبة (6)،كأنه عروة بن مسعود الثقفي، وأما موسى فضخم آدم   (1) قلال هجر: يضرب بها المثل لكبرها، وهجر قرية في البحرين والقلة: الجرة الكبيرة. (2) الفطرة: دين الإسلام. (3) عالجتهم أشد المعالجة: مارست بني إسرائيل أشد الممارسة. (4) البخاري في مناقب الأنصار، باب في المعراج، رقم 3887. (5) انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 108). (6) صهبة: بياض بحمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 طوال، كأنه من رجال شنوءة, متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي، خَلقا وخُلقا» (1). فقالوا: يا محمد فصف لنا بيت المقدس، قال: «دخلت ليلاً، وخرجت ليلاً» فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول: «باب منه كذا، في موضع كذا، وباب منه كذا، في موضع كذا». ثم سألوه عن عيرهم فقال لهم: «أتيت على عير بني فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك» قالوا: هذه والإله آية- «ثم انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت مني الإبل وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق (2)، مخطط ببياض, لا أدري أكسر البعير، أم لا فاسألوهم عن ذلك» قالوا: هذه والإله آية- «ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم، يقدمها جمل أورق (3) وهاهي تطلع عليكم من الثنية» (4). فقال الوليد بن المغيرة: ساحر فانطلقوا فنظروا, فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال (5). * كانت هذه الحادثة فتنة لبعض الناس فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فقالوا: هل لك إلى صاحبك, يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أَوَقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه، أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق (6). ثانيًا: فوائد ودروس وعبر: 1 - بعد كل محنة منحة، وقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحن عظيمة، فهذه قريش قد سدت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وفي ثقيف وفي قبائل العرب، وأحكمت الحصار ضد الدعوة ورجالاتها من كل جانب، وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم في خطر بعد وفاة عمه أبي طالب أكبر حُماته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ماضٍ في طريقه، صابر لأمر ربه, لا تأخذه في الله لومة لائم ولا حرب محارب، ولا كيد مستهزئ فقد آن الأوان للمنحة العظيمة، فجاءت حادثة   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/ 37). (2) الجوالق: هو العدل الذي يوضع فيه المتاع. (3) أورق: أي لونه أبيض وفيه سواد. (4) الثنية: أي الطريق الجبلي. (5) المطالب العالية للحافظ ابن حجر (4/ 201: 204) وعيون الأثر (1/ 140: 142) وابن هشام بلاغا عن أم هانئ رضي الله عنها (2/ 11). (6) المستدرك (3/ 62) قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد، وأقره الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الإسراء والمعراج على قدر من رب العالمين، فيعرج به من دون الخلائق جميعًا، ويكرمه على صبره وجهاده، ويلتقي به مباشرة دون رسول ولا حجاب، ويطلعه على عوالم الغيب دون الخلق كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل في صعيدٍ واحد, فيكون الإمام والقدوة لهم وهو خاتمهم وآخرهم (1). 2 - إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مُقدمًا على مرحلة جديدة، مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدولة، يريد الله تعالى لِلَّبِنَات الأولى في البناء أن تكون سليمة قوية متراصة متماسكة، فجعل الله هذا الاختبار والتمحيص، ليخلص الصف من الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء الخلص الذين لمسوا عيانا صدق نبيهم بعد أن لمسوه تصديقًا، وشهدوا مدى كرامته على ربه، فأي حظ يحوطهم وأي سعد يغمرهم وهم حول هذا النبي المصطفى وقد آمنوا به, وقدموا حياتهم فداء له ولدينهم، كم يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الذي تم بعد وعثاء الطائف، وبعد دخول مكة بجوارٍ وبعد أذى الصبيان والسفهاء (2). 3 - إن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم العالية تتجسد في مواجهته للمشركين بأمر تنكره عقولهم ولا تدركه في أول الأمر تصوراتهم, ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم, وتلقي نكيرهم واستهزائهم فضرب بذلك صلى الله عليه وسلم لأمته أروع الأمثلة في الجهر بالحق أمام أهل الباطل, وإن تحزبوا ضد الحق وجندوا لحربه كل ما في وسعهم، وكان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على المشركين بأن حدثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس، وأظهر الله له علامات تلزم الكفار بالتصديق وهذه العلامات هي: * وصف النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، وقد أقروا بصدق الوصف ومطابقته للواقع الذي يعرفونه. * إخباره عن العير التي بالروحاء، والبعير التي أضلوه، وما قام به من شرب الماء الذي في القدح. * إخباره عن العير الثانية التي نفرت فيها الإبل ووصفه الدقيق لأحد جمالهم. * إخباره عن العير الثالثة التي بالأبواء ووصفه الجمل الذي يقدمها، وإخباره بأنها تطلع ذلك الوقت من ثنية التنعيم، وقد تأكد المشركون فوجدوا أن ما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كان صحيحًا فهذه الأدلة الظاهرة كانت مفحمة لهم ولا يستطيعون معها أن يتهموه بالكذب، كانت هذه الرحلة العظيمة, تربية ربانية رفيعة المستوى, وأصبح صلى الله عليه وسلم يرى الأرض كلها بما فيها من مخلوقات نقطة صغيرة في ذلك الكون الفسيح، ثم ما مقام كفار مكة في هذه النقطة؟ إنهم لا يمثلون إلا جزءًا يسيرًا جدًا من هذا الكون، فما الذي سيفعلونه تجاه من اصطفاه الله تعالى من خلقه, وخصه بتلك الرحلة العلية الميمونة   (1) انظر: التربية القيادية، (1/ 447). (2) انظر: التربية القيادية، (1/ 451). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وجمعه بالملائكة والأنبياء عليهم السلام، وأراه السماوات السبع وسدرة المنتهى والبيت المعمور وكلمه جلا وعلا (1)؟ 4 - يظهر إيمان الصديق رضي الله عنه القوي في هذا الحدث الجلل، فعندما أخبره الكفار قال بلسان الواثق، لئن كان قال ذلك لقد صدق، ثم قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، وبهذا استحق لقب الصديق، وهذا منتهى الفقه واليقين، حيث وازن بين هذا الخبر ونزول الوحي من السماء، فبين لهم أنه إذا كان غريبا على الإنسان العادي فإنه في غاية الإمكان بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم (2). 5 - إن شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن حين خير بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل عليه الصلاة والسلام: هديت للفطرة، تؤكد أن هذا الإسلام دين الفطرة البشرية التي ينسجم معها، فالذي خلق الفطرة البشرية خلق لها هذا الدين الذي يلبي نوازعها واحتياجاتها، ويحقق طموحاتها ويكبح جماحها (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [الروم: 30]. 6 - إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء دليل على أنهم سلموا له بالقيادة والريادة، وأن شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة، وأنه وسع أتباع هؤلاء الأنبياء ما وسع أنبياءَهم أن يسلموا بالقيادة لهذا الرسول ولرسالته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. إن على الذين يعقدون مؤتمرات التقارب بين الأديان أن يدركوا هذه الحقيقة، ويدعوا إليها، وهي ضرورة الانخلاع عن الديانات المنحرفة, والإيمان بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، وعليهم أن يدركوا حقيقة هذه الدعوات المشبوهة, التي تخدم وضعًا من الأوضاع أو نظامًا من الأنظمة الجاهلية. 7 - إن الربط بين المسجد الأقصى, والمسجد الحرام وراءه حكم ودلالات وفوائد منها: * أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، إذ أصبح مسرى رسولهم صلى الله عليه وسلم، ومعراجه إلى السماوات العلا، وكان لا يزال قبلتهم الأولى طيلة الفترة المكية، وهذا توجيه وإرشاد للمسلمين بأن يحبوا المسجد الأقصى وفلسطين؛ لأنها مباركة ومقدسة. * الربط يشعر المسلمين بمسؤوليتهم نحو المسجد الأقصى بمسئولية تحرير المسجد الأقصى من أوضار الشرك وعقيدة التثليث، كما هي أيضًا مسئوليتهم تحرير المسجد الحرام من أوضار الشرك وعبادة الأصنام. * الربط يشعر بأن التهديد للمسجد الأقصى, هو تهديد للمسجد الحرام وأهله، وأن النيل   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/ 41، 42). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/ 43). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 من المسجد الأقصى توطئة للنيل من المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى بوابة الطريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى من أيدي المسلمين, ووقوعه في أيدي اليهود يعني أن المسجد الحرام, والحجاز قد تهدد الأمن فيهما واتجهت أنظار الأعداء إليهما لاحتلالهما. والتاريخ قديمًا وحديثًا يؤكد هذا، فإن تاريخ الحروب الصليبية يخبرنا أن (أرناط) الصليبي صاحب مملكة الكرك أرسل بعثة للحجاز للاعتداء على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى جثمانه في المسجد النبوي، وحاول البرتغاليون (النصارى الكاثوليك) في بداية العصور الحديثة الوصول إلى الحرمين الشريفين لتنفيذ ما عجز عنه أسلافهم الصليبيون، ولكن المقاومة الشديدة التي أبداها المماليك وكذا العثمانيون حالت دون إتمام مشروعهم الجهنمي وبعد حرب 1967م التي احتل اليهود فيها بيت المقدس صرخ زعماؤهم بأن الهدف بعد ذلك احتلال الحجاز وفي مقدمة ذلك مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيبر. لقد وقف دافيد بن غوريون زعيم اليهود بعد دخول الجيش اليهودي القدس يستعرض جنودًا وشبانًا من اليهود بالقرب من المسجد الأقصى ويلقي فيهم خطابًا ناريًا يختتمه بقوله: (لقد استولينا على القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب) (1). ووقفت غولدا مائير, رئيسة وزراء اليهود, بعد احتلال بيت المقدس, وعلى خليج إيلات العقبة، تقول: «إنني أشم رائحة أجدادي في المدينة والحجاز، وهي بلادنا التي سوف نسترجعها» (2). وبعد ذلك نشر اليهود خريطة لدولتهم المنتظرة التي شملت المنطقة من الفرات إلى النيل، بما في ذلك الجزيرة العربية والأردن وسوريا والعراق ومصر واليمن والكويت والخليج العربي كله، ووزعوا خريطة دولتهم هذه بعيد انتصارهم في حرب (1967م) في أوروبا (3). 8 - أهمية الصلاة وعظيم منزلتها: وقد ثبت في السنة النبوية أن الصلاة فرضت على الأمة الإسلامية في ليلة عروجه صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفي هذا كما قال ابن كثير: «اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها» (4) فعلى الدعاة أن يؤكدوا على أهمية الصلاة والمحافظة عليها، وأن يذكروا فيما يذكرون, من أهميتها ومنزلتها كونها فرضت في ليلة المعراج، وأنها من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته (5).   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص314. (2) جريدة الدستور الأردنية العدد (4613) بقلم أميل الغوري، نقلا عن السيرة النبوية لأبي فارس، ص314. (3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص215. (4) تفسير ابن كثير (3/ 23). (5) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/ 93). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 9 - تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن مخاطر الأمراض الاجتماعية وبين عقوبتها كما شاهد ذلك في ليلة الإسراء والمعراج ومن هذه الأمراض وعقوبتها: * عقوبة جريمة الغيبة والمغتابين، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا يأكلون الجيف فأخبره جبريل: «هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس» (1). * عقوبة أكلة أموال اليتامى، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً لهم مشافر -شفاه كبيرة- كشفاه البعير, في أيديهم قطع من نار كالأفهار (أى الحجارة) يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم فأخبره جبريل: «هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما» (2). * أكلة الربا، فقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فأخبره جبريل: «هؤلاء أكلة الربا» (3). * وذكرت الروايات عقوبة الزناة, ومانعي الزكاة, وخطباء الفتنة, والتهاون في الأمانة (4). * ثواب المجاهدين، ففي ليلة الإسراء والمعراج مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عادوا كما كان, فأخبر جبريل: «هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنات بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يُخلَف» (5). 10 - إدراك الصحابة لأهمية المسجد الأقصى: أدرك الصحابة رضي الله عنهم مسئوليتهم نحو المسجد الأقصى, وهو يقع أسيرًا تحت حكم الرومان، فحرروه في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وظل ينعم بالأمن والأمان حتى عاث الصليبيون فسادًا فيه بعد خمسة قرون, من هجرة المصطفى، ومكثوا ما يعادل قرنًا يعيثون فسادًا فحرره المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وها هو ذا يقع تحت الاحتلال اليهودي فما الطريق إلى تخليصه (6)؟. الطريق إلى تخليصه الجهاد في سبيل الله, على المنهج الذي سار عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم. * * *   (1) الفتح الرباني للساعاتي (20/ 255) إسناده صحيح. (2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/ 200). (3) تفسير ابن كثير (4/ 274). (4) تفسير الطبري (15/ 7)، والفتح الرباني (20/ 257). (5) انظر: الخصائص الكبرى (1/ 171) والسيرة النبوية لأبي فارس، ص220. (6) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الفصل الخامس الطواف على القبائل وهجرة الصحابة إلى المدينة المبحث الأول الطواف على القبائل طلبًا للنصرة بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف، بدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم, يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عز وجل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرك في المواسم التجارية, ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل, وفق خطة سياسية دعوية واضحة المعالم, ومحددة الأهداف، وكان يصاحبه أبو بكر الصديق, الرجل الذي تخصص في معرفة أنساب العرب وتاريخها، وكانا يقصدان «غرر الناس ووجوه القبائل، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يسأل وجوه القبائل ويقول لهم: كيف العدد فيكم؟ وكيف المنعة فيكم؟ وكيف الحرب فيكم؟ وذلك قبل أن يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرض دعوته» (1). يقول المقريزي: «ثم عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم بنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع» وقد استقصى الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة قبيلة ويقال إنه صلى الله عليه وسلم بدأ بكندة فدعاها إلى الإسلام, ثم أتى كلبًا ثم بني حنيفة ثم بني عامر، وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني, حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟ هذا وأبو لهب وراءه يقول للناس: لا تسمعوا منه فإنه كذاب (2). ولم يقتصر الأذى على ذلك بل واجه الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو أشد وأقسى، فقد روى البخاري في تاريخه والطبراني في الكبير عن مدرك بن منيب أيضًا عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبه، حتى   (1) انظر: الأنساب للسمعاني، (1/ 36). (2) المقريزي في إمتاع الأسماع (1/ 30، 31). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 انتصف النهار، فأقبلت جارية بِعُسٍّ من ماء فغسل وجهه ويديه، وقال: «يا بنية لا تخشي على أبيك غلبة ولا ذلة» فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي جارية وضيئة (1). وقد كان أبو جهل, وأبو لهب, لعنهما الله يتناوبان على أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يدعو في الأسواق والمواسم، وكان يجد منهما عنتًا كبيرًا، إضافة إلى ما يلحقه من المدعوين أنفسهم (2). أولاً: من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الرد على مكائد أبي جهل والمشركين أثناء الطواف على القبائل: 1 - مقابلة القبائل في الليل: فكان صلى الله عليه وسلم من حكمته العالية يخرج لمقابلة القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من المشركين (3) وقد نجح هذا العمل في إبطال مفعول الدعاية المضادة، التي كانت تتبعها قريش، كلما اتصل الرسول صلى الله عليه وسلم بقبيلة من القبائل، والدليل على نجاح هذا الأسلوب المضاد اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج ليلا، ومن ثم كانت العقبة الأولى والثانية ليلا (4). 2 - ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القبائل في منازلهم: فقد أتى كلبًا وبني حنيفة، وبني عامر في منازلهم (5) وبذلك يحاول أن يبتعد عن مطاردة قريش، فستطيع أن يتفاوض مع القبائل بالطريقة المناسبة دونما تشويش أو تشويه من قريش. 3 - اصطحاب الأعوان: كان أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يرافقان الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض مفاوضاته مع بعض القبائل، وربما كانت هذه الرفقة لأجل ألا يظن المدعوون أنه وحيد، ولا أعوان له من أشراف قومه وأقاربه، هذا إلى جانب معرفة أبي بكر - رضي الله عنه - بأنساب العرب (6) الأمر الذي يساعد الرسول صلى الله عليه وسلم في التعرف على معادن القبائل، فيقع الاختيار على أفضلها، لتحمل تبعات الدعوة. 4 - التأكد من حماية القبيلة: ومن الجوانب الأمنية المهمة، سؤاله صلى الله عليه وسلم عن المنعة والقوة لدى القبائل, قبل أن يوجه إليهم الدعوة، ويطلب منهم الحماية فقوة ومنعة القبيلة التي تحمي الدعوة شيء ضروري ومهم لا بد منه، لأن هذه القبيلة ستواجه كل قوى الشر والباطل،   (1) انظر: المحنة في العهد المكي، ص 53. (2) انظر: المحنة في العهد المكي، ص53. (3) تاريخ إسلام النجيب آبادي (1/ 129) نقلا عن الرحيق المختوم. (4) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 44، 52) السيرة النبوية جوانب الحذر والحماية، ص116. (5) البداية والنهاية لابن كثير، (3/ 140). (6) السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فلا بد أن تكون أهلاً لهذا الدور من حيث الاستعداد المعنوي والمادي، الذي يرهب الأعداء، ويحمي حمى الدعوة، ويتحمل تبعات نشرها، مزيلاً لكل العقبات التي تقف في طريقها (1). ثانيًا: المفاوضات مع بني عامر: اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجري مفاوضات مع بني عامر قامت تلك المفاوضات على دراسة وتخطيط، فالرسول وصاحبه أبو بكر كانا يعلمان أن بني عامر قبيلة مقاتلة كبيرة العدد وعزيزة الجانب، بل هي من القبائل الخمس التي لم يمسها سباء ولم تتبع لملك ولم تؤد إتاوة (2) مثلها مثل قريش وخزاعة (3) كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن هنالك تضادًا قديمًا بين بني عامر وثقيف، فإذا كانت ثقيف امتنعت عليه من الداخل فلماذا لا يحاول أيضا تطويقها من الخارج، والاستفادة في من بني عامر بن صعصعة، فإذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرم حلفًا مع بني عامر فإن موقف ثقيف سيكون على حافة الخطر (4) يذكر أصحاب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتى بني عامر بن صعصعة، فدعا إلى الله, وعرض عليهم نفسه، قال له رجل منهم يقال له بَيْحَرة بن فِراس: «والله لو أني أخذت هذا الفتى لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» قال: فقال له: أَفَنُهدفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمير لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه (5). ثالثًا: المفاوضات مع بني شيبان: ففي رواية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه .. إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر, عليه السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بأبي وأمي, هؤلاء غُرَر الناس, وفيهم مفروق قد غلبهم لسانًا وجمالاً، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبتيه، وكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى. وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد, والسلاح على اللقاح, والنصر من عند الله يديلنا مرة, ويديل علينا أخرى, لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه   (1) نفس المصدر، ص116، 117. (2) انظر: أصول الفكر السياسي، ص182، سباء: لم تُسبَ نساؤها في الحروب. (3) نفس المصدر، ص182. (4) نفس المصدر، ص182. (5) انظر: سيرة ابن هشام، (2/ 38). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو ذا، فقال مفروق: إلام تدعونا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عنالحق، والله هو الغني الحميد» فقال مفروق، وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا, فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 151]. فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق, ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك, وظاهروا عليك، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا, وصاحب ديننا, فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, وإني أرى تركنا ديننا, واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا, لا أول له ولا آخر لذل في الرأي, وقلة نظر في العاقبة أن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع, وننظر, ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى -وأسلم بعد ذلك-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش, والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة, في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَين أحدهما اليمامة والآخر السَّمامة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصريان» قال: أنهار كسرى, ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى, فذنب صاحبه غير مغفور, وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى, أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا, وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك, فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب, فعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك (1). رابعًا: فوائد ودروس وعبر: كانت النصرة التي طلبها النبي صلى الله عليه وسلم ذات صفة مخصوصة، وذلك على النحو التالي: 1 - كان طلب الرسول صلى الله عليه وسلم للنصرة من خارج مكة إنما بدأ ينشط بشكل ملحوظ بعد أن اشتد الأذى عليه, عقب وفاة عمه أبي طالب, الذي كان يحميه من قريش؛ وذلك لأن من يحمل   (1) انظر: البداية والنهاية (3/ 143: 145) وفيها زيادات ليست عند الصالحي في سُبُل الرشاد (2/ 596: 597). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الدعوة لن يستطيع أن يتحرك التحرك الفعّال والنشاط في حمل الدعوة، وتوفير الاستجابة لها، في جو من العنف، والضعف والإرهاب. 2 - كان عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل يطلب منهم النصرة، إنما هو بأمر من الله عز وجل له في ذلك، وليس مجرد اجتهاد من قبل نفسه, اقتضته الظروف التي وصلت إليها الدعوة. 3 - حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب النصرة بزعماء القبائل، وذوي الشرف والمكانة ممن لهم أتباع يسمعون لهم، ويطيعون؛ لأن هؤلاء هم القادرون على توفير الحماية للدعوة وصاحبها. 5 - رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي القوى المستعدة لتقديم نصرتها أي ضمانات بأن يكون لأشخاصهم شيء من الحكم والسلطان, على سبيل الثمن، أو المكافأة لما يقدمون من نصرة, وتأييد للدعوة الإسلامية؛ وذلك لأن الدعوة الإسلامية إنما هي دعوة إلى الله، فالشرط الأساسي فيمن يؤمن بها, ويستعد لنصرتها أن يكون الإخلاص لله، ونشدان رضاه، هما الغاية التي يسعى إليها من النصرة والتضحية، وليس طمعًا في نفوذ أو رغبة في سلطان، وذلك لأن الغاية التي يضعها الإنسان للشيء، هي التي تكيف نشاط الإنسان في السعي إليه، فلا بد إذن من أن تتجرد الغاية المستهدفة من وراء نصرة الدعوة، عن أي مصلحة مادية لضمان دوام التأييد لها، وضمان المحافظة عليها من أي انحراف، وضمان أقصى ما يمكن من بذل الدعم لها، وتقديم التضحيات في سبيلها (1) فيجب على كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله، ألا يشترط عليها منصبًا أو عرضًا من أعراض الدنيا؛ لأن هذه الدعوة لله، والأمر لله يضعه حيث يشاء، والداخل في أمر الدعوة إنما يريد ابتداء وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل، فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبه (2) لذا قال يحيى بن معاذ الرازي: «لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة» (3). 5 - ومن صفة النصرة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها لدعوته من زعماء القبائل, أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بمعاهدات دولية, تتناقض مع الدعوة, ولا يستطيعون التحرر منها، وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه, يعرضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطرًا عليها وتهديدًا لمصالحها (4).   (1) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، لمحمد خير (1/ 411) (2) انظر: وقفات تربوية من السيرة النبوية، عبد الحميد البلالي، ص72. (3) انظر: صفة الصفوة (4/ 94). (4) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/ 412). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود فلن يخوض بنو شيبان حربًا ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليمه، ولن يخوضوا حربًا ضد كسرى، لو أراد مهاجمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات (1). 6 - «إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه» كان هذا الرد من النبي صلى الله عليه وسلم على المثنى بن حارثة حين عرض على النبي صلى الله عليه وسلم حمايته على مياه العرب دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة, يرَ بُعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى (2). 7 - كان موقف بني شيبان يتسم بالإريحية والخلق والرجولة، وينم عن تعظيم هذا النبي، وعن وضوح في العرض، وتحديد مدى قدرة الحماية التي يملكونها، وقد بينوا أن أمر الدعوة مما تكرهه الملوك، وقدر الله لشيبان بعد عشر سنين أو يزيد, أن تحمل هي ابتداء عبء مواجهة الملوك بعد أن أشرق قلبها بنور الإسلام، وكان المثنى بن حارثة الشيباني صاحب حربهم وبطلهم المغوار, الذي قاد الفتوح في أرض العراق، في خلافة الصديق - رضي الله عنه - (3)، فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد إسلامهم على قتال الفرس، بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس ولا يفكرون في قتالهم، بل إنهم ردوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد قناعتهم بها لاحتمال أن تلجئهم إلى قتال الفرس، الأمر الذي لم يكونوا يفكرون به أبدا، وبهذا نعلم عظمة هذا الدين الذي رفع الله به المسلمين في الدنيا، حيث جعلهم سادة الأرض مع ما ينتظرون في أخراهم من النعيم الدائم في جنات النعيم (4). * * * المبحث الثاني مواكب الخير وطلائع النور قال جابر بن عبد الله الأنصاري: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتَّبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة في المواسم بمنى يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟» حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو مضر، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتننك، ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه، وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لا يبقى دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام (5).   (1) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، منير الغضبان، ص53. (2) نفس المصدر، ص64. (3) انظر: التربية القيادية (2/ 20). (4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/ 69). (5) مسند أحمد (3/ 322/323، 339، 340) بإسناد حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 أولاً: الاتصالات الأولى بالأنصار في مواسم الحج والعمرة: 1 - إسلام سويد بن الصامت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله وعرض عليه ما جاء به من الهدى والحق، فقدم سويد بن الصامت- أخو بني عمرو بن عوف- مكة حاجًا أو معتمرًا، وكان سويد يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده، وشعره، وشرفه، ونسبه، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما الذي معك؟» قال: مجلة (1) لقمان، فقال له رسول الله: «اعرضها علي» فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليّ، هو هدى ونور» فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، وقد كان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قُتل وهو مسلم، وكان قتله يوم بَعاث (2) وعلى أية حال لا توجد دلائل على قيام سويد بن الصامت بالدعوة إلى الإسلام وسط قومه (3). 2 - إسلام إياس بن معاذ: لما قدم أبو الحيسر بن رافع مكة ومعه فتيان من بني عبد الأشهل, فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم، فقال: «هل لكم في خير مما جئتم له؟» قالوا: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليَّ الكتاب»، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ وكان غلامًا حدثًا: هذا والله خير مما جئتم له فيأخذ أبو الحيسر كفًّا من تراب، فضرب به وجهه، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا, فصمت إياس، وقام رسول الله عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وقد روي من حضره من قومه أنه ما زال يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع (4). ثانيًا: بدء إسلام الأنصار: كانت البداية المثمرة مع وفد من الخزرج في موسم الحج, عند عقبة منى، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنتم؟».   (1) المجلة: الصحيفة، وتطلق على الحكمة أي حكمة لقمان. (2) سيرة ابن هشام (2/ 40) إسناد حسن. (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 195). (4) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 41) بإسناد حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قالوا: نفر من الخزرج. قال: «أمن موالي يهود؟» قالوا: نعم. قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن (1). فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: يا قوم: تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا (2)، وكانوا ستة نفر: وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رئاب (3). فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا بينهم فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم (4). فهذا أول موكب من مواكب الخير، لم يكتف بالإيمان، وإنما أخذ العهد على نفسه أن يدعو إليه قومه، وقد وفى كل منهم لدينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنهم حين رجعوا نشطوا في الدعوة إلى الله، وعرضوا كلمة الهدى على أهلهم وذويهم, فلم تبقَ دار من دور المدينة إلا وفيها ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا عندما يأذن الله تأتي ساعة الحسم الفاصلة فقد كان لقاء هؤلاء مع الرسول على غير موعد، لكنه لقاء هيأه الله ليكون نبع الخير المتجدد الموصول، ونقطة التحول الحاسم في التاريخ ... وساعة الخلاص المحقق من عبادة الأحجار، بل إنها على التحقيق, ساعة الحسم في مصير العالم كله ونقل الحياة من الظلمات إلى النور. أكان معقولاً في لحظة يسيرة أن يتحول هؤلاء من وثنيين متعصبين إلى أنصار للدعوة متفتحين، وجنود للحق مخلصين، ودعاة إلى الله متجردين يذهبون إلى أقوامهم وبين جوانحهم نور، وعلى وجوههم نور، وإنهم لعلى نور؟ تلك مشيئة القدر العالي هيأت للدعوة مجالها الخصب، وحماها الأمين،   (1) نفس المصدر (2/ 41، 42). (2) البداية والنهاية (3/ 148، 149). (3) انظر: شرح الواهب للزرقاني (1/ 361). (4) انظر: البداية والنهاية (3/ 147). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 والسنوات العجاف التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم نضالاً مستمرًا، وكفاحًا دائمًا، وتطوافًا على القبائل، والتماسًا للحليف، قد ولت إلى غير رجعة، سيكون بعد اليوم للإسلام قوته الرادعة، وجيشه الباسل وسيلتقي الحق بالباطل ليصفي معه حساب الأيام الخوالي، والعاقبة للمتقين، وستتوالى على مكة منذ اليوم مواكب الخير وطلائع النور التي هيأها الله للخير لتتصل بالهداية وتسبح في النور، وتغترف من الخير، وترجع إلى يثرب بما وعت من خير، وبما حلمت من نور (1). ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المقابلة التي حدثت عند العقبة, وتلاقى فيها فريق من الخزرج بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا على يديه لم تكن فيها بيعة (2)؛ لأنها كانت من نفر صغير لا يرون لأنفسهم الحق في أن يلتزموا بمعاهدة دون الرجوع إلى قبائلهم في المدينة, ولكنهم أخلصوا في تبليغ رسالة الإسلام (3). ثالثًا: بيعة العقبة الأولى: بعد عام من المقابلة الأولى التي تمت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل يثرب عند العقبة وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً فلقوه صلى الله عليه وسلم بالعقبة, وبايعوه بيعة العقبة الأولى، (عشرة من الخزرج واثنان من الأوس) مما يشير إلى نشاط وفد الخزرج الذين أسلموا في العام الماضي، تركز على وسطهم القبلي بالدرجة الأولى, لكنهم تمكنوا في نفس الوقت من اجتذاب رجال الأوس، وكان ذلك بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام (4). وقد تحدث عبادة بن الصامت الخزرجي عن البيعة في العقبة الأولى، فقال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تُفترض علينا الحرب: على ألا نشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا, ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئًا فأمركم إلى الله عز وجل, إن شاء غفر وإن شاء عذب» (5). وبنود هذه البيعة هي التي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم عليها النساء فيما بعد ولذلك عرفت باسم بيعة النساء (6)، وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم مع المبايعين مصعب بن عمير, يعلمهم الدين ويقرئهم   (1) انظر: أضواء على الهجرة لتوفيق محمد سبع، ص273، 274. (2) انظر: هجرة الرسول وصحابته للجمل، ص143. (3) هجرة الرسول وصحابته للجمل، ص143. (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 197). (5) صحيح مسلم [41 - (1709)]. (6) انظر: الغرباء الأولون، ص185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 القرآن فكان يسمى بالمدينة (المقرئ)، وكان يؤمهم في الصلاة، وقد اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علم بشخصيته من جهة، وعلم بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان - رضي الله عنه - بجانب حفظه لما نزل من القرآن، يملك من اللباقة والهدوء، وحسن الخلق والحكمة، قدرًا كبيرًا، فضلاً عن قوة إيمانه, وشدة حماسه للدين، ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في سائر بيوتات المدينة، وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها, كسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم (1). لقد نجحت سفارة مصعب بن عمير - رضي الله عنه - في شرح تعاليم الدين الجديد، وتعليم القرآن الكريم وتفسيره, وتقوية الروابط الأخوية بين أفراد القبائل المؤمنة من ناحية، وبين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه بمكة المكرمة لإيجاد القاعدة الأمينة لانطلاق الدعوة. وقد نزل مصعب بن عمير - رضي الله عنه - في يثرب على أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - (2) ونشط المسلمون في الدعوة إلى الله يقود تلك الحركة الدعوية الرائدة مصعب - رضي الله عنه -، وقد انتهج منهج القرآن الكريم في دعوته وهذا الذي تعلمه من أمامه صلى الله عليه وسلم، وقد شرح لنا بعض الآيات القرآنية المكية بصورة عملية حية قال تعالى: (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل:125]. رابعًا: قصة إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما: كان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدَي قومهما من بني عبد الأشهل، وكانا مشركين على دين قومهما، فلما سمعا بمصعب بن عمير, ونشاطه في الدعوة إلى الإسلام قال سعد لأسيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين, اللذين أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدمًا، فأخذ أُسيد حربته ثم أقبل عليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال: هذا سيد قومه، وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، فوقف عليهما متشتمًا فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب بلسان المؤمن الهادئ الواثق من سماحة دعوته: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته نكف عنك ما تكره؟ قال أسيد: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام -قبل أن يتكلم- في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا   (1) نفس المصدر، ص186، 187. (2) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، (1/ 441). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق, ثم تصلي, فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكم الآن: سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة, ليقتلوه, وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك (1). فقام سعد مغضبًا مبادرًا مخوفًا للذي ذكر له من أمر بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما سعد فوجدهما مطمئنين, فعرف أن أسيد إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره، وكان أسعد قد قال لمصعب: لقد جاء والله سيد من ورائه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف منهم اثنان، فقال له مصعب: أَوَتقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ القرآن، وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول سورة الزخرف، قالا: فعرفنا -والله- في وجهه الإسلام -قبل أن يتكلم- في إشراقه وتسهله. ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم، ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل، فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، ثم تشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدًا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم, فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة. ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام, حتى لم تبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات، إلا ما كان من الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش, فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم، واستشهد   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 442) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 بأحد، ولم يصلِّ لله بسجدة قط، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة. وقد روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه كان يقول: «حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة قط، فإذا لم يعرفه الناس قال هو أصيرم بني عبد الأشهل» (1). خامسًا: فوائد ودروس وعبر: 1 - اتجه التخطيط النبوي للتركيز على يثرب بالذات، وكان للنفر الستة الذين أسلموا دور كبير في بث الدعوة إلى الإسلام خلال ذلك العام. 2 - كانت هناك عدة عوامل ساعدت على انتشار الإسلام في المدينة منها: - ما طبع الله عليه قبائل الخزرج والأوس من الرقة واللين, وعدم المغالاة في الكبرياء وجحود الحق، وذلك يرجع إلى الخصائص الدموية والسلالية التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد وفد من اليمن بقوله: «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا» (2) وهما ترجعان في أصليهما إلى اليمن، نزح أجدادهم منها في الزمن القديم (3) فيقول القرآن الكريم مادحًا لهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]. - ومنها التشاحن والتطاحن الموجودان في قبيلتي المدينة، الأوس والخزرج، وقد قامت بينهما الحروب الطاحنة كيوم بُعاث وغيره، وقد أفنت هذه الحرب كبار زعمائهم ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرها, حجر عثرة في سبيل الدعوة، ولم يبقَ إلا القيادات الشابة الجديدة المستعدة لقبول الحق، إضافة إلى عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها، وكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه، ويلتئم شملهم تحت ظله، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «كان يوم بُعاث يومًا قدمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم (4) وجُرِّحوا, فقدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام» (5). - ومنها مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم -ولو يسير- بأمر الرسالات السماوية، وخبر المرسلين السابقين، وهم في مجتمعهم يعايشون هذه القضية في حياتهم اليومية وليسوا مثل قريش التي لا يساكنها أهل كتاب وإنما غاية أمرها أن تسمع أخبارًا متفرقة عن   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 444) صحيح السيرة النبوية، ص291. (2) البخاري، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين، رقم 4388. (3) انظر: السيرة النبوية، لأبي الحسن الندوي، ص154. (4) السروات: الأشراف. (5) البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب الأنصار (4/ 367)، رقم 3777. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الرسالات, والوحي الإلهي, دون أن تلح عليها هذه المسألة أو تشغل تفكيرها باستمرار، وكان اليهود يهددون الأوس والخزرج بنبي قد أظل زمانه, ويزعمون أنهم سيتعبونه، ويقتلونهم به قتل عاد وإرم، مع أن الأوس والخزرج كانوا أكثر من اليهود (1)، وقد حكى الله عنهم ذلك في كتابه العزيز قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [البقرة: 89]. وكان الأوس والخزرج قد علوا اليهود دهرًا في الجاهلية، وهم أهل شرك, وهؤلاء أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبيا قد أظل زمانه، يقاتلكم قتل عاد وإرم (2). فلما أراد الله إتمام أمره بنصر دينه، قيض ستة نفر من أهل المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم فالتقى بهم عند العقبة -عقبة مِنى- فعرض عليهم الإسلام فاستبشروا وأسلموا، وعرفوا أنه النبي الذي توعدهم به اليهود، ورجعوا إلى المدينة، فأفشوا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتها (3) وكان هذا هو (بدء إسلام الأنصار) كما يسميه أهل السير (4). 3 - حضر بيعة العقبة الأولى اثنان من الأوس، وهذا تطور مهم لمصلحة الإسلام، فبعد الحرب العنيفة في بُعاث استطاع النفر الستة من الخزرج أن يتجاوزوا قصة الصراعات الداخلية ويحضروا معهم سبعة جددًا، فيهم اثنان من الأوس، وهذا يعني أنهم وفوا بالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم في محاولة رأب الصدع، وتوجيه التيار لدخول الإسلام في المدينة, أوسها وخزرجها, وتجاوز الصراعات القبلية القائمة. 4 - بذل الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما يملك من جهد لتعبئة الطاقات الإسلامية في المدينة، ولم يكن هناك أدنى تقصير للجهد البشري الممكن في بناء القاعدة الصلبة التي تقوم على أكتافها الدولة الجديدة، واحتمل هذا الجهد سنتين كاملتين من الدعوة والتنظيم (5). 5 - نجحت التعبئة الإيمانية في نفوس من أسلم من الأنصار، وشعرت الأنصار بأنه قد آن الأوان لقيام الدولة الجديدة، وكما يقول جابر - رضي الله عنه - وهو يمثل هذه الصورة الرفيعة الرائعة: «حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف» (6). 6 - وصل مصعب - رضي الله عنه - إلى مكة قبيل الموسم من العام الثالث عشر للبعثة، ونقل الصورة   (1) انظر: الغرباء الأولون، ص183. (2) الدر المنثور للسيوطي، (1/ 216) (3) انظر: ابن هشام (1/ 44). (4) نفس المصدر (1/ 39: 44) (5) انظر: التحالف السياسي، ص71. (6) انظر: التحالف السياسي، ص71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الكاملة التي انتهت إليها أوضاع المسلمين هناك، والقدرات والإمكانات المتاحة، وكيف تغلغل الإسلام في جميع قطاعات الأوس والخزرج، وأن القوم جاهزون لبيعة جديدة قادرة على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعته (1). 7 - كان اللقاء الذي غير مجرى التاريخ في موسم الحج في السنة الثالثة عشر من البعثة، حيث حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب، فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية, أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة, حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل (2). * * * المبحث الثالث بيعة العقبة الثانية قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: [ .. فقلنا، حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين, حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله, لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة». قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو من أصغرهم، فقال: رويدًا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتلُ خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم جبينة, فبينوا ذلك, فهو أعذر لكم عند الله قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا، ولا نسليها (3) أبدًا, قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة] (4). وهكذا بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطاعة والنصرة والحرب؛ لذلك سماها عبادة بن الصامت بيعة الحرب (5)، أما رواية الصحابي كعب بن مالك الأنصاري، وهو أحد   (1) نفس المصدر، ص72. (2) المصدر السابق، ص73. (3) نسليها: أي نتركها، وفي رواية لأحمد "ولا نستقيلها". (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 199)، وأخرجه الإمام أحمد، وهذا لفظه، ورقمه (14456) ط. م. الرسالة، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم. (5) مسند الإمام أحمد (5/ 316) بإسناد صحيح لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 المبايعين في العقبة الثانية، ففيها تفاصيل مهمة قال: «خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا .. ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ... وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا، نُسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه, إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه, ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب: فبين أن الرسول في منعة من قومه بني هاشم، ولكنه يريد الهجرة إلى المدينة؛ ولذلك فإن العباس يريد التأكد من حماية الأنصار له وإلا فليدعوه فطلب الأنصار أن يتكلم رسول الله، فيأخذ لنفسه ولربه ما يحب من الشروط. قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر، فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان متسائلا: يا رسول الله، إن بيننا وبين القوم حبالاً، وإنا قاطعوها (يعني اليهود) فهل عسيتم إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدَعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم, وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم». ثم قال: «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم». فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم الانصراف إلى رحالهم، وقد سمعوا الشيطان يصرخ منذرًا قريشًا، فقال العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غدًا بأسيافنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» فرجعوا إلى رحالهم، وفي الصباح جاءهم جمع من كبار قريش، يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوتهم له للهجرة، فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا والمسلمون ينظرون إلى بعضهم (1) قال: ثم قال القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان قال: فقلت له كلمة, كأني أريد أن أشرك القوم فيما قالوا بها: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعهما   (1) انظر: ابن هشام (2/ 61) بإسناد حسن وانظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 201). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بها إلي، وقال: والله لتنتعِلنَّهما، قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى, فاردد إليه نعليه، قال: قلت: لا، والله لا أردهما فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلُبنَّه (1). دروس وعبر وفوائد: 1 - كانت هذه البيعة العظمى بملابساتها، وبواعثها، وآثارها، وواقعها التاريخي (فتح الفتوح)؛ لأنها كانت الحلقة الأولى في سلسلة الفتوحات الإسلامية التي تتابعت حلقاتها في صور متدرجة مشدودة بهذه البيعة، منذ اكتمل عقدها بما أخذ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عهود ومواثيق على أقوى طليعة من طلائع أنصار الله الذين كانوا أعرف الناس بقدر مواثيقهم وعهودهم، وكانوا أسمح الناس بالوفاء بما عاهدوا الله ورسوله عليه, من التضحية, مهما بلغت متطلباتها من الأرواح والدماء والأموال, فهذه البيعة في بواعثها هي بيعة الإيمان بالحق ونصرته، وهي في ملابساتها قوة تناضل قوى هائلة, تقف متألبة عليها، ولم يغب عن أنصار الله قدرها ووزنها في ميادين الحروب والقتال، وهي في آثارها تشمير ناهض بكل ما يملك أصحابها من وسائل الجهاد القتالي في سبيل إعلاء كلمة الله على كل عالٍ مستكبر في الأرض حتى يكون الدين كله لله، وهي في واقعها التاريخي صدق وعدل, ونصر واستشهاد, وتبليغ لرسالة الإسلام (2). 2 - إن حقيقة الإيمان وأثره في تربية النفوس تظهر آثارها في استعداد هذه القيادات الكبرى لأن تبذل أرواحها ودماءها في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون لها الجزاء في هذه الأرض كسبًا ولا منصبًا ولا قيادة ولا زعامة، وهم الذين أفنوا عشرات السنين من أعمارهم يتصارعون على الزعامة والقيادة, إنه أثر الإيمان بالله وبحقيقة هذا الدين عندما يتغلغل في النفوس (3). 3 - يظهر التخطيط العظيم في بيعة العقبة، حيث تمت في ظروف غاية في الصعوبة، وكانت تمثل تحديًّا خطيرًا وجريئًا لقوى الشرك في ذلك الوقت؛ ولذلك كان التخطيط النبوي لنجاحها في غاية الإحكام والدقة على النحو التالي (4): أ- سرية الحركة والانتقال لجماعة المبايعين، حتى لا ينكشف الأمر, فقد كان وفد المبايعة المسلم, سبعين رجلا وامرأتين، من بين وفد يثربي قوامه نحو   (1) انظر: مجمع الزوائد (6/ 42: 46) وقال الألباني في تحقيق فقه السيرة للغزالي، وهذا سند صحيح وصححه ابن حبان كما في الفتح (7/ 475). (2) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (2/ 400) (3) انظر: التربية القيادية (2/ 103). (4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، د. عبد الرحمن البر، ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 خمسمائة، مما يجعل حركة هؤلاء السبعين صعبة، وانتقالهم أمرًا غير ميسور، وقد تحدد موعد اللقاء في ثاني أيام التشريق بعد ثلث الليل، حيث النوم قد ضرب أعين القوم، وحيث قد هدأت الرِّجْل، كما تم تحديد المكان في الشعب الأيمن، بعيدا عن عين من قد يستيقظ من النوم لحاجة (1). ب- الخروج المنظم لجماعة المبايعين إلى موعد ومكان الاجتماع، فخرجوا يتسللون مستخفين، رجلاً رجلاً، أو رجلين رجلين. ج- ضرب السرِّية التامة على موعد ومكان الاجتماع، بحيث لم يعلم به سوى العباس بن عبد المطلب الذي جاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتوثق له (2) وعلي بن أبي طالب الذي كان عينًا للمسلمين على فم الشِّعب، وأبو بكر الذي كان على فم الطريق وهو الآخر عينٌ للمسلمين (3)، أما من عداهم من المسلمين, وغيرهم فلم يكن يعلم عن الأمر شيئًا، وقد أمر جماعة المبايعين أن لا يرفعوا الصوت، وأن لا يطيلوا في الكلام، حذرًا من وجود عين يسمع صوتهم، أو يجس حركتهم (4). د- متابعة الإخفاء والسرية حين كشف الشيطان أمر البيعة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعوا إلى رحالهم ولا يحدثوا شيئًا، رافضًا الاستعجال في المواجهة المسلحة التي لم تتهيأ لها الظروف بعد، وعندما جاءت قريش تستبرئ الخبر، موه المسلمون عليهم بالسكوت، أو المشاركة بالكلام الذي يشغل عن الموضوع (5). هـ- اختيار الليلة الأخيرة من ليالي الحج، وهي ليلة الثالثة عشر من ذي الحجة، حيث سينفر الحجاج إلى بلادهم ظهر اليوم التالي وهو اليوم الثالث عشر، ومن ثم تضيق الفرصة أمام قريش في اعتراضهم أو تعويقهم إذا انكشف أمر البيعة، وهو أمر متوقع وهذا ما حدث (6). 4 - كانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيث لا تقبل التمييع والتراخي, إنه السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في اليسر والعسر, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام في الله لا تأخذهم فيه لومة لائم, ونصر لرسول الله وحمايته إذا قدم المدينة (7).   (1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، د. عبد الرحمن البر، ص61. (2) الهجرة النبوية المباركة، ص62. (3) انظر: التربية القيادية (2/ 109). (4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص62. (5) المصدر نفسه، ص65. (6) نفس المصدر، ص67. (7) انظر: التحالف السياسي، ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 5 - سرعان ما استجاب قائد الأنصار دون تردد البراء بن معرور, قائلا: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا, فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب, وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر، فهذا زعيم الوفد يعرض إمكانيات قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقومه أبناء الحرب والسلاح (1)، ومما تجدر الإشارة إليه في أمر البراء أنه عندما جاء مع قومه من يثرب قال لهم: إني قد رأيت رأيًا فوالله ما أرى أتوافقوني عليه أم لا؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية -يعني الكعبة- مني بظهر، وأن أصلي إليها، فقالوا له: والله ما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام ببيت المقدس، وما نريد أن نخالفه، فكانوا إذا حضرت الصلاة صلوا إلى بيت المقدس، وصلى هو إلى الكعبة، واستمروا كذلك حتى قدموا مكة، وتعرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع عمه العباس بالمسجد الحرام، فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم العباسَ: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل» قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الشاعر؟» قال: نعم, فقص عليه البراء ما صنع في سفره من صلاته إلى الكعبة، قال: فماذا ترى يا رسول الله؟ قال: «قد كنت على قبلة لو صبرت عليها» (2) قال كعب: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معنا إلى الشام، فلما حضرته الوفاة أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة، ومات في صفر قبل قدومه صلى الله عليه وسلم بشهر، وأوصى بثلث ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، فقبله ورده على ولده، وهو أول من أوصى بثلث ماله (3) ويستوقفنا في هذا الخبر: أ- الانضباط والالتزام من المسلمين بسلوك رسولهم وأوامره، وإن أي اقتراح مهما كان مصدره يتعارض مع ذلك, يعتبر مرفوضًا، وهذه من أولويات الفقه في دين الله، تأخذ حيزها من حياتهم وهم بعد ما زالوا في بداية الطريق. ب- إن السيادة لم تعد لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن توقير أي إنسان واحترامه, إنما هو انعكاس لسلوكه والتزامه بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا بدأت تنزاح تقاليد جاهلية لتحل محلها قيم إيمانية, فهي المقاييس الحقة التي بها يمكن الحكم على الناس تصنيفًا وترتيبًا (4). 6 - كان أبو الهيثم بن التيِّهان صريحًا عندما قال للرسول صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها، يعني اليهود، فهل عسيتم إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله, أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم»، وهذا الاعتراض يدلنا على الحرية   (1) انظر: التحالف السياسي، ص82. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، (1/ 444). (3) نفس المصدر، (1/ 445). (4) انظر: معين السيرة النبوية للشامي، ص135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 العالية, التي رفع الله تعالى المسلمين إليها بالإسلام، حيث عبر عمَّا في نفسه بكامل حريته (1) وكان جواب سيد الخلق صلى الله عليه وسلم عظيمًا، فقد جعل نفسه جزءًا من الأنصار والأنصار جزءًا منه (2). 7 - يؤخذ من اختيار النقباء دروس مهمة منها: أ- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين النقباءَ إنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا، فإنهم سيكونون عليهم مسئولين وكفلاء، والأولى أن يختار الإنسان من يكفله ويقوم بأمره، وهذا أمر شوري وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمارسوا الشورى عمليًّا من خلال اختيار نقبائهم. ب- التمثيل النسبي في الاختيار، من المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج أكثر من الذين حضروا البيعة من الأوس، ثلاثة أضعاف من الأوس بل يزيدون، ولذلك كان النقباء ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج (3). ج- جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقباء مشرفين على سير الدعوة في يثرب، حيث استقام عود الإسلام هناك، وكثر معتنقوه، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشعرهم أنهم لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحدًا من غيرهم، وأنهم غدوا أهل الإسلام وحماته وأنصاره (4). 8 - تأكد زعماء مكة من حقيقة الصفقة التي تمت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار، فخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو وكلاهما كان نقيبًّا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته, وكان ذا شعر كثير (5) واستطاع أن يتخلص من قريش بواسطة الحارث بن حرب بن أمية وجبير بن مطعم؛ لأنه كان يجير تجارتهم ببلده، فقد أنقذته أعراف الجاهلية، ولم تنقذه سيوف المسلمين، ولم يجد في نفسه غضاضة من ذلك، فهو يعرف أن المسلمين مطاردون في مكة، وعاجزون عن حماية أنفسهم. (6) 9 - في قول العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/ 97). (2) انظر: التربية القيادية (2/ 67). (3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص209. (4) انظر: دراسات في السيرة النبوية، د. عماد الدين خليل، ص132. (5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/ 107). (6) انظر: التربية القيادية، (2/ 116). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 غدًا بأسيافنا، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» درس تربوي بليغ, وهو أن الدفاع عن الإسلام، والتعامل مع أعداء هذا الدين ليس متروكًا لاجتهاد أتباعه، وإنما هو خضوع لأوامر الله تعالى وتشريعاته الحكيمة فإذا شرع الجهاد فإن أمر الإقدام أو الإحجام متروك لنظر المجتهدين بعد التشاور ودراسة الأمر من جميع جوانبه (1)، وكلما كانت عبقرية التخطيط السياسي أقوى أدت إلى نجاح المهمات أكثر، وإخفاء المخططات عن العدو وتنفيذها هو الكفيل بإذن الله بنجاحها «ولكن ارجعوا إلى رحالكم» (2). 10 - كانت البيعة بالنسبة للرجال ببسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقالوا: له ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولاً، ما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أجنبية قط، فلم يتخلف أحد في بيعته صلى الله عليه وسلم حتى المرأتان بايعتا بيعة الحرب، وصدقتا عهدهما، فأما نسيبة بنت كعب (أم عمارة) فقد سقطت في أحد، وقد أصابها اثنا عشر جرحًا، وقد خرجت يوم أحد مع زوجها زيد بن عاصم بن كعب ومعها سقاء تسقي به المسلمين، فلما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تباشر القتال، وتذب عنه بالسيف وقد أصيبت بجراح عميقة وشهدت بيعة الرضوان (3) وقطع مسيلمة الكذاب ابنها إربا إربا فما وهنت وما استكانت (4)، وشهدت معركة اليمامة في حروب الردة مع خالد بن الوليد فقاتلت حتى قطعت يدها وجرحت اثني عشر جرحًا (5)، وأما الثانية فهي أسماء ابنة عمرو من بني سليمة قيل: هي والدة معاذ بن جبل، وقيل: ابنة عمة معاذ بن جبل رضي الله عنهم جميعًا (6). 11 - عندما نراجع تراجم أصحاب العقبة الثانية، من الأنصار في كتب السير والتراجم نجد أن هؤلاء الثلاثة والسبعين قد استشهد قرابة ثلثهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، ونلاحظ أنه قد حضر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة النصف، فثلاثة وثلاثون منهم كانوا بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع غزواته، وأما الذين حضروا غزوة بدر فكانوا قرابة السبعين. لقد صدق هؤلاء الأنصار عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من قضى نحبه ولقي ربه شهيدًا، ومنهم من بقي حتى ساهم في قيادة الدولة المسلمة وشارك في أحداثها الجسام بعد   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/ 104). (2) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، ص96. (3) انظر: المرأة في العهد النبوي، دكتورة عصمة الدين، ص108. (4) انظر: التحالف السياسي، ص87. (5) ابن هشام (2/ 80) أسد الغابة (5/ 395) البداية والنهاية (3/ 158: 166) الإصابة (8/ 8) رقم 48، 49 نقلا عن المرأة في العهد النبوي، ص108. (6) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبمثل هذه النماذج قامت دولة الإسلام، النماذج التي تعطي ولا تأخذ، والتي تقدم كل شيء، ولا تطلب شيئًا إلا الجنة، ويتصاغر التاريخ في جميع عصوره ودهوره أن يحوي في صفحاته، أمثال هؤلاء الرجال (1). المبحث الرابع الهجرة إلى المدينة أولاً: التمهيد والإعداد لها: إن الهجرة إلى المدينة سبقها تمهيد وإعداد وتخطيط من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بتقدير الله تعالى وتدبيره، وكان هذا الإعداد في اتجاهين، إعداد في شخصية المهاجرين، وإعداد في المكان المهاجر إليه. 1 - إعداد المهاجرين: لم تكن الهجرة نزهة أو رحلة يروح فيها الإنسان عن نفسه، ولكنها مغادرة الأرض والأهل، ووشائج القربى، وصلات الصداقة والمودة، وأسباب الرزق، والتخلي عن كل ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهد كبير حتى وصل المهاجرون إلى قناعة كاملة بهذه الهجرة ومن تلك الوسائل: - التربية الإيمانية العميقة التي تحدثنا عنها في الصفحات الماضية. - الاضطهاد الذي أصاب المؤمنين حتى وصلوا إلى قناعة كاملة بعدم إمكانية المعايشة مع الكفر. - تناول القرآن المكي التنويه بالهجرة، ولفت النظر إلى أن أرض الله واسعة، قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]. ثم تلا ذلك نزول سورة الكهف، وتحدثت عن الفتية الذين آمنوا بربهم وعن هجرتهم من بلدهم إلى الكهف، وهكذا استقرت صورة من صور الإيمان في نفوس الصحابة وهي ترك أهلها ووطنها من أجل عقيدتها. ثم تلا ذلك آيات صريحة تتحدث عن الهجرة في سورة النحل، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 41،42].   (1) انظر: التربية القيادية (2/ 140). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وفي أواخر السورة يؤكد المعنى مرة أخرى بقوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل: 110]. وكانت الهجرة إلى الحبشة تدريباً عملياًّ على ترك الأهل والوطن (1). 2 - الإعداد في يثرب: نلاحظ: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسارع بالانتقال إلى الأنصار من الأيام الأولى، وإنما أخر ذلك لأكثر من عامين، حتى تأكد من وجود القاعدة الواسعة نسبيًّا، كما كان في الوقت نفسه يتم إعدادها في أجواء القرآن الكريم، وخاصة بعد انتقال مصعب إلى المدينة. وقد تأكد أن الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كماله، وذلك بطلبهم هجرة الرسول الكريم إليهم، كما كانت المناقشات التي جرت في بيعة العقبة الثانية، تؤكد الحرص الشديد من الأنصار على تأكيد البيعة، والاستيثاق للنبي صلى الله عليه وسلم بأقوى المواثيق على أنفسهم، وكان في رغبتهم أن يميلوا على أهل منى، ممن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسيافهم لو أذن الرسول الكريم بذلك، ولكنه قال لهم: «لم أؤمر بذلك». وهكذا تم الإعداد لأهل يثرب ليكونوا قادرين على استقبال المهاجرين وما يترتب على ذلك من تبعات (2). ثانياً: طلائع المهاجرين: لما بايعت طلائع الخير ومواكب النور من أهل يثرب النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، والدفاع عنه، ثارت ثائرة المشركين، فازدادوا إيذاء للمسلمين، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، وكان المقصود من الهجرة إلى المدينة إقامة الدولة الإسلامية التي تحمل الدعوة، وتجاهد في سبيلها، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (3) وكان التوجه إلى المدينة من الله تعالى، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة، وقوماً أهل حرب وعدة، ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فيضيقوا على أصحابه وتعبثوا (4) بهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة، فقال: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين، وهما الحرتان،   (1) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، صالح الشامي، ص118. (2) نفس المصدر، ص 120، 121. (3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص33، 34. (4) عبث: عبثا، لعب فهو عابث لاعب لما لا يعنيه، انظر: لسان العرب (2/ 166) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي»، ثم مكث أياماً ثم خرج إلى أصحابه مسروراً فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فيخرج إليها». فجعل القوم يتجهون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم قدم بعده عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي حَثْمة، فهي أول ظعينة قدمت المدينة، ثم قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً، فنزلوا على الأنصار، في دورهم فآووهم ونصروهم وآسوهم، وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين بقباء، قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم فلما خرج المسلمون في هجرتهم إلى المدينة، كَلِبَت (1) قريش عليهم، وحربوا واغتاظوا على من خرج من فتيانهم، وكان نفر من الأنصار بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة الآخرة، ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدم أول من هاجر إلى قباء خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، حتى قدموا مع أصحابه في الهجرة، فهم مهاجرون أنصاريون، وهم ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب بن كلدة والعباس بن عبادة بن نضلة، وزياد بن لبيد، وخرج المسلمون جميعاً إلى المدينة فلم يبقَ بمكة فيهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعلي، أو مفتون أو مريض أو ضعيف عن الخروج (2). ثالثاً: من أساليب قريش في محاربة المهاجرين ومن مشاهد العظمة في الهجرة: عملت قيادة قريش ما في وسعها للحيلولة دون خروج من بقي من المسلمين إلى المدينة، واتبعت في ذلك عدة أساليب منها: 1 - أٍسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده: ونترك أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية تحدثنا عن روائع الإيمان وقوة اليقين في هجرتها وهجرة زوجها أبي سلمة قالت رضي الله عنها: «لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبْتَنَا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها إلى البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة. قالوا: لا، والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.   (1) كلبت قريش عليهم: أي غضبت عليهم. (2) انظر: طبقات ابن سعد (1/ 325). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 قالت: ففرق بيني وبين زوجي، وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة، فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت: ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني. قالت: فارتحلتُ بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله. قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت، حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار. فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله إلا الله وبني هذا. قال: والله ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت عنه أستأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلاً، فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة. قال فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة» (1). فهذا مثل على الطرق القاسية التي سلكتها قريش لتحول بين أبي سلمة والهجرة،   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 202، 203). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فرجل يفرق بينه وبين زوجه عنوة، وبينه وبين فلذة كبده، على مرأى منه، كل ذلك من أجل أن يثنوه عن الهجرة، ولكن متى ما تمكن الإيمان من القلب، استحال أن يُقدِّم صاحبه على الإسلام والإيمان شيئاً، حتى لو كان ذلك الشيء فلذة كبده، أو شريكة حياته لذا انطلق أبو سلمة - رضي الله عنه - إلى المدينة لا يلوي على أحد، وفشل معه هذا الأسلوب وللدعاة إلى الله فيه أسوة (1). وهكذا أَثَر الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، فهذه أسرة فُرِّق شملُها، وامرأة تبكي شدة مصابها، وطفل خُلعت يده وحُرم من أبويه، وزوج وأب يسجل أروع صور التضحية والتجرد، ليكون أول مهاجر يصل أرض الهجرة، محتسبين في سبيل الله ما يلقون، مصممين على المضي في طريق الإيمان، والانحياز إلى كتيبة الهدى، فماذا عسى أن ينال الكفر وصناديده من أمثال هؤلاء؟ وأما صنيع عثمان بن طلحة - رضي الله عنه - فقد كان يومئذ كافراً (وأسلم قبل الفتح) ومع ذلك تشهد له أم سلمة رضي الله عنها بكرم الصحبة، وذلك شاهد صدق على نفاسة هذا المعدن، وكمال مروءته، وحمايته للضعيف (2)، فقد أبت عليه مروءته وخلقه العربي الأصيل أن يدع امرأة شريفة تسير وحدها في هذه الصحراء الموحشة، وإن كانت على غير دينه، وهو يعلم أنها بهجرتها تراغمه وأمثاله من كفار قريش. فأين من هذه الأخلاق، يا قوم المسلمين، أخلاق الحضارة في القرن العشرين، من سطو على الحريات، واغتصاب للأعراض، بل وعلى قارعة الطريق، وما تطالعنا به الصحافة كل يوم من أحداث يندى لها جبين الإنسانية، ومن تفنن في وسائل الاغتصاب وانتهاك الأعراض، والسطو على الأموال. إن هذه القصة- ولها مثل ونظائر- لتشهد أن ما كان للعرب من رصيد من الفضائل كان أكثر من مثالبهم ورذائلهم، فمن ثم اختار الله منهم خاتم أنبيائه ورسله، وكانوا أهلاً لحمل الرسالة، وتبليغها للناس كافة (3). وتظهر عناية الله تعالى بأوليائه، وتسخيره لهم، فهو جل وعلا الذي سخر قلب عثمان ابن طلحة للعناية بأم سلمة، ولذلك بذل الجهد والوقت من أجلها (4) كما تظهر سلامة فطرة عثمان بن طلحة، التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، ولعل إضاءة قلبه بدأ   (1) انظر: في السيرة النبوية، د. إبراهيم علي محمد، ص130، 131، تقسيم الأساليب أخُذ من هذا الكتاب، ومشاهد العظمة من الهجرة النبوية المباركة. (2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص124. (3) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد أبو شهبة (1/ 461). (4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/ 128). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 منذ تلك الرحلة، في مصاحبته لأم سلمة رضي الله عنهم (1). 2 - أسلوب الاختطاف: لم تكتف قيادة قريش بالمسلمين داخل مكة، لمنعهم من الهجرة، بل تعدت ذلك إلى محاولة إرجاع من دخل المدينة مهاجراً، فقامت بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين، ولقد نجحت هذه المحاولة وتم اختطاف أحد المهاجرين من المدينة وأعيد إلى مكة (2)، وهذه الصورة التاريخية للاختطاف يحدثنا بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث قال: «اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب (3) من أضاة (4) بني غفار، فوق سرف (5)، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن (6). فلما قدمنا المدينة نزل في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاها لأمهما، حتى قدما علينا المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فكلماه، وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها فقلت له: عياّش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت. قال: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه. قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول (7) فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل:   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 204). (2) انظر: في السيرة النبوية ص132. (3) التناضب: جمع تنضيب وهو شجر. (4) الأضاة: على عشرة أميال من مكة. (5) سرف: واد متوسط الطول من أودية مكة (6) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص129. (7) الذلول: أذلها العمل، فصارت سهلة الركوب والانقياد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 يا أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني (1) على ناقتك هذه؟ قال: بلى، قال: فأناخ، وأناخ، ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن (2). قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنِيبُوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) [الزمر: 53 - 55]. قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى (3) أُصَعَّد بها فيه وأصَوَّبُ ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها، قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة (4). هذه الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر - رضي الله عنه - خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيداً عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد الزمان والمكان بالضبط بحيث إنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه ولا ينتظرانه؛ لأنه قد حبس، وكما توقعوا فقد حبس هشام بن العاص - رضي الله عنه - بينما مضى عمر وعياش بهجرتهما، ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالمين (5). إلا أن قريشاً صممت على متابعة المهاجرين؛ ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها أبو جهل، والحارث وهما أخَوا عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئن لهما، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جلياًّ عندما أظهر موافقته على العودة معهما، كما تظهر الحادثة الحس الأمني الرفيع الذي كان يتمتع به عمر - رضي الله عنه -، حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف (6).   (1) تعقبني: تجعلني أعقبك عليها لركوبها. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 205). (3) ذو طوى، واد من أودية مكة. (4) المجمع للهيثمي (6/ 61) الهجرة النبوية المباركة، ص131. (5) انظر: التربية القيادية (2/ 159). (6) انظر: في السيرة النبوية، ص134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 كما يظهر المستوى العظيم من الأخوة التي بناها الإسلام في هذه النفوس، فعمر يضحي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عياشاً عاطفته نحو أمه، وبره بها؛ ولذلك قرر أن يمضي لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر - رضي الله عنه -، وماله قائم في مكة لم يمس، غير أن أفق عمر - رضي الله عنه - كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين المصير المشؤوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز عن إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين به (1). وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفاً ولا عدلاً من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا وتعايشوا مع المجتمع الجاهلي، فنزل قول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ) وما إن نزلت هذه الآيات حتى سارع الفاروق - رضي الله عنه - فبعث بهذه الآية إلى أَخَوَيْهِ الحميمين عياش وهشام ليجددوا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر، أي سمو عظيم عند ابن الخطاب - رضي الله عنه - لقد حاول، مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله، على ألا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليها، ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم يَتَشَفَّ منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه، ولكل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر الإسلامي (2). 3 - أسلوب الحبس: لجأت قريش إلى الحبس كأسلوب لمنع الهجرة فكل من تقبض عليه وهو يحاول الهجرة، كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت، مع وضع يديه ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابة وحراسة مشددة، حتى لا يتمكن من الهرب، وأحيانًا يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما، حيث كانا محبوسين في بيت لا سقف له (3)، وذلك زيادة في التعذيب، إذ يضاف إلى وحشة الحبس حرارة الشمس وسط بيئة جبلية شديدة الحرارة مثل مكة. فقيادة قريش تريد بذلك تحقيق هدفين: أولهما منع المحبوسين من الهجرة، والآخر أن يكون هذا الحبس درساً وعظة لكل من يحاول الهجرة من أولئك الذين يفكرون فيها ممن بقي من المسلمين بمكة، ولكن لم يمنع هذا الأسلوب المسلمين من الخروج إلى المدينة المنورة، فقد كان بعض المسلمين محبوسين في مكة مثل عياش، وهشام رضي الله عنهما، ولكنهم تمكنوا من الخروج واستقروا بالمدينة (4).   (1) انظر: التربية القيادية (2/ 160). (2) انظر: التربية القيادية (2/ 160). (3) انظر: في السيرة النبوية، ص132. (4) انظر: في السيرة النبوية، ص132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته يقنت ويدعو للمستضعفين في مكة عامة، ولبعضهم بأسمائهم خاصة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف» (1). ولم يترك المسلمون أمر اختطاف عياش، فقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصابه وفعلاً استعد للمهمة ورتب لها ما يحقق نجاحها، وجاء إلى مكة واستطاع بكل اقتدار وذكاء أن يصل إلى البيت الذي حُبسا فيه وأطلق سراحهما، ورجع بهما إلى المدينة المنورة (2). 4 - أسلوب التجريد من المال: كان صهيب بن سنان النَّمَري من النَّمِر بن قاسط، أغارت عليهم الروم، فسبي وهو صغير، وأخذ لسان أولئك الذي سبوه، ثم تقلب في الرق، حتى ابتاعه عبد الله بن جدعان ثم أعتقه، ودخل الإسلام هو وعمار بن ياسر رضي الله عنهما في يوم واحد (3). وكانت هجرة صهيب - رضي الله عنه - عملاً تتجلى فيه روعة الإيمان، وعظمة التجرد لله، حيث ضحى بكل ما يملك في سبيل الله ورسوله، واللحوق بكتيبة التوحيد والإيمان (4) فعن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: «بلغني أن صهيباً حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صعلوكا (5) حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك، فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» (6) وعن عكرمة رحمه الله قال: «لما خرج صهيب مهاجراً تبعه أهل مكة، فنثل (7) كنانته، فأخرج منها أربعين سهمًا، فقال: لا تصلون إليّ حتى أضع في كل رجل منكم سهمًا، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني رجل، وقد خلَّفت بمكة فينتين فهما لكم) (8) وقال عكرمة: ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة: 207] فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبا يحيى، ربح البيع» قال: وتلا عليه (9) الآية.   (1) البخاري، باب الاستسقاء، (2/ 33) رقم 1006. (2) انظر: في السيرة النبوية، ص135. (3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص119. (4) الهجرة النبوية المباركة، ص120. (5) الصعلوك: الفقير. (6) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، (1/ 477) (7) نثل: استخرج ما فيها من النبل والسهام. (8) مرسل أخرجه الحاكم (3/ 398) (9) أخرجه الحاكم (3/ 398) صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عليه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 لكأني (1) بصهيب - رضي الله عنه - يقدم الدليل القاطع على فساد عقل أولئك الماديين الذين يَزِنُون حركات التاريخ وأحداثه كلها بميزان المادة، فأين هي المادة التي سوف يكسبها صهيب في هجرته والتي ضحى من أجلها بكل ما يملك؟ هل تراه ينتظر أن يعطيه محمد صلى الله عليه وسلم منصباً يعوضه عما فقده؟ أم هل ترى محمدا صلى الله عليه وسلم يمنيه بالعيش الفاخر في جوار أهل يثرب؟ إن صهيًبا ما فعل ذلك وما انحاز إلى الفئة المؤمنة إلا ابتغاء مرضاة الله، بالغاً ما بلغ الثمن ليضرب لشباب الإسلام مثلاً في التضحية عزيزة المنال، عساهم يسيرون على الدرب، ويقتفون الأثر (2). إن هذه المواقف الرائعة لم تكن هي كل مواقف العظمة، والشموخ في الهجرة المباركة، بل امتلأ هذا الحدث العظيم بكثير من مشاهد العظمة، والتجرد والتضحية، التي تعطي الأمة دروساً بليغة في بناء المجد وتحصيل العزة (3). رابعًا: البيوتات الحاضنة وأثرها في النفوس: لقد كان من نتائج إيمان الأنصار ومبايعتهم وتعهدهم بالنصرة أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الهجرة إلى المدينة، كما كان من نتائج ذلك أن ظهرت ظاهرة عظيمة من التكافل بين المسلمين، ففتحت بيوت الانصار أبوابها وقلوب أصحابها لوفود المهاجرين، واستعدت لاحتضانهم رجالاً ونساء، إذ أصبح المسكن الواحد يضم المهاجر والأنصاري، والمهاجرة والأنصارية، يتقاسمون المال والمكان والطعام والمسئولية الإسلامية، فمن هذه البيوتات الحاضنة: 1 - دار مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بقباء: ونزل بها مجموعة من المهاجرين نساء ورجالاً، وقد ضمت هذه الدور عمر بن الخطاب، ومن لحق به من أهله، وقومه وابنته حفصة وزوجها وعياش بن ربيعة. 2 - دار خبيب بن إساف أخي بني الحارث بن الخزرج بالسنح (4) نزل بها طلحة بن عبيد الله بن عثمان وأمه وصهيب بن سنان. 3 - دار أسعد بن زرارة من بني النجار، قيل: نزل بها حمزة بن عبد المطلب.   (1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص121. (2) نفس المصدر، ص129. (3) نفس المصدر، ص119. (4) المرأة في العهد النبوي، ص116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 4 - دار سعد بن خيثمة أخي بني النجار، وكان يسمّى بيت العزاب ونزل بها الأعزاب من المهاجرين. 5 - دار عبد الله بن سلمة أخي بَلْعجلان بقباء: نزل بها عبيدة بن الحارث وأمه سخيلة، ومِسْطَح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب، والطفيل بن الحارث، وطُليب بن عُمير، والحصين بن الحارث نزلوا جميعاً على عبد الله بن سلمة بقباء. 6 - دار بني جَحْجبتى، والمحتضن هو منذر بن محمد بن عقبة، نزل عنده الزبير بن العوام، وزوجه أسماء بنت أبي بكر، وأبو سبرة بن أبي وهب وزوجته أم كلثوم بنت سهيل (1). 7 - دار بني عبد الأشهل، والمحتضن هو سعد بن معاذ بن النعمان من بني عبد الأشهل، نزل بها مصعب بن عمير، وزوجته حَمنة بنت جحش. 8 - دار بني النجار، والمحتضن هو أوس بن ثابت بن المنذر، نزل بها عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). فهذه المقاسمة وهذا التكافل الاجتماعي، كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين معه، وبعده، إقامة طيبة، تنبض بالإيثار على النفس وبود الأخوة الصادقة المؤمنة (3). بهذه الروح العالية، والإيمان الوثيق، والصدق في المعاملة، تمت المؤاخاة، وتم الوفاق بين المهاجرين والأنصار، وقد يحدث تساؤل فيقال: لماذا لم نسمع ولم تسجل المصادر ولم تكتب المراجع أن خلافات وقعت في هذه البيوت؟ وأين النساء وما اشتهرن به من مشاكسات؟ إنه الدين الحق الذي جعل تقوى الله أساساً لتصرف كل نفس، والأخلاق السامية التي فرضت الأخوة بين المسلمين، ونصرة الدعوة، وإنها المبايعة وأثرها في النفوس، إنه الصدق، والعمل من أجل المجموعة خوفاً من العقاب ورهبة من اليوم الآخر، ورغبة في الثواب وطمعاً في الجنة، إنه دفء حضانة الإيمان، واستقامة النفس والسلوك وصدق الطوية. فكل من أسلم، وكل من بايع، وكل من أسلمت وبايعت، يعملون جميعهم بما يؤمرون به ويخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السر والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت الأنصارية المهاجرة، فالكل يعمل من أجل مصلحة الكل، فهذا هو التكافل الاجتماعي في أجلى صورة، وأقدس واقعة، رغب الكل في الثواب حتى أن الواحد منهم يخاف ذهاب   (1) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص117. (2) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لأبي شهبة، (1/ 468، 469). (3) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الأنصاري بالأجر كله (1). إن جانب البذل والعطاء ظاهرة نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كل وقت، إننا في عالمنا المعاصر، وفي الصف الإسلامي وفي رحلة لبضعة أيام تتكشف النفوس والعيوب والحزازات والظنون، وهذا مجتمع يبني ولما يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، ومع ذلك تفتح البيوت للوافدين الجدد ليس على مستوى فرد فقط، بل على مستوى جماعي كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار أشهراً عدة، والمعايشة اليومية مستمرة، والأنصار يبذلون المال والحب والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم، نحن أمام مجتمع إسلامي بلغ الذروة في لحمته وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلاً فقراء، بل كانوا يملكون المال، ويملكون الدار، وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كله لطاعته جل وعلا، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر:8]. كان هذا المجتمع المدني الجديد يتربى على معاني الإيمان والتقوى، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم بعد، ولكن تحت إشراف النقباء الاثني عشر الذين كانوا في كفالتهم لقومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وبإشراف قيادات المهاجرين الكبرى، التي وصلت المدينة والذين استقوا جميعاً من النبع النبوي الثر، واقتبسوا من هديه (2). ومن معالم هذا المجتمع الجديد ذوبان العصبية، فقد كان إمام المسلمين سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنه -؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا، فهذا المجتمع الذي يوجد فيه علية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وسادة العرب من قريش والأوس والخزرج، يقوده ويؤمه حامل القرآن، فالكرامة العليا فيه لقارئ كتاب الله وحامله، وحامل القرآن في المجتمع الإسلامي هو نفسه حامل اللواء في الحرب، فليس بينهما ذلك الانفصام الذي نشهده اليوم من حملة القرآن من الحفاظ، وبين المجاهدين في سبيل الله، فقد كان حامل لواء المهاجرين في معركة اليمامة سالم مولى أبي حذيفة، فقيل له في ذلك، فكان شعاره: بئس حامل القرآن- يعني إن فررت- فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره فقطعت، فاعتنقه إلى أن صرع، واستُشهد في سبيل الله (3). ومن معالم المجتمع الإسلامي الجديد: حرية الدعوة إلى الله علانية، فقد أصبح واضحاً عند الجميع أن معظم قيادات يثرب دخلت في هذا الدين، ونشط الشباب والنساء، والرجال في الدعوة إلى الله، والتبشير بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قدم وساق.   (1) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص132. (2) انظر: التربية القيادية، (2/ 171، 172). (3) انظر: التربية القيادية، (2/ 174، 175). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ولابد من المقارنة بين المجتمع الذي قام بالحبشة من المسلمين وبين المجتمع الإسلامي في يثرب، لقد كانت الحبشة تحمل طابع اللجوء السياسي، والجالية الأجنبية أكثر مما كانت تحمل طابع المجتمع الإسلامي الكامل، صحيح أن المسلمين ملكوا حرية العبادة هناك، لكنهم معزولون عن المجتمع النصراني، لم يستطيعوا أن يؤثروا فيه التأثير المنشود، وإن كانت هجرة الحبشة خطوة متقدمة على جو مكة، حيث لا تتوفر حرية الدعوة وحرية العبادة، ولكنه دون المجتمع الإسلامي في المدينة بكثير؛ ولذلك شرع مهاجرو الحبشة بمجرد سماع خبر هجرة المدينة بالتوجه نحوها مباشرة، أو عن طريق مكة إلا من طلبت منه القيادة العليا البقاء هناك، لقد أصبحت المدينة مسلمة بعد أن عاشت قرونا وثنية مشركة. لقد أصبح المجتمع المدني مسلماً وبدأ نموه وتكوينه الفعلي بعد عودة الاثني عشر صحابياً من البيعة الأولى، والتي كان على رأسها الصحابي الجليل أسعد بن زرارة، والتي حملت المسؤولية الدعوية فقط، دون الوجود السياسي، وبلغ أوج توسعه وبنائه بعد عودة السبعين الذين ملكوا الشارع السياسي والاجتماعي، وقرروا أن تكون بلدهم عاصمة المسلمين الأولى في الأرض وهم على استعداد أن يواجهوا كل عدو خارجي، يمكن أن ينال من هذه السيادة حتى قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في المدينة. إن القاعدة الصلبة التي بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً وجهداً في تربيتها، بدأت تعطي ثمارها أكثر بعد أن التحمت بالمجتمع المدني الجديد، وانصهر كلاهما في معاني العقيدة وإخوة الدين. لقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأفراد وصقلهم في بوتقة الجماعة، وكون بهم القاعدة الصلبة، ولم يقم المجتمع الإسلامي الذي تقوم عليه الدولة إلا بعد بيعة الحرب؛ وبذلك نقول بأن المجتمع الإسلامي قام بعد ما تهيأت القوة المناسبة لحمايته في الأرض (1). وهكذا انتقلت الجماعة المسلمة المنظمة القوية إلى المدينة، والتحمت مع إخوانها الأنصار، وتشكل المجتمع المسلم الذي أصبح ينتظر قائده الأعلى عليه الصلاة والسلام، ليعلن ولادة دولة الإسلام، التي صنعت فيما بعد حضارة لم يعرف التاريخ مثلها حتى يومنا هذا. خامساً: لماذا اختيرت المدينة كعاصمة للدولة الإسلامية؟ كان من حكمة الله تعالى في اختيار المدينة دارًا للهجرة ومركزًا للدعوة- هذا عدا ما أراده الله من إكرام أهلها وأسرار لا يعلمها إلا الله- إنها امتازت بتحصن طبيعي حربي، لا تزاحمها في ذلك مدينة قريبة في الجزيرة، فكانت حرة الوبرة مطبقة على المدينة من الناحية   (1) انظر: التربية القيادية (1/ 146، 147). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الغربية وحرة واقم، مطبقة على المدينة من الناحية الشرقية، وكانت المنطقة الشمالية من المدينة هي الناحية الوحيدة المكشوفة (وهي التي حصنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سنة خمس في غزوة الأحزاب)، وكانت الجهة الأخرى من أطراف المدينة محاطة بأشجار النخيل الزروع الكثيفة لا يمر منها الجيش إلا في طرق ضيقة لا يتفق فيها النظام العسكري، وترتيب الصفوف. وكانت خفارات عسكرية صغيرة كافية بإفساد النظام العسكري ومنعه من التقدم يقول ابن إسحاق: «كان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل، لا يتمكن العدو منها» (1). ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذه الحكمة الإلهية في اختيار المدينة بقوله لأصحابه قبل الهجرة: «إني رأيت دار هجرتكم، ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان» (2). فهاجر من هاجر قِبَل المدينة. وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة وشكيمة، ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة إتاوة أو جباية، يقول ابن خلدون: ولم يزل هذان الحيان قد غلبوا على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملتهم من جاورهم من قبائل مضر. وكان بنو عدي بن النجار أخواله صلى الله عليه وسلم، فأم عبد المطلب بن هاشم إحدى نسائهم، فقد تزوج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وولدت لهاشم عبد المطلب، وتركه هاشم عندها، حتى صار غلاماً دون المراهقة، ثم احتمله عمه المطلب، فجاء به إلى مكة، وكانت الأرحام يحسب لها حساب كبير في حياة العرب الاجتماعية، ومنهم أبو أيوب الأنصاري الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره في المدينة. وكان الأوس والخزرج من قحطان، والمهاجرون ومن سبق إلى الإسلام في مكة وما حولها من عدنان، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقام الأنصار بنصره، اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام، وكانوا كجسدٍ واحدِ، وكانت بينهما مفاضلة ومسابقة في الجاهلية، وبذلك لم يجد الشيطان سبيلاً إلى قلوبهم لإثارة الفتنة والتعزي بعزاء الجاهلية، باسم الحمية القحطانية أو العدنانية، فكانت لكل ذلك مدينة يثرب أصلح مكان لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتخاذهم لها داراً وقراراً، حتى يقوى الإسلام ويشق طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثم يفتح العالم المتمدن (3). سادسًا: من فضائل المدينة: لقد عظُم شرف المدينة المنورة المباركة بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، حتى فضلت على سائر بقاع الأرض حاشا مكة المكرمة، وفضائلها كثيرة منها:   (1) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص157. (2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص52. (3) انظر: الأساس في السنة (1/ 333). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 1 - محبته صلى الله عليه وسلم لها ودعاؤه لها: دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه قائلا: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد» (1) وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر، فأبصر إلى درجات المدينة (2)، أَوْضَع ناقته (3) وإن كان على دابة حركها» قال أبو عبد الله: زاد الحارث بن عمير عن حميد «حركها من حبها» (4). 2 - دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بضعفي ما في مكة من البركة: فعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة»، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «كان الناس إذا رأوا أول أثمر جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» قال: ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر (5). 3 - عصمتها من الدجال والطاعون ببركته صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قيض لها ملائكة يحرسونها، فلا يستطيع الدجال إليها سبيلاً، بل يلقى إليه بإخوانه من الكفار والمنافقين، كما أن من لوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالصحة ورفع الوباء ألا ينزل بها الطاعون، كما أخبر بذلك المعصوم (6) صلى الله عليه وسلم. 4 - فضيلة الصبر على شدتها: فقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم من صبر على شدة المدينة وضيق عيشها بالشفاعة يوم القيامة (7) فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها (8) وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» (9).   (1) الهجرة النبوية المباركة، ص157. (2) وفي رواية: «جدارات»: جمع جدار وهو الحائط، ودرجات: أي الطرق المرتفعة. (3) أوضع ناقته: حثها على السرعة. (4) البخاري، كتاب العمرة، باب من أسرع ناقته (3/ 630) رقم 1802). (5) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/ 1000). (6) انظر: الهجرة النبوية المباركة، 158. (7) المصدر السابق، ص160. (8) اللأواء: الشدة وضيق العيش. (9) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/ 992) رقم 1363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 5 - فضيلة الموت فيها: فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها» (1)، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يدعو بهذا الدعاء: (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم) (2). وقد استجاب الله للفاروق - رضي الله عنه - فاستشهد في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤم المسلمين في صلاة الفجر. 6 - هي كهف الإيمان وتنفي الخبث عنها: فالإيمان يلجأ إليها مهما ضاقت به البلاد، والأخباث والأشرار لا مقام لهم فيها ولا استقرار، ولا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه من المؤمنين الصادقين (3) فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرِز (4) إلى المدينة كما تأرِز الحية إلى جحرها» (5)، وقال صلى الله عليه وسلم: « ... والذي نفسي بيده لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد» (6). 7 - تنفي الذنوب والأوزار: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها (7) طيبة تنفي الذنوب (8) كما تنفي النار خبث الفضة» (9). 8 - حفظ الله إياها ممن يريدها بسوء: فقد تكفل الله بحفظها من كل قاصد إياها بسوء، وتوعد النبي صلى الله عليه وسلم من أحدث فيها حدثاً، أو آوى فيها محدثاً، أو أخاف أهلها، بلعنة الله وعذابه، وبالهلاك العاجل (10) فعن   (1) أخرجه أحمد (2/ 74، 104) بإسناد صحيح وصححه ابن حبان رقم 3741. (2) البخاري، كتاب فضائل المدينة (4/ 100) رقم 1890. (3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص161. (4) يأرز: ينضم ويجتمع، انظر: فتح الباري (4/ 93). (5) البخاري، كتاب فضائل المدينة (4/ 93) رقم 1876. (6) مسلم، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها (2/ 1005) رقم 1381. (7) إنها: يعني المدينة المنورة. (8) في رواية (تنفي الخبث) وفي رواية (تنفي الرجال). (9) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد (7/ 356) رقم 4050. (10) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع (1) كما ينماع الملح في الماء» (2)، وقال صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم الله، فمن أحدث فيها حدثاً (3) أو آوى محدثاً (4) فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه يوم القيامة عدلٌ، ولا صرفٌ» (5). 9 - تحريمها: فقد حرمها النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله فلا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يروع فيها أحد، ولا يقطع فيها شجر، ولا تحل لُقَطَتها إلا لمنشد، وغير ذلك ما يدخل في تحريمها قال صلى الله عليه وسلم: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، حرَّمتُ المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم عليه السلام لمكة» (6). وقال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها» (7) يعني المدينة، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يختلي خلاها ولا ينفر صيدها (8) ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها (9) ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيرة ولا تحمل فيها السلاح لقتال» (10). إن هذه الفضائل العظيمة جعلت الصحابة يتعلقون بها، ويحرصون على الهجرة إليها، والمقام فيها، وبذلك تجمعت طاقات الأمة فيها، ثم توجهت نحو القضاء على الشرك بأنواعه، والكفر بأشكاله، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها. * * *   (1) انماع: ذاب وسال. (2) البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب إثم من كاد أهل المدينة، (4/ 94) رقم 1877. (3) الحدث: الإثم أو الأمر المنكر الذي ليس بمعروف في السنة. (4) المحدث: أي من أتي الحدث. (5) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/ 999) رقم 1371. (6) البخاري، كتاب البيوع، باب بركة صاع النبي ومده (4/ 346). (7) البخاري، كتاب المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه (7/ 337) رقم 484. (8) لا يختلي خلاها: لا يجز ولا يقطع الحشيش الرطب فيها. لا ينفر صيدها: لا يزجر ويمنع من الرعي. (9) أشار بها، والمراد تعريف اللقطة. (10) أخرجه أحمد (1/ 119). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الفصل السادس هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه المبحث الأول فشل خطة المشركين والترتيب النبوي الرفيع للهجرة أولاً: فشل خطة المشركين لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم: بعد أن منيت قريش بالفشل في منع الصحابة -رضي الله عنهم- من الهجرة إلى المدينة، على الرغم من أساليبهم الشنيعة والقبيحة، فقد أدركت قريش خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الاجتماعي القائم بين قبائل العرب؛ لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة، وقد تحدث ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30] فقال: فتشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: أن أخرجوه، فاطلع الله نبيه على ذلك فبات عليٌّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة (1)، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليًّا رد الله كيدهم، فقالوا أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم الأمر، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن ينسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثاً (2). قال سيد قطب في تفسيره للآيات التي تتحدث عن مكر المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم: «إنه التذكير بما كان في مكة، قبل تغير الحال، وتبدل الموقف، وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل، كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته، فيما يقضي به ويأمر: ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق، وكان   (1) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص 135. (2) انظر: البداية والنهاية (3/ 181)، وابن حجر في الفتح وحسن إسناده، فتح الباري (7/ 236). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب، وما كان فيه من خوف وقلق، في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة، وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم، لا مجرد النجاة منهم. لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبسوه حتى يموت، أو ليقتلوه ويتخلصوا منه، أو ليخرجوه من مكة منفيًّا مطروداً، ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله، على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعاً، ليتفرق دمه في القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ). إنها صورة ساخرة وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة، فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل من تلك القدرة القادرة، قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط (1). ثانيًا: الترتيب النبوي للهجرة: عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة (2)، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرج عني من عندك» فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك، فداك أبي وأمي! فقال: «إنه قد أذن لي في الخروج والهجرة» قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: «الصحبة» قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاها لميعادهما (3). قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم   (1) انظر: في ظلال القرآن (3/ 1501). (2) الهاجرة: نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو إلى العصر. (3) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/ 233، 234). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا (1) فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام، شاب، ثقف (2) لقن (3)، فيدلج (4) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يَكتادان (5) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك، حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولي أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليها حين تذهب ساعة من العشاء فيبتان في رِسَل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما (6) - حتى ينعق (7) بها عامر بن فهيرة بغلس (8) يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا- والخريت الماهر- بالهداية قد غمس حلفاً (9) في آل العاص ابن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر به فهيرة، والدليل فأخذ بهم طريق السواحل» (10). ثالثًا: خروج الرسول صلى الله عليه وسلم ووصوله إلى الغار: لم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر. أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلف، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع، التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته (11) وكان الميعاد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر - رضي الله عنه - فخرجا من خوخة (12) لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لا تتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبد الله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال (13).   (1) كمنا فيه: أي استترا واستخفيا ومنه الكمين في الحربة، النهاية (4/ 201). (2) ثَقِفْ: ذو فطنة وذكاء والمراد ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، النهاية (1/ 216). (3) لقن: فهم حسن التلقي لما يسمعه، النهاية (4/ 266). (4) يدلج: أدلج إذا سار أول الليل وادّلج بالتشديد إذا سار آخره. (5) يُكتادان: أي يطلب لهما فيه المكروه وهو من الكيد. (6) الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وَخَمُه. (7) ينعق: نعق بغنمه، أي صاح بها وزجرها، القاموس المحيط (3/ 295). (8) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح، النهاية (3/ 377). (9) غمس حلفاً: أي أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم يأمن به .. (10) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي رقم 3905. (11) السيرة النبوية لابن كثير (2/ 234) (12) الهجرة في القرآن الكريم، ص334. (13) خاتم النبيين لأبي زهرة (1/ 659) السيرة النبوية لابن كثير (2/ 234). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 رابعًا: رِقة النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة: وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالحزورة في سوق مكة، وقال: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» (1). ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من بطش المشركين، وصرفهم عنهما. روى الإمام أحمد عن ابن عباس: (أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل جبل ثور اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه) (2) وهذه من جنود الله عز وجل التي يخذل بها الباطل، وينصر به الحق؛ لأنه جنود الله جلت قدرته أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتثمل في ضخامتها فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب، قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) [المدثر: 31]. أي وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فجنود الله غير متناهية؛ لأن مقدوراته غير متناهية (3) كما أنه لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة (4). خامساً: عناية الله سبحانه وتعالى ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم: بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها (5) قال تعالى: (وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا) [الإسراء: 80].   (1) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/ 722). (2) مسند الإمام أحمد (1/ 348). (3) انظر: تفسير الرازي (30/ 208). (4) انظر: تفسير أبي مسعود (9/ 60). (5) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وفي هذه الآية الكريمة دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها وما بين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته، بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله غيره. وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص (وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا) قوة وهيبة أستعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة (مِن لَّدُنْكَ) تصور القرب والاتصال بالله، والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه. وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يُهاب إلا بسلطان الله، ولا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه، ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله، والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان، والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه (1). وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم الصديق بمعية الله لهما؛ فعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟ (2)». وفي رواية: «اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما». وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40]. سادساً: خيمة أم معبد في طريق الهجرة: وبعد ثلاث ليالٍ من دخول النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب ويئس المشركون من الوصول إلى رسول الله، وقد قلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الديل يسمى عبد الله بن أريقط وكان مشركًا، وقد أمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، وقد جاءهما فعلا في الموعد المحدد وسلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار   (1) انظر: في ظلال القرآن (4/ 2247). (2) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين، رقم 3653. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 قريش (1)، وفي الطريق إلى المدينة مر النبي صلى الله عليه وسلم بأم معبد (2) في قديد (3) حيث مساكن خزاعة، وهي أخت خنيس بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثير: «وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا» (4)، فعن خالد بن خنيس الخزاعي - رضي الله عنه - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، وخرج منها مهاجراً إلى المدينة، هو وأبو بكر - رضي الله عنه - ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة - رضي الله عنه - ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة (5) جلدة (6) تحتبي (7) بفناء القبة ثم تسقي وتطعم، فسألوهما لحماً وتمراً، ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مُرْمِلين (8) مسنتين (9) فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة (10) فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: «فهل بها من لبن؟» قالت: هي أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين أن أحلبها؟» قالت: بلى بأبي أنت وأمي، نعم، إن رأيت بها حلباً فاحلبها. فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله عز وجل، ودعا لها في شاتها، فتفاجت (11) عليه، ودرت (12) واجترت (13) ودعا بإناء يُرْبِض (14) الرهط، فحلب فيها ثجا (15) حتى علاه البهاء (16) ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم ثم أراضوا (17)، ثم حلب فيها ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.   (1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 101). (2) هي عاتكة بنت كعب الخزاعية. (3) وادي قديد: يبعد عن الطريق المعبدة حوالي ثمانين ميلاً. (4) البداية والنهاية (3/ 188). (5) برزة: كهلة كبيرة السن، لا تحتجب احتجاب الشواب. (6) جلدة: قوية صلبة وقيل عاقلة. (7) تحتبي: أي تجلس وتضم يديها إحداهما إلى الأخرى، على ركبتيها، وتلك جلسة الأعراب .. (8) مرملين: نفذ زادهم. (9) مسنتين: أي داخلين في أسَنَة وهي الجدب والمجاعة والقحط. (10) كسر الخيمة: بفتح الكاف وكسرها، وسكون المهملة: أي جانبها. (11) تفاجت: فتحت ما بين رجليها للحلب. (12) درت: أرسلت اللبن. (13) واجترت: من الجرة وهي ما تخرجها البهيمة من كرشها تمضغها. (14) يربض: يرويهم حتى يثقلوا فيربضوا، أي يقعوا على الأرض للنوم والراحة. (15) ثجا: لبنا كثيراً سائلا. (16) علاه البهاء: أي أعلا الإناء بهاء اللبن. (17) أراضوا: أي رووا، فنقعوا بالري، يريد شربوا مرة بعد مرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافاً (1) يتساوكن هُزلا (2) ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاة عازب حيال (3) ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة (4)، أبلج الوجه (5)، حسن الخلق، لم تعبه نحلة (6) ولا تزر به صعلة (7) وسيم (8)، في عينيه دعج (9)، وفي أشفاره وطف (10)، وفي صوته صهل (11) وفي عنقه سطع (12) وفي لحيته كثاثة، أزج (13)، أقرن (14)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما (15) وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا هذر ولا نزر (16)، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربع (17) لا يأس من طول (18) ولا تقتحمه العين من قصر (19) غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود (20)، محشود (21)، لا عابس ولا مُفنَّد (22). قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد   (1) عجافا: ضد السمن، وهو جمع عجفاء وهي المهزولة. (2) يتساوكن هزلا: يتمايلن من الضعف. (3) عازب: بعيدة المرعى لا تأوي إلى البيت إلا في الليل، حيال: لا تحمل. (4) ظاهر الوضاءة: ظاهر الجمال والحسن (5) أبلغ الوجه: مشرق الوجه مضيئه. (6) نحلة: من النحول والدقة والضمور، أي أنه ليس نحيلا. (7) صعلة: صغر الرأس وهي تعني الدقة والنحول في البدن. (8) وسيم: الوسيم المشهور بالحسن كأنه صار الحسن له سمة. (9) دعج: شديد سواد العين في شدة بياضها. (10) في أشفاره وطف: الشعر النابت على الجفن فيه طول. (11) صهل: كالبحة وهو ألا يكون حاد الصوت. (12) سطع: طول العنق. (13) أزج: دقيق شعر الحاجبين مع طولهما. (14) أقرن: متصل ما بين حاجبين من الشعر، أو مقرون الحاجبين. (15) سما: علا برأسه، أو بيده وارتفع. (16) لا هذر ولا نذر: الهذر من الكلام ما لا فائدة فيه والنزر: القليل. (17) رَبْع: ليس بالقصير ولا بالطويل. (18) لا يأس من طول: لا يجاوز الناس طولا. (19) لا تقتحمه العين من قصر: لا تزدريه ولا تحتقره. (20) محفود: مخدوم. (21) محشود: يجتمع الناس حواليه. (22) لا عابس ولا مفند: ليس عابس الوجه ولا مفند: ليس منسوباً إلى الجهل وقلة العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. (1) سابعاً: سراقة بن مالك يلاحق رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيًّا أو ميتًا، فله مائة ناقة، وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب الذين في ضواحي مكة، وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لا يغلبها غالب، جعله يرجع مدافعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كان جاهداً عليه. قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعشم، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رُسُل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، دية كل منها لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أَسْوِدة (2) بالساحل أُراها محمداً وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم: فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهى من وراء أكمة (3) فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه (4) الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام (5) فاستقسمت بها، أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام؛ تُقَرّب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت (6) يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضتْ فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان (7) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم   (1) انظر: الهجرة النبوية المباركة (ص 104 - 106) والهوامش منه ببعض تصرف. (2) أسودة: جمع قلة لسواد وهو الشخص يرى من بعيد أسود، الهجرة في القرآن، ص344. (3) الأكمة: هي الرابية. (4) الزج: الحديدة في أسفل الرمح. (5) الأزلام: الأقداح التي كانت في الجاهلية مكتوب عليها الأمر، والنهي: افعل ولا تفعل. (6) ساخت يدا فرسي: أي غاصت في الأرض. (7) عثان: أي دخان، وجمعه عواثن على غير قياس، النهاية (3/ 183). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الزاد والمتاع فلم يرزآني (1) ولم يسألاني، إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي في كتاب آمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم (2) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). وكان مما اشتهر عند الناس من أمر سراقة ما ذكره ابن عبد البر، وابن حجر وغيرهما، قال ابن عبد البر: روى سفيان بن عيينة عن أبي موسى عن الحسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟» قال: فلما أُتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها، وكان سراقة رجلاً أزب (4) كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقال: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابياًّ من بني مدلج، ورفع بها عمر صوته (5)، ثم أركب سراقة، وطيف به المدينة، والناس حوله، وهو يرفع عقيرته مردداً قول الفاروق: الله أكبر، الحمد الله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابياًّ من بني مدلج (6). ثامنًا: سبحان مقلب القلوب: كان سراقة في بداية أمره يريد القبض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلمه لزعماء مكة لينال مائة ناقة، وإذا بالأمور تنقلب رأساً على عقب، ويصبح يرد الطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده قائلا: كفيتم هذا الوجه، فلما اطمأن إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى المدينة المنورة، جعل سراقة يقص ما كان من قصته وقصة فرسه، واشتهر هذا عنه، وتناقلته الألسنة حتى امتلأت به نوادي مكة، فخاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سبباً لإسلام بعض أهل مكة، وكان سراقة أمير بني مدلج، ورئيسهم فكتب أبو جهل إليهم: بني مدلج إني أخاف سفيهكم ... سراقة مستغوٍ لنصر محمد عليكم به ألا يفرق جمعكم ... فيصبح شتى بعد عز وسؤدد فقال سراقة يرد على أبي جهل: أبا حكم والله لو كنتَ شاهداً ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه علمت ولم تَشْكُك بأن محمداً ... رسول وبرهان فمن ذا يقاومه   (1) فلم يرزآني: أي لم يأخذا مني شيئاً. (2) أديم: قطعة من جلد. (3) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3906. (4) التزبب في الإنسان: كثرة الشعر وطوله. (5) انظر: الروض الأنف (4/ 218)، الهجرة في القرآن، ص346. (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 495). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 عليك فكُف القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوماً ستبدو معالمه بأمر تود الناس فيه بأسرهم ... بأن جميع الناس طُراً مسالمه (1) تاسعاً: استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفَى رجل من يهود على أُطُم (2) من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين (3) يزول بهم السراب (4)، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم (5) الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين (6)، من شهر ربيع الأول (7) فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك «فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة (8)، وأُسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته» (9). وبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم المدة التي مكثها بقباء، وأراد أن يدخل المدينة «بعث إلى الأنصار فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وحفوا دونهما بالسلاح» (10). وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخذ أهل المدينة يقولون: «جاء نبي الله، جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله، جاء نبي الله» (11). فكان يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 494). (2) أطم: كالحصن. (3) مبيضين: عليهم ثياب بيض. (4) السراب: أي يزول بهم السراب عن النظر بسبب عروضهم له. (5) جدكم: حظكم وصاحب دولتكم، الذي تتوقعونه. (6) قال الحافظ بن حجر: هذا هو المعتمد وشذ من قال يوم الجمعة، الفتح (7/ 544). (7) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص351. (8) نفس المصدر، ص352. (9) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي (5/ 77، 78). (10) نفس المصدر رقم 3911. (11) نفس المصدر رقم 3911. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 يوم عيد، ولقد كان حقًّا يوم عيد؛ لأنه اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها إلى سائر بقائع الأرض. لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم به أيضاً، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام كما أصبحت موطناً للنظام الإسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج، ويقولون: يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله (1). روى الإمام مسلم بسنده قال: «عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق العلماء والخدم في الطرق ينادون: «يا محمدُ، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله» (2). وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الإنسانية سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل في دار أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فعن أنس - رضي الله عنه - في حديث الهجرة الطويل وفيه: «فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب فإنه ليحدث أهله (3) إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف (4) لهم فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء وهي مع فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أي بيوت أهلنا (5) أقرب» فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله هذه داري وهذا بابي، قال: «فانطلق فهيئ لنا مقيلا (6) ... » (7) ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه. وبهذا قد تمت هجرته صلى الله عليه وسلم وهجرة أصحابه رضي الله عنهم، ولم تنته الهجرة بأهدافها وغاياتها، بل بدأت بعد وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم سالماً إلى المدينة، وبدأ معها رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم للوصول للمستقبل الباهر للأمة، والدولة الإسلامية، التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة، على أسس من الإيمان والتقوى، والإحسان والعدل، بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما: دولة الفرس ودولة الروم (8).   (1) الهجرة في القرآن الكريم، ص 353. (2) مسلم، كتاب الزهد والرقائق باب حديث الهجرة، رقم 2009. (3) الضمير هنا للنبي صلى الله عليه وسلم (فتح الباري (7/ 251) (4) يخترف: أي يحتبي من ثمارها، انظر: النهاية (2/ 24) (5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص354. (6) مقيلا: أي مكاناً تقع فيه القيلولة. (7) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي إلى المدينة (5/ 79). (8) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 عاشراً: فوائد ودروس وعبر: 1 - الصراع بين الحق والباطل: صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال عز وجل: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40]. ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21]. 2 - مكر خصوم الدعوة بالداعية: أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله (1)، كما قال عز وجل: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]. ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة، ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حيًّا أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديًّا بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمَّي الطريق عن الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة (2) قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال: 36]. 3 - إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها، ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائمًا، وأن التخطيط جزء من السنّة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم وأن الذين يميلون إلى العفوية، بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنّة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين (3). فعندما حان وقت الهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم وشرع النبي صلى الله عليه وسلم في التنفيذ نلاحظ الآتي: * وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت، رغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية، فمثلا:   (1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص199. (2) انظر الهجرة النبوية المباركة، ص200. (3) انظر: الأساس في السنة، سعيد حوى (1/ 357). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أ- جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر- الوقت الذي لا يخرج فيه أحد- بل من عادته لم يكن يأتي فيه، لماذا؟ حتى لا يراه أحد. ب- إخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم أثناء مجيئه للصديق، وجاء إلى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم (1). ج- أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرِج مَنْ عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه. د - وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر (2). هـ- بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً ما دام على خلق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها (3). * انتقاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل من هؤلاء الأفراد وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير. * وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته. * فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول، فكرة ناجحة، قد ضللت القوم وخدعتهم، وصرفتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى خرج في جنح الليل تحرسه عناية الله وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة بمضجع الرسول صلى الله عليه وسلم فما كانوا يشكون في أنه ما يزال نائماً، مسجى في بردته في حين النائم هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ونرى احتياجات الرحلة قد دبرت تدبيرا محكما: أ- علي: - رضي الله عنه - ينام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليخدع القوم، ويُسلَّم الودائع ويلحق بالرسول. ب- وعبد الله بن أبي بكر: صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو. جـ- وأسماء ذات النطاقين: حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنون المشركين بحثاً عن محمد صلى الله عليه وسلم ليقتلوه.   (1) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحيطة، ص141. (2) انظر: معين السيرة، ص147. (3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 د- وعامر بن فهيرة: الراعي البسيط الذي قدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه، كيلا يتفرسها القوم، لقد كان هذا الراعي يقوم بدور الإمداد والتموين. هـ- وعبد الله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير، ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول، ليأخذ الركب طريقه من الغار إلى يثرب. فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف. لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذًا قويًّا حسب استطاعته وقدرته .. ومن ثم باتت عناية الله متوقعة (1). 4 - الأخذ بالأسباب أمر ضروري: إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياًّ وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض ويكلل العمل بالنجاح (2). 5 - الإيمان بالمعجزات الحسية: وفي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك -على ما روي- نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أم معبد، وما جرى له مع سراقة ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة ألا يتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتة بالسنة النبوية على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته عليه السلام (3). 6 - جواز الاستعانة بالكافر المأمون: ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم، ما داموا يثقون بهم ويأتمنونهم على   (1) انظر: أضواء على الهجرة، لتوفيق محمد، ص393: 397. (2) انظر: من معين السيرة، ص148. (3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 108). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ما يستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعده عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب إلى الدعاة، قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة، أو المعرفة القديمة أو الجوار، أو عمل معروف، كان قد قدمه الداعية لهم، أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية، مثل الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها إلى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص (1). 7 - دور المرأة في الهجرة: وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، وأسماء ذات النطاقين (2) التي ساهمت في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا ... » (3). فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم! وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: «والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: «فوضع يده عليه»، فقال: «لا بأس، إذا كان ترك الكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم»، «قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك» (4). وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور،   (1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 108). (2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص206. (3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص126. (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 102) إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ولا تلتفت إلى سفافها فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره. لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا، هُن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله. وظلت أسماء مع أخواتها في مكة لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجة، حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسوده بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمه بركة، المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان (1). 8 - أمانات المشركين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع محاربتهم له، وتصميمهم على قتله، دليل باهر على تناقضهم العجيب، الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر، أو مجنون أو كذاب، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً فكانوا لا يضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق، الذي جاء به، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم (2)، وصدق الله العظيم: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33]. وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه - بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلا عن غيره (3). 9 - الراحلة بالثمن: لم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر - رضي الله عنه -، واستقر الثمن ديناً بذمته، وهذا درس واضح بأن حملة الدعوة ما ينبغي أن يكونوا عالة على أحد في وقت من الأوقات، فهم مصدر العطاء في كل شيء. إن يدهم إن لم تكن العليا، فلن تكون السفلى، وهكذا يصر عليه السلام أن يأخذها   (1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص128. (2) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص193. (3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 بالثمن، وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 109]. إن الذين يحملون العقيدة والإيمان، ويبشرون بهما ما ينبغي أن تمتد أيديهم إلى أحد إلا الله؛ لأن هذا يتناقض مع ما يدعون إليه، وقد توعد الناس أن يعوا لغة الحال لأنها أبلغ من لغة المقال، وما تأخر المسلمون، وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة المادة، ينتظر الواحد منهم مرتبه، ويومها تحول العمل إلى عمل مادي فقد الروح والحيوية، وأصبح الأئمة موظفين. إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من الله والأمل في رضاه، غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة، فإذا توقفت توقف الصوت، وقديما قالوا: ليست النائحة كالثكلى، ولهذا قل التأثير، وبعد الناس عن جادة الصواب (1). 10 - الداعية يعف عن أموال الناس: لما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن سراقة عرض عليه سراقة المساعدة فقال: وهذه كنانتيفخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لي فيها» (2). فحين يزهد الدعاة فيما عند الناس يحبهم الناس، وحين يطمعون في أموال الناس ينفر الناس عنهم، وهذا درس بليغ للدعاة إلى الله تعالى (3). 11 - الجندية الرفيعة والبكاء من الفرح: تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأبو بكر - رضي الله عنه - عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً» فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة «فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك، وفي رواية البخاري، «وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر- وهو الخبط- أربعة أشهر»، لقد كان يدرك بثاقب بصره - رضي الله عنه -، وهو الذي تربى ليكون قائدا، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة؛ ولذلك هيأ وسيلة الهجرة، ورتب تموينها، وسخر أسرته لخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكى   (1) انظر: معين السيرة، ص148، 149. (2) المسند (1/ 3) تحقيق أحمد محمد شاكر. (3) انظر: في ظلال الهجرة النبوية، ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 من شدة الفرح، وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ»، إنها قمة الفرح البشري أن يتحول الفرح إلى بكاء. فالصديق - رضي الله عنه - يعلم أن معنى هذه الصحبة، أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشرة يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض، ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة (1) وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون، ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق، مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة، وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين (2)، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة منها، حين أجاب السائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض، فرارا من الحرج أو الكذب (3)،لأن الهجرة كانت سراًّ وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك (4)، وفي موقف علي بن أبي طالب مثال للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي - رضي الله عنه - ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي - رضي الله عنه -، ولكن علياًّ - رضي الله عنه - لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة (5). 12 - فن قيادة الأرواح، وفن التعامل مع النفوس: يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهذا الحب الرباني كان   (1) انظر: التربية القيادية (2/ 191، 192). (2) السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي، ص71. (3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص204. (4) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص254. (5) انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق، أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه شيء من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسؤولين في أمة الإسلام (1). إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقَ إلا المستضعفون والمفتونون ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة (2). 13 - وفي الطريق أسلم بريدة الأسلمي - رضي الله عنه - في ركب من قومه: إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة، والأمن مفقود بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى، هذا نبي الله تعالى يوسف -عليه السلام- حينما زج به في السجن ظلماً، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس ومحاربة الشرك وعبادة غير الله والخضوع لأي مخلوق قال تعالى: (قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ - وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ - يَا صَاحِبَيْ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ - مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 37 - 40]. وسورة يوسف عليه السلام مكية، وقد أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته إلى الله؛ ولذلك نجده صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة، وقد كان مطارداً من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة، ليأتوا برأسه حياً أو ميتاً، ومع هذا فلم ينس مهمته ورسالته، فقد لقي صلى الله عليه وسلم في طريقه رجلاً يقال له بريدة بن الحصيب الأسلمي - رضي الله عنه - في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فآمنوا وأسلموا (3).   (1) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص54. (2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص205. (3) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص59. شرح المواهب (1/ 405). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وذكر ابن حجر العسقلاني رحمه الله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة لقي بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ست عشرة (1) غزوة، وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة إلى الإسلام، وفتح الله لقومه -أَسْلَم- على يديه أبواب الهداية، واندفعوا إلى الإسلام وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجاً فريداً في فقه النفوس قال صلى الله عليه وسلم: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما وإني لم أقلها، ولكن قالها الله عز وجل» (2). 14 - وفي طريق الهجرة أسلم لصّان على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان في طريقه صلى الله عليه وسلم بالقرب من المدينة لِصَّان من أسلم يقال لهما المهانان، فقصدهما صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المهانان، فقال: «بل أنتما المكرمان» وأمرهما أن يقدما عليه المدينة (3) وفي هذا الخبر يظهر اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله حيث اغتنم فرصة في طريقه ودعا اللصين إلى الإسلام فأسلما، وفي إسلام هذين اللصين مع ما ألفاه من حياة البطش والسلب والنهب، دليل على سرعة إقبال النفوس على اتباع الحق، إذا وجد من يمثله بصدق وإخلاص، وتجردت نفس السامع من الهوى المنحرف، وفي اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بتغيير اسمي هذين اللصين من المهانين، إلى المكرمين دليل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بسمعة المسلمين، ومراعاته مشاعرهم إكراماً لهم ورفعاً لمعنوياتهم. وإن في رفع معنوية الإنسان تقوية لشخصيته ودفعا له إلى الأمام ليبذل كل طاقته في سبيل الخير والفلاح (4). 15 - الزبير وطلحة رضي الله عنهما ولقاؤهما برسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة: ومما وقع في الطريق إلى المدينة أنه صلى الله عليه وسلم لقي الزبير بن العوام، في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاء، رواه البخاري (5)، وكذا روى أصحاب السير أن طلحة بن عبيد الله لقيهما أيضا وهو عائد من الشام وكساهما بعض الثياب (6).   (1) انظر: الإصابة، (1/ 146). (2) صحيح الجامع الصغير (1/ 328) رقم 986. (3) الفتح الرباني للساعتي (20/ 289). (4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (3/ 178). (5) انظر السيرة النبوية لأبي شهبة، (1/ 495). (6) المصدر السابق، (1/ 495) صحيح السيرة النبوية، ص181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 16 - أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن: إن العقيدة الصحيحة السليمة والدين الإسلامي العظيم لهما أهمية كبرى في إزالة العداوات والضغائن، وفي التأليف بين القلوب والأرواح، وهو دور لا يمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تقوم به، وها قد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلامية بين الأوس والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرت عقوداً من الزمن، وأغلقت ملف ثارات كثيرة في مدة قصيرة، بمجرد التمسك بها والمبايعة عليها، وقد رأينا ما فعلته العقيدة في نفوس الأنصار، فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة، وتآخوا معهم في مثالية نادرة، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر، فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصافية في النفوس. ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب إلى إضعاف هذه العقيدة، وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين، واندفاعهم المستمر نحو تزكية النعرات العصبية والوطنية والقومية وغيرها، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة (1). 17 - فرحة المهاجرين والأنصار بوصول النبي صلى الله عليه وسلم: كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصوله إليهم سالمًا، فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك لسكانها في الفرحة ظاهراً، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطناً، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم فلا عجب فيها، وهو الذي أنقذهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه، وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه، وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب، ويحول بينهم وبين سلب أموالها باسم القروض، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدس والمؤامرات ثم إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك دينهم، وتلك جبلتهم (2). ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية استقبال الأمراء والعلماء عند مقدمهم بالحفاوة والإكرام، فقد حدث ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الإكرام وهذه الحفاوة نابعين من حب للرسول، بخلاف ما نراه من استقبال الزعماء والحكام في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنافس في الخير وإكرام ذوي العلم والشرف، فقد كانت كل قبيلة   (1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص405. (2) انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص43، الهجرة في القرآن الكريم، ص367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 تحرص أن تستضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعرض أن يكون رجاله حُراسًا له، ويؤخذ من هذا إكرام العلماء والصالحين، واحترامهم وخدمتهم (1). 17 - وضوح سنة التدرج: حيث نلاحظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام وتلاوة القرآن عليهم، فلما جاءوا في العام التالي بايعهم بيعة النساء على العبادات والأخلاق والفضائل، فلما جاءوا في العام التالي كانت بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر والإيواء (2). وجدير بالملاحظة أن بيعة الحرب لم تتم إلا بعد عامين كاملين، أي بعد تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين، وهكذا تم الأمر على تدرج، ينسجم مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم (3). إنه المنهج الذي هدى الله نبيه إلى التزامه، ففي البيعة الأولى بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام عقيدة ومنهاجًا وتربية، وفي البيعة الثانية بايعه الأنصار على حماية الدعوة واحتضان المجتمع الإسلامي الذي نضجت ثماره واشتدت قواعده قوة وصلابة. إن هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التربوي للدعوة الإسلامية، وإن الأمر الأول هو المضمون، والأمر الثاني، وهو بيعة الحرب، هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون، نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام وليس فور إعلانهم. بعد عامين إذ تم إعدادهم، حتى غدوا موضع ثقة، وأهلاً لهذه البيعة، ويلاحظ أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل اليوم مع أي مسلم، إنما حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤلاء الأنصار وفي الأرض التي يقيمون فيها، المعقل الملائم الذي ينطلق منه المحاربون، لأن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب (4). وقد اقتضت رحمة الله بعباده «أن لا يحملهم واجب القتال، إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه، ويلوذون به، وقد كانت المدينة المنورة أول دار إسلام» (5). لقد كانت البيعة الأولى قائمة على الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والبيعة الثانية على الهجرة والجهاد، وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان بالله، والهجرة، والجهاد، يتحقق وجود الإسلام في   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص358، 359. (2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص202. (3) انظر: بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص119. (4) انظر: بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص122، 123. (5) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 واقع جماعي ممكن، والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء ولهذا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال: 72]. وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال: 75]. وقد كانت بيعة الحرب هي التمهيد الأخير، لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وبذلك وجد الإسلام موطنه الذي ينطلق منه دعاة الحق بالحكمة والموعظة، وتنطلق منه جحافل الحق المجاهدة أول مرة، وقامت الدولة الإسلامية المحكمة لشرع الله (1). 19 - الهجرة تضحية عظيمة في سبيل الله: كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البلد الأمين، تضحية عظيمة عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» (2). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلا- يعني ماء آجنا- فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك (3) فدنوت من أبي بكر فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ فقال: كل امرئ مصبَّح في أهله ... والموت أدنى من شِراك نعله قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفُه من فوقه كل امرئ مجاهد بطَوقه (4) ... كالثور يحمي جلده بِرَوقه (5)   (1) انظر: الغرباء الأولون، ص198، 199. (2) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/ 722) رقم 3925. (3) الوعك: الحمى. (4) بطوقه: بطاقته. (5) بروقه: بقرنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول، قلت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته (1) ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر (2) وجليل وهل أَرِدَنْ يومًا مياه مجنة ... وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطفيل (3) قالت: فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وانقل حماها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا في مدنا وصاعها» (4). وقد استجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم (5). 20 - مكافأة النبي صلى الله عليه وسلم لأم معبد: وقد روي أنها كثرت غنمها، ونمت حتى جلبت منها جلباً إلى المدينة، فمر أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟ قال: أو ما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها. وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب (الوفاء) أنها هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها خنيس واستشهد يوم الفتح (6). 21 - أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - ومواقف خالدة: قال أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: «ولما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العُلْو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: «يا أبا أيوب: إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سُفل البيت» قال: فلقد انكسر حُب (7) لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على   (1) عقيرته: صوته، قال الأصمعي، إن رجلا عقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال له: رفع عقيرته وإن لم يرفع رجله. (2) الأذخر: نبات طيب الرائحة. (3) شامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة على بريد مكة. (4) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء برفع الوباء والوجع، رقم 6372. (5) انظر: التربية القيادية (2/ 310). (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 489، 490). (7) الحُبُّ: بضم الحاء المهملة، وتشديد الباء الموحدة التحتية: الجرة الضخمة، (لسان العرب - مادة حبب). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه» (1). 22 - هجرة علي - رضي الله عنه - وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في المجتمع الجديد: بعد أن أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانات التي كانت عنده للناس، لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركه بقباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلتين، ثم خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الجمعة (2) وقد لاحظ سيدنا علي مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، ورأى إنسانا يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليها فيعطيها شيئاً معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت: يا أمة الله، من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف بن وهب، وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان علي - رضي الله عنه - يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق (3). 23 - الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة: كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة، أعظم حدث حول مجرى التاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين ونظم وأعراف، وعادات وأخلاق وسلوك للأفراد والجماعات، وعقائد وتعبدات وعلم ومعرفة، وجهالة وسفه وضلال وهدى، وعدل وظلم (4). 24 - الهجرة من سنن الرسل الكرام: إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدعا في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها، وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة. وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات، يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 220). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 497). (3) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (2/ 421). (4) انظر: محمد رسول الله، (2/ 423). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 واعتدى على مروءته وكرامته (1). هذه بعض الفوائد والعبر والدروس، وأترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها ويستنبط سواها من الدروس والعبر والفوائد الكثيرة النافعة من هذا الحدث العظيم. * * * المبحث الثاني الثناء على المهاجرين بأوصاف حميدة والوعد لمن هاجر منهم والوعيد لمن تخلف تعتبر الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين، كان المسلمون قبل الهجرة أمة دعوة، يبلغون دعوة الله للناس، دون أن يكون لهم كيان سياسي، يحمي الدعاة أو يدفع عنهم الأذى من أعدائهم. وبعد الهجرة تكونت دولة الدعوة، هذه الدولة التي أخذت على عاتقها نشر الإسلام في داخل الجزيرة العربية وخارجها، ترسل الدعاة إلى الأمصار وتتكفل بالدفاع عنهم وحمايتهم من أي اعتداء قد يقع عليهم ولو أدى ذلك إلى قيام حرب أو حروب (2). وبجانب هذا، فإن الهجرة النبوية لها مكانتها في فهم القرآن وعلومه حيث فرق العلماء بين المكي والمدني، فالمكي: ما نزل قبل الهجرة وإن كان بغير مكة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة وإن كان بغير المدينة وترتب على ذلك فوائد من أهمها: 1 - تذوق أساليب القرآن الكريم والاستفادة منها في أسلوب الدعوة إلى الله. 2 - الوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية (3): ولأهمية الهجرة النبوية نرى أن القرآن الكريم حث المؤمنين على الهجرة في سبيل الله بأساليب متنوعة، مرة بالثناء على المهاجرين، بأوصاف حميدة، وأخرى بالوعد للمهاجرين، وتارة بالوعيد للمتخلفين عن الهجرة (4). أولاً: الثناء على المهاجرين بأوصاف حميدة: فمن أهم الصفات المميزة للمهاجرين (5).   (1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص175. (2) انظر: الهجرة النبوية، الدكتور محمد أبو فارس، ص13. (3) انظر: مباحث في علوم القرآن للقطان، ص59. (4) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص84. (5) نفس المصدر، ص85، هذا المبحث أخذته من هذا الكتاب مع التصرف اليسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 1 - الإخلاص: قال تعالى (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8] قوله تعالى (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) يدل على أنهم لم يخرجوا من ديارهم وأموالهم إلا أن يكونوا مخلصين لله، مبتغين مرضاته ورضوانه (1). 2 - الصبر: قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 41،42] 3 - الصدق: قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8]. قال البغوي في تفسيره: قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي في إيمانهم (2). 4 - الجهاد والتضحية: قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [التوبة: 20]. ولعل الملاحظة الجديرة بالتأمل في هذا المجال، أن التضحية ملازمة للجهاد في سبيل الله، إذ لا جهاد دون تضحية (3). 5 - نصرهم لله ورسوله: قال تعالى عن المهاجرين: (وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8]. 6 - التوكل على الله عز وجل: قال تعالى عن المهاجرين: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 41 - 42] 7 - الرجاء: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 218].   (1) الهجرة في القرآن الكريم، ص86. (2) انظر: تفسير البغوي (4/ 318). (3) الهجرة في القرآن الكريم، 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وإنما قال (يَرْجُونَ) وقد مدحهم؛ لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين، أحدهما: لا يدري بما يختم له والثاني: لئلا يتكل على عمله، فهؤلاء قد غفر الله لهم، ومع ذلك يرجون رحمة الله وذلك زيادة إيمان منهم (1). 8 - اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في العسرة: قال تعالى (لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 117]. وقد نزلت هذه الآية في غزوة تبوك قال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك، في لهبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم (2) من غزوتهم (3). 9 - حق السبق في الإيمان والعمل يورث حيازة القدوة والسيادة: قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]. قال الرازي: والسبق موجب للفضيلة، فإقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم، وثبت بهذا أن المهاجرين هم رؤساء المسلمين وسادتهم (4). 10 - الفوز: قال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [التوبة: 20]. قال أبو السعود في تفسيره: قوله تعالى: (هُمُ الْفَائِزُونَ): أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق، كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم (5).   (1) الجامع لأحكام القرآن (3/ 50)، تفسير أبي السعود، (1/ 218). (2) أقفلهم: بمعنى أرجعهم سالمين. (3) تفسير ابن كثير (2/ 397). (4) انظر: تفسير الرازي (15/ 208). (5) تفسير أبي السعود (4/ 53). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 11 - الإيمان: قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 74]. ثانياً: الوعد للمهاجرين: ذكر الله تعالى بعض النعم التي وعدها الله عز وجل للمهاجرين في الدنيا والآخرة ومن هذه النعم: 1 - سعة رزق الله لهم في الدنيا: قال تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء: 100]. ومن سعة رزق الله لهم في الدنيا تخصيصهم بمال الفيء والغنائم، فالمال لهؤلاء؛ لأنهم أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به (1). 2 - تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم: قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) [آل عمران: 195]. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في بيان أن الهجرة من أعظم الوسائل المكفرة للسيئات، وأنها سبب لمغفرة ذنوب أهلها. 3 - ارتفاع منزلتهم وعظمة درجتهم عند ربهم: قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [التوبة: 20]. فالذين نالوا فضل الهجرة والجهاد بنوعيه؛ النفسي والمالي أعلى مرتبة وأعظم كرامة ممن لم يتصف بهما كائناً من كان، ويدخل في ذلك أهل السقاية والعمارة (2).   (1) انظر تفسير ابن كثير (4/ 295) وتفسير أبي السعود (8/ 228) وتفسير فتح القدير (5/ 200)، والهجرة في القرآن الكريم، ص132. (2) تفسير المراغي (10/ 78)، تفسير الرازي (16/ 13،14). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 4 - تبشيرهم بالجنة والخلود فيها: قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التوبة: 20 - 22]. هذا بعض ما وعد الله به المهاجرين من الجزاء والثواب بسبب جهادهم المرير. إن المهاجرين بإيمانهم الراسخ ويقينهم الخالص لم يمكنوا الجاهلية في مكة من وأد الدعوة، وهي في مستهل حياتها، لقد استمسكوا بما أوحى إلى نبيهم ولم تزدهم حماقة قريش إلا اعتصاما بما اهتدوا إليه وأمنوا به، فلما أسرفت الجاهلية في ذلك صاروا أهلا لما أسبغه الله عليهم من فضل في الدنيا، وما أعده لهم يوم القيامة من ثواب عظيم (1). ثالثًا: الوعيد للمتخلفين عن الهجرة: من العقوبات التي توعد الله عز وجل بها للمتخلفين عن الهجرة سوء المصير، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 97]. عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) الآية: قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 10]. فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير ثم نزلت فيهم: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النحل: 110] (2). لقد وصف الله -سبحانه- المتخلفين عن الهجرة بأنهم ظالمو أنفسهم، والمراد بالظلم في هذه الآية، أن الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى المدينة، ظلموا أنفسهم بتركهم الهجرة (3).   (1) انظر: هجرة الرسول وصحابته في القرآن والسنة للجمل، ص332، 333. (2) زاد المسير لابن الجوزي (2/ 97) تفسير القاسمي (3/ 399) (3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم ص 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وفي هذه الآية الكريمة وعيد للمتخلفين عن الهجرة بهذا المصير السيئ، وبالتالي التزم الصحابة بأمر الله، وانضموا إلى المجتمع الإسلامي في المدينة تنفيذاً لأمر الله وخوفاً من عقابه، وكان لهذا الوعيد أثره في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، فهذا ضمرة بن جندب لما بلغه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) وهو بمكة قال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة وكان شيخاً كبيراً، فمات بالتنعيم، ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله، ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم، أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله عنهم قالوا: ليته مات بالمدينة فنزل (1) قوله تعالى: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً - فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 98 - 99]. وهذا الموقف يرينا ما كان عليه جيل الصحابة من سرعة في امتثال الأمر، وتنفيذه في النشاط والشدة، كائنة ما كانت ظروفهم، فلا يلتمسون لأنفسهم المعاذير، ولا يطلبون الرخص (2). فهذا الصحابي تفيد بعض الروايات أنه كان مريضاً (3) إلا أنه رأى أنه ما دام له مال يستعين به، ويحمل به إلى المدينة فقد انتفى عذره، وهذا فقه أملاه الإيمان، وزكَّاه الإخلاص واليقين (4). وبعد أن ذكر الله عز وجل وعيده للمتخلفين عن الهجرة بسوء مصيرهم، استثنى في ذلك من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر، والتعرض للفتنة في الدين، والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ والضعاف والنساء والأطفال، فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته، ورحمته بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار (5) قال تعالى: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً - فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 98 - 99]. * * *   (1) روح المعاني (5/ 128، 129) للألوسي، أسباب النزول للواحدي، ص181. (2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص124 - 126. (3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص125. (4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص126. (5) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الفصل السابع دعائم دولة الإسلام في المدينة شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة يسعى لتثبيت دعائم الدولة الجديدة على قواعد متينة، وأسس راسخة، فكانت أولى خطواته المباركة الاهتمام ببناء دعائم الأمة كبناء المسجد الأعظم بالمدينة، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على الحب في الله، وإصدار الوثيقة أو الدستور الإسلامي في المدينة الذي ينظم العلاقات بين المسلمين واليهود ومشركي المدينة، وإعداد جيش لحماية الدولة، والسعي لتحقيق أهدافها، والعمل على حل مشاكل المجتمع الجديد، وتربيته على المنهج الرباني في كافة شئون الحياة فقد استمر البناء التربوي والتعليمي، واستمر القرآن الكريم يتحدث في المدينة عن عظمة الله وحقيقة الكون والترغيب في الجنة والترهيب من النار ويشرع الأحكام لتربية الأمة، ودعم مقومات الدولة التي ستحمل نشر دعوة الله بين الناس قاطبة، وتجاهد في سبيل الله. وكانت مسيرة الأمة العلمية والتربوية تتطور مع تطور مراحل الدعوة وبناء المجتمع وتأسيس الدولة. وعالج رسول الله صلى الله عليه وسلم الأزمة الاقتصادية بالمدينة من خلال المنهج الرباني. واستمر البناء التربوي ففرض الصيام، وفُرضت الزكاة وأخذ المجتمع يزدهر والدولة تتقوى على أسس ثابتة وقوية. * * * المبحث الأول الدعامة الأولى بناء المسجد الأعظم بالمدينة كان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب من أدران الأرض، وأدناس الحياة الدنيا (1).   (1) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص191، وفقه السيرة للبوطي، ص151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 روى البخاري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة راكباً راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا (1) للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمن في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل» ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما (2). وفي رواية أنس بن مالك: فكان فيه ما أقول: كان فيه نخل وقبور المشركين، وخرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فكانوا يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة (3) شرع الرسول صلى الله عليه وسلم في العمل مع أصحابه، وضرب أول معول في حفر الأساس الذي كان عمقه ثلاث أذرع، ثم اندفع المسلمون في بناء هذا الأساس بالحجارة، والجدران، التي لم تزد عن قامة الرجل إلا قليلاً، باللبن الذي يعجن بالتراب ويسوى على شكل أحجار صالحة للبناء (4) وفي الناحية الشمالية منه أقيمت ظلة من الجريد على قوائم من جذوع النخل، كانت تسمى «الصفة» أما باقي أجزاء المسجد فقد تركت مكشوفة بلا غطاء (5). أما أبواب المسجد فكانت ثلاثة: باب في مؤخرته من الجهة الجنوبية، وباب في الجهة الشرقية كان يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء باب بيت عائشة، وباب من الجهة الغربية يقال له باب الرحمة أو باب عاتكة (6). أولاً: بيوتات النبي صلى الله عليه وسلم التابعة للمسجد: وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم حُجَر حول مسجده الشريف، لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة، بل كانت بيوت من ترفع عن الدنيا وزخارفها، وابتغى الدار الآخرة، فقد كانت كمسجده مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة، وكانت سقوفها من جذوع النخل والجريد، وكانت صغيرة الفناء قصيرة البناء ينالها الغلام الفارع بيده، قال الحسن البصري- وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة-: «قد كنت أنال أول   (1) مربد، الموضع الذي يجفف فيه التمر، القاموس المحيط (1/ 304). (2) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب هجرة النبي وأصحابه (5/ 78). (3) مسلم، كتاب المساجد، باب ابتناء مسجد النبي، رقم 524. (4) انظر: البداية والنهاية (3/ 33) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، على معطي، ص156. (5) انظر: البداية والنهاية (3/ 303) محمد رسول الله لمحمد رضا، ص143. (6) انظر: التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة، علي معطي، ص157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 سقف في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بيدي» (1)، وهكذا كانت بيوت النبي صلى الله عليه وسلم في غاية البساطة، بينما كانت المدينة تشتهر بالحصون العالية التي كان يتخذها علية القوم تباهيا بها في السلم واتقاءً بها في الحرب، وكانوا من تفاخرهم بها يضعون لها أسماء كما كان حصن عبد الله بن أبي ابن سلول اسمه مزاحماً، وكما كان حصن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - اسمه فارعاً. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بيوته بذلك الشكل المتواضع، وكان باستطاعته أن يبني لنفسه قصورًا شاهقة، ولو أنه أشار إلى رغبته بذلك- مجرد إشارة- لسارع الأنصار في بنائها له، كما كان بإمكانه أن يشيدها من أموال الدولة العامة كالفيء ونحوه، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ليضرب لأمته مثلاً رفيعاً وقدوة عالية في التواضع والزهد في الدنيا، وجمع الهمة والعزيمة للعمل لما بعد الموت (2). ثانياً: الأذان في المدينة: تشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لإيجاد عمل ينبه النائم ويذكر الساهي، ويعلم الناس بدخول الوقت لأداء الصلاة، فقال بعضهم: ترفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فاعترضوا على هذا الرأي؛ لأنها لا تفيد النائم، ولا الغافل، وقال آخرون نشعل ناراً على مرتفع من الهضاب، فلم يقبل هذا الرأي أيضاً. وأشار آخرون ببوق، وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم، فكرهه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يجب مخالفة أهل الكتاب في أعمالهم، وأشار بعض الصحابة باستعمال الناقوس، وهو ما يستعمله النصارى، فكرهه الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا، وأشار فريق بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها فَقُيل هذا الرأي. وكان أحد المنادين عبد الله بن زيد الأنصاري، فبينما هو بين النائم واليقظان، إذ عرض له شخص، وقال: ألا أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة؟ قال بلى: فقال له: قل: الله أكبر، مرتين، وتشهد مرتين، ثم قل: حي علي الصلاة مرتين، ثم قل: حي على الفلاح مرتين، ثم كبر مرتين: ثم قل: لا إله إلا الله. فلما استيقظ توجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر رؤياه فقال: «إنها لرؤيا حق» ثم قال له: «لقن بلالاً فإنه أندى صوتاً منك»، وبينما بلال يؤذن للصلاة بهذا الأذان جاء عمر بن الخطاب يجر رداءه فقال: والله لقد رأيت مثله يا رسول الله. وكان بلال بن رباح أحد مؤذنيه بالمدينة، والآخر عبد الله بن أم مكتوم، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك (3)، وكان يؤذن في البداءة من مكان مرتفع ثم استحدث المنارة (المئذنة).   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، (2/ 36). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (4/ 13). (3) انظر: نور اليقين للخضري، تحقيق أحمد عبد اللطيف، ص 95، تاريخ خلفية بن خياط، ص56، نقلا عن تاريخ دولة الإسلام الأولى، د. فايد حماد عاشور، سليمان أبو عزب، ص108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ثالثاً: أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنه قام فيهم، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد: أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دون: ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قُدامه فلا يرى غير جنهم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته». ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال: «إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه أحبوا من أحبه الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله؛ يختار ويصطفي قد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله، إن الله يغضب إن نكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (1). رابعاً: الصُّفَّة التابعة للمسجد النبوي: لما تم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بأمر الله تعالى، وذلك بعد ستة عشر شهراً من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (2) بقي حائط القبلة الأولى في مؤخر المسجد النبوي، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فظلل أو سقف وأطلق عليه اسم الصفة أو الظلة (3) ولم يكن له ما يستر جوانبه (4).   (1) كذا وردت ألفاظ هاتين الخطبتين عن الإمام ابن إسحاق بالطبعة المحققة المضبوطة التي بين أيدينا وهي: السيرة النبوية لابن هشام (ق 1/ 501، 502) [انظر فهرس المراجع]، وانظر شرح الإمام السهيلي لبعض الضمائر والحروف الواردة بالخطبة الثانية؛ لتقف على المعاني المناسبة (الروض الأنف 2/ 250) "المراجع". (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 257) (3) انظر: وفاء الوفاء للسمهودي (1/ 321) (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 258). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 قال القاضي عياض: الصفة ظلة في مؤخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأوي إليها المساكين وإليها ينسب أهل الصفة (1). وقال ابن تيمية: الصفة كانت في مؤخرة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمالي المسجد بالمدينة المنورة (2). وقال ابن حجر: الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل (3). 1 - أهل الصفة: قال أبو هريرة: «وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد» (4). إن المهاجرين الأوائل الذين هاجروا قبل النبي صلى الله عليه وسلم أو معه أو بعده حتى نهاية الفترة الأولى قبل غزوة بدر، استطاع الأنصار أن يستضيفوهم في بيوتهم وأن يشاركوهم النفقة ولكن فيما بعد كبر حجم المهاجرين مما لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم (5). فقد صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه .. ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء، والآهلين والعُزَّاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه، يأوي إلى تلك الصُّفة في المسجد (6). والذي يظهر للباحث أن المهاجر الذي يقدم إلى المدينة كان يلتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يوجهه بعد ذلك إلى من يكفله فإن لم يجد فإنه يستقر في الصفة مؤقتاً ريثما يجد السبيل (7) فقد جاء في المسند عن عبادة بن الصامت، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، وكان معي في البيت أُعشيه عشاء أهل البيت، فكنت أقرئه القرآن» (8)، وقد كان أول من نزل الصفة المهاجرون (9) لذلك نسبت إليهم فقيل صفة المهاجرين (10) وكذلك كان ينزل   (1) انظر: نظام الحكومة النبوية المسمى: التراتيب الإدارية، لعبد الحي الكتاني (1/ 474). (2) الفتاوى (11/ 38). (3) انظر: فتح الباري (6/ 595)، (1/ 535). (4) البخاري رقم 6452. (5) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة للشامي، ص175. (6) الفتاوى (11/ 40،41). (7) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، ص175. (8) المسند (5/ 324). (9) انظر: وفاء الوفاء السمهودي، (1/ 323). (10) سنن أبي داود (2/ 361). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 بها الغرباء من الوفود التي كانت تقدم على النبي صلى الله عليه وسلم معلنة إسلامها وطاعتها (1) وكان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له عريف نزل عليه وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة (2) وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - عريف من سكن الصفة من القاطنين، ومن نزلها من الطارقين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد دعوتهم عهد إلى أبي هريرة فدعاهم لمعرفته بهم، وبمنازلهم ومراتبهم في العبادة والمجاهدة (3) ونزل بعض الأنصار في الصفة حباًّ لحياة الزهد والمجاهدة والفقر، رغم استغنائهم عن ذلك ووجود دار لهم في المدينة ككعب بن مالك الأنصاري، وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة) وحارثة بن النعمان الأنصاري وغيرهم (4). 2 - نفقة أهل الصفة ورعاية النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لهم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهد أهل الصفة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم، كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم ويعلمهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته، وذكر الله والتطلع إلى الآخرة (5). وكان صلى الله عليه وسلم يؤمن نفقتهم بوسائل متعددة ومتنوعة فمنها: * إذ أتته صلى الله عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها. * كثيراً ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أمهات المؤمنين رضي الله عنهم، ولم يكن يغفل عنهم مطلقاً، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، فعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس» أو كما قال، وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة (6). * وكما كان صلى الله عليه وسلم يقدم حاجتهم على غيرها مما يطلب منه، فقد أتى بسبي مرة فأتته فاطمة رضي الله عنها تسأله خادماً، فكان جوابه كما في المسند عند الإمام أحمد: «والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونُهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم» (7).   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 258). (2) نفس المصدر (1/ 259). (3) المصدر نفسه. (4) المصدر نفسه. (5) المصدر السابق (1/ 266). (6) البخاري رقم 3581، ومسلم برقم 2057. (7) أصل الحديث في البخاري برقم 3113، وهذا لفظ المسند (1/ 106، مرقم 838). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 3 - انقطاعهم للعلم والعبادة والجهاد: كان أهل الصفة يعتكفون في المسجد للعبادة، ويألفون الفقر والزهد فكانوا في خلواتهم يصلون ويقرأون القرأن ويتدارسون آياته ويذكرون الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت - رضي الله عنه -؛ لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة (1)، واشتهر بعضهم بالعلم وحفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي هريرة - رضي الله عنه - عرف بكثرة تحديثه، وحذيفة بن اليمان الذي اهتم بأحاديث الفتن. وكان أهل الصفة يشاركون في الجهاد، بل كان منهم الشهداء كما كانوا رهباناً بالليل فرساناً في النهار (2)، وكان بعض الصحابة قد اختاروا المكوث في الصفة رغبة منهم لا اضطرارا، كأبي هريرة - رضي الله عنه - فقد أحب أن يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعوض ما فاته من العلم والخير، فقد جاء إلى المدينة بعد فتح خيبر في العام السابع، وحرص على سماع أكبر قدر ممكن من حديثه صلى الله عليه وسلم ومعرفة أحواله وتبركا بخدمته صلى الله عليه وسلم وهذا لا يتوفر له إلا إذا كان قريباً من بيت النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الصفة هي المكان الوحيد الذي يؤمن له ذلك، ولنستمع إليه يوضح لنا ذلك، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: «إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفْقٌ الأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة أعي حين ينسون» (3) وهكذا يوضح - رضي الله عنه - أنه فعل ذلك رغبة منه في ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن أبا هريرة كان له سكن في المدينة، وهو المكان الذي تسكنه أمه، والتي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالهداية (4) ثم إن أبا هريرة لم يكن فقيراً معدماً، ففي أول يوم قدم فيه على النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر أسهم له صلى الله عليه وسلم من الغنيمة، كما أنه لما قدم كان معه عبد يخدمه كما ورد في الصحيح (5) وإذن فالذي أفقره هو إيثاره ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم واستماع أحاديثه، وكان يستطيع الاستغناء عن الصُّفة لو أراد (6). كان أهل الصفة يكثرون ويقلون بحسب تبدل الأحوال التي تحيط بأهل الصُّفة من عودة الأهل، أو زوج، أو يسر بعد عَسر، أو شهادة في سبيل الله. ولم يكن فقرهم لقعودهم عن العمل وكسب الرزق، فقد ذكر الزمخشري أنهم كانوا يرضخون النوى بالنهار، ويظهر أنهم كانوا يرضخون النوى- يكسرونه- لعلف الماشية وهم ليسوا أهل ماشية، فهم إذن يعملون لكسب الرزق (7).   (1) سنن أبي داود (2/ 237) وابن ماجه (2/ 730). (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 264). (3) البخاري رقم 2047، مسلم رقم 2492. (4) مسلم برقم 2491. (5) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، ص184 .. (6) نفس المصدر، ص184. (7) انظر: المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي لشراب (1/ 222). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 4 - عددهم وأسماؤهم: كان عددهم يختلف باختلاف الأوقات، فهم يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة ويقلون إذا قل الطارقون من الغرباء على أن عدد المقيمين منهم في الظروف العادية كان في حدود السبعين رجلاً (1)، وقد يزيد عددهم كثيراً حتى أن سعد بن عبادة كان يستضيف وحده ثمانين منهم، فضلاً عن الآخرين الذين يتوزعهم الصحابة (2)، ومن أراد الوقوف على بعض أسمائهم فليرجع إلى كتب السيرة (3). وقد وقع بعض الباحثين في خطأ فادح حين استدل بعضهم على مشروعية مسلك بعض المنحرفين من المتصوفة، من حيث ترك العمل والإخلاد إلى الراحة والكسل، والمكوث في الزوايا والتكايا، بحجة التوكل بحال أهل الصفة (4). إن أبا هريرة، وهو أكثر ارتباطاً بالصفة من غيره لم يستمر فيها وخرج إلى الحياة، بل أصبح أميراً في بعض أيامه على البحرين في عهد عمر بن الخطاب، ولم يكن مخشوشنا في حياته (5) بل إن أهل الصفة كانوا من المجاهدين في سبيل الله في ساحات القتال، وقد استشهد بعضهم كما ذكرت. خامسًا: فوائد ودروس وعبر: 1 - المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع: إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك، بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك من روح المسجد ووحيه (6). قال تعالى: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108]. قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ - رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ - لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور: 36 - 38].   (1) انظر: أبو نعيم الحلية (1/ 339: 341). (2) نفس المصدر (1/ 341). (3) على سبيل المثال: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 262، 263). (4) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، ص186. (5) نفس المصدر، ص188. (6) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص203، بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 2 - المسجد رمز لشمولية الإسلام: أ- حيث أنشئ ليكون متعبداً لصلاة المؤمنين وذكرهم الله تعالى وتسبيحهم له، وتقديسهم إياه بحمده وشكره على نعمه عليهم، يدخله كل مسلم، ويقيم فيه صلاته وعبادته ولا يضاره أحد، ما دام حافظاً لقداسته ومؤدياًّ حق حرمته» (1). ب- كما «أنشئ ليكون ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه والوافدين عليه، طلباً للهداية ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته» (1). ج- وهو قد أنشئ ليكون جامعة للعلوم والمعارف الكونية والعقلية والتنزيلية، التي حث القرآن الكريم على النظر فيها، وليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم وثمرات عقولهم، ومعهدا يؤمه طلاب العلم من كل صوب، ليتفقهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل (1). د- وهو قد أنشئ ليجد فيه الغريب مأوى، وابن السبيل مستقراً لا تكدره منَّة أحد عليه فينهل من رفده ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي، لا يصده أحد عن علم أو معرفة أو لون من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرج فيه، وبرزت بطولته بين جدرانه، وكم من عالم استبحر علمه في رحابه، ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة، وكم من داعٍ إلى الله تلقى في ساحاته دروس الدعوة إلى الله فكان أسوة الدعاة، وقدوة الهداة، وريحانة جذب القلوب شذاها فانجفلت تأخذ عنها الهداية لتستضيء بأنوارها» (2) وكم من أعرابي جلف لا يفرق بين الأحمر والأصفر، وفد عليه فدخله ورأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله هالة تحف به، يسمعون منه وكأن على رؤوسهم الطير، فسمع معهم وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقل وفقه، واهتدى واستضاء، ثم عاد إلى قومه إماماً يدعوهم إلى الله، ويربيهم بعلمه الذي علم، وسلوكه الذي سلك فآمنوا بدعوته، واهتدوا بهديه، فكانوا سطراً منيراً في كتاب التاريخ الإسلامي» (3). هـ- وهو «قد أنشئ ليكون قلعة لاجتماع المجاهدين إذا استنفروا، تعقد فيه ألوية الجهاد، والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات للتوجه إلى مواقع الأحداث، وفي   (1) محمد رسول الله، محمد عرجون (3/ 33). (2) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/ 34). (3) المصدر السابق، (3/ 34، 35). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ظلها يقف جند الله في نشوة ترقب النصر أو الشهادة (1). ووهو «قد أنشئ ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركناً في زواياه، ليكون مشفى يستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد ليتمكن نبي الله صلى الله عليه وسلم من عبادتهم، والنظر في أحوالهم والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقة ولا نصب تقديراً لفضلهم (1). ز- وهو «قد أنشئ ليكون مبرداً لبريد الإسلام منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلماً أو حرباً وفيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه ينعى المستشهدون في معارك الجهاد ليتأسى بهم المتأسون وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون (1). ح- وهو «قد أنشئ ليكون مرقباً للمجتمع المسلم، يتعرف منه على حركات العدو المريبة ويرقبها ولا سيما الأعداء الذين معه يساكنونه ويخالطونه في بلده من شراذم اليهود وزمر المنافقين ونفايات الوثنية، الذين عَسَوا (2) في الشرك فلم يتركوه، ليحذر المجتمع المسلم عاقبة كيدهم وسوء مكرهم وتدبيرهم، ويأمن مغبة غدرهم وخياناتهم» (3). فالمسجد النبوي «بدأ بتأسيسه وبنائه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ من عمل في مستقره ودار هجرته في مطلع مقدمه ليكون نموذجا يحتذى به في بساطة المظهر، وعمق وعموم المخبر، ليحقق به أعظم الأهداف وأعمها، بأقل النفقات وأيسر المشقات» (4). 3 - التربية بالقدوة العملية: من الحقائق الثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك أصحابه العمل والبناء، فكان يحمل الحجارة وينقل اللبن على صدره وكتفيه، ويحفر الأرض بيديه كأي واحد منهم، فكان مثال الحاكم العادل الذي لا يفرق بين رئيس ومرؤوس، أو بين قائد ومقود، أو بين سيد ومسود، أو بين غني وفقير، فالكل سواسية أمام الله، لا فرق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، ذلك هو الإسلام عدالة ومساواة في كل شيء، والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة العامة، وبهذا الفضل ثواب من الله، والرسول صلى الله عليه وسلم كغيره من المسلمين لا يطلب إلا ثواب الله (5) فقد كانت مشاركة   (1) انظر المصدر السابق (3/ 53). (2) عَسَوا: أَسنوا وكَبِروا. (3) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/ 36) عَسَوا: أسنُّوا وكبروا. (4) محمد رسول الله، (3/ 33). (5) انظر: التاريخ الإسلامي والعسكري، د. علي معطي، ص158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 النبي صلى الله عليه وسلم في عملية البناء ككل العمال الذين شاركوا فيه، وليس بقطع الشريط الحريري فقط، وليس بالضربة الأولى بالفأس فقط، بل غاص بعلمية البناء كاملة، فقد دهش المسلمون من النبي صلى الله عليه وسلم وقد علته غبرة، فتقدم أسيد بن حضير - رضي الله عنه - ليحمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطنيه؟ فقال: «اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني» (1) فقد سمع المسلمون ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه، فازدادوا نشاطا واندفاعا في العمل (2). إنه مشهد فريد من نوعه ولا مثيل له في دنيا الناس، وإذا كان الزعماء والحكام قد يقدمون على المشاركة أحياناً بالعمل لتكون شاشات التلفزيون جاهزة لنقل أعمالهم، وتملأ الدنيا في الصحف ووسائل الإعلام كلها بالحديث عن أخلاقهم وتواضعهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينازع الحجر أحد أفراد المسلمين، ويبين له أنه أفقر إلى الله تعالى، وأحرص على ثوابه منه. وقد تفاعل الصحابة الكرام تفاعلاً عظيماً في البناء وأنشدوا هذا البيت: لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل (3) إن هذه التربية العملية لا تتم من خلال الموعظة، ولا من خلال الكلام المنمق، إنما تتم من خلال العمل الحي الدؤوب، والقدوة المصطفاة من رب العالمين، والتي ما كان يمكن أن تتم في أجواء مكة، والملاحقة والاضطهاد والمطاردة فيها إنما تتم في هذا المجتمع الجديد والدولة التي تبني وكأنما غدا هذا الجميع من الصحابة الكرام كله صوتاً واحداً، وقلباً واحداً، فمضى يهتف: اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فانصر الأنصار والمهاجرة ويهتف بلحن واحد: لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل وكان الهتاف الثالث: هذي الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر لربنا وأطهر (4) فأحمال التمر والزبيب من خيبر إلى المدينة كانت لها مكانتها في المجتمع اليثربي أصبحت لا تذكر أمام حمل الطوب لبناء المسجد النبوي العظيم، فقد أيقنوا: (مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا   (1) انظر: صور من حياة الرسول، أمين دويدار، ص261. (2) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص158. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 496). (4) انظر: التربية القيادية (2/ 249). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 عِنْدَ اللهِ بَاقٍ) [النحل: 96]. وأما الهتاف الرابع: لا يستوي من يعمر المساجدا ... بدأب فيه قائماً وقاعداً ومن يرى عن الغبار حائدا (1) 4 - الاهتمام بالخبرة والاختصاص: ورد في بعض الروايات اسم الصحابي (طلق بن علي اليمامي الحنفي) - رضي الله عنه -،أنه كان يحسن خلط الطين عند بناء المسجد النبوي الشريف، ومن أمثل هذه الروايات ما جاء في (جامع الأصول) لابن الأثير بعد أن أورد حديث البخاري في كتاب الصلاة - باب التعاون في بناء المسجد، برقم (447)، وفي كتاب الجهاد باب - مسح الغبار عن الرأس .. برقم (2812)، قال ابن الأثير: قال رزين: وجاء رجل كان يحسن عجن الطين، وكان من حضرموت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله امرءاً أحسن صنعته" وقال له: "الزم أنت الشغل فإني أراك تحسنه" (2). فقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوافد الجديد على المدينة، والذي لم يكن من المسلمين الأوائل، ووظف خبرته في خلط الطين، وفي قوة العمل، وهو درس للمسلمين في الثناء على الكفاءات والاستفادة منها، وإرشاد نبوي كريم في كيفية التعامل معها وما أحوجنا إلى هذا الفهم العميق (3). 5 - شعار الدولة المسلمة: إن أذان الصلاة شعار لأول دولة إسلامية عالمية: (الله أكبر، الله أكبر) إنها تعني أن الله   (1) المصدر السابق نفسه: (2/ 249). (2) انظر: جامع الأصول لابن الأثير، تحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط (جـ 11/ 184، ح رقم 8716) أما عن الروايات الأخرى التي ورد فيها ذكر عجن الطين وإحسانه له؛ ففي أسانيدها كلام للعلماء، يمكن الرجوع إليها في: الرواية الأولى من مجمع الزوائد (2/ 9) مع ملاحظة أن الإمام الهيثمي عزاه للإمام أحمد، وللطبراني في الكبير، ووثق رجاله، ولم أجده في مسند الإمام أحمد في مسند سيدنا طلق كله، وأيضاً لم أجده في الطبراني في الكبير في مسند سيدنا طلق بهذا اللفظ، وإنما بألفاظ أخرى وأرقام الطبراني هي (8233 - 8263) (جـ 8/ 396 - 406). وارجع أيضاً إلى: سنن الدارقطني -تعليق أبي الطيب العظيم أبادي (جـ 1/ 148، 149 ح رقم 14)، الإصابة لابن حجر عند ترجمة سيدنا طلق برقم (4302)، المغازي للذهبي- تحقيق د. عمر عبد السلام تدمري (ص37)، طبقات ابن سعد (5/ 552) - "المراجع". (3) انظر: التربية القيادية (2/ 252). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 أكبر من أولئك الطغاة، وأكبر من صانعي العقبات، وهو الغالب على أمره. (أشهد أن لا إله إلا الله) أي لا حاكمية ولا سيادة ولا سلطة إلا لله رب العالمين (إن الحكم إلا لله) فمعنى لا إله إلا الله: لا حاكم ولا آمر ولا مشرع إلا الله. (أشهد أن محمدًا رسول الله) أسلمه الله تعالى القيادة، فليس لأحد أن ينزعها منه، فهو ماضٍ بها إلى أن يكمل الله دينه بما ينزله على رسوله من قرآن، وبما يلهمه إياه من سنة (1)، ويعني الاعتراف لرسول الله بالرسالة والزعامة الدينية والدنيوية والسمع والطاعة له (2). (حي على الصلاة، حي على الفلاح) أقبل يا أيها الإنسان للانضواء تحت لواء هذه الدولة التي أخلصت لله، وجعلت من أهدافها تمتين العلاقة بين المسلم وخالقه، وتمتين العلاقة بين المؤمنين على أساس من القيم السامية. (قد قامت الصلاة) وقد اختيرت الصلاة من بين سائر العبادات؛ لأنها عماد الدين كله؛ ولأنها بما فيها من الشعائر كالركوع والسجود والقيام أعظم مظهر لمظاهر العبادة بمعناها الواسع التي تعني: الخضوع والتذلل والاستكانة، فهي خضوع ليس بعده خضوع، فكل طاعة لله على وجه الخضوع، والتذلل، فهي عبادة، فهي طاعة العبد لسيده، فيقف بين يديه قد أسلم نفسه طاعة وتذللاً قال تعالى: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [غافر: 16]. وهذا الارتباط بين شعار الدولة الرسمي بحاكمية الله وسيادة الشرع، وسقوط الطواغيت، وقوانينهم، وأنظمتهم وشرائعهم بـ (حي على الفلاح .. قد قامت الصلاة) يشير إلى أنه لا قيام للصلاة، ولا إقامة لها كما ينبغي إلا في ظل دولة تقوم عليها وتقوم بها ولها، فقد كان المسلمون يصلون خفية في شعاب مكة قبل قيام دولتهم، أما وقد قامت تحت حماية سيوف الأنصار، فليجهروا بالأذان، والإقامة، وليركعوا وليسجدوا لله رب العالمين. إن الواقع التاريخي خير شاهد على أن الله لا يعبد في الأرض حق عبادته إلا في ظل دولة قوية تحمي رعايها من أعداء الدين. ثم تتكرر كلمات الأذان (الله أكبر .. الله أكبر) للتأكيد على المعاني السابقة (3). إننا بحاجة ماسة لفهم الأذان، وإدراك معانيه والعمل على ترجمته ترجمة عملية، لنجاهد في الله حق جهاده، حتى ندمر شعارات الكفر، ونرفع شعارات الإيمان، ونقيم دولة التوحيد التي تحكم بشرع الله ومنهجه القويم.   (1) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص114. (2) انظر: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين، كامل سلامة الدقس، ص438. (3) انظر: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين، ص439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 6 - فضائل المسجد النبوي: تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن فضائل المسجد النبوي؛ ولذلك تعلق الصحابة به ويمكننا الرجوع إلى صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما؛ للوقوف على هذه الفضائل الميمونة. وسنذكر هنا حديثًا واحدًا لمعناه العميق الذي نحتاجه ونستمسك به وهو عن: 7 - فضل التعلم والتعليم في المسجد النبوي: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو يعمله كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له» (1). * * * المبحث الثاني المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كان من أولى الدعائم التي اعتمدها الرسول صلى الله عليه وسلم في برنامجه الإصلاحي، والتنظيمي للأمة وللدولة والحكم، الاستمرار في الدعوة إلى التوحيد والمنهج القرآني، وبناء المسجد، وتقرير المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وهي خطوة لا تقل أهمية عن الخطوة الأولى في بناء المسجد لكي يتلاحم المجتمع المسلم ويتآلف وتتضح معالم تكوينه (2) الجديد. كان مبدأ التآخي العام بين المسلمين قائما منذ بداية الدعوة في عهدها المكي، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل ما يؤدي إلى التباغض بين المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (3). وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه (4) ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة (5) فرج الله- عز وجل- عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» (6). وقد أكد القرآن الكريم الأخوة العامة بين أبناء الأمة في قوله تعالى:   (1) انظر: المصنف لأبي شيبة (2/ 371)، (12/ 209) رقم 12567، وفي رواية الحاكم قال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة)، وأقره الذهبي. انظر: تلخيص المستدرك (1/ 91). (2) انظر: الإدارة الإسلامية في عصر عمر بن الخطاب، د. مجدلاوي، ص52، 53. (3) البخاري، رقم 6065، مسلم رقم 24. (4) أي لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه. (5) كربة: أي غمة. (6) البخاري، رقم 2442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103]. وقوله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63]. أما موضوع هذا البحث فهو المؤاخاة الخاصة التي شرعت وترتبت عليها حقوق وواجبات أخص من الحقوق والواجبات العامة بين المؤمنين كافة (1). وقد تحدث بعض العلماء عن وجود مؤاخاة كانت في مكة بين المهاجرين، فقد أشار البلاذري إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر، وبين عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال الحبشي، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيد الله، وبينه وبين علي بن أبي طالب (2) ويعتبر البلاذري (ت276 هـ) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البر (ت463 هـ) دون أن يصرح بالنقل عنه، كما تابعهما ابن سيد الناس دون التصريح بالنقل عن أحدهما (3)، وقد أخرج الحاكم في المستدرك من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر: «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان» (4) وعن ابن عباس: «آخى النبي صلى الله عليه وسلم بن الزبير وابن مسعود» (5). وذهب كل من ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة، فقال ابن القيم: «وقد قيل إنه- أي النبي صلى الله عليه وسلم- آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها عليا أخا لنفسه، والثبت الأول (6)، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار وقرابة النسب، عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار» (7) أما ابن كثير فقد ذكر أن   (1) انظر:/ السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 240). (2) البلاذري: أنساب الأشراف (1/ 270). (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 240). (4) نفس المصدر (1/ 240). (5) فتح الباري (7/ 304) (6) يعني المؤاخاة في المدينة. (7) زاد المعاد (2/ 79). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 من العلماء من ينكر هذه المؤاخاة لنفس العلة التي ذكرها ابن القيم (1). لم تشر كتب السيرة الأولى المختصة إلى وقوع المؤاخاة بمكة، والبلاذري ساق الخبر بلفظ (قالوا) دون إسناد مما يضعف الرواية، كما أن البلاذري نفسه ضعف النقاد، وعلى فرض صحة هذه المؤاخاة بمكة فإنها تقتصر على المؤازرة والنصيحة بين المتآخين دون أن تترتب عليها حقوق التوارث (2). أولاً: المؤاخاة في المدينة: ساهم نظام المؤاخاة في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الذي تذوب فيه عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً، وعملا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر. وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال (3). والسبب الذي أدى إلى تقوية هذه الأخوة بين المهاجرين والأنصار هو أن أهل هذا المجتمع ممن التقوا على دين الله وحده، نشّأهم دينهم الذي اعتنقوه على أن يقولوا ويفعلوا، وعلّمهم الإيمان والعمل جميعًا، فهم أبعد ما يكونون عن الشعارات التي لا تتجاوز أطراف الألسنة، وكانوا على النحو الذي حكاه الله عنهم في قوله تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51]. وبذلك الذي درج عليه المسلمون كفل البقاء والاستمرار لهذه الأخوة، التي شد الله بها أزر دينه ورسوله حتى آتت ثمارها في كل أطوار الدعوة طوال حياته صلى الله عليه وسلم، وامتد أثرهاحتى وفاته صلى الله عليه وسلم، وبقيت هذه المؤاخاة عند مبايعة الصديق - رضي الله عنه - ولم يحدث الأنصار صدعًا في شمل الأمة، مستجيبين في ذلك لشهوات السلطة وغريزة السيطرة، ذلك فإن سياسة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، نوع من السبق السياسي الذي اتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأصيل المودة وتمكينها في مشاعر المهاجرين والأنصار، الذين سهروا جميعا على رعاية هذه المودة   (1) انظر: السيرة النبوية لابن كثير. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 241). (3) انظر: فقه السيرة للغزالي ص 193، 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وذلك الإخاء، بل كانوا يتسابقون في تنفيذ بنوده (1). ولا سيما الأنصار الذين لا يجد الكتاب والباحثون مهما تساموا إلى ذروة البيان خيرا من حديث الله عنهم (2) قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]. * بعض أسماء المهاجرين والأنصار ممن تآخوا في الله: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وخارجة بن زهير، عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، أبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ، عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، الزبير بن العوام وسلامة بن سلامة بن وقش، طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، سعيد بن زيد وأبي بن كعب، مصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعباد بن بشر بن وقش، عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، أبو ذر الغفاري والمنذر بن عمرو، حاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة، سلمان الفارسي وأبو الدرداء، بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي (3). ثانيًا: الدروس والعبر والفوائد: 1 - آصرة العقيدة هي أساس الارتباط: إن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقديُّا يرتبط بالإسلام ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه، إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح (4). إن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين من أهم الآثار والنتائج المترتبة على الهجرة، وكان القرآن الكريم يربي المسلمين على هذه المعاني الرفيعة، فقد بين الحق سبحانه وتعالى أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لما فارق الحق وكفر بالله ولم يتبع نبي الله. قال تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ - قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ   (1) انظر: فصول في السيرة النبوية، د. عبد المنعم السيد، ص200. (2) انظر: هجرة الرسول وصحابته في القرآن السنة للجمل، ص245. (3) انظر: ابن هشام (2/ 109: 111) السيرة النبوية لابن كثير (2/ 324). (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 252). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الْجَاهِلِينَ) [هود: 45،46]. وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10]. وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى، حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم، ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم، مما يدل على أن موالاة المؤمنين للكافرين، من أعظم الذنوب قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة: 23]. فإذا كان الله سبحانه يحذر المؤمنين في الآيات السابقة من موالاة الكفار عامة، فهناك آيات كثيرة وردت في تحذير المؤمنين ونهيهم عن طاعة أهل الكتاب خاصة، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم (1). قال تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) [البقرة: 120]. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران: 100]. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 51]. وحدد المولى عز وجل للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان وبين لهم من يتولون قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 55 - 56]. فقد فهم الصحابة أن ولاءهم لا يكون إلا لقيادتهم، وإخلاصهم لا يكون إلا لعقيدتهم، وجهادهم لا يكون إلا لإعلاء كلمة الله، فحققوا ذلك كله في أنفسهم وطبقوه على حياتهم فمحضوا ولاءهم وجعلوه لله ورسوله والمؤمنين، وأصبح تاريخهم حافلاً بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم العميق لمعنى الولاء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وعقيدتهم وإخوانهم. إن التآخي الذي تم بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بعقيدة تم اللقاء عليها، والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم، خصوصاً إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية، ولذلك كانت العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى هي   (1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي جزولي، ص417. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء، والتعاون والإيثار بين أناس فرقتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكا لأنانيته وأثرته وأهوائه (1). 2 - الحب في الله أساس بنية المجتمع المدني: إن المؤاخاة على الحب في الله من أقوى الدعائم في بناء الأمة المسلمة، فإذا وهت يتآكل كل بنيانها (2) ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعميق معاني الحب في الله في المجتمع المسلم الجديد فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (3). وكان للحب في الله أثره في المجتمع المدني الجديد، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92] قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وإن أحب أموالي إلي (بيرحاء) وإنها صدقة لله أرجو برها، وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة، أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (4). وهذا عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يحدثنا عن هذه المعاني الرفيعة حيث قال: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت (5) تزوجتها، قال: فقال عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع (6) فغدا إليه عبد الرحمن ... إلى آخر الحديث (7).   (1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص156. (2) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/ 129). (3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب رقم الحديث 2566. (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 254) (5) نزلت لك عنها: أي طلقتها لأجلك، فإذا حلت: أي انقضت عدتها. (6) قينقاع قبيلة من اليهود نسب السوق إليهم. (7) البخاري، كتاب البيوع، رقم 2048. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 3 - النصيحة بين المتآخين في الله: فقد كان للمؤاخاة أثر في المناصحة بين المسلمين فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل، فإني صائم قال: ما أنا بآكل حتى تأكل قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال سلمان: إن لربك عليك حقاَّ، ولنفسك عليك حقاًّ، ولأهلك عليك حقاًّ، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان» (1). 4 - لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم: كان الأنصار قد واسوا إخوانهم المهاجرين بأنفسهم وزادوا على ذلك بأن آثروهم على أنفسهم بخير الدنيا، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: «لا» فقالوا: تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا) (2). فهذا الحديث يفيد أن الأنصار عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى قسمة أموالهم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، وقد كانت أموالهم هي النخيل، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أمرا تكون فيه المواساة من غير إجحاف بالأنصار، بزوال ملكية أموالهم منهم، فقال الأنصار للمهاجرين: تكفوننا المؤونة- أي العمل في النخيل من سقيها وإصلاحها- ونشرككم في الثمرة، فلما قالوا ذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الرأي ضمن سد حاجة المهاجرينن مع الإرفاق بالأنصار فأقرهم على ذلك فقالوا جميعا: سمعنا وأطعنا (3). وقد قام الأنصار بالمؤونة وأشركوا المهاجرين في الثمرة، ولعل المهاجرين كانوا يساعدونهم في العمل، ولكن أكثر العمل عند الأنصار، وقد شكر المهاجرون للأنصار فعلهم ومواقفهم الرفيعة في الإيثار والكرم، وقالوا: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، ولقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ (4) حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: «لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله عز وجل لهم» (5).   (1) صحيح البخاري، كتاب الصوم، رقم 1968 (4/ 209). (2) صحيح البخاري، المزارعة رقم 2325. (3) انظر: التاريخ الإسلامي (4/ 30). (4) يعني كفونا العمل وأشركونا في الثمرة. (5) مسند أحمد (3/ 200، 201) ابن أبي شيبة (9/ 68) رقم 6561. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وفي إشارة المهاجرين إلى الأجر الأخروي بيان لعمق تصورهم للحياة الآخرة، وهيمنة هذا التصور على تفكيرهم (1). وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئ الأنصار على تلك المكارم العظيمة التي قدموها لإخوانهم المهاجرين، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال: «إمَّا لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم بعدي أثرة» (2). لقد حققت المؤاخاة أهدافها، فمنها إذهاب وحشة الغربة للمهاجرين ومؤانستهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، وشد أزر بعضهم بعضاً، ومنها نهوض الدولة الجديدة، لأن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة، لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية، لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة (3). 5 - الإرث بالمؤاخاة: لم يعرف تاريخ البشر كله حادثاً جماعياًّ كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الفعالة وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأخوة مسئولية حقيقة تشيع بين هؤلاء الإخوة «جعل الله سبحانه وتعالى حق الميراث منوطاً بهذا التآخي، دون حقوق القرابة والرحَم فقد كان من حكمة التشريع أن تتجلى الأخوة الإسلامية حقيقة محسوسة في أذهان المسلمين وأن يعلموا أن ما بين المسلمين من التآخي والتحابب ليس شعارا وكلاما مجردين» (4)، والفترة الأولى من الهجرة وضعت كلاًّ من الأنصار والمهاجرين أمام مسئولية خاصة من التعاون والتناصر والمؤانسة، بسبب مفارقة المهاجرين لأهلهم، وتركهم ديارهم وأموالهم في مكة ونزولهم ضيوفاً على إخوانهم الأنصار في المدينة، فكان من إقامة الرسول صلى الله عليه وسلم من التآخي بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسئولية، ولقد كان من مقتضى هذه المسئولية أن يكون هذا التآخي أقوى في حقيقته وأثره من أُخوة الرحم المجردة، فلما استقر أمر المهاجرين في المدينة وتمكن الإسلام فيها، غدت الروح الإسلامية هي وحدها العصب الطبيعي للمجتمع الجديد في المدينة. فلما ألف المهاجرون جو المدينة وعرفوا مسالك الرزق فيها، وأصابوا من غنائم بدر   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 406). (2) صحيح البخاري، مناقب الأنصار رقم 3794. (3) في ظلال القرآن (6/ 3526) (4) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص211، 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 الكبرى بما كفاهم، رجع التوارث إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة البشرية على أساس صلة الرحم، وأبطل التوارث بين المتآخين، وذلك بنص القرآن الكريم فقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال: 75]. فهذه الآية نسخت التوارث بموجب نظام المؤاخاة (1) وبقيت النصرة والرفادة والنصيحة بين المتآخين (2) فقد بين حبر الأمة ابن عباس ذلك عند قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) [النساء: 33] أنه قال: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ) قال: ورثة (والذين عاقدت إيمانكم) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ) نسخت، ثم قال: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) (3) من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له (4). 6 - قيم إنسانية ومبادئ مثالية: من خلال الروابط الوثيقة التي ألفت بين المهاجرين والأنصار أُرسيت قيم إنسانية واجتماعية ومبادئ مثالية لا عهد للمجتمع القبلي بها، وإنما هي من شأن المجتمعات المتحضرة الفاضلة. 7 - تذويب الفوارق الإقليمية والقبلية: إن القضاء على الفوارق الإقليمية والقبلية ليست بالأمر الهين في المجتمعات الجاهلية، حيث العصبية هي الدين عندهم، وعملية المؤاخاة تهدف إلى إذابة هذه الفوارق بصورة واقعية منطلقة من قلب البيئة الجاهلية. إن من الأمراض في الصف الإسلامي المعاصر سيطرة الروح الإقليمية والعصبية في نفوس بعض الدعاة وهذه الأمراض تحيل بينهم وبين التمكين وتضعف الصفوف بل تشتتها وينشغل الصف بنفسه عن أهدافه الكبار،   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، (1/ 246). (2) انظر: التاريخ الإسلامي (4/ 25). (3) هذه الجملة من رواية الطبري بنفس إسناد البخاري (فتح الباري 8/ 249). (4) صحيح البخاري، كتاب التفسير رقم 4580. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وقد تولد هذا عن أمراض في نفوس بعض الأفراد بسبب بعدهم عن القرآن الكريم، وسنة سيد المرسلين، فلم يتربوا عليها ولذلك كثر التناحر والتباغض. إن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى مثل هذه المؤاخاة التي حدثت بين المهاجرين والأنصار؛ لأنه يستحيل أن تستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذ لم تتخلق المجتمعات الإسلامية بهذه الأخلاق الكريمة، وترتقي إلى هذا المستوى الإيماني الرفيع وإلى هذه التضحيات الكبيرة. 8 - المؤاخاة بين المسلمين من أسباب التمكين المعنوية: إن من أسباب التمكين المعنوية العمل على تربية الأفراد تربية ربانية، وإعداد القيادة الربانية، ومحاربة أسباب الفُرقة، والأخذ بأصول الوحدة والاتحاد (1). وأهم أصول الوحدة والاتحاد، وحدة العقيدة، صدق الانتماء إلى الإسلام طلب الحق والتحري في ذلك وتحقيق الأخوة بين أفراد المسلمين. قال تعالى: (وَإِن يُّرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ - وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 62 - 63]. وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10]. ولا يذوق حلاوة الإيمان إلا من أشرب هذه الأخوة، قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يقذف في النار» (2). إن الأخوة في الله من أهم الأسباب التي تعمل على الصمود في وجه أعتى المحن التي تنزل بالمسلمين، كما أن الفهم المتبادل والكامل للأخوة في الله، من أسباب تماسك صفوف المسلمين وقوتهم، ومن أسباب شموخهم والتمكين لهم (3). 9 - من فضائل الأنصار: أ- تسمية الله لهم «الأنصار»: سماهم الله ورسوله بهذا الاسم حين بايعوا على الإسلام، وقاموا   (1) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم للصلابي، ص253. (2) انظر: البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (1/ 11). (3) انظر: نظرات في رسالة التعاليم، محمد عبد الله الخطيب، محمد عبد الحليم حامد 262، بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 بإيواء المؤمنين ونصرة دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا معروفين بذلك من قبل (1) فعن غيلان بن جرير رحمه الله قال: قلت لأنس: أرأيت اسم (الأنصار) كنتم تسمون به، أم سماكم الله؟ قال: سمانا الله (2) عز وجل. أما مناقبهم وفضائلهم فكثيرة لا تحصى، منها مناقب عامة لجميع الأنصار، ومناقب خاصة بأفراد من الأنصار، أما المناقب العامة الواردة في القرآن الكريم ما يلي: * فقد وصفهم المولى عز وجل بأنهم من المؤمنين حقا، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 74]. * وبشرهم ربهم برضاه عنهم، وامتدح رضاءهم عنه، فقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]. * ووصفهم المولى عز وجل بالفلاح قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]. وأما الأحاديث التي تحدثت عن مآثر الأنصار فمنها: - حب النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: عن أنس - رضي الله عنه - قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين- قال: حسبت أنه قال: من عرس- فقام النبي صلى الله عليه وسلم مُمْثِلا ً (3) فقال: «اللهم أنتم من أحب الناس إلي» قالها ثلاث (4) مِرار. ب- حب الأنصار علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» (5). جـ- الشهادة لهم بالعفاف والصبر: العفة والصبر شيمتان كريمتان تدلان على أصالة معدن المتخلق بهما، وتمام مروءته، وكمال رجولته وفتوته، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار بهما، وما أعظمها شهادة وما أعظمه من شاهد فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يضر امرأة نزلت بين بيتين من الأنصار أو نزلت بين أبويها» (6). د- رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في الانتساب إليهم لولا الهجرة: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن الأنصار سلكوا واديًا أو شِعْباً لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار» (7). هـ - دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة لهم ولأبنائهم وأزواجهم ولذراريهم:   (1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، عبد الرحمن البر، ص131: 135. (2) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب الأنصار، رقم 3776. (3) مُمْثِلاً: يعني انتصب قائمًا. (4) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3785. (5) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3783. (6) رواه أحمد (6/ 257) مجمع الزوائد (10/ 40) الحاكم (4/ 83). (7) البخاري، مناقب الأنصار (6/ 112) رقم 3779. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 لا شك أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم مستجاب، فقد فاز الأنصار بهذا الفضل فعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، ولنساء الأنصار» (1). وعن أنس - رضي الله عنه -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأنصار كرشي وعيبتي (2) وإن الناس سيكثرون ويقلون (3)، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم» (4). وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر للأنصار: « ... فمن ولي الأنصار فليحسن إلى محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ومن أفزعهم فقد أفزع هذا الذي بين هاتين» وأشار إلى نفسه (5). * * * المبحث الثالث الوثيقة أو الصحيفة نظم النبي العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتاباً أوردته المصادر التاريخية واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظ (الدستور). ولقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة لدراسة طرق ورود الوثيقة، وقال: «ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة» (6) وبين أن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها «فنصوصها مكونة من كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم»   (1) البخاري، كتاب التفسير، سورة المنافقين، رقم 4906. (2) الكرش، كالكتف، والعيبة - بفتح المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة معناها ما يحرز الرجل فيها ويحفظ نفيس ما عنده من المتاع، والعيبة من الرجل: موضع سره وأمانته، انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص150. (3) قال ابن حجر: (أي أن الأنصار يقلون، وفيه إشارة إلى دخول قبائل العرب والعجم في الإسلام، وهم أضعاف أضعاف قبيلة الأنصار، فمهما فرض من الأنصار من الكثرة كالتناسل فرض في كل طائفة من أولئك، فهم أبداً بالنسبة إلى غيرهم قليل. ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم اطلع على أنهم يقلون مطلقاً فأخبر بذلك، فكان كم أخبر، لأن الموجودين الآن من ذرية علي بن أبي طالب ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبليتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه وقس على ذلك ولا التفات إلى كثرة من يدعي أنه منهم بغير برهان) (فتح الباري7/ 122) (4) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3801. (5) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص151. (6) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 275) للعمري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت معلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة، وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحداً بالإطراء أو الذم؛ لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة» (1) ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها توثيقاً آخر. أولاً: كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واليهود: نص الوثيقة (2): 1 - هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلَحق بهم وجاهد معهم. 2 - إنهم أمة واحدة من دون الناس. 3 - المهاجرون من قريش على ربعتهم (3) يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم (4) بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 4 - وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم (5) الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 5 - وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 6 - وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 7 - وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 8 - وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 9 - وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.   (1) تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة، لصالح العلي، ص4، 5. (2) مجموعة الوثائق السياسية لمحمد حميد الله، ص41: 47. (3) الربعة: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها. (4) العاني: الأسير. (5) المعاقل: جمع معقلة وهي الدِّيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 10 - بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 11 - وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 12 - وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحا (1) بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل، أن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. 13 - وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (2) ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم. 14 - ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن. 15 - وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. 16 - وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم. 17 - وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم. 18 - وإن كل غازية غزت يعقب على بعضها بعضا. 19 - وإن المؤمنين يبيء (3) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. 20 - وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفساً ولا يحول دون على مؤمن. 21 - وإنه من اعتبط (4) مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل)، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه. 22 - وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يُؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. 23 - وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم. 24 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.   (1) المفرح: المثقل بالدين والكثير العيال. (2) ابتغى دَسيعة ظلم: أي طلب دفعاً على سبيل الظلم .. انظر: لسان العرب - مادة "دَسَعَ". (3) يبيء: من "البواء"،وهو المساواة. (4) أي قتله دون جناية أو سبب يوجب قتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 25 - وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ (1) إلا نفسه وأهل بيته. 26 - إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. 27 - وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. 28 - وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. 29 - وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف. 30 - وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. 31 - وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يتوتغ إلا نفسه وأهل بيته. 32 - وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. 33 - وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف وإن البر دون الإثم. 34 - وإن موالي ثعلبة كأنفسهم. 35 - وإن بطانة يهود كأنفسهم. 36 - وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم. [وإنه لا ينحجز على ثار جرح؛ وإنه من فَتَك فبنفسه فتك، وأهلِ بيته، إلا من ظلم؛ وإن الله على أبر هذا] (2). 37 - وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. 38 - وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم. [وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين] (3). 39 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 40 - وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. 41 - وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.   (1) يُوتغ: يُهلك. (2) ما بين المعقوفين من سيرة ابن هشام ومعنى "على أبر هذا" أي: على الرضا به. (3) ما بين المعقوفين من سيرة ابن هشام، وقد سبقت برقم (24)،فهل تكررت للتأكيد، أم لغير ذلك؟ - الله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 42 - وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. 43 - وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره (1). 44 - وإن بينهم النصر على من دهم يثرب. [وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها] (2). 45 - أ- وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه أو يلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين. ب-على كل أناس حقهم (3) من جانبهم الذى قبلهم. 46 - وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبَُ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. 47 - وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (4). ثانياً: دروس وعبر وفوائد من الوثيقة: 1 - تحديد مفهوم الأمة: تضمنت الصحيفة مبادئ عامة، درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة، فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة، من دون الناس (5) وهذا شيء جديد كل الجدّه في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نقل الرسول صلى الله عليه وسلم قومه من شعار القبلية، والتبعية لها إلى شعار الأمة، التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، فلقد قالت الصحيفة عنهم «أمة واحدة» (المائدة 21) وقد جاء به القرآن الكريم قال تعالى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92].   (1) أي أن الله وحزبه المؤمنين على الرضا به. (2) هذه من ابن هشام. (3) في ابن هشام: "حِصَّتُهم". (4) انظر: مجموعة الوثائق السياسية، ص41: 47. (5) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وبين سبحانه وتعالى وسطية هذه الأمة في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 143]. ووضح سبحانه وتعالى أنها بكونها أمة إيجابية فهي لا تقف موقف المتفرج من قضايا عصرها، بل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعوا إلى الفضائل، وتحذر من الرذائل (1)، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 110]. وبهذا الاسم الذي أطلق على جماعة من المسلمين والمؤمنين ومن تبعهم من أهل يثرب، اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم في هذه الجماعة التي ترتبط بينها برابطة الإسلام، فهم يتكافلون فيما بينهم، وهم ينصرون المظلوم على الظالم، وهم يرعون حقوق القرابة، والمحبة، والجوار (2) لقد انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار، ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين، وأصبحوا أمة واحدة (3) تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس «من دون الناس» فهذه الروابط تقتصر على المسلمين ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء. ولا شك أن تمييز الجماعة الدينية كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسكها، واعتزازها بذاتها (4) يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس (5). وقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم يميز أتباعه عمن سواهم في أمور كثيرة، ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود، من ذلك: أن اليهود لا يصلون بالخفاف فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يصلوا بالخف، واليهود لا تصبغ الشيب فصبغ المسلمون شيب رؤوسهم بالحناء والكتم، واليهود تصوم عاشوراء والنبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضاً ثم اعتزم أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه مخالفة لهم (6). ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم والتميز عليهم فقال:   (1) انظر: دستور للأمة، د. عبد الناصر العطار، ص9. (2) انظر: التاريخ السياسي والحضاري، د. السيد عبد العزيز سالم، ص100. (3) انظر: قيادة الرسول السياسية والعسكرية، أحمد راتب، ص93. (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 293). (5) تاريخ خليفة بن خياط، ص23، 24، وسيرة ابن هشام (1/ 550). (6) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 293). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 «من تشبه بقوم فهو منهم» (1) وقال: «لا تشبهوا باليهود» (2) والأحاديث في ذلك كثيرة وهي تفيد معنى تميز المسلمين واستعلائهم على غيرهم، ولا شك أن التشبه والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذات والاستعلاء على الكفار، ولكن هذا التميز والاستعلاء لا يشكل حاجزًا بين المسلمين وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام إليه من يؤمن بعقيدته (3). واعتبرت الصحيفة اليهود جزءا من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصراً من عناصرها ولذلك قيل في الصحيفة: «وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم» (المادة 16) ثم زاد هذا الحكم إيضاحا في المادة (25) وما يليها، حيث نص فيها صراحة بقوله: (وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ... ). وبهذا نرى أن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس-بمقتضى أحكام الصحيفة- سبباً للحرمات من مبدأ (المواطنة) (4). 2 - المرجعية العليا لله ورسوله: جعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد نصت على مرجع فض الخلاف في المادة (23)، وقد جاء فيها: «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم» والمغزى من ذلك واضح وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة وتفصل في الخلافات منعاً لقيام اضطرابات في الداخل من جراء تعدد السلطات، وفي نفس الوقت تأكيد ضمني برئاسة الرسول صلى الله عليه وسلم على الدولة (5) فقد حددت الصحيفة مصدر السلطات الثلاث؛ التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تنفيذ أوامر الله من خلال دولته الجديدة، لأن تحقيق الحاكمية لله على الأمة هو محض العبودية لله تعالى؛ لأنه بذلك يتحقق التوحيد ويقوم الدين قال تعالى: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 40]. يعني: «ما الحكم الحق في الربوبية والعقائد والعبادات، والمعاملات إلا لله وحده، يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله،   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 293). (2) نفس المصدر (1/ 293). (3) انظر: نظام الحكم، ظافر القاسمي (1/ 37). (4) انظر: التاريخ السياسي والحضاري، السيد عبد العزيز، ص102. (5) انظر: تفسير المنار (12/ 309). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله لا تختلف باختلاف الأزمة والأمكنة» (1). لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله تعالى، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ - أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) [الزمر: 2،3]. وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) [النساء: 105] فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب، فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله، وكما أن العبادة لا تكون إلا عن وحي منزل، فكذلك لا ينبغي أن يحكم إلا بشرع منزل، أو بماله أصل في شرع منزل (2). إن تحقيق الحاكمية تمكين للعبودية، وقيام بالغاية التي من أجلها خلق الإنسان والجان، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]. وقد اعترف اليهود في هذه الصحيفة بوجود سلطة قضائية عليا، يرجع إليها سكان المدينة بمن فيهم اليهود بموجب المادة (43)، لكن اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائماً بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاءوا فبوسعهم الاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خير القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم، قال تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة: 42]. ومن القضايا التي أراد اليهود تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها اختلاف بني النضير وبني قريظة في دية القتلى بينهما، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية (3) فنزلت الآية: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ   (1) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (1/ 433). (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، (1/ 291). (3) انظر: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين، ص418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45]. وبهذه الصحيفة التي أقرت المادة (43): «على أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسوله صلى الله عليه وسلم» أصبح للرسول صلى الله عليه وسلم سلطة قضائية مركزية عليا يرجع إليها الجميع، وجعلها ترجع إلى الله وإلي الرسول صلى الله عليه وسلم ولها قوة تنفيذية؛ لأن أوامر الله واجبة الطاعة وملزمة التنفيذ، كما أن أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم هي من الله، وطاعته واجبة (1). وبذلك أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس الدولة، وفي نفس الوقت رئيس السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية؛ فقد تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلطات الثلاث بصفته رسول الله المكلف بتبليغ شرع الله، والمفسر لكلام الله، والسلطة التنفيذية بصفته الرسول الحاكم، ورئيس الدولة، فقد تولى رئاسة الدولة وفق نصوص الصحيفة، وباتفاق الطوائف المختلفة الموجودة في المدينة، ممن شملتهم نصوص الصحيفة في المادة (36) التي تقرر أنه «لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم» ولهذا تأثير كبير في عدم السماح لهم بمحالفة قريش أو غيرها من القبائل المعادية، وهناك المادة (43) التي ذهبت إلى ما هو أبعد وأصرح من ذلك إذ قررت أنه (لا تجار قريش ولا من نصرها) ولم يرد في الصحيفة اسم لأي شخص ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). 3 - إقليم الدولة: وجاء في الصحيفة: «وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة» مادة (40) وأصل التحريم أن لا يقطع شجرها، ولا يقتل طيرها، فإذا كان هذا هو الحكم في الشجر والطير فما بالك في الأموال والأنفس (3) فهذه الصحيفة حددت معالم الدولة: أمة واحدة، وإقليم هو المدينة، وسلطة حاكمة يرجع إليها وتحكم بما أنزل الله. إن المدينة كانت بداية إقليم الدولة الإسلامية ونقطة الانطلاق، ومركز الدائرة التي كان الإقليم يتسع منها حتى يضع حدًّا للقلاقل والاضطرابات ويسوده السلم والأمن العام. وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليثبتوا أعلاماً على حدود حرم المدينة من جميع الجهات، وحدود المدينة بين لابتيها شرقاً وغرباً، وبين جبل ثور في الشمال وجبل عَيْر في الجنوب. ثم اتسع (الإقليم) باتساع الفتح، ودخول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام حتى عم مساحة واسعة في الأرض والبحر وما يعلموها من فضاء، فمن المحيط الأطلسي غرباً ومناطق   (1) المصدر السابق، ص420 (2) انظر: نظام الحكم، ظافر القاسمي، (1/ 38). (3) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص411 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 واسعة من غرب أوربا وجنوبها ومناطق فسيحة من غرب آسيا وجنوبها، إلى أكثر أهل الصين وروسيا شرقاً، وكل شمال إفريقيا وأواسطها (1) إن إقليم الدولة مفتوح وغير محدود بحدود جغرافية أو سياسية، فهو يبدأ من عاصمة الدولة (المدينة) ويتسع حتى يشمل الكرة الأرضية بأسرها قال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]. كما أن مفهوم الأمة مفتوح وغير منغلق على فئة دون فئة، بل هي ممتدة لتشمل الإنسانية كلها، إذا ما استجابت لدين الله تعالى الذي ارتضاه لخلقه ولبني آدم أينما كانوا. فالدولة الإسلامية دولة الرسالة العالمية، لكل فرد من أبناء المعمورة نصيب فيها، وهي تتوسع بوسيلة الجهاد (2). 4 - الحريات وحقوق الإنسان: إن الصحيفة تدل بوضوح وجلاء على عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم، في صياغة موادها وتحديد علاقات الأطراف بعضها ببعض، فقد كانت موادها مترابطة وشاملة، وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك، وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة، والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم بالحقوق والحريات بأنواعها (3). يقول الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا: «ولا تزال المبادئ التي تضمنها الدستور في جملتها معمولاً بها، والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم ... وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها في أول وثيقة سياسية دوَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم» (4). فقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعبادة وحق الأمن، إلخ، فحرية الدين مكفولة: «للمسلمين دينهم ولليهود دينهم» قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256]. وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصت الوثيقة على تحقيق العدالة بين الناس، وعلى تحقيق مبدأ المساواة. إن الدولة الإسلامية واجب عليها أن تقيم العدل بين الناس، وتفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهداً   (1) المصدر السابق، ص421. (2) المصدر السابق، ص420. (3) انظر: النظام السياسي في الإسلام، ص65. (4) انظر: النظام السياسي في الإسلام، ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 أو مالاً (1) وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه. لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس، دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم، أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين، ويحكم بالحق، ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8]. والمعنى: لا يحملنكم بغض قوم على ظلمهم، ومقتضى هذا أنه لا يحملنكم قوم على محاباتهم والميل معهم (2). أما مبدأ المساواة؛ فقد جاءت نصوص صريحة في الصحيفة حولها، منها: «أن ذمة الله واحدة» وأن المسلمين «يجير عليهم أدناهم» وأن «بعضهم موالي بعض دون الناس» ومعنى الفقرة الأخير أنهم يتناصرون في السراء والضراء (المادة 15). وتضمنت المادة (19) أن «المؤمنين يبيء بعضهم علي بعض بما نال دماءهم في سبيل الله» قال السهيلي شارح السيرة في كتابه (الروض الأنف): (ومعنى قوله يُبيء هو من البواء، أي: المساواة) (3). يعد مبدأ المساواة أحد المبادئ العامة، التي أقرها الإسلام، وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبَلَّغت» (4). إن هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من الشعوب قديما نحو الإسلام فكان هذا المبدأ مصدراً من مصادر القوة للمسلمين الأولين (5). وليس المقصود بالمساواة هنا (المساواة العامة) بين الناس جميعاً في كافة أمور الحياة، كما   (1) نفس المصدر، ص52. (2) انظر: الروض الأنف (2/ 17) نقلا عن نظام الحكم للقاسمي (1/ 38). (3) انظر: مسند الإمام أحمد (5/ 411). (4) انظر: مبادئ الحكم في الإسلام، عبد الحميد متولي، ص385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ينادي بعض المخدوعين ويرون ذلك عدلاً (1) فالاختلاف في المواهب والقدرات، والتفاوت في الدرجات غاية من غايات الخلق (2)، ولكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة الإسلامية، مساواة مقيدة بأحوال، وليست مطلقة في جميع الأحوال (3) فالمساواة تأتي في معاملة الناس أمام الشرع، والقضاء، وكافة الأحكام الإسلامية، والحقوق العامة دون تفريق بسبب الأصل، أو الجنس، أو اللون، او الثروة أو الجاه، أو غيرها (4). كانت الوثيقة قد اشتملت على أتم ما قد تحتاج الدولة من مقوماتها الدستورية والإدارية، وعلاقة الأفراد بالدولة، وكان القرآن يتنزل في المدينة عشر سنين، يرسم للمسلمين، خلالها مناهج الحياة، ويرسي مبادئ الحكم، وأصول السياسة، وشئون المجتمع وأحكام الحرام والحلال وأسس التقاضي، وقواعد العدل، وقوانين الدولة المسلمة في الداخل والخارج، والسنة الشريفة تدعم هذا وتشيده، وتفصله في تنوير وتبصرة، فالوثيقة خطت خطوطاً عريضة في الترتيبات الدستورية، وتعتبر في القمة من المعاهدات التي تحدد صلة المسلمين بالأجانب الكفار المقيمين معهم، في شيء كثير من التسامح والعدل والمساواة، وعلى التخصيص إذا لوحظ أنها أول وثيقة إسلامية، تسجل وتنفذ في أقوام كانوا منذ قريب وقبل الإسلام أسرى العصبية القبلية، ولا يشعرون بوجودهم إلا من وراء الغلبة، والتسلط وبالتخوض في حقوق الآخرين وأشيائهم (5). كانت هذه الوثيقة فيها من المعاني الحضارية الشيء الكثير، وما توافق الناس على تسميته اليوم بحقوق الإنسان، وإنه لا بد على الجانبين المتعاقدين أن يلتزموا ببنودها، فهل حدث هذا الالتزام (6)؟. ثالثاً: موقف اليهود في المدينة: لقد قامت الحجج القاطعة والبراهين الساطعة لليهود على صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لم يزدهم إلا عناداً وعداوة واستكباراً وحقداً وحسداً على الرسول والذين آمنوا معه، فعن صفية بنت حُيَي بن أخطب أنها قالت: «كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي، حيي بن أخطب، وعمي، أبو ياسر بن أخطب، مُغَلَّسين، قالت: فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، قالت: فَهشِشت إليهما، كما كنت أصنع، فوالله   (1) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني (1/ 624). (2) انظر: فلسفة التربية الإسلامية، ماجد الكيلاني، ص179. (3) انظر: مبادئ علم الإدارة، محمد نور الدين، ص116. (4) انظر: فقه التمكين، د. على الصلابي، ص463. (5) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د. محمد فيض الله، ص29، 30. (6) انظر: هجرة الرسول وصحابته للجمل، ص261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت» (1). وقد شن اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه حملات إعلامية لتشويه صورة الرسول صلى الله عليه وسلم وتنفير الناس منه، ونزع الثقة فيه منهم، لقد شعر اليهود بخطورة هذا الدين على مصالحهم، وعلى عقيدتهم المنحرفة المزيفة، القائمة على الاستعلاء واحتقار الناس عدا الجنس اليهودي، لقد جاء ينادي بعقيدة التوحيد، وهم يقولون: عزير ابن الله، وجاء ينادي بالمساواة بين أفراد الجنس البشري، وأنه لا يعلو شعب على شعب ولا جماعة على جماعة، وهم يرون أنهم شعب الله المختار، يترفعون عن بقية الأجناس، وينظرون إليهم على أنهم دونهم، وأقل منهم (2) ولذلك لم يلتزموا ببنود الوثيقة، وشرعوا في التشكيك في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته، وأكثروا من الأسئلة لإحراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدعوا المؤمنين ودلسوا عليهم (3) وغير ذلك من الأعمال الخبيثة. 1 - محاولة اليهود لتصديع الجبهة الداخلية: ومن وسائلهم الخبيثة في حرب الإسلام محاولاتهم المستمرة لتمزيق الصف المسلم وتخريبه، بتقطيع أواصر المحبة بين المسلمين وذلك بإثارة الفتن الداخلية، والشعارات الجاهلية، والنعرات الإقليمية، والدعوات القومية والقبلية، والسعي بالدسيسة والوقيعة بين الإخوة المتآلفين المتوادين المتحابين، فهم في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر (4). فقد تفتق ذهن أحد شيوخهم الكبار في السن عن حيلة هدف بها إلى تفريق وحدة الأنصار، وذلك بإثارة العصبية القبلية بينهم ليعودوا إلى جاهليتهم، فتعود الحروب بينهم كما كانت، ويخسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أقوى أنصاره (5) وفي بيان هذا الخبر يقول محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى: ومر شأس بن قيس وكان شيخا قد عسا (6) عظيم الكفر شديد الضِّغْن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 518، 519). (2) انظر: الصراع مع اليهود، محمد أبو فارس، (1/ 31). (3) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 31: 41) (4) نفس المصدر (1/ 44). (5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 37). (6) عسا: كبرت سنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 على الإسلام، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة (1) بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً من يهود كان معهم، فقال: اعمِد إليهم، فاجلس معهم ثم اذكر يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حُضير بن سماك الأشهلي وأبو أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقتلا جميعاً. قال ابن إسحاق: ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الرُّكب: أوس بني قيظي، أحد بني حارثة بن الحارث، من الأوس، وجبار بن صخر، أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جَذَعة (2) فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة- والظاهرة: الحرة - السلاح السلاحَ، فخرجوا إليها. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: «يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر وألف به بين قلوبكم؟». فعرف القوم أنها نزغةٌ من الشيطان، وكيدٌ من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سامعين مطعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ - قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 98 - 99] وأنزل الله في أوس بن قيظي وجَبَّار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية (3): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ - وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ   (1) قيلة: أم الأوس والخزرج. (2) جذعة: أي رددنا الحرب فتية قوية (3) انظر: سيرة ابن هشام (ق 1/ 555 - 557). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 100 - 105] ونرى من خلال القصة قدرة القيادة النبوية على إفشال مخطط اليهود الهادف لتفتيت وحدة الصف، ويظهر اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمور المسلمين، وإشفاقه عليهم، وفزعه مما يصيبهم من الفتن والمصائب، فقد أسرع إلى الأنصار وذكرهم بالله، وبين لهم أن ما أقدموا عليه من أمر الجاهلية، وذكرهم بالإسلام وما أكرمهم الله به من القضاء على الحروب، والفتن وتطهير النفوس من الضغائن، وتأليف القلوب بالإيمان، وكان لكلمات النبي صلى الله عليه وسلم أثر في نفوسهم وسرت في كيانهم روح جديدة مسحت كل أثر لأمر الجاهلية بفضل الله تعالى، ثم بكلمات نبيه صلى الله عليه وسلم المعبرة وروحه القوية المؤثرة وهيئته الوثابة المنذرة، وأدركوا أن ما وقعوا فيه كان من وساوس الشيطان وكيد عدوهم من اليهود، فبكوا ندماً على ما وقعوا فيه من الذنوب، وتعانق رجال الإسلام، تعبيراً على محبتهم الإيمانية لبعضهم (1). 2 - التهجم على الذات الإلهية: ذكر غير واحد من كتاب السير والمفسرين أن أبا بكر - رضي الله عنه - قد دخل بيت المدراس (2) على يهود، فوجد منهم ناساً كثيراً قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له: (فنحاص)، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم، يقال له (أشيع)، فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك اتق الله وأسلم فوالله إنك تعلم أن محمدا لرسول الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيًا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيًا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك أي عدو الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه يزعم أن الله فقير، وأنهم أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردًّا عليه، وتصديقًا لأبي بكر: (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران: 181].   (1) انظر: التاريخ الإسلامي (4/ 41، 42). (2) مكان يتلى فيه التوراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ونزل في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وما بلغه في ذلك من الغضب (1): (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران: 186] (2). وذكر القرآن الكريم في أكثر من موضع سوء أدبهم مع الله سبحانه وتعالى، وعدم تنزيهه عن النقائص، ووصفه بما لا يليق به سبحانه، وهذا عين الوقاحة، وانعدام الأدب ومن هذه الآيات قول الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة: 64]. ويبدو من مضمون الآية أن هذا الموقف الذي وقفوه كان منبعثاً مما كان يملأ صدورهم من الغيظ والسخط من رسوخ في قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشار دعوته، ولعل مما يصح أن يضاف إلى هذا الاحتمال كون المسلمين قد انصرفوا عنهم، أو قاطعوهم بسبب مواقف الكيد والجحود التي ما فتئوا يقفونها، واستجابة لأمر القرآن ونهيه وتحذيره، فأثر ذلك في حالتهم الاقتصادية تأثيراً سيئاً، زاد سخطهم وغيظهم وتبرمهم، ودفعهم إلى ما كان منهم من سوء الأدب في حق الله، ومن رد غير جميل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (3). 3 - سوء أدبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والنيل من الرسول الكرام والقرآن الكريم: وكان اليهود يسيئون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حضرته وأثناء خطابه، إذ يلمزونه، ويحيونه بتحية فيها من الأذى والتهجم ما يدل على سوء أخلاقهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام (4) عليك يا أبا القاسم، فقلتُ: السام عليكم، وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» فقلت: يا رسول الله، ترى ما يقولون؟ فقال: «ألست تريني أرد عليهم ما يقولون؟ وأقول: وعليكم» قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك (5) وهي قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا   (1) انظر: تفسير القرطبي (4/ 295). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (ق 1/ 558، 559) وسبل الهدى والرشاد (3/ 583: 585) وتفسير مجاهد، ص140. (3) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 51) (4) السام: الموت، انظر: زاد المسير (8/ 189). (5) زاد المسير في علم التفسير (8/ 189) رواه ابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن مسروق، عن عائشة وإسناده صحيح، وفي صحيح مسلم (4/ 1717). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [المجادلة: 8]. وهذه الآية تظهر الحقد الذي هيمن على نفوس اليهود ودفعهم إلى استخدام كل الوسائل والطرق لهم الإسلام والتخلص من صاحب الرسالة، والسيطرة على المسلمين، ولكن يظهر من دعاء بعض اليهود على الرسول صلى الله عليه وسلم بالموت مع التظاهر بالسلام عليه، الضعفُ الذي كانوا عليه عند التجائهم إلى هذا النوع من السلام، فالممارس لمثل ما قام به اليهودى الذي سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: السام عليك يعيش أزمة نفسية متولدة عن فقدان عز كان يظن أنه ينعم فيه، لقد تغلبت قوى جديدة على ماضيه وحاضره، ولم يستطع أن يتفاعل مع من تغلب عليه. ومنعهم الحسد والغيرة، من الانقياد للدين الجديد، ومما زاد في تأزم اليهود أنهم جربوا محاربة الإسلام بوسائلهم التي كانوا يظنون أنها لا تقهر، فكان الفشل حليفهم، لذلك لجأواى الطرق السلبية، والوسائل الملتوية، فالدعاء على الخصم مع التظاهر بالسلام هو سلاح العاجزين، ووسيلة الخائبين، وترياق الحاقدين (1). ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صدر عن عائشة رضي الله عنها دعاها إلى الرفق واللين، وبين لها أن المسلم لا يجوز له أن يترك الغضب يتحكم فيه، فالرفق في الإسلام ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، فالله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف (2). وأما نيلهم من المرسلين فقد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وعازر بن أبي عازر وغيرهم وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن يؤمن به من الرسل فقال صلى الله عليه وسلم: «نؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» فلما ذكر عيسى عليه السلام، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ابن مريم ولا نؤمن بمن آمن به (3) فأنزل الله فيهم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) [المائدة: 59]. وأما في محاولاتهم للنيل من القرآن الكريم في أسئلتهم، ونقاشهم الذي لا ينتهي فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قالت أحبار اليهود: يا محمد أرأيت قولك: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85]   (1) انظر: حوار الرسول مع اليهود، د. محسن عبد الناظر، ص101. (2) نفس المصدر، ص87. (3) انظر: ابن هشام في السيرة (1/ 567) تفسير ابن جرير (1/ 442) وانظر: اليهود في السنة المظهرة، عبد الله الشقاوي (1/ 242، 243). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 إيانا تريد أم قومك؟ قال: «كُلاًّ» قالوا: فإنك تتلوا فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه» (1) قال: فأنزل الله تعالى فيما سألوه عنه من ذلك: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان: 27]. 4 - دعم حزب المنافقين وتآمرهم معهم: حدثنا القرآن الكريم عن قيادة اليهود الفكرية لحزب المنافقين، فهم شياطين المنافقين يخططون لهم، ويوجهونهم ويدرسونهم أساليب الكيد والمكر والخداع والدهاء، وإثارة الفتن قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة: 14]. قال النسفي في تفسيره: «وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم، وهم اليهود» (2). وكان اليهود في المدينة يتآمرون مع المنافقين ضد المسلمين، وفي هذا التآمر قال تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا - الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا) [النساء: 138 - 139]. قال الأستاذ محمد دروزة: «وجمهور المفسرين على أن الكافرين هنا هم اليهود، وفي الآية قرينة على صحة ذلك، كما أن فيما بعدها قرينة ثانية أيضاً، وواضح أن اتخاذ المنافقين اليهود أولياء، وتواثقهم معهم، إنما هما أثران من آثار التآمر الموطد بين اليهود والمنافقين تجاه الدعوة والقوة الإسلامية» (3). وقد دفعوا المنافقين لإشعال حرب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين، عبدة الأوثان، واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة:   (1) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 241). (2) انظر: تفسير النسفي (1/ 21). (3) انظر: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لدروزة (2/ 179، 180). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون (1) فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب- يريد عبد الله بن أبي- قال كذا وكذا»، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة (2) على أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). 5 - طعن اليهود في من آمن من الأحبار (عبد الله بن سلام) رضي الله عنه: عندما بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكل أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خبرني بهن آنفا جبريل» قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقه ماؤها كان الشبه لها» قال: أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟» فقالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟» قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه (4) فكانوا يؤذون من آمن من أحبارهم، ويثيرون حولهم الشكوك، ويقذفونهم بتهم باطلة قبيحة، وقد حدثنا القرآن الكريم عن هذه الوسيلة ودافع عن هؤلاء المؤمنين الذين وجه اليهود ضدهم تلك الحملات الظالمة (5) قال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ - يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ   (1) يتثاورون: أي يتواثبون والمعنى، كادوا أن يثب بعضهم على بعض فيقتتلوا، ويقال ثار، إذا قام بسرعة وانزعاج. (2) البُحَيْرَة: لفظ يطلق على القرية والبلد والمراد به هنا المدينة .. (3) صحيح البخاري، كتاب التفسير (8/ 230، 231) رقم 4566. (4) البخاري، كتاب الأنبياء، باب خلق آدم (6/ 362، 363) رقم 3329 .. (5) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 59). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ - وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ). [آل عمران: 113 - 115]. قال الواحدي في أسباب النزول: «قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن أسعد، وأسيد بن سعية (1)، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود، قالت أحبار اليهود: ما آمن لمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من أخيارنا لما تركوا دين آبائهم، وقالوا لهم: لقد خنتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره، فأنزل الله تعالى (لَيْسُوا سَوَاءً) (2). 6 - بث الإشاعات والشماتة بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين: كان اليهود يتحينون الفرص للنيل من المسلمين والبحث عما يفرق كلمتهم، ومن ذلك استغلالهم- في الأشهر الأولى من الشهر- لوفاة أحد النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة وهو أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه - فعندما أخذته الشوكة (3) فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: «بئس الميت ليهود - مرتين - سيقولون: لولا دفع عن صاحبه، ولا أملك له ضراً ولا نفعاً، ولأتمحَّلنَّ (4) له» فأمر به فكوي بخطين فوق رأسه فمات وفي رواية: فكواه حوران (5) على عنقه فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس الميت لليهود، يقولون: قد داواه صاحبة أفلا نفعه» (6). ولم تكن حادثة أبي أمامة هي الحدث الوحيد الذي أبان الحقد اليهودي على المسلمين، فقد أشاعوا في أول الهجرة أنهم سحروا المسلمين فلا يولد لهم ولد، أشاعوا ذلك ليضيقوا على المسلمين الخناق، ويفسدوا عليهم حياتهم الجديدة التي عاشوها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعكروا ذلك الجو الصافي الذي يملؤه الحب والتآلف بين المسلمين، ومما يدل على مقدار ما فعلته تلك الإشاعة بين المسلمين، شدة الفرحة التي اعترتهم حيث ولد بينهم أول مولود ذكر من المهاجرين وهو عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - (7) فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة قالت:   (1) قال ابن حجر: قيل سعنة - بالنون، وقيل بالياء التحتانية (الإصابة - ترجمة أسيد بن سعية)، وذكر ابن حجر اسمه "أسد" بغير ياء في ترجمة: أسد بن سعية القرظي. (2) انظر: أسباب النزول للواحدي، ص114. (3) الشوكة: حمرة تعلو الوجه والجسد. (4) أتمحلن: أي لأحاولن له في حيلة يشفى بوسطتها، انظر: النهاية (4/ 303). (5) حوران: هي كية مدورة من حار يحور إذا رجع، وحوره إذا كواه هذه الكية وتسمى حوراء أيضا، انظر النهاية 1/ 459. (6) انظر: مصنف عبد الرزاق (10/ 407) رقم 19515. (7) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 265) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 فخرجت وأنا مُتِمٌّ فأتيت المدينة فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له فبرّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام، ففرحوا به فرحاً شديداً، لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم (1). وفي رواية: «وسماه عبد الله، ثم جاء بعد وهو ابن سبع أو ابن ثمان سنين ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم وأمره الزبير - رضي الله عنه - بذلك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه مقبلاً وبايعه، وكان أول من ولد في الإسلام بالمدينة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم فلا يولد لهم بالمدينة ولد ذكر، فكبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد عبد الله» (2). 7 - موقفهم من تحويل القبلة: تكاد تكون حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة هي الفاصل بين الحرب الكلامية وحرب المناوشات، والتدخل الفعلي من جانب اليهود لزعزعة الدولة الإسلامية الناشئة (3)، فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال: أخواله، من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلي أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك (4) وقد نزلت في هذه الحادثة آيات عظيمة فيها عبر وحكم ودروس للصف المسلم، قال تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ - فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 149 - 152].   (1) البخاري، كتاب العقيقة، باب تسمية المولود (9/ 587) ومسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود (3/ 1619). (2) انظر: الحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة، (3/ 548) صحيح على شرط الشيخين. (3) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 258). (4) البخاري، كتاب الإيمان، باب الصلاة رقم 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 أ- أخبر الله تبارك وتعالى بما سيقوله اليهود عند تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من إثارة الشكوك والتساؤلات قبل وقوع الأمر، ولهذا دلالته فهو يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو أمر غيبي، فأخبر عنه قبل وقوعه ثم وقع، فدل ذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول ونبي يخبره الوحي بما سيقع، إذ من الأدلة على صدق رسالة الرسول أن يخبر بأمور غيبية ثم تقع بعد ذلك. وهو يدل أيضاً على علاج للمشاكل قبل حدوثها حتى يستعد المسلمون ويهيئوا أنفسهم لهذه المشاكل للتغلب عليها، والرد عليها ودفعها؛ لأن الامر حين يكون مفاجئا لهم يكون وقعه على النفس أشد، ويربك المفاجأ به، أما حين يحدثون عنه قبل وقوعه، فالحديث يطمئنهم ويوطن نفوسهم ويعدها لمواجهة الشدائد (1) قال أبو السعود في تفسيره: «وأخبر بالأمر قبل وقوعه لتوطين النفوس وإعدادها لما يبكتهم، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد، والجواب العتيد لشغب الخصم الألد أرد» (2) وقد وصف الله تعالى اليهود بالسفه لاعتراضهم على تحويل القبلة وللكيد ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو السعود: «والسفهاء الذين خفت أحلامهم، واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر وقولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسيج، وقيل: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم، وقيل: الظلوم الجهول، والسفهاء هم اليهود» (3). ب- (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 143]. فالآية تذكر أن الصلاة نحو بيت المقدس كانت فتنة، أي اختبار، والتحول من بيت المقدس إلى الكعبة كان أيضاً اختباراً وامتحاناً قال البيضاوي في تفسيره: «وما جعلنا قبلتك بيت المقدس إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا لنمتحن به الناس، ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها، ممن يرتد عن دينك إلفاً لقبلة آبائه، أو لنعلم من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، وما كان لعارض، يزول بزواله، وعلى الأول معناه: ما رددناك إلى التي كانت عليها إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلة وضعف إيمانه» (4). فالصلاة إلى الكعبة في بداية الأمر، ثم الصلاة إلى بيت المقدس، ثم العودة إلى الكعبة واستمرار ذلك لا شيء فيه، ما دام الباري سبحانه أمر بذلك، ومن ثم فالتوجه في كل حالة هو   (1) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 102). (2) انظر: تفسير أبي السعود (1/ 171). (3) نفس المصدر (1/ 170). (4) انظر: تفسير البيضاوي نقلا عن الصراع مع اليهود (1/ 101). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 عبادة، وما على الناس إلا أن ينقادوا لأمر الله تبارك وتعالى، ويلتزموا بأمره، فالذي يتبع الرسول وينقاد لأوامره في القبلة يعد فائزاً في الاختبار والامتحان، والذي يجد في نفسه على حكم من الأحكام الشرعية كان ساقطاً وهالكا، والإيمان الحق هو الذي يلزم صاحبه بالاتباع ومخالفة الهوى (1)، ولهذا ثبت الصحابة الكرام واستجابوا لأوامر الله تعالى، فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يسقتبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلي الشام فاستداروا إلى الكعبة (2). جـ- (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 143]. وتبين الآية الكريمة كذلك حرص المؤمنين على إخوانهم وحب الخير لهم: حينما نزلت الآيات التي تأمر المؤمنين بتحويل القبلة إلى الكعبة تساءل المؤمنون مشفقين على مصير عبادة إخوانهم الذين ماتوا، وقد صلوا نحو بيت المقدس، فأخبر الله عز وجل أن صلاتهم مقبولة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما وُجَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس (3)؟ فأنزل الله: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 143]. وبين لهم أنه رءوف رحيم «وبها يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة، ويذهب عنها القلق ويفيض عليها الرضا والثقة واليقين» (4). د- (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ - وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إذا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ - وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 144 - 148]. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يتوجه في صلاته إلى كعبة أبيه إبراهيم عليه السلام، فهو أولى الناس به؛ لأنه من ثمرة دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام، وحامل لواء التوحيد بحق كما حملها إبراهيم عليه السلام، وهو صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يكون مستقبلا ومتميزا على أهل الديانات السابقة الذين حرفوا وبدلوا وغيروا كاليهود والنصارى؛ ولهذا كان ينهى عن تقليدهم والتشبه بهم، بل يأمر بمخالفتهم ويحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه من الزلل والخطل   (1) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 101). (2) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 337). (3) انظر: سنن الترمذي (5/ 208) رقم الحديث 2964. (4) في ظلال القرآن: م1ج2/ 131: 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 والانحراف، ومقتضى هذا الحرص أن يتوجه في صلاته بشكل دائم إلى قبلة أبي الأنبياء، وهو أول بيت وضع للناس (1). إن لحادثة تحويل القبلة أبعاداً كثيرة: منها السياسي: ومنها العسكري، ومنها الديني البحت، ومنها التاريخي، فبُعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبعدها العسكري أنها مهدت لفتح مكة وإنهاء الوضع الشاذ في المسجد الحرام، حيث أصبح مركز التوحيد مركزاً لعبادة الأصنام، وبعدها الديني أنها ربطت القلب بالحنيفية، وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام عن العبادة في بقية الأديان (2). هـ- (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ - وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ - فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 149 - 152]. كأن الله تعالي يقول للمؤمنين: إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييزكم بشخصيتكم من نعائم الله عليكم، وقد سبقتها الآلاء من الله كثيرة عليكم ومنها: * (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ) فوجود شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المربين والدعاة، هو من خصيصة هذه النخبة القيادية، التي شرفها الله تعالى بأن يكون هو المسئول عن تربيتها، فقيه النفوس، وطبيب القلوب، ونور الأفئدة، فهو النور والبرهان والحجة. * (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا) فالمادة الأساسية للبناء والتربية كلام الله تعالى، وكان يرافقه شحنة عظيمة لنزوله أول الأمر غضًّا طريًّا، فكان جيلاً متميزاً في تاريخ الإنسانية. * (وَيُزَكِّيكُمْ) فالمعلم المربي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المسؤول عن عملية التربية، وهو الذي بلغ من الخلق والتطبيق لأحكام القرآن الكريم، ما وصفه الله تعالى به من هذا الوصف الجامع المانع الذي تفرد به من دون البشرية كافة (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4] وهو الذي وصفته عائشة رضي الله عنها بأعظم ما يملك بشر أن يصف به نبي فقالت: «كان خلقه القرآن» فكان الصحابة يسمعون القرآن الذي يتلى من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرون القرآن الذي يمشي على الأرض متجسداً في خلقه الكريم. * (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) فهذه المهمة الثالثة تعليم الصحابة الكرام الكتاب والحكمة،   (1) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 100). (2) انظر: الأساس في السنة (1/ 440). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فالقرآن الكريم لكي يكون مؤثراً في الأمة لا بد من المربي الرباني الذي يزكي النفوس ويطهر القلوب ويعلمها شرع الله تعالى من خلال القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فيشرح للمسلمين غامضه ويبين محكمه، ويفصل مجمله، ويسأل عن تطبيقه، ويصحح خطأ الفهم لهم إن وجد، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلِّم ويربي أصحابه لكي يعلموا ويربوا الناس على المنهج الرباني فتعلم الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج التعليم، ومنهج التربية ومنهج الدعوة، ومنهج القيادة للأمة من خلال ما تسمع وما تبصر، ومن خلال ما تعاني وتجاهد فاستطاع صلى الله عليه وسلم أن يعد الجيل إعداداً كاملاً، ومؤهلاً لقيادة البشرية، وانطلق أصحابه من بعده يحملون التربية القرآنية، والتربية النبوية إلى كل صقع، وأصبحوا شهداء على الناس. * (وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ماذا كانوا قبل الوحي، والرسالة وماذا أصبحوا بعد ذلك؟ كانوا في حروب وصراع وجاهلية عمياء، وأصبحوا بفضل الله ومنه وكرمه أمة عظيمة لها رسالة وهدف في الحياة، لا همَّ لها إلا العمل ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، وحققوا العبودية لله وحده، والطاعة لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وانتقلوا من نزعة الفردية والأنانية والهوى إلى البناء الجماعي، بناء الأمة، وبناء الدولة وصناعة الحضارة واستحقت بفضل الله ومنه أعظم وسامين في الوجود (1): (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 110] ووسام (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 143]. * (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152] فهذه المنن، وهذه العطايا وهذه الخيرات تحتاج لذكر الله في الغدو والآصال وشكره عليها، وحثهم المولى عز وجل على ذكره، وبكرمه يذكرون في الملأ الأعلى بعدما كانوا تائهين في الصحاري ضائعين في الفيافي. * (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152] وحقَّ لهذه النعم جميعاً أن تشكر (2). وهكذا، الآيات الكريمة تربي الصحابة من خلال الأحداث العظيمة، وتصوغ الشخصية المسلمة القوية التي لا ترضى إلا بالإسلام ديناً والتي تعرفت على طبيعة اليهود من خلال   (1) انظر: التربية القيادية، (2/ 438: 442). (2) انظر: التربية القيادية، (2/ 442). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 القرآن الكريم، وبدأت تتعمق في ثناياها طبيعتهم الحقيقية، وانتهت إلى الصورة الكلية النهائية التي تربوا عليها من خلال القرآن الكريم والتربية النبوية قال تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) [البقرة: 120]. 8 - من صفات اليهود في القرآن الكريم: إن المتتبع لتاريخ اليهود ومواقفهم مع المصطفى صلى الله عليه وسلم يشاهد تلك الأفعال القبيحة والأخلاق الرذيلة التي يتصف بها هؤلاء البشر، ولا غرابة في ذلك فهي طبيعة كل آدمي ينسلخ عن دينه الصحيح، وعقيدته السليمة. كانت معاناة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين من اليهود شديدة وأليمة، فالقرآن الكريم تحدث عن بعضها، وكتب السنة والسير والتاريخ حافلة بالأحداث الجسيمة مع اليهود، وقد تحدث القرآن الكريم، وبينت السنة النبوية صفاتهم القبيحة، كالنفاق وسوء الأدب مع الله ورسوله، والمكر والخداع، والمداهنة، وعدم الانتفاع بالعلم، والحقد والكراهية، والحسد، والجشع والبخل، ونكران الجميل، وعدم الحياء، والغرور والتكبر، وحب الظهور، والإشراك في العبادة، ومحاربة الأنبياء والصالحين، والتقليد الأعمى، وكتمان العلم، وتحريف المعلومات، والتحايل على المحرمات، والتفرق والطبقية في تنفيذ الأحكام، والرشوة، والكذب والقذارة (1)، وسوف نشير إلى بعض هذه الصفات الذميمة التي جاءت في القرآن الكريم. أ- الإشراك في العبادة: فعبادة اليهود شركية باطلة، حيث يعتقدون أن لله ولدا، ويشركون معه في عبادته غيره، وقد سجل الله عز وجل عليهم بعض مظاهر الإشراك، قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ - اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 30 - 31]. فهم لم يكتفوا في الإشراك بالقول المتقدم بل عبدوا أنبيائهم وصالحيهم واتخذوا قبورهم مساجد وأوثاناً يعبدونها من دون الله (2) قال صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (3).   (1) راجع الرسالة القيمة «اليهود في السنة المطهرة»، د. عبد الله الشقاري. (2) انظر: اليهود في السنة المطهرة (2/ 507). (3) البخاري، كتاب الصلاة (1/ 532) رقم 437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ب- محاربة الأنبياء والصالحين: في الوقت الذي يقدسون فيه أحبارهم ورهبانهم إلى درجة العبادة، نجد اليهود في المقابل لا يتورعون في محاربة أنبيائهم وصالحيهم، ويشنون عليهم الحملات المغرضة بشتى الطرق وكافة الوسائل، ولا يمتنعون حتى عن قتلهم، كما فعلوا بزكريا ويحيى عليهم السلام (1)، وقد أخبرنا الله عز وجل عنهم بذلك فبعد أن بين عز وجل ألواناً من العذاب أوقعه عليهم قال: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة: 61]. جـ- كتمانهم العلم وتحريفهم للحقائق: إن كتمان العلم وتحريف الحقائق صفة ملازمة لليهود من قديم الزمن، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قيل لبني إسرائيل (وادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) (2) فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شَعْرَةٍ» (3). ومن أعظم العلوم التي كتمها أحبار اليهود، وحاولوا إخفاء حقيقتها، علم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف، ورافع بن حُريملة، فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم لأن تبينوه للناس، فبرئت من أحداثكم» قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الهدى والحق، ولا نؤمن بك ولا نتبعك. فأنزل الله عز وجل فيهم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 68] (4).   (1) انظر: اليهود في السنة المطهرة (2/ 509). (2) كذا ورد اللفظ في صحيح البخاري "ادخلوا" بغير "واو"، ولفظ الكلمة في القرآن الكريم: (وادخلوا) [البقرة: 58]، وليس في ورود اللفظة في صحيح البخاري بغير "واو" غلطة البتة، إذ المراد والله أعلم: تبيين أن بني إسرائيل أمروا بكذا - "المراجع". (3) البخاري، كتاب الأنبياء (6/ 436) رقم 3403. (4) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 567) وتفسير الطبري (6/ 200) ورجال إسناده موثقون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 د- التفرق: إن اليهود دائماً وأبداً مختلفون في الأفكار، مفترقون في الأحكام، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، تماماً كما وصفهم الباري عز وجل في قوله تعالى: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ) [الحشر: 14]. هـ- الرشوة: إن من سمات اليهود في معالم مجتمعاتهم بحثهم عن تحقيق الغاية التي ينشدونها بشتى السبل والوسائل، ولو كانت مخالفة لشرعهم، كدفع الرشوة والمال الحرام، فأكل السحت من رشوة ومال حرام من طباعهم وقد وصفهم الحق سبحانه وتعالى بذلك: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة: 42]. والنفاق: وقد أظهر بعض زعماء اليهود الإسلام حين قويت شوكة المسلمين بالمدينة وتستروا بالنفاق، وقد سجل الله عليهم ذلك في قوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ - اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة: 14،15]. ز- المداهنة: فكانوا يسايرون الواقع والمجتمع ولا ينكرون المنكر؛ ولذلك لعنهم الله عز وجل وسجل لعنته عليهم في كتابه العزيز: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ - كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78،79]. حـ- عدم الانتفاع بالعلم: وقد أخبرنا الله تعالى بذلك وصور هذه الصفة تصويراً دقيقاً (1) قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الجمعة: 5]. ط- الحقد والكراهية: من صفات اليهود المستقرة في أعماق نفوسهم الحقد على كل شيء ليس منهم   (1) انظر: اليهود في السنة المطهرة (2/ 463: 482). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 والكراهية لكل ما هو غير يهودي، مهما كان نوعه ومصدره، وخاصة إذا كان يمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلة، كما حصل في أمر القبلة، وما حصل في تحريم الخمر، فعن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما نزلت تحريم الخمر، قالت اليهود: أليس إخوانكم الذين ماتوا كانوا يشربونها فأنزل الله عز وجل: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) [المائدة: 93] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قيل لي: أنت منهم» (1). ى- الحسد: فقد حسد اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على الرسالة، إذ كانوا يظنون أن الرسول الذي سيبعث سيكون منهم، يتجمعون حوله ويقاتلون به أعداءهم، فلما بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم من غيرهم جن جنونهم، وطار صوابهم ووقفوا يعادونه عداوة شديدة، ولقد حسدوا أصحابه على الإيمان ونعمة الهدى التي شرح الله صدورهم لها (2). قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 109]. ك- الغرور والتكبر: اتصف اليهود بالغرور والتكبر على الخلق من قديم الزمان، فهم يرون أنهم أرقى من الناس، وأفضل من الناس، ويزعمون أنهم شعب الله المختار، ويعتقدون أن الجنة لليهودي، وأن طريق اليهودية هي طريق الهداية وسواها ظلال، وقد أخبر المولى عز وجل في كتابه عن هذه الخصلة الذميمة (3) فيهم قال تعالى: (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 111] وقد مارسوا ذلك الغرور والتعالي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشتى الوسائل والصور، ومن ذلك هذه الصورة (4)، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو، وشأس بن عدي، فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء الله وأحباؤه - كقول النصارى- فأنزل الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ...... ) إلى آخر الآية (5) [المائدة: 18].   (1) انظر: الحاكم في مستدركه، كتاب الأشربة (4/ 143، 144) صحيح الإسناد. (2) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 70). (3) نفس المصدر (1/ 71). (4) انظر: اليهود في السنة المطهرة (2/ 495، 496). (5) انظر: تفسير الطبري، واللفظ له بالأثر رقم (11613) عند تفسير الآية (18) من المائدة، سيرة ابن هشام (ق 1/ 563). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ل- البخل: من صفات اليهود القديمة بخلهم بالمال، وعدم إنفاقه في سبيل الخير، فكانوا يأتون رجالاً من الأنصار ويقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون علام يكون (1) فأنزل الله فيهم: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) [النساء: 37] أي من التوراة التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللهُ بِهِم عَلِيمًا) [النساء: 39]. م- العناد: رغم قيام الأدلة والبراهين على صدق نبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن اليهود بسبب عنادهم امتنعوا عن الإيمان، وانغمسوا في الكفر والتكذيب؛ لأن العناد يقفل العقول بأقفال الهوى، وقد بين المولى عز وجل هذه الصفة في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إذا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 145] نعم لو قدمت لهم يا محمد ألف دليل ودليل ما اقتنعوا وما غيروا وبدلوا، ويصدق (2) فيهم قول الله تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) [يونس: 101]. هذه بعض الصفات التي تجسدت في الشخصية اليهودية، والتي أشار القرآن الكريم إليها لنعرف اليهود على حقيقتهم، حتى لا يغتر المسلمون بهم في أي وقت أو أي زمان أو أي مكان. رابعاً: (إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ): إن هذه الوثيقة وضحت مدى العدالة التي تميزت بها معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود، وأعطت لمواطني الدولة مفهوم الحرية الدينية، وضربت عرض الحائط بمبدأ التعصب ومصادرة الأفكار والمعتقدات، ولم تكن المسألة مسألة تكتيك مرحلي ريثما يتسنى للرسول صلى الله عليه وسلم تصفية أعدائه في الخارج لكي يبدأ تصفية أخرى إزاء أولئك الذين عاهدهم، وحاشاه، وإنما صدر هذا الموقف وفق سياسة إسلامية منبثقة من شريعة ربانية (3). لقد عقد الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود المعاهدات التي تؤمن لهم الحياة الكريمة، وفي ظل   (1) انظر: اليهود في السنة المطهرة (2/ 487، 488). (2) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 72). (3) انظر: دراسة في السيرة، ص151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الدولة الإسلامية بحكم أنهم أهل كتاب (أهل الذمة) ولكن طبيعة اليهود الغدر والخيانة وعدم الوفاء، ولم يستطيعوا- ولن يستطيعوا لؤماً وخسة- أن يتخلوا عن تلك الصفات الذميمة فنقضوا عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت نهايتهم بما يتلاءم مع تلك الأفعال، حيث أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال بني قريظة (1) وهذا ما سوف نراه بإذن الله تعالى في هذا الكتاب، ولقد أشار القرآن الكريم إلى طبيعة اليهود مع العهود فقال تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ) [الأنفال: 56]. والعهد هنا ما عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود من عهود ومواثيق بألا يحاربوه ولا يعاونوا عليه، كما بين ذلك المفسرون (2). لقد سلك اليهود وسائل عدة ومتغايرة ومتنوعة للكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ومقاومتهم، إلا أن هذه الوسائل لم تفلح ولم تؤت ثمارها المرجوة منها، وهي القضاء على جماعة المسلمين ودولتهم وكيانهم السياسي، فما أسباب ذلك؟ بسبب تلك التربية النبوية الرشيدة التي غرست معاني الإيمان في القلوب وحققت العبودية الخالصة لله، وحاربت الشرك بجميع أشكاله، وعلمت الصحابة الأخذ بأسباب النهوض والتمكين المعنوية والمادية فقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على العزة، والنخوة، والرجولة، والشجاعة، ورفض الذل، ومقاومة الظلم، وعدم الاستسلام لمؤامرات اليهود وغيرهم، بل مقاومتها والقضاء عليها وعلى أهلها، فثابروا وصابروا حتى انتصروا على أعدائهم (3). كان مكر اليهود في غاية الدهاء تكاد تزول منه الجبال، ولكنه لم يفلح مع الرعيل الأول بسبب القيادة النبوية والمنهج الرباني الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (4). إن المسلمين اليوم يتساقطون أمام المخططات اليهودية ومؤامراتها لبعدهم عن المنهاج النبوي في تربية الأمة وكيفية التعامل مع اليهود، فالأمة في أشد الحاجة للقيادة الربانية الحكيمة الواعية الموفقة من عند الله، الخبيرة بأخلاق اليهود وصفاتهم فتتعامل معهم معاملة واعية مستمدة أصولها من السياسة النبوية الراشدة في التعامل مع هذا الصنف المنحرف من البشر. إن في عصرنا هذا تغلغت الأصابع اليهودية القذرة في مجالات عديدة من حياة الشعوب والدول تلك الأصابع التي تهدف إلى غاية محدودة هي (الفساد في الأرض) وهذا هو التعبير القرآني (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا) [المائدة: 33].   (1) انظر: العهد والميثاق في القرآن الكريم، د. ناصر العمر، ص121. (2) انظر: تفسير الطبري، (8/ 30) والتحرير والتنوير (10/ 48). (3) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 80). (4) نفس المصدر (1/ 79). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 إن استعمال الفعل المضارع في الجملة يدل على التجدد والاستمرار فليس سعيهم للفساد مرحلة تاريخية انتهت، لكنه قدرهم الكوني إلى يوم يبعثون، وقد استطاع اليهود أن يهيمنوا على كثير من مقدرات الأمم من خلال كيدهم المدروس، وفي غيبة الوجود الإسلامي القادر على إحباط مؤامراتهم وفضح ألاعيبهم. إن العبقرية اليهودية في الهدم والتخريب ليست موضع جدل، تلك العبقرية التي تستغل الأحداث وتستثمرها لصالحها، إن لليهود وجوداً مؤثراً في الدول الكبرى، اقتصادياً، وسياسياً، وإعلامياً، ولم يكونوا غائبين عن النظامين العالميين، الرأسمالية والشيوعية، ولا عن الثورات الكبرى في العالم، وهناك عدد من المنظمات العالمية تبذل جهدا ضخماً في تحقيق أهداف اليهود، أبرزها الماسونية .. (الليونز) و (الروتاري) و (شهود يهوه) ... إلخ. ألا يحس الباحث الواعي أن في الأمر نوعاً من المبالغة المقصودة أو غير المقصودة؟ هذه الصورة الجاثمة في عقول الكثيرين أن اليهود هم الذين يحركون العالم، وهم زعماؤه السياسيون ومفكروه ومبدعوه و ... و ... وأن الشخصيات المهمة من غير اليهود ما هي إلا (أحجار على رقعة الشطرنج) على حد تعبير وليام غاي كار (1). إن هذا الكم الهائل من الكتب التي تتحدث عن اليهود ودورهم العالمي الخطير تساهم في تهيئة الجو للتسليم بالأمر الواقع، وتمنح تفسيراً جاهزاً لجميع الهزائم التي منيت بها الأمة، الهزائم الحضارية والعسكرية على حد سواء. إن إحساس الناس بأن (كل شيء) مدبر ومبيت ومدروس من قبل اليهود أو محافلهم، يقعد بهم عن المقاومة والمواجهة والجهاد، وما يقال عن اليهود يمكن أن يقال عن أي عدو آخر ينتهج سياسة الإرهاب الفكري والعسكري، فمثلا الجماعات الباطنية في العالم الإسلامي التي أصبحت ذات وجود قوي في عدد من المواقع والدول، بل وأصبح لهم وجود قائم بذاته في أكثر من بلد إسلامي. هذه الجماعات تجد أحيانا من يهول من شأنها ويعطيها أكبر من حجمها، فكل من يتحدث مثلاً، عن هذه الفئة الغالية المنحرفة أو يكتب أو يحاضر فهو مهدد في رزقه وحياته إذن فيسكت الجميع حفاظاً على أرزاقهم وأرواحهم (2) إن هذا التضخيم الرهيب لأعدائنا اليهود ليس له حقيقة؛ لأن أولياء الشيطان كيدهم مهما عظم وكبر فهو ضعيف قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء: 76]   (1) انظر: قضايا في المنهج، سلمان العودة، ص84، 85. (2) انظر: قضايا في المنهج، ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 إن قوتهم بسبب ضعف إيماننا وبعدنا عن منهج ربنا؛ لأن الإيمان الصحيح تنهار أمامه جميع المؤامرات، وتفشل جميع الخطط، لكن لا بد من نزع عنصر الخوف الذي قتل كثيراً من الهمم، وأحبط كثيراً من الأعمال، والأحداث تؤكد أن (الوهم) قد يقتل. وحين توجد الفئة المؤمنة الصابرة يتحطم الكيد كله، يهوديًّا، كان أم غير يهودي، أمام عوامل التصدي والنهوض قال تعالى: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:120]. وهذا لا يعني بحال من الأحوال، تجاهل قوة العدو أو التقليل من شأنه حتى لو كان عدوًّا حقيرًا، فضلاً عن عدو مدجج وقديم. والمطلوب أن نسلك طريق الاعتدال في تقدير حجم العدو، فلا نبالغ في تهويل قوته بما يوهن قوانا ويفتت عزيمتنا ويسوغ لنا الهزيمة، وفي المقابل لا نستهين به أو نتجاهل وجوده (1). وستمضي في اليهود وغيرهم سنة الله تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 81]. * * * المبحث الرابع سنة التدافع وحركة السرايا أولاً سنة التدافع: إن من السنن التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم سنة التدافع، وتظهر جليا في الفترة المدنية مع حركة السرايا والبعوث والغزوات التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم ضد المشركين، وهذه السنة متعلقة تعلقا وطيدا بالتمكين لهذا الدين، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز وجاء التنصيص عليها في قوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]. وفي قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40]. ونلاحظ في آية البقرة أنها جاءت بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل   (1) انظر: قضايا في المنهج، ص86، 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 المتمثل هنا في طالوت وجنود المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيَّل الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251] (مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم) (1). وتأتي آية الحج بعد إعلان الله تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين وبعد إذنه لهم-سبحانه- بقتال عدوهم ويختتم الآية بتقرير الله تعالى لقاعدة أساسية: (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). فكان تشريع القتال على مراحل: المرحلة الأولى: الحظر، وذلك عندما كان المسلمون في مكة، وكانوا يطالبون النبي صلى الله عليه وسلم بالإذن لهم في القتال فيجيبهم: «اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال» (2). المرحلة الثانية: الإذن به من غير إيجاب، قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج: 39]. المرحلة الثالثة: وجوب قتال من قاتل المسلمين، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190]. المرحلة الرابعة: فرض قتال عموم الكفار على المسلمين، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 36]. إن هذا التدرج في حكم القتال كان يقتضيه وضع الدولة الإسلامية الناشئة، وحالة الجيش الإسلامي الذي كان يأخذ في التكوين من حيث العُدد والعُدد والتدريب، وما إلى ذلك فكان لا بد من مضي فترة من الوقت يكون التعرض فيها لأعداء الدعوة الإسلامية من كفار قريش الذين آذوا المسلمين، واضطروهم إلى الخروج من ديارهم، يكون فيها ذلك التعرض لأعداء الدعوة، إنما هو على سبيل الاختيار، لا على سبيل الإجبار، وذلك إلى أن يصلب عود الدولة الإسلامية ويشتد بأس القوة الإسلامية، بحيث تستطيع الصمود أمام قوى الكفر في الجزيرة العربية فيما لو عملت قريش على تأليبها ضد المسلمين، كما وقع فيما بعد، وحينئذ يأتي وجوب القتال، في حالة تكون فيها أوضاع الدولة الإسلامية، والجيش الإسلامي على أهبة الاستعداد لمواجهة كافة الاحتمالات، هذا فيما يتصل بالقتال الذي يتعرض فيه المسلمون لكفار قريش، جاء النص بالإذن، أي بالإباحة لا بالوجوب أما في حالة ما لو تعرض فيه المسلمون وهم في دولتهم في المدينة لهجوم الأعداء عليهم، فالقتال هنا فرض لا مجال فيه للخيار، وليس مجرد أمر مأذون فيه، وذلك تطبيقاً لبيعة الحرب، بيعة العقبة الثانية التي أوجبت على الأنصار حرب   (1) انظر: مفاتيح الغيب، فخر الرازي (3/ 514). (2) انظر: تفسير الألوسي (6/ 108). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الأحمر والأسود من الناس في سبيل الذود عن الدعوة الإسلامية، وصاحبها وأتباعها (1). ومع نزول الإذن بالقتال شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدريب أصحابه على فنون القتال والحروب، واشترك معهم في التمارين والمناورات، والمعارك، وعد السعي في هذه الميادين من أجلِّ القربات وأقدس العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بتطبيق قول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60] في تكوين المجاهد المسلم يعتمد على نهجين متوازنين، التوجيه المعنوي، والتدريب العملي. 1 - التوجيه المعنوي: فكان صلى الله عليه وسلم يسعى إلى رفع معنويات المجاهدين، يمنحهم أملا يقينيا بالنصر أو الجنة، ومنذ تلك اللحظات وفيما بعد ظل هذا (الأمل) يحدو الجندي المسلم في ساحات القتال ويدفعه إلى بذل كل طاقته النفسية والجسدية والفنية من أجل كسب المعارك أو الموت تحت ظلال السيوف (2) فمن أقواله صلى الله عليه وسلم في حث أصحابه على الجهاد: «والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا، ثم أقتل ثم أُحيا، ثم أقتل» (3). وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أحدٌ يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيدُ يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة» (4). 2 - الأسلوب العملي: فقد سعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى اعتماد كل طاقات الأمة القادرة على البذل والعطاء، رجالاً ونساءً وصبياناً وشباباً وشيوخاً، وإلى التمرس على كل مهارة في القتال طعناً بالرمح وضرباً بالسيف، ورمياً بالنبل، ومناورة على ظهور الخيل، وكان صلى الله عليه وسلم يمزج خَطَّي التربية العسكرية المتوازنين: التوجيه والتدريب والأمل بالنصر أو الجنة وتقديم الجهد في ساحات القتال، ويحض المسلمين على إتقان ما تعلموا من فنون الرماية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أوقد عصى» (5) فهي دعوة إلى عموم الأمة وحتى من دخلوا في سن   (1) انظر: القتال والجهاد، د. محمد خير هيكل (1/ 463، 464). (2) انظر: دراسة في السيرة، ص161. (3) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني الشهادة (3/ 268) رقم 2797. (4) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني المجاهد أن يرجع إلي الدنيا (3/ 274) رقم 2817. (5) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه (3/ 1523) رقم 1919. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الشيخوخة للتدريب علي إصابة الهدف ومهارة اليد، ونشاط الحركة. إن الإسلام يهتم بطاقات الأمة جميعها ويوجهها نحو المعالي وعلو الهمة. وكان صلى الله عليه وسلم يهتم بالإعداد على حسب كل ظرف وحال، ويحث على كل وسيلة يستطيعها المسلمون، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» (1). ثانياً: من أهداف الجهاد في سبيل الله تعالى: 1 - حماية حرية العقيدة: قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ - وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الأنفال: 39،40]. 2 - حماية الشعائر والعبادات: قال تعالى: (إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ - أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج: 38 - 41]. 3 - دفع الفساد عن الأرض: قال تعالى: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ - تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [البقرة: 250 - 252]. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ) أي لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا (2).   (1) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه رقم 1917. (2) تفسير ابن كثير (1/ 262). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 4 - الابتلاء والتربية والإصلاح: قال تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ - سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ - وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد: 4 - 6]. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم وليبلو أخباركم (1) كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142]. 5 - إرهاب الكفار وإخزاؤهم وإذلالهم وتوهين كيدهم: قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60]. وقال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 14،15]. وقال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 17،18]. 6 - كشف المنافقين: قال تعالى: (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 179]. قال ابن كثير: أي لا بد أن يعقد شيئا من المحنة يظهر فيها وليه ويفضح به عدوه، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهتك به ستار المنافقين، فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم (2).   (1) المصدر السابق (4/ 154). (2) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 371) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 7 - إقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض: إن إقامة حكم الله في الأرض هدف من أهداف الجهاد قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) [النساء: 105]. 8 - دفع عدوان الكافرين: إن من أهداف الجهاد في الإسلام دفع عدوان الكافرين وهذا الجهاد أنواع منها: أأن يعتدي الكفار على فئة مؤمنة مستضعفة في أرض الكفار: لا سيما إذا لم تستطع أن تنتقل إلى بلاد تأمن فيها على دينها، فإن الواجب على الدولة الإسلامية أن تعد العدة لمجاهدة الكفار الذين اعتدوا على تلك الطائفة حتى يخلصوها من الظلم والاعتداء الواقع عليها (1) قال تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا - وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيرًا) [النساء: 74،75]. ب- أن يعتدي الكفار على ديار المسلمين: قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ - فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 190 - 192]. فقد نص الفقهاء على أنه إذا اعتدى الكفار على ديار المسلمين، يتعين الجهاد للدفاع عن الديار؛ لأن العدو إذا احتلها سام المسلمين عذاباً، ونفذ فيها أحكام الكفر، وأجبر أهلها على الخضوع له، فتصبح دار كفر بعد أن كانت دار إسلام. قال بعض علماء الحنفية: «وحاصله أن كل موضع خيف هجوم العدو منه فرض على الإمام أو على أهل ذلك الموضع حفظه، وإن لم يقدروا فرض على الأقرب إليهم إعانتهم إلى حصول الكفاية بمقاومة العدو» (2). جـ- أن ينشر العدو الظلم بين رعاياه- ولو كانوا كفارًا: لأن الله سبحانه حرم على عباده الظلم، والعدل في الأرض واجب لكل الناس، وإذا لم يدفع المسلمون الظلم عن المظلومين   (1) انظر: الجهاد في سبيل الله، د. عبد الله القادري (2/ 162). (2) انظر: حاشية ابن عابدين (4/ 124). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 أثموا؛ لأنهم مأمورون بالجهاد في الأرض لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ونشر العدل والقضاء على الظلم، ولا فلاح لهم إلا بذلك، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8]. د- الوقوف ضد الدعاة إلى الله ومنعهم من تبليغ دعوة الله: إن المسلمين مفروض عليهم من قبل المولى عز وجل أن يبلغوا رسالات الله للناس كافة، قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]. وأعداء الله يصدون أولياءه عن تبليغ عباده دعوته ولا يتركون لهم سبيلاً إلى الناس، كما لا يأذنون للدعاة أن يُسمعوا الدعوة إلى الله للناس، ويضعون العراقيل والعوائق، والحواجز بين الدعوة ودعاتها وبين الناس، ولذلك أوجب الله عز وجل على عباده المؤمنين قتال كل من يصد عن سبيل الله تعالى (1). قال تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ - فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 1 - 4]. ثالثاً: أهم السرايا والبعوث التي سبقت غزوة بدر الكبرى: بمجرد الاستقرار الذي حصل للمسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وقيام الجماعة المؤمنة في المجتمع الجديد، كان لا بد أن يتنبه المسلمون وقيادتهم إلى الوضع حولهم وما ينتظرهم من جهة أعدائهم أعداء الدعوة، وكان لا بد أن تنطلق الدعوة الإسلامية إلى غايتها التي أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بها، وتحمل هو وأصحابه في سبيلها المشاق الكثيرة. إن موقف قريش في مكة من أولى الأمور التي يجب أن تعالجها قيادة المدينة؛ لأن أهل مكة لن يرضوا بأن يقوم للإسلام كيان ولو كان في المدينة، لأن ذلك يهدد كيانهم، ويقوض بنيانهم، فهم يعلمون أن قيام الإسلام معناه انتهاء الجاهلية وعادات الآباء والأجداد، فلا بد من الوقوف في وجهه. وقد بذلت مكة وأهلها المحاولات لعدم وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واتخذت مواقف عدائية لضرب الإسلام والقضاء على المسلمين (2) واستمر هذا العداء بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم،   (1) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم، للصلابي، ص488. (2) انظر: مرويات غزوة بدر، أحمد باوزير، ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فمن أهم المواقف الدالة على ذلك، ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حدَّث عن سعد بن معاذ أنه قال: كان صديقاً لأمية بن خلف، وكان (أمية) إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على (أمية) فلما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انطلق (سعد) معتمراً فنزل على أمية بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمناً، وقد آويتم الصُّبَاه (1) وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فقال له (سعد) ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة ... (2) وفي رواية عند البيهقي: «والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك إلى الشام» (3) تدل هذه الواقعة على أن (أبا جهل) يعتبر (سعد بن معاذ) من أهل الحرب بالنسبة إلى قريش، ولولا أنه دخل مكة في أمان زعيم من زعمائها لأهدر دمه، وهذا تصرف جديد من رؤساء مكة حيال أهل المدينة لم يكن قبل الدولة الإسلامية فيها، فلم يكن أحد من أهل المدينة يحتاج إلى عقد أمان لكي يسمح له بالدخول إلى مكة، بل إن قريشا كانت تكره أن تفكر في حدوث حالة حرب بينها وبين أهل المدينة قبل هذا الوضع الجديد، وقالوا في هذا الصدد يخاطبون أهل المدينة ما نصه: «والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم» (4) كما تدل هذه القصة على أن قوافل تجارة قريش في طريقها إلى الشام كانت في أمان إلى حدوث هذه الواقعة، لا تتعرض لها الدولة الإسلامية بمكروه، أي: كانت الدولة الإسلامية إلى هذا الوقت لم تعامل أهل مكة معاملة أهل الحرب، فلم تضرب عليهم الحصار الاقتصادي، ولم تصادر لهم أية قافلة، أو تقصدها بسوء؟ ومعنى هذا أن الأيدي الممسكة بزمام الأمور في مكة هي التي بادرت، وأعلنت الحرب على الدولة الإسلامية في المدينة، واعتبرت المسلمين أهل حرب لا يسمح لهم بدخول مكة إلا بصفة مستأمنين (5). * ودليل آخر على مبادرة رؤساء مكة في إعلان الحرب على الدولة الإسلامية في المدينة ما جاء في سنن أبي داود: «عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلى (ابن أُبي) ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة، قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه ولتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم، فلما بلغ عبد الله بن   (1) جمع صابئ: أي الخارج عن دينه، وكان المشركون يسمون من أسلم صابئاً. (2) صحيح البخاري رقم 3950. (3) انظر: دلائل النبوة للبيهقي، (3/ 25) .. (4) انظر: سيرة ابن هشام (الروض الأنف 2/ 192). (5) انظر: الجهاد والقتال، (1/ 476). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أبي، ومن كان معه من عبدة الأوثان، اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: «لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم» فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا (1). وهنا تظهر عظمة النبوة وعظمة القائد المربي صلى الله عليه وسلم حيث قضى على هذه الفتنة في مهدها، وضرب على وتر العزة القبلية، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدرك أغوار النفس البشرية التي يتعامل معها، ولذلك كان خطابه مؤثراً في نفوس مشركي يثرب، ونحن بحاجة إلى هذا الفقه العظيم في تفتيت محاولات المشركين للقضاء على الصف الإسلامي وزعزعة بنيانه الداخلي، بعد أن بدأت قريش بإعلان حالة الحرب بينها وبين دولة الإسلام بالمدينة، ونزل الإذن من الله تعالى بالقتال صار من الطبيعي أن تتعامل دولة المدينة مع قريش حسب ما تقتضيه حالة الحرب هذه، فقد اتجه نشاط الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل توطيد مكانة هذه الدولة، والرد على قريش في إعلانها الحرب على المدينة، فاتجه نشاطه نحو إرسال السرايا، والخروج في الغزوات (2) فكانت تلك السرايا والغزوات التي سبقت بدر الكبرى ومن أهمها: 1 - غزوة الأبواء: أولى الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الأبواء (3) وتعرف بغزوة ودان (4) أيضاً، وهما موقعان متجاوران بينهما ستة أميال أو ثمانية، ولم يقع قتال في هذه الغزوة بل تمت موادعة بني ضمرة (من كنانة)، وكانت هذه الغزوة في صفر سنة اثنتين من الهجرة، وكان عدد المسلمين مائتين بين راكب وراجل (5). 2 - سرية عبيدة بن الحارث: وهي أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم (6)، وكان عدد السرية ستين من المهاجرين وكانت قوة الأعداء من قريش أكثر من مائتي راكب وراجل، وكان قائد المشركين أبو سفيان بن حرب، وحصلت مناوشات بين الطرفين على ماء بوادي رابغ، رمى فيها سعد بن أبي وقاص أول سهم رمي في الإسلام وكانت بعد رجوعه من الأبواء (7).   (1) سنن أبي داود (3/ 213) رقم الحديث 3004. (2) انظر الجهاد والقتال (1/ 477). (3) قيل: سميت بذلك لما فيها من الوباء. (4) ودان: قرية جامعة قريبة من الأبواء. (5) انظر: جيش النبي صلى الله عليه وسلم لمحمود شيت خطاب، ص54. (6) انظر: طبقات ابن سعد (2/ 7). (7) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول، د. محمد بكر آل عباد (1/ 40). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 3 - سرية حمزة بن عبد المطلب: قال ابن إسحاق: وبعث النبي صلى الله عليه وسلم في مقامه ذلك- أي لما وصل إلى المدينة بعد غزوة الأبواء- حمزة بن عبد المطلب إلى سِيف البحر (1) من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين، فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجر بين الفريقين مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعا للفريقين جميعاً، فانصرف القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال (2). 4 - غزوة بواط (3): وكانت غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم (بواط) في شهر ربيع الأول في السنة الثانية من مهاجره، وخرج في مائتين من أصحابه وكان مقصده أن يعترض عيراً لقريش كان فيها أمية بن خلف في مائة رجل وألفين وخمسمائة بعير، فلم يلق النبي صلى الله عليه وسلم كيداً فرجع إلى المدينة. 5 - غزوة العُشَيرة (4): وفيها غزا صلى الله عليه وسلم قريشاً، واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وسميت هذه الغزوة بغزوة العُشَيرة، فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضَمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، وذلك أن العير التي خرجت لها الغزوة قد مضت قبل ذلك بأيام ذاهبة إلى الشام (5)، فساحلت على البحر وبلغ قريشاً خبرها فخرجوا يمنعوها فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقعت غزوة بدر الكبرى (6). 6 - سرية سعد بن أبي وقاص: وبعد غزوة العشيرة بعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في سرية قوامها ثمانية رَهْط من المهاجرين فخرج حتى بلغ الخَرَّار (7) من أرض الحجاز، ثم رجع ولم يلق كيداً (8).   (1) سيف البحر: ساحله من ناحية العيص. (2) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 595). (3) بواط: هو جبل من جبال جهينة، بناحية رضوى بقرب ينبع. (4) العشيرة: موضع بين مكة والمدينة من ناحية ينبع على ساحل البحر الأحمر، (مراصد الاطلاع 2/ 943). (5) انظر: طبقات ابن سعد (2/ 10). (6) نفس المصدر (2/ 11). (7) علم لموضع بالحجاز قرب الجحفة (مراصد الاطلاع 1/ 455). (8) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 600). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 7 - غزوة بدر الأولى: سببها: أن كرز بن جابر الفهري، قد أغار على سرح (1) المدينة ونهب بعض الإبل والمواشي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ وادياً يقال له (سفوان) من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر، فلم يدركه، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (2). 8 - سرية عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة (3): وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في ثمانية رَهْط من المهاجرين إلى نخلة جنوب مكة في آخر يوم من رجب للاستطلاع والتعرف على أخبار قريش، لكنهم تعرضوا لقافلة تجارية لقريش فظفروا بها، وقتلوا قائدها عمرو بن الحضرمي، وأسروا اثنين من رجالها وهم: عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وعادوا بهم إلى المدينة، وقد توقف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغنائم حتى نزل قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 217]. فلما نزل القرآن الكريم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وفي سرية عبد الله هذه غنم المسلمون أول غنيمة، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل قتله المسلمون، وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون (4). رابعًا: فوائد ودروس وعبر: 1 - متى شُرع الجهاد؟ ذهب الشيخ الدكتور محمد أبو شهبة إلى أن تشريع الجهاد كان في أوائل السنة الثانية للهجرة، وعلل ذلك بسبب انشغال المسلمين في السنة الأولى بتنظيم أحوالهم الدينية والدنيوية كبنائهم المسجد النبوي، وأمور معايشهم، وطرق اكتسابهم وتنظيم أحوالهم السياسية: كعقد التآخي بينهم، وموادعتهم اليهود المساكنين لهم في المدينة، كي يأمنوا شرورهم (5)، وذهب   (1) السرح: الإبل والمواشي التي تسرح للرعي بالغداة. (2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 601). (3) نخلة اليمانية: واد عسكرت به هوازن يوم حنين. (4) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 43). (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/ 75، 76). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الأستاذ صالح الشامي أن الإذن بالجهاد كان في أواخر السنة الأولى للهجرة (1). 2 - الفرق بين السرية والغزوة: يطلق كتاب السير في الغالب على كل مجموعة من المسلمين خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم ليلقى عدوه (غزوة)، سواء حدث فيها قتال أو لم يحدث، وسواء كان عددها كبيراً أو صغيراً، ويطلق على كل مجموعة من المسلمين يرسلها النبي صلى الله عليه وسلم لاعتراض عدو كلمة: (سرية) أو (بعث)، وقد يحدث فيها قتال، وقد لا يحدث، وقد تكون لرصد أخبار عدوه أو غيره، وغالباً ما يكون عدد الذين يخرجون في السرايا قليلاً؛ لأن مهمتهم محددة في مناوشة العدو وإخافته وإرباكه، وقد قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وعشرين غزوة، وأرسل ما يقدر بثمانٍ وثلاثين سرية وبعثاً، وقد خطط لها في فترة وجيزة في عمر الأمم بلغت عشر سنوات من الزمن (2). 3 - تعداد سكان المدينة وعلاقته بالسرايا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجراء تعداد سكاني في السنة الأولى من الهجرة، وبعد المؤاخاة مباشرة، وكان الإحصاء للمسلمين فقط أو حسب نص أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس» فبلغ تعداد المحاربين منهم فقط (1500) ألفاً وخمسمائة رجل (3) فأطلق المسلمون بعد إجراء هذا الإحصاء تساؤل تعجب واستغراب: «نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟!» لأنهم كانوا قبل لا ينامون إلا ومعهم السلاح خوفا على أنفسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنع خروجهم ليلاً فرادى حماية لهم من الغدر (4)، وبعد هذا التعداد مباشرة بدأت السرايا والغزوات، وهذا الإجراء الإحصائي يدخل ضمن الإجراءات التنظيمية في تطوير الدولة الناشئة (5). 4 - حراسة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم الشخصية: كان الصحابة رضي الله عنهم يحرسون النبي صلى الله عليه وسلم حراسة شخصية، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «أرق النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: «ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة»، إذ سمعنا صوت السلاح، قال: «من هذا؟» قال: سعدٌ، يا رسول الله جئت أحرسك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فنام حتى سمعنا غطيطه» (6)،   (1) انظر: معين السيرة، ص175. (2) في ظلال السيرة، غزوة بدر، لأبي فارس، ص12. (3) انظر: الوثائق السياسية، حميد الله، ص65. (4) انظر: الروض الأنف (5/ 43). (5) انظر: دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص163. (6) صحيح البخاري، كتاب التمني (3/ 219). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وكان ذلك قبل غزوة بدر الكبرى (1)، وفي حديث عائشة، مشروعية الاحتراس من العدو، والأخذ بالحزم، وترك الإهمال في موضع الحاجة إلى الاحتياط، وأن على الناس أن يحرسوا سلطانهم خشية القتل، وفيه الثناء على من تبرع بالخير وتسميته، وإنما عانى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوة توكله للاستنان به في ذلك (2). 5 - نص وثيقة المعاهدة مع بني ضمرة والتعليق عليها: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضَمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأنَّ لهم النصر على من رامهم، إلا أن يُحاربوا في دين الله ما بل بحرٌ صوفه (3) وأن النبي إذا دعاهم لنصرة أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله، ولهم النصر على من برَّ منهم واتقى» (4). انتهز النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأبواء فرصة ذهبية، فعقد حلفاً عسكرياً مع شيخ بني ضمرة، فقد كان موقع بلاده ذا قيمة عسكرية لا تقدر بثمن في الصراع بين الدولة الإسلامية الناشئة وقريش؛ ولذلك عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضمان حيدتهم، في حالة وقوع صدام مسلح بين المدينة وأهل مكة، وكانت خطته صلى الله عليه وسلم حتى وقعة بدر أن يزعج قوافل قريش بإرسال مجموعات صغيرة من المهاجرين، وخاصة أن هذه القوافل كانت غير مصحوبة بجيش يحميها، وهو أمر لم تفكر فيه قريش حتى تلك اللحظة (5). كان قرب بني ضمرة وحلفائهم من المدينة التي كانت سوقهم ومصدر رزقهم، قد وضعهم في موقف لا يسمح لهم بأي مسلك غير موادعة الدولة الإسلامية الناشئة، وهو حلف عدم اعتداء وفق المصطلح الحديث (6). وقد دلت هذه الموادعة على أن مقتضيات السياسة الشرعية قد تدفع المسلمين إلى التحالف العسكري أو الاقتصادي أو التجاري، مع أي من الكتل القائمة، وأن التحالف السياسي له أصل في الشريعة، وضرورة يوجبها استهداف رفع الضرر الحاصل أو المرتقب (7)، وأن التحالف مبني على قاعدة رفع الضرر، والمصلحة المشتركة، وأن تكون لأصل الحلف غاية شرعية معلومة، وأن يكون للمسلمين في الحلف قرار ورأي، أما إذا كانوا أتباعًا ومنفذين كما   (1) انظر: تفسير القرطبي (6/ 230). (2) انظر: ولاية الشرطة في الإسلام، د. عمر محمد الحميداني، ص63. (3) كناية على التأبيد والاستمرار. (4) الوثائق السياسية، محمد حميد الله، ص220 رقم 159. (5) انظر: نشأة الدولة الإسلامية، د. عون الشريف، ص43. (6) انظر: الفقه السياسي، خالد سليمان الفهداوي، ص119. (7) المصدر السابق، ص124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 في الأحلاف الحديثة، فهذا لا ينطبق عليه الأصل الشرعي، وعلى قيادة الأمة أن تستوعب هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حركته السياسية، وأن تفهم القاعدة الشرعية التي تقول: (لا ضرر ولا ضرار) (1). يقول الشيخ مصطفى الزرقا في معرض الحديث عن هذه القاعدة ما نصه: «وهذه القاعدة من أركان الشريعة، وتشهد لها نصوص من الكتاب والسنة، ويشمل الضرر المنهي عنه ما كان ضرراً عاماً أو خاصاً، ويشمل ذلك دفعه قبل الوقوع بطرق الوقاية الممكنة، ودفعه بعد الوقوع بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره، وتمنع تكراره، كما يدل على وجوب اختيار أهون الشرين لدفع أعظمها؛ لأن في ذلك تخفيفاً للضرر عندما لا يمكن منعه بتاتا (2). إن هذه الموادعة توضح جواز عقد الدولة الإسلامية معاهدة دفاعية بينها وبين دولة أخرى إذا اقتضت ذلك مصلحة المسلمين، ولم يترتب أي ضرر على مثل هذه المعاهدة، ويجب على الدولة الإسلامية، في هذه الحال نصرة الدولة الحليفة إذا دعيت إلى هذه النصرة ضد الكفار المعتدين، كما يجوز للدولة الإسلامية أن تطلب من الدولة الحليفة إمدادها بالسلاح، والرجال، ليقاتلوا تحت راية الدولة الإسلامية ضد الأعداء من الكفار (3). وقد شرط النبي صلى الله عليه وسلم على بني ضَمرة ألا يحاربوا في دين الله، حتى يكون لهم النصر على من اعتدى عليهم أو حاول الاعتداء، وفي هذا إبعاد للعقبات التي يمكن أن تقف في طريق الدعوة، فقد أوجبت هذه المعاهدة على بني ضمرة ألا يحاربوا هذا الدين أو يقفوا في طريقه (4). وتعتبر هذه المعاهدة كسباً سياسياًّ وعسكرياًّ للمسلمين لا يستهان به (5). 6 - (وإني لأول رجل رمى بسهم في سبيل الله) (6): كانت سرية عبيدة بن الحارث - رضي الله عنه - أول سرية في تاريخ السرايا يلتقي فيه المسلمون مع المشركين في مواجهة عسكرية، وقد اتخذ القتال بين الطرفين طابع المناوشة بالسهام وكان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - (أول العرب رمى بسهم في سبيل الله) (7) في تلك المعركة التي   (1) هذه القاعدة أصلها حديث نبوي رواه ابن ماجة (2/ 39) رقم 1896، وهو صحيح. (2) انظر: المدخل الفقهي، الشيخ الزرقا، ص972. (3) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، د. محمد خير هيكل (1/ 479). (4) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص530. (5) انظر: الدعوة الإسلامية، ص296، د. عبد الغفار عزيز. (6) انظر: صحيح سنن الترمذي (2/ 277). (7) انظر: السرايا والبعوث النبوية، د. بريكك العمري، ص91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 لم تستمر طويلاً، إذ قرر الفريقان الانسحاب من أرضها، وقد كان انسحاب المسلمين قوياًّ ومنظماً، وكان بطل هذا الانسحاب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فقد كان له الدور الأكبر في تثبيت وإحباط استعدادات العدو لشن أي هجوم مضاد؛ وذلك بوابل من السهام المزعجة التي قذفها نحوه، والتي كونت ساتراً دفاعياًّ مهد لانسحاب سليم منظم بالنسبة للمسلمين، وقد فر عتبة بن غزوان والمقداد بن الأسود (1) رضي الله عنهما يومئذ إلى المسلمين، وكانا قد أسلما قبل ذلك، وفي هذه السرية حقق سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - سبقاً عسكرياًّ إسلامياًّ، يسجل في سجله الحافل بالأعمال العظيمة لنصرة دين الله تعالى، كما أكدت هذه السرية استمرار سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم التعبوية الخاصة بحشد المهاجرين فقط في الغزوات والسرايا الأولى حتى بدر تنفيذاً لاتفاقية العقبة الثانية (2). 7 - نص وثيقة الموادعة مع جهينة والتعليق عليها: «إنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وإن لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلا في الدين والأهل، ولأهل باديتهم من بر منهم واتقى ما لحاضرتهم» (3). ويظهر أثر هذه الموادعة عندما تدخل مجدي بن عمرو الجهني في التوسط بين سرية حمزة بن عبد المطلب والقافلة القرشية التي كان يقودها أبو جهل بن هشام ويحرسها ثلاثمائه راكب من فرسان قريش (4) فقد التقوا ناحية العيص في منطقة نفوذ جهينة واصطفوا للقتال (5) وقبل أن يندلع القتال بين الفريقين تدخل مجدي بن عمرو زعيم من زعماء جهينة، في وساطة سلام بينهم، واستطاع أن ينجح في مساعيه السلمية بين الطرفين، فقد كان مجدي وقومه حلفاء للفريقين جميعاً فلم يعصوه فرجع الفريقان كلاهما إلى بلادهما فلم يكن بينهم قتال (6). ويظهر من هذه المعاهدة أن عقد المعاهدات بين الدول الإسلامية والقبائل المجاورة كان سابقاً على الأعمال العسكرية التي قامت بها، بدليل أن حركة السرايا الأولى الموجهة ضد قريش كان قد سبقها معاهدة سلام بين دولة الإسلام وقبيلة جهينة المقيمة على ساحل البحر الأحمر، وقد توسطت لمنع القتال بين المسلمين وكفار مكة. ومن فقه هذه المعاهدة، جواز عقد معاهدة سلام بين دولة الإسلام ودولة أخرى هي   (1) هو سيدنا المقداد بن عمرو البهراني الكندي، وقيل الحضرمي، وغلبت عليه الشهرة باسم المقداد بن الأسود (الإصابة: لابن حجر 6/ 160 عند ترجمته برقم 8201). (2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، د. بريكك العمري ص92. (3) انظر: مجموعة الوثائق السياسية، محمد حميد الله، ص62. (4) انظر: المواهب اللدنية (1/ 75). (5) انظر: طبقات ابن سعد (2/ 6)، السرايا والبعوث، ص85. (6) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 بدورها مرتبطة بمعاهدة سلام مع أعداء الدولة الإسلامية بشرط أن لا تجاوز تلك المعاهدة إلى الاتفاق على أن تنصر الدولة المعاهدة للمسلمين تلك الدولة العدو إذا ما اشتبكت مع المسلمين في قتال، ويجوز للدولة الإسلامية أن تترك قتال أعداءها بعد أن تستعد لذلك استجابة لوساطة دولة أخرى، إذا لم يترتب على ذلك ضرر للمسلمين (1). كانت نتائج سرية حمزة - رضي الله عنه - على المعسكر الوثني سيئة للغاية، حيث هزت كيان قريش وبثت الرعب في نفوس رجالها، وفتحت أعينهم على الخطر المحدق بهم والذي أصبح يهدد طريق تجارتهم وقوتهم الاقتصادية (2)، فقد قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن حمزة: يا معشر قريش إن محمدا قد نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً، فاحذروا أن تمروا طريقه، وأن تقاربوه فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق (3) عليكم نفيتموه نفي القردان (4) على المناسم (5)، والله إنه له لسحرة، ما رأيته قط ولا أحدا من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم عرفتم عداوة ابني قيلة (6) فهو عدو استعان بعدو (7). 8 - سرية عبد الله بن جحش وما فيها من دروس وعبر: إن سرية عبد الله بن جحش حققت نتائج مهمة وفيها دروس وعبر وفوائد عظيمة منها: أ- جاء في خبر هذه السرية أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لأمير السرية كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، وهذا مثل لتطبيق مبدأ مهم من مبادئ الحرب، وهو إخفاء الخطط الحربية، ومنها خط السير، حتى يكون الجيش في أمان من كيد الأعداء، فالمدينة كانت آنذاك تضم اليهود والوثنين ومن المتوقع أن يسارع هؤلاء إلى إخبار أهل مكة بخط سير تلك السرية الموجهة ضدهم، فلما سار أفراد السرية وهم بأنفسهم لا يعلمون اتجاههم أصبح النبي صلى الله عليه وسلم آمنا من انكشاف الهدف المقصود (8). وإن الباحث ليرى أثر التربية النبوية في هذه السرية المباركة حيث سمعوا وأطاعوا جميعا وساروا إلى منطقة أعدائهم، وتجاوزوها حتى أصبحوا من ورائهم، وهذا شاهد على قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم، واستهانتهم بأنفسهم في سبيل الله تعالى (9).   (1) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/ 478، 479). (2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص86. (3) الحنق: محركة: الغيظ أو شدته. (4) القردان: جميع قراد وهي دويبة تعض الأبل. (5) المناسم: بكسر السين: طرف خف البعير والنعامة، والفيل والحافر، وقيل: هي للناقة كالظفر للإنسان. (6) كناية عن الأوس والخزرج، فقيلة أمهم وكانوا ينسبون إليها. (7) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 218، 219). (8) انظر: التاريخ الإسلامي مواقف وعبر (4/ 71). (9) المصدر نفسه (4/ 71). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ب- حاولت قريش أن تستغل ما وقع من قتل في الشهر الحرام من قبل أفراد السرية: فشنوا حرباً إعلامية وهجومية مركزة تتخللها دعايات مغرضة ضد المسلمين، استغلت فيها التعاليم الإبراهيمية التي ما زالت بعض آثارها باقية في المجتمع الجاهلي حتى ذلك الوقت من تحريم القتال في الأشهر الحرم، وغير ذلك، فقد انتهزت قريش هذه الفرصة للتشهير بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين وإظهارهم بمظهر المعتدي الذي لا يراعي الحرمات (1)، قالت قريش: «قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال» (2). ونجحت قريش في خطتها تلك بادئ الأمر حيث (كان لدعايتها صدى كبير، وأثر ملموس حتى في المدينة نفسها، فقد كثر الجدل والنقاش بين المسلمين أنفسهم، وأنكروا على رجال السرية محاربتهم في الشهر الحرام واشتد الموقف، ودخلت اليهود تريد إشعال الفتنة) (3)، وقالوا إن الحرب واقعة لا محالة بين المسلمين وقريش، بل بينهم وبين العرب جميعاً جزاء ما انتهكوا من حرمة الشهر الحرام، وأخذوا يرددون (4): «عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب، وواقد: وقدت الحرب» (5) وهذا الكلام من اليهود يعبر عن حقد دفين في نفوسهم على الإسلام والمسلمين (6). وعندما ظن أهل السرية أنهم قد هلكوا وسُقط في أيديهم جاء الرد الرباني المفحم قطعاً لألسنة المشركين الذين يتترسون بالحرمات، ويتخذونها ستاراً لجرائمهم، ففضح القرآن هؤلاء المجرمين، وأبطل احتجاجهم وأجاب على استنكارهم القتال في الشهر الحرام، فالصد عن سبيل الله، والكفر به أكبر من القتال في الشهر الحرام، والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر من القتال في الشهر الحرام، وفتنة الرجل في دينه أكبر من القتل في الشهر الحرام، لقد فعلت قريش كل هذه الجرائم، وارتكبت هذه الكبائر، ولكنها تناستها أو استهانت بها، ولم تذكر إلا حرمة الشهر، واتخذها وسيلة لإثارة حرب شعواء على الإسلام ودولته، لتأليب القبائل الوثنية عليها، وتنفير الناس من الدخول في هذا الدين الذي يستحل الحرمات، ويستبيح المقدسات حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لحقه الغم، ولام قائد السرية وأصحابه على ما فعلوا (7)، فنزلت الآيات   (1) انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، الشريف أحمد، ص445. (2) انظر: سنن البيهقي (9/ 59) نقلا عن السرايا والبعوث النبوية، ص100. (3) انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص445. (4) أي يرددون على سبيل التفاؤل - عليهم لعائن الله. (5) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 603، 604). (6) انظر: التاريخ الإسلامي، (4/ 72). (7) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص533. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 البينات ترد وبقوة على دعايات قريش المغرضة، موضحة أنه وإن كان الشهر الحرام لا يحل فيه القتال، ولكن لا حرمة عند الله لمن هتك الحرمات وصد عن سبيله (1). جـ- حرص القائد على سلامة الجنود: عندما تخلف سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بسبب بحثهما عن بعير لهما قد أضلاه، وجاءت قريش تريد أن تفدي الأسيرين، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أخاف أن تكونوا قد أصبتم سعد بن مالك وعتبة بن غزوان» فلم يفدهما حتى قدم سعد وعتبة، ففوديا، فأسلم الحكم بن كيسان (1) وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع عثمان بن عبد الله ابن المغيرة كافراً (2). ونفهم من المنهاج النبوي ضرورة أن يهتم القائد بسلامة جنده؛ لأنهم هم الذين يقدمون أنفسهم في سبيل نصرة دين الله وإقامة دولة الإسلام. إن المدارس العسكرية الحديثة تقول: إن الجندي حين يحس باهتمام القيادة به وسلامته وبأمنه، لا يتردد في أن يبذل غاية البذل ويعطي أقصى العطاء (2). د- ظهور التربية الأمنية في الميدان: كانت سرية عبد الله بن جحش قد حققت أهدافها، وظهرت قدرتها على التوغل في المناطق الخاضعة لنفوذ قريش مما أذهلها، وزاد دهشتها وذهولها، تلك السرية التامة، والدقة المتناهية التي تمت بها العملية، حتى إن جواسيس قريش لم تستطع رصدها ولا معرفة الوجهة التي قصدتها، وكان ذلك ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطط له بابتكاره أسلوب الرسائل المكتوبة للمحافظة على الكتمان وحرمان العدو من الحصول على المعلومات التي تفيده عن حركات المسلمين «والكتمان أهم عامل من عوامل مبدأ (المباغتة) وهي أهم مبدأ من مبادئ الحرب» (3). وقد أثبتت هذه السرية بما لا يدع مجالاً للشك بأن سرايا النبي صلى الله عليه وسلم قوية تندفع للقيام بأصعب الأعباء والمهمات وتتحلى بمزايا القتال، وقدرتها على إنجاز الواجبات بكل كفاءة واقتدار؛ مما يدل على روحها المعنوية العالية. وتظهر آثار التربية النبوية في الضبط العسكري الرفيع الذي تميز به قائد السرية وطاعته للأوامر النبوية العليا دون تردد أو تخاذل، فما إن قرأ الكتاب حتى امتثل فورا للأمر بحذافيره معطياًّ من نفسه القدوة الحسنة، وباثاًّ في نفوس جنوده الحماس وهو يقول لهم:   (1) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص100. (2) انظر: غزوة بدر الكبرى، محمد أبو فارس، ص23. (3) انظر: الرسول القائد، خطاب، ص94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 «فمن كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1). 9 - من أهداف السرايا: عندما ندرس حركة السرايا والغزوات التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدقة وعمق وتحليل، نستطيع أن نتلمس كثيراً من الأهداف وندرك بعض ما توحي به من دروس وعبر وفوائد، فإذا تأملنا في حركة السرايا التي سُيرت قبل بدر نجد أن أفرادها كلهم من المهاجرين ليس فيهم واحد من الأنصار يقول ابن سعد رحمه الله: «والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين» ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الأنصار مبعثاً حتى غزا بهم بدراً (2) وقد كان هذا أمراً مدروسًا له أهدافه ومنها: إحياء قضية المهاجرين في أنفسهم أولاً، وإحياؤها على المستوى الخارجي، وإنهاك الاقتصاد القرشي ومحاصرته، واستعادة بعض الحقوق المسلوبة، وإضعاف قريش عسكرياًّ، وتدريب الصحابة على إتقان فنون القتال، رصد تحركات قريش، وإرهاب العدو الداخلي في المدينة وما حولها واختبار قوة العدو (3) وقد حققت تلك السرايا أهدافها والتي من أهمها: أ- بسط هيبة الدولة في الداخل والخارج: فقد استطاعت تلك السرايا والغزوات أن تلفت أنظار أعداء الدعوة والدولة الإسلامية إلى قوة المسلمين وقدرتهم على ضرب أية حركة مناوئة، سواء في الداخل أو الخارج، حتى لا يحدث أحد نفسه بمهاجمة الدولة الإسلامية، التي لا يتوقف جيشها ليل نهار؛ مما أرهب الأفاعي اليهودية، والقبائل الوثنية المحيطة بالمدينة، وجعل الجميع يعمل ألف حساب قبل أن تحدثه نفسه بغزو المدينة، أو مناصرة أحد من الأعداء عليها والذي نلاحظه في حركة السرايا الزيادة المستمرة في أعداد قوة تلك الغزوات والسرايا، ومجيئها متتابعة ليس بينها فاصل زمني على الإطلاق، فلا تكاد السرية أو الغزوة تعود حتى تكون التي بعدها قد خرجت لتحقيق الهدف نفسه، وهو ضرب مصالح قريش الاقتصادية، وقطع طرق تجارتها، وخصوصاً إلى بلاد الشام؛ مما كلفها زيادة عدد حراس قوافلها، وارتفاع قيمة بضائعها، عدا عن الرعب والخوف الذي يشعر به رجال القوافل القرشية وأصحاب الأموال في مكة على حد سواء (4). ب- كسب بعض القبائل وتحجيم دور الأعراب: فقد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة جهينة وحالفها، وكذلك بعض القبائل الضاربة في تلك   (1) انظر: سيرة ابن هشام، (1/ 602) من رواية ابن إسحاق عن عروة. (2) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 6). (3) انظر: غزوة بدر الكبرى لأبي فارس، ص14: 24. (4) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص532. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 المنطقة، من أجل تحييدها في الصراع الدائر بين مكة والمدينة، والعمل على كسبها في هذا الصراع وذلك: (لأن الأصل أن هذه القبائل تميل إلى قريش، وتتعاون معها، إذ بينهما محالفات تاريخية سماها القرآن الكريم بالإيلاف (1) سعت قريش من خلالها لتأمين تجارتها مع الشام واليمن) (2). وبعد أن اتفقت بعض القبائل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقدت معه معاهدات، أصبحت تشكل خطراً على تجارة قريش، وصار المسلمون هم السادة في المنطقة (3). وقام النبي صلى الله عليه وسلم بتحجيم دور الأعراب كي لا يكون لهم وجود في طرق التجارة، فقد كان الأعراب يشكلون قوة تهديد للقوافل التجارية، وكان المار في مناطق نفوذهم لا يمر إلا بإتاوة تَدفع إليهم، وحينما قامت الدولة الإسلامية لم يجدوا شيئاً منها فجربوا مهاجمتها وتولى هذا كرز الفهري، ولكنه وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطارده إلى سفوان (بالقرب من بدر، وهي مسافة تبعد عن المدينة حوالي 150 كيلومتراً) وقد سمى أهل السير هذه المطاردة غزوة بدر الصغرى، وتعد هذه الغزوة درساً لكل الأعراب فلم يحصل أن أعرابياًّ سولت له نفسه مهاجمة المدينة بعد هذه المطاردة، ومن ثم لم تدفع الأمة الإسلامية إتاوات لقطاع الطرق بل أجبرتهم على الانسحاب والدخول في اتفاقات مع المسلمين فأمنوا شرهم (4). ج- علاقة هذه السرايا بحركة الفتوح الإسلامية: استمرت حركة السرايا والبعوث، وكانت بمثابة تمرينات عسكرية تعبوية، ومناورات حية لجند الإسلام، وكان هذا النشاط المتدفق على شكل موجات متعاقبة من جند الإسلام الأوائل دلالة قاطعة على أن دولة الإسلام في المدينة وبقيادة النبي القائد صلى الله عليه وسلم كانت مثل خلية النحل لا تهدأ ولا تكل، وإن الباحث ليلحظ في حركة السرايا والبعوث والغزوات الكبرى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حرص الصحابة على المشاركة كقادة وجنود، فكان صلى الله عليه وسلم يعدهم لتثبيت دعائم الدولة والاستعداد للفتوحات المرتقبة، والتي ما فتئ عليه الصلاة والسلام يبشر بها أصحابه بين الفينة والأخرى في أوقات الحرب والسلم والخوف والأمن. إنه بنظرة فاحصة في قواده وجنود تلك السرايا والبعوث تطالعنا أسماء لمعت كثيراً في تاريخ الفتح الإسلامي فيما بعد، مثل قائد فتوحات الشام، أمين الأمة، أبي عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص صاحب القادسية، وفاتح المدائن وخالد بن الوليد سيف الله   (1) سورة قريش الآيات من (1 - 4). (2) انظر: المجتمع المدني، د. أكرم ضياء العمري، ص27. (3) انظر: دراسات في السيرة، مؤنس، ص19. (4) انظر: دراسات في عهد النبوة، د. عبد الرحمن الشجاع، ص131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 المسلول هازم الروم في اليرموك، وعمرو بن العاص فاتح مصر وليبيا وغيرهم -رضي الله عنهم- لقد التحق خالد وعمرو فيما بعد بحركة السرايا وقادوا بعضهما بعد إسلامهم، لقد كانت السرايا والغزوات التي أشرف عليها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته تدريباً حياً نابضاً، بل يمكن اعتبارها دورات أركان للقادة الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها فيما بعد. * * * المبحث الخامس استمرارية البناء التربوي والعلمي كان من أوائل ما نزل من القرآن الكريم في العهد المدني هو مقدمات سورة البقرة التي تحدثت عن صفات أهل الإيمان، وأهل الكفر، وأهل النفاق ثم إشارة لأهل الكتاب، اليهود والنصارى، وكان التركيز على بيان حقيقة اليهود؛ لأنهم الذين تصدوا للدعوة الإسلامية من أول يوم دخلت فيه المدينة، وتتضمن سورة البقرة جانباً طويلاً منها لشرح صفة يهود وطباعهم (1). والملاحظ أن سورة البقرة وهي من أوائل ما نزل في العهد المدني كانت توجه الدعوة للناس أجمعين أن يدخلوا في دين الله، وأن يتوجهوا له بالعبادة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 21 - 22]. وكانت الآيات القرآنية في العهد المدني تحذر المسلمين من الاتصاف بصفات المنافقين، وتوضح خطورة المنافقين على المجتمع الناشئ والدولة الجديدة، ولم تظهر حركة النفاق ضد المجتمع والدولة المسلمة إلا في العهد المدني؛ لأن المسلمين في مكة «ولم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم، فتتملقهم وتتزلف إليهم في الظاهر، وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء، كما كان شأن المنافقين بوجه عام .. والآيات تتضمن أوصاف وأخبار مواقف المنافقين، والحملات عليهم كثيرة جداً، حتى لا تكاد تخلو سورة مدنية منها، وخاصة الطويلة والمتوسطة، وهذا يعني أن هذه الحركة ظلت طيلة العهد المدني تقريباً، وإن كانت أخذت تضعف من بعد نصفه الأول» (2). واستمر القرآن المدني يتحدث عن عظمة الله، وحقيقة الكون والترغيب بالجنة والترهيب من النار ويشرع الأحكام لتربية الأمة، ودعم مقومات الدولة التي ستحمل نشر دعوة الله بين الناس قاطبة، وتجاهد في سبيل الله.   (1) انظر: الظلال (1/ 27) وما بعدها. (2) انظر: السيرة النبوية، دروزة (2/ 72، 76) نقلا عن دراسات في عهد النبوة، د. عبد الرحمن الشجاع، ص172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وكانت مسيرة الأمة العلمية تتطور مع تطور مراحل الدعوة وبناء المجتمع، وتأسيس الدولة، وقد أشاد القرآن الكريم بالعلم، والذين يتعلمون ورويت أحاديث عن تقدير الرسول صلى الله عليه وسلم للعلم، وتضمنت كتب الحديث أبواباً عن العلم. لقد أيقنت الأمة أن العلم من أهم مقومات التمكين؛ لأن من المستحيل أن يمكن الله تعالى لأمة جاهلة، متخلفة عن ركاب العلم، وإن الناظر للقرآن الكريم ليتراءى له في وضوح أنه زاخر بالآيات التي ترفع من شأن العلم، وتحث على طلبه وتحصيله فقد جعل القرآن الكريم العلم مقابلاً للكفر (1) الذي هو الجهل والضلال قال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) [الزمر: 9]. وإن الشيء الوحيد الذي أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطلب منه الزيادة هو العلم قال تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114] كما أن أول خاصية ميز الله تعالى بها آدم عليه السلام هي العلم قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 31]. واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في منهجه التربوي لكي يعلم أصحابه ويذكرهم بالله عز وجل، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويوضح لهم دقائق الشريعة وأحكامها، وكان توجيهه صلى الله عليه وسلم لأصحابه أحياناً فردياً، ومرة جماعياً، وترك لنا الحبيب المصطفى ثروة هائلة في وسائله التربوية في التعليم وإلقاء الدروس فقد راعى صلى الله عليه وسلم الوسائل التربوية التي تعين على الحفظ وحسن التلقي، وتؤدي إلى استقرار الحديث في نفوس وأفئدة الصحابة الكرام- رضوان الله عليهم- فمن هذه الوسائل والمبادئ العظيمة النافعة (2) في العهد المكي والمدني. أولاً: أهم هذه الوسائل والمبادئ: 1 - تكرار الحديث وإعادته: فذلك أسهل في حفظه وأعون على فهمه، وأدعى لاستيعابه ووعي معانيه؛ ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تكرير الحديث في غالب أحيانه، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا، حتى تفهم عنه .. (3). 2 - التأني في الكلام والفصل بين الكلمات: كان صلى الله عليه وسلم يتأنَّى ولا يستعجل في كلامه، بل يفصل بين كلمة وأخرى، حتى يسهل الحفظ، ولا يقع التحريف والتغيير عند النقل، وبلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أنه كان يسهُل على   (1) التمكين للأمة الإسلامية، ص62. (2) انظر: مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم، د. البر، ص59، 60. (3) البخاري، كتاب العلم، باب من أعاد الحديث (1/ 188). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 السامع أن يعد كلماته صلى الله عليه وسلم لو شاء (1) فقد روى عروة بن الزبير -رحمه الله- أن عائشة رضي الله عنها قالت: «ألا يعجبك أبو فلان؟ جاء فجلس إلى جانب حجرتي، يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمعني ذلك، وكنت أُسبِّح (2) فقام قبل أن أقضي سُبْحتي، ولو أدركته لرددت عليه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم (3). 3 - الاعتدال وعدم الإملال واختيار الوقت المناسب: كان صلى الله عليه وسلم يقتصد في تعليمه في مقدار ما يلقيه، وفي نوعه، وفي زمانه، حتى لا يمل الصحابة وحتى ينشطوا لحفظه، ويسهل عليهم عقله وفهمه، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا (4) بالموعظة في الأيام، كراهةَ السآمة علينا (5). 4 - ضرب الأمثال: للمثل أثر بالغ في إيصال المعنى إلى العقل والقلب، وذلك أنه يقدم المعنوي في صورة حسية فيربطه بالواقع ويقربه إلى الذهن، فضلاً عن أن للمثل بمختلف صوره بلاغة تأخذ بمجامع القلوب، وتستهوي العقول، وبخاصة عقول البلغاء؛ ولذلك استكثر القرآن من ضرب الأمثال، وذكر حكمة ذلك في آيات كثيرة، فقال تعالى: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43]. وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21]. إلى غير ذلك من الآيات، وعلى هذا المنهج الكريم سار النبي صلى الله عليه وسلم فاستكثر من ضرب الأمثال، فقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (حفظت عن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل) (6). وقد ألفت كتب متعددة في الأمثال في الحديث النبوي، من أقدمها (أمثال الحديث) للقاضي أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، (ت360 هـ) (7). 5 - طرح المسائل: إن طرح السؤال من الوسائل التربوية المهمة في ربط التواصل القوي بين السائل   (1) انظر: مناهج وآداب الصحابة، د. عبد الرحمن البر، ص62. (2) أسبح: أصلي النافلة وهي السبحة وقيل صلاة الضحى. (3) البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي (6/ 576) رقم 3568. (4) يتخولنا: يتعهدنا. (5) البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي يتخولهم بالمواعظة، (1/ 162) رقم 68. (6) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص65. (7) مناهج وآداب الصحابة، ص65، كل وسائل التعليم النبوية اختصرتها من هذا الكتاب القيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 والمسئول، وفتح ذهن المسؤول وتركيز اهتمامه على الإجابة، وإحداث حالة من النشاط الذهني الكامل؛ ولذلك استخدم النبي صلى الله عليه وسلم السؤال في صور متعددة لتعليم الصحابة، مما كان له كبير الأثر في حسن فهمهم وتمام حفظهم، فأحياناً يوجه النبي صلى الله عليه وسلم السؤال لمجرد الإثارة والتشويق ولفت الانتباه، ويكون السؤال عندئذ بصيغة التنبيه (ألا) غالباً، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذالكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» (1). وأحيانا يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عما يعلم أنهم لا علم لهم به، وأنهم سيكلون علمه إلى الله ورسوله، وإنما يقصد إثارة انتباههم للموضوع، ولفت أنظارهم إليه (2)، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» (3). وأحيانًا يسأل فيحسن أحد الصحابة الإجابة، فيثني عليه، ويمدحه تشجيعاً له وتحفيزاً لغيره، كما فعل مع أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال قلت: (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قال: فضرب في صدري، وقال: «ليهنك العلم (4) أبا المنذر» (5). فهذا الاستحسان والتشجيع يبعث المتعلم على الشعور بالارتياح والثقة بالنفس، ويدعوه إلى طلب وحفظ المزيد من العلم وتحصيله (6). 6 - إلقاء المعاني الغريبة المثيرة للاهتمام والداعية إلى الاستفسار والسؤال: ومن ألطف ذلك وأجمله، ما رواه جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر   (1) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء (1/ 219). (2) انظر: منهاج وآداب الصحابة، ص67. (3) مسلم، كتاب البر، باب تحريم الظلم (4/ 1997). (4) أي ليكن العلم هنيئاً لك. (5) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف، وآية الكرسي (556). (6) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته (1) فمر بجدي أسك (2) ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟»، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» (3). 7 - استخدام الوسائل التوضيحية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم ما يسمى اليوم بالوسائل التوضيحية، لتقرير وتأكيد المعنى في نفوس وعقول السامعين، وشغل كل حواسهم بالموضوع، وتركيز انتباههم فيه، مما يساعد على تمام وعيه وحسن حفظه بكل ملابساته، ومن هذه الوسائل: أ- التعبير بحركة اليد، كتشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه وهو يبين طبيعة العلاقة بين المؤمن وأخيه، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» وشبك بين أصابعه (4). ب- التعبير بالرسم، فكان صلى الله عليه وسلم يخط على الأرض خطوطاً توضيحية تلفت نظر الصحابة، ثم يأخذ في شرح مفردات ذلك التخطيط وبيان المقصود منه، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما» ثم خط خطوطاً عن يمينه، وعن شماله ثم قال: «وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (5) [الأنعام: 153]. ج- التعبير برفع وإظهار الشيء موضع الحديث: كما فعل صلى الله عليه وسلم عند الحديث عن حكم لبس الحرير والذهب، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجعله في شماله، ثم قال «إن هذين حرام على ذكور أمتي» (6) وفي رواية عند النسائي عن أبي موسي: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها» (7) فجمع   (1) كنفته: يعني عن جانبيه، والكنف بالتحريك: الناحية والجانب. (2) أسك: مصطلم الأذنين مقطوعهما (النهاية 2/ 384) (3) مسلم، كتاب الزهد والرقائق (4/ 2272). (4) البخاري، كتاب المظالم، باب نصر المظلوم (5/ 99) رقم 2446. (5) مسند الإمام أحمد (1/ 435) ورقمه في ط/ الرسالة (4142) - (جـ /207، 208). وقال محققوه: إسناده حسن، ... وأخرجه الحاكم (2/ 318). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (6) أبو داود، كتاب اللباس، باب في الحرير للنساء (4/ 5) رقم 4057. (7) صحيح سنن النسائي، الألباني، ورقمه (5163) وصححه .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 النبي صلى الله عليه وسلم بين القول وبين رفع الذهب والحرير وإظهارهما، حتى يجمع لهم السماع والمشاهدة، فيكون ذلك أوضح وأعون على الحفظ. د- التعليم العملي بفعل الشيء أمام الناس: كما فعل عندما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر فصلى بحيث يراه الناس أجمعون، فعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فاستقبل القبلة وكبر، وقام الناس خلفه، فقرأ وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى (1)، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى، حتى سجد بالأرض فلما فرغ أقبل الناس، فقال: «أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا (2) صلاتي» (3). 8 - استعمال العبارات اللطيفة والرقيقة: إن استعمال لطيف الخطاب ورقيق العبارات يؤلف القلوب، ويستميلها إلى الحق ويدفع المستمعين إلى الوعي والحفظ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمهد لكلامه، وتوجيهه بعبارة لطيفة رقيقة، وبخاصة إذا كان بصدد تعليمهم ما قد يستحيا من ذكره، كما فعل عند تعليمهم آداب الجلوس لقضاء الحاجة، إذ قدم لذلك بأنه مثل الوالد للمؤمنين، يعلمهم شفقة بهم (4)، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلِّمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه» (5). لقد راعى المعلم الأول صلى الله عليه وسلم جملة من المبادئ التربوية الكريمة كانت غاية في السمو الخلقي والكمال العقلي، وذلك في تعليقه على ما صدر من بعض الصحابة، جعلت التوجيه يستقر في قلوبهم وبقي ماثلا أمام بصائرهم، لما ارتبط به من معانٍ تربوية كريمة (6) وهذه بعض المبادئ الرفيعة التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم: أ-تشجيع المحسن والثناء عليه: ليزداد نشاطاً وإقبالاً على العلم والعمل، مثلما فعل مع أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - حين أثنى على قراءته وحسن صوته بالقرآن الكريم، فعن أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم   (1) القهقرى: المشي إلى خلف، من غير أن يعيد وجهه إلى جهة مشيه. (2) أي لتتعلموا، فحذف إحدى التاءين. (3) البخاري، كتاب الصلاة، باب في السطوح والمنبر، والخشب (1/ 486) رقم 377. (4) انظر: مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم، ص74. (5) أبو داود، كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة (1/ 3) رقم 8. (6) انظر: مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم، ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 قال له: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل دواد» (1). ب- الإشفاق على المخطئ وعدم تعنيفه: كان صلوات الله وسلامه عليه يقدر ظروف الناس، ويراعي أحوالهم، ويعذرهم بجهلهم، ويتلطف في تصحيح أخطائهم، ويترفق في تعليمهم الصواب، ولا شك أن ذلك يملأ قلب المنصوح حباًّ للرسالة وصاحبها، وحرصا على حفظ الواقعة والتوجيه وتبليغهما، كما يجعل قلوب الحاضرين المعجبة بهذا التصرف والتوجيه الرقيق مهيأة لحفظ الواقعة بكافة ملابساتها (2) ومن ذلك ما رواه معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: (بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أمياه (3)، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كَهَرني (4) ولا ضربني، ولا شتمني قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (5). فانظر - رحمك الله - إلى هذا الرفق البالغ في التعليم، وانظر أثر هذا الرفق في نفس معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - وتأثره بحسن تعليمه صلى الله عليه وسلم. ج- عدم التصريح والاكتفاء بالتعريض فيما يذم: لما في ذلك من مراعاة شعور المخطئ، والتأكيد على عموم التوجيه ومن ذلك ما حدث مع عبد الله بن اللَّتبيَّة - رضي الله عنه - حين استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات بني سليم، فقبل الهدايا من المتصدقين، فعن أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً على صدقات بني سليم، يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، فقال: هذا مالكم، وهذا هدية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟» ثم خطبنا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله بحمله يوم القيامة،   (1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن (1/ 546). (2) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص86. (3) وا: حرف للندبة، والحسرة، والثكل فقدان المرأة ولدها، وأمياه: أي يا أماه. (4) الكهر والقهر والنهر متقاربة، أي ما قهرني ولا نهرني. (5) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة (1/ 381). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رُغاء أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» (1). ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه يقول: «اللهم بلغت» بصر عيني وسمع أذني (2). د- الغضب والتعنيف متى كان لذلك دواعٍ مهمة: وذلك كأن يحدث خطأ شرعي من أشخاص لهم حيثية خاصة، أو تجاوز الخطأ حدود الفردية والجزئية، وأخذ يمثل بداية فتنة أو انحراف عن المنهج، على أن هذا الغضب يكون غضبا توجيهياً، من غير إسفاف ولا إسراف، بل على قدر الحاجة ومن ذلك غضبه صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر ومعه نسخة من التوراة، ليقرأها عليه صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة فقال: يا رسول الله، هذه نسخة من التوراة، فسكت فجعل يقرأ ووجه رسول الله يتغير، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياَّ وأدرك نبوتي لاتبعني» (3). ومن ذلك غضبه صلى الله عليه وسلم من تطويل بعض أصحابه الصلاة وهم أئمة بعد أن كان صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك لما فيه من تعسير ومقشة، ولما يؤدي إليه من فتنة لبعض الضعفاء والمعذورين وذوي الأشغال، فعن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشدَّ غضبًا من يومئذ فقال: «أيها الناس إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة» (4). ومن ذلك غضبه من اختصام الصحابة وتجادلهم في القدر، فعن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفْقَأُ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال: «بهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؟ بهذا هلكت الأمم قبلكم» (5).   (1) الرغاء: صوت الإبل عند رفع الأحمال عليها، الخوار: صوت البقر، تيعر: يعني تصيح. (2) البخاري، كتاب الحيل، باب احتيال العالم ليُهدي له رقم 6979. (3) مجمع الزوائد (1/ 173، 174) له شواهد كثيرة تقوي الحديث. (4) البخاري، كتاب العلم، باب الغضب في الموعظة والتعليم (1/ 186) رقم 90. (5) مقدمة ابن ماجه باب في القدر (1/ 33) رقم 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ومن ذلك غضبه صلى الله عليه وسلم حين يخالف الصحابة أمره ويصرون على المغالاة في الدين والتشديد على أنفسهم، ظنا أن ذلك أفضل مما أمروا به، وأقرب إلى الله فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم من الأعمال بما يُطيقون قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه، يقول: «إن أتقاكم وأعلمك بالله أنا» (1). ولم يكن غضب النبي صلى الله عليه وسلم في تلك المواقف إلا عملاً توجيهياًّ وتعليمياًّ، تحريضاً للصحابة على التيقظ، وتحذيراً لهم من الوقوع في هذه الأخطاء، فالواعظ (من شأنه أن يكون في صورة الغضبان؛ لأن مقامه يقتضي تكلف الانزعاج؛ لأنه في صورة المنذر، وكذا المعلم إذا أنكر على ما يتعلم منه سوء فهم ونحوه، لأنه قد يكون أدعى للقبول منه وليس ذلك لازماً في حق كل أحد بل يختلف باختلاف أحوال المتعلمين) (2). هـ- انتهاز بعض الوقائع لبيان وتعليم معانٍ مناسبة: كان صلى الله عليه وسلم تحدث أمامه أحداث معينة، فينتهز مشابهة ما يرى لمعنى معين يريد تعليمه للصحابة، ومشاكلته لتوجيه مناسب يريد بثه لأصحابه، وعندئذ يكون هذا المعنى، وذلك التوجيه أوضح ما يكون في نفوسهم رضوان الله عليهم، ومن ذلك ما رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي (3) فإذا امرأة في السبي قد تحلب ثدياها (4) تسعى (5) إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها، وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟» قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه (6) فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» (7). «فانتهز صلى الله عليه وسلم المناسبة القائمة بين يديه مع أصحابه المشهود فيها حنان الأم الفاقدة على رضيعها إذا وجدته، وضرب بها المشاكلة والمشابهة برحمة الله تعالى ليعرف الناس رحمة رب   (1) البخاري، كتاب الإيمان، باب: قول النبي (أنا أعلمكم بالله) (1/ 70) رقم 20. (2) فتح الباري (1/ 187). (3) السبي: الأسرى. (4) تحلب ثديها: أي تهيآ لأن يحلبا. (5) تسعى: من السعي، وهو المشي بسرعة. (6) أي لا تطرحه ما دامت تقدر على حفظه معها ووقايته وعدم طرحه في النار. (7) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، رقم 5999. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الناس بعباده» (1). ثانياً: من أخلاق الصحابة عند سماعهم للنبي صلى الله عليه وسلم: حرص الصحابة رضوان الله عليهم على التزام آداب ومبادئ مهمة كان لها عظيم الأثر في حسن الحفظ وتمام الضبط وقدرتهم في تبليغ دعوة الله للناس، ومن هذه الآداب والأخلاق: 1 - الإنصات التام وحسن الاستماع: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في نفوس الصحابة وأعظم من أن يلغوا إذا تحدث، أو ينشغلوا عنه إذا تكلم، أو يرفعوا أصواتهم بحضرته، وإنما كانوا يلقون إليه أسماعهم ويشهدون عقولهم وقلوبهم، ويحفزون ذاكرتهم فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في الحديث عن سيرته صلى الله عليه وسلم في جلسائه قال: « ... وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ... » (2). قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: «أصله: أن الغراب يقع على رأسه البعير، فيلقط منه القُراد، فلا يتحرك البعير حينئذ، لئلا ينفر عنه الغراب ويبقى القراد في رأس البعير فيؤلمه، فقيل منه: كأن على رؤوسهم الطير» (3). وأيا ما كان أصل المثل فهو يدل على السكون التام، والإنصات الكامل هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيماً له، وإجلالاً لحديثه (4). 2 - ترك التنازع وعدم مقاطعة المتحدي حتى يفرغ: وهذا من تمام الأدب، المفضي إلى ارتياح جميع الجالسين، وإقبال بعضهم على بعض، والمعين على سهولة الفهم، والتعلم ففي حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - السابق في سيرته صلى الله عليه وسلم في جلسائه، قال: (لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم .. ) (5) أي أن من بدأ منهم الحديث والكلام سكتوا حتى   (1) الرسول المعلم، عبد الفتاح أبو غدة، ص160، هذا المبحث اختصرته من مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم للدكتور عبد الرحمن البر. (2) الترمذي، في الشمائل المحمدية، باب ما جاء في خلق رسول الله رقم 335. (3) انظر: الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، ص30. (4) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص77. (5) الترمذي في الشمائل المحمدية، باب ما جاء في خلق رسول الله، رقم 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 يفرغ أولاً من حديثه، ولم يقاطعوه أو ينازعوه، وبذلك يبقى المجلس على وقاره وهيبته، ولا تختلط فيه الأصوات، ولا يحصل أدنى تشويش (1). 3 - مراجعته صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم حتى يتبين لهم: فمع كمال هيبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة تعظيمهم له، لم يكونوا يترددون في مراجعته صلى الله عليه وسلم لاستيضاح ما أشكل عليهم فهمه، حتى يسهل حفظه، بعد ذلك، ولا شك أن هذه المراجعة تعين على تمام الفهم وحضور الوعي، فمن ذلك حديث حفصة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو ألا يدخل النار أحد إن شاء الله ممن شهد بدراً والحديبية» قالت: قلت يا رسول الله أليس قد قال الله: (وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) [مريم: 71] قال: «ألم تسمعيه يقول (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) (2) [مريم: 72]. ومن ذلك حديث جابر بن عبد الله، عن عبد الله بن أنيس، رضي الله عنهم، الذي رحل جابر إليه فيه، قال ابن أنيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد - أو قال: الناس - عراة غُرْلاً (3) بُهْماً» قال: قلنا: ما بُهْماً؟ قال: «ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وعنده مظلمة، حتى أُقِصَّه (4) منه، حتى اللطمة» قال: قلنا: كيف ذا وإنما نأتي الله غرلا بهما؟ قال: «بالحسنات والسيئات». قال: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (5) [غافر: 17]. وهكذا استفهم الصحابة عما خفي عليهم، واستوضحوا ما أشكل عليهم فهمه، وهذه المناقشة والمراجعة كان لها أثر كبير في الفهم والوعي والحفظ (6). 4 - مذاكرة الحديث: كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا سمعوا شيئاً من النبي صلى الله عليه وسلم وحملوا عنه علماً، جلسوا فتذاكروه فيما بينهم وتراجعوه على ألسنتهم، تأكيداً لحفظه، وتقوية لاستيعابه وضبطه والعمل به، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث،   (1) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص78. (2) ابن ماجة، كتاب الزهد، باب ذكر البعث (2/ 1431). (3) غرلا: جمع أغرل، وهو الأقلف، والغرلة: القلفة: وهي القطعة التي تقطع من الذكر عند الختان. (4) أُقِصَّه: أمكنه من أخذ القصاص ممن ظلمه. (5) أخرجه الحاكم (2/ 437) وصححه ووافقه الذهبي. (6) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه» (1)، وقد بقي مبدأ المذاكرة قائما بين الصحابة حتى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فعن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة رحمه الله قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا تذاكروا العلم، وقرءوا سوره» (2). وعن أبي سعيد الخدري قال: "تحدثوا وتذاكروا، فإن الحديث يذكر بعضه بعضاً" (3). 5 - السؤال بقصد العلم والعمل (4): كانت أسئلة الصحابة بقصد العلم والعمل، لا للعبث واللعب، فكانت أسئلتهم مشفوعة بهذا القصد، لما علموا من كراهة النبي صلى الله عليه وسلم للمسائل العبثية التي لا يُحتاج إليها، ولما سمعوا من تحذيره صلى الله عليه وسلم من كثرة السؤال فعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: «كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها» (5). قال النووي: «المراد: كراهة المسائل التي لا يحتاج إليها، لا سيما ما كان فيه هتك ستر مسلم، أو إشاعة فاحشة أو شناعة على مسلم أو مسلمة. قال العلماء: أما إذا كانت المسائل مما يحتاج إليه في أمور الدين، وقد وقع، فلا كراهة فيها» (6). 6 - ترك التنطع وعدم السؤال عن المتشابه: وذلك تطبيقاً لتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وتشديده على المتنطَّعين، نهيه عن مجالستهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ) [آل عمران: 7] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» (7).   (1) أخرجه الخطيب في الجامع (1/ 363، 364) وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف. (2) أخرجه الخطيب في الجامع (2/ 86) رقم 1229، والسمعاني في أدب الإملاء والاستملاء، ص48. (3) الجامع لأخلاق الراوي، للخطيب، تحقيق د. محمود الطحان (جـ 1/ 237 ورقمه 468)، وأورد نحوه الهيثمي عن ابن نضرة عن أبي سعيد في المجمع (1/ 161) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. (4) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص96. (5) أخرجه أبو خيثمة زهير بن حرب بإسناد صحيح في كتاب العلم، ص20 رقم 77. (6) شرح النووي على مسلم، (3/ 741) طبعة الشعب. (7) البخاري، كتاب التفسير، سورة آل عمران، رقم 4547. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 7 - ترك السؤال عما سكت عنه الشارع: فقد التزموا رضوان الله عليهم بهذا الأدب، فلم يتكلفوا السؤال عما سكت عنه الشارع، حتى لا يؤدي السؤال عن ذلك إلى إيجاب ما لا يوجبه الشرع، أو تحريم ما لم يحرمه، فيكون السؤال قد أفضى إلى التضييق على المسلمين، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ - قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) [المائدة: 101،102]. وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك، فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» (1). 8 - اغتنام خلوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومراعاة وقت سؤاله: كان الصحابة رضي الله عنهم يراعون الوقت المناسب للسؤال، ومن ذلك اغتنام ساعة خلوته صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون في السؤال إثقال أو إرهاق أو نحو ذلك، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر انحرفنا إليه فمناَّ من يسأله عن القرآن ومنا من يسأله عن الفرائض، ومنا من يسأله عن الرؤيا» (2). 9 - مراعاة أحواله صلى الله عليه وسلم وعدم الإلحاح عليه بالسؤال: وبخاصة بعد أن نُهوا عن السؤال؛ ولذلك كانوا يدفعون الأعراب لسؤاله صلى الله عليه وسلم، ويتحينون وينتظرون مجيء العقلاء منهم، ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسمعون، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقلُ، فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال: «صدق» ... الحديث (3). وهكذا استمر البناء التربوي في المجتمع الجديد من خلال المواقف العملية الواضحة منسجماً مع غرس فريضة التعلم والتعليم بين أفراد المجتمع المسلم، فكانت تلك التوجيهات تساهم في إعداد الفرد المسلم، والأمة المسلمة، والدولة المسلمة التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) البخاري، كتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال ... ورقمة (7289). (2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 159) رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن عمر الرومي، ضعفه أبو داود وأبو زرعة، ووثقه ابن حبان. (3) مسلم، كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام (1/ 41، 42). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وهذا جزء من كل، وغيض من فيض، وتذكير وتنبيه لأهمية استمرار البناء التربوي والعلمي في الأمة حتى بعد قيام الدولة. المبحث السادس أحداث وتشريعات أولاً: معالجة الأزمة الاقتصادية: أدت هجرة المسلمين إلى المدينة إلى زيادة الأعباء الاقتصادية، الملقاة على عاتق الدولة الناشئة، وشرع القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم لحل هذه الأزمة بطرق عديدة، وأساليب متنوعة، فكان نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبناء الصفة التابعة للمسجد النبوي لاستيعاب أكبر عدد ممكن من فقراء المهاجرين، واهتم صلى الله عليه وسلم بدراسة الأوضاع الاقتصادية في المدينة، فرأى أن القوة الاقتصادية بيد اليهود، وأنهم يملكون السوق التجارية في المدينة وأموالها، ويتحكمون في الأسعار والسلع ويحتكرونها، ويستغلون حاجة الناس، فكان لا بد من بناء سوق للمسلمين لينافسوا اليهود على مصادر الثروة والاقتصاد في المدينة، وتظهر فيها آداب الإسلام وأخلاقه الرفيعة في عالم التجارة، فحدد صلى الله عليه وسلم مكانا للسوق في غرب المسجد النبوي وخطه برجله، وقال: «هذا سوقكم فلا ينتقصن ولا يضربن عليه خراج». إن المنهج الرباني عالج المشكلة الاقتصادية عن طريق القصص القرآني، لكي يتعظ الناس، ويعتبرون بمن مضى من الأقوام، ولم يترك الجانب التشريعي التعبدي، الذي له أثر في البناء التنظيمي التربوي، فقد كان المولى عز وجل يرعى هذه الأمة، وينقل خطاها لكي تكون مؤهلة لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة ولا فرق في وسط هذه الدولة بين الأمور الصغيرة والأمور الكبيرة؛ لأنها كلها تعمل لرفع بنائها، ووقوفها شامخة أمام الأعاصير التي تحتمل مواجهتها ومن هذه الشعائر التعبدية التي فرضت في السنتين الأوليين من الهجرة، الزكاة، وزكاة الفطر، والصيام ونلاحظ سنة التدرج في بناء المجتمع المسلم ومراعاته لواقع الناس، والانتقال بهم نحو الأفضل دون اعتساف أو تعجيل، بل كل شيء في وقته (1). ثانيًا: بعض التشريعات: 1 - تشريع فريضة الصيام: في السنة الثانية للهجرة من شهر شعبان فرض الله تعالى فريضة الصيام وجعله ركناً من أركان الإسلام، كما فرضه على الأمم السابقة، وفي ذلك تأكيد على أهمية هذه العبادة الجليلة ومكانتها. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].   (1) انظر: دراسات في عصر النبوة للشجاع، ص166، 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 2 - تشريع زكاة الفطر: وفي رمضان من نفس العام شرع الله سبحانه وتعالى زكاة الفطر وهي على كل حُر أو عبد، وذكر أو أنثى، وصغير أو كبير من المسلمين، والحكمة من فرضية هذه الزكاة وإلزام المسلمين بها ظاهرة وجلية، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد لصلاة فهي صدقة من الصدقات» (1) 3 - صلاة العيد: وفي هذه السَنة صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد، فكانت أول صلاة صلاها، وخرج بالناس إلى المصلى يهللون الله، ويكبرونه، ويعظمونه شكراً لله على ما أفاء عليهم من النعم المتتالية. 4 - تشريع الزكاة: وفي السنة الثانية للهجرة شرع الله الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام، وكان ذلك بعد شهر رمضان؛ لأن تشريع الزكاة العامة كان بعد زكاة الفطر، وزكاة الفطر كانت بعد فرض صيام رمضان قطعاً، يدل على هذا ما رواه الأئمة أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله» (2) قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً على أن مشروعية الزكاة إنما كانت بالمدينة في السنة الثانية (3). 5 - زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها: عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة في مكة قبل الهجرة، وهي ابنة ست سنين وبعد وفاة خديجة، وبنى بها في المدينة وهي ابنة تسع سنين، وذلك في شهر شوال من السنة الأولى للهجرة (4). فكانت حركة الدعوة والجهاد والتربية وبناء الدولة مستمرة ولم تتعطل حالات الزواج في   (1) أبو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر رقم 1609. (2) صحيح سنن النسائي، للألباني، كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة، ورقمه (2506) وصححه. (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 111). (4) انظر: من معين السيرة، ص168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل الزواج والإكثار منه كان عادياًّ جداًّ في حياتهم كالطعام والشراب، وذلك من مظاهر أن الإسلام دين الفطرة والواقع، بل إن الزواج جزء مهم في بناء المجتمع المسلم (1). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بنى بعائشة رضي الله عنها، وهو في الرابعة والخمسين من عمره، وحيثما يذكر هذا الرقم يتبادر للذهن الشيب والضعف ونفسية أصابتها الشيخوخة، ولا شك أن مرور الأعوام هو مقياس أعمار الناس كقاعدة عامة، ولكن المقياس الحقيقي هو حيوية الإنسان ونشاطه وقدرته على المبادرة والعمل، فقد نجد إنسانا في الثلاثين يحمل في جسمه ونفسيته أعباء الخمسين، وقد نجد بعض الأحيان إنسان الخمسين فلا نحكم عليه بأكثر من الثلاثين، وشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فذة في هذا الميدان فهو -وهو في الخمسين- كان رجلا في عنفوان شبابه همة وعزما ومضاء ورجولة إنه في هذا لا يساويه أي إنسان صلى الله عليه وسلم. إن الفارق في العمر بينه صلى الله عليه وسلم وبين عائشة لم يكن ذلك الفارق الكبير من وجهة النظر العملية، فها هو صلى الله عليه وسلم يسابق السيدة عائشة فتسبقه مرة، ويسبقها أخرى، فيقول: «هذه بتلك» (2) والأمثلة في حياته كثيرة (3). ويستطيع كل ذي نظر أن يدرك الحكمة الجليلة التي كانت وراء زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة، رضي الله عنها، فقد تم هذا الزواج الميمون في مطلع الحياة في المدينة، ومع بداية المرحلة التشريعية من حياته صلى الله عليه وسلم، ومما لا شك فيه أن الإنسان يقضي جزءاً كبيراً من حياته في بيته ومع أسرته، وكان لا بد من نقل سلوك الرسول الكريم في هذا الجانب من حياته إلى الناس، حتى يستطيعوا التأسي به، وكانت تلك مهمة السيدة عائشة على الخصوص وبقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. فقد استطاعت السيدة عائشة بما وهبها الله من ذكاء وفهم أن تؤدي دورها على خير ما يرام، وإن نظرة عابرة لأي كتاب من كتب السيرة تبين وتؤكد ما ذهبت إليه، وقد ساعدها على ذلك أن الله تعالى كتب لها الحياة ما يقرب من خمسين عاماً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وساعدتها تلك المدة على أن تُبَلِّغ ما وعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضي الله عنها (4).   (1) انظر الأساس في السنة (1/ 420). (2) انظر: من معين السيرة، ص172. (3) المصدر نفسه، ص172 (4) انظر: من معين السيرة، ص173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الفصل الثامن غزوة بدر الكبرى المبحث الأول مرحلة ما قبل المعركة بلغ المسلمين تحركُّ قافلة تجارية كبيرة من الشام تحمل أموالاً عظيمة (1) لقريش يقودها أبو سفيان ويقوم على حراستها بين ثلاثين وأربعين رجلا (2)، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بَسْبَس بن عمرو (3) لجمع المعلومات عن القافلة، فلما عاد بسبس بالخبر اليقين، ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج وقال لهم: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها» (4)، وكان خروجه من المدينة في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة، ومن المؤكد أنه حين خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة لم يكن في نيته قتال، وإنما كان قصده عير قريش, وكانت الحالة بين المسلمين وكفار مكة حالة حرب، وفي حالة الحرب تكون أموال العدو ودماؤهم مباحة، فكيف إذا علمنا أن جزءًا من هذه الأموال الموجودة في القوافل القرشية كانت للمهاجرين المسلمين من أهل مكة قد استولى عليها المشركون ظلمًا وعدوانًا (5). كلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم بالصلاة بالناس في المدينة عند خروجه إلى بدر، ثم أعاد أبا لبابة من الروحاء إلى المدينة وعينه أميرًا عليها (6). أرسل النبي صلى الله عليه وسلم اثنين من أصحابه (7) إلى بدر طليعة للتعرف على أخبار القافلة، فرجعا إليه   (1) قدرت قيمة البضائع التي تحملها القافلة بحوالي 50 ألف دينار، انظر: موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/ 286). (2) جوامع السيرة لابن حزم ص (107). (3) ورد الاسم في صحيح مسلم بصيغة التأنيث مصحفًا إلى بسيسة وصححه ابن حجر. (4) ابن هشام السيرة (2/ 61) بسند صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما. (5) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول، د. محمد آل عابد (1/ 43). (6) البداية والنهاية (3/ 260) , المستدرك للحاكم (3/ 632). (7) هما عدي بن الزغباء، وبسبس بن عمرو، الطبقات لابن سعد (2/ 24). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 بخبرها (1) , وقد حصل خلاف بين المصادر الصحيحة حول عدد الصحابة الذين رافقوا النبي صلى الله عليه وسلم في غزوته هذه إلى بدر، ففي حين جعلهم البخاري «بضعة عشر وثلاثمائة» (2). يذكر مسلم بأنهم ثلاثمائة وتسعة عشرة رجلا (3)، في حين ذكرت المصادر أسماء ثلاثمائة وأربعين من الصحابة البدريين, (4) وكانت قوات المسلمين في بدر لا تمثل القدرة العسكرية القصوى للدولة الإسلامية، ذلك أنهم إنما خرجوا لاعتراض قافلة واحتوائها، ولم يكونوا يعلمون أنهم سوف يواجهون قوات قريش وأحلافها مجتمعة للحرب، والتي بلغ تعدادها ألفًا (5) معهم مائتا فرس يقودونها إلى جانب جمالهم، ومعهم القيان يضربون بالدفوف، ويغنين بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (6)، في حين لم يكن مع القوات الإسلامية من الخيل إلا فرسان، وكان معهم سبعون بعيرًا يتعاقبون ركوبها (7). أولاً: بعض الحوادث في أثناء المسير إلى بدر: وقد حدثت بعض الحوادث في أثناء مسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيها من العبر والمواعظ الشيء الكثير: 1 - إرجاع البراء بن عازب وابن عمر لصغرهما: وبعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة في طريقهم إلى ملاقاة عير أبي سفيان، وصلوا إلى (بيوت السقيا) خارج المدينة، فعسكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم, واستعرض صلى الله عليه وسلم من خرج معه فرد من ليس له قدرة على المضي من جيش المسلمين، وملاقاة من يحتمل نشوب قتال معهم، فرد على هذا الأساس البراء بن عازب، وعبد الله بن عمر لصغرهما، وكانا قد خرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم راغبين وعازمين على الاشتراك في الجهاد (8). 2 - ارجع فلن أستعين بمشرك: وفي أثناء سير النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، التحق أحد المشركين راغبًا بالقتال مع قومه، فرده الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: «ارجع فلن أستعين بمشرك» وكرر الرجل المحاولة فرفض الرسول حتى أسلم الرجل والتحق بالمسلمين (9).   (1) الطبقات لابن سعد (2/ 42) بإسناد صحيح. (2) فتح الباري (7/ 290 - 292). (3) مسلم، شرح النووي (12/ 84). (4) البداية والنهاية (3/ 314) وكذلك الطبقات، وخليفة بن خياط. (5) مسلم، بشرح النووي (12/ 84). (6) البداية والنهاية (3/ 260). (7) المسند (1/ 411)، مجمع الزوائد (6/ 69)، جوامع السير، ص108. (8) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 124). (9) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (2/ 355). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 3 - مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الصعاب: فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير, كان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وكانت عقبة رسول الله, قال: فقالا: نحن نمشي عنك. فقال: «ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» (1). ثانيًا: العزم على ملاقاة المسلمين ببدر: بلغ أبا سفيان خبر مسير النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه من المدينة بقصد اعتراض قافلته واحتوائها، فبادر إلى تحول مسارها إلى طريق الساحل، في نفس الوقت أرسل عمرو بن ضمضم الغفاري إلى قريش يستنفرها لإنقاذ قافلتها وأموالها (2) , فقد كان أبو سفيان يقظًا حذرًا، يتلقط أخبار المسلمين ويسأل عن تحركاتهم، بل يتحسس أخبارهم بنفسه، فقد تقدم إلى بدر بنفسه، وسأل من كان هناك: (هل رأيتم من أحد؟) قالوا: لا. إلا رجلين قال: (أروني مناخ ركابهما، فأروه، فأخذ البعر ففته فإذا هو فيه النوى، فقال: هذا والله علائف يثرب) (3). فقد استطاع أن يعرف تحركات عدوه, حتى خبر السرية الاستطلاعية عن طريق غذاء دوابها، بفحصه البعر الذي خلفته الإبل، إذ عرف أن الرجلين من المدينة أي من المسلمين، وبالتالي فقافلته في خطر، فأرسل عمرو بن ضمضم إلى قريش وغيَّر طريق القافلة، واتجه نحو ساحل البحر (4). كان وقع خبر القافلة شديدًا على قريش، التي اشتاط زعماؤها غضبًا لما يرونه من امتهان للكرامة، وتعريض للمصالح الاقتصادية للأخطار إلى جانب ما ينجم عن ذلك من انحطاط لمكانة قريش بين القبائل العربية الأخرى؛ ولذلك فقد سعوا إلى الخروج لمجابهة الأمر بأقصى طاقاتهم القتالية (5). لقد جاءهم عمرو بن ضمضم الغفاري بصورة مثيرة جدًا يتأثر بها كل من رآها، أو سمع بها، إذ جاءهم وقد حول رحله وجدع أنف بعيره، وشق قميصه من قُبُل ومن دُبُر، ودخل مكة وهو ينادي بأعلى صوته: يا معشر قريش: اللطيمة، اللطيمة, (6) أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث (7). وعندما أمن أبو سفيان على سلامة القافلة أرسل إلى زعماء قريش وهو بالجحفة برسالة   (1) انظر المسند (1/ 411)، برقم (3901) وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر. (2) انظر: موسوعة نضرة النعيم (1/ 287) (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 230). (4) انظر: غزوة بدر الكبرى لأبي فارس، ص33، 34. (5) انظر: موسوعة نضرة النعيم (1/ 287). (6) اللطيمة: القافلة المحملة بشتى أنواع البضاعة غير الطعام. (7) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 221) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أخبرهم فيها بنجاته والقافلة، وطلب منهم العودة إلى مكة، وذلك أدى إلى حصول انقسام حاد في آراء زعماء قريش، فقد أصر أغلبهم على التقدم نحو بدر من أجل تأديب المسلمين وتأمين سلامة طريق التجارة القرشية, وإشعار القبائل العربية الأخرى بمدى قوة قريش وسلطانها، وقد انشق بنو زهرة (1)، وتخلف في الأصل بنو عدي. فعاد بنو زهرة إلى مكة، أما غالبية قوات قريش وأحلافهم فقد تقدمت حتى وصلت بدرًا (2). ثالثًا: مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نجاةُ القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي صلى الله عليه وسلم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمر, (3) وأبدى بعض الصحابة عدم ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربية مع قريش، حيث إنهم لم يتوقعوا المواجهة ولم يستعدوا لها، وحاولوا إقناع الرسول صلى الله عليه وسلم بوجهة نظرهم، وقد صور القرآن الكريم، موقفهم وأحوال الفئة المؤمنة عمومًا في قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ - يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ - وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ - لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 5 - 8]. وقد أجمع قادة المهاجرين على تأييد فكرة التقدم لملاقاة العدو, (4) وكان للمقداد بن الأسود موقفٌ متميزٌ، فقد قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عُدلَ به (5): أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24]، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك, وبين يديك وخلفك. فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسرَّه (6)، وفي رواية: (7) قال المقداد: يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن امضِ ونحن معك، فكأنه سرَّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.   (1) نصحهم الأخنس بن شريق بذلك، انظر: ابن هشام (2/ 231) (2) انظر: موسوعة نضرة النعيم (1/ 287). (3) صحيح البخاري رقم (3952). (4) انظر: موسوعة نضرة النعيم (1/ 288). (5) المبالغة في عظمة ذلك المشهد، وأنه كان لو خُير بين أن يكون صاحبه وبين أن يحصل له ما يقابل ذلك لكان حصوله أحب إليه. (6) البخاري، كتاب المغازي (7/ 287). (7) البخاري، كتاب التفسير (8/ 273). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وبعد ذلك عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، وكان إنما يقصد الأنصار؛ لأنهم غالبية جنده، ولأن بيعة العقبة الثانية لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم خارج المدينة، وقد أدرك الصحابي سعد بن معاذ، وهو حامل لواء الأنصار، مقصد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فنهض قائلاً: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أجل». قال: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله) (1). سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم من مقالة سعد بن معاذ، ونشطه ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: «سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» (2). كانت كلمات سعد مشجعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وملهبة لمشاعر الصحابة فقد رفعت معنويات الصحابة وشجعتهم على القتال. إن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على استشارة أصحابه في الغزوات يدل على تأكيد أهمية الشورى في الحروب بالذات؛ ذلك لأن الحروب تقرر مصير الأمم، فإما إلى العلياء، وإما تحت الغبراء (3). رابعًا: المسير إلى لقاء العدو وجمع المعلومات عنه: نظم النبي صلى الله عليه وسلم جنده بعد أن رأى طاعة الصحابة وشجاعتهم واجتماعهم على القتال، وعقد اللواء الأبيض وسلَّمه إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سوداوين إلى سعد بن معاذ، وعلي بن أبي طالب، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة (4). وقام صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر يستكشف أحوال جيش المشركين، وبينما هما يتجولان في تلك المنطقة لقيا شيخا من العرب، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جيش قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه صلى الله عليه وسلم من أخبارهم: قال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما. فقال له رسول   (1) رواه ابن هشام (2/ 63، 64) عن ابن إسحاق بدون إسناد، وأورد الإمام الذهبي في مغازيه - تحقيق د. عمر تدمري (ص 107) كلمات قريبة من سيرة ابن هشام، وعنون لها الإمام الذهبي: "ذكر غزوة بدر من مغازي موسى بن عقبة فإنها من أصح المغازي"، وانظر صحيح مسلم: ح رقم (1779) كتاب الجهاد - باب غزوة بدر. (2) انظر: البداية والنهاية (3/ 262) بإسناد صحيح، المسند (5/ 259) رقم (3698). (3) انظر: غزوة بدر الكبرى لأبي فارس، ص37. (4) انظر: زاد المعاد (3/ 172) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الله صلى الله عليه وسلم «إذا أخبرتنا أخبرناك» فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: «نعم»، فقال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به جيش المسلمين، وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلاً، ثم قال الشيخ: لقد أخبرتكما عما أردتما، فأخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماء»، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عن الشيخ، وبقي هذا الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟ (1). وفي مساء ذلك اليوم الذي خرج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، أرسل عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يتسقطون له الأخبار عن جيش قريش، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش المشركين فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: «أخبراني عن جيش قريش» فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم القوم؟» قالا: كثير، قال: «ما عدتهم؟» قالا: لا ندري، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة والألف»، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ فذكرا عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا جهل وأمية بن خلف في آخرين من صناديد قريش، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه قائلا: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» (2). كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حرصه على معرفة جيش العدو والوقوف على أهدافه ومقاصده؛ ولأن ذلك يعينه على رسم الخطط الحربية المناسبة لمجابهته وصد عدوانه, فقد كانت أساليبه في غزوة بدر في جمع المعلومات تارة بنفسه وأخرى بغيره، وكان صلى الله عليه وسلم يطبق مبدأ الكتمان في حروبه، فقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية هذا المبدأ قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 83]. وقد تحلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة الكتمان في عامة غزواته، فعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: (ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها ... ). (3) وفي غزوة بدر ظهر هذا الخلق الكريم في الآتي:   (1) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 228). (2) ابن هشام (2/ 229). (3) البخاري (2/ 2947) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 1 - سؤاله صلى الله عليه وسلم الشيخ الذي لقيه في بدر عن محمد وجيشه، وعن قريش وجيشها. 2 - تورية الرسول صلى الله عليه وسلم في إجابته عن سؤال الشيخ ممن أنتما؟ بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماء» وهو جواب يقتضيه المقام، فقد أراد به صلى الله عليه وسلم كتمان أخبار جيش المسلمين عن قريش. 3 - وفي انصرافه فور استجوابه كتمانٌ أيضًا, وهو دليل على ما يتمتع به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحكمة، فلو أنه أجاب هذا الشيخ ثم وقف عنده لكان هذا سببًا في طلب الشيخ بيان المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: «من ماء» (1). 4 - أمره صلى الله عليه وسلم بقطع الأجراس من الإبل يوم بدر، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر (2). 5 - كتمانه صلى الله عليه وسلم خبر الجهة التي يقصدها عندما أراد الخروج إلى بدر، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ( ... إن لنا طلبةً فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا ... ) (3). وقد استدل الإمام النووي بهذا الحديث على استحباب التورية في الحرب، وأن لا يبين القائد الجهة التي يقصدها لئلا يشيع هذا الخبر فيحذرهم العدو (4). ونلحظ أن التربية الأمنية في المنهاج النبوي مستمرة منذ الفترة السرية، والجهرية بمكة، ولم تنقطع مع بناء الدولة، وأصبحت تنمو مع تطورها، وخصوصًا في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم. خامسًا: مشورة الحباب بن المنذر في بدر: بعد أن جمع صلى الله عليه وسلم معلومات دقيقة عن قوات قريش سار مسرعًا ومعه أصحابه إلى بدر ليسبقوا المشركين إلى ماء بدر، وليَحُولوا بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عند أدنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر، وقال: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم-أي جيش المشركين- فننزله ونغور -نخرب- ما وراءه من الآبار ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيه ونهض بالجيش حتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه, ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار (5) , وهذا يصور مثلاً من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه حيث كان أي فرد من أفراد ذلك المجتمع   (1) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 228). (2) انظر: المسند (6/ 150)، برقم (25166). (3) مسلم، كتاب الإمارة (3/ 1510) رقم (1901). (4) شرح النووي لصحيح مسلم (13/ 45). (5) انظر: مرويات غزوة بدر، ص165، قصة الحباب تتقوى وترتفع إلى درجة الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 يدلي برأيه حتى في أخطر القضايا، ولا يكون في شعوره احتمال غضب القائد الأعلى، ثم حصول ما يترتب على ذلك الغضب من تدني سمعة ذلك المشير بخلاف رأي القائد وتأخره في الرتبة وتضرره في نفسه أو ماله. إن هذه الحرية التي ربَّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه مكنت مجتمعهم من الاستفادة من عقول جميع أهل الرأي السديد والمنطق الرشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحًا باهرًا، وإن كان حديث السن؛ لأنه لم يكن يفكر برأيه المجرد, أو آراء عصبة مهيمنة عليه قد تنظر لمصالحها الخاصة قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين العامة، وإنما يفكر بآراء جميع أفراد جنده، وقد يحصل له الرأي السديد من أقلهم سمعة وأبعدهم منزلة من ذلك القائد؛ لأنه ليس هناك ما يحول بين أي فرد منهم والوصول برأيه إلى قائد جيشه (1). ونلحظ عظمة التربية النبوية التي سرت في شخص الحباب بن المنذر، فجعلته يتأدب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم دون أن يُطلب رأيه، ليعرض الخطة التي لديه، لكن هذا تم بعد السؤال العظيم الذي قدمه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم. يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ إن هذا السؤال ليشي بعظمة هذا الجوهر القيادي الفذ الذي يعرف أين يتكلم ومتى يتكلم بين يدي قائده، فإن كان الوحي هو الذي اختار هذا المنزل، فلأن يقدم فتقطع عنقه أحب إليه من أن يلفظ بكلمة واحدة، وإن كان الرأي البشري فلديه خطة جديدة كاملة باستراتيجية جديدة. إن هذه النفسية الرفيعة، عرفت أصول المشورة، وأصول إبداء الرأي، وأدركت مفهوم السمع والطاعة، ومفهوم المناقشة، ومفهوم عرض الرأي المعارض لرأي سيد ولد آدم، عليه الصلاة والسلام. وتبدو عظمة القيادة النبوية في استماعها للخطة الجديدة، وتبني الخطة الجديدة المطروحة من جندي من جنودها أو قائد من قوادها (2). سادسًا: الوصف القرآني لخروج المشركين: قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال: 47]. ينهى المولى عز وجل المؤمنين عن التشبه بالكافرين الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس.   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 110). (2) انظر: التربية القيادية (3/ 21). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فقد وصف سبحانه الكافرين في هذه الآية بثلاثة أشياء: الأول: البطر، والثاني: الرياء والثالث: الصد عن سبيل الله. ونلحظ أن الله تعالى عبر عن بطرهم بصيغة الاسم الدال على التمكين والثبوت, وعن صدهم بصيغة الفعل الدال على التجدد والحدوث (1). وقد جاء في تفسير هذه الآية عند القرطبي أن المقصود بالآية: «يعني أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير, خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث خُفاف الكناني, وكان صديقا لأبي جهل، بهدايا إليه مع ابن عم له، وقال: إن شئت أمددتك بالرجال، وإن شئت أمددتك بنفسي مع ما خف من قومي، فقال أبو جهل: إنا كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرًا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرًا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب بمخرجنا؛ فتهابنا آخر الأبد، فوردوا بدرًا، ولكن جرى ما جرى من هلاكهم» (2). سابعًا: موقف المشركين لما قدموا إلى بدر: بين سبحانه وتعالى موقف المشركين لما قدموا إلى بدر, قال تعالى: (إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 19]. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال حين التقى القوم -في بدر-: اللهم أقطعُنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه - أي أهلكه: الغداة. فكان المستفتح (3). ولما وصل جيش مكة إلى بدر دب فيهم الخلاف وتزعزعت صفوفهم الداخلية، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «لما نزل المسلمون وأقبل المشركون، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتبة بن ربيعة وهو على جمل أحمر، فقال: «إن يكن عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر, إن يطيعوه يرشدوا» وهو يقول: يا قوم أطيعوني في هؤلاء القوم فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم, ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه، فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا، فقال أبو جهل: انتفخ والله سحره, (4) حين رأى محمدًا وأصحابه، إنما محمد وأصحابه أكلة جزور لو قد التقينا.   (1) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول (1/ 65، 66). (2) انظر: تفسير القرطبي (8/ 25). (3) المسند (5/ 431). (4) سحرك: رئتك، يقال ذلك للجبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فقال عتبة: ستعلم من الجبان المفسد لقومه، أما والله إني لأرى قومًا يضربونكم ضربًا، أما ترون كأن رؤوسهم الأفاعي وكأن وجههم السيوف .. ) (1). وهذا حكيم بن حزام يحدثنا عن يوم بدر، وكان في صفوف المشركين قبل إسلامه، قال: خرجنا حتى نزلنا العدوة التي ذكرها الله عز وجل، فجئت عتبة بن ربيعة فقلت: يا أبا الوليد هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: أفعل ماذا؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي (2) , وهو حليفك فتحمل ديته وترجع بالناس، فقال أنت وذاك وأنا أتحمل ديته، واذهب إلى ابن الحنظلية (3) يعني -أبا جهل- فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي (4) واقف على رأسه وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك؟ قال: أما وجد رسولا غيرك؟ قلت: لا ولم أكن لأكون رسولاً لغيره. قال حكيم: فخرجت مبادرًا إلى عتبة، لئلا يفوتني من الخبر شيء (5). فهذا عتبة بن ربيعة وهو في القيادة من قريش لا يرى داعيًا لقتال محمد، وقد دعا قريش بترك محمد فإن كان صادقًا فيما يدعو إليه فعزه عز قريش وملكه ملكها، وستكون أسعد الناس به، وإن كان كاذبًا فسيذوب في العرب وتنهيه. ولكن كبرياء الجاهلية دائمًا في كل زمان ومكان لا يمكن أن تترك الحق يتحرك؛ لأنها تعلم أن انتصاره معناه زوالها من الوجود وبقاؤه مكانها (6). وهذا عمير بن وهب الجمحي ترسله قريش ليحرز لهم أصحاب محمد، فاستجال حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني أنظر أللقوم كمين أو مدد، قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئًا، ولكن قد رأيت يا معشر   (1) مجمع الزوائد (6/ 76) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات. (2) تقدم ذكره في سرية عبد الله بن جحش. (3) ابن الحنظلية هو أبو جهل، وهي أسماء بنت مخربة من بني تميم. (4) المقصود هنا عامر أخو عمرو المتقدم (5) سيرة ابن هشام (2/ 234، 235). (6) انظر: مرويات غزوة بدر، ص155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 قريش البلايا تحمل المنايا, نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فُروا رأيكم (1). وهذا أمية بن خلف رفض الخروج من مكة ابتداء خوفًا من الموت، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذا غلبتني، فوالله لأشترين أجود بعير بمكة. ثم قال أمية: يا أم صفوان جهزيني. فقالت له: أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ تقصد سعد بن معاذ عندما قال له: سمعت رسول الله يقول: إنهم لقاتلوك (2). قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا, فلما خرج أمية أخذ لا يترك منزلاً إلا عقل بعيره، فلم يزل بذلك حتى قتله الله عز وجل ببدر (3). ومن دهاء أبي جهل -لعنه الله- أن سلط عقبة بن معيط على أمية بن خلف فأتاه عقبة بمجمرة حتى وضعها بين يديه فقال: إنما أنت من النساء. فقال: قبحك الله (4). لقد كانت القوة المعنوية لجيش مكة متزعزعة في النفوس، وإن كان مظهره القوة والعزم والثبات إلا أن في مخبره الخوف والجبن والتردد (5). وكانت لرؤيا عاتكة بنت عبد المطلب أثر على معنويات أهل مكة، فقد رأت في المنام أن رجلاً استنفر قريشًا وألقى بصخرة من رأس جبل أبي قبيس بمكة فتفتت ودخلت سائر دور قريش، وقد أثارت الرؤيا خصومة بين العباس وأبي جهل حتى قدم ضمضم وأعلمهم بخبر القافلة فسكنت مكة وتأولت الرؤيا (6). كما أن جهيم بن الصلت بن المطلب بن عبد مناف رأى رؤيا عندما نزلت قريش الجحفة، فقد رأى رجلاً أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن   (1) انظر: البداية والنهاية (3/ 269). (2) انظر: فتح الباري (7/ 238) الطبعة السلفية، مصر. (3) انظر: مرويات غزوة بدر، ص136. (4) المصدر نفسه، ص137. (5) المصدر السابق، ص138. (6) انظر: المجتمع المدني في عصر النبوة للعمري، ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ربيعة وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف, وفلان وفلان، فعدد رجالاً من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح (1) من دمه، فلما بلغت أبا جهل هذه الرؤيا، قال: وهذا أيضا نبي من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا (2). كانت تلك الرؤى قد ساهمت بتوفيق الله في إضعاف النفسية القرشية المشركة. * * * المبحث الثاني النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في ساحة المعركة أولاً: بناء عريش القيادة: بعد نزول النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه على أدنى ماء بدر من المشركين، اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء عريش له يكون مقرًا لقيادته ويأمن فيه من العدو، وكان مما قاله سعد في اقتراحه: (يا نبي الله ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام, يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك) فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم على تل مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر - رضي الله عنه - , وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). ويستفاد من بناء العريش أمور, منها: 1 - لا بد أن يكون مكان القيادة مشرفًا على أرض المعركة، يتمكن القائد فيه من متابعة المعركة وإدارتها. 2 - ينبغي أن يكون مقر القيادة آمنًا بتوافر الحراسة الكافية له. 3 - ينبغي الاهتمام بحياة القائد، وصونها من التعرض لأي خطر. 4 - ينبغي أن يكون للقائد قوة احتياطية أخرى تعوض الخسائر التي قد تحدث في المعركة (4).   (1) نضح: لطخ. (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 230). (3) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 233). (4) انظر: غزوة بدر الكبرى، ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ثانيًا: من نعم الله على المسلمين قبل القتال: من المنن التي منَّ الله بها على عباده المؤمنين يوم بدر أنه أنزل عليهم النعاس والمطر، وذلك قبل أن يلتحموا مع أعدائهم, قال تعالى: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ) قال القرطبي: (وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها, فكان النوم عجيبًا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، وكأن الله ربط جأشهم). وعن علي - رضي الله عنه - قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أولهما: أن قوَّاهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني: أن أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم كما يقال: «الأمن مُنيم، والخوف مُسْهِر» (1). وبين سبحانه وتعالى أنه أكرم المؤمنين بإنزال المطر عليهم في وقت لم يكن المعتاد فيه نزول الأمطار, وذلك فضلاً منه وكرمًا، وإسناد هذا الإنزال إلى الله للتنبيه على أنه أكرمهم به. قال الإمام الرازي: (وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه، إذ كان جنبًا، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جَرَمَ عدَّ الله تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه ... ) (2). وقوله تعالى: (وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ) فقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم -يعني حين سار إلى بدر- والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة- أي كثير مجتمعة- فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين، فأمطر الله عليكم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشي الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم (3). فقد بين سبحانه أنه أنزل على عباده المؤمنين المطر قبل المعركة فتطهروا به حسيًّا ومعنويًّا إذ ربط الله به على قلوبهم وثبت به أقدامهم، وذلك أن الناظر في منطقة بدر يجد في   (1) انظر: تفسير القرطبي (7/ 327). (2) انظر: تفسير الفخر الرازي (15/ 133). (3) انظر: تفسير الطبري (9/ 195). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 المنطقة رمالا متحركة لا زالت حتى اليوم ومن العسير المشي عليها، ولها غبار كبير، فلما نزلت الأمطار تماسكت تلك الرمال وسهل السير عليها، وانطفأ غبارها, وكل ذلك كان نعمة من الله على عباده (1). ثالثًا: خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في المعركة: ابتكر الرسول صلى الله عليه وسلم في قتاله مع المشركين يوم بدر أسلوبًا جديدًا في مقاتلة أعداء الله تعالى، لم يكن معروفًا من قبل حتى قاتل صلى الله عليه وسلم بنظام الصفوف (2) , وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) [الصف: 4]. وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة, وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعًا لقلة المقاتلين أو كثرتهم. وتكون الصفوف الأولى من أصحاب الرماح لصد هجمات الفرسان, وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء، وكان من فوائد هذا الأسلوب في غزوة بدر: 1 - إرهاب الأعداء ودلالة على حسن وترتيب النظام عند المسلمين. 2 - جعل في يد القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم قوة احتياطية عالج بها المواقف المفاجئة في صد هجوم معاكس, أو ضرب كمينٍ غير متوقع، واستفاد منه في حماية الأجنحة من خطر المشاة والفرسان، ويعد تطبيق هذا الأسلوب لأول مرة في غزوة بدر سبقًا عسكريًا تميزت به المدرسة العسكرية الإسلامية على غيرها منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان (3). ويظهر للباحث في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباغت خصومه ببعض الأساليب القتالية الجديدة، وخاصة تلك التي لم يعهدها العرب من قبل، على نحو ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بَدْرٍ، وأُحُدٍ وغيرهما. ومن جهة النظرة العسكرية، فإن هذه الأساليب تدعو إلى الإعجاب بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وبراعته العسكرية؛ لأن التعليمات العسكرية التي كان يصدرها خلال تطبيقه لها، تطابق تمامًا الأصول الحديثة في استخدام الأسلحة (4).   (1) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول (1/ 91). (2) انظر: القيادة العسكرية، د. محمد الرشيد ص401. (3) انظر: الرسول القائد، خطاب، ص111، 116، 117. (4) المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية، محمد محفوظ، ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وتفصيل ذلك فقد اتبع صلى الله عليه وسلم أسلوب الدفاع ولم يهاجم قوة قريش، وكانت توجيهاته التكتيكية التي نفذها جنوده بكل دقة سببًا في زعزعة مركز العدو، وإضعاف نفسيته، وبذلك تحقق النصر الحاسم بتوفيق الله على العدو برغم تفوقه (1)، بنسبة 3 إلى 1, فقد كان صلى الله عليه وسلم يتصرف في كل موقف حسب ما تدعو إليه المصلحة؛ وذلك لاختلاف مقتضيات الأحوال والظروف، وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم في الجانب العسكري أسلوب القيادة التوجيهية في مكانها الصحيح. أما أخذه بالأسلوب الإقناعي في غزوة بدر فقد تجلى في ممارسة فقه الاستشارة في مواضع متعددة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقود جنده بمقتضى السلطة، بل بالكفاءة والثقة، وهو صلى الله عليه وسلم أيضا لا يستبد برأيه، بل يتبع مبدأ الشورى وينزل على الرأي الذي يبدو صوابًا، ومارس صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أسلوب القيادة التوجيهية، فقد تجلى في أمور, منها: 1 - الأمر الأول: أمره صلى الله عليه وسلم الصحابة برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم؛ لأن الرمي يكون أقرب إلى الإصابة في هذه الحالة «إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل» (2). 2 - الأمر الثاني: نهيه صلى الله عليه وسلم عن سل السيوف إلى أن تتداخل الصفوف (3) «ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم» (4). 3 - الأمر الثالث: أمره صلى الله عليه وسلم الصحابة بالاقتصاد في الرمي (5) «واسْتَبْقُوا نَبْلَكم» (6). وعندما تقارن هذه التعليمات الحربية بالمبادئ الحديثة في الدفاع تجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سباقًا إليها من غير عكوف على الدرس ولا التحاق بالكليات الحربية، فالنبي صلى الله عليه وسلم يرمي من وراء تعليماته التي استعرضناها آنفا إلى تحقيق ما يعرف حديثًا بكبت النيران إلى اللحظة التي يصبح فيها العدو في المدى المؤثر لهذه الأسلحة، وهذا ما قصده صلى الله عليه وسلم في قوله: «واستبقوا نبلكم». أ- فرصة الاستفادة من الظروف الطبيعية أثناء قتال الأعداء: ولم يهمل صلى الله عليه وسلم فرصة الاستفادة من الظروف الطبيعية أثناء قتال العدو، فقد كان يستفيد من كل الظروف في ميدان المعركة لمصلحة جيشه، ومن الأمثلة على ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل بدء القتال يوم بدر، يقول المقريزي: وأصبح صلى الله عليه وسلم ببدر قبل أن تنزل قريش, فطلعت الشمس وهو يصفهم فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه فاستقبلوا الشمس. (7)   (1) انظر: مقومات النصر، د. أحمد أبو الشباب (2/ 154) (2) صحيح السيرة النبوية برواية أخرى ونفس المعنى، ص239. (3) انظر: غزوة بدر الكبرى، ص63، 64، لأبي فارس. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص239. (5) انظر: غزوة بدر الكبرى، لأبي فارس، ص63، 64. (6) البخاري، كتاب المغازي، باب من شهد بدرا، رقم 3984، 3985. (7) انظر: القيادة العسكرية، ص453. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وهذا التصرف يدل على حسن تدبيره صلى الله عليه وسلم؛ واستفادته حتى من الظروف الطبيعية لما يحقق المصلحة لجيشه، وإنما فعل ذلك لأن الشمس إذا كانت في وجه المقاتل تسبب له عَشا (1) البصر فتقل مقاومته ومجابهته لعدوه (2). وفيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر إشارة إلى أن الظروف الطبيعية كالشمس والريح والتضاريس الجغرافية وغيرها لها تأثير عظيم على موازين القوى في المعارك, وهي من الأسباب التي طلب الله منا الأخذ بها لتحقيق النصر والصعود إلى المعالي (3). ب- سواد بن غَزِيّة في الصفوف: كان صلى الله عليه وسلم في بدر يعدل الصفوف ويقوم بتسويتها لكي تكون مستقيمة متراصة، وبيده سهم لا ريش له يعدل به الصف، فرأى رجلاً اسمه سواد بن غزية، وقد خرج من الصف فطعنه صلى الله عليه وسلم في بطنه، وقال له: «استوِ يا سواد» فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: «استقد» فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: «ما حملك على هذا يا سواد» قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير (4). ويستفاد من قصة سواد - رضي الله عنه - أمور, منها: 1 - حرص الإسلام على النظام. 2 - العدل المطلق: فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم القود من نفسه. 3 - حب الجندي لقائده. 4 - تذكر الموت والشهادة. 5 - جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبارك، ومسه فيه بركة, ولهذا حرص عليها سواد. 6 - بطن الرجل ليس بعورة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عنه ولو كان عورة لما كشف عنه (5). ج- تحريض النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على القتال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على أن يكونوا أصحاب إرادات قوية راسخة ثابتة ثبات   (1) سوء البصر بالليل والنهار يكون في النار والدواب والإبل والطير. (2) انظر: تحفة الأحوذي بشرح مجامع الترمذي (7/ 175) (3) انظر: القيادة العسكرية، ص454. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص236. (5) انظر: غزوة بدر، لأبي فارس، ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الشُّمِّ الرواسي، فيملأ قلوبهم شجاعة وجرأة وأملاً في النصر على الأعداء، وكان يسلك في سبيل تكوين هذه الإرادة القوية أسلوب الترغيب والترهيب، الترغيب في أجر المجاهدين الثابتين، والترهيب من التولي يوم الزحف، والفرار من ساحات الوغى، كما كان يحدثهم عن عوامل النصر وأسبابه ليأخذوا بها ويلتزموها، ويحذرهم من أسباب الهزيمة ليقلعوا عنها، وينأوا بأنفسهم عن الاقتراب منها (1). وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على القتال ويحرضهم عليه امتثالاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ) [الأنفال: 65]. وفي غزوة بدر الكبرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض». فقال عمير بن الحمام الأنصاري - رضي الله عنه -: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: «نعم». قال: بخٍ بخٍ (كلمة تعجب). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قول: بخٍ بخٍ؟». قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها قال: «فإنك من أهلها». فأخرج تمرات من قرنه (جعبة النشاب) فجعل يأكل منه، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل (2). وفي رواية قال: قال أنس: فرمى ما كان معه من التمر، وقاتل وهو يقول: ركضًا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة للنفاد غير التقى والبر والرشاد فقاتل رحمه الله حتى استشهد (3). ومن صور التعبئة المعنوية أنه صلى الله عليه وسلم كان يبشرهم بقتل صناديد المشركين، وزيادة لهم في التطمين كان يحدد مكان قتلى كل واحد منهم, (4) كما كان يبشر المؤمنين بالنصر قبل بدء القتال فيقول: «أبشر أبا بكر». ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة رضوان الله عليهم: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا   (1) انظر: المدرسة النبوية لأبي فارس، ص140. (2) انظر: مختصر صحيح مسلم للمنذري (2/ 70) رقم (1157). (3) انظر: صفة الصفوة (1/ 488)، زاد المعاد (3/ 182). (4) انظر: جامع الأصول (8/ 202) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أدخله الله الجنة» (1). وقد أثرت هذه التعبئة المعنوية في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم والذين جاءوا من بعدهم بإحسان (2). وكان صلى الله عليه وسلم يطلب من المسلمين أن لا يتقدم أحد إلى شيء حتى يكون دونه، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: ( ... فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون دونه» (3) فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض» (4). د- دعاؤه صلى الله عليه وسلم واستغاثته: قال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) لما نظم صلى الله عليه وسلم صفوف جيشه، وأصدر أوامره لهم وحرضهم على القتال، رجع إلى العريش الذي بُني له ومعه صاحبه أبو بكر - رضي الله عنه - , وسعد بن معاذ على باب العريش لحراسته وهو شاهر سيفه، واتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه يدعوه ويناشده النصر الذي وعده ويقول في دعائه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تُعبد في الأرض أبدًا»، وما زال صلى الله عليه وسلم يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر ورده على منكبيه وهو يقول: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك (5) , فأنزل الله عز وجل: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) وفي رواية ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك الله، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (6). وروى ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني» (7). وهذا درس رباني مهم لكل قائد أو حاكم أو زعيم أو فرد في التجرد من النفس وحظها،   (1) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 239). (2) المدرسة العسكرية لأبي فارس، ص143. (3) انظر: مسلم (3/ 1510) رقم (1901). (4) انظر: المنذري، مختصر صحيح مسلم، (2/ 70) رقم (1157). (5) انظر: مسلم، كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة ببدر (3/ 384). (6) البخاري، كتاب المغازي، باب قصة بدر (5/ 6) رقم (3953). (7) انظر: البداية والنهاية (3/ 267). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 والخلوص واللجوء لله وحده، والسجود والجثي بين يدي الله سبحانه؛ لكي ينزل نصره. ويبقى مشهد نبيه، وقد سقط رداؤه عن كتفه وهو مادٌّ يديه يستغيث بالله, يبقى هذا المشهد محفورًا بقلبه ووجدانه، يحاول تنفيذه في مثل هذه الساعات، وفي مثل هذه المواطن، حيث تناط به المسئولية وتلقى عليه أعباء القيادة (1). هـ- وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى: بعد أن دعا صلى الله عليه وسلم ربه في العريش، واستغاث به خرج من العريش فأخذ قبضة من التراب، وحصَبَ بها وجوه المشركين وقال: «شاهت الوجوه» ثم أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا، فأوصل الله تعالى تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبقَ أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله (2)؛ ولهذا قال الله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) [الأنفال: 17]، ومعنى الآية: أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميته, فالرمي يراد به الحذف والإيصال فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال (3). ونلحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب المادية والمعنوية وتوكل على الله، فكان النصر والتأييد من الله تعالى، فقد اجتمع في بدر الأخذ بالأسباب بالقدر الممكن مع التوفيق الرباني في تهيئة جميع أسباب النصر متعاونة متكافئة مع التأييدات الربانية الخارقة والغيبية، ففي عالم الأسباب تشكل دراسة الأرض والطقس ووجود القيادة والثقة بها والروح المعنوية لبنات أساسية في صحة القرار العسكري، ولقد كانت الأرض لصالح المسلمين، وكان الطقس مناسبًا للمعركة، والقيادة الرفيعة موجودة والثقة بها كبيرة، والروح المعنوية مرتفعة، وبعض هذه المعاني كان من الله بشكل مباشر وتوفيقه, وبعضها كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذًا بالأسباب المطلوبة، فتضافر الأخذ بالأسباب مع توفيق الله وزيد على ذلك التأييدات الغيبية والخارقة فكان ما كان, وذلك نموذج على ما يعطاه المسلمون بفضل الله إذا ما صلحت النيات عند الجند والقادة، ووجدت الاستقامة على أمر الله، وأخذ المسلمون بالأسباب (4). * * * المبحث الثالث نشوب القتال وهزيمة المشركين اندلع القتال بين المسلمين والمشركين بالمبارزات الفردية، فخرج من جيش المشركين عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أرجعهم؛ لأنه أحب أن يبارزهم بعض أهله وذوي قرباه، ولذلك   (1) انظر: التربية القيادية (3/ 36). (2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 125). (3) انظر: زاد المعاد (3/ 183). (4) انظر: الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية (1/ 474). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 قال صلى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» وبارز حمزة شيبة فقتله، وبارز علي الوليد وقتله، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة فضرب كل واحد منهما الآخر بضربة موجعة، فكر حمزة وعليَّ على عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة وأتيا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ما لبث أن استُشهد متأثرا من جراحته وقد قال عنه صلى الله عليه وسلم: «أشهد أنك شهيد» (1) وفي هؤلاء الستة نزل قوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ - يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ - وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ - كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ - إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ - وَهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج: 19 - 24]. ولما شاهد المشركون قتل الثلاثة الذين خرجوا للمبارزة استشاطوا غضبًا وهجموا على المسلمين هجومًا عامًا، صمد وثبت له المسلمون، وهم واقفون موقف الدفاع، ويرمونهم بالنبل كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم, وكان شعار المسلمين: أَحَد أَحَد، ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجوم المضاد محرضًا لهم على القتال وقائلا لهم: «شدوا» وواعدًا من يقتل صابرًا محتسبًا بأن له الجنة, ومما زاد في نشاط المسلمين واندفاعهم في القتال سماعهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وعلمهم وإحساسهم بإمداد الملائكة وبتقليلهم في أعين المسلمين وتقليل المسلمين بأعين المشركين (2). فقد كان صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه ليلة اليوم الذي التقى فيه الجيشان, رأى المشركين عددهم قليل، وقد قص رؤياه على أصحابه فاستبشروا خيرًا قال تعالى: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم -أي رأى المشركين- في منامه قليلا، فقص ذلك على أصحابه فكان ذلك سببًا لثباتهم, قال مجاهد: ولو رآهم في منامه كثيرًا لفشلوا وجبنوا عن قتالهم، ولتنازعوا في الأمر: هل يلاقونهم أم لا، والمضارع في الآية بمعنى الماضي؛ لأن نزول الآية كان بعد الإراءة في المنام (وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي عصمهم من الفشل والتنازع فقللهم في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) , فقص رؤياه على أصحابه فكان في ذلك تثبيت لهم وتشجيعهم وجرأتهم على عدوهم. وعند لقاء جيش المسلمين مع جيش المشركين، رأى كل منهم عدد الآخر قليلا، قال   (1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 126). (2) انظر: الرحيق المختوم، ص116: 118. (3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 125). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 تعالى: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) وإنما قللهم في أعين المسلمين تصديقًا لرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزدادوا يقينا ويجدُّوا في قتالهم ويثبتوا, قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له: كم كنتم؟ قال: ألفًا. وقوله تعالى: (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) حتى قال قائل من المشركين: إنما هم أكلة جزور .. ووجه الحكمة واللطف بالمسلمين في هذا التقليل، هو أن إراءة المسلمين عدد الكافرين قليلا ثبتهم ونشطهم وجرَّأهم على قتال المشركين، ونزع الخوف من قلوب المسلمين من أعدائهم. ووجه الحكمة في تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلا أقدموا على قتالهم غير خائفين ولا مبالين بهم، ولا آخذين الحذر منهم، فلا يقاتلون بجد واستعداد ويقظة وتحرز، ثم إذا ما التحموا بالقتال فعلا تفجؤهم الكثرة فيبهتون ويهابون، وتكسر شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، فيكون ذلك من أسباب خذلانهم وانتصار المسلمين عليهم (1). أولاً: إمداد الله للمسلمين بالملائكة: ثبت من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومرويات عدد من الصحابة البدريين؛ أن الله تعالى ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب, قال تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال: 12]. وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ - بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ - وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). وأورد البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وغيرهم عددًا من الأحاديث الصحيحة التي تشير إلى مشاركة الملائكة في معركة بدر، وقيامهم بضرب المشركين وقتلهم (2). فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. (3) فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيًا فنظر إليه فإذا هو خُطِم أنفه (4)، وشُقَّ وجهه كضربة السوط فاخضر   (1) انظر: تفسير الزمخشري (2/ 225)، تفسير ابن كثير (2/ 315). (2) انظر: موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/ 291). (3) حيزوم: اسم الفرس الذي يركبه الملك. (4) خطم: الخطم: الأثر على الأنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال: «صدقت, ذلك مدد من السماء الثالثة» (1) ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب» (2). ومن حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: (فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني, لقد أسرني رجل أجلح (3) من أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق (4) ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال «اسكت فقد أيدك الله بملك كريم» (5). ومن حديث أبي داود المازني قال: (إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري) (6). إن إمداد الله تعالى للمؤمنين بالملائكة أمر قطعي ثابت لا شك فيه، وأن الحكمة من هذا الإمداد تحصيل ما يكون سببًا لانتصار المسلمين، وهذا ما حصل بنزول الملائكة، فقد قاموا بكل ما يمكن أن يكون سببا لنصر المسلمين: من بشارتهم بالنصر، ومن تثبيتهم بما ألقوه في قلوبهم من بواعث الأمل في نصرهم، والنشاط في قتالهم، وبما أظهروه لهم من أنهم معانون من الله تعالى، وأيضا بما قام به بعضهم من الاشتراك الفعلي في القتال، ولا شك أن هذا الاشتراك الفعلي في القتال قوى قلوبهم وثبتهم في القتال، وهذا ما دلت عليه الآيات وصرحت به الأحاديث النبوية (7). وقد يسأل سائل: ما الحكمة في إمداد المسلمين بالملائكة مع أن واحدًا من الملائكة كجبريل عليه السلام قادر بتوفيق الله على إبادة الكفار؟ وقد أجاب الأستاذ عبد الكريم زيدان على ذلك فقال: لقد مضت سنة الله بتدافع الحق وأهله مع الباطل وأهله، وأن الغلبة تكون وفقًا لسنن الله في الغلبة والانتصار، وأن هذا التدافع يقع في الأصل بين أهل الجانبين: الحق والباطل، ومن ثمرات التمسك بالحق والقيام بمتطلباته أن يحصلوا على عون وتأييد من الله تعالى، بأشكال وأنواع متعددة من التأييد والعون، ولكن تبقى المدافعة والتدافع يجريان وفقًا لسنن الله فيهما، وفي نتيجة هذا التدافع فالجهة الأقوى بكل معاني القول اللازمة للغلبة هي التي تغلب، فالإمداد بالملائكة هو بعض ثمرات إيمان تلك العصبة المجاهدة،   (1) مسلم -الجهاد، باب الإمداد بالملائكة رقم (1763). (2) البخاري -المغازي، باب فضل من شهد بدرًا، رقم (3995). (3) الأجلح: الذي انحسر شعره على جانبي رأسه. (4) الأبلق: ارتفع التحجيل إلى فخذيه. (5) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص247. (6) نفس المصدر، ص247. (7) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 131، 132). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ذلك الإمداد الذي تحقق به ما يستلزم الغلبة على العدو، ولكن بقيت الغلبة موقوفة على ما قدمه أولئك المؤمنون في قتال ومباشرة لأعمال القتال، وتعرضهم للقتل، وصمودهم وثباتهم في الحرب، واستدامة توكلهم على الله، واعتمادهم عليه، وثقتهم به، وهذه معانٍ جعلها الله حسب سننه في الحياة أسبابًا للغلبة والنصر، مع الأسباب الأخرى المادية، مثل العُدة والعدد والاستعداد للحرب وتعلم فنونه ... إلخ. ولهذا فإن الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يباشروا بأنفسهم إزهاق الباطل وقتال المبطلين، وأن يهيئوا الأسباب المادية والإيمانية للغلبة والانتصار، وبأيديهم إن شاء الله تعالى ينال المبطلون ما يستحقونه من العقاب (1) , قال تعالى: ... (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 14، 15]. إن نزول الملائكة عليهم السلام من السماوات العلى إلى الأرض لنصر المؤمنين حدث عظيم. إنه قوة عظمى، وثبات راسخ للمؤمنين حينما يوقنون بأنهم ليسوا وحدهم في الميدان، وأنهم إذا حققوا أسباب النصر واجتنبوا موانعه, فإنهم أهل لمدد السماء، وهذا الشعور يعطيهم جرأة في مقابلة الأعداء، وإن كان ذلك على سبيل المغامرة، لبعد التكافؤ المادي بين جيش الكفار الكبير عددًا القوي إعدادًا وجيش المؤمنين القليل عددًا الضعيف إعدادًا. وهو في نفس الوقت عامل قوي في تحطيم معنوية الكفار وزعزعة يقينهم، وذلك حينما يشيع في صفوفهم احتمال تكرار نزول الملائكة الذين شاهدهم بعضهم عيانًا، إنهم مهما قدروا قوة المسلمين وعددهم فإنه سيبقى في وجدانهم رعب مزلزل من احتمال مشاركة قوى غير منظورة لا يعلمون عددها ولا يقدرون مدى قوتها، وقد رافق هذا الشعور المؤمنين في كل حروبهم التي خاضها الصحابة رضي الله عنهم في العهد النبوي، وفي عهد الخلفاء الراشدين, كما رافق بعض المؤمنين بعد ذلك فكان عاملاً قويًا في انتصاراتهم المتكررة الحاسمة مع أعدائهم (2). ثانيًا: انتصار المسلمين على المشركين وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل القليب: انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين على المشركين, وكان قتلى المشركين سبعين رجلا، وأسر منهم سبعون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا، منهم ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار, ولما تم الفتح وانهزم المشركون أرسل صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بنصر الله للمسلمين وهزيمة المشركين (3).   (1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 131، 132) (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 145). (3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 133) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 ومكث صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثة أيام، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: (إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ... ) (1) ولعل الحكمة في ذلك: 1 - تصفية الموقف بالقضاء على أية حركة من المقاومة اليائسة التي يحتمل أن يقوم بها فلول المنهزمين الفارين هربًا إلى الجبال. 2 - دفن من استُشهد من جند الله مما لا تكاد تخلو منه معركة، فقد دفن شهداء المسلمين في أرض المعركة، ولم يرد ما يشير إلى الصلاة عليهم، ولم يدفن أحد منهم خارج بدر (2). 3 - جمع الغنائم وحفظها، وإسناد أمرها إلى من يقوم بهذا الحفظ حتى تؤدى كاملة إلى مستحقيها، وقد أسندت أنفال وغنائم بدر إلى ابن الحارث عبد الله بن كعب الأنصاري، أحد بني مازن (3). 4 - إعطاء الجيش الظافر فرصة يستروح فيها، بعد الجهد النفسي والبدني المضني الذي بذله أفراده في ميدان المعركة، ويضمد فيها جراح مجروحيه، ويذكر نعم الله عليه فيما أفاء الله عليه من النصر المؤزر الذي لم يكن داني القطوف، سهل المنال، ويتذاكر أفراده وجماعاته ما كان من أحداث ومفاجآت في الموقعة، مما كان له أثر فعال في استجلاب النصر، وما كان من فلان في شجاعته وفدائيته وجرأته على اقتحام المضائق وتفريج الأزمات، وما تكشفت عنه المعركة من دروس عملية في الكر والفر, والتدبير المحكم الذي أخذ به العدو، وما في ذلك من عبر، واستذكار أوامر القيادة العليا وموقفها في رسم الخطط، ومشاركتها الفعلية في تنفيذها، ليكون من كل ذلك ضياء يمشون في نوره في وقائعهم المستقبلية، ويجعلون منه دعائم لحياتهم في الجهاد الصبور المظفر بالنصر المبين. 5 - مواراة جيف قتلى الأعداء الذين انفرجت المعركة عن قتلهم، والتعرف عليهم وعلى مكانتهم في حشودهم, وعلى من بقي منهم مصروعًا بجراحه لم يدركه الموت، للإجهاز على من ترى قيادة جيش الإسلام المصلحة في القضاء عليه اتقاء شره في المستقبل, كالذي كان من أمر الفاسق أبي جهل فرعون هذه الأمة، والذي كان في شأن رأس الكفر أمية بن خلف وأضرابهما، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلقاء هؤلاء الأخباث في رَكِيٍّ (4) من قُلُب (5) بدر خبيث مُخْبث, ثم وقف على شفة الركي (6) , وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم وقف على القتلى فقال: «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس،   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص250. (2) انظر: موسوعة نضرة النعيم (1/ 291) (3) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/ 453) (4) ركي: حافة البئر. (5) قلب: أبيار ومفرده بئر. (6) انظر: محمد رسول الله, صادق عرجون (3/ 454). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وأخرجتموني وآواني الناس» (1). ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فقال: «والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» (2)، قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخًا، وتصغيرًا، ونقمة، وحسرة، وندمًا (3). إن مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم لقتلى قريش بينت أمرًا عظيمًا، وهو أنهم بدَأوا حياة جديدة، هي حياة البرزخ الخاصة، وهم فيها يسمعون كلام الأحياء، غير أنهم لا يجيبون ولا يتكلمون، والإيمان بهذه الحياة من عقائد المسلمين، ونعيم القبر وعذابه ثابتان في صحيح الأحاديث، حتى إنه صلى الله عليه وسلم مر بقبرين وقال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير» (4) , وذكر أن سبب تعذيبهما النم بين الناس، وعدم الاستنزاه من البول (5). ولا بد من التسليم بهذه الحقائق الغيبية، بعد أن تحدث عنها الصادق المصدوق، وقطع بها القرآن الكريم في تعذيب آل فرعون, قال تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 46]. وأما الشهداء فقد قال الله تعالى فيهم: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169]. * * * المبحث الرابع مشاهد وأحداث من المعركة أولاً: مصارع الطغاة: أ- مصرع أبي جهل بن هشام المخزومي: قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما (6) ,   (1) زاد المعاد (3/ 187). (2) البخاري المغازي، باب قتل أبي جهل رقم (3976) ومسلم: ح (2873، 2874). (3) الأساس في السنة - السيرة النبوية (1/ 479). (4) رواه البخاري رقم 218. (5) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د. محمد فوزي فضل الله، ص64. (6) أضلع: أقوى وأعظم وأشد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 فغمزني (1) أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها. قال: فلم أنشب (2) أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟» فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا. فنظر في السيفين فقال: «كلاكما قتله»، وقضى بسَلَبِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح (3).وفي حديث أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «من ينظر ما صنع أبو جهل؟» فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضرباه (ابنا عفراء حتى برد (4) فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل، قال: وهل فوق رجل قتله قومه أو قال: قتلتموه (5) , وفي حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: أدركت أبا جهل يوم بدر صريعا، فقلت: أي عدو الله قد أخزاك الله؟ قال: وبما أخزاني؟ من رجل قتلتموه، ومعي سيف لي، فجعلت أضربه ولا يحتك فيه شيء، ومعه سيف له جيد، فضربت يده فوقع السيف من يده فأخذته، ثم كشفت المغفر عن رأسه، فضربت عنقه، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟» قلت: الله الذي لا إله إلا هو. قال: فانطلق فاستثبت فانطلقت وأنا أسعى مثل الطائر، ثم جئت وأنا أسعى مثل الطائر أضحك فأخبرته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلق» فانطلقت معه فأريته، فلما وقف عليه صلى الله عليه وسلم قال: «هذا فرعون هذه الأمة» (6). كان الدافع من حرص الأنصاريين الشابين على قتل أبي جهل ما سمعاه من أنه كان يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهكذا تبلغ محبة شباب الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذل النفس في سبيل الانتقام ممن تعرض له بالأذى. وما جرى بين عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وأبي جهل وهو في الرمق الأخير من   (1) غمزني: قرصني. (2) أنشب: ألبث. (3) البخاري، كتاب المغازي، باب من شهد بدرًا، رقم (3988). (4) برد: قارب على الموت وكان في النزع الأخير. (5) البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل رقم (3963). (6) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الحوار فيه عبرة بليغة، فهذا الطاغية الذي كان شديد الأذى للمسلمين في مكة قد وقع صريعًا بين أيدي من كان يؤذيهم. ويشاء الله تعالى أن يكون الذي يقضي على آخر رمق من حياته هو أحد المستضعفين، ولقد كان أبو جهل مستكبرًا جبارًا حتى وهو صريع وفي آخر لحظات حياته (1). فقد جاء في رواية لابن إسحاق أنه قال لعبد الله بن مسعود لما أراد أن يحتز رأسه: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رويعي الغنم (2). فالله تعالى لم يعجِّل لهذا الخبيث أبي جهل بضربات الأبطال من أشبال الأنصار، ولكنه أبقاه مصروعًا في حالة من الإدراك والوعي بعد أن أصابته ضربات أشفت به على الهلاك الأبدي، ليريه بعين بصره ما بلغه من المهانة والذل والخذلان على يد من كان يستضعفه ويؤذيه، ويضطهده بمكة من رجال الرعيل الأول -السابقين إلى مظلّة الإيمان وطهر العقيدة، والتعبد لله بشرائعه، التي أنزلها رحمة للعالمين- عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فيعلو على صدره، ويدوسه بقدميه، ويقبض على لحيته تحقيرًا له، ويقرّعه تقريعًا يبلغ من نفسه مجمع غروره واستكباره في الأرض، ويستل منه سيفه إمعانًا في البطش به فيقتله به، ويمعن في إغاظته بإخباره أن النصر عقد بناصية جند الله وكتيبة الإسلام، وأن شنار الهزيمة النكراء وعارها، وخزيها وخذلانها قد رزئت به كتائب الغرور الأجوف في حشود النفير الذي قاده هذا الكفور الخبيث ... (3). ب- مصرع أمية بن خلف: قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي (4) بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت (الرحمن) قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته (عبد عمرو). فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه (5) حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار، فقال: أمية بن خلف لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم، فقتلوه ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له: ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه،   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 158 - 160). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 247). (3) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/ 431، 432). (4) الصاغية: صاغية الرجل ما يميل إليه، ويطلق على الأهل والمال. (5) أحرزه: أحميه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 فتجللوه (1) بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه, وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه (2). وفي رواية أخرى لعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماك أبوك؟ قال: فأقول نعم. قال: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئًا أدعوك به، أما أنت فلا تجبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. قال: وكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه، قال: فقلت: يا أبا علي اجعل ما شئت، قال: فأنت عبد الإله، قال: قلت: نعم. قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله فأجبته فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه علي، وهو آخذ بيده قال: ومعي أدراع لي قد استلبتها، فأنا أحملها، فلما رآني قال: يا عبد عمرو فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، فقلت: نعم، قال: هل لك فيَّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قال: قلت: نعم، ها لله؟ قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده وبيد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ ثم خرجت أمشي بهما، قال ابن هشام: يريد باللبن أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن (3). ونلحظ من الروايات السابقة: 1 - ما جرى من بلال - رضي الله عنه - حينما رأى عدوه اللدود أمية بن خلف الذي كان يسومه أقسى وأعنف أنواع العذاب في مكة، فلما رآه في يد عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أسيرًا صرخ بأعلى صوته: لا نجوت إن نجا. إنه موقف من مواقف التشفي في أعداء الله، والتشفي من كبار الكفرة الفجار وفي الحياة الدنيا نعمة يفرج الله بها عن المكروبين من المؤمنين الذين ذاقوا الذل والهوان على أيدي أولئك الفجرة الطغاة, قال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ - وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 14، 15].   (1) تجللوه: طعنوه وأصابوه. (2) البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا وكَّل المسلم حربيًا رقم (2301). (3) انظر: صحيح السيرة النبوية للعلي (178)، وعزاه إلى سيرة ابن هشام (1/ 631) وقال: سنده صحيح، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 2 - إن فيما جرى لأمية بن خلف من قتل مفزع درسًا بليغًا للطغاة المتجبرين، وعبرة للمعتبرين، الذين يغترون بقوتهم وينخدعون بجاههم ومكانتهم، فيعتدون على الضعفاء، ويسلبونهم حقوقهم، فمآلهم إلى عاقبة سيئة ووخيمة في الآخرة، وقد يمكن الله للضعفاء منهم في الدنيا قبل الآخرة كما حدث لأمية بن خلف وأضرابه من طغاة الكفر (1) , قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 5]. 3 - وفي قول عبد الرحمن بن عوف: «يرحم الله بلالا ذهبت أدراعي وفجعني بأسيريَّ» (2) مع ما جرى من بلال من معارضة وانتزاع الأسيرين من يده بقوة الأنصار الذين استنجد بهم دليل على قوة الرباط الأخوي بين الصحابة الكرام (3). 4 - موقف لأم صفوان بنت أمية: قيل لأم صفوان بنت أمية بعد إسلامها، وقد نظرت إلى الحباب بن المنذر بمكة: هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر، قالت: دعونا من ذكر من قُتل على الشرك، قد أهان الله عليًا بضربه الحباب بن المنذر، وأكرم الله الحباب بضربه عليًا، قد كان على الإسلام حين خرج من هاهنا، فقتل على غير ذلك (4)، وهذا الموقف يدل على قوة إيمانها، ورسوخ يقينها حيث اتضحت لها عقيدة الولاء والبراء، فأصبحت تحب المسلمين وإن كانوا من غير قبيلتها، وتكره الكافرين وإن كانوا من أبنائها (4). وقولها على ابنها علي: «قد كان على الإسلام حين خرج من ههنا فقتل على غير ذلك» تعني أنه كان ممن عرف عنهم الإسلام بمكة وخرجوا مع قومهم يوم بدر مكرهين, فلما التقى الصفان فتنوا حينما رأوا قلة المسلمين فقالوا: قد غر هؤلاء دينهم (5) , فنزل فيهم قول الله تعالى: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 49]. ج- مصرع عبيدة بن سعيد بن العاص على يد الزبير: قال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج (6) لا يرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبو (7) ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 152، 153). (2) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 244) (3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 153). (4) نفس المصدر (4/ 154). (5) انظر: تفسير الطبري (10/ 21). (6) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 154). (7) كذا لفظ "أبو" ثابت في متن النسخة الأميرية وفي هامشه "أبا" صحت عند بعض رواة صحيح البخاري، وفي نسخة فتح الباري (المطبعة السلفية) "أبا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 بالعنزة فطعنته في عينه فمات، قال هشام، فأُخبرت أن الزبير قال: (لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت فكان الجهد أن نزعتها، وقد انثنى طرفاها). قال عروة: فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه، فلما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاها، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها، فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قُتل (1). (هذا الخبر يصور لنا دقة الزبير بن العوام - رضي الله عنه - في إصابة الهدف، حيث استطاع أن يضع الحربة في عين ذلك الرجل مع ضيق ذلك المكان, وكونه قد وزع طاقته بين الهجوم والدفاع، فلقد كانت إصابة ذلك الرجل بعيدة جدًا لكونه قد حمى جسمه بالحديد الواقي، لكن الزبير استطاع إصابة إحدى عينيه، فكانت بها نهايته، ولقد كانت الإصابة شديدة العمق مما يدل على قوة الزبير الجسدية، إضافة إلى دقته ومهارته في إصابة الهدف) (2). د- مصرع الأسود المخزومي: قال ابن إسحاق: وقد خرج الأسود المخزومي، وكان رجلاً شرسًا سيئ الخلق فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن (3) قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب (4) رجله دمًا نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن يبر يمينه, وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض (5). وقد سأل أمية بن خلف عبد الرحمن بن عوف عن الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره؟ فأجابه عبد الرحمن: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال أمية: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل (6): وهذه شهادة من أحد زعماء الكفر، وهذا يعني أنه - رضي الله عنه - قد أثخن في جيش الأعداء قتلاً وتشريدًا (7).   (1) انظر: صحيح البخاري، المغازي رقم (3998). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 163). (3) أطن: أطار. (4) تشخب: تسيل بصوت. (5) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 237) (6) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 151). (7) المصدر نفسه (4/ 152). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وكان هذا أول من قتل من المشركين بيد أسد الله تعالى حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - , فقد جاء هذا اللئيم الشرس يتحدى المسلمين، فتصدى له بطل الإسلام حمزة، فقضى عليه ولقن أمثاله من الحاقدين المتكبرين درسًا في الصميم (1). ثانيًا: من مشاهد العظمة: أ- استشهاد حارثة بن سراقة: عن أنس - رضي الله عنه - قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: «ويحك أَوَهَبلْتِ أَوَجَنَّة واحدة هي؟ إنها جنانٌ كثيرةٌ, وإنه في جنةِ الفردوسِ» (2) وفي رواية: «يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» (3). ب- استشهاد عوف بن الحارث: قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أن عوف بن مالك وهو ابن عفراء (4) قال: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ قال: «غمسة يده في العدو حاسرًا» (5) فنزع درعًا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قُتل (6). وهذا الخبر يدل على قوة ارتباط الصحابة الكرام بالآخرة، وحرصهم على رضوان الله تعالى؛ ولذلك انطلق عوف بن الحارث - رضي الله عنه - كالسهم وهو حاسر غير متدرع يثخن في الأعداء حتى أكرمه الله بالشهادة، لقد تغيرت مفاهيم المجتمع الجديد، وتعلق أفراده بالآخرة، وأصبحوا حريصين على مرضاته بعد أن كان جل همهم أن تتحدث عنهم النساء عن بطولاتهم، ويرضى سيد القبيلة عنهم، وتنشد الأشعار في شجاعتهم (7). ج- استشهاد سعد بن خيثمة ثم أبيه رضي الله عنهما: قال الحافظ ابن حجر: قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: استهم يوم بدر سعد بن خيثمة وأبوه فخرج سهم سعد فقال له أبوه: يا بني آثرني اليوم، فقال سعد: يا أبت لو كان   (1) المصدر السابق (4/ 121). (2) البخاري في المغازي، باب فضل من شهد بدرًا رقم (3982). (3) الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية (1/ 475). (4) عفراء بنت عبيد بن ثعلبة شارك أولادها السبعة في غزوة بدر. (5) حاسرًا: غير لابس الدرع. (6) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص245. (7) انظر: التربية القيادية (2/ 31). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 غير الجنة فعلت، فخرج سعد إلى بدر فقُتِلَ بها، وقتل أبوه خيثمة يوم أحد (1). وهذا الخبر يعطي صورة مشرقة عن بيوتات الصحابة في تنافسهم وتسابقهم على الجهاد في سبيل الله تعالى، فهذا سعد بن خيثمة ووالده لا يستطيعان الخروج معًا لاحتياج أسرتهما وعملهما لبقاء أحدهما، فلم يتنازل أحدهما عن الخروج رغبة في نيل الشهادة حتى اضطروا إلى الاقتراع بينهما، فكان الخروج من نصيب سعد -رضي الله عنهما-، وكان الابن في غاية الأدب مع والده، ولكنه كان مشتاقًا إلى الجنة فأجاب بهذا الجواب البليغ: (يا أبت لو كان غير الجنة فعلت) (2). د- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة: عن عائشة رضي الله عنها -في حديثها عن طرح قتلى قريش في القليب بعد معركة بدر- قالت: (فلما أمر بهم فسحبوا عرف في وجه أبي حذيفة بن عتبة الكراهية، وأبوه يسحب إلى القليب, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا حذيفة لكأنه ساءك ما كان في أبيك؟» فقال والله يا رسول الله ما شككت في الله وفي رسوله، ولكن إن كان حليمًا سديدًا ذا رأي، فكنت أرجو أن لا يموت حتى يهديه الله عز وجل إلى الإسلام، فلما رأيت أن قد فات ذلك ووقع حيث وقع أحزنني ذلك، قال: «فدعا له رسول الله بخير» (3). إن هذا الموقف يبين قوة التجاذب بين الإيمان في ذروة اليقين، والعاطفة البشرية في قمة الوفاء النبوي، فالإيمان لا يميت المشاعر البشرية، ولكنه يهذبها، فيحولها من عصبية جاهلية إلى وفاء لا ينكره المنهج الرباني في تطبيقه العملي، فإيمان أبي حذيفة - رضي الله عنه - إيمان لا تهزه زلازل الأحداث، فهو إذ يرى أباه يقتل في أشراف قريش كافراً، ويلقى معهم في قليب بدر؛ يأخذه أسف العاطفة البشرية وفاء لهذا الأب، ويظل أبو حذيفة مزملاً بإيمانه الراسخ رسوخ الأطواد الشامخات، فلا يزيد على أن يعروه الاكتئاب على ما فات أباه من خير يرجوه له بالهداية إلى الإسلام (4)، ولهذا المقصد النبيل الذي أثار حزن أبي حذيفة دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير (5). هـ - عمير بن أبي وقاص: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وعرض عليه جيش بدر رد عمير بن أبي وقاص فبكى   (1) الإصابة (2/ 23، 24) رقم (3118). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 87). (3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص251، 252. (4) انظر: محمد رسول الله (3/ 446). (5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 174). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 عمير فأجازه، فعقد عليه حمائل سيفه، ولقد كان عمير يتوارى حتى لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى فقلت: ما لك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة (1)، وقد استُشهد بالفعل. * * * المبحث الخامس الخلاف في الأنفال والأسرى أولا: الخلاف في الأنفال: عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرًا, فالتقى الناس فهَزَم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون, فأكبت طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه, وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة, حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض, قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا, نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1]. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فواق بين المسلمين (2). وفي رواية: قال عبادة بن الصامت عن الأنفال حين سُئل عن الأنفال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا, فنزعه الله تبارك وتعالى من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله فينا عن بَوَاء, يقول: على السواء (3). لقد خلد الله سبحانه وتعالى ذكرى غزوة بدر في سورة الأنفال، وجاءت مفصلة عن أحداثها وأسبابها ونتائجها, وتعرضت الآيات الكريمة لعلاج النفس البشرية وتربيتها على معاني الإيمان العميق والتكوين الدقيق، فبدأت السورة بتبيان حكم أثر من آثار القتال وهو الغنائم، فبينت أن هذه الغنائم لله وللرسول، فالله هو مالك كل شيء، ورسوله هو خليفته، ثم أمر الله   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص317، نقلاً عن صفة الصفوة، (1/ 294) , والمستدرك (3/ 188) والإصابة (3/ 35). (2) مسند الإمام أحمد (5/ 324)، تفسير ابن كثير (2/ 283). (3) مسند الإمام أحمد (5/ 322). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 المؤمنين ثلاثة أوامر: بالتقوى، وإصلاح ذات البين، والطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أوامر مهمة جدًّا في موضوع الجهاد، فالجهاد إذا لم ينشأ عن تقوى فليس جهادًا، والجهاد يحتاج إلى وحدة صف، ومن ثم فلا بد من إصلاح ذات البين، والانضباط هو الأساس في الجهاد، إذ لا جهاد بلا انضباط، ثم بين الله عز وجل أن الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم علامة الإيمان. ثم حدد الله عز وجل صفات المؤمنين الحقيقيين، وهذا الوصف والتحديد مهمان في موضوع الجهاد الإسلامي؛ لأن الإيمان الحقيقي هو الذي يقوم به الجهاد الإسلامي، لقد حدد الله عز وجل صفات المؤمنين: بأنهم إذا ذكر الله فزعت قلوبهم وخافت وفرقت. وإذا قرئ عليهم القرآن ازداد إيمانهم ونما. والصفة الثالثة: هي التوكل على الله، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الخلق وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. والصفة الرابعة: إقامة الصلاة والمحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، ومن ذلك إسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والصفة الخامسة: الإنفاق مما رزقهم الله، وذلك يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحق، والخلق كلهم عباد الله, فأحبهم إليه أنفعهم لخلقه، ثم بين الله -عز وجل- أن المتصفين بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان، وأن لهم عند الله منازل ومقامات ودرجات في الجنات، وأن الله يغفر لهم السيئات، ويشكر الحسنات، وبهذا تنتهي مقدمة السورة بعد أن رفعت الهمم لكل لوازم الجهاد، ونفت كل عوامل الخذلان، من اختلاف على غنائم، أو خلاف بسبب شيء, داعية إلى الطاعة، والارتفاع إلى منازل الإيمان الكامل (1)، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 1 - 4]. يقول الأستاذ محمد الأمين المصري: لم تذكر الآيات شيئًا من أعمال المؤمنين في بدر، ولكن ذكرت عتابًا أليمًا موجعًا يحمل المؤمنين على الرجوع إلى أنفسهم والاستحياء من ربهم، وهناك نقاط أرسلت الآيات النقاط عليها وبينت نواحي الضعف فيها بيانًا جليًا قويًّا، بتصوير ما في النفوس وصفًا دقيقًا رائعًا تشاهد العين فيه الحركات والخلجات، وكل ذلك من شأنه أن ينبه ضمير المؤمن ليلمس المسافة بينه وبين درجات الإيمان التي يهفو قلبه للوصول إليها. ولقد كانت الآيات من تربية الحكيم العليم, ويشعر الذوق السليم هاهنا روعة الأسلوب في عرض   (1) انظر: الأساس في التفسير (4/ 2113، 2114). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 العتاب بغير عتاب، ولكنه تصوير ما في النفوس تصويرًا يوقن معه العادي من الناس، أنه ما كان لمؤمن صحيح الإيمان أن يتصف بها؛ ولذلك اقترنت الآيات بتقديم خصائص الإيمان العالية وميزاته الرفيعة التي تصور الفجوة البعيدة بين المؤمن وبين أي إسفاف: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال: 2 - 4]. ما ذكرت الآيات عتابًا، ولكنها ذكرت واقعًا وكان ذكر الواقع أبلغ من كل عتاب. لقد استجاب الصحابة الكرام لهذا التوجيه الرباني ونزلت الآيات تبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتصرف في الأنفال. بعد أن أصحبت الغنائم لله ورسوله بيَّن المولى عز وجل كيف توزع هذه الغنائم, قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنفال: 41]. وهذا بعد ما طهرت قلوبهم من الأخلاط، وأخلصت إلى علام الغيوب في الطاعة، وتمثلت الآيات، فتحققت بمعنى العبودية الخالصة لله, وهذا الحكم صريح في أن أربعة أخماس ما غنموه مقسوم بينهم، والخمس لله ورسوله، وهذا الخمس نفسه مردود فيهم أيضا، وموزع على الجهات المذكورة كما ثبت بالسنة. إن التوجيه التربوي، في إرجاء إنزال جواب السؤال عن الغنائم، يشير إلى أن الأحكام الشرعية ينبغي أن يهيأ لها الجو النفسي الروحي المناسب، لتحتل مكانها اللائق في العقل والضمير، فتثبت وتتمكن، وتؤتي أطيب النتائج، إذ يتجلى فيها أكمل الحلول، وهكذا صرف المولى -جل شأنه- عبادة المسلمين عن التعلق بالغير، أولا، وبالغنائم ثانيا، ليكونوا له من المخلصين الجديرين بنصره، وإتمام نعمته، فلما تفرغوا للخالق وأخلصوا في الجهاد، أكرمهم بالنصر من لدنه، وأسبغ عليهم من فضله بأكثر مما كانوا يودون (1) , فعن عبد الله بن عمرو قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً من أصحابه فلما انتهى إليها قال: «اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم» ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بحمل أو حملين، واكتسوا وشبعوا) (2).   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص61، 62. (2) سنن أبي داود (5/ 525) حسنه الألباني, صحيح أبي داود (2747). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ومن عدل النبي صلى الله عليه وسلم في تقسيم الغنائم إعطاؤه من هذه الغنيمة من تخلف بأمر رسول الله لمهام أوكلها إليهم, فضرب لهم بسهمهم من الغنيمة وبأجرهم فكانوا كمن حضرها (1). فكان صلى الله عليه وسلم يراعي ظروف الجنود التي تمنعهم من المشاركة في القتال، لأن الله تعالى لم يكلف عباده شيئًا فوق طاقتهم, قال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286]. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلف المسلمين فوق طاقتهم سواء كان ذلك في السلم أو الحرب، وفي غزوة بدر أعفى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة؛ لأن ظروفهم الأسرية تتطلب منهم القيام عليها ورعايتها، فقد أعفى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من الخروج يوم بدر؛ لأن زوجته رقية كانت مريضة وبحاجة إلى من يرعى شؤونها، روى البخاري في صحيحه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبر عن سبب تغيب عثمان - رضي الله عنه - في غزوة بدر فقال - رضي الله عنه -: ( ... وأما تغيبه عن بدر, فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لك أجر رجل ممن شهد بدرًا وسهمه ... » (2). وأمر صلى الله عليه وسلم أبا أمامة بالبقاء عند أمه حيث كانت مريضة وهي بحاجة إليه، فعن أبي أمامة بن ثعلبة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالخروج إلى بدر وأجمع الخروج معه, فقال له خاله أبو بردة بن نيار: أقم على أمك، يا ابن أختي. فقال له أبو أمامة: بل أنت فأقم على أختك، فذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر أبا أمامة بالمقام على أمه وخرج بأبي بردة، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقد توفيت فصلى عليها (3). إن هذه الأخلاق الرفيعة ومراعاة شعور الجنود وأحوالهم العائلية تولد قوة ترابط بين القيادة والجنود، وتدخل تحت مفهوم فقه التمكين، وقد مارسه الرسول صلى الله عليه وسلم في أعلى صوره. ومن الصحابة الذين كانت لهم مهمات خاصة أو أصيبوا أثناء الطريق فردهم الرسول صلى الله عليه وسلم: 1 - أبو لبابة: استخلفه على المدينة. 2 - عاصم بن عدي: أرسله صلى الله عليه وسلم في مهمة لأهل العالية في المدينة. 3 - الحارث بن حاطب: أرسله صلى الله عليه وسلم في مهمة إلى بني عمرو بن عوف. 4 - الحارث بن الصمة: وقع أثناء الطريق فكسر فرُد. 5 - خوَّات بن جبير: أصابه في الطريق حجر في ساقه فرده من الصفراء (4).   (1) انظر: معين السيرة، ص214. (2) البخاري، كتاب الفضائل، باب مناقب عثمان (4/ 245) رقم (3699). (3) انظر: الطبراني في الكبير ورجاله ثقات، انظر: مجمع الزوائد (3/ 31). (4) انظر: معين السيرة، ص215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وكذلك أعطى لورثة الشهداء وذويهم نصيبهم من الغنائم؛ وبذلك كان للإسلام السبق في تكريم الشهداء ورعاية أبنائهم وأسرهم من قرابة أربعة عشر قرنًا (1). ثانيًا: الأسرى: قال ابن عباس - رضي الله عنه -: ( ... فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة: أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي يراه أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان (نسيبًا لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدهم، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهْوَ ما قلتُ, فلما كان من الغد جئت فإذا رسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يا رسول الله: أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، ولقد عُرِض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» -شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله عز وجل: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) إلى قوله: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا) [الأنفال: 67 - 69] فأحل الله لهم الغنيمة (2). وفي رواية: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم واستأْنِ بهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله أخرجوك وكذبوك, قرِّبهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديًا كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم اضرم عليهم نارًا، فقال العباس: قطعت رحمك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئًا، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر، كمثل إبراهيم عليه السلام قال: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118] , وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: (رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح: 26]. وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [يونس: 88]. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أنتم عالة، فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق».   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 176). (2) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم (3/ 1763). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 قال عبد الله بن مسعود: فقلت: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء فإنه يذكر الإسلام قال: فسكت، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء في ذلك اليوم، حتى قال: إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) إلى آخر الآية (1). وهذه الآية تضع قاعدة هامة في بناء الدولة حينما تكون في مرحلة التكوين والإعداد، وكيف ينبغي ألا تظهر بمظهر اللين، حتى تُرْهَب من قبل أعدائها، وفي سبيل هذه الكلية يطرح الاهتمام بالجزئيات حتى ولو كانت الحاجة ملحة إليها (2). وكان سعد بن معاذ - رضي الله عنه - لما شرع الصحابة في أسر المشركين كره ذلك ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجه سعد لما يصنع الناس, فقال له رسول الله: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم» قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان بالقتل أحب إلىَّ من استبقاء الرجل (3). كانت معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأسرى تحفها الرحمة، والعدل، والحزم، والأهداف الدعوية؛ ولذلك تعددت أساليبه، وتنوعت طرق تعامله عليه الصلاة والسلام، فهناك من قتله، وبعضهم قبل فيهم الفداء، والبعض الآخر منَّ عليهم, وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المن عليهم. أ- حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لجوار المطعم بن عدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر: «لو كان مُطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له» (4). وهذا الحديث تعبير عن الوفاء والاعتراف بالجميل، فقد كان للمطعم مواقف تذكر بخير، فهو الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم في جواره حينما عاد من الطائف، كما كان من أشد القائمين على نقض الصحيفة يوم حُصِرَ المسلمون وبنو هاشم (5). وهذا يدل على قمة الوفاء لمواقف الرجال، ولو كانوا مشركين (6).   (1) مسند الإمام أحمد (1/ 373)، تفسير ابن كثير (2/ 325). (2) انظر: معين السير، ص209. (3) انظر: التربية الجهادية للغضبان (1/ 141). (4) أبو داود في الجهاد، باب المن على الأسير، رقم 2689 وإسناده صحيح. (5) انظر: معين السيرة، ص208. (6) انظر: التربية القيادية (3/ 54). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ب- مقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث: وإذا كان هذا الوفاء لرجل مثل المطعم بن عدي، فلا بد من الحزم مع مجرمي الحرب ورؤوس الفتنة من أمثال عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، فقد كان من أكبر دعاة الحرب ضد الإسلام، والمتربصين بالمسلمين الدوائر، فبقاؤهما يعد مصدر خطر كبير على الإسلام، ولا سيما في تلك الظروف الحاسمة التي تمر بها الدعوة الإسلامية، فلو أطلق سراحهما لما تورعا على سلوك أي طريق فيه كيد للإسلام وأهله، فقتْلهما في هذا الظرف ضرورة تقتضيها المصلحة العامة لدعوة الإسلام الفتية (1)؛ ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما عندما وصل إلى الصفراء (2) , أثناء رجوعه للمدينة، فلما سمع عقبة بن معيط بأمر قتله قال: يا ويلي، علام أُقتل يا معشر قريش من بين من هاهنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعداوتك لله ولرسوله» قال: يا محمد مَنُّك أفضل، فاجعلني كرجل من قومي، إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت عليهم مننت علي، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم، يا محمد مَنْ للصبية؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النار، قدمه يا عاصم فاضرب عنقه» (3) فقدمه عاصم فضرب عنقه (4). وأما النضر بن الحارث، فقد كان من شياطين قريش، وممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وإسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا فذكَّر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام, ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟ (5). إن هذا الرجل المتعالي على الله والمتألي عليه، والذي يزعم أنه سينزل أحسن ما أنزل الله، والذي يزعم أنه أحسن حديثًا من محمد لا بد لمثل من يمثل هذا التيار وقد أصبح بين يدي رسول رب العالمين، لا بد أن يُثأر لله ولرسوله منه، ومن أجل هذا لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن نطاق الاستشارة (6)، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقتله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (7).   (1) انظر: غزوة بدر الكبرى، محمد أحمد باشميل، ص162. (2) الصفراء: واد كثير النخل والزرع والخير. (3) انظر: مجمع الزوائد (6/ 89) قال فيه: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. (4) انظر: التربية القيادية (3/ 60). (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/ 439، 440). (6) انظر: التربية القيادية (3/ 57). (7) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 255). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وبمقتل هذين المجرمين تعلم المسلمون أن بعض الطغاة العتاة المعادين لا مجال للتساهل معهم، فهم زعماء الشر وقادة الضلال، فلا هوادة معهم؛ لأنهم تجاوزوا حد العفو والصفح (1) بأعمالهم الشنيعة، فقد كان هذان الرجلان من شر عباد الله وأكثرهم كفرًا وعنادًا وبغيًا وحسدًا وهجاء للإسلام وأهله (2). جـ- الوصية بإكرام الأسرى جانب من المنهج النبوي الكريم: ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فرَّق الأسرى بين أصحابه، وقال لهم: «استوصوا بهم خيرًا» (3) وبهذه التوصية النبوية الكريمة ظهر تحقيق قول الله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [الإنسان: 8]. فهذا أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير يحدثنا عما رأى قال: كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالأسارى خيرًا»، وكنت في نفر من الأنصار, فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر، وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم (4). وهذا أبو العاص بن الربيع يحدثنا قال: كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيرًا، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر, والخبز معهم قليل، والتمر زادهم, حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد، وكانوا يحملوننا ويمشون (5). كان هذا الخلق الرحيم الذي وضع أساسه القرآن الكريم في ثنائه على المؤمنين، وذكر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فاتخذوه خلقًا، وكان لهم طبيعة, قد أثر في إسراع مجموعة من أشراف الأسرى وأفاضلهم إلى الإسلام، فأسلم أبو عزيز عقيب بدر, بُعيد وصول الأسرى إلى المدينة, وتنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأسلم معه السائب بن عبيد (6) بعد أن فدى نفسه، فقد سرت دعوة الإسلام إلى قلوبهم، وطهرت نفوسهم، وعاد الأسرى إلى بلادهم وأهليهم يتحدثون عن محمد صلى الله عليه وسلم ومكارم أخلاقه، وعن محبته وسماحته، وعن دعوته وما فيها من البر والتقوى والإصلاح والخير (7). إن هذه المعاملة الكريمة للأسرى شاهد على سمو الإسلام في المجال الأخلاقي، حيث نال أعداء الإسلام في معاملة الصحابة أعلى درجات مكارم الأخلاق، التي   (1) انظر: التربية القيادية (3/ 60). (2) انظر: البداية والنهاية (3/ 306). (3) نفس المصدر (3/ 307) (4) مجمع الزوائد (6/ 86) وقال: رواه الطبراني في الصغير والكبير وإسناده حسن. (5) انظر: المغازي للواقدي (1/ 119). (6) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (3/ 474). (7) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/ 473). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 تتمثل في خلق الإيثار (1). د- فداء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يا رسول الله قد كنت مسلمًا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك قد كان علينا, فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر» قال: ما ذاك عندي يا رسول الله, قال: «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم» قال: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا الشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل, فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك» ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه, فأنزل الله عز وجل فيه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَنْ فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُّؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - وَإِن يُّرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 70، 71]. قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبدًا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل (2). هذا والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآية الكريمة، وإن كانت نزلت في العباس، إلا أنها عامة في جميع الأسرى (3). استأذن بعض الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه، قال: «والله لا تذرون منه درهمًا» (4) أي لا تتركوا للعباس من الفداء شيئًا، ويظهر أدب الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهم لرسول الله: ابن أختنا (5) , لتكون المنة عليهم في إطلاقه بخلاف لو قالوا: (عمك) لكانت المنة عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا من قوة الذكاء وحسن الأدب في الخطاب، وإنما   (1) انظر: التاريخ الإسلامي (4/ 175، 176). (2) انظر: أخرج الإمام أحمد قريباً من هذه الألفاظ برقم (3310) - جـ/353. وقال محققو ط/الرسالة: حسن، ... وأوردوا رواية أخرجها الحاكم (3/ 324)، وعنه البيهقي في السنن (6/ 322) وهي أقرب الألفاظ لهذه الرواية، وقالوا: وهذا إسناد حسن. (3) انظر: حديث القرآن الكريم، عن غزوات الرسول (1/ 132). (4) فتح الباري (7/ 321) نقلا عن المستفاد من قصص القرآن (2/ 135). (5) لأن جدة العباس أم عبد المطلب من بني النجار من يثرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن إجابتهم لئلا يكون في الدين نوع محاباة (1). وهنا يتعلم الأسرى والمسلمون أيضا درسًا بليغًا في عدم محاباة ذوي القربى، بل كان الأمر على خلاف ذلك، فقد أغلا رسول الله الفداء على عمه العباس (2). ورجع العباس لمكة، وقد دفع فداءه وابْنَيْ أخويه، وأخفى إسلامه، وأصبح يقود جهاز استخبارات الدولة الإسلامية بمكة بمهارة فائقة، وقدرة نادرة حتى انتهى دوره في فتح مكة، فأعلن إسلامه قبلها بساعات (3). هـ- أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم: قالت عائشة رضي الله عنها: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رقة شديدة، وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا»، فقالوا: (نعم يا رسول الله, فأطلقوه وردوا عليها الذي لها) (4). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليه، أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار فقال: «كونا ببطن يأجج (5) حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها» (6). إن أبا العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُعرف عنه قط موقف في مقاومة الدعوة بأي لون من ألوانها، وقد كفَّ يده ولسانه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشغله ماله وتجارته وحياؤه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقف الشراسة القرشية في مقاومة الدعوة إلى الله، وفي بدر كان أبو العاص صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الأسرى الذين لم يسمع لهم في المعركة صوت، ولم يعرف لهم رأي، ولا شوهدت لهم في قتال جولة، وبعد أن بدأت قريش تفدي أسراها، أرسلت السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجة أبي العاص بمال تفديه به، ومع المال قلادة   (1) انظر: سبل الرشاد للصالحي (4/ 135). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 176). (3) انظر: التربية القيادية (3/ 68). (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص261. (5) اسم مكان على ثمانية أميال من مكة. (6) أبو داود في الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال رقم 2692. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 كانت أمها السيدة خديجة رضي الله عنها أهدتها إليها فأدخلتها بها على زوجها للتحلي بها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة ابنته رقَّ لها رقة شديدة، إذ كانت هذه القلادة الكريمة مبعث ذكريات أبوية عنده صلى الله عليه وسلم، وذكريات زوجية، وذكريات أسرية، وذكريات عاطفية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أب، له من عواطف الأبوة أرفع منازلها في سجل المكارم الإنسانية وأشرفها في فضائل الحياة, فتواثبت إلى خبايا نفسه الكريمة المكرمة أسمى مشاعر الرحمة، وتزاحمت على فؤاده الأطهر عواطف الحنان والحنين، فتوجه إلى أصحابه - رضي الله عنه - متلطفًا يطلب إليهم في رجاء الأعز الأكرم, رجاء يدفعهم إلى العطاء ولا يسلهم حقهم في الفداء لو أنهم أرادوا الاحتفاظ بهذا الحق وهو في أيديهم يملكون التصرف فيه، فقال لهم: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا». وهذا أسلوب من أبلغ وألطف ما يسري في حنايا النفوس الكريمة، فيطوعها إلى الاستجابة الراغبة الراضية رضاء ينم عن الغبطة والبهجة (1). إن هذا الموقف وما يظهر منه من مظاهر الرحمة والعطف منه صلى الله عليه وسلم على ابنته، يحمل في طياته مقصدًا آخر وهو أنه كان يتألف صهره للإسلام بذلك، لما عرف عنه من العقل السديد، والرأي الرشيد، فقد كان صلى الله عليه وسلم يثني عليه وهو على شركه بحسن المعاملة (2). وأبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي بين الرحمة والحزم النبوي: كان محتاجًا ذا بنات قال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة، وذو عيال فامنن عليَّ، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه ألا يظاهر عليه أحدًا فقال أبو عزة يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك: مَنْ مبلغ عني الرسول محمدًا ... بأنك حق والمليك حميدُ وأنت امرؤ بُوِّئت فينا مباءة (3) ... لها درجات سهلة وصعودُ فإنك من حاربته لمحاربٌ ... شقيٌّ ومن سالمته لسعيدُ ولكن إذا ذكرت بدرًا وأهله ... تأوَّّبُ ما بي، حسرة وقعود قال ابن كثير: ثم إن أبا عزة هذا نقض ما كان عاهد الرسول عليه، ولعب المشركون بعقله فرجع إليهم، فلما كان يوم أحد أُسر أيضا، فسأل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمن عليه أيضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أدعك تمسح عارضيك، وتقول: خدعت محمدا مرتين»، ثم أمر به فضربت عنقه (4).   (1) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/ 480 - 487). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 183). (3) مباءة: مكانة رفيعة. (4) انظر: البداية والنهاية (3/ 313). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 فكان النبي صلى الله عليه وسلم به رحيمًا وعفا عنه، وأطلق سراحه بدون فداء لما ذكر أبو عزة فقره وما لديه من بنات يعولهن، ولكنه لم يف لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما عاهده من لزوم السلم وعدم إثارة الحرب ضده، فوقع أسيرًا في معركة أحد، فكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم منه الحزم فأمر بضرب عنقه. ز- سهيل بن عمرو ووقوعه في الأسر وماذا قالت سودة رضي الله عنها: قال عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة - رضي الله عنه -: (قُدم بالأسارى حين قدم بهم المدينة، وسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، قالت سودة: فوالله إني لعندهم إذ أتينا فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتى بهم، فرجعت إلى بيتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل، فوالله ما ملكت حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كرامًا .. فما انتبهت إلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت: «يا سودة أعلى الله ورسوله تحرضين؟» فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بالحبل أن قلت ما قلت) (1). وفد مكرز بن حفص بن الأخيَفْ في فداء سهيل بن عمرو، فلما فاوض المسلمين وانتهى إلى رضائهم قالوا: هات الذي لنا, قال لهم مكرز بن حفص: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه, فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزًا عندهم، وجاء في حديث مرسل أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنية سهيل بن عمر، يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن آخر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيًّا» (2) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه عسى أن يقوم مقامًا لا تذمه» (3). قال ابن كثير: وهذا هو المقام الذي قامه سهيل بمكة حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدَّ العرب، ونجم النفاق بالمدينة وغيرها، فقام بمكة فخطب في الناس وثبتهم على الدين الحنيف (4) , فقد قال في ذلك: يا معشر قريش، لا تكونوا آخر الناس إسلامًا وأولهم ردة، من رابنا ضربنا عنقه (5).   (1) انظر: السيرة النبوية، لمحمد الصوياني (2/ 200) وسنده صحيح. (2) انظر: البداية والنهاية (3/ 311) وقال ابن كثير: مرسل بل معضل. (3) انظر: البداية والنهاية (3/ 311)، وقال ابن كثير مرسل بل معضل. (4) انظر: البداية والنهاية (3/ 311). (5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 181). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 فقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزع ثنية سهيل، ورأى أن ذلك من باب التمثيل وتشويه خلقة الإنسان، وقال لعمر: «لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبيًا» وهذا نموذج من منهج رسالته صلى الله عليه وسلم وضعه ليكون نبراسًا لأمته في انتصاراتها على أعدائها (1). ح- التعليم مقابل الفداء: قال ابن عباس: كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة (2)؛ وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلم عشرة من الغلمان يفدي نفسه (3). وقبول النبي صلى الله عليه وسلم تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت الذي كانوا فيه بأشد الحاجة إلى المال يرينا سمو الإسلام في نظرته إلى العلم والمعرفة، وإزالة الأمية، وليس هذا بعجيب من دين كان أول ما نزل من كتابه الكريم: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [العلق: 1 - 4]. واستفاضت فيه نصوص القرآن والسنة في الترغيب في العلم وبيان منزلة العلماء، وبهذا العمل الجليل يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أول من وضع حجر الأساس في إزالة الأمية وإشاعة القراءة والكتابة، وأن السبق في هذا للإسلام (4). ط- حكم الأسرى: إن حكم الأسرى في الإسلام مفوض إلى رأي الإمام ليختار حكمًا من أربعة, وعلى الإمام أن يراعي مصلحة المسلمين العامة, والأحكام الأربعة هي: 1 - القتل: وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث. 2 - المن: وهو إطلاق الأسير بدون مقابل، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي عزة الجمحي. 3 - الفداء: إطلاق سراح الأسير مقابل مبلغ من المال، وهذا ما حدث مع العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم, ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب وغيرهم. 4 - الاسترقاق: وقد حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في يهود بني قريظة أن يقتل المحاربون وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء (5). * * *   (1) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/ 474). (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص261. (3) انظر: التربية القيادية (3/ 74). (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 164، 165). (5) انظر: غزوة بدر الكبرى، ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 المبحث السادس نتائج غزوة بدر ومحاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم أولاً: نتائج غزوة بدر: 1 - كان من نتائج غزوة بدر أن قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا مرهوبين في المدينة وما جاورها، وأصبح على من يريد أن يغزو المدينة أو ينال من المسلمين أن يفكر ويفكر قبل أن يقدم على فعلته، وتعززت مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وارتفع نجم الإسلام فيها، ولم يعد المتشككون بالدعوة الجديدة والمشركون في المدينة يتجرؤون على إظهار كفرهم وعداوتهم للإسلام؛ لذا ظهر النفاق والمكر والخداع، فأعلن فريق منهم إسلامهم ظاهرًا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فدخلوا في عداد المسلمين، وأبقوا على الكفر باطنًا، فظلوا في عداد الكفار، فلا هم مسلمون مخلصون في إسلامهم، ولا هم كافرون ظاهرون بكفرهم وعداوتهم للمسلمين، قال تعالى: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إلى هَؤُلاَءِ وَلاَ إلى هَؤُلاَءِ وَمَن يُّضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [النساء: 143] , ومن أجل هذا الموقف المتذبذب شنع الله عليهم، وسمّع بهم في كثير من آياته، وتوعدهم بأشد أنواع العذاب، قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء: 145]. ومن نتائج موقعة بدر ازدياد ثقة المسلمين بالله سبحانه وتعالى وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم واشتداد ساعدهم وقوتهم، ودخول عدد كبير من مشركي قريش في الإسلام، وقد ساعد ذلك على رفع معنويات المسلمين المستضعفين الذين كانوا لا يزالون في مكة، فاغتبطت نفوسهم بنصر الله، واطمأنت قلوبهم إلى أن يوم الفرج قريب فازدادوا إيمانًا على إيمانهم وثباتًا على عقيدتهم. وإلى جانب ذلك، فقد كسب المسلمون مهارة عسكرية، وأساليب جديدة في الحرب، وشهرة واسعة في داخل الجزيرة العربية وخارجها، إذ أصبحوا قوة يحسب لها حسابها في بلاد العرب, فلا تهدد زعامة قريش وحدها، بل زعامة جميع القبائل العربية المنتشرة في مختلف الأصقاع والأماكن، كما أصبح للدولة الجديدة مصدر للدخل من غنائم الجهاد؛ وبذلك انتعش حال المسلمين المادي والاقتصادي بما أفاء الله عليهم من غنائم بعد بؤس وفقر شديدين داما تسعة عشر شهرًا (1). 2 - أما قريش فكانت خسارتها فادحة فإضافة إلى مقتل أبي جهل بن هشام وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وغيرهم من زعماء الكفر الذين كانوا من أشد القرشيين شجاعة   (1) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص274، 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وقوة وبأسًا، ولم تكن غزوة بدر خسارة حربية لقريش فحسب، بل خسارة معنوية أيضا، ذلك أن المدينة لم تعد تهدد تجارتها فقط، بل أصبحت تهدد أيضا سيادتها ونفوذها في الحجاز كله (1)، كان خبر الهزيمة على أهل مكة كالصاعقة، ولم يصدقوا ذلك في بداية الأمر، قال ابن إسحاق رحمه الله: (وكان أول من قدم بمكة بمصاب قريش الحَيْسُمان بن عبد الله الخزاعي, فقالوا له: ما وراءك؟. قال: قُتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبَّه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية: والله إن يعقل هذا فسلوه عني؟ فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالس في الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا) (2). وهذا أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص علينا أثر خبر هزيمة قريش على أبي لهب -لعنه الله- حيث قال: كنت غلامًا للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمتْ أم الفضل وأسلمتُ، وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة .. فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدْنا في أنفسنا قوةً وعزةً. قال: كنت رجلاً ضعيفًا، وكنت أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح وعندي أم الفضل (زوجة العباس بن عبد المطلب) جالسة وقد سرَّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشرٍّ حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب قد قدم, فقال: أبو لهب: هلم إليَّ فعندك لعمري الخبر، قال: جلس إليه والناس قيام عليه فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، وايم الله مع ذلك ما لُمت الناس, لقينا رجالاً بيضًا على خيل بلق بين السماء والأرض, والله ما تليق (3) شيئًا، ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت: تلك والله الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة،   (1) انظر التاريخ السياسي والعسكري، ص375، 376. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص257. (3) تُليق: أي تبقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 قال: وثاورته فاحتملني وضرب بي الأرض ثم برك عليَّ يضربني وكنت رجلاً ضعيفًا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فلعت (1) في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليًا ذليلاً، ثم مات بعد سبع ليالٍ بالعدسة (2) فقتلته (3). وأم الفضل بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب وأخت ميمونة أم المؤمنين وخالة خالد بن الوليد، وهي أول امرأة أسلمت بعد خديجة (4) رضي الله عنهن. لقد تركت غزوة بدر بنفوس أهل مكة المشركين كمدًا وأحزانًا وآلامًا بسبب هزيمتهم ومن فُقدوا وأسروا، فهذا أبو لهب لم يلبث أن أصيب بعلة ومات، وهذا أبو سفيان فقد ابنًا له وأُسر له ابنٌ آخر، وما من بيت من بيوت مكة إلا وفيه مناحة على قتل عزيز أو قريب، أو أسر أسير, فلا عجب أن كانوا صمموا في أنفسهم على الأخذ بالثأر، حتى إن بعضهم حرم على نفسه الاغتسال (5) حتى يأخذ بالثأر ممن أذلوهم، وقتلوا أشرافهم وصناديدهم، وانتظروا يترقبون الفرصة للقاء المسلمين والانتصاف منهم، فكان ذلك في أحد (6). 3 - أما اليهود فقد هالهم أن ينتصر المسلمون في بدر، وأن تقوى شوكتهم فيها، وأن يعز الإسلام ويظهر على دينهم ويكون لرسوله دونهم الحظوة والمكانة, فصمموا على نقض العهد الذي عاهدوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة، وأظهروا عداوتهم التي كانت كامنة في نفوسهم، وأخذوا يجاهرون بها القوم ويعلنون، ثم راحوا يكيدون للإسلام ولرسوله، ويعملون للقضاء عليه بكل الوسائل المتاحة لديهم (7) , وبدءوا يتحرشون بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخفى عليه شيء من ذلك فقد كان يراقبهم عن حذر ويقظة، حتى استخفُّوا بالمقررات الخلقية، والحرمات التي يعتز بها المسلمون واستعلنوا بالعداوة فلم يكن بد من حربهم وإجلائهم عن المدينة (8). ثانيًا: محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وإسلام عمير بن وهب (شيطان قريش): قال عروة بن الزبير: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحِجْر، بعد مصاب أهل   (1) فلعت: شقت (2) العدسة: قرحة قاتلة كالطاعون، وقد عدس الرجل: إذا أصابه ذلك. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 258). (4) انظر: المرأة في العهد النبوي، د. عصمة الدين كركر، ص162. (5) هو أبو سفيان بن حرب نذر ألا يمس رأسه من ماء جنابة حتى يغزو المسلمين. (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 171). (7) انظر: التاريخ السياسي العسكري، ص274. (8) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 171). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بدر بيسير, وكان عمير بن وهب شيطانًا من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويلقون منه عناء (1) وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: (والله ما في العيش بعدهم خير). قال له عمير: صدقت، أما والله لولا دَيْنٌ علي ليس عندي قضاؤه، وعيال أخشى عليهم الضيعة (2) بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة (3) , ابني أسير في أيديهم. قال: فاغتنمها صفوان بن أمية فقال: عليّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم (4) ما بقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم علي شأني وشأنك. قال: أفعل. قال: ثم أمر عمير بسيفه، فشحذ وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحًا سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشرٍّ وهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه. قال صلى الله عليه وسلم: «فأدخله عليَّ» قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة (5) سيفه في عنقه فلبَّبَه (6) بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أرسله يا عمر، ادنُ يا عميرُ». فدنا ثم قال: انعموا صباحًا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة» (7).   (1) عناء: التعب. (2) الضيعة: الضياع والتشتت. (3) العلة: السبب. (4) أواسيهم: أقوم على أمرهم ومؤونتهم. (5) حمالة السيف: ما يربط به السيف على الجسم. (6) لببه: قيده. (7) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فقال: أما والله، يا محمد إن كنت بها لحديث عهد. فقال: «فما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: «فما بال السيف في عنقك؟» قال: قبَّحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئًا؟!! قال: «اصدقني ما الذي جئْتَ به؟» قال: ما جئت إلا لذلك. قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دينٌ عليَّ وعيالٌ عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك». قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا». ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله، وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم, وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، قال: فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عن الركبان، حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفع أبدًا» (1). وفي هذه القصة دروس وعبر منها: 1 - حرص المشركين على التصفية الجسدية للدعاة، فهذا صفوان بن أمية وعمير بن وهب يتفقان على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرشدنا إلى أن أعداء الدعوة قد لا يكتفون برفض الدعوة، والتشويش عليها، وصد الناس عنها، بل يريدون اغتيال الدعاة، وتدبير المؤامرات لقتلهم، وقد يستأجرون المجرمين لتنفيذ هذا الغرض الخسيس (2). وقد يستغل الأغنياء المترفون من أعداء الدعوة حاجة الفقراء وفقرهم فيوجهونهم لقاء مبلغ من المال إلى خدمة مآربهم، وإن أدى ذلك إلى هلاكهم، فها هو صفوان قد استغل فقر عمير وقلة ذات يده ودَيْنه ليرسله إلى هلاكه (3). 2 - ظهور الحس الأمني الرفيع الذي تميز به الصحابة رضي الله عنهم، فقد انتبه عمر ابن الخطاب   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص260. (2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 159). (3) انظر: غزوة بدر الكبرى لأبي فارس، ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 لمجيء عمير بن وهب وحذَّر منه، وأعلن أنه شيطان ما جاء إلا لشرٍّ، فقد كان تاريخه معروفًا لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكة, وهو الذي حرض على قتال المسلمين في بدر، وعمل على جمع معلومات عن عددهم؛ ولذلك شرع عمر في أخذ الأسباب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن جهته فقد أمسك بحمالة سيف عمير الذي في عنقه بشدة فعطله عن إمكانية استخدام سيفه للاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر نفرًا من الصحابة بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم. 3 - الاعتزاز بتعاليم هذا الدين, فقد رفض صلى الله عليه وسلم أن يتعامل بتحية الجاهلية، ولم يرد على تحية عمير حين قال له: أنعموا صباحًا، وأخبره بأنه لا يحيي بتحية أهل الجاهلية؛ لأن الله تعالى أكرم المسلمين بتحية أهل الجنة. 4 - سمو أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقد أحسن إلى عمير، وتجاوز عنه وعفا عنه مع أنه جاء ليقتله (1) , بل أطلق ولده الأسير بعد أن أسلم عمير وقال لأصحابه: «فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره» (2). 5 - قوة إيمان عمير، فقد قرر أن يواجه مكة كلها بالإسلام، وقد أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل، وواجه، وتحدى، وعاد أدراجه إلى المدينة، وأسلم على يديه ناس كثير، وكان حين تعد الرجال يطرحه عمر - رضي الله عنه - ممن يزن عنده ألف رجل، وكان أحد الأربعة الذين أمد بهم أمير المؤمنين عمر، عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- الذين كان كلُّ واحد منهم بألف (3). * * * المبحث السابع بعض الدروس والعبر والفوائد من غزوة بدر أولاً: حقيقة النصر من الله تعالى: إن حقيقة النصر في بدر كانت من الله تعالى قال سبحانه فقد بين سبحانه وتعالى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى في قوله: (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 126] , وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 10]. في هاتين الآيتين تأكيد على أن النصر لا يكون إلا من عند الله عز وجل, والمعنى: ليس النصر   (1) انظر غزوة بدر الكبرى، ص83. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص260. (3) انظر: التربية القيادية، (3/ 73). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 إلا من عند الله دون غيره، و (العزيز) أى: ذو العزة التي لا ترام (1) , و (الحكيم) أى: الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى (2). ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه مع التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده, وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون، لكن يجب أن لا يغتروا بها، وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين، وأن النصر الذي كان في بدر، وقتلهم المشركين، ورمي النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته. وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه, قال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 17]. ولما بيَّن سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده، وضح بعض الحكم من ذلك النصر، قال تعالى: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ - لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) [آل عمران: 127، 128]. وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتذكروا دائما تلك النعمة العظيمة؛ نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر, قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال: 26]. ثانيًا: يوم الفرقان: سُمي يوم بدر يوم الفرقان, ولهذه التسمية أهمية عظيمة في حياة المسلمين، وقد تحدث الأستاذ سيد قطب عن وصف الله تعالى ليوم بدر بأنه يوم الفرقان في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنفال: 41]. فقال: كانت غزوة بدر، التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده, فرقانًا بين الحق والباطل، كما يقول المفسرون إجمالاً، وفرقانًا بمعنى أشمل وأدق وأوسع وأعمق كثيرًا.   (1) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 411). (2) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 302) نقلاً عن حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم (1/ 97 - 105). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 كانت فرقانًا بين الحق والباطل فعلاً .. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء .. الحق الذي يتمثل في تفرد الله سبحانه بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة، ولهذا السلطان المتوحد, ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك, والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك، ويغشي على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء, وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء، فهذا الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر، حيث فرق بين ذلك الحق الكبير، وهذا الباطل الطاغي، وزيَّل بينهما فلم يعودا يلتبسان. لقد كانت فرقانًا بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد، كانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير؛ فرقانًا بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور, وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية، وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص، والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات, وكانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر, كذلك فرقانًا بين العبودية الواقعية للأشخاص، والأهواء، وللقيم والأوضاع والشرائع والقوانين وللتقاليد والعادات, وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم دونه، ولا مشرع إلا إياه، فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس فلا تخضع إلا لحاكميته وشرعه، وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة. وكانت فرقانًا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد المصابرة والصبر والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، والإسلام بوصفه تصويرًا جديدا للحياة, ومنهجًا جديدًا للوجود الإنساني، ونظامًا جديدًا للمجتمع، وشكلاً جديدًا للدولة، بوصفه إعلانًا عامًّا لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته, ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته (1). إلى أن قال: وأخيرًا فلقد كانت بدر فرقانًا بين الحق والباطل بمدلول آخر، ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ - لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ). لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة، فأراد الله لهم غير ما أرادوا، أراد لهم أن تفلت منهم   (1) انظر: في ظلال القرآن (3/ 1521، 1522). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 قافلة أبي سفيان (غير ذات الشوكة)، وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشوكة) , وأن تكون معركة وقتالاً وقتلاً وأسرًا، ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة، وقد قال الله سبحانه: إنه صنع هذا (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ) وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة، إن الحق لا يحق وإن الباطل لا يبطل -في المجتمع الإنساني- بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حقٌّ وهذا باطلٌ، إن الحق لا يحق, وإن الباطل لا يبطل, ولا يذهب من دنيا الناس، إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا ويهزم جند الباطل ويندحروا، فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد نظرية للمعرفة والجدل، أي لمجرد الاعتقاد السلبي. ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة، وكان هذا النصر العملي فرقانًا واقعيًا بين الحق والباطل بهذا الاعتبار الذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته سبحانه من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق، ومن وراء إفلات القافلة (غير ذات الشوكة) ولقاء الفئة ذات الشوكة. ولقد كان هذا كله فرقانًا بين منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم .. وإنه لفرقان ندرك به اليوم ضرورته، حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين، حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين، وهكذا كان يوم بدر: (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) [الأنفال: 41]. بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة، والله على كل شيء قدير، وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء، مثل لا يجادل فيه مجادل، ولا يماري فيه ممارٍ .. مثل من الواقع المشهود، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله. وأن الله على كل شيء قدير (1). ثالثًا: الولاء والبراء من فقه الإيمان: رسمت غزوة بدر لأجيال الأمة صورًا مشرقة في الولاء والبراء, وجعلت خطًا فاصلاً بين الحق والباطل، فكانت الفرقان النفسي والمادي والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني, فعاشها الصحابة واقعًا ماديًّا وحقيقة نفسية، وفيها تهاوت القيم الجاهلية، فالتقى الابن بأبيه والأخ بأخيه: 1 - كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة في صف المسلمين، وكان أبوه عتبة وأخوه الوليد وعمه   (1) انظر: في ظلال القرآن (3/ 1523، 1524). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 شيبة في صف المشركين، وقد قتلوا جميعًا في المبارزة الأولى. 2 - كان أبو بكر الصديق في صف المسلمين .. وكان ابنه عبد الرحمن في صف المشركين. 3 - كان مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين، وكان أخوه أبو عزيز بن عمير في صف المشركين، ثم وقع أسيرًا في يد أحد الأنصار، فقال مصعب للأنصاري: شد يدك به فإن أمه ذات متاع، فقال أبو عزيز: يا أخي هذه وصيتك بي؟ فقال مصعب: إنه أخي دونك، تلك كانت حقائق وليس مجرد كلمات: إنه أخي دونك (1) , إنها القيم المطروحة لتقوم الإنسانية على أساسها, فإذا العقيدة هي آصرة النسب والقرابة وهي الرباط الاجتماعي (2). 4 - كان شعار المسلمين في بدر (أَحَدٌ، أَحَدٌ) وهذا يعني أن القتال في سبيل عقيدة تتمثل بالعبودية للإله الواحد، فلا العصبية ولا القبلية, ولا الأحقاد والضغائن, ولا الثأر هو الباعث والمحرك، ولكنه الإيمان بالله وحده. ومن هذا المنطلق كانت صور الإيمان مختلفة المظاهر واحدة في مضمونها (3) , وللإيمان فقه عظيم, ومن هذا الفقه حينما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليها كل من استطاع ذلك من المسلمين في مكة، وحبس من كان مضطهدًا ولم يستطع ذلك, فلما كان يوم بدر كان بعض هؤلاء في صف المشركين منهم: عبد الله بن سهيل بن عمرو، والحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه. فأما عبد الله بن سهيل بن عمرو فقد انحاز من صف المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد المعركة، وكان أحد الصحابة الذين نالوا هذا الشرف العظيم (4). وأما الآخرون فلم يفعلوا ذلك، وشهدوا المعركة في صف المشركين وقد أصيبوا جميعًا (5) فقتلوا تحت راية الكفر، فنزل في حقهم قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 97]. قال ابن عباس: كان قوم من المسلمين أقاموا بمكة، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم   (1) انظر: البداية والنهاية (3/ 307). (2) انظر: معين السيرة، ص213. (3) المصدر نفسه، ص213. (4) انظر: معين السيرة، ص217. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 253). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 المشركون يوم بدر معهم, فأصيب بعضهم, فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا على الخروج، فنزلت: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ) إنهم لم يعذروا إذ كانت إمكانات الانتقال إلى صف المؤمنين متوافرة، ولم يكن الفاصل كبيرًا بين الصفين، ولن يعدموا لو أرادوا الفرصة في الانتقال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل عبد الله بن سهيل (1). إن للإيمان مستلزمات تعبر عن صدقه وقوته، ومن مستلزماته استعلاؤه على كل القيم مما سواه, فإذا كان كذلك كان لأصحابه الأثر الفعال، والقوة الفاعلة في بناء الحق والخير الذي أراده الله، إن الإيمان يصبغ السلوك، فإذا به يشع من خلال الحركة والجهد، ومن خلال الكلمة والابتسامة، ومن خلال السمت والانفعال؛ ولذا لم يعذر الذين كانوا في صف المشركين؛ لأن الإيمان الذي ادعوه لم توجد له مستلزمات فلم يؤت ثماره (2). ولهذا الفهم العميق لفقه الإيمان ضرب الصحابة الكرام في بدر مُثلاً عليا لصدق الإيمان، التي تدل على أنهم آثروا رضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على حب الوالد والولد والأهل والعشيرة، فلا يعجب المسلم من ثناء الله تعالى على هذه المواقف الصادقة في قوله تعالى: (لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22]. رابعًا: المعجزات التي ظهرت في بدر وما حولها: من المعجزات التي ظهرت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر إخباره عن بعض المغيَّبات، ومن المعلوم أن علم الغيب مختص بالله تعالى وحده، وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه الكريمة في غير آية من كتابه العزيز، قال تعالى: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل: 65]. وقال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام: 59]. ومن المعلوم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يعلمون الغيب ولا اطلاع لهم على شيء منه، فقد قال تعالى: (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) [الأنعام: 50]،   (1) انظر: معين السيرة، ص217. (2) انظر: معين السيرة، ص218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وكما جاءت الأدلة تدل على أن الله تبارك وتعالى قد اختص بمعرفة علم الغيب، وأنه استأثر به دون خلقه، جاءت أدلة تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل فأودعهم، ما شاء الله من غيبه بطريق الوحي إليهم, وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، قال تعالى: (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم) [آل عمران: 179]. وقال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) [الجن: 26، 27]. فنخلص من ذلك أن ما وقع على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار بالمغيبات فبوحي من الله تعالى, وهو إعلام الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم للدلالة على ثبوت نبوته وصحة رسالته, وقد اشتهر وانتشر أمره صلى الله عليه وسلم باطلاع الله له على المغيبات (1). وكان لأحداث غزوة بدر نصيب من تلك المعجزات الغيبية منها: 1 - مقتل أمية بن خلف: فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرًا، قال: فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد، فقال أمية لسعد: ألا تنظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت؟ فبينما سعد يطوف إذا أبو جهل، فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة، فقال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدًا وأصحابه؟ فقال: نعم, فتلاحيا (2) بينهما, فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي. ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام، قال: فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك، وجعل يمسكه فغضب سعد فقال: دعنا عنك. فإني سمعت محمدًا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال: نعم. قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أنه سمع محمدًا يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد، قال: فلما خرجوا إلى بدر جاء الصريخ, قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فأراد ألا يخرج، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يومًا أو يومين، فسار معهم يومين فقتله الله (3).   (1) انظر: موسوعة نضرة النعيم (1/ 453). (2) تلاحيا: تلاوما وتنازعا، انظر: النهاية (4/ 243). (3) البخاري ز انظر: الفتح (6/ 3632). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 2 - مصارع الطغاة: فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر (1) فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل يقول لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: «هذا مصرع فلان غدًا، إن شاء الله» قال: فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). 3 - إخبار العباس بن عبد المطلب بالمال الذي دفنه, وإعلام عمير بن وهب بالحديث الذي حدث بينه وبين صفوان: ومن ذلك لما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمه دفع الفداء، وأجابه العباس: ما ذاك عندي يا رسول الله، فقال له: «أين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلتَ لها: إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم»، قال: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا الأمر ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل. وما حدَّث به عمير بن وهب لما جاء متظاهرًا بفداء ابنه، وهو يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق مع صفوان بن أمية، فقد أنبأه نبأ المؤامرة، فكانت سببًا في إسلامه وصدق إيمانه (3). وذكر ابن القيم في زاد المعاد: أن سيف عُكَّاشة بن محصن انقطع يومئذ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم جذلا من حطب، فقال: «دونك هذا» فلما أخذه عكاشة وهزه، عاد في يده سيفًا طويلاً شديدًا أبيض، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة أيام أبي بكر (4). وقال رفاعة بن رافع: رميت بسهم يوم بدر، ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي، فما آذاني منها شيء (5). قال الدكتور أبو شهبة: وما ينبغي لأحد أن يزعم أن المعجزات الحسية لا ضرورة إليها بعد القرآن، فها هي قد بدت آثارها واضحة جلية في إسلام البعض، وتقوية يقين البعض الآخر، وإثبات أنه نبي يوحى إليه، فقد أخبر بمغيبات انتفى في العلم بها كل احتمال إلا أنه خبر السماء، وغير خفي ما يحدثه من انقلاب عود أو عرجون في يد صاحبه سيفا بَتَّارًا في إيمانه وتقوية يقينه، وجهاده به جهادًا لا يعرف التردد أو الخور، وحرصه البالغ على أن يخوض   (1) حديد البصر: أي نافذ. (2) مسلم رقم (2873). (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 178). (4) انظر: زاد المعاد (3/ 186) وذكر المحقق أن ابن إسحاق ذكرها من غير سند. (5) انظر: زاد المعاد (3/ 186) والأثر فيه خلاف بين التصحيح والتضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 المعارك بسيف خرقت به العادة وصار مثلاً وذكرى في الأولين والآخرين (1). خامسًا: حكم الاستعانة بالمشرك: في غزوة بدر -في الأحداث التي سبقتها- أراد مشرك أن يلحق بجيش المسلمين, وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الموافقة على قبوله معهم، والاشتراك فيما هم ذاهبون إليه فقال صلى الله عليه وسلم: «ارجع فلن أستعين بمشرك» (2) فالحديث يبين أن القاعدة والأصل عدم الاستعانة بغير المسلم في الأمور العامة، ولهذه القاعدة استثناء، وهو جواز الاستعانة بغير المسلم بشروط معينة وهي: تحقق المصلحة، أو رجحانها بهذه الاستعانة، وألا يكون ذلك على حساب الدعوة ومعانيها، وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به، وأن يكون تابعًا للقيادة الإسلامية، لا متبوعًا، ومقودًا فيها لا قائدًا لها، وألا تكون هذه الاستعانة. مثار شبهة لأفراد المسلمين، وأن تكون هناك حاجة حقيقية لهذه الاستعانة وبمن يستعان به، فإذا تحققت هذه الشروط جازت الاستعانة على وجه الاستثناء، وإذا لم تتحقق لم تجز الاستعانة. وفي ضوء هذا الأصل رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراك المشرك مع المسلمين في مسيرهم إلى عير قريش إذ لا حاجة به أصلاً, وفي ضوء الاستثناء وتحقق شروطه استعان النبي صلى الله عليه وسلم بالمشرك عبد الله بن أريقط الذي استأجره النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في هجرتهما إلى المدينة؛ ليدلهما على الطريق إليها .. وهكذا على هذا الاستثناء وتحقق شروطه قبل صلى الله عليه وسلم حماية عمه أبي طالب له، كما قبل جوار أو إجارة المطعم بن عدي له عند رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف، وكذلك قبول الصحابة الكرام جوار من أجارهم من المشركين ليدفع هؤلاء الأذى عمن أجاروهم (3). وضبط هذه القاعدة مع فهم شروط الاستثناء في واقع الحياة يحتاج إلى فقه دقيق وإيمان عميق. سادسًا: حذيفة بن اليمان، وأسيد بن الحضير رضي الله عنهما: 1 - حذيفة بن اليمان ووالده: قال حذيفة: ما منعنا أن نشهد بدرًا إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده إنما نريد المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيرن إلى المدينة ولا تقاتلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم، لما جاوزناهم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ما قالوا وما قلنا لهم فيما ترى؟ قال: نستعين الله عليهم ونفي بعهدهم، فانطلقنا إلى المدينة، فذاك الذي منعنا أن نشهد بدرًا (4). هذه صورة مشرقة في حرص النبي صلى الله عليه وسلم لحفظ العهود، وتربية أصحابه على تطبيق مكارم   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 178). (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (2/ 355). (3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 144، 145). (4) انظر: المستدرك للحاكم (3/ 201، 202) هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 الأخلاق الرفيعة، وإن كان في ذلك إجحاف بالمسلمين ومفوت لهم جهد بعض أفراد المجاهدين. 2 - أسيد بن الحضير: عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قادمًا من بدر لقي بالروحاء رؤوس الناس يهنئونه بما فتح الله عليه، فقال أسيد بن الحضير: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت» (1). سابعا: الحرب الإعلامية في بدر: قال حسان - رضي الله عنه -: فما نخشى بحول الله قومًا ... وإن كثُروا وأجمعت الزحوف إذا ما ألَّبُوا جمعًا علينا ... كفانا حدَّهم ربٌّ رؤوف سمونا يوم بدر بالعوالي ... سِراعًا ما تضعفنا الحتوف (2) فلم تر عصبة في الناس أنكى ... لمن عادوا إذا لقحت كشوف ولكنا توكلنا وقلنا ... مآثرنا ومعقلنا السيوف لقيناهم بها لما سمونا ... ونحن عصبة وهم ألوف (3) وقال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: لما حامت فوارسكم ببدر ... ولا صبروا به عند اللقاء وردناه بنور الله يجلو ... دُجى الظلماء عنا والغطاء رسول الله يقدمنا بأمر ... من أمر الله أُحكم بالقضاء فما ظفرت فوارسكم ببدر ... وما رجعوا إليكم بالسواء فلا تعجل أبا سفيان وارقب ... جياد الخيل تطلع من كداء بنصر الله روحُ القدس فيها ... وميكالٌ، فيا طيب الملاء (4) (5) كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث شعراء المسلمين على القيام بواجبهم في الدفاع عن المسلمين وإخافة الأعداء بشعرهم، فقد كان الشعر يمثل الحملات الإعلامية المؤثرة في دنيا العرب, فيرفع أقوامًا   (1) انظر: البداية والنهاية (3/ 305). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 26) الحتوف: جمع حتف وهو الموت. (3) هذا محمول على المبالغة لأن جيش قريش ما كان يزيد على الألف. (4) أي ما أطيب الملأ الذين يقودهم جبريل وميكائيل عليهما السلام. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 30). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 ويخفض آخرين, ويشعل الحروب ويطفئها (1). كانت بوادر الحرب الإعلامية قد اندلعت منذ الهجرة، غير أن ظهورها أكثر بدأ مع حركة السرايا قبيل بدر، لكنها انفجرت انفجارًا ضخمًا بعد بدر؛ لأن الجانب الإعلامي للقبائل المجاورة كان هدفًا مهمًّا من أهداف الفريقين، ويظهر أن القصائد سرعان ما تطير بها الركبان بين يثرب ومكة، فيأتي الرد من الطرف الآخر، فعند النصر تكثر أشعار الفريق المنتصر، بينما تكثر المراثي عند الفريق الثاني، وكان الصف الإسلامي يضم شعراء متخصصين، كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وكان أشدهم على الكفار حسان (2). * * * المبحث الثامن أهم الأحداث التي وقعت بين غزوتي بدر وأحد في أعقاب غزوة بدر أخذت الهيبة العسكرية للمسلمين مداها الكبير في دائرة واسعة في الجزيرة العربية، وأحس ضعفاء المشركين بالخطر وشعر أقوياؤهم بغلبة الإسلام، وبدأت النفوس تتطلع إلى الإيمان؛ فتوسعت دائرة الدخول في الإسلام، ورأى الكثيرون أن يدخلوا في الإسلام نفاقًا أو خديعة، وبهذا كله أصبحت الدولة الجديدة أمام أوضاع جديدة من المكر والتآلب والتحالفات، ولكن تأييد الله تعالى ثم جهاز أمن الدولة المتيقظ أفشل مخططات أعداء الإسلام (3). أولاً: الغزوات التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر وقبل أحد: 1 - ماء الكدر في بني سليم: غزا النبي صلى الله عليه وسلم بعد سبع ليالٍ من عودته إلى المدينة من غزوة بدر، وبلغ ماء الكدر في ديار بني سليم الذين قصدهم بغزوته هذه، غير أنه لم يلق حربًا فأقام ثلاث ليالٍ على الماء ثم رجع إلى المدينة (4). كان سبب تلك الغزوة تجمع أفراد بني سليم لمقاتلة المسلمين والاعتداء عليهم بعد معركة بدر مباشرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجأهم بهجوم سريع غير متوقع، فهرب بنو سليم وتفرقوا على رؤوس الجبال، وبقيت إبلهم مع راعٍ لها يدعى يسارًا، فاستاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الإبل مع راعيها، وعند موضع صرار، على ثلاثة أميال من المدينة، قسم النبي صلى الله عليه وسلم الإبل التي كان عددها خمسمائة بعير على أصحابه، فأصاب الواحد منهم بعيرين، ونال النبي صلى الله عليه وسلم خمسها،   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (4/ 199). (2) انظر: المنهج الحركي للسيرة النبوية، ص354، 355. (3) انظر: الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية (1/ 512). (4) انظر: موسوعة نضرة النعيم (1/ 296). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 وكان يسار من نصيبه، ولكنه أعتقه بعد ذلك (1). 2 - غزوة السويق: قدم أبو سفيان بمائتي فرس من مكة، وسلك طريق النجدية حتى نزلوا حي بني النضير ليلا، واستقبلهم سلام بن مشكم سيد بني النضير، فأطعمهم وأسقاهم وكشف لهم عن أسرار المسلمين، وتدارس معهم إحدى الطرق لإيقاع الأذى بالمسلمين، ثم قام أبو سفيان بمهاجمة ناحية العُريض -وادٍ بالمدينة في طرف حرة واقم- فقتل رجلين وأحرق نخلاً وفر عائدًا إلى مكة، فتعقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار، ولكنه لم يتمكن من إدراكهم؛ لأن أبا سفيان ورجاله قد جدوا في الهرب، وجعلوا يتخففون من أثقالهم ويلقون السويق (2) التي كان يحملونها لغذائهم، وكان المسلمون يمرون بهذه الجرب فيأخذونها، حتى رجعوا بسويق كثير، لذا سميت هذه الغزوة بغزوة السويق، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن غاب عنها خمسة أيام دون أن يلقى حربا (3). 3 - غزوة ذي أمر: جاءت الأخبار من قِبَل رجال الاستخبارات الإسلامية تفيد بأن رجال قبيلتي ثعلبة ومحارب تجمعوا بذي أمر بقيادة دُعثور بن الحارث المحاربي، يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإغارة على المدينة، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عثمان بن عفان وخرج في أربعمائة وخمسين من المسلمين بين راكب وراجل، فأصابوا رجلا بذي القصة يقال له جبار من بني ثعلبة، كان يحمل أخبارًا عن قومه أسرَّ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دخل في الإسلام وانضم إلى بلال ليتفقه في الدين (4)، أما المشركون من بني ثعلبة ومحارب ما لبثوا أن فروا إلى رؤوس الجبال عند سماعهم بمسير المسلمين، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في نجد مدة تقارب الشهر دون أن يلقى كيدًا من أحد وعاد بعدها إلى المدينة (5). وفي هذه الغزوة أسلم دعثور بن الحارث الذي كان سيدًا مطاعًا بعد أن حدثت له معجزة على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أصاب المسلمين في هذه الغزوة مطرٌ كثيرٌ فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل تحت شجرة ونشر ثيابه لتجف، واستطاع دُعثور أن ينفرد برسول الله بسيفه، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ قال: «الله»، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من يمنعك مني» قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعًا أبدًا،   (1) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص277. (2) السويق: هو أن تحمص الحنطة والشعير ثم يطحن باللبن والعسل والسمن. (3) انظر: السيرة لابن هشام (3/ 51) التاريخ السياسي والعسكري، ص278، 279. (4) انظر: البداية والنهاية (4/ 3) التاريخ الإسلامي والعسكري، ص279. (5) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك، ما لك؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع صدري فوقعت لظهري, فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعًا، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام (1)، ونزل في ذلك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المائدة:11]. 4 - غزوة بحران بحران (2): كانت هذه الغزوة في شهر جمادى الأولى من السنة الثالثة للهجرة، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة من المسلمين حتى بلغ بحران بين مكة والمدينة يريد قتال بني سليم, فوجدهم قد تفرقوا، فانصرف عنهم، وعاد إلى المدينة بعد أن أمضى خارجها عشر ليالٍ (3). ونلحظ في هذه الغزوات قدرة القيادة الإسلامية على رصد تحركات العدو، ومعرفة قوته، وخططه، ومدده لكي تحطم هذه التجمعات المناوئة للدولة الإسلامية الفتية قبل أن يستفحل أمر هذه القبائل، وتصبح خطرًا على المدينة. وهذه الغزوات في هذه الصحراء المترامية الأطراف كانت دورات تدريبية تربوية للصحابة الكرام، وسعدت سرايا الصحابة بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقد كانت تلك الدورات العملية التدريبية القتالية التربوية مستمرة، وتمتد من خمسة أيام إلى شهر، تتم فيها الحياة الجماعية، ويتربى جنود الإسلام على السمع والطاعة، والتدريب المتقن, ويكتسبون خبرات جديدة تساعدهم على تحطيم الباطل وتقوية الحق. لقد كان المنهاج النبوي الكريم يهتم بتربية الصحابة في ميادين النزال، ولا يغفل عن المسجد ودوره في صقل النفوس، وتنوير العقول، وتهذيب الأخلاق من خلال وجود المربي العظيم صلى الله عليه وسلم الذي أصبحت تعاليمه تشع في أوساط المجتمع من خلال القدوة والعبادة الخاشعة لله عز وجل، فالمنهاج النبوي الكريم جمع بين الدورات المسجدية، التربوية، والدورات العسكرية التربوية المكثفة لكي يقوي المجتمع الجديد، وترص صفوفه، ويكسب الخبرات لكي تقوم بنشر الإسلام في الآفاق (4). 5 - سرية زيد بن حارثة إلى القُردة: أصبح مشركو مكة بعد هزيمتهم في بدر يبحثون عن طريق أخرى لتجارتهم للشام، فأشار   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 3). (2) بحران: كتبها بعضهم بفتح الباء (بَحْران) وبعضهم بضمها. (3) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص61، التاريخ السياسي والعسكري، ص280. (4) انظر: التربية القيادية (3/ 118، 119). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 بعضهم إلى طريق نجد العراق، وقد سلكوها بالفعل، وخرج منهم تجار، فيهم أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية, وحويطب بن عبد العزى، ومعهم فضة وبضائع كثيرة، بما قيمته مائة ألف درهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة أحد أفراد جهاز الأمن الإسلامي يدعى سليط بن النعمان - رضي الله عنه - (1)، فبعث صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في مائة راكب لاعتراض القافلة، فلقيها زيد عند ماء يقال له القردة، وهو ماء من مياه نجد، ففر رجالها مذعورين، وأصاب المسلمون العير وما عليها، وأسروا دليلها فرات بن حيان الذي أسلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم, وعادوا إلى المدينة، فخمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووزع الباقي بين أفراد السرية (2). ثانيًا: غزوة بني قينقاع: ذكر الزهري أنها وقعت في السنة الثانية للهجرة، وذكر الواقدي وابن سعد أنها وقعت يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية (3)، واتفق معظم من كتب في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته على أنها وقعت بعد معركة بدر، إذ لم يلتزم يهود بني قينقاع بالمعاهدة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم معهم، ولم يوفوا بالتزاماتهم التي حددتها، ووقفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين مواقف عدائية، فأظهروا الغضب والحسد عندما انتصر المسلمون في بدر، وجاهروا بعداوتهم للمسلمين (4) , وقد جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم في سوقهم بالمدينة ونصحهم، ودعاهم إلى الإسلام، وحذرهم أن يصيبهم ما أصاب قريشًا في بدر (5) , غير أنهم واجهوا النبي صلى الله عليه وسلم بالتحدي والتهديد رغم ما يفترض أن يلتزموا به من الطاعة والمتابعة لبنود المعاهدة التي جعلتهم تحت رئاسته، فقد جابهوه بقولهم: «يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًُا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وإنك لم تلق مثلنا (6). وهكذا بدأت الأزمة تتفاعل إذ لم يكن في جوابهم ما يشير إلى الالتزام والاحترام، بل على العكس فإنهم قد أظهروا روحًا عدائيًا، وتحديًا واستعلاء واستعدادًا للقتال، فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله تعالى: (قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ - قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ) [آل عمران: 12، 13].   (1) انظر: التربية القيادية (3/ 132). (2) انظر: سيرة ابن هشام (3/ 56). (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 299). (4) انظر: موسوعة نضرة النعيم (1/ 269). (5) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 276). (6) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 276). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 1 - الأسباب المباشرة للغزو: لما انتصر المسلمون في بدر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود ما قال، أضمرت بنو قينقاع نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، وأخذوا يتحينون الفرصة السانحة لمناوشة المسلمين، حتى جاءتهم فرصتهم الحقيرة الدنيئة عندما جاءت امرأة من العرب قدمت بجَلَب (1) لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع (2). فحين علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك سار إليهم على رأس جيش من المهاجرين والأنصار، وذلك يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية للهجرة (3)، وكان الذي حمل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر العمري (4) , واسمه بشير , وحين سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبذ إليهم العهد كما أمره الله تعالى في قوله: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (5) [الأنفال: 58]. 2 - ضرب الحصار عليهم: وحين علم اليهود بمقدمه صلى الله عليه وسلم تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، كما ذكر ابن هشام (6) , واستمر الحصار حتى قذف الله في قلوبهم الرعب واضطروا للنزول على حكمه صلى الله عليه وسلم, فقد فاجأهم صلى الله عليه وسلم بأسلوب الحصار، فأربكهم وأوقعهم في حيرة من أمرهم بعد أن قطع عنهم كل مدد وجمد حركتهم، فعاشوا في سجن مما جعلهم في النهاية ييأسون من المقاومة والصبر، فبعد أن كانوا يهددون رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأنهم قوم يختلفون بأسًا وشدة عن مشركي قريش، إذا بهم يضطرون للنزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، فأمر بهم فربطوا فكانوا يكتفون أكتافًا، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي   (1) الجَلَب: (بتحريك اللام): كل ما يجلب للأسواق ليباع فيها. (2) انظر: سيرة ابن هشام (3/ 54). (3) انظر: المغازي للواقدي (1/ 176)، الطبقات لابن سعد (2/ 28، 29). (4) انظر: تاريخ الطبري (2/ 481). (5) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 279). (6) انظر: سيرة ابن هشام (3/ 55). (7) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (1/ 144). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 الأوسي (1). 3 - مصير يهود بني قينقاع: حاول ابن سلول زعيم المنافقين أن يحل حلفاءه من وثاقهم، فعندما مر عليهم قال: حلوهم, فقال المنذر: أتحلون قومًا ربطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله لا يحلهم رجل إلا ضربت عنقه (2) , فاضطر عبد الله بن أبي ابن سلول أن يتراجع عن أمره ويلجأ إلى استصدار الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم بفك أسرهم (3). فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أحسن في موالي -وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا محمد: أحسن في موالي، قال: فأعرض عنه، فأدخل ابن أبي يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسلني»، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً (4) , ثم قال: «ويحك أرسلني» قال: لا والله، لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاثة مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم لك» (5). فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهم ثم أمر بإجلائهم، وغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما كان لديهم من مال، وقد تولى جمع أموالهم وإحصاءها محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - (5)، وحاول ابن أبي ابن سلول أن يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في يهود بني قينقاع لكي يقرهم في ديارهم، فوجد على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم عويم بن ساعدة الأنصاري الأوسي، فرده عويم، وقال: لا تدخل حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فدفعه ابن أبي، فغلظ عليه عويم حتى جحش وجه ابن أبي الجدار فسال الدم (6). ويظهر في هذا الخبر فقه النبي صلى الله عليه وسلم السياسي في تعامله مع ابن سلول حيث لبى طلبه، فلعل هذا الموقف يغسل قلبه، ويزيل الغشاوة عنه فتتم هدايته، فقال له: هم لك، ولعل الذين يسيرون وراء زعامة ابن أبي يصلحون بصلاحه فيتماسك الصف، ويلتحم فلا يتأثر من كيد أعداء الإسلام (7). وهناك بُعد آخر حيث حرص صلى الله عليه وسلم أن يتفادى حدوث فتنة في مجتمع المؤمنين، حيث إن   (1) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 280) (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/ 32). (3) المصدر نفسه (5/ 33). (4) ظللا: جمع ظلة وهي السحابة، استعارة لتغير الوجه عند الغضب. (5) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 281). (6) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/ 30). (7) انظر: المنهج الحركي للسيرة النبوية للغضبان، 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 بعض الأنصار حديثو عهد بالإسلام، ويخشى أن يؤثر فيهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي لسمعته الكبيرة فيهم (1) , ولذلك سلك صلى الله عليه وسلم معه أسلوب المداراة والصبر عليه وعلى إساءته تجنبا للفتنة وإظهارًا لحقيقة الرجل من خلال تصرفاته ومواقفه عند من يجهلها، ومن ثم يفر الناس من حوله ولا يتعاطفون معه، وقد حقق هذا الأسلوب نجاحًا باهرًا، فقد ظهرت حقيقة ابن سلول لجميع الناس حتى أقرب الناس إليه ومنهم ولده عبد الله، فكانوا بعدها إذا تكلم أسكتوه، وتضايقوا من كلامه (2) , بل أرادوا قتله كما سيأتي بإذن الله تعالى. 4 - تبرؤ عبادة بن الصامت منهم: لما نقضت العهد بنو قينقاع وكان عبادة بن الصامت أحد بني عوف -لهم من حلف بني قينقاع مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي- مشى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلعهم إليه، وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم (3). ولما تقرر جلاء بني قينقاع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة بن الصامت أن يجليهم، فجعلت بنو قينقاع تقول: يا أبا الوليد من بين الأوس والخزرج -ونحن مواليك- فعلت هذا بنا؟ قال لهم عبادة: لما حاربتم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني أبرأ إليك منهم ومن حلفهم، وكان ابن أبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف, فقال عبد الله بن أبي: تبرأت من حلف مواليك؟ ما هذا بيدهم عندك، فذكره مواطن قد أبلوا فيها، فقال عبادة: يا أبا الحباب، تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، أما والله إنك لمعصم بأمر سنرى غيَّه غدًا، فقالت بنو قينقاع: يا محمد، إن لنا دينًا في الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعجلوا وضعوا» وأخذهم عبادة بالرحيل والإجلاء، وطلبوا التنفس، فقال لهم: ولا ساعة من نهار, لكم ثلاث لا أزيد عليها, هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كنت أنا ما نفستكم، فلما مضت ثلاث، خرج في آثارهم حتى سلكوا إلى الشام وهو يقول: الشرف الأبعد الأقصى فالأقصى، وبلغ خلف الذباب ثم رجع ولحقوا بأذرعات (4). وهكذا خرج بنو قينقاع من المدينة صاغرين قد ألقوا سلاحهم وتركوا أموالهم غنيمة للمسلمين، وهم كانوا من أشجع يهود المدينة، وأشدهم بأسًا، وأكثرهم عددًا وعدة؛ ولذلك لاذت القبائل اليهودية بالصمت والهدوء فترة من الزمن بعد هذا العقاب الرادع، وسيطر الرعب على قلوبهم وخضدت شوكتها (5).   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/ 32). (2) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (1/ 148). (3) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 282، 283). (4) نفس المصدر (1/ 284، 285). (5) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (1/ 149). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 5 - الآيات التي نزلت في موالاة ابن سلول لليهود وبراءة عبادة بن الصامت منهم: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ - وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ - إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 51 - 56]. قال ابن عطية في هذه الآيات: لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلهم، فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفًا لهم، وكان عبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله، فلما رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سلكته اليهود من المشاقة لله ورسوله، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم، ولا أوالي إلا الله ورسوله، وقال عبد الله بن أبي: أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود، فإني لا بد لي منهم، إني رجل أخاف الدوائر (1). إن الفرق واضح بين ابن سلول الذي انغمس في النفاق، ومرد عليه، وبين عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي تربى على المنهاج النبوي فصفت نفسه، وتطهر قلبه، وقوي إيمانه، وتنور عقله، فتخلص من آثار العصبية الجاهلية، والأهواء، والمصالح الذاتية، وقدم مصلحة الإسلام على كل مصلحة، فكان مثلاً حيًا للمسلم الصادق، المخلص لعقيدته (2). ثالثًا: تصفية المحرضين على الدولة الإسلامية، مقتل كعب بن الأشرف: إن خطر المحرضين على الفتنة لا يقل عن خطر الذين يشهرون السيوف لقتال المسلمين، إذ لولا هؤلاء المحرضون لما قامت الفتنة، لذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع هؤلاء المحرضين ويقتلهم إطفاء لنار الفتنة، وتمكينًا للحق، وقد قتل منهم خلقًا بعد موقعة بدر (3) منهم: أ- عصماء بنت مروان التي كانت تحرض على النبي صلى الله عليه وسلم وتعيب الإسلام, فقد أقدم عمير بن عدي الخطمي - رضي الله عنه - على قتلها، وحين سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عما إذا كان عليه شيء؟ قال له   (1) انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (1/ 477، 478). (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 302). (3) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت الله ورسوله يا عمير» (1)، ثم قال: «لا ينتطح فيها عنزان» (1) وقد أسلم نتيجة ذلك عدد من بني خطمة وجهر بالإسلام منهم من كان يستخفي (2). ب- مقتل أبي عفك اليهودي: كان أبو عفك شيخًا كبيرًا من بني عمرو بن عوف وكان يهوديًا، يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول الشعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لي بهذا الخبيث؟» فخرج له الصحابي سالم بن عمير فقتله (3). وأهم حدث في تصفية المحرضين على الدولة ما بين بدر وأحد هو مقتل كعب بن الأشرف. ج- مقتل كعب بن الأشرف: ينتسب كعب بن الأشرف إلى بني نبهان من قبيلة طئ، كان أبوه قد أصاب دمًا في الجاهلية, فقدم المدينة وحالف يهود بني النضير، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعب (4) , وكان شاعرًا، ناصب الإسلام، وقد غاظه انتصار المسلمين على قريش في معركة بدر، فسافر إلى مكة يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض قريش على الثأر لقتلاهم الذين كان ينوح عليهم ويبكيهم في شعره، ويدعو إلى القضاء على الرسول والمسلمين (5) , ومما قاله من الشعر في قتلى بدر من المشركين: طحنت رحى بدر لمهلك أهله ... ولمثل بدر تستهل وتدمع قُتلت سراة الناس حول حياضهم ... لا تبعدوا إن الملوك تصرع كم قد أصيب بها من أبيض ماجد ... ذي بهجة تأوي إليه الضيع ويقول أقوم أقوام أذل (6) بسخطهم ... إن ابن الأشرف ظل كعبًا يجزع صدقوا، فليت الأرض ساعة قتلوا ... ظلت تسوخ بأهلها وتصدّع نبئت أن بني كنانة كلهم ... خشعوا لقول أبي الوليد وجدّعوا (7) واستمر كعب بن الأشرف في أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء وتشجيع قريش لمحاربة المسلمين، واستغوائهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو سفيان: أناشدك الله، أديننا أحبُّ إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ قال: أنتم أهدى منهم سبيلاً (8) , ثم خرج مقبلاً قد أجمع رأي   (1) مجمع الزوائد، كتاب المناقب، رقم (14557). (2) انظر: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/ 295). (3) المصدر نفسه (1/ 296). (4) انظر: السيرة لابن هشام (3/ 58). (5) انظر: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/ 298). (6) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، ص158. (7) المصدر نفسه، ص158. (8) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، ص158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنًا بعداوته وهجائه (1). ولما قدم المدينة أعلن معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وشرع في هجائه، وبلغت به الوقاحة والصلف أن يمتد لسانه إلى نساء المسلمين، وشبب بأم الفضل بنت الحارث -رضي الله عنها- زوجة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيها: أذاهب أنت لم تحلل بمنقبة ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم صفراء رادعة لو تعصر انعصرت ... من ذي القوارير والحناء والكتم (2) إحدى بني عامر هام الفؤاد بها ... ولو تشاء شفتْ كعبًا من السقم لم أر شمسًا بليل قبلها طلعت ... حتى تبدت لنا في ليلة الظلم (3) 1 - حسان بن ثابت لابن الأشرف بالمرصاد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث حسانًا للتصدي لكعب بن الأشرف، فكان صلى الله عليه وسلم يعلم حسانًا أين نزل ابن الأشرف في مكة؟ فعندما نزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضميرة السهمي وزوجته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص, فأبلغ صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت بذلك فهجاهم لإيوائهم ابن الأشرف، فلما بلغ عاتكة بنت أسيد هجاء حسان نبذت رحل اليهودي كعب بن الأشرف وقالت لزوجها: ما لنا ولهذا اليهودي؟ ألا ترى ما يصنع بنا حسان؟ (4) وتحول كعب إلى أناس آخرين، وكان كلما تحول إلى قوم آخرين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسانًا وأخبره أين نزل ابن الأشرف فيهجو من نزل عندهم فيطردونه، وظل يلاحقه حتى لفظه كل بيت هناك, فعاد إلى المدينة راغمًا بعد أن ضاقت في وجهه السبل ينتظر مصيره المحتوم وجزاءه الذي يستحقه (5). كانت الحرب الإعلامية التي شنها حسان ضد كعب بن الأشرف قد حققت أهدافها، وهذه بعض الأبيات التي قالها حسان بن ثابت - رضي الله عنه - في الرد على كعب بن الأشرف: أبكي لكعب ثم عُلَّ (6) بعبرة ... منه وعاش مجدعًا لا يسمع؟ ولقد رأيت ببطن بدر منهم ... قتلى تسح لها العيون وتدمع فابك فقد أبكيت عبدًا راضعًا ... شبه الكُليب إلى الكُلْيبة يتبع   (1) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، ص158. (2) رادعة: أي يفوح منها أثر الطيب والزعفران, والكتم نبت يخلط بالحناء فيخضب به الشعر فيبقى لونه. (3) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، ص160. (4) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس، (1/ 111). (5) نفس المصدر، (1/ 111). (6) عُل، من العلل، وهو الشرب بعد الشرب، يريد البكاء بعد البكاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 ولقد شفى الرحمان منا سيدًا ... وأهان قومًا قاتلوه وصُرِّعوا ونجا وأفلت منهم من قَلْبُه ... شَغَف يظل لخوفه يتصدع (1) 2 - جزاء ابن الأشرف: لقد قام اليهودي ابن الأشرف بجرائم كثيرة، وخيانات عديدة وإساءات متعددة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين والمسلمات القانتات العابدات، وكل جريمة من هذه الجرائم تعد نقضًا للعهد تستوجب عقوبة القتل، فكيف إذا اجتمعت هذه الجرائم كلها في هذا اليهودي الشرير؟ (2) إن ابن الأشرف بهجائه للنبي صلى الله عليه وسلم وإظهاره التعاطف مع أعداء المسلمين ورثاء قتلاهم وتحريضهم على المسلمين يكون قد نقض العهد وصار محاربًا مهدور الدم، ولذلك (3) أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وقد فصل البخاري خبر مقتله، فقد روى في صحيحه بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله» فقام محمد بن مسلمة، فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: «نعم». قال: فأذن لي أن أقول شيئًا. قال: «قل». فأتاه محمد بن مسلمة (4) فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك قال: وأيضا والله لتملنه, قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقًا أو وسقين. فقال: أرهنوني. قالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم. قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا؟ فيُسب أحدهم فيقال: رُهن بوسق أو وسقين, هذا عار علينا، ولكن نرهنك اللأمة، قال سفيان: يعني السلاح. فواعده أن يأتيه، فجاء ليلاً ومعه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 59). (2) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 111) (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 304) (4) الذي كتب في السيرة النبوية لابن هشام أن الذي جاء كعب بن الأشرف أبو نائلة واسمه سلكان بن سلامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 الحصن فنزل إليهم فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة. قالت: أسمع صوتًا كأنه يقطر منه الدم. قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة. وجاء محمد بن مسلمة برجلين (1)، وقال: إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فاضربوه, فنزل منهم متوشحًا وهو يَنْفَح منه ريح الطيب. فقال: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم فشمه، ثم أشمَّ أصحابه. ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم, فلما استمكن منه قال: دونكم فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه (2). وجاء في السيرة النبوية لابن هشام أن محمد بن مسلمة مكث ثلاثة أيام بعد أن استعد لقتل كعب بن الأشرف لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه، فقال له: «لم تركت الطعام والشراب»؟ فقال: يا رسول الله، قلت لك قولا لا أدري هل أفينَّ لك به أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما عليك الجهد». فقال: لا بد لنا من أن نقول. قال: «قولوا ما بدا لكم» (3). وجاء في السيرة النبوية عن ابن إسحاق، بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم فقال: «انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم» (4). دروس وعبر: إن في مقتل كعب بن الأشرف دروسًا وعبرًا وفوائد في فقه النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع خصوم الإسلام والدولة الإسلامية، فقد اتضح أن عقوبة الناقض للعهد القتل, وهذا ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم, وعقوبة المعاهد الذي يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤذيه بهجاء أو غيره هي القتل, وهذا ما   (1) وفي كتب السيرة أن الذين قاموا بقتله خمسة نفر هم: محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة، أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش، أحد بني عبد الأشهل وأبو عبس بن جبر أحد بني حارثة, هؤلاء قدموا أبا نائلة ليحدث كعب بن الأشرف. (2) البخاري في المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف رقم 4037. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 61). (4) المصدر نفسه (3/ 62). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 كان لابن الأشرف، ويؤخذ من هذا أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان معاهدًا أو غيره تضرب عنقه عقوبة له، وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية في تفصيل هذه الأحكام في كتابه القيم الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم. * يؤخذ من طريقة تنفيذ حكم الرسول صلى الله عليه وسلم باليهودي ابن الأشرف, أن الحكم قد تقتضي المصلحة العامة للمسلمين أن ينفذ سرًّا، ويتأكد هذا إن كان يترتب على تنفيذه بغير هذه الصورة السرية فتنة أو خطر قد يكلف المسلمين ثمنًا باهظًا (1). وقد بينت هذه الصورة على أن مواجهة الكفار أعداء الإسلام ومحاربي الدولة الإسلامية لا تقتصر على مواجهتهم في ميدان المعارك، وإنما تتعدى ذلك إلى كل عمل تحصل به النكاية بالأعداء، ما لم يكن إثمًا، وقد يوفر القضاء على رجل له دوره البارز في حرب المسلمين جهودا كبيرة وخسائر فادحة يتكبدها المسلمون. وهذا مشروط بالأمن من الفتنة، وذلك بأن يكون للمسلمين شوكة، وقوة ودولة، بحيث لا يترتب على نوعية هذا العمل فتك بالمسلمين، واجتثاث الدعاة من بلدانهم، وإفساد في مجتمعاتهم (2). وقد أخطأ بعض المسلمين في العالم الإسلامي، وتعجل الصدام المسلح واستدلوا على ما ذهبوا إليه بمثل هذه الحادثة ولا حجة لهم فيها؛ لأن ذلك كان بالمدينة وللمسلمين شوكة ودولة، أما هم فليس لهم دولة ولا شوكة، ثم كان ذلك إعزازًا للدين وإرهابًا للكافرين، وكانت كلها مصالح لا مفسدة معها، أما ما يحدث في فترات الاستضعاف من هذه الحوادث فإنها يعقبها من الشر والفساد واستباحة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ما لا يخفى على بصير (3). إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم بمحاولة تصفية لأي أحد من المشركين في مكة مع القدرة على قتل زعماء الشرك كأبي جهل، وأمية بن خلف، وعتبة، ولو أشار إلى حمزة أو عمر بذلك أو غيرهما من الصحابة، لقاموا بتنفيذ ذلك، ولكن الهدي النبوي الكريم يعلمنا أن فقه قتل زعماء الكفر يحتاج إلى شوكة وقوة، كما أن هذا الفقه يحتاج إلى فتوى صحيحة من أهلها، واستيعاب فقه المصالح والمفاسد, وهذا يحتاج إلى علماء راسخين، حيث تتشابك المصالح في عصرنا، وحيث للرأي العام دوره الكبير في قرارات الدول، وحيث احتمالات توسع الأضرار (4). * نلحظ قيمة الكلمة عند الصحابة رضي الله عنهم في موقف محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - بعد   (1) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس، (1/ 115). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/ 54). (3) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية، ص205. (4) انظر: الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية (2/ 537). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 أن أعطى كلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد فيها بقتل اليهودي ابن الأشرف, ثم إبطاؤه في ذلك, أعيته الحيلة بقيام صعوبات في سبيل تحقيق ما وعد, حيث امتنع عن الطعام والشراب وأصابه الغم والحزن؛ لأنه قال قولاً يخشى أن لا يستطيع الوفاء به، ونلاحظ في مجتمعاتنا المعاصرة أن كثيرًا من الناس يعطون عهودًا ومواثيق ولا يقدرون قيمتها ويخفرون ذمتهم ويتراجعون عن عهودهم ومواثيقهم وتبقى حبرًا على ورق، فهؤلاء ليسوا أصحاب مبادئ ومواقف يبتغي بها وجه الله، بل هم أصحاب مصالح ومنافع يخشى عليهم أن يعبدوها من دون الله. إن أصحاب الدعوات يؤثرون أن تندق أعناقهم وأن تضوى أجسامهم وتزهق أرواحهم على أن يتراجعوا عن كلماتهم وعهودهم ومواثيقهم، يستعذبون الموت والعذاب في سبيل عقائدهم وإسلامهم (1). * في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما عليك الجهد» (2) فيه توجيه نبوي كريم أن النصر لا يأتي إلا بعد بذل الجهد والصبر عند الابتلاء, قال تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود: 49]. وعلى المسلم أن يفرغ كل ما في وسعه من جهد فكري وطاقة جسمية في سبيل تحقيق ما وعد، ثم يتوكل على الله بعد ذلك في النتائج (3). * وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «قولوا ما بدا لكم» (4) فقه نبوي كريم، فقد قالوا كلامًا هو في الأحوال العادية كفر، ومن هنا تعرف أنه من أجل تحقيق المهام العسكرية فلا حدود، للكلام الذي يقال، ولكن تأتي هنا مسألة أخرى وهي ما إذا كان النجاح في المهام العسكرية يقتضي أفعالا لا تجوز أو يقتضي ترك فرائض, فما العمل؟ المعروف أنه ليس هناك من الذنوب أعظم من الكفر والشرك، فإذا جاز التظاهر بالكفر لذلك فمن باب أولى جواز غيره، على أن يتأكد طريقًا للوصول إلى الهدف أو يغلب الظن على ذلك، وعلى أن يقتصر فيه على الحد الذي لا بد منه، سواء كانت الوسيلة تأخير فريضة أو ارتكاب محظور، على أن هذا وهذا مقيدان بالفتوى, فهناك محظورات لا يصح فعلها بحال كالزنا واللواط (5). * هناك بعض القضايا تحتاج لأهل الفتوى المؤهلين لأن يفتوا فيها، خصوصًا في الظروف الاستثنائية والحالات الاضطرارية, وفي المحاكمات السياسية والعسكرية لأنها تحتاج إلى الموازنات والفتاوى الاستثنائية التي لا يستطيعها كل إنسان، فالأحكام الأصلية ليست مجهولة،   (1) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 119). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 61). (3) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 120). (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 61). (5) انظر: الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية (2/ 537، 538). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وإنما الأحكام الاستثنائية التي تقتضيها الظروف الاستثنائية تحتاج إلى علماء ربانيين، وفقهاء راسخين لهم القدرة على فهم مقاصد الشريعة، وواقعهم الذي يعيشون فيه (1). * وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «قولوا ما بدا لكم» فقه عظيم يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم: «الحرب خدعة» (2). * قوله صلى الله عليه وسلم: «انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم» (3) كان لهذا التذكير بالإخلاص في الجهاد، انطلقوا على اسم الله والدعاء لهم بالتوفيق والعون, كل ذلك كان حافزًا على الثبات ورافعًا للمعنويات, فلم يعبأوا بقوة ابن الأشرف ومن حوله من الناس؛ لأنهم استشعروا معية الله لهم ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه بإعانتهم وتحقيق مسعاهم، ونلحظ في الهدي النبوي الأخذ بكل الأسباب المادية، والتخطيط السديد، ولا ينسى جانب الدعاء النبوي الكريم، فإنهم لم يغفلوا الأسباب الموصلة بهم إلى نجاح مقصودهم؛ لأن المسلم مأمور بالجمع بين التوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب التي شرعها الله سبحانه (4). ولذلك كانت خطة محمد بن مسلمة مع إخوانه محكمة وأتقنوا فقه سنة الأخذ بالأسباب، فقد كانت الأسباب التي ساعدت على نجاح الخطة كالتالي: - أن أبا نائلة كان أخاه من الرضاعة وهو يطمئن إليه ولا يتوجس منه خيفة. - وفي بعض الروايات طمأن أبو نائلة كعب بن الأشرف، وأدخل الأنس إلى قلبه بمناشدته في الشعر قبل أن يحدثه عن حاجته. - ولم يحدثه عن حاجته إلى كعب حتى أخرج كعب الذي عنده كان من سبل التوفيق، ولو بقي أولئك النفر لربما قد كشفوا حقيقة الأمر، وحذروا كعبًا من عاقبته، فحديثهم معه على انفراد كان في غاية التوفيق. - تظاهرهم بالنيل والتبرم والتظلم من الرسول صلى الله عليه وسلم طمأن كعب بن الأشرف. - فكرة رهن السلاح كانت في غاية التوفيق حتى يكون اصطحابهم للسلاح غير مريب، ولا يبعث على الريبة ذلك, لأنهم أحضروا ما سيرهنونه إلى كعب، وفي نفس الوقت يستطيعون أن يستخدموا هذا السلاح في أي وقت التقوا به. - أخذ الموعد من كعب بن الأشرف كان إحكامًا في الخطة بحيث يتسنى لهم في أي وقت من الليل أن يأتوه ويطرقوا عليه الباب دون أن يشك فيهم وفي نيتهم.   (1) انظر: الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية (2/ 537، 538). (2) صحيح مسلم رقم 1740، ص1362. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 61). (4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/ 56). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 - اطمئنان ابن الأشرف إلى أبي نائلة ومحمد بن مسلمة جعله يخرج في وقت لا يخرج فيه الإنسان من بيته عادة تحسبًا لقتال عدو على حين غرة وغفلة (1). - إن خطة إبعاد ابن الأشرف عن بيته إلى مكان يخلو به دون رقيب أو نصير كانت موفقة. - استدراج أبي نائلة لابن الأشرف وشمه طيب رأسه وإمساكه بشعره ليشمه كان موفقًا وتقدمة ليمسك بهذا الرأس الخبيث ويتمكن منه لتكون الفرصة سانحة لتنفيذ حكم الله في هذا اليهودي اللعين (2). - وتظهر قدرة الصحابة الفائقة على الحفاظ على السرية، وذلك من كتمان هذه الخطة مع كثرة من في المدينة من اليهود والمنافقين, ومع تأخر تنفيذها, وكون النبي صلى الله عليه وسلم عرض هذا الأمر في مشهد من الصحابة وجرت فيه مشورة، وهذا دليل على قوة إيمان هؤلاء الصحابة وإخلاصهم لدينهم (3). وقام هؤلاء المغاوير بتنفيذ أدوار الخطة المحكمة التي اتفقوا عليها وأدركوا مقصودهم الأسمى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بإحساسه الكبير ومشاعره الفياضة، فقد كانوا يقومون بتنفيذ العملية بعقولهم وأجسامهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتولى قيادتهم العليا بالاتصال بالله تعالى ودعائه لهم بالنصر والإعانة (4). 3 - أثر مقتل اليهودي ابن الأشرف على اليهود: انتشر خبر مقتل ابن الأشرف في المدينة، فأسرع أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكون ويحتجون على ما فعله أصحابه، فلم يحفل النبي صلى الله عليه وسلم بهم، بل أكد مقتله الذي كان نتيجة حتمية لموقفه المعادي، وقد أوقعت هذه الحادثة الرعب في نفوس اليهود جميعهم، فلم يعد أحد من عظمائهم يجرؤ على الخروج من حصنه، كما لم يعد أحد يهود المدينة إلا ويخاف على نفسه من المسلمين (5). واضطر اليهود لتجديد المعاهدة، وكان لمقتل كعب بن الأشرف أثر عميق في نفوسهم، فمضوا يكيدون للإسلام، كما سيتبين من الأحداث، ومن الجدير بالذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ بني النضير بجريرة كعب بن الأشرف، واكتفى بقتله جزاء غدره وجدد المعاهدة معهم (6). ومن الفقه النبوي في معاملة اليهود، نستفيد أن العلاج الأمثل لليهود هو   (1) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 122). (2) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 122). (3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/ 56). (4) نفس المصدر (5/ 57). (5) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص188. (6) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 304). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 زجرهم وقتل أهل الفتن فيهم ومطاردتهم؛ لأنهم أهل شرور لا يتخلصون منها ولا يتوقفون عنها (1). رابعًا: بعض المناسبات الاجتماعية: أ- زواج النبي صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر: قال عمر - رضي الله عنه -: حين تأيمت (2) حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي في المدينة، فقال عمر: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة بنت عمر، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فلم يرجع إلي شيئًا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان. فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئًا؟ قال عمر: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ، إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله قبلتها (3). ب- زواج علي - رضي الله عنه - بفاطمة رضي الله عنها: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: خُطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا، قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزوجك، فقلت: وعندي شيء أتزوج به؟ فقالت: إنك إن جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجك. قال: فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما أن قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما جاء بك؟ ألك حاجة؟» فسكت، فقال: «لعلك جئت تخطب فاطمة؟». فقلت: نعم. فقال: «وهل عندك من شيء تستحلها به؟». فقلت: لا والله يا رسول الله. فقال: «ما فعلت درع سلحتكها؟ فوالذي نفس علي بيده إنها لخطمية ما قيمتها أربعة دراهم».   (1) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 126). (2) تأيمت: مات عنها زوجها. (3) البخاري، كتاب النكاح، رقم 5122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 فقلت: عندي. فقال: «قد زوجتكها فابعث إليها بها فاستحلها بها» فإنها كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) , وقد جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل (2) وقربة ووسادة أدم (3) حشوها إذخر (4) (5). وهكذا كانت حياتهم في غاية البساطة بعيدة عن التعقيد وهي إلى شظف العيش أقرب منها إلى رغده (6). وهذه القصة تصور لنا حال السيدة فاطمة من التعب وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم منها عندما طلبت منه أن يعطيها خادمًا من السبي، فقد جاء في مسند الإمام أحمد: (قال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت (7) حتى لقد اشتكيت صدري، قال: وجاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه (8) , فقالت: أنا والله قد طحنت حتى مجلت يدي (9). فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما جاء بك أي بنية؟» قالت: جئت لأسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت، فقال: ما فعلتِ؟ قال: استحييت أن أسأله، فأتينا جميعًا، فقال علي: يا رسول الله والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى (10) بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم» فرجعا فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال: «مكانكما» ثم قال: «ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟» قالا: بلى، فقال: «كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام» فقال: «تسبحان في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا، وتكبران عشرًا، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثًا وثلاثين واحمدا ثلاثًا وثلاثين وكبرًا أربعا وثلاثين» (11). وهكذا كان الهدي النبوي في تربية أهل بيته وأقربائه, لقد أخفقت مساعي السيدة فاطمة وعلي رضي الله عنهما للحصول على خادم؛ لأن السبي يريد عليه الصلاة والسلام أن يبيعه، وينفق ثمنه   (1) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/ 160) إسناده حسن. (2) خميل: القطيفة. (3) الأدم: الجلد. (4) إذخر: نبات له رائحة عطرة. (5) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص267. (6) انظر: معين السيرة، ص255. (7) سنوت: استقيت. (8) أي اسأليه خادمًا. (9) مجلت يدي: ثخن جلدها وتعجر. (10) تطوى: طوى من الجوع فهو طاوٍ خالي البطن جائع لم يأكل. (11) انظر: الفتح الرباني (17/ 260) رقم 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 على أهل الصفة الذي يتلوون من الجوع، فهم أيضًا من خاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي وفاطمة، والطعام مقدم على الخدمة (1). ولقد تأثر علي - رضي الله عنه - بهذه التربية النبوية، ويمر الزمن بالفتى علي فيصبح خليفة المسلمين، فإذا به من آثار هذه التربية يترفع عن الدنيا وزخارفها, وبيده كنوز الأرض وخيراتها؛ لأن ذكر الله يملأ قلبه ويغمر وجوده، ولقد حافظ على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له وقد حدثنا عن ذلك فقال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن, فسأله أحد الصحابة ولا ليلة صفين فقال: ولا ليلة صفين (2)، وكان كما وصفه ضرار بن ضمرة في مجلس معاوية: ( .... يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب ... ) (3). * * *   (1) انظر: التربية القيادية (3/ 100). (2) انظر: الإصابة في تميز الصحابة (8/ 159). (3) انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي (1/ 84). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الفصل التاسع غزوة أحد المبحث الأول أحداث ما قبل المعركة أولاً: أسباب الغزوة: كانت أسباب غزوة أحد متعددة منها: الديني، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي. 1 - السبب الديني: فقد أخبر المولى عز وجل أن المشركين ينفقون أموالهم في الصد عن سبيل الله، وإقامة العقبات أمام الدعوة الإسلامية، ومنع الناس في الدخول في الإسلام، والسعي للقضاء على الإسلام والمسلمين ودولتهم الناشئة, قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال: 36]. قال الطبري: يصرفون أموالهم وينفقونها، ليمنعوا الناس عن الدخول في الإسلام (1). وقال ابن كثير: أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع الحق (2). وقال الشوكاني: والمعنى أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصد عن سبيل الحق بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع الجيوش لذلك (3). من هذا يظهر أن أهم أسباب غزوة أحد هو السبب الديني الذي كان من أهداف قريش للصد عن سبيل الله، واتباع طريق الحق، ومنع الناس من الدخول في الإسلام، ومحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم والقضاء على الدعوة الإسلامية (4).   (1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، محمد بامدحج، ص71. (2) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 341) طبعة دار السلام. (3) انظر: فتح القدير (309). (4) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 2 - السبب الاجتماعي: كان للهزيمة الكبيرة في بدر، وقتل السادة والأشراف من قريش وقع كبير من الخزي والعار الذي يحل بهم، وجعلهم يشعرون بالمذلة والهزيمة، ولذلك بذلوا قصارى جهدهم في غسل هذه الذلة والمهانة التي لصقت بهم، ولذلك شرعوا في جمع المال لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فور عودتهم من بدر, قال ابن إسحاق: (لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فُلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيرهم فأوقفها بدار الندوة، وكذلك كانوا يصنعون، فلم يحركها ولا فرقها، فطابت أنفس أشرافهم أن يجهزوا منها جيشا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمشى عبد الله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية في رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة من قريش، فقالوا: إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم, فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منها، فقال أبو سفيان: أنا أول من أجاب إلى ذلك (1). ودعا جبير بن مطعم غلامًا له حبشيًا يقال له: وحشي يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ لها فقال: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي، فأنت عتيق (2). 3 - السبب الاقتصادي: كانت حركة السرايا التي تقوم بها الدولة الإسلامية قد أثرت على اقتصاد قريش وفرضت عليهم حصارًا اقتصاديًا قويًا، وكان الاقتصاد المكي قائمًا على رحلتي الشتاء والصيف، رحلة الشتاء إلى اليمن وتحمل إليها بضائع الشام ومحاصيلها، ورحلة الصيف إلى الشام تحمل إليها محاصيل اليمن وبضائعها، وقطع أحد جناحي هاتين الرحلتين ضرب للجناح الآخر، لأن تجارتهم إلى الشام قائمة على سلع اليمن، وتجارتهم إلى اليمن قائمة على سلع الشام (3) , قال تعالى: (لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ - إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ - فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش]. ويشير إلى هذا قول صفوان بن أمية: (إن محمدًا وأصحابه قد عوزوا علينا متاجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل، قد وادعهم (4) , ودخل عامتهم معه، فما   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 68). (2) المصدر نفسه (3/ 79). (3) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص74. (4) وادعهم: أي صالحهم وسالمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ندري أين نسلك، وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا ونحن في ديارنا هذه, ما لنا بها بقاء، وإنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف وفي الشتاء إلى الحبشة) (1). 4 - السبب السياسي: فقد أخذت سيادة قريش في الانهيار بعد غزوة بدر، وتزعزع مركزها بين القبائل بوصفها زعيمة لها، فلا بد من رد الاعتبار والحفاظ على زعامتها مهما كلفها الأمر من جهود ومال وتضحيات. هذه أهم الأسباب التي جعلت قريش تبادر إلى المواجهة العسكرية ضد الدولة الإسلامية بالمدينة (2). ثانيًا: خروج قريش من مكة إلى المدينة: استكملت قريش قواها في يوم السبت لسبع خلون من شوال من السنة الثالثة من الهجرة (3) , وعبأت جيشها المكون من ثلاثة آلاف مقاتل مصحبين معهم النساء والعبيد, ومن تبعها من القبائل العربية المجاورة، فخرجت قريش بحدها وحديدها وأحابيشها (4) ومن تبعها من كنانة وأهل تهامة. وخرجوا بالظعن (5) , التماس الحفيظة لئلا يفروا. فخرج أبو سفيان، وهو قائد الناس بهند بنت عتبة بن ربيعة (6) , وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة بنت مسعود الثقفية، وخرج عكرمة بن أبي جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة (7) .. فأقبلوا حتى نزلوا ببطن السبخة من قناة، على شفير الوادي مما يلي المدينة (8). كانت التعبئة القرشية قد سبقتها حملة إعلامية ضخمة تولى كبرها أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وعمرو بن العاص، وهبيرة المخزومي، وابن الزَّبَعْرَى وقد حققت نتائج كبيرة (9) , وبلغت النفقات الحربية لجيش قريش خمسين ألف دينار ذهبًا (10).   (1) انظر: المغازي للواقدي (1/ 195، 196). (2) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص75. (3) البداية والنهاية (4/ 11) المغازي للواقدي، (1/ 199). (4) الأحابيش: من اجتمع إلى العرب وانضم إليهم. (5) الظعن: النساء، واحدتها ظعينة، والظعينة المرأة في الهودج. (6) انظر: الإصابة (8/ 346) رقم 11860. (7) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 70). (8) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص78. (9) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص17. (10) المصدر نفسه، ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ثالثًا: الاستخبارات النبوية تتابع حركة العدو: كان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ضمنها جميع تفاصيل الجيش، وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة وجد في السير, حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة، التي تبلغ مساحتها خمسمائة كيلومتر، في ثلاثة أيام وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد قباء (1). كان النبي صلى الله عليه وسلم يتابع أخبار قريش بدقة بواسطة عمه العباس، قال ابن عبد البر: (وكان - رضي الله عنه - يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب أن يقدم على رسول الله فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن مقامك في مكة خير) (2). كانت المعلومات التي قدمها العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم دقيقة فقد جاء في رسالته: (أن قريشًا قد أجمعت المسير إليك, فما كنت صانعًا إذا حلوا بك فاصنعه، وقد توجهوا إليك وهم ثلاثة آلاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير, وأوعبوا (3) من السلاح) (4). فقد احتوت هذه الرسالة على أمور مهمة منها: 1 - معلومات مؤكدة عن تحرك قوات المشركين نحو المدينة. 2 - حجم الجيش وقدراته القتالية, وهذا يعين على وضع خطة تواجه هذه القوات الزاحفة. لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بمعلومات المخابرات المكية، بل حرص على أن تكون معلوماته عن هذا العدو متجددة مع تلاحق الزمن، وفي هذا إرشاد لقادة المسلمين بأهمية متابعة الأخبار التي يتولد عنها وضع خطط وإستراتيجيات نافعة، ولذلك أرسل صلى الله عليه وسلم الحباب بن المنذر بن الجموح إلى قريش يستطلع الخبر، فدخل بين جيش مكة وحزر عَدَده وعُدَده ورجع, فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت؟» قال: رأيت أي رسول الله عددًا، حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، والخيل مائتي فرس، ورأيت دروعًا ظاهرة حزرتها سبعمائة درع، قال: «هل رأيت ظعنًا؟» قال: رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار (5) ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أردن أن يحرضن القوم ويذكرونهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم لا تذكر من شأنهم حرفًا, حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول» (6).   (1) انظر: الرحيق المختوم للمباركفوري، ص250. (2) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/ 812). (3) أوعبوا: خرجوا بجميع ما عندهم من السلاح. (4) انظر: مغازي الواقدي (1/ 204). (5) الأكبار: جمع كبر: والكبر هو: الطبل الذي له وجه واحد وهو فارسى معرب. (6) انظر: مغازي الواقدي (1/ 207، 208). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 كما أرسل صلى الله عليه وسلم أنسًا ومؤنسًا ابني فضالة يتنصتان أخبار قريش، فألفياها قد قاربت المدينة، وأرسلت خيلها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها، وعادا فأخبراه بخبر القوم (1). وبعد أن تأكد من المعلومات حرص صلى الله عليه وسلم على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي, خوفًا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل إعداد العدة، ولذلك حين قرأ أبي بن كعب رسالة العباس أمره صلى الله عليه وسلم بكتمان الأمر، وعاد مسرعًا إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار في كيفية مواجهة الموقف، وكان صلى الله عليه وسلم قد أطلع سيد الأنصار سعد بن الربيع على خبر رسالة العباس فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرًا، فاستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند سعد، قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله؟ فقال لها: لا أم لك, أنت وذاك، فقالت: قد سمعت ما قال لك، فأخبرته بما أسر به الرسول صلى الله عليه وسلم فاسترجع سعد، وقال: يا رسول الله، إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له وقد استكتمتني إياه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلِّ عنها» (2). وفي هذه الحادثة درس بالغ للعسكريين وتحذيرهم من إطلاع زوجاتهم على أسرارهم العسكرية، وخططهم وأوامرهم، وينبغي الحذر من إفشاء مثل هذه الأسرار لأن إفشاءها يهدد الأمة ومستقبلها بكارثة كبرى. إن تاريخ الأمم والشعوب في القديم والحديث يحدثنا أن كثيرًا من الهزائم والمآسي والآلام قد حلت بكثير من الأمم نتيجة لتسرب أسرار الجيوش إلى أعدائها عن طريق زوجة خائنة، أو خائن في ثوب صديق, أو قريب في الظاهر عدو في الحقيقة والواقع (3). رابعًا: مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه: بعد أن جمع صلى الله عليه وسلم المعلومات الكاملة عن جيش كفار قريش جمع أصحابه رضي الله عنهم وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النبي صلى الله عليه وسلم البقاء في المدينة، وقال: «إنا في جنة حصينة» (4) فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول (5) مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رجالاً من المسلمين ممن كان فاته بدر قالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا. قال ابن كثير: (وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو ولم يتناهوا إلى قول   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 187). (2) انظر: السيرة الحلبية (2/ 489). (3) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص22. (4) انظر: تاريخ الطبري، (2/ 60). (5) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرًا، قد علموا الذي سبق لأهل بدر من الفضيلة) (1). وقال ابن إسحاق: فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، فلبس لأمته (2) , فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وسلم: (أمرنا لأمرك تبع) فأتى حمزة فقال له: (يا نبي الله إن القوم تلاوموا، فقالوا: أمرنا لأمرك تبع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» (3). كان رأي من يرى الخروج إلى خارج المدينة مبنيًا على أمور منها: 1 - أن الأنصار قد تعاهدوا في بيعة العقبة الثانية على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان أغلبهم يرى أن المكوث داخل المدينة تقاعس عن الوفاء بهذا العهد. 2 - أن الأقلية من المهاجرين كانت ترى أنها أحق من الأنصار في الدفاع عن المدينة ومهاجمة قريش وصدها عن زروع الأنصار. 3 - أن الذين فاتتهم غزوة بدر كانوا يتحرقون شوقًا من أجل ملاقاة الأعداء طمعًا في حصول الشهادة في سبيل الله. 4 - أن الأكثرين كانوا يرون أن في محاصرة قريش للمدينة ظفرًا يجب ألا تحلم به، كما توقعوا أن وقت الحصار سيطول أمده, فيصبح المسلمون مهددين بقطع المؤن عنهم (4). أما من وجهة نظر من يرى البقاء في المدينة فهو مبني على التخطيط الحربي الآتي: 1 - أن جيش مكة لم يكن موحد العناصر، وبذلك يستحيل على هذا الجيش البقاء زمنًا طويلاً إذ لا بد من ظهور الخلاف بينهم إن عاجلاً أو آجلاً. 2 - أن مهاجمة المدن المصممة على الدفاع عن حياضها وقلاعها وبيضتها أمر بعيد المنال, وخصوصا إذا تشابه السلاح عند كلا الجيشين، وقد كان يوم أحد متشابهًا. 3 - أن المدافعين إذا كانوا بين أهليهم فإنهم يستبسلون في الدفاع عن أبنائهم وحماية نسائهم وبناتهم وأعراضهم. 4 - مشاركة النساء والأبناء في القتال وبذلك يتضاعف عدد المقاتلين.   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 14). (2) لأمة الحرب: عدتها. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 71). (4) انظر: غزوة أحد، أحمد عز الدين، ص51، 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 5 - استخدام المدافعين أسلحة لها أثر في صفوف الأعداء مثل الأحجار، وغيرها, وتكون إصابة المهاجمين في متناولهم (1). من الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عوَّد أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم حتى ولو خالفت رأيه، فهو إنما يشاورهم فيما لا نص فيه تعويدًا لهم على التفكير في الأمور العامة ومعالجة مشاكل الأمة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الرأي، ولم يحدث أن لام الرسول صلى الله عليه وسلم أحدًا؛ لأنه أخطأ في اجتهاده ولم يوفق في رأيه، وكذلك فإن الأخذ بالشورى ملزم للإمام, فلابد أن يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم التوجيه القرآني: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159] , لتعتاد على ممارسة الشورى وهنا يظهر الوعي السياسي عند الصحابة رضوان الله عليهم، فرغم أن لهم إبداء الرأي, فإنه ليس لهم فرضه على القائد, فحسبهم أن يبينوا رأيهم ويتركوا للقائد حرية اختيار ما يترجح لديه من الآراء، فلما رأوا أنهم ألحوا في الخروج وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على الخروج بسبب إلحاحهم، عادوا فاعتذروا إليه، لكن الرسول الكريم علمهم درسًا آخر هو من صفات القيادة الناجحة وهو عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ، فإن ذلك يزعزع الثقة بها ويغرس الفوضى بين الأتباع (2). كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على الخروج وقد أعلن حالة الطوارئ العامة وتجهز الجميع للقتال، وأمضوا ليلتهم في حذر, كلٌّ يصحب سلاحه ولا يفارقه، حتى عند نومه، وأمر صلى الله عليه وسلم بحراسة المدينة، واختار خمسين من أشداء المسلمين ومحاربيهم بقيادة محمد بن مسلمة - رضي الله عنه -. واهتم الصحابة بحراسة رسول الله، فبات سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وسعد بن عبادة في عدة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ليلة الجمعة مدججين بالسلاح في باب المسجد يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). خامسًا: خروج جيش المسلمين إلى أحد: أ- من الأسباب المهمة التي اتخذها صلى الله عليه وسلم لملاقاة أعدائه اختياره لوقت التحرك والطريق التي تناسب خطته، فقد تحرك بعد منتصف الليل، حيث يكون الجو هادئًا، والحركة قليلة، وفي هذا الوقت بالذات يكون الأعداء، غالبا, في نوم عميق لأن الإعياء ومشقة السفر قد أخذا منهم مجهودًا كبيرًا.   (1) انظر: القيادة العسكرية للرشيد، ص374. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 380). (3) انظر: غزوة أحد، لأبي فارس ص34، 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ومن المعروف أن من نام بعد تعب يكون ثقيل النوم، فلا يشعر بالأصوات العالية والحركة الثقيلة، قال الواقدي رحمه الله: ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدلج, فلما كان في السحر قال: «أين الأدلاء؟» (1) ثم إنه صلى الله عليه وسلم اختار الطريق المناسب الذي يسلكه حتى يصل إلى أرض المعركة، وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهي السرية، حتى لا يرى الأعداء جيش المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «من رجل يخرج بنا على القوم من طريق لا يمر بنا عليهم؟» فأبدى أبو خيثمة - رضي الله عنه - استعداده قائلا: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لربعي بن قيظي، وفي رواية ابن هشام: لمربع بن قيظي وكان رجلاً منافقًا ضرير البصر، فلما أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، قام يحثو في وجوههم التراب، وهو يقول: إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي، وقد ذكر أنه أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد، لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال لهم: لا تقتلوه, فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني الأشهل (2) قبل نهي رسول الله عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه (3). ولا شك في أن مروره صلى الله عليه وسلم بين الأشجار والبساتين يدلنا على حرصه صلى الله عليه وسلم على الأخذ بالاحتياطات الأمنية المناسبة في أثناء السير؛ لأن الطرق العامة تكشف للأعداء على مقدار قوات المسلمين, وهذا أمر محذور، فالرسول صلى الله عليه وسلم علم الأمة الأخذ بالسرية من حيث المكان، ومن حيث الزمان، لئلا يستطيع الأعداء معرفة قواتهم فيضعوا الخطط المناسبة لمجابهتها، وبذلك يذهب تنظيم القادة وإعدادهم لجيوشهم في مهب الرياح. وفي هذا الخبر تطبيق عملي لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا تعارضت المصلحتان فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما مر بالجيش في أرض المنافق مربع بن قيظي، وترتب على ذلك إفساد المزرعة، لكن فيه مصلحة للجيش باختصار الطريق لهم إلى أحد، فبين صلى الله عليه وسلم أن ما يكون به مصلحة للدين مقدم على ما سواه من المصالح الأخرى، فهنا تعارضت مصلحتان مصلحة عامة ومصلحة خاصة، ومصلحة الدين في هذا الموقف مصلحة عامة وهي مقدمة على المصلحة الخاصة، وهي مصلحة المال (4). وقد رتب الشارع الحكيم مقاصد الشرع في تحقيق المنافع لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها (5)، فإذا نظرنا إلى كليات الدين الخمس وأهميتها وجدنا أن هذه الكليات متدرجة حسب الأهمية: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فما يكون به حفظ الدين مقدم   (1) انظر: المغازي للواقدي (1/ 217). (2) بنو الأشهل: حي من الأنصار. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 73). (4) انظر: غزوة أحد، دراسة دعوية، ص168. (5) انظر: ضوابط المصلحة، محمد رمضان البوطي، ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 على ما يكون به حفظ النفس عند تعارضهما، وما يكون به حفظ النفس مقدم على ما به يكون حفظ العقل، وما به يكون حفظ النسل مقدم على ما به حفظ المال، والترتيب بهذا الشكل من هذه الكليات يحظى باتفاق العلماء (1). ب- انسحاب المنافق ابن سلول بثلث الجيش: عندما وصل جيش المسلمين الشواط (2) انسحب المنافق ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين بحجة أنه لن يقع قتال مع المشركين، ومعترضًا على قرار القتال خارج المدينة قائلا: (أطاع الولدان ومن لا رأي له، أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا) (3). وكان هدفه الرئيس من هذا التمرد أن يحدث بلبلة واضطرابًا في الجيش الإسلامي لتنهار معنوياته, ويتشجع العدو، وتعلو همته، وعمله هذا ينطوي على خيانة عظيمة، وبغض الإسلام والمسلمين، وقد اقتضت حكمة الله أن يمحص الله الجيش ليظهر الخبيث من الطيب، حتى لا يختلط المخلص بالمغرض، والمؤمن بالمنافق (4) قال تعالى: (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران: 179]. فالجبن والنكوص هما اللذان كشفا عن طوية المنافقين, فافتضحوا أمام أنفسهم وأمام الناس قبل أن يفضحهم القرآن (5). ج- موقف عبد الله بن عمرو بن حرام من انخذال المنافقين: حاول عبد الله بن حرام - رضي الله عنه - إقناع المنافقين بالعودة فأبوا، فقال: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه (6). وفي هؤلاء المنخذلين نزل قول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) [آل عمران: 166، 167]. د- بنو سلمة، وبنو حارثة: ولما رجع ابن أبي ابن سلول وأصحابه همت بنو سلمة وبنو حارثة أن ترجعا، ولكن الله   (1) انظر: المقاصد العامة للشريعة، يوسف حامد العالم، ص166. (2) الشواط: اسم حائط، أي بستان، بين المدينة وأحد. (3) انظر: البداية والنهاية (4/ 14). (4) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص84. (5) انظر: مرويات غزوة أحد، حسين أحمد، ص71. (6) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 ثبتهما وعصمهما، قال جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية فينا: (إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 122] بني سلمة، وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل والله يقول: (وَاللهُ وَلِيُّهُمَا) (1). لقد أثر موقف المنافقين في نفوس طائفتين من المسلمين ففكروا بالعودة إلى المدينة، ولكنهم غالبوا الضعف الذي ألم بهم، وانتصروا على أنفسهم بعد أن تولاهم الله تعالى فدفع عنهم الوهن فثبتوا مع المؤمنين. وقد ظهر رأيان في أوساط الصحابة تجاه موقف ابن سلول، فالأول: يرى قتل المنافقين الذين خذلوا المسلمين بعودتهم وانشقاقهم عن الجيش، والثاني: لا يرى قتلهم، وقد بين القرآن الكريم موقف الفريقين (2) في الآية: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُّضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [النساء: 88]. هـ - الاستعانة بغير المسلمين: عندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكان يدعي الشيخين رأى كتيبة لها صوت وجلبة فقال: ما هذه؟ فقالوا: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود فقال صلى الله عليه وسلم: «لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» (3) , وهذا أصل وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في عدم الركون إلى أعداء الإسلام في الاستنصار بهم (4). ورد النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة لصغر سنهم: رد النبي صلى الله عليه وسلم في معسكره بالشيخين جماعة من الفتيان لصغر أعمارهم، إذ كانوا في سن الرابعة عشرة أو دون ذلك، منهم عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخدري، بلغ عددهم أربعة عشر صبيًا, وقد ثبت أن ابن عمر كان منهم (5) , وأجاز منهم رافع بن خديج لما قيل له: إنه رامٍ، فبلغ ذلك سمرة بن جندب فذهب إلى زوج أمه مري بن سنان بن ثعلبة عم أبي سعيد الخدري وهو الذي ربى سمرة في حجره يبكي, وقال له: يا أبت أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا وردني، وأنا أصرع رافعًا، فرجع زوج أمه هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى رافع وسمرة فقال لهما:   (1) البخاري في المغازي، باب إذ همت طائفتان رقم4051. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (3/ 382). (3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص278. (4) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/ 561). (5) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 383). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 «تصارعا» فصرع سمرة رافعًا فأجازه كما أجاز رافعًا، وجعلهما من جنده وعسكر كتائبه، ولكل منهما مجاله واختصاصه (1). ونلحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز رافعًا وسمرة لامتياز عسكري امتازا به على أقرانهما, ورد صغار السن خشية ألا يكون لهم صبر على ضرب السيوف، ورمي السهام، وطعن الرماح، فيفروا من المعركة إذا حمي الوطيس، فيحدث فرارهم خلخلة في صفوف المسلمين (2). ونلحظ أن المجتمع الإسلامي يضج بالحركة، ويسعى للشهادة شيبًا، وشبابًا، وحتى الصبيان يقبلون على الموت ببسالة، ورغبة في الشهادة، تبعث على الدهشة، دون أن يجبرهم قانون التجنيد، أو تدفع بهم قيادة إلى ميدان القتال، وهذا يدل على أثر المنهج النبوي الكريم في تربية شرائح الأمة المتعددة على حب الآخرة والترفع عن أمور الدنيا. سادسًا: خطة الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة كفار مكة: أ- وضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة محكمة لمواجهة المشركين من قريش، حيث اختار الموقع المناسب، وانتخب من يصلح للقتال، ورد من لم يكن صالحًا، واختار خمسين منهم للرماية، وشدد الوصية عليهم، وقام بتقسيم الجيش إلى ثلاث كتائب، وأعطى اللواء لأحد أفراد الكتيبة، وهذه الكتائب هي: 1 - كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير - رضي الله عنه -. 2 - كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطى لواءها أسيد بن حضير - رضي الله عنه -. 3 - كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن المنذر - رضي الله عنه - (3). ب- وكان صلى الله عليه وسلم من هديه يحرض أصحابه على قتال الأعداء، ويحثهم على التحلي بالصبر في ميادين القتال، لكي تتقوى روحهم المعنوية ويصمدوا عند ملاقاة أعدائهم، ومن ذلك ما فعله يوم أحد، وفي ذلك يقول الواقدي، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس: «يا أيها الناس، أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه إلا من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله، وعليكم بالذي آمركم فإني حريص على رشدكم، فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يحب الله ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر» (4).   (1) انظر: محمد رسول الله (3/ 571). (2) المصدر نفسه (3/ 572). (3) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص89. (4) انظر: مغازي الواقدي (1/ 221، 222). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ويتضح من هذه الخطبة عدة أهداف منها: 1 - الحث على الجد والنشاط في ميدان الجهاد. 2 - الحث على الصبر عند قتال الأعداء. 3 - بيان مساوئ الاختلاف والتنازع (1). إن هذا الهدي المبارك الذي سنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا حقائق ثابتة وهي أن الجيوش مهما عظم تسليحها وتنظيمها فإن ذلك لا يغني شيئًا إلا إذا حملته نفوس قوية تحرص على الموت أشد من حرصها على الحياة، وهذا يكون بتعبئة الجنود بالموعظة والتوجيه وغرس حب الجهاد والشهادة في نفوسهم. ج- أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية جبل أُحُد لحماية جيش المسلمين، فعندما وصل جيش المسلمين إلى جبل أحد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم ظهورهم إلى الجبل ووجوههم إلى المدينة، وانتقى خمسين من الرماة تحت إمرة عبد الله بن جبير (2). ووضعهم فوق جبل عينين المقابل لجبل أحد، وذلك يمنع التفاف جيش المشركين حول جيش المسلمين, وأصدر أوامره إليهم قائلا: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» (3). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش: لا تبرحوا حتى أؤذنكم، وقال: لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال. وقال لأمير الرماة: «انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا»، وقال للرماة: «الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا, وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم» (4). سيطر المسلمون على المرتفعات وتركوا الوادي لجيش مكة ليواجه أُحدًا وظهره إلى المدينة، وأصبحت مهمة الرماة في النقاط التالية: احتلال الموقع، حماية المسلمين من الخلف، صد الخيل عن المسلمين (5).   (1) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ص469. (2) انظر: الإصابة (2/ 278) (3) انظر: البخاري في المغازي، باب غزوة أحد، رقم 4043. (4) انظر: السيرة الحلبية (2/ 496). (5) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 د- تسوية الصفوف وتنظيم الجيش: تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصفهم على هيئة صفوف الصلاة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على رجليه يسوي تلك الصفوف، ويبوئ أصحابه للقتال يقول: تقدم يا فلان، وتأخر يا فلان، فهو يقومهم ... ، حتى استوت الصفوف (1). فوضع صلى الله عليه وسلم في مقدمة الصفوف الأشداء، لكي يفتحوا الطريق لمن خلفهم, وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب؛ لأنه أبلغ في قتال الأعداء (2). هـ- عدم القتال إلا بأمر من القائد: قال الطبري: فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: «لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال» (3). وفي هذا التوجيه فائدة مهمة وهي توحيد القيادة والمسئولية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أدرى بالمصلحة. * * * المبحث الثاني في قلب المعركة أولاً: بدء القتال واشتداده وبوادر الانتصار للمسلمين: في بداية القتال حاول أبو سفيان أن يوجد شرخًا وتصدعًا في جبهة المسلمين المتماسكة، فأرسل إلى الأنصار يقول: (خلوا بيننا وبين ابن عمنا، فننصرف عنكم، فلا حاجة بنا إلى قتال) فردوا عليه بما يكره (4). ولما فشلت المحاولة الأولى لجأت قريش إلى محاولة أخرى عن طريق عميل خائن من أهل المدينة، وهو أبو عامر الراهب، حيث حاول أبو عامر الراهب أن يستزل بعض الأنصار فقال: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينًا يا فاسق فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شرٌّ، ثم قاتلهم قتالاً شديدًا، ورماهم بالحجارة (5). وبدأ القتال بمبارزة بين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وطلحة بن عثمان حامل لواء المشركين يوم أحد، يقول صاحب السيرة الحلبية: خرج طلحة بن عثمان وكان بيده لواء   (1) انظر: الواقدي المغازي، (1/ 219). (2) انظر: العبقرية العسكرية في غزوات الرسول، محمد فرج، ص355، 356. (3) انظر: تاريخ الطبري، (2/ 507). (4) انظر: إمتاع الأسماع للمقريزي (1/ 120). (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 192). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 المشركين، وطلب المبارزة مرارًا فلم يخرج إليه أحد فقال: يا أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار, ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة, فهل أحد منكم يعجلني بسيفه إلى النار أو أعجله بسيفي إلى الجنة؟ فخرج إليه علي بن أبي إليه طالب - رضي الله عنه - فقال له علي - رضي الله عنه -: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة, فضربه علي فقطع رجله، فوقع على الأرض فانكشفت عورته، فقال: يا ابن عمي، أنشدك الله والرحم فرجع عنه ولم يجهز عليه، فكبر رسول الله، وقال لعلي بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ قال: إن ابن عمي ناشدني الرحم حين انكشفت عورته فاستحييت منه (1). والتحم الجيشان واشتد القتال، وشرع رسول الله يشحذ في همم أصحابه ويعمل على رفع معنوياتهم وأخذ سيفًا، وقال: «من يأخذ مني هذا؟» فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا أنا، قال: «فمن يأخذه بحقه» قال: فأحجم القوم، فقال سماك بن خرشة أبو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به العدو حتى ينحني» قال: أنا آخذه بحقه، فدفعه إليه وكان رجلاً شجاعًا يختال عند الحرب، أي يمشي مشية المتكبر، وحين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبختر بين الصفين قال: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن» (2). وهذا الزبير بن العوام يصف لنا ما فعله أبو دجانة يوم أحد قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه وسألته إياه قبله فأعطاه أبا دجانة وتركني, والله لأنظرن ما يصنع, فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه, فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول له إذا تعصب فخرج وهو يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول؟ (3) ... أضرب بسيف الله والرسول (4) فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله، وكان في المشركين رجل لا يدع جريحًا إلا ذفف (5) عليه فجعل كل منهما يدنو من صاحبه, فدعوت الله أن يجمع بينهما, فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها فقلت: الله ورسوله أعلم (6). قال ابن   (1) انظر: السيرة الحلبية (2/ 497، 498)، تفسير الطبري (7/ 218). (2) مسلم، كتاب فضائل الصحابة رقم 2470. (3) الكيول: مؤخرة الصفوف. (4) انظر: البداية والنهاية (4/ 17). (5) ذفف: أجهز عليه. (6) انظر: البداية والنهاية (4/ 18). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمِّس الناس حماسًا شديدًا فصمدت له فلما حملت عليه السيف ولول, فإذا امرأة, فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة (1). ثانيًا: مخالفة الرماة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم: استبسل المسلمون في مقاتلة المشركين وكان شعارهم: أمت، أمت، واستماتوا في قتال بطولي ملحمي سجل فيه أبطال الإسلام صورًا رائعة في البطولة والشجاعة (2) , وسجل التاريخ روائع بطولات حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وأبو دجانة وأبي طلحة الأنصاري، وسعد بن أبي وقاص، وأمثالهم كثير (3)، وحقق المسلمون الانتصار في الجولة الأولى من المعركة (4) , وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152]. ولما رأى الرماة الهزيمة التي حلت بقريش وأحلافها ورأوا الغنائم في أرض المعركة جذبهم ذلك إلى ترك مواقعهم ظنًا منهم أن المعركة انتهت، فقالوا لأميرهم عبد الله بن جبير: (الغنيمة الغنيمة, ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة (5) , ثم انطلقوا يجمعون الغنائم ولا يعبأون بقول أميرهم، ووصف ابن عباس رضي الله عنهما حالة الرماة في ذلك الموقف فقال: (فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين، أكب الرماة جميعًا فدخلوا في المعسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم كذا وشبَّك بين أصابع يديه، والتبسوا فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموقع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضًا، والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير) (6). ورأى خالد بن الوليد وكان على خيالة المشركين الفرصة سانحة ليقوم بالالتفاف حول المسلمين، ولما رأى المشركون ذلك عادوا إلى القتل من جديد, وأحاطوا بالمسلمين من جهتين، وفقد المسلمون مواقعهم الأولى، وأخذوا يقاتلون بدون تخطيط، فأصبحوا يقاتلون متفرقين, فلا نظام يجمعهم ولا وحدة تشملهم، بل لم يعودوا يميزون بعضهم، فقد قتلوا اليمان والد   (1) نفس المصدر (4/ 18). (2) انظر: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/ 303). (3) نفس المصدر (1/ 303). (4) نفس المصدر (1/ 303). (5) البخاري، كتاب الجهاد، رقم 3039. (6) مسند أحمد (1/ 287) رقم 2608. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 حذيفة بن اليمان خطأ, وأخذ المسلمون يتساقطون شهداء في الميدان، وفقدوا اتصالهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وشاع أنه قُتل (1) , واختلط الحابل بالنابل واشتدت حرارة القتال، وصار المشركون يقتلون كل من يلقونه من المسلمين، واستطاعوا الخلوص قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم فرموه بحجر كسر أنفه الشريف ورباعيته (2) وشجه (3) في وجهه الكريم فأثقله وتفجر الدم (4) منه صلى الله عليه وسلم. عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُسرت رباعيته يوم أحد، وشُجَّ في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه، ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله؟» فأنزل الله عز وجل: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) [آل عمران: 128]. وحمل ابن قمئة على مصعب بن عمير - رضي الله عنه - حيث كان شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله، فقال لقريش: قد قتلت محمدًا (5) وشاع أن محمدًا قد قتل فتفرق المسلمون، ودخل بعضهم المدينة، وانطلقت طائفة منهم فوق الجبل، واختلطت على الصحابة أحوالهم، فما يدرون كيف يفعلون من هول الفاجعة (6) , ففر جمع من المسلمين من ميدان المعركة، وجلس بعضهم إلى جانب ميدان المعركة بدون قتال، وآثر آخرون الشهادة بعد أن ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن هؤلاء أنس بن النضر الذي كان يأسف لعدم شهود بدر، والذي قال في ذلك: (والله لئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله كيف أصنع) وقد صدق في وعده، مر يوم أحد على قوم ممن أذهلتهم الشائعة وألقوا بسلاحهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل رسول الله، فقال: يا قوم إن كان محمد قد قُتل فإن رب محمد لم يقتل، وموتوا على ما مات عليه، وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء, يعني المشركين، ثم لقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد إني لأجد ريح الجنة دون أحد، ثم ألقى بنفسه في أتون المعركة، وما زال يقاتل حتى استُشهد, فوُجد فيه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، فلم تعرفه إلا أخته ببنانه (7). وفي هذا وأمثاله نزل قول الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23]. أما أولئك النفر الذين فروا لا يلوون على شيء رغم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالصمود والثبات   (1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص98. (2) الرباعية: إحدى الأسنان الأربعة التي تكون بين الثنية والناب. (3) الشج: كسر في الرأس. (4) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص294. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 81). (6) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص100. (7) المصدر نفسه، ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 فقد نزل فيهم قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 153]. ولقد حكى القرآن الكريم خبر فرار هذه المجموعة من الصحابة الذين ترخصوا في الفرار بعد سماعهم نبأ مقتل النبي صلى الله عليه وسلم الذي شاع في ساحة المعركة، وكان أول من علم بنجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه حي هو الصحابي كعب بن مالك الذي رفع صوته بالبشرى, فأمره النبي بالسكوت حتى لا يفطن المشركون إلى ذلك (1) , وقد نص القرآن الكريم على أن الله تعالى قد عفا عن تلك الفئة التي فرت، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). ثالثًا: خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في إعادة شتات الجيش: عندما ابتدأ الهجوم المعاكس من المشركين خلف المسلمين والهدف الرئيسي فيه شخص النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتزحزح عليه الصلاة والسلام من موقفه والصحابة يسقطون واحدًا تلو الآخر بين يديه, وحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلب المشركين وليس معه إلا تسعة من أصحابه سبعة منهم من الأنصار، وكان الهدف أن يفك هذا الحصار، وأن يصعد في الجبل ليمضي إلى جيشه، واستبسل الأنصار في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشهدوا واحدًا بعد الآخر (2) , ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله حتى أُثخن وأصيب بسهم شلت يمينه (3) , وأراد النبي صلى الله عليه وسلم إلى صخرة فلم يستطع، فقعد طلحة تحته حتى استوى على الصخرة، قال الزبير: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أوجب طلحة» (4) , وقاتل سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يناوله النبال ويقول له: «ارم يا سعد، فداك أبي وأمي» (5) , كما قاتل بين يديه أبو طلحة الأنصاري الذي كان من أمهر الرماة، وهو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لصوت أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة» (6) , وقد كان متترسًا على رسول الله بحجفة، وكان راميًا شديد النزع (7) كسر يومئذ قوسين أو ثلاث، وكان الرجل يمر معه الجعبة (8) من النبل فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انثرها لأبي طلحة» ثم يشرف إلى القوم فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت، لا تشرف   (1) انظر: مجمع الزوائد للهيثمي (6/ 112). (2) انظر: نضرة النعيم (1/ 304). (3) البخاري، رقم 3724. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص296. (5) المصدر نفسه، ص295. (6) المسند والفتح الرباني (22/ 589) بإسناده رجاله ثقات. (7) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص296. (8) الجعبة: الكنانة التي تجعل فيها السهام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 إلى القوم (1) ألا يصيبك سهم، نحري دون نحرك (2) (3). ووقفت نسيبة بنت كعب تذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وترمي بالقوس وأصيبت بجراح كبيرة، وترس أبو دجانة دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحنٍ عليه حتى كثر فيه النبل (4). والتفَّ حول الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظات العصيبة أبو بكر وأبو عبيدة, وقام أبو عبيدة بنزع السهمين من وجه النبي صلى الله عليه وسلم بأسنانه, ثم توارد مجموعة من الأبطال المسلمين، حيث بلغوا قرابة الثلاثين يذودون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم قتادة وثابت بن الدحداح، وسهل بن حنيف، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام. واستطاع عمر بن الخطاب أن يرد هجومًا مضادًا قاده خالد ضد المسلمين من عالية الجبل، واستبسل الصحابة الذين كانوا مع عمر في رد الهجوم العنيف, عاد المسلمون فسيطروا على الموقف من جديد (5) , ويئس المشركون من إنهاء المعركة بنصر حاسم، وتعبوا من طولها ومن جلادة المسلمين، وانسحب النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه ومن لحق به من أصحابه إلى أحد شعاب جبل أحد، وكان المسلمون في حالة من الألم والخوف والغم لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أصابهم، رغم نجاحهم في رد المشركين (6) , فأنزل الله عليهم النعاس فناموا يسيرًا، ثم أفاقوا آمنين مطمئنين قال تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 154]. وقد أجمع المفسرون على أن الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم هم المنافقون (7). أما قريش فإنها يئست من تحقيق نصر حاسم وأجهد رجالها من طول المعركة، ومن صمود المسلمين   (1) لا تشرف: لا تتطلع. (2) نحري دون نحرك: جعل الله نحري أقرب إلى السهام من نحرك لأصاب بها دونك. (3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص296. (4) انظر: البداية والنهاية (4/ 35، 36). (5) انظر: السيرة النبوية لمنير الغضبان، ص468، 470. (6) انظر: نضرة النعيم (1/ 305). (7) انظر: نضرة النعيم (1/ 305). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وجلدهم وخاصة بعد أن اطمأنوا وأنزل الله عليهم الأمنة والصمود فالتفوا حول النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كفوا عن مطاردة المسلمين وعن محاولة اختراق قواتهم (1). رابعًا: من شهداء أُحد: أ- حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - سيد الشهداء عند الله تعالى يوم القيامة: قاتل أسد الله حمزة قتالاً ضاريًا، وأثخن في المشركين قتلاً، وأطاح برؤوس نفر من حملة لواء المشركين من بني عبد الدار، وبينما هو على هذه الحالة من الشجاعة والإقدام كمن له وحشي حتى تمكن منه ثم رماه بحربته، فأصاب منه مقتلاً، ولندع وحشيًا يخبرنا عن هذا المشهد المؤلم، قال وحشي: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر، قال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، فلما خرج الناس عام عينين، وعينين جبل بجبال أحد، بينه وبينه واد, خرجت مع الناس إلى القتال، فلما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع، يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحادُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ ثم شد عليه، فكان كأمس الذاهب. قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته (2) حتى خرجت من بين وركيه، قال: فكان ذاك العهد به (3) , فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام، ثم خرجت إلى الطائف فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل (4)، قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني قال: «أنت وحشي؟» قلت: نعم، قال: «أنت قتلت حمزة؟» قلت: قد كان من الأمر ما قد بلغك، قال: «فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟» قال: فخرجت فلما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب قلت: لأخرجن إلى مسليمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان, فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق (5) , ثائر الرأس قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته قال: قال عبد الله ابن الفضل فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين قتله العبد الأسود (6).   (1) المصدر السابق نفسه (1/ 306). (2) فأضعها في ثنته: أي في عاتقه (3) ذلك العهد به: كناية عن موته. (4) لا يهيج الرسل: أي لا ينالهم منه مكروه. (5) أورق: لونه كالرماد. (6) البخاري: المغازي رقم (4072). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 1 - سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن مقتل حمزة - رضي الله عنه -: بعد انتهاء المعركة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: من رأى مقتل حمزة؟ فقال رجل: أنا رأيت مقتله، قال: «فانطلق أرناه» فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على حمزة فرآه وقد شق بطنه، وقد مُثِّل به، فقال: يا رسول الله، مُثل به والله (1) , وفي رواية (لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قتل حمزة بكى فلما نظر إليه شهق) (2) ووقف بين ظهراني القتلى فقال: «أنا شهيد على هؤلاء، كفنوهم في دمائهم، فإنه ليس جرح يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة يدمي، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، قدموا أكثرهم قرآنًا فاجعلوه في اللحد» (3). وباستشهاد حمزة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد تحققت رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد أخبر أصحابه عن رؤياه قبل الخروج إلى أحد فقال: «رأيت في سيفي ذي الفقار فلاًّ (4)، فأولته فلاًّ يكون فيكم (أي انهزامًا)، ورأيت أني مردف كبشًا، فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة، فأولتها المدينة، ورأيت بقرًا تذبح، فبقر والله خير، فبقر والله خير» فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (5). 2 - صبر صفية بنت عبد المطلب على شقيقها حمزة: قال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: إنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت تشرف على القتلى، قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم فقال: المرأة المرأة، قال الزبير: فتوسمت أنها صفية قال: فخرجت أسعى إليها، قال: فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال: فلدمت (6) في صدري وكانت امرأة جلدة، قالت: إليك عني لا أرض لك، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك. قال: فوقفت وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة فقد بلغني مقتله، فكفنوه فيهما. قال: فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل فُعل به كما فُعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وخنى أن يكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما، فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له (7).   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص283. (2) المصدر نفسه، ص284. (3) المصدر السابق، ص283. (4) الفل: الثلم في السيف. (5) انظر: المسند (1/ 271) برقم 2445. (6) لدمت: ضربت ودفعت. (7) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 3 - من شعر صفية في بكاء حمزة: أسائله أصحاب أحد مخافةً ... بنات أبي من أعجم (1) وخيبر فقال الخبير إن حمزة قد ثوى ... وزير رسول الله خير وزير دعاه إله الحق ذو العرش دعوة ... إلى جنة يحيا بها وسرور فذلك ما كنا نرجي ونرتجي ... لحمزة يوم الحشر خير مصير فوالله لا أنساك ما هبت الصبا ... بكاء وحزنًا محضري ومسيري على أسد الله الذي كان مدرها (2) ... يذود عن الإسلام كل كفور فيا ليت شلوى (3) عند ذاك وأعظمي ... لدى أضبع تعتادني ونسور أقول وقد أعلى النعي عشيرتي ... جزى الله خيرًا من أخ ونصير (4) 4 - حمزة لا بواكي له: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد سمع نساء الأنصار يبكين فقال: «لكن حمزة لا بواكي له» فبلغ ذلك نساء الأنصار فبكين حمزة فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهن يبكين فقال: «يا ويحهن، مازلن يبكين منذ اليوم فليبكين، ولا يبكين على هالك بعد اليوم» (5) وبذلك حرمت النياحة على الميت. 5 - رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي غلامًا للأنصار بحمزة: قال جابر بن عبد الله: وُلد لرجل منا غلام، فقالوا: ما نسميه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سموه بأحب الأسماء إليَّ، حمزة بن عبد المطلب» (6) فحمزة متجذر في القلب النبوي، عالق بالذاكرة الكريمة .. ولكن الله سبحانه ينزل على نبيه صلى الله عليه وسلم فيما بعد أحب الأسماء إليه، فيقولها صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن» (7). 6 - فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني؟ (8): فهذا التوجيه الكريم لا يوجد فيه شيء من المؤاخذة والتأثيم لوحشي, وإنما هو تذكير له   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 185). (2) مدرها: الذي يدفع عن القوم. (3) الشلو: البقية, تعتادني: تتعاهدني. (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 185). (5) انظر: سنن ابن ماجه، محمد فؤاد عبد الباقي، كتاب الجنائز، باب "ما جاء في البكاء على الميت" ج 2، برقم (1591) وصححه الألباني برقم (13033). (6) رواه الحاكم (3/ 196) سنده حسن. (7) مسلم، كتاب الأدب رقم 2132. (8) البخاري، المغازي رقم 4072. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 بأن رؤيته تجلب له شيئًا من المتاعب النفسية, وتحرك في نفسه ذكريات حادث القتل وما تبعه من تمثيل شنيع بشع بعمه، فتثير عنده حزازات بشرية ربما لا يكون من المستطاع منعها ومقاومتها إلا بشيء من العسر والعنت الشديد, مما قد يشغل النبي صلى الله عليه وسلم ويقلقه (1) , فأشار عليه صلى الله عليه وسلم بأن يغيب وجهه حتى يفقد مصدر التذكير بتلك المصيبة (2)، وفي رواية صحيحة قال وحشي: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: «وحشي» قلت: نعم، قال: «قتلت حمزة؟» قلت: نعم, الحمد الله الذي أكرمه بيدي ولم يهني بيده، فقالت له قريش: أتحبه وهو قاتل حمزة؟ فقلت: يا رسول الله فاستغفر لي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ثلاثة، ودفع في صدري ثلاثة، وقال: «وحشي, اخرج فقاتل في سبيل الله، كما قاتلت لتصد عن سبيل الله» (3) فهذا من التوجيه الإرشادي النبوي إلى مكفرات ما سلف من الكفر ومحادة الله تعالى ورسوله، وذكر القتال في سبيل الله بيان للأمر الأنسب في التكفير, وفي حض من النبي صلى الله عليه وسلم لإعلاء راية الجهاد, ولعل مخرج وحشي إلى اليمامة وقتله مسيلمة الكذاب كان أثرًا من آثار توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أفضل ما يمحو الخطايا، ويحتُّ الذنوب ويطهر الآثام. وقد أدرك وحشي ذلك فقال حين قتل مسيلمة الكذاب: قتلت خير الناس يعني سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وقتلت شر الناس مسيلمة الكذاب (4). ب- مصعب بن عمير - رضي الله عنه -: قال خباب - رضي الله عنه -: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى في سبيله ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير قُتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر» (5)، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها (6) , ومن حديث عبد الرحمن بن عوف أنه أتى بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير، وكان خيرًا مني, فلم يوجد له ما يُكفن فيه إلا بردة, وقتل حمزة أو رجل آخر خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه، إلا بردة، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي (7) ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) انظر: محمد رسول الله, عرجون (3/ 603). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/ 141) (3) رواه الطبراني في الكبير، إسناده حسن (22/ 139) رقم 370 نقلا عن صحيح السيرة النبوية، ص286. (4) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/ 602). (5) الإذخر: نوع من العشب. (6) البخاري في الجنائز، رقم 1286. (7) البخاري في الجنائز رقم 1274، 1275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودعا له ثم قرأ هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم, والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه» (1). ج- سعد بن الربيع - رضي الله عنه -: هذا الذي استكتمه رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مسير قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، فلما انتهت معركة أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات»؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى الأسنة شرعت إليه، فقال أبي بن كعب - رضي الله عنه -: أنا أنظره لك يا رسول الله، فقال له: «إن رأيت سعد بن الربيع فأقرأه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجدك؟» فنظر أبي فوجده جريحًا به رمق، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات، فقال: قد طعنت اثنتي عشرة طعنة, وقد أنفذت إلى مقاتلي (2) , وفي رواية صحيحة قال: على رسول الله وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر (3) يطرف, قال: وفاضت نفسه رحمه الله (4). وهذا نصح لله ورسوله في سكرات الموت يدل على قوة الإيمان، والحرص على الوفاء بالبيعة لم يتأثر بالموت ولا آلام القروح. د- عبد الله بن جحش - رضي الله عنه -: قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: إن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تدعو الله، فخلوا في ناحية فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت العدو، فلقِّني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمن عبد الله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني رجلاً شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلت: من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت, قال سعد: يا بني كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط (5). وفي هذا الخبر جواز دعاء الرجل أن يقتل في   (1) انظر: المستدرك (3/ 200) صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. (2) انظر: السيرة الحلبية (2/ 532). (3) شفر: العين. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص294. (5) المصدر السابق, 293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 سبيل الله، وتمنيه ذلك وليس هذا من تمني الموت المنهي عنه (1). هـ- حنظلة بن أبي عامر - رضي الله عنه - (غسيل الملائكة): لما انكشف المشركون ضرب حنظلة فرس أبي سفيان بن حرب فوقع على الأرض، فصاح حنظلة يريد ذبحه، فأدركه الأسود بن شداد، ويقال له ابن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه ومشى إليه حنظلة بالرمح وقد أثبته، ثم ضرب الثانية فقتله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني رأيت الملائكة تغسله بين السماء والأرض بماء المزن، في صحاف الفضة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاسألوا أهله ما شأنه؟» فسألوا صاحبته عنه فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة (2) , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلذلك غسلته الملائكة» (3). وفي رواية الواقدي: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد، وكان قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى بالصبح غدا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعدُ: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه أنه قد دخل بها، وتعلق بعبد الله بن حنظلة, ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد فولدت له محمد بن ثابت بن قيس (4). وفي هذا الخبر مواقف وعبر منها: 1 - في تعلق جميلة بنت عبد الله بن أبي حنظلة بن أبي عامر حين رأت له تلك الرؤيا التي فسرتها بالشهادة، فالمظنون في مثل هذه الحال أن تحاول الابتعاد عنه حتى لا تحمل منه فتكون بعد ذلك غير حظية لدى الخطاب، لكنها تعلقت به رجاء أن تحمل منه فتلد ولدًا ينسب لذلك الشهيد الذي بلغ درجات عليا في الصلاح أولاً, ثم بما ترجوه من نيله الشهادة، ولقد حصل لها ما أملت به فحملت منه وولدت ولدًا ذكرا سمي عبد الله، وكان له ذكر بعد ذلك، وكان من أعلى ما يفتخر به أن يقول: أنا ابن غسيل الملائكة. 2 - في حرص حنظلة القوي على مقارعة أعداء الله الذي يتمثل في سرعة خروجه إلى الميدان، الأمر الذي لم يتمكن معه من غسل الجنابة. 3 - شجاعته الفائقة تظهر في تصديه لقائد المشركين أبي سفيان بن حرب والقائد غالبًا يكون حوله من يحميه، وهو فارس وحنظلة راجل.   (1) انظر: زاد المعاد (3/ 212). (2) أي: سمع منادي رسول الله يدعو للخروج لملاقاة العدو. (3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص289. (4) انظر: المغازي للواقدي (1/ 273). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 4 - تشريف رباني كريم في نزول الملائكة لتغسيل حنظلة بمياه المزن في صحاف الفضة. 5 - معجزة نبوية في إخبار الصحابة عما قامت به الملائكة من تغسيل, حيث رأى صلى الله عليه وسلم الملائكة وهي تغسل ولم ير الصحابة ذلك (1). 6 - إذا كان الشهيد جنبًا، غسل، كما غسلت الملائكة حنظلة بن أبي عامر (2). وعبد الله بن عمرو بن حرام - رضي الله عنه -: أصر عبد الله بن عمرو بن حرام على الخروج في غزوة أحد، فخاطب ابنه جابر بقوله: يا جابر، لا عليك أن تكون في نظاري المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي (3). وقال لابنه أيضا: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعز علي منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن على دينًا فاقض واستوص بأخواتك خيرًا (4). وخرج مع المسلمين ونال وسام الشهادة في سبيل الله، فقد قتل في معركة أحد, وهذا جابر يحدثنا عن ذلك حيث يقول: لما قُتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني وهو لا ينهاني، وجعلت عمتي تبكيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه» (5). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جابر ما لي أراك منكسرًا؟» قال: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالاً ودينًا، قال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟» قال: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: «ما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحًا، يا جابر أما علمت أن الله أحيا أباك فقال: يا عبدي، تمنَّ عليّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأُقتل فيك ثانية، فقال الرب سبحانه: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون, قال: يا رب .. فأبلغ من ورائي» (6). فأنزل الله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169]، وقد رأى عبد الله بن عمرو رؤية في منامه قبل أحد, قال: رأيت في النوم قبل أحد، مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام، فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء، قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ قال:   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/ 129،130). (2) انظر: زاد المعاد (3/ 214). (3) البخاري رقم 4097. (4) البخاري رقم 1351. (5) البخاري، رقم 1244. (6) صحيح ابن ماجة للألباني، رقم (158 - 189). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 بلى ثم أحييت، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذه الشهادة يا أبا جابر (1) , وقد تحققت تلك الرؤيا بفضل الله ومنه. ز-خيثمة أبو سعد - رضي الله عنه -: قال خيثمة أبو سعد، وكان ابنه استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله عليها حريصًا، حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا، وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني، ورقَّ عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقتل بأحد شهيدًا (2). ح- وهب المزني وابن أخيه رضي الله عنهما: أقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس، بغنم لهما من جبل مزينة، فوجدا المدينة خلوًا فسألا: أين الناس؟ فقالوا: بأحد، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين من قريش، فقالا: لا نبتغي أثرًا بعد عين فخرجا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بأحد فيجدان القوم يقتتلون والدولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من وراءهم، خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فاختلطوا، فقاتلا أشد القتال، فانفرقت فرقة من المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لهذه الفرقة؟» فقال وهب بن قابوس: أنا يا رسول الله، فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ثم رجع. فانفرقت فرقة أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لهذه الكتيبة؟» فقال المزني: أنا يا رسول الله، فقام فذبها بالسيف حتى ولوا، ثم رجع المزني، ثم طلعت كتيبة أخرى فقال: «من يقوم لهؤلاء؟» فقال المزني: أنا يا رسول الله، فقال: «قم، وأبشر بالجنة» فقام المزني مسرورًا يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل، فقام فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى المسلمين، حتى خرج من أقصاهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم ارحمه» ثم يرجع فيهم, فما زال كذلك وهم محدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه، فوجد به يومئذ عشرون طعنة برمح، كلها قد خلصت إلى مقتل، ومُثل به أقبح المثلة يومئذ, ثم قام ابن أخيه فقاتل قتاله حتى قتل, فكان عمر بن الخطاب يقول: إن أحب ميتة أموت لما مات عليها المزني (3).   (1) انظر: زاد المعاد (3/ 209). (2) انظر: زاد المعاد (3/ 208). (3) انظر: المغازي للواقدي (1/ 275). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 وكان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول: شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص، فلما فتح الله علينا وقسمت بيننا غنائمنا، فأسقط فتى من آل قابوس من مزينة (1) , فجئت سعدًا حين فرغ من نومه فقال: بلال؟ قلت: بلال, قال: مرحبًا بك, من هذا معك؟ قلت: رجل من قومي من آل قابوس، قال سعد: ما أنت يا فتى من المزني الذي قتل يوم أحد؟ قال: ابن أخيه، قال سعد: مرحبًا وأهلاً وأنعم الله بك عينًا، ذلك الرجل شهدت منه يوم أحد مشهدًا ما شهدته من أحد، لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا, والكتائب تطلع من كل ناحية، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرمي ببصره في الناس يتوسمهم (1) يقول: «من لهذه الكتيبة؟» كل ذلك يقول المزني: أنا يا رسول الله، كل ذلك يرده فما أنسى آخر مرة قامها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم وأبشر بالجنة» قال سعد: وقمت على أثره يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذ من الشهادة، فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية، وأصابوه -رحمه الله- وودت والله أني كنت أصبت يومئذ معه، ولكن أجلي استأخر، ثم دعا سعد من ساعته بسهمه فأعطاه وفضله، وقال: اختَرْ في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك، فقال بلال: إنه يستحب الرجوع، فرجعنا. وقال سعد: أشهد لرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفًا عليه وهو مقتول، وهو يقول: «رضي الله عنك فإني عنك راضٍ»، ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على قدميه وقد نال النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح ما ناله، وإني لأعلم أن القيام ليشق عليه على قبره حتى وُضع في لحده، وعليه بردة لها أعلام خضر، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم البردة على رأسه فخمره، وأدركه فيها طولا، وبلغت نصف ساقيه، وأمرنا فجمعنا الحرمل فجعلناه على رجليه, وهو في لحده، ثم انصرف، فما حال أموت عليها أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله تعالى على حال المزني (1). وهكذا يفعل الإيمان بأصحابه فهذا وهب المزني وابن أخيه تركا الأغنام بالمدينة والتحقا بصفوف المسلمين وحرصا على نيل الشهادة، فأكرمهما الله بها، وقد كانت تلك الملحمة التي سطرها المزني محفورة في ذاكرة الصحابة، فهذا سعد بن أبي وقاص يتذكرها بعد مرور ثلاث عشرة سنة تقريبا على غزوة أحد لمجرد سماع اسم رجل من عشيرة المزني ويتمنى أن يموت ويلقى الله على مثل حالة المزني. ط- عمرو بن الجموح - رضي الله عنه -: كان عمرو بن الجموح - رضي الله عنه - أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأُسْد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، وهم خلاد ومعوذ ومعاذ وأبو أيمن، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا: إن الله عز وجل قد عذرك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيّ يريدون أن   (1) انظر: المغازي للواقدي (1/ 275). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 يحبسوني عن هذا الوجه وللخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد عذرك الله تعالى فلا جهاد عليك» وقال لبنيه: «ما عليكم ألا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة» فخرج وهو يقول مستقبل القبلة: اللهم لا تردني إلى أهلي خائبًا فقتل شهيدًا. وفي رواية أتى عمرو بن الجموح - رضي الله عنه - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة، وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجُعلوا في قبر واحد (1). وفي هذا الخبر دليل على أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروج إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج (2). وفيه دليل على شجاعة عمرو بن الجموح ورغبته في نيل الشهادة وصدقه في طلبها، وقد أكرمه الله بذلك. ي- أبو حذيفة بن اليمان وثابت بن وقش -رضي الله عنهم-: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد رفع حُسيل بن جابر، وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان، وثابت بن وقش في الآطام (3) مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا أبا لك، ما تنتظر؟ فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء (4) حمار, إنما نحن هامة اليوم أو غد (5) , أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس ولم يعلم بهما، فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه، فقال حذيفة: أبي، فقالوا: والله إن عرفناه، وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) خيرًا. وفي هذا الخبر، يظهر أثر الإيمان في نفوس الشيوخ الكبار الذين عذرهم   (1) انظر: المسند (5/ 299)، السيرة النبوية لابن هشام (3/ 101). (2) انظر: زاد المعاد (3/ 218). (3) الآطام: الحصون. (4) ظمء حمار: أي مقدار ما بين شربتي حمار. (5) أي نموت اليوم أو غدًا. (6) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 98). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 الله في الجهاد وكيف تركوا الحصون وخرجوا إلى ساحات الوغى طلبًا للشهادة وحبًا وشوقًا للقاء الله تعالى، وفيه موقف عظيم لحذيفة، حيث تصدق بدية والده على المسلمين، ودعا لهم بالمغفرة لكونهم قتلوا والده خطأ، وفيه أيضًا: أن المسلمين إذا قتلوا واحدًا منهم في الجهاد يظنونه كافرًا، فعلى الإمام ديته من بيت المال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يدي اليمان أبا حذيفة، فامتنع حذيفة من أخذ الدية، وتصدق بها على المسلمين (1). ك- الأمور بخواتيمها: إن الأمور بخواتيمها, وقد وقع في غزوة أحد ما يحقق هذه القاعدة المهمة في هذا الدين، فقد وقع حادثان يؤكدان هذا الأمر، وفيهما عظة وعبرة لكل مسلم متعظ ومعتبر (2). 1 - شأن الأصيرم - رضي الله عنه -: واسمه عمرو بن ثابت بن وقش، عرض عليه الإسلام فلم يسلم، وروى قصته أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن الأصيرم كان يأبى الإسلام على قومه، فجاء ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأُحد فقال: أين سعد بن معاذ؟ فقيل: بأحد، فقال: أين بنو أخيه؟ قيل: بأحد: فسأل عن قومه فقيل: بأحد, فبدا له الإسلام فأسلم، وأخذ سيفه، ورمحه، وأخذ لأمته، وركب فرسه فعدا حتى دخل في عرض الناس، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى أثخنته الجراحة، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذ هم به، فقالوا: والله إن هذا الأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث، فسألوه: ما جاء بك؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله تعالى ورسوله، وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني، وإن مت فأموالي إلى محمد يضعها حيث شاء، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه من أهل الجنة». وقيل: مات فدخل الجنة وما صلى من صلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَمِل قليلاً وأُجر» (3) وكان أبو هريرة يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصل قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ قال: هو أصيرم بن عبد الأشهل (4). 2 - شأن مخيريق: لما كانت غزوة أحد وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين، جمع مخيرقٌ قومه اليهود وقال لهم: يا   (1) انظر: زاد المعاد (3/ 218). (2) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص117. (3) انظر: البخاري، الجهاد، رقم 2808. (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 100، 101). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قُتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود (1). وقد اختلف في إسلامه, فنقل الذهبي في التجريد وابن حجر في الإصابة عن الواقدي (2) أن مخيريق مات مسلمًا، وذكر السهيلي في الروض الأنف أنه مسلم، وذلك حين قال معقبًا على رواية ابن إسحاق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مخيريق خير يهود» قال: ومخيريق مسلم، ولا يجوز أن يقال في مسلم هو خير النصارى، ولا خير اليهود؛ لأن أفعل من كذا، إذا أضيف فهو بعض ما أضيف إليه، فإن قيل: وكيف جاز هذا؟ قلنا: لأنه قال: خير يهود، ولم يقل خير اليهود، ويهود اسم علم كثمود، يقال: إنهم نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب ثم عربت الذال دالا (3). وقد حقق هذه المسألة الدكتور عبد الله الشقاوي في كتابه (اليهود في السنة المطهرة) وذهب إلى أن مخيريق قد أسلم، ودفعه ذلك إلى القتال مع المسلمين، وإلى التصدق بماله مع كثرته، ومع ما عرف عن اليهود من حب المال والتكالب عليه (4). ل- إنما الأعمال بالنيات: كان ممن قاتل مع المسلمين يوم أحد رجل يدعى قزمان، كان يعرف بالشجاعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر له: إنه من أهل النار، فتأخر يوم أحد فعيرته نساء بني ظفر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوي الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول، فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، فجعل يرسل نبلاً كأنها الرماح ويكت كتيت الجمل، ثم فعل بالسيف الأفاعيل حتى قتل سبعة أو تسعة وأصابته جراحة، فوقع فناداه قتادة بن النعمان: يا أبا الغيداق، هنيئًا لك الشهادة, وجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر، قال: بماذا؟ فوالله ما قاتلت إلى على أحساب قومي، فلولا ذلك ما قاتلت، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه من أهل النار، إن الله تعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» (5). وفي هذا الخبر بيان لمكان النية في الجهاد، وإنه من قاتل حمية عن قومه أو ليقال شجاع ولم تكن أعماله لله تعالى لا يقبل الله منه.   (1) انظر: المغازي للواقدي، (1/ 263) , والسيرة لابن هشام (3/ 99). (2) انظر: تجريد أسماء الصحابة (2/ 70)، الإصابة (3/ 393). (3) انظر: الروض الأنف للسهيلي (4/ 408، 409). (4) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 306). (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 99)، غزوة أحد دراسة دعوية، ص113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 خامسًا: من دلائل النبوة: 1 - عين قتادة بن النعمان - رضي الله عنه -: أصيبت عين قتادة - رضي الله عنه - حتى سقطت على وجنتيه فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده, فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما، وأصبحت لا ترمد إذا رمدت الأخرى (1) , وقد قدم ولده على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فسأله من أنت؟ فقال له مرتجلا: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسنها عينًا ويا حسن ما خد فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا ثم وصله فأحسن جائزته (2). 2 - مقتل أبي بن خلف: كان أبي بن خلف يلقى رسول الله بمكة، فيقول: يا محمد إن عندي العود فرسًا أعلفه كل يوم، أقتلك عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» فلما كان يوم أحد، وأسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أي محمد لا نجوت، فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعوه» فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطاير عنه من حوله تطاير الشعراء (3) عن ظهر البعير إذا انتفض بها, ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ (4) منها عن فرسه، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشًا غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد, قالوا له: ذهب والله فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني، فمات عدو الله بسرف (5) , وهم قافلون به إلى مكة (6). وفي هذا الخبر مثل رفيع على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان أبي بن حلف مدججًا بالسلاح ومتدرعًا بالحديد الواقي، ومع ذلك استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعنه بالرمح من فرجة صغيرة في عنقه بين الدرع والبيضة، وهذا يدل على قدرة رسول الله القتالية ودقته في إصابة الهدف، وفي هذا الخبر معجزة للنبي فقد أخبر أبيًا بأنه سوف يقتله بمشيئة الله وتم ذلك، وفي   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 288). (2) انظر: البداية والنهاية (4/ 35). (3) الشعراء: ذباب له لدغ. (4) تدأدأ: تقلب عن فرسه فجعل يتدحرج. (5) سرف: موضع على ستة أميال من مكة. (6) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 93، 94). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 الخبر عبرة في إيمان المشركين بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه إذا قال شيئًا وقع, فقد كان أبي بن خلف على يقين بأنه سيموت من تلك الطعنة، ومع ذلك لم يدخلوا في الإسلام لعنادهم وعبادة أهوائهم (1). وقد خلد حسان بن ثابت هذه الحادثة في شعره فقال: لقد ورث الضلالة عن أبيه ... أبي يوم بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رم عظم ... وتوعده وأنت به جهول (2) * * * المبحث الثالث أحداث ما بعد المعركة أولا: حوار أبي سفيان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: قال البراء - رضي الله عنه -: وأشرف أبو سفيان فقال أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجيبوه» , فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: «لا تجيبوه» , فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء القوم قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر - رضي الله عنه - نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك، قال أبو سفيان: أعلُ هبل (3) , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» , قال: قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله أعلى وأجل» , قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» , قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم» , قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني (4). وفي رواية قال عمر: (لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) (5). كان في سؤال أبي سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر دلالة واضحة على اهتمام المشركين بهؤلاء دون غيرهم؛ لأنه في علمهم أنهم أهل الإسلام وبهم قام صرحه وأركان دولته وأعمدة نظامه، ففي موتهم يعتقد المشركون أنه لا يقوم الإسلام بعدهم. وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولاً تصغيرًا له حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر، وردوا عليه بشجاعة (5). وفي هذا يقول ابن القيم في تعليقه على هذا الحوار: فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته، وبشركه، تعظيمًا للتوحيد. وإعلامًا بعزة من عبده المسلمون، وقوة جانبه، وأنه لا يغلب، ونحن   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (5/ 169). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 94). (3) أعل هبل: ظهر دينك. (4) البخاري، المغازي، رقم 4043، السيرة النبوية الصحيحة (2/ 392). (5) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 392). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 حزبه وجنده. ولم يأمرهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟ بل روي أنه نهاهم عن إجابته، وقال: لا تجيبوه؛ لأن كَلْمَهم لم يكن برد في طلب القوم، ونار غيظهم بعد متوقدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، حمي عمر بن الخطاب واشتد غضبه وقال: كذبت يا عدو الله، فكان في هذا الإعلام من الإذلال، والشجاعة وعدم الجبن، والتعرف إلى العدو في تلك الحال، ما يؤذيهم بقوة القوم وبسالتهم, وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم وقد أبقى الله لهم ما يسؤوهم منهم، وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة بعد ظنه، وظن قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة، وغيظ العدو وحزبه، والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحدًا واحدًا، فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو كيده، فصبر له النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوفى كيده، ثم انتدب له عمر فرد بسهام كيده عليه، وكان ترك الجواب عليه أحسن، وذكره ثانيًا أحسن، وأيضا فإن في ترك إجابته حين سأله عنهم إهانة له، وتصغيرًا لشأنه، فلما منته نفسه موتهم, وظن أنهم قد قتلوا، وحصل له بذلك من الكبر والأشر ما حصل، كان في جوابه إهانة له، وتحقير وإذلال, ولم يكن هذا مخالفًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تجيبوه» فإن إنما نهى عن إجابته حين سأل: أفيكم محمد؟ أفيكم فلان؟ ولم ينه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولاً، ولا أحسن من إجابته ثانيًا (1). ثانيًا: تفقد الرسول صلى الله عليه وسلم الشهداء: بعد أن انسحب أبو سفيان من أرض المعركة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ليتفقد أصحابه رضي الله عنهم، فمر على بعضهم، ومنهم حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وحنظلة بن أبي عامر، وسعد بن الربيع والأصيرم، وبقية الصحابة رضي الله عنهم، فلما أشرف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا شهيد على هؤلاء, إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله بعثه يوم القيامة، يدمي جرحه, اللون لون دم، والريح ريح المسك، انظروا أكثر هؤلاء جمعًا للقرآن، فاجعلوه أمام أصحابه في القبر» (2). وقال جابر بن عبد الله في رواية البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: «أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟» فإذا أشير له إلى واحد قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة»، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا (3). وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا حيث صرعوا، وأعيد من أخذ ليدفن داخل المدينة.   (1) انظر: زاد المعاد (3/ 202، 203). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 109). (3) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4079. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب، وقد مُثِّل به حزن حزنًا شديدًا، وبكى حتى نشغ (1) من البكاء (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «لولا أن تحزن صفية، ويكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم»، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن ظفرنا الله بهم يومًا من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب (3) , فنزل قول الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) [النحل: 126]. لقد ارتكب المشركون صورًا من الوحشية، حيث قاموا بالتمثيل في قتلى المسلمين فبقروا بطون كثير من القتلى وجدعوا أنوفهم، وقطعوا الآذان ومذاكير بعضهم (4). ومع ذلك صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستجابوا لتوجيه المولى عز وجل، فعفا وصبر وكفَّر عن يمينه، ونهى عن المثلة. روى ابن إسحاق بسنده عن سمرة بن جندب قال: (ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام قط ففارقه، حتى يأمرنا بالصدقة وينهانا عن المثلة) (5). ثالثًا: دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر قاعدًا لكثرة ما نزف من دمه، وصلى وراءه المسلمون قعود، وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة إلى الله بالدعاء والثناء على ما نالهم من الجهد والبلاء، فقال لأصحابه: «استووا، حتى أثني على ربي عز وجل» فصاروا خلفه صفوفًا، ثم دعا بهذه الكلمات الدالة على عمق الإيمان (6) , فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت, اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم الغلبة, والأمن يوم الخوف، اللهم عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين, وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسولك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق» (7) ثم ركب فرسه ورجع إلى   (1) النشغ: الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغشي. (2) انظر: مختصر سيرة الرسول، لمحمد عبد الوهاب، ص331. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 106). (4) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص104. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 107). (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 210). (7) انظر: مجمع الزوائد (6/ 121، 122) وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 المدينة (1). وهذا أمر عظيم شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته لكي يطلبوا النصر والتوفيق من رب العالمين، وبين لأمته أن الدعاء مطلوب في ساعة النصر والفتح، وفي ساعة الهزيمة لأن الدعاء مخ العبادة, كما أنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ويجعل القلوب متعلقة بخالقها، فينزل عليها السكينة، والثبات والاطمئنان ويمدها بقوة روحية عظيمة، فترتفع المعنويات نحو المعالي وتتطلع إلى ما عند الله تعالى. في أعقاب المعركة، يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أهبته وينظم المسلمين صفوفًا، لكي يثني على ربه عز وجل، إنه لموقف عظيم، يجلي إيمانًا عميقًا، ويكشف عن العبودية المطلقة لرب العالمين الفعَّال لما يريد، فهو القابض والباسط، المعطي والمانع، لا راد ولا معقب لحكمه. إن هذا الموقف من أعظم مواقف العبودية التي تسمو بالعابدين، وتجل المعبود، كأعظم ما يكون الإجلال والإكبار، وأبرز ما يكون الحمد والثناء (2). رابعًا: معرفة وجهة العدو: بعد أن انسحب جيش المشركين من أرض المعركة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد الغزوة مباشرة، وذلك لمعرفة اتجاه العدو، فقال له: «اخرج في آثار القوم، وانظر ماذا يصنعون وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم» قال علي: فخرجت في أثرهم ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة (3). فرجع علي - رضي الله عنه - وأخبر رسول الله بخبر القوم. وفي هذا الخبر عدة دروس وعبر منها: يقظة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومراقبته الدقيقة لتحركات العدو، وقدرته صلى الله عليه وسلم على تقدير الأمور، وظهور قوته المعنوية العالية، ويظهر ذلك في استعداده لمقاتلة المشركين لو أرادوا المدينة، وفيه ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بعلي - رضي الله عنه - ومعرفته بمعادن الرجال، وفيه شجاعة علي - رضي الله عنه -؛ لأن هذا الجيش لو أبصره ما تورع في محاولة قتله (4) , ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في أرض المعركة بعد أن انتهت، تفقد خلالها الجرحى والشهداء، وأمر بدفنهم ودعا ربه وأثنى عليه سبحانه، وأرسل عليًّا ليتتبع خبر القوم، كل ذلك من أجل أن يحافظ على النصر الذي أحرزه المسلمون في غزوة أحد، وهذا من فقه سنن الله تعالى في الحروب والمعارك، فقد   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 394). (2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د. محمد فيض الله، ص132، 133. (3) انظر: البداية والنهاية (4/ 41). (4) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص95، 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 جعل سبحانه من سننه في خلقه أن جعل للنصر أسبابًا، وللهزيمة أسبابًا، فمن أخذ بأسباب النصر، وصدق التوكل على الله سبحانه وتعالى حقيقة التوكل نال النصر بإذن الله عز وجل، كما قال تعالى: (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الفتح: 23]. ويتجلى فقه النبي صلى الله عليه وسلم في ممارسة سنة الأخذ بالأسباب في غزوة حمراء الأسد. خامسًا: غزوة حمراء الأسد: نجد في بعض الروايات: أن النبي صلى الله عليه وسلم تابع أخبار المشركين بواسطة بعض أتباعه حتى بعد رجوعهم إلى مكة، وبلغه مقالة أبي سفيان يلوم فيها جنده لكونهم لم يشفوا غليلهم من محمد وجنده، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما انصرف أبو سفيان والمشركون من أحد وبلغوا الروحاء (1) قال أبو سفيان: لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم, شر ما صنعتم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وتفيد هذه الرواية خبر استطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم أعداءه حتى بعد انتهاء المعركة؛ وذلك لكي يطمئن على عدم مباغتتهم له. وعندما سمع ما كان تعزم عليه قريش من العودة إلى المدينة خرج بمن حضره يوم أحد من المسلمين دون غيرهم إلى حمراء الأسد. قال ابن إسحاق: كان أحد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر من شوال: أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وألا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبد الله في الخروج معه فأذن له، وإنما خرج مرهبًا للعدو، وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن طلب عدوهم (3)، وقد استجاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لنداء الجهاد حتى الذين أصيبوا بالجروح، فهذا رجل من بني عبد الأشهل يقول: شهدت أحدًا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذَّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جرحًا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة (4) ومشى عقبة (نوبة) , حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون (5). وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، واقترب بجنوده من جيش المشركين فأقام فيه ثلاثة   (1) الروحاء: تبعد عن المدينة 73 كيلومترًا في طريق مكة. (2) انظر: مجمع الزوائد للهيثمي (6/ 121) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الجواز. (3) انظر: البداية والنهاية (4/ 50). (4) عقبة: فترة. (5) المصدر نفسه، (4/ 50). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 أيام يتحدى المشركين, فلم يتشجعوا على لقائه ونزاله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بإشعال النيران فكانوا يشعلون في وقت واحد خمسمائة نار (1). وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فأمره أن يلحق بأبي سفيان، فيخذله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه، فقد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة (2). فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال معبد: فإني أنهاك عن ذلك، والله لقد حملني ما رأيت أن قلت فيه أبياتًا من شعر: قال: وما قلت؟ قال: قلت: كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد (3) الأبابيل تردي (4) بأسد كرام لا تنابلة (5) ... عند اللقاء ولا ميل (6) معازيل (7) فظلت عدوًا أظن الأرض مائلة ... لما سمو برئيس غير مخذول فقلت: ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجبل (8) إني نذير لأهل البسل ضاحية ... لكل ذي أُربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش (9) قنابله ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل (10) فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، وحاول أبو سفيان أن يغطي انسحابه هذا بشن حرب نفسية على المسلمين، لعله يرهبهم فأرسل مع ركب عبد القيس -وكانوا يريدون المدينة للميرة- رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفادها، أن أبا سفيان وجيشه قد أجمعوا على السير إليه وإلى أصحابه ليستأصلهم من الوجود، وواعد أبو سفيان الركب أن يعطيهم زبيبًا عندما يأتوه في سوق عكاظ، ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال هو والمسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل (11). واستمر المسلمون في معسكرهم، وآثرت قريش السلامة والأوبة، فرجعوا إلى مكة، وبعد ذلك عاد المسلمون إلى المدينة بروح قوية متوثبة، غسلت عار الهزيمة، ومسحت مغبة الفشل، فدخلوها أعزة رفيعي الجانب، عبثوا بانتصار المشركين، وهزوا   (1) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص144 نقلا عن الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 43). (2) انظر: زاد المعاد (3/ 245). (3) الجرد: جمع أجرد وهو الضرسي قصير الشعر، والأبابيل: الفرق الكثيرة. (4) تردى: تسرع. (5) تنابلة: جمع تنبال وهو القصير. (6) الميل: جمع أميل وهو الجبان. (7) معازيل: جمع معزال وهو من لا رمح له. (8) تغطمطت: اضطربت وثارت. (9) وخش: ردئ. (10) انظر: البداية والنهاية (4/ 51) (11) تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 أعصابهم، وأحبطوا شماتة المنافقين واليهود في المدينة، وأشار القرآن الكريم إلى هذه الحرب الباردة، وسجل ظواهرها (1) بقوله تعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ - الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ - إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 172 - 175] ووقع في أسر النبي صلى الله عليه وسلم قبل رجوعه إلى المدينة أبو عزة الجمحي الشاعر فقتل صبرًا؛ لأنه أخلف وعده للرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يقاتل ضده عندما منَّ عليه ببدر وأطلقه, فعاد فقاتل في أحد، وقد حاول أبو عزة أن يتخلص من القتل، وقال: يا رسول الله أقلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا والله، لا تمسح عارضيك (2) بمكة بعدها، وتقول: خدعت محمدًا مرتين، اضرب عنقه يا زبير» (3) فضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» (4) فصار هذا الحديث مثلا ولم يسمع قبل ذلك. وبعد هذا العمل من قبيل السياسة الشرعية؛ لأن هذا الشاعر من المفسدين في الأرض، الداعين إلى الفتنة، ولأن في المن عليه تمكينًا له من أن يعود حربًا على المسلمين. ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي (5). وأما عدد القتلى من المسلمين في أحد فقد انجلت المعركة عن سبعين شهيدًا من المسلمين، ويؤيد هذا تفسير قوله تعالى: (أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أنها نزلت تسلية للمؤمنين عمن أصيب منهم يوم أحد، قال ابن عطية رحمه الله: وكان المشركون قد قتلوا منهم سبعين نفرًا، وكان المسلمون قد قتلوا من المشركين ببدر سبعين وأسروا سبعين (6) , أما عدد الذين قتلوا يوم أحد من المشركين فاثنان وعشرون قتيلا (7). كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لملاحقة المشركين في غزوة حمراء الأسد يهدف لتحقيق مجموعة من المقاصد المهمة منها: 1 - ألا يكون آخر ما تنطوي عليه نفوس الذين خرجوا يوم أحد هو الشعور بالهزيمة.   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص142 .. (2) عارضيك: هما جانبا الوجه، لسان العرب (2/ 742). (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 116). (4) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المرء (7/ 134) رقم 6133. (5) انظر: البداية والنهاية (4/ 53). (6) المحرر الوجيز لابن عطية (3/ 411). (7) مرويات غزوة أحد للباكري، ص367، 369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 2 - إعلامهم أن لهم الكرة على أعدائهم متى نفضوا عنهم الضعف والفشل واستجابوا لدعوة الله ورسوله. 3 - تجرئة الصحابة على قتال أعدائهم. 4 - إعلامهم أن ما أصابهم في ذلك اليوم إنما هو محنة وابتلاء اقتضتها إرادة الله وحكمته وأنهم أقوياء، وأن خصومهم الغالبين في الظاهر ضعفاء (1). كما أن في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد إشارة نبوية إلى أهمية استعمال الحرب النفسية للتأثير على معنويات الخصوم، حيث خرج صلى الله عليه وسلم بجنوده إلى حمراء الأسد، ومكث فيها ثلاثة أيام، وأمر بإيقاد النيران فكانت تشاهد من مكان بعيد وملأت الأرجاء بأنوارها، حتى خيل لقريش أن جيش المسلمين ذو عدد كبير لا طاقة لهم به فانصرفوا، وقد ملأ الرعب أفئدتهم (2). قال ابن سعد: (ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه فكبت الله تعالى بذلك عدوهم) (3). سادسًا: مشاركة نساء المسلمين في معركة أحد: كانت غزوة أحد أول معركة في الإسلام تشارك فيها نساء المسلمين، وكان لهذا أثر بالغ في سقي المحاربين وتضميد الجرحى، وقد ظهرت بطولات النساء وصدق إيمانهن في هذه المعركة، فقد خرجن لكي يسقين العطشى ويداوين الجرحى، ومنهن من قامت برد ضربات المشركين الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم, وممن شاركن في غزوة أحد أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأم عمارة، وحمنة بنت جحش الأسدية، وأم سليط، وأم سليم، ونسوة من الأنصار (4)، قال ثعلبة بن أبي مالك - رضي الله عنه -: (إن عمر بن الخطاب قسم مروطًا بين نساء المدينة، فبقي مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله التي عندك, يريدون أم كلثوم بنت علي، فقال عمر - رضي الله عنه -: أم سليط أحق به من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنها كانت تزفر (5) لنا القرب يوم أحد (6)».   (1) انظر: في ظلال القرآن (1/ 519). (2) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص51. (3) انظر: الطبقات لابن سعد (2/ 49) (4) مسلم، كتاب الجهاد، باب غزو النساء، رقم 1779. (5) تزفر: تحمل القرب مملوءة بالماء. (6) البخاري، كتاب المغازي رقم 4071. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 أ- سقي العطشى من المجاهدين: عن أنس - رضي الله عنه - قال: (لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهن تنقزان (1) القرب، وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم (2). وقال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: رأيت أم سليم بنت ملحان وعائشة على ظهورهما القرب يحملانها يوم أحد، حمنة بنت جحش تسقي العطشى وتداوي الجرحى، وكانت أم أيمن تسقي الجرحى (3). ب- مداواة الجرحى ومواساة المصابين: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم، ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء ويداوين الجرحى (4). وأخرج عبد الرزاق عن الزهري: كان النساء يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد ويسقين المقاتلة ويداوين الجرحى (5). وعن الربيع بنت معوذ قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي القوم، ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة، وفي رواية: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة (6). وعن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد - رضي الله عنه - وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله، ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله، وعلي يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم (7).   (1) تنقزان: أي تحملان وتقفزان بها وثبا. (2) البخاري، كتاب الجهاد واليسر، باب غزو النساء رقم 2880. (3) انظر: المغازي للواقدي (1/ 249). (4) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزو النساء، رقم 1810. (5) البخاري فتح الباري لابن حجر (6/ 92) عند حديث رقم 2880. (6) البخاري، كتاب الجهاد والسير رقم 2882، 2883. (7) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4075. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 ج- الدفاع عن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم بالسيف: لم تقاتل المشركين يوم أحد إلا أم عمارة نسيبة المازنية -رضي الله عنها-, وهذا ضمرة ابن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحدًا تسقي الماء قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان» وكان يراها تقاتل يومئذ أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحًا، فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها، فعددت جراحها جرحًا جرحًا فوجدتها ثلاثة عشر جرحًا، وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها -وكان أعظم جراحها، لقد داوته سنة- ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم، ولقد مكثنا ليلنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمراء، ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني (1) -أخو أم عمارة- يسأل عنها، فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك (2). وقد علق الأستاذ حسين الباكري عن مشاركة نسيبة بنت كعب في القتال فقال: وخروج المرأة للقتال مع الرجل لم يثبت في ذلك منه شيء غير قصة نسيبة, وقتال نسيبة إنما كان اضطراريًا حين رأت أن رسول الله أصبح في خطر حين انكشف عنه الناس، فأم عمارة كانت في موقف أصبح حمل السلاح واجبًا على من يقدر على حمله رجلا كان أو امرأة (3). وعلق الدكتور أكرم ضياء العمري على الآثار الدالة في مشاركة النساء في أحد بقوله: وهذه الآثار تدل على جواز الانتفاع بالنساء عند الضرورة لمداواة الجرحى وخدمتهم إذا أمنت فتنتهن مع لزومهن الستر والصيانة، ولهن أن يدافعن عن أنفسهن بالقتال إذا تعرض لهن الأعداء، مع أن الجهاد فرض على الرجال وحدهم إلا إذا داهم العدو ديار المسلمين فيجب قتاله من الجميع رجالا ونساء (4). وأما الأستاذ محمد أحمد باشميل فقد قال: وقد كانت معركة أحد أول معركة قاتلت فيها المرأة المسلمة المشركين في الإسلام، ومن الثابت أن امرأة واحدة فقط اشتركت في هذه المعركة، وهي تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه من الثابت أيضًا أن المرأة التي اشتركت في معركة أحد، لم تخرج بقصد القتال فهي لم تكن مجندة فيها كالرجال، وإنما خرجت لتنظر ما يصنع الناس لتقوم بأية مساعدة يمكنها القيام بها للمسلمين كإغاثة الجرحى بالماء وما شابه ذلك، يضاف إلى هذا أن هذه المرأة التي خاضت معركة أحد هي امرأة قد تخطت سن   (1) أخو أم عمارة: انظر الذهبي سير أعلام النبلاء (2/ 278). (2) المغازي للواقدي (1/ 269، 270). (3) انظر: مرويات غزوة أحد، ص254. (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 391). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 الشباب، كما أنها لم تخرج إلى المعركة إلا مع زوجها وابنيها الذين كانوا من الجند الذين قاتلوا في المعركة، يضاف إلى هذا الرصيد الهائل الذي لديها من المناعة الخلقية والتربية الدينية، فلا يقاس على هذه الصحابية الجليلة مجندات هذا الزمان اللواتي يرتدين لباس الميدان وعنصر الإغراء والفتنة هو أهم عنصر يتميزن به ويحرصن على إظهاره للرجال فأين الثرى من الثريا؟ كذلك رجال ذلك العصر لا يقاس عليهم أحد من رجال هذا الزمان من ناحية الشهامة والاستقامة والعفة والرجولة، فكل المحاربين الذين اشتركت معهم امرأة في معركة أحد كانوا صفوة الأمة الإسلامية ورمز نبلها وشهامتها وعنوان رجولتها واستقامتها، فلا يصح مطلقًا جعل اشتراك تلك المرأة في معركة أحد قاعدة تقاس عليها (من الناحية الشرعية) إباحة تجنيد المرأة في هذا العصر لتقاتل بجانب الرجل (كعنصر أساسي من عناصر الجيش) , فالقياس في هذه الحالة قياس مع الفارق وهو قياس باطل قطعًا (1). سابعًا: دروس في الصبر تقدمها الصحابيات للأمة: أ- صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها: لما استُشهد أخوها حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - في أحد وجاءت لتنظر إليه وقد مثل به المشركون؛ فجدعوا أنفه وبقروا بطنه، وقطعوا أذنيه ومذاكيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: «القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها» فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه قد مُثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فلما جاء الزبير بن العوام - رضي الله عنه - إلى رسول الله فأخبره بذلك، قال: «خلِّ سبيلها» فأتته فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت (2) , واستغفرت له (3). ب- حمنة بنت جحش رضي الله عنها: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن أصحابه -رضي الله عنهم- ركب فرسه وخرج المسلمون حوله راجعين إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمنة: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «أخوك عبد الله بن جحش» قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون, غفر الله له, هنيئًا له الشهادة, ثم قال لها: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «خالك حمزة بن عبد المطلب» قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له، هنيئا له الشهادة، ثم قال لها: «احتسبي» قالت: من يا رسول الله؟ قال: «زوجك مصعب بن عمير»، قالت: واحزناه، وصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن زوج المرأة منها لبمكان»   (1) انظر: غزوة أحد، محمد باشميل، ص171: 173. (2) استرجعت، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 108). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها، وصياحها على زوجها ثم قال لها: «ولم قلت هذا؟» قالت: يا رسول الله ذكرت يتم بنيه فراعني, فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم من الخلف (1). فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت منه محمدًا وعمران (2) وكان محمد بن طلحة أوصل الناس لولدها (3). ج- المرأة الدينارية رضي الله عنها: قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد, فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (4)، تريد صغيرة، وهكذا يفعل الإيمان في نفوس المسلمين. د- أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد الخزرجية رضي الله عنها: خرجت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه، فقال سعد: يا رسول الله، أمي, فقال رسول الله: «مرحبًا بها» فدنت حتى تأملت رسول الله فقالت: أما إذا رأيتك سالمًا، فقد أشوت (5) المصيبة، فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: «يا أم سعد، أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعًا، وهم اثنا عشر رجلاً، وقد شفعوا في أهليهم» قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خُلفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم, وأحسن الخلف على من خُلفوا» (6). * * * المبحث الرابع بعض الدروس والعبر والفوائد لقد وصف القرآن الكريم غزوة أحد وصفًا دقيقًا، وكان التصوير القرآني للغزوة أقوى حيوية ووضوحًا من الروايات التي جاءت في الغزوة، كما أن أسلوب الآيات المطمئنة المبشرة واللائمة، والمسكنة والواعظة كان رائعًا وقويًا، فبين القرآن الكريم نفوس جيش النبي صلى الله عليه وسلم,   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 47) , غزوة أحد دراسة دعوية، ص236. (2) انظر: الإصابة (8/ 88) رقم 11060. (3) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص109. (4) انظر: البداية والنهاية (4/ 48). (5) أشوت: صارت صغيرة خفيفة. (6) انظر: مغازي الواقدي (1/ 315، 316). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وهذا تميز لحديث القرآن عن الغزوة، ينفرد به عما جاء في كتب السيرة, فسلط القرآن الكريم الأضواء على خفايا القلوب، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم، والناظر عموما في منهج القرآن في التعقيب على غزوة أحد، يجد الدقة والعمق والشمول. يقول سيد قطب: الدقة في تناول كل موقف، وكل حركة، وكل خالجة، والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة، والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث. كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء، بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجًا عميقًا عنيفًا، ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب فهو وصف حي، يستحضر المشاهد، كما لو كانت تتحرك، ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ، والإيحاء المثير (1). إن حركة النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وإقامة الدولة والتمكين لدين الله، تعتبر انعكاسًا في دنيا الحياة لمفاهيم القرآن الكريم التي سيطرت على مشاعره، وأفكاره وأحاسيسه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في علاجه لأثر الهزيمة في أحد تابع للمنهج القرآني الكريم، ونحاول تسليط الأضواء على بعض النقاط المهمة في هذا المنهج. أولا: تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني: قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ - هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ - وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 137 - 139]. إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يجد أن الله سبحانه وتعالى لم يترك المسلمين لوساوس الشيطان في محنة غزوة بدر، بل خاطبهم بهذه الآيات التي بعث بها الأمل في قلوبهم، وأرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ويخفف عنهم آلامهم (2). قال القرطبي: هو تسلية من الله تعالى للمؤمنين (3). ففي الآيات السابقة دعوة للتأمل في مصير الأمم السابقة التي كذبت بدعوة الله تعالى، وكيف جرت فيهم سنته على حسب عادته, وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم على أمره.   (1) في ظلال القرآن (1/ 532). (2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 190). (3) انظر: تفسير القرطبي (4/ 216). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وجاء التعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى التعجب، وتثير الاستغراب، وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المؤمنين؛ لأن هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه، ولكنهم لم يشكروه عليها، فأهلكهم بسبب طغيانهم (1). وفي قوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) دعاهم إلى ترك الضعف، ومحاربة الجبن، والتخلص من الوهن، وعدم الحزن؛ لأنهم هم الأعلون بسبب إيمانهم. ثانيًا: تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد: قال تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ - أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ - وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [آل عمران: 140 - 143]. بيَّن الله -سبحانه- لهم أن الجروح والقتلى يجب ألا تؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو؛ وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله من قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى (2). وقال صاحب الكشاف: والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم، ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال, فأنتم أولى أن لا تضعفوا (3). فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنه كان يوم أحد بيوم بدر، قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين فجعل الدولة عليهم (4). وقد ذكر الله تعالى أربع حكم لما حدث للمؤمنين في غزوة أحد وهي: تحقق علم الله تعالى وإظهاره للمؤمنين، وإكرام بعضهم بالشهادة التي توصل صاحبها إلى أعلى الدرجات, وتطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين، ومحق الكافرين واستئصالهم رويدًا رويدًا (5).   (1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 191). (2) انظر: تفسير الرازي (9/ 14). (3) انظر: تفسير الكشاف (1/ 465). (4) انظر: تفسير الرازي (4/ 105). (5) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 199). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 ثالثًا: كيفية معالجة الأخطاء: ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في أحد على عكس ما نزل في بدر من آيات، فكان أسلوب القرآن الكريم في محاسبة المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر, فقال في غزوة بدر: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 67، 68]. وقال في أحد: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152] وفي هذا حكمة عملية وتربية قرآنية يحسن أن يلتزمها أهل التربية والقائمون على التوجيه (1). رابعًا: ضرب المثل بالمجاهدين السابقين: قال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ - فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 146 - 148]. قال ابن كثير: عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدًا قد قتل, فعذَلهم الله على فرارهم وتركهم القتال (2). وضرب الله لهم مثلا بإخوانهم المجاهدين السابقين، وهم جماعة كثيرة، ساروا وراء أنبيائهم في درب الجهاد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا عن الجهاد بعد الذي أصابهم منه، وما استكانوا للعدو، بل ظلوا صابرين ثابتين في جهادهم، وفي هذا تعريض بالمسلمين الذين أصابهم الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، وضرب الله مثلا للمؤمنين لتثبيتهم بأولئك الربانيين وبما قالوه: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147] وهذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى نفوسهم -مع كونهم ربانيين- هضم لها   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص137. (2) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 410). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 واعتراف منهم بالتقصير ودعاؤهم بالاستغفار من ذنوبهم مقدم على طلبهم تثبيت أقدامهم أمام العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم النصر عن زكاة وطهارة وخضوع، وفي هذا تعليم للمسلمين إلى أهمية التضرع، والاستغفار وتحقيق التوبة. وتظهر أهمية ذلك في إنزال النصر على الأعداء (فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي وبذلك نالوا ثواب الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب الحسن في الآخرة، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء والتوجه إلى الله, وإحسانهم في موقف الجهاد, وكانوا بذلك مثلا يضربه الله للمسلمين المجاهدين، وخص الله تعالى ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه على ثواب الدنيا وأنه هو المعتمد عنده (1). خامسًا: مخالفة ولي الأمر تسبب الفشل لجنوده: ويظهر ذلك في مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعهم في الخطأ الفظيع الذي قلب الموازين، وأدى إلى الخسائر الفادحة التي لحقت بالمسلمين. ولكي نعرف أهمية الطاعة لولي الأمر، نلحظ أن انخذال عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين لم يؤثر على المسلمين، بينما الخطأ الذي ارتكبه الرماة الذين أحسن الرسول صلى الله عليه وسلم تربيتهم، وأسند لكل واحد منهم عملا، ثم خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم كان ضرره على المسلمين عامة، حيث سلط الله عليهم عدوهم، وذلك بسبب عصيان الأوامر، ثم اختلطت أمورهم وتفرقت كلمتهم، وكاد يُقضى على الدعوة الإسلامية وهي في مهدها. ونلحظ من خلال أحداث غزوة أحد: أن المسلمين انتصروا في أول الأمر حينما امتثلوا لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقادوا لتعليمات قائدهم وأميرهم عبد الله بن جبير - رضي الله عنه - , بينما انهزموا حينما خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم ونزل الرماة من الجبل لجمع الغنائم مع بقية الصحابة (2) رضي الله عنهم، قال تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 153]. يقول الشيخ محمد بن عثيمين: (ومن آثار عدم الطاعة ما حصل من معصية بعض الصحابة رضي الله عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وهم يجاهدون في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، والذي حصل أنه لما كانت الغلبة للمؤمنين، ورأى بعض الرماة أن المشركين انهزموا تركوا الموضع الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوه، وذهبوا مع الناس، وبهذا كر العدو عليهم من الخلف، وحصل ما حصل من الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله تعالى:   (1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 204). (2) انظر: غزوة أحد دارسة دعوية، ص207 - 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152] هذه المعصية التي فات بها نصر انعقدت أسبابه، وبدأت أوائله، هي معصية واحدة والرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، فكيف بالمعاصي الكثيرة؟ ولهذا نقول: إن المعاصي من آثارها أن الله يسلط بعض الظالمين على بعض بما كانوا يكسبون، ويفوتهم من أسباب النصر والعزة بقدر ما ظلموا فيه أنفسهم (1). سادسًا: خطورة إيثار الدنيا على الآخرة: وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث تبين منزلة الدنيا عند الله وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها, قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14]. وقد حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في أكثر من موضع، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السيئ على الأمة عامة وعلى من يحملون لواء الدعوة خاصة ومن ذلك: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (2) ويظهر للباحث أثر الحرص على الدنيا في غزوة أحد. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة: (أدركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم) وقال بعضهم: (لا نريم (3) حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم) (4) فنزلت: (مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ) [آل عمران: 152]. قال الطبري: قوله سبحانه: (مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا) يعني الغنيمة, قال ابن مسعود: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد (5) (مِنْكُم مَّن   (1) انظر: الطاعة والمعصية وأثرهما في المجتمع، محمد بن العثيمين نقلا عن غزوة أحد، ص211. (2) مسلم، رقم 2742. (3) لا نريم: لا نبرح المكان. (4) انظر: تفسير الطبري (3/ 474). (5) المصدر نفسه (3/ 474). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ). إن الذي حدث في أحد عبرة عظيمة للدعاة وتعليمًا لهم بأن حب الدنيا قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلبات الفوز بنعيمها، ويعصون أوامر الشرع الصريحة كما عصى الرماة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم الصريحة بتأويل ساقط، يرفعه هوى النفس وحب الدنيا، فيخالفون الشرع وينسون المحكم من أوامره، كل هذا يحدث ويقع من المؤمن وهو غافل عن دوافعه الخفية، وعلى رأسها حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة ومتطلبات الإيمان، وهذا يستدعي من الدعاة التفتيش الدائم الدقيق في خبايا نفوسهم واقتلاع حب الدنيا منها، حتى لا تحول بينهم وبين أوامر الشرع، ولا توقعهم في مخالفته بتأويلات ملفوفة بهوى النفس وتلفتها إلى الدنيا ومتاعها (1). سابعًا: التعلق والارتباط بالدين: قال ابن كثير: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان، ألا إن محمدًا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدًا، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام، فحصل ضعف ووهن وتأخر، عن القتال، ففي ذلك أنزل الله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه (2). وقد جاء في تفسير الآية السابقة، أن الرسل ليست باقية في أقوامها أبدًا, فكل نفس ذائقة الموت، ومهمة الرسول تبليغ ما أرسل به، وقد فعل، وليس من لوازم رسالته البقاء دائما مع قومه، فلا خلود لأحد في هذه الدنيا، ثم قال تعالى منكرًا على من حصل له ضعف لموت النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله، فقال تعالى: (أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) أي رجعتم القهقرى، وقعدتم عن الجهاد، والانقلاب على الأعقاب يعني الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد ومتطلباته: (وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) الذين لم ينقلبوا أو ظلوا ثابتين على دينهم متبعين رسوله حيًا أو ميتًا (3).   (1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 197). (2) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 441). (3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 200). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 لقد كان من أسباب البلاء والمصائب التي حدثت للمسلمين يوم أحد أنهم ربطوا إيمانهم وعقيدتهم ودعوتهم إلى الله لإعلاء كلمته بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الربط بين عقيدة الإيمان بالله ربًا معبودًا وحده وبين بقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا فيهم خالطه الحب المغلوب بالعاطفة، الربط بين الرسالة الخالدة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم البشر الذي يلحقه الموت كان من أسباب ما نال الصحابة -رضي الله عنهم- من الفوضى والدهشة والاستغراب، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أساس وجوب التأسي به في الصبر على المكاره، والعمل الدائب على نشر الرسالة، وتبليغ الدعوة ونصرة الحق، وهذا التأسي هو الجانب الأغرّ من جوانب منهج رسالة الإسلام؛ لأنه الدعامة الأولى في بناء مسيرة الدعوة لإعلاء كلمة الله ونشرها في آفاق الأرض، وعدم ربط بقاء الدين واستمرار الجهاد في سبيله ببقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا (1). قال ابن القيم: إن غزوة أحد كانت مقدمة وإرهاصًا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يُقتلوا, فإنهم إنما يعبدون رب محمد، وهو لا يموت فلو مات محمد أو قتل، لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينهم، وما جاء به فكل نفس ذائقة الموت، وما نُعت محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد, لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان، إن محمدًا قد قتل فقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] , والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه, وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله، وأعزهم وظفرهم وجعل العاقبة لهم) (2). قال القرطبي: (فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء) (3). وكلامه -رحمه الله- نفيس جدًا، فالذين ظنوا من قبل أن الإسلام قد انتهى بموت النبي صلى الله عليه وسلم، والذين يظنون أن ظهور الإسلام ودعوته متوقف على شخص بعينه، فهؤلاء وأولئك قد أخطأوا ولم يقدروا هذا الدين قدره، ولم يوفوه حقه؛ لأن ظهور هذا الدين وهيمنته على كل الأديان هو قدر الله عز وجل وسنته، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33].   (1) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/ 616). (2) انظر: زاد المعاد (3/ 224). (3) انظر: تفسير القرطبي (4/ 222). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 فسبب ظهور هذا الدين أنه حق وأنه هدى (1). في غزوة أحد نزل التشريع الإلهي بالعتاب على ما حدث منهم أثناء أحداث غزوة أحد, وعند موت الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التطبيق حيث (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حبرة (3) , فكشف عن وجهه صلى الله عليه وسلم ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها) (4). وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر - رضي الله عنه - فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أما بعد من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, قال الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر - رضي الله عنه - قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر - رضي الله عنه - تلاها فَعَقِرْت (5) حتى ما تقلُّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها, علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات (6). ثامنًا: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للرماة الذين أخطأوا والمنافقين الذين انخذلوا: أ- الرماة: إن الرماة الذين أخطأوا الاجتهاد في غزوة أحد لم يخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم خارج الصف، ولم يقل لهم إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر بعدما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف، بل قبل ضعفهم هذا في رحمة وعفو وفي سماحة، ثم شمل سبحانه وتعالى برعايته وعفوه جميع الذين اشتركوا في هذه الغزوة، رغم ما وقع من بعضهم من أخطاء جسيمة وما ترتب   (1) انظر: مرض النبي ووفاته وأثر ذلك على الأمة، خالد أبو صالح، ص20 نقلا عن غزوة أحد دراسة دعوية، ص191. (2) فتيمم: قصد. (3) الحبرة: نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن. (4) البخاري، كتاب المغازي، باب مرض رسول الله ووفاته، رقم4454. (5) عقرت: دهشت وتحيرت، وسقطت. (6) انظر: البخاري، كتاب المغازي، رقم 4454. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 عليه من خسائر فادحة، فعفا سبحانه وتعالى عفوًا غسل به خطاياهم ومحا به آثار تلك الخطايا, قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152] , وهناك أمر مهم يتصل بهذا العفو قد يترك أثرًا في نفوسهم يعوقها بعض الشيء, ذلك هو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حدث منهم، إنهم يشعرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي تحمل نتيجة تلك الأخطاء فلا بد أن ينالوا منه عفوًا تطيب به نفوسهم، وتتم به نعمة الله عليهم، لهذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عنهم وحثه على الاستغفار لهم، كما أمره أن يأخذ رأيهم والاستماع إلى مشورتهم، ولا يجعل ما حدث صارفًا له عن الاستفادة من خبراتهم ومشورتهم (1) , قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159]. ب- انخذال ابن سلول المنافق: كان هدف عبد الله ابن سلول بانسحابه بثلاثمائة من المنافقين، كان يريد أن يحدث بلبلة واضطرابًا في الجيش الإسلامي، لتنهار معنوياته ويتشجع العدو، وتعلو همته. وعمله هذا ينطوي على استهانة بمستقبل الإسلام، وغدر به في أحلك الظروف، وقد حاول عبد الله بن حرام أن يمنعهم من ذلك الانخذال إلا أنهم رفضوا دعوته (2) وفيهم نزل قول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) [آل عمران: 166 - 167]. فالبرغم من خطورة الموقف وحاجة المسلمين لهذا العدد, لقلة جيش المسلمين وكثرة جيش قريش إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك هؤلاء المنافقين وشأنهم، ولم يعرهم أي اهتمام، واكتفى بفضح أمرهم أمام الناس (3)، وكان لهذا الأسلوب أثره في توبيخ وإهانة ابن سلول، فعندما رجع رسول الله من غزوته من حمراء الأسد، أراد ابن سلول أن يقوم كعادته لحث الناس على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال الإمام الزهري: كان عبد الله بن أبي له مقام يقومه كل جمعة لا ينكسر له شرفًا في نفسه وفي قومه, وكان فيهم شريفًا, إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به, فانصروه   (1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص218. (2) المصدر نفسه، ص219. (3) نفس المصدر، ص220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس, قام يفعل ذلك كما كان يفعله, فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بُجرًا (1) , إن قمت أشدد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك ما لك؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب إلي رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفونني لكأنما قلت بجرًا أن قمت أشدد أمره, قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله، قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي (2). تاسعًا: «أحد جبل يحبنا ونحبه»: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم طَلَع له أحدٌ فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه» (3). وهذا يدل على دقة شعور النبي صلى الله عليه وسلم حيث قارن بين ما كسبه المسلمون من منعة التحصن والاحتماء بذلك الجبل، وما أودعه الله تعالى فيه من قابلية لذلك، فعبر عن ذلك بأرقى وشائج الصلة وهي المحبة، أفلا يعتبر هذا الوجدان الحي والإحساس المرهف مثلا أعلى على التخلق بخلق الوفاء؟. ألا إن الذي يعترف بفضل الحجارة الصماء، ويفضي عليها من الأخلاق السامية ما لا يتصف به إلا أفاضل العقلاء لجدير به أن يعترف بأدنى فضل يكون من بني الإنسان، وإن كان وفاؤه صلى الله عليه وسلم للجماد قد سما حتى حاز أرقى العبارات وأرقها, فأخلق ببني الإنسان الأوفياء أن ينالوا منه أعظم من ذلك، فضلا عمن تجمعه بهم الأخوة في الله تعالى (4). والحديث النبوي الشريف فيه كثير من المعاني منها ما ذكره الحميدي، ومنها ما قاله الأستاذ صالح الشامي حيث قال: والإنسان كثيرًا ما يربط بين المصيبة وبين مكانها أو زمانها .. وحتى لا تنسحب هذه العادة وتستمر بعد أن جاء الإسلام كان هذا القول الكريم بيانًا للحق، وابتعادًا عن الطيرة والتشاؤم، وذلك المعنى الذي يبقي الآثار السيئة في نفس الإنسان, ولا شك أن المسلمين سيقفون على أحد يتذكرون تلك المعركة فحتى لا يرتبط بفكرهم ذلك المعنى السيئ بين لهم أن المكان والزمان مخلوقات لله لا علاقة لهما ولا أثر بما يحدث فيهما، وإنما الأمر بيد الله تعالى، والاستشهاد في سبيل الله كرامة لصاحبه لا مصيبة، وهكذا تتسق المفاهيم في إطارها الإيماني, إذًا (أحد) يكرم ويحب انطلاقًا من هذا القول الكريم، وكيف لا يكرم وقد اختاره الله ليثوي فيه حمزة وأصحابه ممن اختارهم الله في   (1) بجرًا: شرًا. (2) انظر: البداية والنهاية (4/ 53). (3) انظر: صحيح البخاري، المغازي، رقم 4084. (4) انظر: التاريخ الإسلامي (5/ 198). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 ذلك اليوم فجادوا بأنفسهم ابتغاء مرضاته (1). عاشرًا: الملائكة في أحد: قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد، رجلين عليهما ثياب يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد, يعني جبريل وميكائيل، عليهما السلام (2). وهذا خاص بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تكفل بعصمته من الناس، ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أحد سوى هذا القتال، ذلك لأن الله تعالى وعدهم أن يمدهم؛ وجعل وعده معلقًا على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد (3) , قال تعالى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ - بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران: 124، 125]. حادي عشر: قوانين النصر والهزيمة من سورة الأنفال، وآل عمران: تحدثت سورة الأنفال عن غزوة بدر بشيء من التفصيل، وتحدثت سورة آل عمران عن غزوة أحد لكي تتعلم الأمة كثيرًا من المفاهيم، تتعلق بمفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الحياة والموت، ومفهوم النصر والهزيمة، ومفهوم الربح والخسارة، ومفهوم الإيمان والنفاق، ومفهوم المنحة والمحنة، ومن المفاهيم التي تعلمها الصحابة -رضي الله عنهم- من خلال أحداث بدر وأحد وسورتي الأنفال وآل عمران، قوانين النصر والهزيمة، وهذه القوانين قد بينتها الآيات الكريمة ويمكن تلخيصها في النقاط التالية: أ- النصر ابتداء وانتهاء، بيد الله عز وجل, وليس ملكًا لأحد من الخلق، يهبه الله لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء، مثله مثل الرزق، والأجل والعمل: (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 10]. ب- وحين يقدر الله تعالى النصر، فلن تستطيع قوى الأرض كلها الحيلولة دونه، وحين يقدر الهزيمة، فلن تستطيع قوى الأرض أن تحول بينه وبين الأمة, قال تعالى: (إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160]. ج- ولكن هذا النصر له نواميس ثابتة عند الله عز وجل, نحن بحاجة إلى فقهها, فلا بد أن تكون   (1) انظر: معين السيرة النبوية، ص427. (2) مسلم، كتاب الفضائل، باب في قتال جبريل وميكائيل (4/ 1802). (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 391). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الراية خالصة لله سبحانه عند الذين يمثلون جنده, قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]. ونصر الله في الاستجابة له، والاستقامة على منهجه والجهاد في سبيله. د- ووحدة الصف ووحدة الكلمة أساس في النصر، وتفريق الكلمة والاختلاف في الرأي دمار وهزيمة, قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46] .. هـ- وطاعة أمر الله تعالى ورسوله وعدم الخروج عليها أساس في النصر، أما المعصية فتقود إلى الهزيمة قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]. ووحب الدنيا والتهافت عليها يفقد الأمة عون الله ونصره, قال تعالى: (حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ) [آل عمران: 152]. ز- ونقص العدد والعدة ليس هو سبب الهزيمة، قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123]. ح- ولكن لا بد من الإعداد المادي والمعنوي لمواجهة العدو (1) , قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60]. ط- والثبات عند المواجهة، والصبر عند اللقاء من العوامل الرئيسية في النصر, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45]. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ لأَدْبَارَ) [الأنفال:15]. ي- ولا شيء يعين على الثبات والصبر عند اللقاء مثل ذكر الله الكثير, باتجاه القلب إلى الله وحده منزل النصر، وطلب العون منه، والتوكل عليه، وعدم الاعتماد على العدد أو العدة أو الذات, والتبرؤ من الحول والقوة، هو عامل أساسي من عوامل النصر (2) , قال   (1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص461، 462. (2) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45]. ثاني عشر: فضل الشهداء وما أعده الله لهم من نعيم مقيم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش, فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال عز وجل: أنا أبلغهم عنكم» فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات (1) , قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ - فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 169 - 171]. وقد جاء في تفسير الآيات السابقة ما رواه الواحدي عن سعيد بن جبير أنه قال: لما أصيب حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير يوم أحد، ورأوا ما رزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رغبة, فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ) إلى قوله: (وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (2). وروى مسلم بسنده عن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). قال: أما إنا سألنا عن ذلك، فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة، حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل, فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟! ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا, ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى, فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا» (3). ثالث عشر: الهجوم الإعلامي على المشركين: كان الإعلام في العهد النبوي يقوم على الشعر، وكان شعراء المشركين في بدر في موقف الدفاع والرثاء, وفي أحد حاول شعراء قريش أن يضخموا هذا النصر، فجعلوا من الحبة قبة، وأمام هذه الكبرياء المزيفة، انبرى حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة للرد على حملات المشركين الإعلامية التي قادها شعراؤهم كهبيرة بن أبي وهب، وعبد الله الزَّبَعْرَى   (1) انظر: تفسير الطبري (4/ 170). (2) انظر: أسباب النزول للواحدي، ص125، تفسير الطبري (4/ 269). (3) مسلم، كتاب الإمارة، باب أرواح الشهداء في الجنة (3/ 1887). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 وضرار بن الخطاب وعمرو بن العاص (1). وكانت قصائد حسان كالقنابل على المشركين، وقد أشاد بشجاعة المسلمين، حيث استطاعوا أن يقتلوا حملة المشركين، ويوبخ المشركين ويصفهم بالجبن حينما لم يستطيعوا حماية لوائهم حتى كان في النهاية بيد امرأة منهم، وولى أشرافهم وتركوه، وفي هذا الهجاء تذكير للمشركين بمواقف الذل والجبن التي تعرضوا لها في بداية المعركة، حتى لا يغتروا بما حصل في نهايتها من إصابة المسلمين. ولقد أصاب حسان من المشركين مقتلاً حينما عيرهم بالتخلي عن اللواء وإقدام امرأة منهم على حمله، وهذا يتضمن وصفهم بالجبن الشديد حيث أقدمت امرأة على ما نكلوا عنه (2). ومما قاله في شأن عمرة بنت علقمة الحارثية ورفعها اللواء: إذا عَضَلٌ سيقت إلينا كأنها ... جداية شركٍ معلمات الحواجب (3) أقمنا لهم طعنًا مبيرًا منكلاً ... وحُزناهم بالضرب من كل جانب (4) فلولا لواء الحارثية أصبحوا ... يباعون في الأسواق بيع الجلائب (5) وعندما أخذ اللواء من الحارثية غلام حبشي لبني طلحة، كان لواء المشركين قد أخذه صؤاب من الحارثية وقاتل به قتالاً عنيفًا قتل على أثره فرمى حسان بن ثابت أبياته في هذا الموضوع فقال: فخرتم باللواء وشر فخر ... لواء حين رد إلى صؤاب جعلتم فخركم فيه بعبد ... وألأم من يطا عفر التراب ظننتم، والسفيه له ظنون ... وما إن ذاك من أمر الصواب (6) ومما قاله كعب بن مالك - رضي الله عنه - في الرد على بعض شعراء قريش قال: أبلغ قريشاً وخير القول أصدقُه ... والصدقُ عند ذَوِي الألباب مقبول (7) أن قد قَتَلنا بقتلانا سَراتَكم ... أهل اللِّواء فَفيما يكثر القليل ويومَ بدرٍ لقيناكم لنا مدد ... فيه مع النصر ميكالٌ وجبريل إن تقتُلُونا فدين الحقِ فطرتُنا ... والقَتل في الحق عند الله تفضيل   (1) انظر: معين السيرة، ص252، 253. (2) انظر: التاريخ الإسلامي (5/ 21). (3) عضل: اسم قبيلة ابن خزيمة، الجداية: الصغير من أولاد الظباء. (4) مبيرًا: مهلكًا، ومنكلاً: قامعًا لهم ولغيرهم. (5) الجلائب: ما يجلب إلى الأسواق ليباع فيها. (6) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 87). (7) الألباب: العقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 وإن تَرَوا أمرنَا في رأيكم سَفَهاً ... فرأيُ من خالف الإسلام تضليل (1) ومن أعجب ما قرأت في المعركة الإعلامية بين المسلمين والمشركين محاولة ضرار بن الخطاب قبل إسلامه أن يفتخر ببدر على اعتبار النصر كان لرسول الله والمهاجرين وفي ذلك قوله: فإن تظفروا في يوم بدر فإنما ... بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر وبالنفر الأخيار هم أولياؤه ... يحامون في اللأواء والموت حاضر يعد أبو بكر وحمزة فيهم ... وبُدْ عن علي وسط من أنت ذاكر ويدعى أبو حفص وعثمان منهم ... وسعد إذا ما كان في الحرب حاضر أولئك لا من نتجت من ديارها ... بنو الأوس والنجار حين تفاخر (2) وهكذا حولها إلى لغة قبلية تقوم على مفاهيم جاهلية ولقد أجابه كعب - رضي الله عنه -: وفينا رسول الله والأوس حوله ... له معقل منهم عزيز وناصر وجمع بني النجار تحت لوائه ... يمسون في المأذى والنقع ثائر إلى أن قال: وكان رسول الله قد قال أقبلوا ... فولوا وقالوا: إنما أنت ساحر لأمر أراد الله أن يهلكوا به ... وليس لأمر حمه النار زاجر كما أجابه بقوله: وبيوم بدر إذ نرد وجوههم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد وهو أفخر بيت قالته العرب كما قال صاحب العقد الفريد (2). * * *   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 3/ 164. (2) انظر: معين السيرة، ص252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 الفصل العاشر أهم الأحداث ما بين أحد والخندق المبحث الأول محاولات المشركين لزعزعة الدولة الإسلامية كانت غزوة أحد مشجعة لأعداء الدولة الإسلامية على مواجهتها، وساد الشعور لدى الأعراب المشركين، بإمكان مناوشة المسلمين والتغلب عليهم، واتجهت أنظار المشركين من الأعراب إلى غزو المدينة لاستئصال شأفتهم، وكسر شوكتهم، فطمعت بنو أسد في الدولة الإسلامية، وشرع خالد بن سفيان الهزلي لجمع الحشود لكي يهاجم بها المدينة، وتجرأت عضل والقارة على خداع المسلمين، وقام عامر بن الطفيل يقتل القراء الدعاة الآمنين، وحاولت يهود بني النضير أن تغتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصدى لهذه المحاولات الماكرة الحبيب المصطفى بشجاعة فائقة، وسياسة ماهرة، وتخطيط سليم، وتنفيذ دقيق. أولاً: طمع بني أسد في الدولة الإسلامية: بلغت النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة عيونه المنبثة في الجزيرة العربية أخبار الاستعدادات التي قام بها بنو أسد بن خزيمة بقيادة طليحة الأسدي من أجل غزو المدينة طمعا في خيراتها، وانتصارا لشركهم، ومظاهرة لقريش في عدوانها على المسلمين، فسارع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تشكيل سرية في مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وأمَّر عليهم أبا سلمة بن عبد الأسد (1)، المخزومي وعقد له لواء، وقال له: «سر حتى تنزل أرض بني أسد، فأغر عليهم قبل أن تتلاقى عليك جموعهم» (2). فسار إليهم أبو سلمة في المحرم (3) فأغار على أنعامهم، ففروا من وجهه فأخذها، ولم يلق عناء في تشتيت أعداء الإسلام، وعاد إلى المدينة مظفرًا، وأبو سلمة يعد من السابقين إلى الإيمان ومن خيرة الرعيل الأول، وقد عاد من هذه الغزوة متعبًا، إذ نَغَر جرحه الذي أصابه في (أحد) فلم يلبث حتى مات (4). ونلحظ في هذه السرية عدة أمور منها: الدقة في التخطيط الحربي عند   (1) انظر: نضرة النعيم (1/ 313). (2) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، ص162، 163. (3) انظر: زاد المعاد (3/ 243). (4) فقه السيرة للغزالي، ص274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 النبي صلى الله عليه وسلم حيث فرق أعدائه قبل أن يجتمعوا, فذهلوا لمجيء سرية أبي سلمة وهم يظنون أن المسلمين قد أضعفتهم وقعة أحد وأذهلتهم عن أنفسهم، فأصيب المشركون بالرعب من المسلمين، ووهنت عزيمتهم، وانشغلوا بأنفسهم عن مهاجمة المدينة، وتظهر دقة المسلمين في الرصد الحربي واختيارهم التوقيت الصحيح والطريق المناسب، حيث وصلوا إلى الأعداء قبل أن يعلموا عنهم أي شيء رغم بعد المسافة، وكان هذا هو أهم عوامل نجاح المسلمين في هذه السرية، وتركت هذه السرية في نفوس الأعداء شعورًا مؤثرًا على معنوياتهم، ألا وهو قناعتهم بقدرة المسلمين على الاستخفاء والقيام بالحروب الخاطفة المفاجئة تجعلهم يمتلئون رعبا منهم ويتوقعون الإغارة في أي وقت، وهذا الشعور حملهم على الاعتراف بقوة المسلمين، ومسالمتهم (1). ثانيًا: خالد بن سفيان الهذلي وتصدي عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - له: قام خالد بن سفيان الهذلي يجمع المقاتلة من هذيل وغيرها في عرفات، وكان يتهيأ لغزو المسلمين في المدينة مظاهرة لقريش، وتقربًا إليها، ودفاعًا عن عقائدهم الفاسدة، وطمعًا في خيرات المدينة, فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي عبد الله بن أنيس الجهني إليه بعد أن كلفه مهمة قتله (2). وهذا عبد الله بن أنيس يحدثنا بنفسه قال - رضي الله عنه -: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني» وهو بعرنة فأته فاقتله، قال: قلت: يا رسول الله انعته حتى أعرفه، قال: «إذا رأيته وجدت له قشعريرة». قال: فخرجت متوشحًا بسيفي، حتى وقعت عليه بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، حين كان وقت العصر, فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أوميء برأسي الركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل، قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا، قال: أجل أنا في ذلك، قال: فمشيت معه شيئا، حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني فقال: «أفلح الوجه» قال: قلت: قتلته يا رسول الله، قال: «صدقت»، قال: ثم قام معي رسول الله فدخل في بيته فأعطاني عصا، فقال: «أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس». قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك؟ قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: «آية بيني وبينك يوم   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 23). (2) انظر: نظرة النعيم (1/ 313). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 القيامة، إن أقل الناس المختصرون (1) يومئذ يوم القيامة» فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعًا) (2). وفي هذا الخبر فوائد ودروس وعبر منها: 1 - دقة الرصد الحربي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي للجانب الأمني أهميته؛ ولذلك كان يتابع تحركات الأعداء، ويعد بعد ذلك الحلول المناسبة للمشكلات والأزمات في وقتها الملائم، ولذلك لم يمهل خالد بن سفيان حتى يكثر جمعه ويشتد ساعده، بل عمل على القضاء على الفتنة وهي في أيامها الأولى بحزم؛ وبذلك حقق للأمة مكاسب كبيرة وقلل التضحيات المتوقعة من مجيء خالد بن سفيان بجيش لغزو المدينة، وهذا العمل يحتاج لقدرة في الرصد الحربي، وسرعة في اتخاذ القرار. 2 - فراسة النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الرجال: كان صلى الله عليه وسلم يتمتع بفراسة عظيمة في اختيار الرجال ومعرفة كبيرة لذوي الكفاءات من أصحابه، فكان يختار لكل مهمة من يناسبها، فيختار للقيادة من يجمع بين سداد الرأي وحسن التصرف والشجاعة، ويختار للدعوة والتعليم من يجمع بين غزارة العلم ودماثة الخلق والمهارة في اجتذاب الناس، ويختار للوفادة على الملوك والأمراء من يجمع بين حسن المظهر وفصاحة اللسان وسرعة البديهة، وفي الأعمال الفدائية يختار من يجمع بين الشجاعة الفائقة وقوة القلب والمقدرة على التحكم في المشاعر (3). فقد كان عبد الله بن أنيس الجهني قوي القلب ثبت الجنان، راسخ اليقين، عظيم الإيمان (4). وبجانب هذه الصفات العظيمة التي أهلته لهذه المهمة فهناك سبب آخر فقد كان يمتاز بمعرفة مواطن تلك القبائل لمجاورتها ديار قومه (جهينة) (5). 3 - المكافأة على هذا العمل أخروية: لم تكن المكافأة على هذا العمل العظيم الجريء مادية دنيوية كما يتمناه الكثير ممن يقوم بالمهمات الشاقة في جيوش العالم قديما وحديثا، بل كانت أسمى من ذلك وأعظم فهي وسام شرف أخروي قليل من يناله (6) , فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- وسائر المتقين لا ينتظرون جزاء في   (1) المختصرون: أو المتخصرون: والمراد هنا يأتون يوم القيامة ومعهم أعمال صالحة يتكئون عليها. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص319. (3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 27). (4) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/ 50، 51). (5) انظر: غزوة أحد، محمد باشميل، ص31. (6) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص159، 160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 الدنيا, ولو حصلوا على شيء من متاع الدنيا فإنه لا يعتبر عندهم شيئًا كبيرًا، وإنما ينتظرون جزاءهم في الآخرة, ولهذا كانت مكافأة عبد الله بن أنيس تلك العصا التي ستكون علامة بينه وبين رسول الله يوم القيامة، وهذا يدل على علو مكانته في الآخرة (1). 4 - بعض الأحكام الفقهية: تضمن هذا الخبر بعض الأحكام والفوائد منها (صلاة الطالب) قال الخطابي: واختلفوا في صلاة الطالب، فقال عوام أهل العلم: إذا كان مطلوبًا كان له أن يصلي إيماء، وإذا كان طالبًا نزل إن كان راكبًا وصلى بالأرض راكعًا وساجدًا (2)، وكذلك قال ابن المنذر (3)، أما الشافعي فشرط شرطًا لم يشترطه غيره، قال: إذا قل الطالبون عن المطلوبين، وانقطع الطالبون عن أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين عليهم فإذا كان هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماء. قال الخطابي: وبعض هذه المعاني موجودة في قصة عبد الله بن أنيس (4)، وقد ذكر بدر العيني في عمدة القاري مذاهب الفقهاء في هذا الباب، فعند أبي حنيفة: إذا كان الرجل مطلوبًا فلا بأس بصلاته سائرًا، وإن كان طالبًا فلا، وقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء, كل واحد منهما يصلي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي في آخرين كقول أبي حنيفة, وهو قول عطاء والحسن والثوري وأحمد وأبي ثور. وعن الشافعي: إن خاف الطالب فوت المطلوب أومأ وإلا فلا (5). 5 - جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: يجوز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم, فعبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - أداه اجتهاده أن يصلي هذه الصلاة، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم, مما يدل على جواز الصلاة عند شدة الخوف بالإيماء (6). وهذا الاستدلال صحيح لا شك فيه؛ لأن عبد الله بن أنيس فعل ذلك في حياة النبي وذلك زمن الوحي، ومحال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع عليه (7). 6 - من دلائل النبوة: فقد وصف صلى الله عليه وسلم خالد بن سفيان الهذلي لعبد الله بن أنيس وصفًا دقيقًا دون أن   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 29). (2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص160. (3) المصدر نفسه، ص160. (4) معالم السنن للخطابي (2/ 42) حاشية واحد على سنن أبي داود. (5) انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري (6/ 263). (6) انظر: السرايا والبعوث، ص161. (7) انظر: عون المعبود، العظيم آبادي (4/ 129). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 يراه حتى أن ابن أنيس عندما رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجبًا كما وقع في رواية الواقدي: (يا رسول الله ما فرقت من شيء قط، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى آية ما بيني وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته» (1) وقد وجد عبد الله بن أنيس خالد الهذلي على الصفة التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله: فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله (2). 7 - ما قاله عبد الله بن أنيس من الشعر في قتله لخالد الهذلي: تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفري كل جيب مقدد تناولته والظعن خلفي وخلفه ... بأبيض من ماء الحديد المهند أقول له والسيف يعجم رأسه ... أنا ابن أنيس فارسًا غير قعدد وقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبي محمد وكنت إذا هم النبي بكافر ... سبقت إليه باللسان وباليد (3) ثالثًا: غدر قبيلتي عضل والقارة، وفاجعة الرجيع: اختلفت مرويات سرية الرجيع فيما بينها كثيرًا حول السبب الذي من أجله بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت الذي يورد البخاري بأنه إنما بعث عينًا لتجمع المعلومات عن العدو (4) , فإن مرويات أخرى بأسانيد صحيحة ورد فيها أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة وقالوا: (إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهونا ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام) (5) , ويظهر أن قبيلة هذيل قد سعت للثأر من المسلمين لخالد بن سفيان الهذلي فلجأت إلى الخديعة والغدر، وقد جزم الواقدي (6) بأن السبب هو أن بني لحيان وهم حي من هذيل، مشت إلى عضل والقارة، وجعلت لهم جعلا ليخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يخرج معهم من يدعوهم إلى الإسلام ويفقههم في الدين، فيكمنوا لهم ويأسروهم ويصيبوا بهم ثمنًا في مكة (7). وهكذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السرية التي تتألف من عشرة من الصحابة (8)، وجعل عليهم عاصم بن ثابت بن الأقلح أميرًا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة أغار بنو لحيان، وهم قريب من مائتي مقاتل، فألجأوهم إلى تل مرتفع بعد أن أحاطوا بهم من كل جانب، ثم أعطوهم   (1) انظر: مغازي الواقدي (2/ 532). (2) انظر: البيهقي, دلائل النبوة (4/ 41) من رواية موسى بن عقبة. (3) انظر: البداية والنهاية (4/ 143). (4) البخاري رقم 4086. (5) انظر: مغازي الواقدي (1/ 354، 355). (6) المصدر نفسه (1/ 354، 355). (7) انظر: نضرة النعيم (1/ 314). (8) البخاري رقم 4086. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 الأمان من القتل، ولكن قائد السرية أعلن رفضه أن ينزل في ذمة كافر (1) , وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبدًا، فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول: ما عِلَّتي وأنا جلد نابل ... النبل والقوس لها بلابل (2) تزل عن صفحتها المعابل ... الموت حق والحياة باطل وكل ما حمّ الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آثل إن لم أقاتل فأمي هابل (3) فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره، وكانوا يجردون كل من قتل من أصحابه, فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قُتل، وقد جرح رجلين وقتل واحدًا وكان يقول وهو يقاتل: أنا أبو سليمان ومثلي رامي ... ورثت مجدًا معشرًا كرامًا ثم شرعوا فيه الأسنة حتى قتلوه، وكانت سلافة بنت سعد بن الشُّهيد قد قُتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين: الحارث، ومسافعًا، فنذرت لأن أمكنها الله منه أن تشرب في قحف (4) رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت بذلك العرب وعلمته بنو لحيان, فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة، فبعث الله تعالى عليهم الدبر فحمته, فلم يدنُ إليه أحد إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيء كثير لا طاقة لأحد به، فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر، فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلاً ولم يكن في السماء سحاب في وجه من الوجوه، فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه (5). لقد قتل عاصم في سبعة من أفراد السرية بالنبال، ثم أعطى الأعراب الأمان من جديد للثلاثة الباقين, فقبلوا غير أنهم سرعان ما غدروا بهم بعد ما تمكنوا منهم, وقد قاومهم عبد الله بن طارق فقتلوه واقتادوا الاثنين إلى مكة، وهما خبيب وزيد بن الدثنة فباعوهما لقريش (6) , وكان ذلك في صفر سنة 4 هـ (7). فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل ليقتلوه بالحارث الذي كان خبيب قد   (1) انظر: نضرة النعيم (1/ 314). (2) بلابل: جمع بلبلة وبلبال، وهو شدة الهم. (3) انظر: مغازي الواقدي (1/ 355). (4) المصدر نفسه (1/ 355). (5) انظر المغازي للواقدي (1/ 356). (6) انظر: نضرة النعيم (1/ 314). (7) جوامع السير لابن حزم، ص176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 قتله يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بنات الحارث، استحد بها فأعارته، وغفلت عن صبي لها فجلس على فخذه، ففزعت المرأة لئلا يقتله انتقاما منه، فقال خبيب: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى، فكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد, وما كان إلا رزقًا رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو (1) , ثم قال: (اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا (2) ولا تبق منهم أحدًا) ثم قال: لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وكلهم مبدي العداوة جاهد ... عليَّ لأني في وثاق بمضيع وقد قربوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضَّعوا لحمي وقد ياس (3) مطمعي وقد خيروني الكفر، والموت دونه ... فقد ذرفت عيناي من غير مجزع وما بي حذار الموت إني لميت ... وإن إلى ربي إيابي ومرجعي ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا ... على أي شق كان في الله مضجعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ مُمزع فلست بمبدٍ للعدو تخشعًا ... ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي (4) فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدًا عندنا يضرب عنقه وأنك في أهلك، فقال: لا والله، ما يسرني أني في أهلي، وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه (5) , ثم قُتل وصلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بجذعه ليلا، فذهب به ودفنه (6). وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية وقتله بأبيه (أمية بن خلف الذي قتل ببدر)، وقد سأله أبو سفيان قبل قتله: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي.   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 399). (2) أي متفرقين في القتل واحدًا بعد واحد من التبديد. (3) ياس: لغة في يئس. (4) انظر: زاد المعاد (3/ 245). (5) انظر: زاد المعاد (3/ 245). (6) المصدر السابق (3/ 246). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا (1). وقد عرفت هذه الحادثة المفجعة بالرجيع نسبة إلى ماء الرجيع الذي حصلت عنده، وفي هذه الحادثة دروس وعبر وفوائد منها: 1 - فوائد ذكرها ابن حجر: وفي الحديث أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن، قال الحسن البصري: لا بأس بذلك, وقال سفيان الثوري: أكره ذلك. وفيه الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله وإثبات كرامة الأولياء، والدعاء على المشركين بالتعميم، والصلاة عند القتل وفيه إنشاد الشعر، وإنشاده عند القتل دلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه. وفيه أن الله يبتلي عبده المؤمن بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك ما فعلوه، وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيًّا وميتًّا، وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل، وإنما استجاب الله له من حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة, ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه (2). 2 - بين التسليم والقتال حتى الموت: يستدل مما سبق أن للأسير في يد العدو أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكن من نفسه ولو قتل، ترفعا عن أن يجري عليه حكم كافر، كما فعل عاصم، فإن أراد الترخص، فله أن يستأمن مترقبًا الفرصة مؤملاً الخلاص كما فعل خبيب وزيد، ولكن لو قدر الأسير على الهرب لزمه ذلك في الأصح، وإن أمكنه إظهار دينه بينهم, لأن الأسير في يد الكفار مقهور مهان، فكان من الواجب عليه تخليص نفسه من هوان الأسر ورقه (3). وهذا الحدث يفتح أمام المسلمين بابًا واسعًا في التعامل مع الأحداث في اختيارهم الأسر إذا طلبوا مظلومين, أو اختيارهم القتال حتى الموت, ما دام الطالب لا يطلبهم بعدل وما دامت السلطة غير إسلامية (4). 3 - تعظيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم: وفي الحديث يظهر تعظيم الصحابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن خبيبًا مع أنه في أسر   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 400). (2) انظر: فتح الباري (7/ 444، 445). (3) انظر: السيرة للبوطي، ص188، 189. (4) انظر: الأساس في السنة لسعيد حوى (2/ 622). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 المشركين، ويعلم أنه سيقتل بين عشية أو ضحاها, ومع ذلك كان حريصًا على سنة الاستحداد، واستعار الموسى لذلك، وفي هذا تذكير لمن يستهين بكثير من السنن، بل والواجبات بحجة أن لا ينبغي أن ينشغل المسلمون بذلك للظروف التي تمر بها الأمة، وفي الواقع لا منافاة بين تعظيم السنة والدخول في شرائع الإسلام كافة (1). 4 - الإسلام ينتزع الغدر والأحقاد: عندما استعار خبيب موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت المرأة: فغفلت عن صبي لي، تدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه فلما رأته فزعت منه فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله (2). إنه موقف رائع يدل على سمو الروح، وصفاء النفس، والالتزام بالمنهج الإسلامي فقد قال تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الإسراء: 15]. إنه الوفاء يتعلمه الناس ممن غدر بهم، إن الاستقامة طبيعة سلوك المسلم في حالتي الرخاء والشدة (3). وفي قول خبيب - رضي الله عنه -: (ما كنت لأفعل إن شاء الله) يشير هذا الأسلوب في البيان العربي إلى أن هذا الفعل غير وارد ولا متصور ولا هو في الحسبان، في هذا الظرف الحاسم، الذي قد يتعلق فيه الاستثناء، لموقع الضرورة، وإنقاذ المهج، لكن المبدأ الأصلي، الوفاء والكف عن البرءاء، لا تنهض له هذه الاعتبارات الموهومة (4). وهذا مثل من عظمة الصحابة رضي الله عنهم حين يطبقون أخلاق الإسلام على أنفسهم مع أعدائهم, وإن كانوا قد ظلموهم، وهذا دليل على وعيهم وكمال إيمانهم (5). 5 - حب النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة: إن حظ الصحابة من حبه صلى الله عليه وسلم كان أتم وأوفر, ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة وهم بقدره صلى الله عليه وسلم ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم؛ فبالتالي كان حبهم له صلى الله عليه وسلم أشد وأكبر (6). ففي حادثة الرجيع يظهر هذا الحب في الحوار الهادئ بين أبي سفيان وبين زيد بن الدثنة، إذ قال له أبو سفيان: أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإني جالس في   (1) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد، ص234. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص320 رواية غريبة. (3) انظر: معين السيرة، ص259. (4) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص153. (5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 38). (6) انظر: حقوق النبي على أمته، د. محمد التميمي (1/ 314) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 أهلي (1). وهذا الحب من الإيمان فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد فيهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (2). 6 - مما قاله حسان في ذم بني لحيان: تأثر المسلمون بمقتل أصحاب الرجيع تأثرًا بالغًا، وكان حسان - رضي الله عنه - بشعره يعبر عن حال المسلمين، فمن يستحق الهجاء هجاه، ومن يستحق المدح مدحه, فقال في هجاء بني لحيان: إن سرك الغدر صرفًا لا مراج له ... فأت الرجيع فسل عن دار لحيان قوم تواصوا بأكل الجار بينهم ... فالكلب والقرد والإنسان مثلان لو ينطق التيس يومًا قام يخطبهم ... وكان ذا شرف فيهم وذا شان (3) رابعًا: طمع عامر بن الطفيل في المسلمين وفاجعة بئر معونة (4 هـ) : عامر بن الطفيل زعيم من زعماء بني عامر كان متكبرًا متغطرسًا، طامعًا في الملك، وكان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سوف تكون له الغلبة على الجزيرة العربية؛ ولذلك جاء هذا المشرك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك السهل، ولي أهل المدر، أو أن أكون خليفتك من بعدك, أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء (4). فرفض صلى الله عليه وسلم تلك المطالب الجاهلية، وجاء إلى المدينة ملاعب الأسنة سيد بني عامر عم عامر بن الطفيل وقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأبى أن يسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني لا أقبل هدية من مشرك، فقال ملاعب الأسنة: فابعث إلى أهل نجد من شئت فأنا لهم جار، فبعث إليهم بقوم فيهم المنذر بن عمرو، وهو الذي يقال له المعتق ليموت أو أعتق الموت, فاستجاش (5) عليهم عامر بن الطفيل بني عامر فأبوا أن يطيعوه، وأبوا أن يخفروا ملاعب الأسنة، فاستجاش عليهم بني سليم فأطاعوه، فاتبعهم بقريب من مائة رجل رام فأدركهم ببئر معونة، فقتلوهم إلا عمرو بن أمية (6). ومن حديث أنس - رضي الله عنه - قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام، يقرأون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص154. (2) البخاري، كتاب الإيمان (1/ 72) رقم 21. (3) انظر: البداية والنهاية (4/ 70) (4) البخاري، رقم 4091 يقصد بألف أشقر وألف شقراء الخيل. (5) استجاش: طلب لهم الجيش وجمعه. (6) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم، قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حرامًا خال أنس, من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت وربِّ الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا» (1). وفي هذه الحادثة المؤلمة، والفاجعة المفجعة دروس وعبر وفوائد منها: 1 - لا بد للدعوة من تضحيات: رأينا كيف غدر حلفاء هذيل بأصحاب الرجيع من القراء، الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم معلمين ومفقهين في غزوة الرجيع، وها هنا عامر بن الطفيل يغدر بالسبعين القراء، الذين استنفروا للدعوة إلى الله، والتفقيه في دين الله في مجزرة رهيبة دنيئة، وذلك في يوم بئر معونة. وقد تركت هذه المصائب في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم آثارًا غائرة، بعيدة الأعماق حتى إنه لبث شهرًا يقنت في صلاة الفجر، داعيًا على قبائل سليم التي عصت الله ورسوله (2). فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: (سمع الله لمن حمده) من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سليم، على رعل وذكوان وعصية, ويؤمِّن من خلفه (3) , قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت (4). لكن ذلك لم يفت في عضد المسلمين، ولا فتر من حميتهم في الدعوة إلى الله, ولا كسر من عزمهم في مواصلة الدعوة وخدمة دين الله؛ لأن مصلحة الدعوة فوق الأنفس والدماء، بل إن الدعوة لا يكتب لها النصر إذا لم تبذل في سبيلها الأرواح، ولا شيء يمكن للدعوة في الأرض مثل الصلابة في مواجهة الأحداث والأزمات واسترخاص التضحيات من أجلها. إن الدعوات بدون قوى أو تضحيات، يوشك أن تكون بمثابة فلسفات وأخيلة تلفها الكتب وترويها الأساطير ثم تطوى مع الزمن. إن حادثتي الرجيع وبئر معونة تبصرنا بالمسئولية الضخمة عن دين الله، والدعوة إليه، ووضعت نصب أعيننا نماذج من التضحيات العظيمة التي قدمها الصحابة الكرام من أجل عقيدتهم   (1) مسلم في الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد رقم 677. (2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة ص151. (3) انظر: سنن أبي داود في الصلاة باب القنوت في الصلوات: 1443. (4) البخاري، رقم 4088. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 ودينهم ومرضاة ربهم. إن للسعادة ثمنًا، وإن للراحة ثمنًا، وإن للمجد والسلطان ثمنًا، وثمن هذه الدعوة: دم زكي يهراق في سبيل الله من أجل تحقيق شرع الله ونظامه, وتثبيت معالم دينه على وجه البسيطة (1). 2 - فزت ورب الكعبة: صاحب الكلمة حرام بن ملحان - رضي الله عنه - فعندما اخترق الرمح ظهره حتى خرج من صدره، وأصبح يتلقى الدم بيديه، ويمسح به وجهه ورأسه ويقول: (فزت ورب الكعبة) (2)؛ إن هذا المشهد يجعل أقسى القلوب وأعظمها تحجرًا يتأثر، ويستصغر نفسه أمام هؤلاء العظماء الذين لا تصفر وجوههم فزعًا من الموت، وإنما يعلوها البشر والسرور، وتغشاها السكينة والطمأنينة (3). وهذا المنظر البديع الرائع الذي لا يتصوره العقل البشري المجرد عن الإيمان جعل جبار بن سلمى وهو الذي طعن حرام بن ملحان يتساءل عن قول حرام: فزت ورب الكعبة، وهذا جبار يحدثنا بنفسه فيقول: إن مما دعاني إلى الإسلام، أني طعنت رجلا منهم يومئذ برمح بين كتفيه فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول: فزت ورب الكعبة، فقلت في نفسي: ما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: للشهادة فقلت: فاز لعمر الله، فكان سببًا لإسلامه (4). وهذا الموقف الخارق للعادة يدعونا للتساؤل: هل يتعرض الشهيد لألم الموت؟ وتأتينا الإجابة الشافية من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى في قوله: «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة» (5). فللشهيد منزلة خاصة عند الله، فجزاء الثمن الباهظ الذي يدفعه وهو روحه رخيصة في سبيل الله عز وجل, لم يبخسه أعدل العادلين حقه فكافأه مكافأة بست جوائز كل واحدة منها تعدل الدنيا بمن فيها، فعن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه» (6).   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص152. (2) البخاري في المغازي رقم 4091. (3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 50). (4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص243، 244، وابن هشام (3/ 207). (5) انظر: صحيح سنن الترمذي للألباني (2/ 132). (6) المصدر نفسه (2/ 129). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 هذا بالإضافة إلى الوسام المميز المشرف الذي يأتي به يوم القيامة، وجرحه كهيئة يوم جُرح: اللون لون الدم، والريح ريح مسك (1). كما أن حياة الشهداء لا تنتهي بمجرد موتهم، بل هم أحياء يرزقون ويتنعمون عند ربهم (2) , قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169]. 3 - عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم للغيب: إن حادثتي بئر معونة والرجيع وغيرهما تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، كما دلت على ذلك أدلة أخرى منها قوله عز وجل: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ) [الأعراف: 188]. فالله عز وجل وحده عالم الغيب، والرسل والملائكة لا يعلمون عن الغيب إلا ما علمهم ربهم عز وجل (3): (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) [الجن: 26]. 4 - الوفاء بالعهد: وقع عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - أسيرًا في بئر معونة، ولما علم عامر ابن الطفيل أنه من مضر أطلقه، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، فلما خرج عمرو قاصدا المدينة نزل في طريقه في ظلل والتقى برجلين من بني عامر، وكان معهم عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ فقال: من بني عامر، فأمهلهما، حتى ناما، عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله، فأخبره الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد قتلت قتيلين لأدينَّهما» (4). وهذا موقف رفيع فقد ودى صلى الله عليه وسلم ذينك الرجلين العامريين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري لكونهما يحملان عقدًا منه صلى الله عليه وسلم، ولم يؤاخذهما بما فعل بعض أفراد قومهما، وهذا يمثل منتهى القمة في الوفاء بالعهود. قد كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتبر عمل عمرو بن أمية جزاء من الانتقام الذي ينبغي أن يواجه به المجرمون المعتدون، ولكن ما ذنب الأبرياء حتى يؤخذوا بجريرة المعتدين من قومهم؟.   (1) المصدر السابق (2/ 128). (2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص245. (3) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية، ص237. (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 206). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 إن التوجيهات الإسلامية الرفيعة دفعت بالمسلمين ونبيهم صلى الله عليه وسلم إلى الرقي الأخلاقي الذي لا نظير له في دنيا الناس (1). 5 - الصحابي الجليل عامر بن فهيرة - رضي الله عنه -: لما قُتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو ابن أمية الضمري، قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر بن فهيرة، فقال: لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وُضع (2). 6 - حسان بن ثابت - رضي الله عنه - يحرض على قتل عامر بن الطفيل: كان حسان - رضي الله عنه - من رجالات المؤسسة الإعلامية، فكان يشن الحرب النفسية على الأعداء، وكان بجانبه كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة -رضي الله عنهم- فلم يتركوا حدثا من أحداث السيرة إلا قالوا فيه شعرًا، وكل قصيدة للكافرين يردون عليها بقصائد، وقد علمنا ما أحدثه شعر حسان في طرد كعب بن الأشرف اليهودي، وكان صلى الله عليه وسلم يتعهد شعراء الدولة الإسلامية ويشجعهم على خوض هذا الباب من الجهاد، فعلى المسلمين المعاصرين قادة وزعماء وعلماء وفقهاء وجماعات أن يرعوا شعراءهم ويشجعوهم لخوص هذا الجهاد العظيم (3). ولما بلغ حسان خبر أصحاب بئر معونة نظم أبياتًا تناقلتها الركبان يحث فيها ربيعة بن عامر ملاعب الأسنة ويحرضه بعامر بن الطفيل بإخفاره ذمة أبي براء: ألا من مبلغ عني ربيعًا ... فما أحدثت في الحادثان بعدي أبوك أبو الفعال أبو براء ... وخالك ما جد حكم بن سعد بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد تحكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد (4) فلما بلغ ربيعة بن أبي براء هذا الشعر، وكان الشعر عندهم أوجع من رشق النبل، وقطع السيوف للرقاب، وطعن النحور بالرماح، قام ربيعة بأخذ ثأر أبيه فضرب عامر بن الطفيل ضربة أشواه بها -أي لم تصب منه مقتلا- فوثب عليه قومه، وقالوا لعامر: اقتص، فقال: قد عفوت، وإن عشت فسأرى رأيي فيما أتى إليَّ (5). ومما قاله حسان وهو يبكي قتلى بئر معونة، ويخص المنذر بن عمرو - رضي الله عنه -:   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 50). (2) البخاري في المغازي رقم 4093. (3) انظر: الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية (2/ 656). (4) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/ 64). (5) المصدر نفسه (4/ 64). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 على قتلى معونة فاستهلي ... بدمع العين سحَّا غير نزْر (1) على خيل الرسول غداة لاقوا ... مناياهم ولاقتهم بقدْر (2) أصابهم الفناء بعقد قوم ... تُحُوّن عقد حبلهم بغدر (3) فيا لهفي لمنذر إذ تولى ... وأعنق في منيته بصبر (4) 7 - مصير عامر بن الطفيل العامري: استجاب الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فقد دعا على عامر بن الطفيل فقال: «اللهم اكفني عامرًا» (5) فأصيب الطاغية بمرض عضال وصفه صلى الله عليه وسلم بقوله: «غدة كغدة البعير» (6) وسماه صلى الله عليه وسلم بـ «الطاعون» , وهو وصف دقيق للطاعون الدبلي الذي يتميز (بارتفاع درجة الحرارة، وتضخم العقد الليمفاوية في منطقة الأُرب وتحت الإبط, وكذا تضخم الطحال) (7) وهو ما أصيب به عامر بن الطفيل حتى أصبح حبيسًا في بيت امرأة من قومه. لقد أصيب عامر بن الطفيل وتلاشت أحلامه بالتملك على أهل المدن في الجزيرة العربية, أو خلافة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما تلك الجيوش التي هدد النبي صلى الله عليه وسلم بها، فقد تحولت إلى آلام تحبسه في بيت امرأة قد ولى عنه الناس ونفروا منه خشية العدوى، ففقد صوابه، وصرخ بمن بقي حوله فقال: (غدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان، ائتوني بفرسي، فركبه فمات على ظهر فرسه) (8). هلك ذلك الجبار العنيد كالمجنون بعد أن تطاير الناس من حوله خوفًا على أنفسهم من العدوى (9). * * * المبحث الثاني زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المساكين وأم سلمة وأحداث متفرقة أولاً: زينب بنت خزيمة أم المساكين رضي الله عنها: هي زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية، فهي من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة. وكانت تسمى في الجاهلية «أم المساكين» لإطعامها إياهم، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في   (1) استهلي: أسبلي، والنزر: القليل. (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 209). (3) تحون: تنقضي (بالبناء للمجهول). (4) أعنق: أسرع، والعنق: ضرب من السير السريع، ابن هشام (3/ 209). (5) انظر: الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية (2/ 631). (6) انظر: السيرة النبوية، محمد الصوياني، ص130. (7) انظر: تعليق الدكتور قلعجي على الدلائل (3/ 346). (8) انظر: السيرة النبوية للصوياني، ص131. (9) انظر: السيرة النبوية للصوياني، ص131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرًا من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرًا، ودفنت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1). كانت زينب بنت خزيمة تحت عبد الله بن جحش بن رئاب الذي قتل في معركة أحد شهيدًا في سبيل الله تعالى، فتزوجها صلى الله عليه وسلم إكرامًا لها بعد أن فُجعت بقتل زوجها في معركة أحد، ولم يتركها أرملة وحيدة، فكأنه كافأها صلى الله عليه وسلم على فضائلها بعد مصاب زوجها (2). ثانيًا: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة رضي الله عنها: هي هند بنت أبي أمية حذافة بن المغيرة القرشية المخزومية، كانت زوجة ابن عمها أبي عبد الله بن عبد الأسد، وزوجها هذا هو ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم برة بنت عبد المطلب، وهو أيضا أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وقد هاجرت أم سلمة رضي الله عنها وزوجها أبو سلمة إلى الحبشة فرارًا بدينهما من المشركين, ثم رجعا إلى مكة وهاجرا إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون (3). 1 - حديث أم سلمة لأبي سلمة رضي الله عنهما: قالت أم سلمة لأبي سلمة: بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة، ثم لم تزوج إلا جمع الله بينهما في الجنة, فتعال أعاهدك ألا تزوَّج بعدي ولا أتزوج بعدك. قال: أتطيعينني؟ قالت: نعم, قال: إذا مت تزوجي، اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيرًا مني، لا يحزنها ولا يؤذيها، فلما مات قلت: من خير من أبي سلمة؟ فما لبث وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام على الباب فذكر الخطبة إلى ابن أخيها، أو ابنها فقالت: أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أتقدم عليه بعيالي، ثم جاء الغد فخطب (4). 2 - دعاء أم سلمة لما توفي زوجها: لما توفي زوجها أبو سلمة من أثر جراحات أصابته في قتاله للمشركين، وكانت تحبه وتجله، فلما مات أبو سلمة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات قال: «قولي: اللهم اغفر لي وله وأعقبني (5) منه عقبى حسنة» قالت: فقلت، فأعقبني الله من هو خير لي منه محمدًا صلى الله عليه وسلم (6).   (1) انظر: تفسير القرطبي (14/ 166). (2) انظر: المفصل في أحكام المرأة، عبد الكريم زيدان (11/ 469). (3) انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 202). (4) انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 203) وقال المحقق: أخرجه ابن سعد ورجاله ثقات. (5) وأعقبني: أي بدلني وعوضني منه، أي في مقابلته عقبى حسنة أي بدلاً صالحًا. (6) مسلم في الجنائز رقم 919. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 3 - حوار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة عندما خطبها: قال عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما: إن أم سلمة لما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردته، ثم خطبها عمر فردته، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: مرحبًا: أخبر رسول الله أني غيرى (1) , وأني مُصبية (2) , وليس أحد من أوليائي شاهدًا. فبعث إليها: «أما قولك: إني مصبية، فإن الله سيكفيك صبيانك، وأما قولك: إني غيرى فسأدعو الله أن يذهب غيرتك، وأما الأولياء فليس أحد منهم إلا سيرضى بي» (3). وفي رواية: إني امرأة قد أدبر من سني، فكانت إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها: «وأما السن فأنا أكبر منك» (4) وهكذا أحسن إليها صلى الله عليه وسلم الجواب، وما كان إلا محسنًا (5). قالت أم سلمة: يا عمر (أي ابنها) قم فزوِّج رسول الله صلى الله عليه وسلم (6)، قال ابن كثير في تعليقه على قول أم سلمة: قم يا عمر فزوج النبي صلى الله عليه وسلم: تعني قد رضيت وأذنت، فتوهم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبي سلمة، وقد كان ذاك صغيرًا لا يلي مثله العقد، وقد جمعت في ذلك جزءًا مفردًا بينت فيه الصواب في ذلك, ولله الحمد والمنة، وأن الذي ولي عقدها عليه ابنها سلمة بن أبي سلمة وهو أكبر (7) ولدها. 4 - تأثيث رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيت زينب ومعاملته لها: فلما وافقت على الزواج قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أني لا أنقصك مما أعطيت فلانة رحيين وجرتين ووسادة من أدم حشوها ليف» (8). وكانت أم سلمة قد ولدت طفلة من زوجها أبي سلمة بعد موته، فعندما تزوجها صلى الله عليه وسلم جعل يأتيها، فإذا جاء أخذت زينب فوضعتها في حجرها لترضعها, وكان صلى الله عليه وسلم حييًا كريمًا يستحي فيرجع ففعل ذلك مرارًا (9) , ففطن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وهو أخ لأم سلمة من أمها (سمية) الشهيدة التي قتلها أبو جهل، فأطلق قدميه نحو بيت أخته أم سلمة، فأخذ ابنة أخته ليسترضعها في بيته أو عند إحدى النساء، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين زناب؟» فقالت قريبة ابن أبي أمية   (1) غيرى: كثيرة الغيرة. (2) مصبية: أي ذات صبيان وأولاد صغار. (3) انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 203، 204) وإسناده صحيح. (4) انظر: الطبقات لابن سعد (8/ 90) رجاله ثقات، لكنه مرسل. (5) انظر: المفصل في أحكام المرأة (11/ 470). (6) انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 204) وإسناده صحيح. (7) انظر: البداية والنهاية (4/ 92). (8) انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 204). (9) المصدر نفسه (2/ 204). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 ووافقها عندها (1): أخذها عمار بن ياسر فقال صلى الله عليه وسلم: «إني آتيكم الليلة». قالت أم سلمة: فقمت فوضعت ثفالي (2) , وأخرجت حبات من شعير كانت في جرتي، وأخرجت شحمًا فعصدته، ثم بات، ثم أصبح, وقال حين أصبح: «إن بك على أهلك كرامة، فإن شئت سبّعت (3) لك وإن أسبع لك أسبع لنسائي (4) , وإن شئت ثلثت ثم درت» قالت: ثلِّث (5) , فأقام النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام عند أم سلمة ثم قال صلى الله عليه وسلم: «للبكر سبع وللثيب ثلاث» (6) هي مدة إقامة المتزوج عند زوجته إذا كان عنده غيرها. أقام صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة رضي الله عنها ثلاثة أيام سعيدة, ثم رتب لها يومًا كبقية زوجاته. 5 - تغيير اسم برة بنت أبي سلمة: تقول تلك الطفلة اليتيمة -رضي الله عنها-: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة حين تزوجها واسمي برة، فسمعها تدعوني برة، فقال: «لا تزكوا أنفسكم, فإن الله هو أعلم بالبرة منكن والفاجرة، سمِّها زينب». فقالت أم سلمة: فهي زينب (7). وهذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم, فقد كان يحب الأسماء الجميلة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يغير أسماء الأطفال فقط، بل كان للرجال والنساء والعجائز نصيب من ذلك الذوق النبوي الرفيع، فقد ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: شهاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنت هشام» (8). وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الرجل وله اسم لا يحبه حوله (9) , إلى اسم أجمل وألطف, وكان يفعل ذلك مع العجائز صلى الله عليه وسلم. فهذه عائشة رضي الله عنها تحدثنا، حيث تقول رضي الله عنها: (جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنت؟» قالت: جثامة المزنية. فقال: «بل أنت حسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟» قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله.   (1) أي: توافق مجيء النبي (مع زيارة تلك المرأة لأم سلمة). (2) هو ما يبسط تحت الرحى عند الطحن. (3) أي أقمت عندك سبعة أيام. (4) حديث حسن رواه ابن سعد (8/ 93). (5) انظر: السيرة النبوية كما جاءت من الأحاديث الصحيحة للصوياني (3/ 136). (6) حديث صحيح، صحيح الجامع للألباني (2/ 919). (7) سنده قوي رواه ابن إسحاق ومن طريقه البخاري في الأدب المفرد (821). (8) سنده حسن رواه البخاري في الأدب المفرد (825). (9) حديث حسن رواه الطبراني (17/ 119). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 فقرب إليه لحم، فجعل يناولها، فقلت: يا رسول الله لا تغمر يدك، فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: «إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان» (1). 6 - الحكمة في زواج أم سلمة: والحكمة في هذا الزواج -كما يقول صاحب تفسير المنار-: ليس لأجل التمتع المباح له، وإنما كان لفضلها الذي يعرفه المتأمل بجودة رأيها يوم الحديبية، ولتعزيتها أي بوفاة زوجها (2) , ولا ننسى كذلك أن أم سلمة من بني مخزوم أعز بطون قريش، وهي التي كانت تحمل لواء الحرب والمواجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووراء هذا الزواج تفتيت حقد هذه القبيلة وتقريب قلوب أبنائها، وتحبب إليهم ليدخلوا في الإسلام بعد أن صاروا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). وفي هذا الزواج فقه النبي صلى الله عليه وسلم في البناء الداخلي للأمة، وتأدية حق الشهداء في زوجاتهم، وحق هذه الزوجات من أن ينهلن من نور النبوة ما يشاء الله أن ينهلن لكي يبلغن عن رسول الله (4). وكانت أم سلمة آخر من مات من أمهات المؤمنين، وكانت وفاتها سنة إحدى وستين، وقد روت عن رسول الله أحاديث, يبلغ مسندها ثلاثمائة وثمانية وثمانين حديثًا، واتفق البخاري ومسلم على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بثلاثة عشر (5). لقد ساهمت في نشر العلم والحكمة عن رسول الله وبموتها انطفأ آخر مصباح من مصابيح أمهات المؤمنين طالما شع النور والهدى والعلم, فرضي الله عنها وأرضاها (6). ثالثًا: مولد الحسن بن علي رضي الله عنهما: قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: ولد الحسن في شعبان من السنة الرابعة وعلى هذا ولد الحسين قبل تمام السنة من ولادة الحسن، ويؤيده ما ذكره الواقدي أن فاطمة علقت بالحسين بعد مولد الحسن بخمسين ليلة. وجزم النواوي في التهذيب أن الحسن ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة (7). يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لما ولد الحسن سميته حربًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) سنده قوي رواه الحاكم (1/ 62) والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 517). (2) انظر: تفسير المنار (4/ 372). (3) انظر: التربية القيادية (3/ 356). (4) المصدر نفسه (3/ 357). (5) انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 210). (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 248، 249). (7) انظر: شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/ 10). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 فقال: «أروني ابني .. ما سميتموه؟» قلت: حربًا، قال صلى الله عليه وسلم: «بل هو حسن» (1). وهكذا غيَّر صلى الله عليه وسلم ذلك الاسم الحاد باسم جميل يدخل السرور والفرحة على القلب. فحمل المولود الجديد اسمه الجميل، وحمله صلى الله عليه وسلم بين يديه وقبله, وهذا أبو رافع يخبرنا عن ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أذن في أذني الحسن حين ولدته فاطمة بالصلاة (2). وحدثنا أبو رافع عن عقيقة الحسن فقال: لما ولدت فاطمة حسنًا قالت: ألا أعق عن ابني بدم (بكبشين؟) قال صلى الله عليه وسلم: «لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره من فضة على المساكين والأوفاض» وكان الأوفاض ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجين في المسجد أو الصفة، ففعلت ذلك (3). وأحب صلى الله عليه وسلم أن يقدم عقيقة الحسن، فعق عنه كبشين (4). وقد قال صلى الله عليه وسلم في العقيقة: «الغلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق رأسه» (5). رابعًا: زيد بن ثابت - رضي الله عنه - يتعلم لغة اليهود سنة 4هـ: وفي هذه السنة تعلم زيد بن ثابت كتابة اليهود، فعن خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتابة يهود ليقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتبوا إليه (6) , فتعلمه في خمسة عشر يومًا، وفي رواية أخرى أن رسول الله لما قدم المدينة ذ ُهب بزيد إلى رسول الله، وقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك رسول الله وقال: «يا زيد تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتاب» قال زيد: فتعلمت له كتابهم, ما مرت خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب (7). وبهذا الخبر يتضح أن للترجمان مكانة رفيعة في الدولة، إذ هو الذي يطلع على أسرار   (1) البخاري في الأدب (286). (2) أبو داود رقم 5105. (3) رواه الطبراني (3/ 30) بسند حسن. (4) انظر: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة للصوياني (3/ 106). (5) انظر: صحيح سنن الترمذي، الألباني، رقم (1522). (6) البخاري، كتاب الأحكام رقم 7195. (7) انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 429). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 الدولة وما يأتيها من مراسلات، أو ما ترسله من مخاطبات، إذ لا يصح أن يطلع كل إنسان على تلك الكتب الصادرة والواردة لئلا تختل الدولة وتكشف أسرارها؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بتعلم لغة اليهود (1) , وتعلم زيد بن ثابت لغة يهود في خمس عشرة يوما يدل على ذكاء مفرط، وقوة حافظة، وقد كان - رضي الله عنه - ممن حفظ القرآن كله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر كتاب الوحي بين يديه، وهو الذي تولى كتابة القرآن وحده في الصحف في عهد الصديق، وكان أحد كاتبي المصاحف في عهد عثمان - رضي الله عنه -، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا بتعلم لغة اليهود وكتابتهم يدل على أن الإسلام يحبب إلى المسلم أن يتعلم لغة غيره وكتابتهم، ويتعرف على علومهم ومعارفهم ولا سيما إذا دعت لذلك ضرورة (2). * * * المبحث الثالث إجلاء يهود بني النضير أصاب يهود المدينة، الخوف والرعب، طيلة الفترة التي تفصل بين مقتل كعب بن الأشرف، وبين معركة أحد التي جرت في شوال عام 3هـ، ولكن الهزيمة التي حلت بالمسلمين في تلك المعركة، أحيت في نفوس المشركين والمنافقين الأمل من جديد، بتحقيق مطامعهم وأغراضهم، وأزالت من قلوب اليهود الهلع على المصير، ومما ساهم في تبديد هذا الهلع عندهم مقتل أصحاب الرجيع، وبئر معونة, وبذلك لم يدم خوف اليهود طويلا وعادوا إلى أساليب الدس والمكر والخداع، وشرعوا في حشد حصونهم بالسلاح والعتاد للانقضاض على المسلمين ودولتهم, ثم صمموا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم والغدر به (3). أولاً: تاريخ الغزوة وأسبابها: أ- تاريخ الغزوة: يرى المحققون من المؤرخين أن غزوة بني النضير كانت بعد أحد في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة، وقد رد ابن القيم على من زعم أن غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر بقوله: وزعم محمد بن شهاب الزهري أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر، وهذا وَهْم منه، أو غلط عليه، بل الذي لا شك فيه: أنها بعد أُحُدٍ والذي كانت بعد بدر بستة أشهر، هي غزوة بني قينقاع، وقريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية (4).   (1) انظر: زيد بن ثابت، كاتب الوحي وجامع القرآن، صفوان داوودي، ص80، 81. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 249). (3) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص188، 189. (4) انظر: زاد المعاد (3/ 249). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 وقال ابن العربي: والصحيح أنها بعد أُحُد (1). وإلى هذا الرأي ذهب ابن كثير (2). ب- أسباب الغزوة: هناك مجموعة من الأسباب حملت النبي صلى الله عليه وسلم على غزوة بني النضير وإجلائهم من أهمها: 1 - نَقْض بني النضير عهودهم التي تحتم عليهم ألا يؤووا عدوًا للمسلمين، ولم يكتفوا بهذا النقض، بل أرشدوا الأعداء إلى مواطن الضعف في المدينة. وقد حصل ذلك في غزوة السويق (3) حيث نذر أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة بعد غزوة بدر، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو المدينة، فلما خرج في مائتي راكب قاصدًا المدينة قام سيد بني النضير سلام بن مشكم بالوقوف معه وضيافته وأبطن له خبر الناس، ولم تكن مخابرات المدينة غافلة عن ذلك (4). قال موسى بن عقبة صاحب المغازي: (كانت بنو النضير قد دسوا إلى قريش وحصونهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلوهم على العورة) (5). 2 - محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه عن طريق قباء إلى ديار بني النضير يستعينهم في دية القتيلين العامرين اللذين ذهبا ضحية جهل عمرو بن أمية الضمري بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما؛ وذلك تنفيذا للعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني النضير حول أداء الديات، وإقرارًا لما كان يقوم بين بني النضير وبين بني عامر من عقود وأحلاف. استقبل بنو النضير النبي صلى الله عليه وسلم بكثير من البشاشة والكياسة، ثم خلا بعضهم إلى بعض يتشاورون في قتله والغدر به، ويبدو أنهم اتفقوا على إلقاء صخرة عليه صلى الله عليه وسلم، من فوق جدار كان يجلس بالقرب منه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان برعاية الله وحفظه أدرك مقاصد بني النضير، إذ جاءه الخبر من السماء بما عزموا عليه من شر، فنهض وانطلق بسرعة إلى المدينة، ثم تبعه أصحابه بعد قليل (6). لم تكن مؤامرة بني النضير، التي أفشلها الله سبحانه وتعالى تستهدف شخص النبي صلى الله عليه وسلم   (1) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1765). (2) انظر: حديث القرآن عن الغزوات (1/ 254). (3) غزوة السويق كانت بعد بدر وقد تحدثت عنها. (4) انظر: تاريخ الطبري (2/ 284). (5) انظر: فتح الباري (7/ 332). (6) انظر: الواقدي (1/ 365) التاريخ السياسي والعسكري، ص190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 فحسب، بل كانت تستهدف كذلك دولة المدينة والدعوة الإسلامية برمتها؛ لذا صمم محمد صلى الله عليه وسلم على محاربة بني النضير، الذين نقضوا العهد والمواثيق معه وأمر أصحابه بالتهيؤ لقتالهم والسير إليهم (1). هذه الأسباب وغيرها أدت إلى غزوة بني النضير، وقد ذكَّر القرآن الكريم المؤمنين بهذه النعمة الجليلة وكيف نجى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من مكر يهود بني النضير, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المائدة: 11]. وقد أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها: أخرج الطبري عن أبي زياد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ليستعينهم في عقل أصحابه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: «أعينوني في عقل أصابني» فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ينتظرون وجاء رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال, فقال لأصحابه: لا ترون أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، ولا ترون شرًّا أبدًا. فجاءوا إلى رحى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم حتى جاء جبريل عليه السلام فأقامه من ثم, فأنزل الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به (2). وذكر محمد بن إسحاق ومجاهد وعكرمة وغير واحد (3) أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين، ووكلوا عمرو بن جحاش بذلك أن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار، واجتمعوا عنده أن يلقي الرحى من فوقه، فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ما تماروا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه فأنزل الله في ذلك هذه الآية (4). وقد رجَّح ابن جرير أن تكون الآية قد نزلت بسبب ما أضمره بنو النضير من كيد وسوء للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال: (وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك قول من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به ورسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه   (1) انظر: التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة، ص190. (2) انظر: تفسير ابن جرير (6/ 144، 145). (3) هذه الآثار وإن كان فيها ضعف يمكن أن تعضد لتصبح بمجموعها صالحة للاحتجاج بها. انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص145. (4) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 31). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 نبيهم صلى الله عليه وسلم مما كانت يهود النضير همت به من قتله وقتل من معه, يوم سار إليهم في الدية التي تحملها عن قتيلي عمرو بن أمية، وإنما قلنا بالصحة في تأويل ذلك؛ لأن الله عقب ذلك برمي اليهود بسوء صنائعها وقبيح فعالها، وخيانتها ربها وأنبياءها) (1). وقد وافق الدكتور محمد آل عابد ترجيح الطبري، وقال: لا مانع أن تكون الآية الكريمة نزلت بعد تلك الحوادث مجتمعة، فقد تعددت الحوادث والمنزل واحد، كما قال العلماء (2). ومعنى الآية الكريمة: أي اذكروا نعمة الله عليكم، التي من أكبر مظاهرها كفه عنكم أيدي اليهود الذين هموا أن يمدوا أيديهم بالسوء إلى نبيكم، وشارفوا أن ينفذوا مؤامرتهم الخبيثة، ولكن الله أحبط مكرهم ونجى نبيكم صلى الله عليه وسلم من شرورهم. ثم أمر -سبحانه- بتقواه والتوكل عليه, فقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). أي اتقوا الله -أيها المؤمنون- في رعاية حقوق نعمته، ولا تخلوا بشكرها, فقد أراكم قدرته، وتوكلوا عليه وحده، فقد أراكم عنايته بكم، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون (3). ثانيًا: إنذار بني النضير بالجلاء وحصارهم: أ- إنذار بني النضير: سجلت معظم كتب السيرة النبوية خبر إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بالجلاء خلال عشرة أيام، وقد أرسل صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إليهم، وقال له: «اذهب إلى يهود بني النضير، وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي؛ لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم مما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرًا، فمن رُئي بعد منكم ضربت عنقه» (4)، ولم يجدوا جوابًا يردون به سوى أن قالوا لمحمد بن مسلمة: يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس, فقال محمد: تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، فقالوا: نتحمل, فمكثوا أياما يعدون العدة للرحيل (5). وفي تلك المدة أرسل إليهم عبد الله بن أبي ابن سلول من يقول لهم: اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم (6) , ولا تخرجوا فإن معي   (1) انظر: تفسير الطبري (6/ 144، 145). (2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 251). (3) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 252). (4) انظر: طبقات ابن سعد الكبرى (2/ 57) , مغازي الواقدي (1/ 363 - 370). (5) انظر: تاريخ الطبري (2/ 552). (6) انظر: سيرة ابن هشام (3/ 212). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 من العرب وممن انضوى إلى قومي ألفين، فأقيموا, فهم يدخلون معكم حصونكم، ويموتون عن آخرهم قبل أن يصلوا إليكم (1). فعادت لليهود بعض ثقتهم وتشجع كبيرهم (حيي بن أخطب) وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم جدي بن أخطب يقول له: إنا لن نريم -أي لن نبرح- دارنا فاصنع ما بدا لك، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبَّر المسلمون معه، وقال: «حاربت يهود» (2). ب- ضرب الحصار وإجلاؤهم: وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم، فتحركت جيوش المسلمين صوبهم، وضربت عليهم الحصار لمدة خمس عشرة ليلة. وأمر صلى الله عليه وسلم بحرق نخيلهم، وقضى بذلك على أسباب تعلقهم بأموالهم وزروعهم, وضعفت حماستهم للقتال، وجزعوا وتصايحوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من يفعله, فما بال قطع النخيل وتخريبها؟ وألقى الله في قلوبهم الرعب، وأدرك بنو النضير أن لا مفر من جلائهم، ودب اليأس في قلوبهم وخاصة بعد أن أخلف ابن أبي وعده بنصرهم، وعجز إخوانهم أن يسوقوا إليهم خيرًا أو يدفعوا عنهم شرًا, فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسون منه أن يؤمنهم حتى يخرجوا من ديارهم. فوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال لهم: «اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة - وهي الدروع والسلاح- فرضوا بذلك» (3). ونقض اليهود سقف بيوتهم وعمدها وجدرانها لكي لا ينتفع منها المسلمون. وحملوا معهم كميات كبيرة من الذهب والفضة حتى أن سلام بن أبي الحقيق وحده حمل جلد ثور مملوءًا ذهبًا وفضة، وكان يقول: هذا الذي أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل (4). وحملوا أمتعتهم على ستمائة بعير، وخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن من خلفهم, حتى لا يشمت بهم المسلمون, فقصد بعضهم خيبر وسار آخرون إلى أذرعات الشام (5).   (1) انظر: تاريخ الطبري (2/ 553). (2) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (3/ 146). (3) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 257). (4) انظر: السيرة الحلبية (2/ 566). (5) انظر: السيرة الحلبية (2/ 565) , حديث القرآن الكريم (1/ 257). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 وقد تولى عملية إخراجهم من المدينة محمد بن مسلمة، بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1). وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فلما نزلوها دان لهم أهلها (2). ثالثا: الدروس والعبر في هذه الغزوة: تحدث القرآن الكريم عن غزوة بني النضير في سورة كاملة وهي سورة الحشر، وقد سمى حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- سورة الحشر بسورة بني النضير، ففي البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الحشر، قال: سورة بني النضير (3). وقد بينت هذه السورة ملابسات هذه الغزوة، وفصلت القول فيها، وبينت أحكام الفيء, ومن هم المستحقون له؟ وأوضحت موقف المنافقين من اليهود، كما كشفت عن حقائق نفسيات اليهود، وضربت الأمثال لعلاقة المنافقين باليهود، وفي أثناء الحديث عن الغزوة وجه سبحانه خطابه إلى المؤمنين وأمرهم بتقواه وحذرهم من معصيته، ثم تحدث سبحانه عن القرآن الكريم، وأسمائه وصفاته، وهكذا كان المجتمع المسلم يتربى بالأحداث على التوحيد وتعظيم منهج الله، والاستعداد ليوم القيامة. وبالتأمل في السورة يمكننا استخراج بعض الدروس والعبر من أهمها: أ- الثناء على الله وتمجيده: ابتدأت السورة بالثناء على الله، وأن الكون كله بجميع ما فيه من مخلوقات من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، ينزه الله ويمجده ويشهد بوحدانيته وقدرته وجلاله, وناطق بعظمته وسلطانه (4). قال تعالى: (سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحشر: 1]. كان استفتاح هذه السورة بالإخبار أن جميع من في السماوات والأرض، تسبح بحمد ربها، وتنزهه عما لا يليق بجلاله، وتعبده وتخضع لعظمته؛ لأنه العزيز، الذي قهر كل شيء، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يستعصي عليه عسير. الحكيم في خلقه وأمره، فلا يخلق شيئًا عبثًا، ولا يشرع ما لا مصلحة فيه، ولا يفعل إلا ما هو مقتض حكمته، ومن ذلك نصره لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب، من بني النضير حين غدروا برسوله، فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم، التي ألفوها وأحبوها (5).   (1) انظر: المغازي للواقدي (1/ 374)، اليهود في السنة المطهرة (1/ 321). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 212). (3) البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بن النضير رقم 4029. (4) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 327). (5) انظر: تفسير السعدي (3/ 327). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 ب- الرعب جند من جند الله: قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ - وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 2 - 4]. إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يتبين له أن الله هو الذي أخرج يهود بني النضير من ديارهم إلى الشام، حيث أول الحشر في حين أن كل الأسباب المادية معهم حتى اعتقدوا أنه لا أحد يستطيع أن يخرجهم من حصونهم لمتانتها وقوتها. لكن الله فاجأهم من حيث لم يحتسبوا, جاءهم من قلوبهم التي لم يتوقعوا أنهم يهزمون بها, فقذف فيها الرعب فإذا بهم يهدمون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وهذا الأسلوب القرآني الفريد يربي الأمة بالأحداث والوقائع, وهو يختلف تماما عن طريقة أهل السير، ويمتاز بأنه يكشف الحقائق ويوضح الخفايا، ويربط الأحداث بفاعلها الحقيقي وهو رب العالمين، ومن ذلك أنها بينت أن الذي أخرج بني النضير هو الله جل جلاله: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ). واستمرت الآية الكريمة تبين أن يهود بني النضير حسبوا كل شيء وأحاطوا بجميع الأسباب الأرضية، لكن جاءتهم الهزيمة من مكان اطمأنوا إليه وهو أنفسهم, فإذا الرعب يأتي من داخلهم، فإذا بهم ينهارون في أسرع لحظة، لذلك يجب على كل إنسان عاقل أن يعتبر بهذه الغزوة، وأن يعرف أن الله هو المتصرف في الأمور، وأنه لا تقف أمام قدرته العظيمة لا الأسباب ولا المسببات، فهو القادر على كل شيء، فعلى الناس أن يؤمنوا به تعالى ويصلحوا أمرهم، فإذا اتبعوا أمر الله أصلح الله لهم كل شيء، وأخرج أعداءهم من حيث لم يحتسبوا. إن هذه الغزوة درسٌ للأمة في جميع عصورها تذكرهم أن طريق النصر قريب وهو الرجوع إلى الله والاعتماد عليه والتسليم لشريعته، وتقديره حق قدره، فإذا عرف ذلك المؤمنون نصرهم الله ولو كان عدوهم قويًا وكثيرًا, فإن الله لا يعجزه شيء، وأقرب شاهد واقعي لذلك هو إجلاء بني النضير, وهي عبرة فليُعتبر بها، والسعيد من اعتبر بغيره. ثم أوضح سبحانه أنه لو لم يعاقبهم بالجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل, أما في الآخرة فلهم عذاب النار (1).   (1) انظر: حديث القرآن الكريم (1/ 270، 271). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 ج- تخريب ممتلكات الأعداء: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه وحاصر بني النضير تحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه, فما بال قطع النخل وتحريقها؟ (1) فأنزل الله عز وجل: (مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) (2) وقد توسع الشيخ محمد أبو زهرة في شرح هذه الآية فقال ما ملخصه بعد أن ساق آراء الفقهاء في ذلك: والذي ننتهي إليه بالنسبة لما يكون في الحرب من هدم وتحريق وتخريب أنه يستفاد من مصادر الشريعة وأعمال النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه: 1 - أن الأصل هو عدم قطع الشجر وعدم تخريب البناء؛ لأن الهدف من الحرب ليس إيذاء الرعية، ولكن دفع أذى الراعي الظالم وبذلك وردت الآثار. 2 - أنه إذا تبين أن قطع الشجر وهدم البناء توجبه ضرورة حربية لا مناص منها كأن يستتر العدو به ويتخذه وسيلة لإيذاء جيش المؤمنين, فإنه لا مناص من قطع الأشجار وهدم البناء، على أنه ضرورة من ضرورات القتال، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا وفي حصن ثقيف. 3 - أن كلام الفقهاء الذين أجازوا الهدم والقلع يجب أن يخرج على أساس هذه الضرورات، لا على أساس إيذاء العدو والإفساد المجرد، فالعدو ليس الشعب, إنما العدو هم الذين يحملون السلاح ليقاتلوا (3). د- تطوير السياسة المالية للدولة الإسلامية: بيَّن سبحانه وتعالى حكم الأموال التي أخذها المسلمون من بني النضير بعد أن تم إجلاؤهم, فقال تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحشر: 6]. وبيَّن سبحانه وتعالى أن الأموال التي عادت إلى المسلمين من بني النضير قد تفضل بها عليهم بدون قتال شديد؛ وذلك لأن المسلمين مشوا إلى أعدائهم ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً وافتتحها صلى الله عليه وسلم صلحًا، وأجلاهم، وأخذ أموالهم ووضعها حيث أمره الله، فقد كانت أموال بني النضير   (1) المصدر السابق نفسه (1/ 274). (2) انظر: تفسير الطبري (28/ 34). (3) انظر: خاتم النبيين للشيخ محمد أبو زهرة (2/ 265 - 269). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون (1) بخيل ولا ركاب (2)، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع (3) والسلاح عدة في سبيل الله (4). ثم بيَّن المولى عز وجل أحكام الفيء في قرى الكفار عامة, فقال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8]. فكانت هذه الغنيمة خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا تصرف فيه -أي الفيء- كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآيات. ولما غنم صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير، دعا ثابت بن قيس فقال: «ادع لي قومك»، قال ثابت: الخزرج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الأنصار كلها» فدعا له الأوس والخزرج. فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على أنفسهم ثم قال: «إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليَّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم». فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول الله، بل نقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا, وقالت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله (5). وقسم ما أفاء الله، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدًا من الأنصار شيئًا، غير أبي دجانة، وسهل بن حنيف لحاجتهما (6)، ومع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن الفيء كان خاصًّا له إلا أنه جمع الأنصار وسألهم عن قسمة الأموال لتطييب نفوسهم, وهذا من الهدي النبوي الكريم في سياسة الأمور. وكانت الغاية من هذا التوزيع تخفيف العبء عن الأنصار، وهكذا انتقل المهاجرون إلى دور بني النضير، وأعيدت دور الأنصار إلى أصحابها، واستغنى بعض المهاجرين مما يمكن أن يقال فيه: إن الأزمة قد بدأت بالانفراج (7).   (1) مما لم يوجف عليه المسلمون: الإيجاف هو الإسراع - أي لم يُعدوا في تحصيله خيلاً. (2) الركاب: هي الإبل التي يسافر عليها، ولا واحد لها من لفظها (3) الكراع: أي الدواب التي تصلح للحرب. (4) مسلم، كتاب الجهاد باب حكم الفيء رقم (1757). (5) مسلم، كتاب الجهاد باب حكم الفيء (3/ 1376) رقم 1757. (6) انظر: شرح الزرقاني على المواهب (3/ 86). (7) انظر: السيرة النبوية لصالح الشامي ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 إن قسمة أموال بني النضير أوجدت تطورًا كبيرًا في السياسة المالية للدولة الإسلامية, فقد كانت الغنائم الحربية قبل هذه الغزوة تقسم بين المحاربين بعد أن تأخذ الدولة الإسلامية خمسها لتصرف في مصارف معينة حددها القرآن الكريم، وبعد غزوة بني النضير، أصبحت هناك سياسة مالية جديدة فيما يتعلق بالغنائم، وخلاصتها: أن الغنائم الحربية أصبحت حسب السياسة الجديدة على نوعين: 1 - غنائم استولى عليها المجاهدون بحد سيوفهم، وهذه الغنائم تقسم بين المجاهدين بعد أن تأخذ الدولة خمسها لتصرفه في مصارفه الخاصة. 2 - غنائم يوقعها الله بأيدي المجاهدين دون قتال، وهذا النوع يختص رئيس الدولة الإسلامية بالتصرف فيه حسب ما يرى المصلحة في ذلك، يعالج به الأوضاع الاقتصادية في البلاد؛ فينقذ الفقراء من فقرهم، أو يشتري به سلاحًا، أو يبني به مدينة أو يصلح به طرقا أو ... وهذا يعني أنه قد أصبح لرئيس الدولة الإسلامية ميزانية خاصة يتصرف فيها تصرفًا سريعًا حسب مقتضيات المصلحة (1)، وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيتين اللتين أوضحتا سياسته عليه الصلاة والسلام في تقسيم فيء بني النضير إذ اختص به أناسًا دون آخرين العلة في ذلك في قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7]. أي لكي لا يكون تداول المال محصورًا فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط, والتعليل لهذه الغاية يؤذن بأن سياسة الشريعة الإسلامية في شؤون المال، قائمة في جملتها على تحقيق هذا المبدأ، وأن كل ما تفيض به كتب الشريعة الإسلامية من الأحكام المتعلقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يبغي من ورائه إقامة مجتمع عادل تتقارب فيه طبقات الناس وفئاتهم ويقضى فيه على أسباب الثغرات التي قد تظهر فيما بينها، والتي قد تؤثر على سير العدالة وتطبيقها. ولو طبقت أحكام الشريعة الإسلامية وأنظمتها الخاصة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزكاة ومنع للربا وقضاء على مختلف مظاهر الاحتكارات, لعاش الناس كلهم في بحبوحة من العيش قد يتفاوتون في الرزق، ولكنهم جميعًا مكتفون وليس فيهم كَلٌّ على آخر، وإن كانوا جميعًا يتعاونون (2). وبعد بيان العلة في توزيع أموال الفيء عقب سبحانه بأمر المسلمين بأن يأخذوا ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، وأن هذا من لوازم الإيمان، وأمرهم بالتقوى، فإن عقابه شديد وأليم للعصاة. قال تعالى: (مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ   (1) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص169. (2) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7]. أي: ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم فافعلوه، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شر وفساد. وقوله: (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوا ربكم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. وقوله: (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي فإن عقابه أليم وعذابه شديد لمن عصاه وخالف ما أمره به، قال المفسرون: والآية وإن نزلت في أموال الفيء إلا أنها عامة في كل ما أمر الله به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه من واجب, أو مندوب، أو مستحب, أو محرم، فيدخل فيها الفيء وغيره (1). وقد جاءت آيات كثيرة تربي الأمة على وجوب الانقياد لحكم الله تعالى، ولحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك في كل الأمور, قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم, فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم, واختلافهم على أنبيائهم» (2). هـ- فضل المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان: 1 - فضل المهاجرين: بينت الآيات الكريمة في سورة الحشر فضل المهاجرين على غيرهم، فهم لهم الدرجة الأولى، فقد اشتملت الآيات على أوصافهم الجميلة, وشهد الله لهم بالصدق, قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8]. 2 - فضل الأنصار: فقد وضحت الآيات فضل الأنصار، وقد وصفهم الله بهذه الصفات, قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]. 3 - فضل التابعين لهم بإحسان: وهم المتتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون في السر والعلانية لإخوانهم   (1) انظر: تفسير الرازي (29/ 28) , صفوة التفاسير (3/ 351). (2) مسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله (4/ 1830). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 الذين سبقوهم بالإيمان (1) , قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10]. وهكذا تحدثت السورة الكريمة عن صور مشرقة للمهاجرين، والأنصار, والتابعين لهم بإحسان. وموقف المنافقين في المدينة: بينت الآيات الكريمة حالة المنافقين، ووضحت موقفهم وتحالفهم مع إخوانهم من اليهود، وكشفت أيضا موقفهم من المسلمين، وموقف اليهود ونفسياتهم (2) , قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الحشر: 11]. يخبرنا المولى عز وجل عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم بمناصرتهم، وقوله: (لإِخْوَانِهِمُ) أي الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر, وهم يهود بني النضير، وجعلهم إخوانًا له لكون الكفر قد جمعهم، وإن اختلف نوع كفرهم، فهم إخوان في الكفر. ز- تحريم الخمر: حرمت الخمر ليالي حصار بني النضير (3) في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة (4)، وقد خضع تحريم الخمر لسنة التدرج، وكان ذلك التحريم على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي, حتى نزلت الآيات الحاسمة في النهي عنها من سورة المائدة، وفي ختامها (فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة: 91] قال المؤمنون في قوة وتصميم: قد انتهينا يا رب (5). وفي قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 219]. يقول سيد قطب رحمه الله: وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم, فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرًّا خالصًا, فالخير يلتبس بالشر، والشر يلتبس بالخير في هذه الأرض، ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر، فإذا كان الإثم في الخمر   (1) انظر: حديث القرآن الكريم (1/ 291). (2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 264). (3) المصدر نفسه (1/ 253). (4) انظر تفسير القرطبي (18/ 10). (5) انظر: الخصائص العامة للإسلام، للقرضاوي، ص181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 والميسر أكبر من النفع، فتلك علة تحريم ومنع وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع. هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامية القرآنية الربانية الحكيمة, وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته، ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر, عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسمًا منذ اللحظة الأولى. ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعبادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والتدرج، ويهيئ الظروف الواقعة التي تيسر التنفيذ والطاعة, فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك أمضى أمره منذ اللحظة الأولى في ضربة حازمة جازمة لا تردد فيها ولا تلفت، ولا مجاملة فيها ولا مساومة، ولا لقاء في منتصف الطريق؛ لأن المسألة هنا مسألة أساسية للتصور، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام. فأما الخمر والميسر، فقد كان الأمر أمر عادة وألفة، والعادة تحتاج إلى علاج، فبدأ بتحريك الوجدان الديني المنطقي التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع, وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيِكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 43]. والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة، وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي، إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترة حد العادة، أمكن التغلب عليها، حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الجازم الأخير لتحريم الخمر والميسر (1). (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة: 91]. ح- لا يحيق المكر السيِّئ إلا بأهله: كان مكر اليهود، وتآمرهم على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والدولة الإسلامية في غاية الخسة والوضاعة، وكانوا يريدون من مكرهم وغدرهم عزة ورفعة ومجدًا، وغلبة, لكن الله سخر منهم،   (1) انظر: في ظلال القرآن (1/ 229). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 ونجى رسوله والمسلمين من مكرهم وأذلهم وأخزاهم، فزال مجدهم، وكسر غلبتهم، وخرب بيوتهم، ورحلهم عن ديارهم، ولم يكلف ذلك المسلمين اصطدامًا مسلحًا، ولا قتالاً ضاريًا، ولكن الله قذف في قلوبهم الرعب والفزع, فطلبوا النجاة بأرواحهم في ذلة وخزي، مخلفين وراءهم ثروة وملكًا، حازه المسلمون غنيمة باردة, وقد قال تعالى في شأنهم: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ) [الحشر: 2]. هذه عاقبة المكر السيئ، والغدر المشين، وانظر بعد ذلك كيف أشار القرآن الكريم إلى مواطن العبرة في هذه الموقعة، وإلى هذا التهديد الذي أعلنه لكل من يسلك سبيل المكر المزري، والحقد المستبد (1) وقال: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ) [الحشر: 2]. ويظهر لي من الآية الكريمة الاعتبار من وجوه: 1 - إن الذي يقف في وجه الحق، ويصد الناس عنه، ويطارد دعاة الحق منهزم لا محالة، قال تعالى: (قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ). 2 - الصراع بين الحق والباطل لا يتوقف وباق حتى يرث الله الأرض وما عليها، وستكون للباطل جولات وللحق جولات, ولكن العاقبة لأهل الحق في نهاية المطاف. 3 - الاعتبار يكون بتجنب ما ارتكبه اليهود من خيانة وغدر حتى لا يحدث نفس المصير الذي حدث لهم من الهزيمة والذل والهوان (2). طـ- لا إكراه في الدين: كان في بني النضير أناس من أبناء الأنصار قد تهودوا بسبب تربيتهم بين ظهراني اليهود, فأراد أهلوهم المسلمون منعهم من الرحيل معهم. فأنزل الله عز وجل: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256]. روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قال: كانت المرأة تكون مقلاة (3) فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّدَه، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار،   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص167، 168. (2) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس، ص179. (3) المقلاة: التي لا يعيش لها ولد، سنن أبي داود (3/ 133). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 فقالوا: لا ندع أبناءنا, فأنزل الله عز وجل: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256] (1). * * * المبحث الرابع غزوة ذات الرقاع أولاً: تاريخها وأسبابها, ولماذا سميت بذات الرقاع؟: اختلف أهل المغازي والسير في تاريخ هذه الغزوة، وقد ذهب البخاري (2) إلى أنها كانت بعد خيبر، وذهب ابن إسحاق (3) إلى أنها بعد غزوة بني النضير، وقيل بعد الخندق سنة أربع، وعند الواقدي (4) وابن سعد (5) أنها كانت في المحرم سنة خمس. وقد ذكر البوطي بأن تاريخ الغزوة كان في السنة الرابعة للهجرة بعد مرور شهر ونصف تقريبًا على إجلاء بني النضير، وقال بأن هذا الرأي ذهب إليه أكثر علماء السير والمغازي (6) , وإليه ذهبت. وأما سبب الغزوة ما ظهر من الغدر لدى كثير من قبائل نجد بالمسلمين، ذلك الغدر الذي تجلى في مقتل أولئك الدعاة السبعين الذين خرجوا يدعون إلى الله تعالى, فخرج صلى الله عليه وسلم قاصدًا قبائل محارب وبني ثعلبة (7). وقد ذكر الدكتور محمد أبو فارس أن قادمًا قدم المدينة فأخبر المسلمين أن بني محارب وبني ثعلبة من غطفان قد جمعوا الجموع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن سار إليهم في عقر دارهم على رأس أربعمائة مقاتل وقيل سبعمائة مقاتل، ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ديارهم خافوا وهربوا إلى رؤوس الجبال، تاركين نساءهم وأطفالهم وأموالهم، وحضرت الصلاة فخاف المسلمون أن يغيروا عليهم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، وعاد رسول الله إلى المدينة (8). وقد حققت هذه الحملة العسكرية أغراضها, وتمكنت من تشتيت الحشد الذي قامت به غطفان لغزو المدينة فأرهب تلك القبائل وألقى عليها درسًا بأن المسلمين ليسوا قادرين فقط   (1) أبو داود، كتاب الجهاد، باب الأسير يكره على الإسلام (3/ 132) رقم 2682. (2) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (5/ 62) رقم 4128. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 225). (4) انظر: المغازي للواقدي (1/ 395). (5) انظر: الطبقات لابن سعد (2/ 61). (6) انظر: فقه السيرة النبوية، ص194. (7) نفس المصدر، ص194، 195. (8) انظر: غزوة الأحزاب لأبي فارس، ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 على سحق من تحدثه نفسه بالاقتراب من المدينة, بل قادرين على نقل المعركة إلى أرض العدو نفسه وضربه في عقر داره (1). وسميت بذات الرقاع؛ لأنهم كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق والرقاع اتقاء الحر، وقيل: لأنهم رقعوا راياتهم, وقيل لشجرة كانت اسمها ذات الرقاع (2) , وقيل: لأن المسلمين نزلوا في أرض كان فيها بقع بيض وسود مختلفة، فسميت لذلك (3). والصحيح: أنهم كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق، فقد روى الشيخان بسنديهما عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نَلُفُّ على أرجلنا الخرق, فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب بالخرق على أرجلنا (4). ثانيًا: صلاة الخوف وحراسة الثغور: 1 - صلاة الخوف: أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في هذه الغزوة, وبيَّن القرآن الكريم صفة الصلاة ساعة مواجهة العدو قال تعالى: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنْتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) [النساء: 102]. فقد صلى المسلمون صلاة الخوف، وصفة هذه الصلاة أن طائفة صفت معه، وطائفة في وجه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت في صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم (5). وفي رواية: أنه صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا, وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان (6).   (1) انظر: غزوة الأحزاب، محمد أحمد باشميل، ص77، 78. (2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 309) (3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص170. (4) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (5/ 145). (5) انظر: السيرة في ضوء المصادر الأصلية، ص425. (6) مسلم، كتاب الصلاة، باب "صلاة الخوف" رقم (843). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 قال الدكتور البوطي: ووجه التوفيق بين الحديثين أنه عليه الصلاة والسلام صلى بأصحابه صلاة الخوف أكثر من مرة فصلاها مرة على النحو الأول, وصلاها مرة أخرى على النحو التالي. وكانت هذه الصلاة بمنطقة نخل التي تبعد عن المدينة بيومين (1) , ودل تشريع صلاة الخوف على أهمية الصلاة فحتى في قلب المعركة لا يمكن التساهل فيها، ولا يمكن التنازل عنها، مهما كانت الظروف؛ وبذلك تندمج الصلاة والعبادة بالجهاد وفق المنهاج النبوي في تربية الأمة الذي استمد من كتاب الله تعالى، فلا يوجد أي انفصال أو انفصام بين العبادة والجهاد (2). 2 - حراسة الثغور: عندما رجع الجيش الإسلامي من غزوة ذات الرقاع سبوا امرأة من المشركين, فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دمًا في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, فجاء ليلاً وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم رجلين على الحراسة أثناء نومهم، وهما عباد بن بشر، وعمار بن ياسر، فضرب عبادًا بسهم وهو قائم يصلي فنزعه، ولم يقطع صلاته، حتى رشقه بثلاثة سهام، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه، فقال: سبحانه الله، هل نبهتني؟ فقال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها، فلما تابع عليّ الرمي ركعت فآذنتك, وايمُ الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها (3). ومن هذه الحادثة يمكننا أن نستخلص دروسًا وعبرًا منها: أ- اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمن الجنود, ويظهر ذلك في اختياره رجلين من خيار الصحابة لحراسة الجيش ليلاً. ب- تقسيم الحراسة، ونلاحظ أن الرجلين اللذين أنيطت بهما حراسة الجيش قد اقتسما الليل نصفين، نصفًا للراحة ونصفًا للحراسة، إذ لا بد من راحة جسم الجندي بعض الوقت. ج- التعلق بالقرآن الكريم وحب تلاوته: فقد كان حبه للتلاوة قد أنساه آلام السهام التي كانت تنغرس في جسمه وتثج الدم منه بغزارة (4). د- الشعور بمسئولية الحراسة: فلم يقطع عباد صلاته لألم يشعر به وإنما قطعها استشعارًا بمسئولية الحراسة التي كلف بها، وهذا درس بليغ في مفهوم العبادة والجهاد (5).   (1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص207. (2) انظر: التربية القيادية (3/ 303، 304). (3) انظر: السيرة في ضوء المصادر الأصلية، ص427. (4) انظر: غزوة الأحزاب لأبي فارس، ص30، 31. (5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 هـ- مكان الحراسة استراتيجي: اختار النبي صلى الله عليه وسلم فم الشعب مكان إقامة الحرس، وكان هذا الاختيار في غاية التوفيق؛ لأنه المكان الذي يتوقع العدو منه لمهاجمة المعسكر. وقرب مهجع الحرس من الحارس: ولذلك استطاع الحارس أن يوقظ أخاه النائم، ولو كان المهجع بعيدًا عن الحارس لما تمكن من إيقاظ أخيه، وبالتالي يحدث ما لا تحمد عقباه (1). ثالثا: شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لجابر بن عبد الله: 1 - شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: عندما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع أدركته القائلة في وادٍ كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون الشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة علق بها سيفه، قال جابر بن عبد الله: (فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال لي: من يمنعك مني؟ فقلت له: الله» فها هو ذا جالس، لم يعاقبه رسول الله, واسم الأعرابي: غورث بن الحارث) (2). وقد عاهد غورث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يقاتله، ولا يكون مع قوم يقاتلونه، فخلى سبيله، فجاء إلى أصحابه فقال: (جئتكم من عند خير الناس) (3). وفي هذه القصة دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفرط شجاعته وقوة يقينه وصبره على الأذى وحِلْمه على الجهال، وفيها جواز تفرق العسكر في النزول ونومهم إذا لم يكن هناك ما يخافون منه (4). إن هذه القصة ثابتة وصحيحة وهي تكشف عن مدى رعاية الباري جل جلاله وحفظه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ثم هي تزيدك يقينًا بالخوارق التي أخضعها الله جل جلاله له عليه الصلاة والسلام, مما يزيدك تبصرًا ويقينًا بشخصيته النبوية، فقد كان من السهل الطبيعي بالنسبة لذلك المشرك، وقد أخذ السيف ورفعه فوق النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعزل غارق في غفلة النوم، أن يهوي به عليه فيقتله، وإنك لتلمس من ذلك المشرك هذا الاعتداد بنفسه والزهو بالفرصة الذهبية التي أمكنته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: من يمنعك مني؟ فما الذي طرأ بعد ذلك حتى عاقه عن القتل؟ (5).   (1) انظر: غزوة الأحزاب لأبي فارس، ص32. (2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص426. (3) المصدر نفسه، ص427. (4) انظر: فتح الباري (15/ 317) نقلا عن السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص427. (5) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ليس لهذا تفسير إلا العناية الإلهية، والإعجاز الإلهي، الذي يتخطى العادات والسنن، ويتجاوز قوى الناس، لنصرة نبيه، والذود عن دعوته (1). فقد كانت العناية الإلهية كافية لأن تملأ قلب المشرك بالرعب وأن تقذف في ساعديه تيارًا من الرجفة، فيسقط من يده السيف ثم يجلس متأدبًا مطرقًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما حدث مصداق لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 67] , فليست العصمة المقصودة في الآية أن لا يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لأذى أو محنة من قومه، إذ تلك هي سنة الله في عباده كما قد علمت, وإنما المراد من العصمة ألا تطول إليه أي يد تحاول اغتياله وقتله لتغتال فيه الدعوة الإسلامية التي بعث لتبليغها (2). 2 - معاملته صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله: قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف, فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لك يا جابر؟» قال: قلت: يا رسول الله أبطأني جملي هذا، قال: «أنخه» فأنخته، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال «أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع لي عصا من شجرة» قال: ففعلت، قال: فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات، ثم قال: «اركب» فركبت، فخرج -والذي بعثه بالحق- يواهق ناقته مواهقة (أي يسابقها ويعارضها في المشي لسرعته). في هذه القصة صورة جميلة ورفيعة لخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من حيث لطف الحديث، والتواضع الرفيع، الوقوف على أحواله، فقد شعر الرسول صلى الله عليه وسلم أن سبب تأخر جابر عن الركب هو ضعف جمله الذي لا يملك غيره لبؤس حاله، حيث إن والده مات شهيدًا في أحد وترك له مجموعة من البنات والأولاد ليرعاهم، وهو مقل في الرزق. * * * المبحث الخامس غزوة بدر الموعد، ودومة الجندل أولاً: غزوة بدر الموعد: تنفيذًا للموعد الذي كان أبو سفيان قد اقترحه في أعقاب معركة أحد، والتزام الرسول صلى الله عليه وسلم   (1) انظر: دروس وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص178. (2) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 بذلك، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة على رأس جيش من أصحابه قوامه ألف وخمسمائة مقاتل بينهم عشرة من الخيالة، وذلك في ذي القعدة سنة 4 هـ، وحمل لواء الجيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - , فوصلوا بدرًا فأقاموا فيها ثمانية أيام بانتظار وصول قوات المشركين من قريش بقيادة أبي سفيان بحسب الموعد بين الطرفين، غير أن أحدًا من المشركين لم يصل إلى بدر، وكان أبو سفيان قد جمع قوات قريش وحلفائها التي تألفت من ألفي مقاتل معهم خمسون فرسًا، فلما وصلوا إلى مر الظهران، نزلوا على مياه مجنة على بعد أربعين ميلا من مكة ثم عاد بهم أبو سفيان إلى مكة (1) بعد أن خطب فيهم وقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب وإني راجع فارجعوا (2)، وأقبل مخشي بن عمرو الضمري وهو الذي وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني ضمرة في غزوة ودان، فالتقى برسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وقال: يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: «نعم، يا أخا بني ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك» قال: لا والله يا محمد ما لنا بذلك منك من حاجة (3). ففي هذا اللقاء أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى كبير في إظهار قوة المسلمين، وأن العقد الذي كان بين الفريقين يستمر بعامل قوة المسلمين لا بعامل ضعفهم, وبناء على طلب الطرف الثاني, وفي هذا ما فيه من القوة للمسلمين وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم (4). لقد كانت تحركات الجيش الإسلامي من المدينة حتى بدر مناورة رائعة ناجحة أثبت بها وجوده, وأعطى الدليل القاطع لأعداء الإسلام داخل المدينة وخارجها، أنه أصبح أقوى قوة مرهوبة في الجزيرة العربية كلها، ولا أدل على ذلك من أن جيش مكة وهو من أعظم الجيوش في الجزيرة من حيث كثرة العدد وقوة التنظيم وجودة التسلح قد هاب الجيش الإسلامي ونكل عن حربه بعد أن خرج للقائه بموجب ميعاد سابق حدده (في أحد) قائد عام جيش مكة (5). إن الحملة الإعلامية التي قام بها المشركون لإثبات انتصارهم في أحد وتفوقهم الحربي قد انتكست على رؤوسهم, وأصبحوا مثار السخرية عند العرب، وثبت للناس أن ارتباك المسلمين للمفاجأة في أحد وسقوط القتلى منهم لا يعني انهزامهم ولا ضعفهم العسكري (6) , فقد ساهمت هذه الغزوة في المحافظة على السمعة العسكرية للمسلمين (7) , وكسبوا انتصارًا معنويًا عظيمًا على أعدائهم بدون قتال، وشاركوا في الموسم التجاري ببدر وربحوا في   (1) انظر: موسوعة نضرة النعيم (1/ 318، 319). (2) انظر: غزوة الأحزاب، محمد أحمد باشميل، ص88. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 232). (4) انظر: معين السيرة للشامي، ص264، 265. (5) انظر: غزوة الأحزاب، باشميل، ص88، 89. (6) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 66). (7) انظر: التربية القيادية (3/ 463). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 تجارتهم ربحًا طيبًا (1). لقد كان لإخلاف قريش الموعد أثر في تقوية مكانة المسلمين وإعادة هيبتهم (2). ثانيًا: دومة الجندل: كانت غزوة دومة الجندل من ضمن حركة تثبيت أركان الدولة الإسلامية, فبعد غزوة بدر الموعد، تحركت القوات الإسلامية بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو قضاعة التي كانت تنزل شمال قبائل أسد وغطفان، وفي حدود الغساسنة الموالين للدولة الرومية (بيزنطة) ولها إشراف على سوق (دومة الجندل) الشهير (على بعد 450 كيلومترًا شمال المدينة) , كانت هذه القبيلة أول من احتك بها المسلمون فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة المعروفة بغزوة دومة الجندل (ربيع الأول 5هـ/ أغسطس 626م) (3) فقد وصلت الأنباء إلى المدينة بتجمع بعض القبائل عند دومة الجندل للإغارة على القوافل التي تمر بهم، والتعرض لمن في القافلة بالأذى والظلم، كما وردت الأنباء بأنهم يفكرون في القرب من المدينة لعجم عودها (4). إن دومة الجندل تعتبر بلادًا نائية بالنسبة للمدينة المنورة؛ لأنها تقع على الحدود بين الحجاز والشام، وفي منتصف الطريق بين البحر الأحمر والخليج العربي، وهي على مسيرة ست عشرة ليلة من المدينة، ولو أن المسلمين أغفلوا أمرها، وسكتوا على وجود هذا التجمع فيها ما لامهم أحد ولا ضرهم هذا التجمع في شيء على المدى القريب, ولكن النظرة السياسية البعيدة والعقلية العسكرية الفذة أوجبت على المسلمين أن يتحركوا لفض هذا التجمع (5) والقضاء عليه قبل أن يستفحل شأنه للأسباب الآتية، وكذلك بغية تحقيق بعض الأهداف: 1 - لأن السكوت على هذا التجمع وما شاكله يؤدي بلا شك إلى تطوره واستفحاله، ثم يؤدي بعد ذلك إلى إضعاف قوة المسلمين وإسقاط هيبتهم، وهو الأمر الذي يجاهدون من أجل استرداده. 2 - وجود مثل هذا التجمع في الطريق إلى الشام قد يؤثر على الوضع الاقتصادي للمسلمين، فلو أن المسلمين سكتوا على هذا التجمع لتعرضت قوافلهم أو قوافل القبائل التي تحتمي بهم للسلب والنهب, مما يضعف الاقتصاد، ويؤدي إلى حالة من التذمر والاضطراب. 3 - وهناك أمر أهم من الأمرين السابقين وهو فرض نفوذ المسلمين على هذه المنطقة كلها،   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 67). (2) انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة للعمري، ص91. (3) انظر: دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة للشجاع، ص144. (4) انظر: تأملات في سيرة الرسول لمحمد الوكيل، ص169. (5) المصدر نفسه، ص169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 وإشعار سكانها بأنهم في حمايتهم وتحت مسئوليتهم، لذلك فهم يؤمنون لهم الطرق، ويحمون لهم تجارتهم, ويحاربون كل إرهاب من شأنه أن يزعجهم أو يعرضهم للخطر (1). 4 - حرمان قريش من أي حليف تجاري قد يمدها بما تحتاج من التجارة، وصرف أنظارهم عن هذه المنطقة التجارية الهامة؛ لأن ظهور الدولة الإسلامية بهذه القوة يؤثر على نفسية قريش العدو الأول للدولة الإسلامية, ويجعلها تخشى المسلمين على تجارتها (2). 5 - الحرص على إزالة الرهبة النفسية عند العرب الذين ما كانوا يحلمون بمواجهة الروم، والتأكيد عمليًا للمسلمين بأن رسالتهم عالمية (3) وليست مقصورة على العرب. ورأى بعض المؤرخين كالذهبي، والواقدي، ومحمد أحمد باشميل، وغيرهم أن من أهداف تلك الغزوة إرهاب الروم الذين تقع المنطقة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم بجيشه على حدودهم وعلى مسافة خمس ليالٍ من عاصمة ملكهم الثانية دمشق (4). لهذا ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين للخروج وخرج في ألف من أصحابه, وكان يسير الليل، ويكمن النهار حتى يخفي مسيره (5) , ولا تشيع أخباره وتنقل أسراره، وتتعقبه عيون الأعداء (6). واتخذ له دليلاً من بني عذرة يسمى (مذكورًا)، وسار حتى دنا من القوم, عندئذ تفرقوا، ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحدًا فقد ولوا مدبرين، وتركوا نعمهم وماشيتهم غنيمة باردة للمسلمين, وأسر المسلمون رجلا منهم، وأحضروه إلى الرسول فسأله عنهم، فقال: هربوا لما سمعوا بأنك أخذت نعمهم، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلم وأقام بساحتهم أيامًا، وبعث البعوث، وبث السرايا, وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحد, وعاد المسلمون إلى المدينة، وفي أثناء عودتهم وادع الرسول عيينة بن حصن الفزاري واستأذن عيينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن ترعى إبله وغنمه في أرض قريبة من المدينة على ستة وثلاثين ميلا منها. إن وصول جيوش المسلمين إلى دومة الجندل، وهي على هذه المسافة البعيدة من المدينة وموادعة عيينة بن حصن للمسلمين، واستئذانه في أن يرعى بإبله وغنمه في أرض بينها وبين المدينة ستة وثلاثون ميلا، أي ما يقرب من خمسة وستين كيلومترًا، لدليل قاطع على ما وصلت   (1) تأملات في سيرة الرسول، ص169. (2) انظر: دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص144، 145. (3) المصدر نفسه، ص144. (4) انظر: غزوة الأحزاب، باشميل، ص93، تاريخ المغازي للذهبي، ص258. (5) انظر: تأملات في سيرة الرسول، ص170. (6) انظر: غزوة الأحزاب لأبي فارس، ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 إليه قوة المسلمين، وعلى شعورهم بالمسئولية الكاملة تجاه تأمين الحياة للناس في هذه المنطقة، وأَن هذه المناطق النائية كانت ضمن الدولة الإسلامية، وإن الدولة أصبحت منيعة، ليس في مقدور أحد أن يعتدي عليها، ولو كان ذلك في استطاعة أحد لكان هو عيينة بن حصن الذي كان يغضب لغضبه عشرة آلاف فتى (1). كانت غزوة دومة الجندل بعيدة عن المدينة من جهة الشام، إذ بينها وبين دمشق ما لا يزيد عن خمس ليالٍ، وقد كانت بمثابة إعلان عن دعوة الإسلام بين سكان البوادي الشمالية وأطراف الشام الجنوبية، وأحسوا بقوة الإسلام وسطوته, كما كانت لقيصر وجنده، كما أن سير الجيش الإسلامي هذه المسافات الطويلة قد كان فيه تدريب له على السير إلى الجهات النائية، وفي أرض لم يعهدها من قبل, ولذلك تعتبر هذه الغزوة فاتحة سير الجيوش الإسلامية للفتوحات العظيمة في بلاد آسيا وأفريقيا فيما بعد (2). كان خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة ترمي إلى أهداف عديدة، فهي غزوة، وحرب استطلاعية تمسح الجزيرة العربية، وتتعرف على مراكز القوى فيها، وهي حرب إعلامية تأتي على أعقاب بدر الموعد، وتستثمر انتصاراتها، وهي حرب عسكرية تريد أن تصد هجومًا محتملاً على المسلمين حيث ضوى إليها قوم من العرب كثير يريدون أن يدنوا من المدينة، وهي حرب سياسية تريد أن تجهض من تحركات القبائل المحتمل أن تتحرك بعد أنباء غزوة أحد لتقصد المدينة وتسبيحها (3). كانت هذه الغزوة دورة تربوية رائعة وقاسية وشاملة يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه ألف من أصحابه، فيتلقون فيها كل لحظة دروسًا في الطاعة والانضباط، ودروسًا في التدريب الجسمي والعسكري والتحمل لمشاق الحياة وصعوباتها، وأحكامًا وفقهًا في الحلال والحرام، وعمليات صهر وتذويب لقواعد الجيش الإسلامي في بوتقة واحدة خارج إطار العشيرة، وخارج كيان القبيلة، حيث أخذت تفد إلى المدينة عناصر كثيرة من أبناء القبائل المجاورة، والتخلي عن الأطر القبلية وعصاباتها للانصهار في بوتقة الأمة الواحدة التي تجعل الولاء لله ورسوله, وفوق هذا كله تتيح الفرصة لجيل بدر الرائد أن يقوم بمهمة التربية للوافدين الجدد وتعليمهم وتثقيفهم، كما تتيح الفرصة لكشف ضعاف النفوس، ومن له صلة بمعسكر النفاق من خلال مراقبة تصرفاته وسلوكه، إنها ليست ساعات محدودة أو أيامًا معدودة, بل هي دورة قرابة شهر، لا يمكن إلا أن تبرز فيها كل الطبائع وكل النوازع، فيتلقاها عليه الصلاة والسلام ليصوغها على ضوء الإسلام ويعلم الجيل الرائد فن القيادة وعظمة السياسة.   (1) انظر: تأملات في سيرة الرسول، ص170. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، ص251، 252. (3) انظر: التربية القيادية (3/ 372). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 كانت معركة صامتة، وتربية هادئة، وكان الجيش مع قائده يقطع ما ينوف عن ألف ميل في هذه الصحراء، يتربى ويتثقف ويتدرب ويمتحن ويقوم, ليكون هذا استعدادًا لمعارك قادمة (1). وفي غيابه في غزوة دومة الجندل عين صلى الله عليه وسلم سباع بن عرفطة الغفاري واليًا على المدينة في تجربة جديدة، فهو ليس أوسيًّا ولا خزرجيًّا ولا قرشيًا, بل من غفار التي كانت تعتبر من سراق الحجيج عند العرب، فلا بد لهذا الجيل أن يتربى على الطاعة والانضباط للأمير أيا كان شأن هذا الأمير، وهذا يدل على عظمة المنهج النبوي في تربية الأمة والارتقاء بها, وعلى عظمة قيادة النبي صلى الله عليه وسلم وفراسته في أتباعه وثقته فيهم ومعرفته لمواهبهم، فهو صلى الله عليه وسلم على معرفة بكفاءة سباع بن عرفطة الغفاري وعبقريته وقدرته على الإدارة الحازمة، فكان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه وهو غائب عن المدينة لكي يهيمن منهج رب العالمين على المسلمين, ويصنع منها أمة واحدة تسمع وتطيع لكتاب ربها وسنة نبيها (2). * * * المبحث السادس غزوة بني المصطلق أولاً: من هم بنو المصطلق؟ ومتى وقعت الغزوة وأسبابها؟: 1 - بنو المصطلق: هم بطن (3) من خزاعة, والمصطلق (4) جدهم, وهو جذيمة بن سعد ابن عمرو بن ربيعة ابن حارثة بن عمرو بن عامر ماء السماء (5). 2 - تاريخ الغزوة: اختلف العلماء في ذلك, وانحصرت أقوالهم فيها في ثلاثة أقوال، فمن قائل إنها في شعبان سنة ست، قال بذلك ابن إسحاق وخليفة بن خياط، وابن جرير الطبري. ومن قال بأنها في شعبان من العام الرابع للهجرة، مثل المسعودي. وذهبت طائفة إلى أنها كانت في شعبان من السنة الخامسة، منهم موسى بن عقبة، وابن سعد، وابن قتيبة، والبلاذري، والذهبي، وابن القيم، وابن حجر العسقلاني، وابن كثير -رحمهم الله- ومن المحدثين الخضري بك، والغزالي، والبوطي. وقد كانت وفاة سعد بن معاذ في أعقاب غزوة بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت في ذي القعدة من السنة الخامسة على القول الراجح, فيتعين أن تكون غزوة بني المصطلق قبلها (6).   (1) انظر: التربية القيادية (3/ 373). (2) المصدر نفسه (3/ 374). (3) فرع. (4) المصطلق: بضم الميم وسكون الصاد وفتح الطاء المهملتين وكسر اللام. (5) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول (1/ 311). (6) من أراد مزيدًا من التفصيل فليرجع إلى مرويات غزوة بني المصطلق، ص97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 3 - أسباب هذه الغزوة: من أهم الأسباب لهذه الغزوة: أ- تأييد هذه القبيلة لقريش واشتراكها معها في معركة أحد ضد المسلمين، ضمن كتلة الأحابيش التي اشتركت في المعركة تأييدًا لقريش. ب- سيطرة هذه القبيلة على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزًا منيعًا من نفوذ المسلمين إلى مكة (1). ج- أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجمعون له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار ينظم جموعهم، فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فهزمهم شر هزيمة (2). 4 - أحداث غزوة بني المصطلق: عندما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحركة بني المصطلق المريبة أرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي للتأكد من نيتهم، وأظهر لهم بريدة أنه جاء لعونهم فتأكد من قصدهم، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك. وفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة في سبعمائة مقاتل (3) , وثلاثين فارسًا (4) , متوجهًا إلى بني المصطلق، ولما كان بنو المصطلق ممن بلغتهم دعوة الإسلام، واشتركوا مع الكفار في غزوة أحد، وكانوا يجمعون الجموع لحرب المسلمين، فقد روى البخاري (5) ومسلم (6) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار عليهم وهم غارون -أي غافلون- وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث (7). ثانيًا: زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جويرية بنت الحارث رضي الله عنها: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وكان من بين الأسرى جويرية بنت الحارث، وكانت بركة على قومها, ولنسمع قصتها من السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في سهم لثابت بن قيس بن   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية للعلي، ص332. (2) حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 315). (3) انظر: تاريخ الإسلام، المغازي للذهبي، ص259. (4) انظر: الواقدي (1/ 405). (5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص433. (6) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار، (3/ 1356) رقم 1730. (7) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كتابتها. قالت: فوالله ما هو أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلتْ عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو -لابن عم له- فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي. قال: «فهل لك في خير من ذلك؟». قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقض عنك كتابك وأتزوجك». قالت: نعم يا رسول الله، قد فعلت. قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث. فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها (1). وجاء الحارث بن أبي ضرار بعد الوقعة، بفداء ابنته, إلى المدينة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم (2). تعتبر غزوة المريسيع من الغزوات الفريدة المباركة التي أسلمت عقبها قبيلة بأسرها، وكان الحدث الذي أسلمت القبيلة من أجله هو أن الصحابة حرروا وردوا الأسرى الذين أصابوهم إلى ذويهم بعد أن تملكوهم باليمين في قسم الغنائم، واستكثروا على أنفسهم أن يتملكوا أصهار نبيهم عليه الصلاة والسلام، وحيال هذا العتق الجماعي، وإزاء هذه الأريحية الفذة، دخلت القبيلة كلها في دين الله. إن مرد هذا الحدث التاريخي وسببه البعيد، هو حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم, وتكريمهم إياه، وإكبارهم شخصه العظيم، وكذلك يؤتي الحب النبوي هذه الثمار الطيبة، ويصنع هذه المآثر الفريدة في التاريخ. لقد كان زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جويرية بنت الحارث له أبعاده، وتحققت تلك الأبعاد بإسلام قومها، فقد كان الزواج منها من أهدافه الطمع في إسلام قومها، وبذلك يكثر سواد   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 160، 161). (2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 317). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 المسلمين، ويعز الإسلام، وهذه مصلحة إسلامية بعيدة, يسر الله هذا الزواج، وباركه، وحقق الأمل البعيد المنشود من ورائه، فأسلمت القبيلة كلها بإسلام جويرية، وإسلام أبيها الحارث، فقد عاد هذا الزواج على المسلمين بالبركة والقوة، والدعم المادي والأدبي معًا للإسلام والمسلمين (1). أصبحت جويرية بنت الحارث زوجة لسيد المرسلين وأمًّا للمؤمنين، فكانت رضي الله عنها عالمة بما تسمع، وعاملة بما تعلم، فقيهة عابدة، تقية ورعة، نقية الفؤاد, مضيئة العقل، مشرقة الروح، تحب الله ورسوله، وتحب الخير للمسلمين. وكانت رضي الله عنها تروي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناقلة لحقائق الدين من خزائنها عند من تنزلت عليه صلى الله عليه وسلم، يرويه عنها سدنة العلم من علماء الصحابة رضي الله عنهم، لينشروه في المجتمع المسلم علمًا وعملاً، وفي عامة المجتمع الإنساني دعوة وهداية (2). فقد حدَّث عنها ابن عباس، وعبيد بن السباق، وكريب مولى ابن عباس ومجاهد، وأبو أيوب يحيى بن مالك الأزدي. بلغ مسندها في كتاب بقي بن مخلد سبعة أحاديث (3) , منها أربعة في الكتب الستة، عند البخاري حديث، وعند مسلم حديثان، وقد تضمنت مروياتها أحاديث في الصوم في عدم تخصيص يوم الجمعة بالصوم، وحديث في الدعوات في ثواب التسبيح، وفي الزكاة في إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان المهدي ملكها بطريق الصدقة، كما روت في العتق، وبسبعة أحاديث شريفة خلدت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها اسمها في عالم الرواية، لتضيف إلى شرف صحبتها للنبي صلى الله عليه وسلم وأمومتها للمسلمين، تبليغها الأمة سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما تيسر لها ذلك (4). وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها- من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات والقانتات الصابرات في مجال مناجاة الله تعالى وتحميده وتقديسه وتسبيحه (5) , فهذه أم المؤمنين جويرية تحدثنا عن ذلك فتقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها (6) , ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: «ما زلت على الحال التي فارقتُكِ عليها؟» قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته» (7).   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص199، 200. (2) انظر: محمد رسول الله، محمد صادق عرجون، (4/ 250). (3) انظر: دور المرأة في خدمة الحديث، آمال قرداش، ص88. (4) دور المرأة في خدمة الحديث، ص88، 89. (5) انظر: محمد رسول الله, صادق عرجون (4/ 250). (6) مسجدها: المكان الذي تصلي فيه في بيتها. (7) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار, رقم 2726. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 وقد توفيت رضي الله عنها سنة خمسين، وقيل: ست وخمسين (1). ثالثًا: محاولة المنافقين في هذه الغزوة إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار: خرج في غزوة بني المصطلق عدد كبير من المنافقين مع المسلمين، وكان يغلب عليهم التخلف في الغزوات السابقة، لكنهم لما رأوا اطراد النصر للمسلمين خرجوا طمعًا في الغنيمة (2). وعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن الحقد الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فكلما كسب الإسلام نصرًا جديدًا ازدادوا غيظًا على غيظهم, وقلوبهم تتطلع إلى اليوم الذي يهزم فيه المسلمون لتشفى من الغل، فلما انتصر المسلمون في المريسيع سعى المنافقون إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار، فلما أخفقت المحاولة سعوا إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهل بيته, فشنوا حربًا نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها، ولنترك الصحابي زيد بن أرقم وهو شاهد عيان ومشارك في الحادث الأول يحكي خبر ذلك (3) , قال: (كنت في غزاة (4) فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي (5) , فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه, فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: (إذا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقين: 1] فبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فقال: «إن الله قد صدقك يا زيد» (6). ويحكي شاهد عيان آخر هو جابر بن عبد الله الأنصاري ما حدث عند ماء المريسيع، وأدى إلى كلام المنافقين لإثارة العصبية وتمزيق وحدة المسلمين، قال: (كنا في غزاة فكسع (7) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟». قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: «دعوها فإنها   (1) انظر: الطبقات لابن سعد (8/ 121) خليفة بن خياط تاريخه، ص234. (2) انظر: حديث القرآن الكريم (1/ 318). (3) انظر: السيرة الصحيحة للعمري (2/ 408). (4) غزاة: صرحت الروايات الأخرى بأنها بني المصطلق. (5) يريد بعمه سعد بن عبادة وهو رأس الخزرج وليس عمه حقيقة. (6) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 408). (7) كسع: ضربه برجله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 منتنة» فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» (1). وفي رواية قال عمر بن الخطاب: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، لا، ولكن أذن بالرحيل»، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس (2). وقد مشى عبد الله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمعه منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال: يا نبي الله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو بلغك ما قال صاحبكم؟». قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبي؟» قال: وما قال؟ قال: «زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل». قال: فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت، هو الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه, فإنه يرى أنك استلبت ملكه. ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نيامًا. وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، ونزلت السورة التي ذكر فيها المنافقون في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسول الله بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: هذا الذي أوفى الله بأذنه (3). إن هذه الحادثة من السيرة النبوية العطرة مليئة بالدروس والعبر، فمن أهم تلك الدروس:   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 409). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 319). (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 319، 320). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 1 - الحفاظ على السمعة السياسية ووحدة الصف الداخلية: وهذا الدرس يظهر في قوله صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟ (1). إنها المحافظة التامة على السمعة السياسية، والفرق كبير جدًّا بين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمدٍ محمدًا، ويؤكدون على ذلك بلسان قائدهم الأكبر أبي سفيان: ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمدًا (2)، وبين أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولا شك أن وراء ذلك محاولات ضخمة ستتم في محاولة الدخول إلى الصف الداخلي في المدينة من العدو، بينما هم يائسون الآن من قدرتهم على شيء أمام ذلك الحب وتلك التضحيات (3). ولم يقف النبي صلى الله عليه وسلم موقفًا سلبيًّا حيال تلك المؤامرة التي تزعمها ابن سلول لتصديع الصف المسلم، وإحياء نعرات الجاهلية في وسطه, بل اتخذ إزاءها الخطوة الإيجابية التالية: أ- سار رسول الله بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم الثاني حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما (4). وبهذا التصرف البالغ الغاية في السياسة الرشيدة قضى على الفتنة قضاء مبرمًا، ولم يدع مجالا للحديث فيما قال ابن أبي. ب- لم يواجه النبي صلى الله عليه وسلم ابن سلول ومؤامراته المدبرة بالقوة واستعمال السلاح حرصًا على وحدة الصف المسلم، وذلك لأن لابن أبي أتباعًا وشيعة مسلمين مغرورين، ولو فتك به لأرعدت له أنوف، وغضب له رجال متحمسون له، وقد يدفعهم تحمسهم له إلى تقطيع الوحدة المسلمة، وليس في ذلك أي مصلحة للمسلمين ولا للإسلام، وإنها لسياسة شرعية حكيمة رشيدة في معالجة المواقف العصبية في حزم وقوة أعصاب وبُعد نظر (5). وهذه البراعة في الحكمة والسياسة وتدبير الأمور متفرعة عن كونه صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً إلى الناس (6) لكي تقتدي به الأمة في تصرفاته العظيمة. وقد كان لتسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مع رأس المنافقين أبعد الآثار فيما بعد، فقد كان ابن أبي ابن   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 409). (2) انظر: التربية القيادية (3/ 463). (3) المصدر نفسه (3/ 463). (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 255). (5) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص202. (6) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 سلول كلما أحدث حدثًا كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه، ويعنفونه، ويعرضون قتله على النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول يأبى ويصفح، فأراد رسول الله أن يكشف لسيف الحق عن آثار سياسته الحكيمة، فقال: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلتَ لي لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم لقتلته» فقال عمر: قد -والله- علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري (1). 2 - (بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا): كان لابن أبي ابن سلول ولد مؤمن مخلص يسمى عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فلما علم بالأحداث ونزول السورة، أتى رسول الله فقال له: (يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي ابن سلول فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي بين الناس، فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمنًا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» (2). ولما وصل المسلمون مشارف المدينة تصدى عبد الله لأبيه عبد الله بن أبي، وقال له: قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه في ذلك، فأذن له (3). 3 - مثل أعلى في الإيمان: جسَّده عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول في موقفه من والده، وتقديمه وإخلاصه لله ولرسوله، وتقديم محبتهما ومراضيهما على محبة ومراضي الأبوة (4). لقد ضرب الابن أروع مثل في الإيمان والتضحية بعاطفة الأبوة، فقابله صلى الله عليه وسلم صاحب القلب الكبير والخلق العظيم بمثل رفيع في العفو والرحمة وحسن الصحبة «بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا» يا لروعة العفو، ويا لجلال العظمة النبوية (5) , فقد تلطف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي الجليل، وهدَّأ من روعه، وأذهب هواجسه (6). 4 - محاربة العصبية الجاهلية: إن العصبية الممقوتة والتي نصفها بالجاهلية غير مقصورة على العصبية القبلية أي الاشتراك في النسب الواحد، نسب القبيلة التي ينتمون إليها, وإنما الاشتراك في معنى أو وصف معين   (1) انظر: السيرة النبوية لابن شهبة (2/ 257). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 321). (3) انظر: الولاء والبراء في الإسلام، ص209 للقحطاني. (4) انظر: محمد رسول الله, صادق عرجون، (3/ 163). (5) انظر: السيرة النبوية لابن شهبة (2/ 257). (6) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/ 163). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 يجعل المشتركين فيه يتعاونون ويتناصرون فيما بينهم بالحق وبالباطل، ويكون ولاؤهم فيما بينهم على أساس هذا المعنى أو الوصف المشترك، فعندما كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، قال الأنصاري: يا للأنصار, وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟» قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنها منتنة» (1) , ووجه الدلالة بهذا الخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر هذه المناداة لما تشعره من معنى العصبية، مع أن المنادي استعمل اسمًا استعمله القرآن وهو (المهاجرين) (والأنصار). فالمهاجري استنصر بالمهاجرين مع أنه هو الذي كسع، فكأنه بندائه هذا يريد عونهم، لاشتراكه وإياهم بمعنى واحد وهو (المهاجرة)، وكذلك الأنصاري استنصر بالأنصار؛ لأنه منهم ويشترك وإياهم بوصف واحد ومعنى واحد وهو مدلول كلمة (الأنصار) , وكان حق الاثنين -إذا كان لا بد من الاستنصار بالغير- أن يكون الاستنصار بالمسلمين جميعًا، وعلى هذا فالمطلوب من الدعاة التأكيد على نبذ العصبية بجميع أنواعها سواء كانت عصبية تقوم على أساس الاشتراك بالقبيلة الواحدة، أو على أي أساس آخر، من بلد, أو مذهب، أو حزب، أو عرق، أو لون، أو دم، أو جنس، وأن يكون الولاء والتناصر على أساس الاشتراك بالأخوة الإسلامية التي أقامها وأثبتها واعتبرها الله تعالى بين المسلمين بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]. وأن يكون التناصر فيما بينهم تناصرًا على الحق لا على الباطل بمعنى أن ينصروا المحق، وأن يكونوا معه, لا مع المعتدي (2). لقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن العصبيات هي من دعاوى الجاهلية، وقال: «لينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره» (3) فجعل التناصر في طلب الحق والإنصاف وأبطل المفهوم الجاهلي: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا (4). إن مهمة الدعاة وطلاب العلم والعلماء والفقهاء في التخلص من العصبية، ودعوة المسلمين إلى نبذها, كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة، ولأهميتها الكبيرة علينا أن نبذل ما في وسعنا لقلعها من النفوس (5). رابعًا: توجيه القرآن الكريم للمجتمع الإسلامي في أعقاب غزوة بني المصطلق: نزلت سورة (المنافقون) في أعقاب غزوة بني المصطلق، حيث كان المسلمون راجعين إلى   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 209). (2) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/ 301، 302). (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 209). (4) المصدر نفسه (2/ 209). (5) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/ 302). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 المدينة, وذلك بدليل رواية الإمام الترمذي (فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقون) (1). فقد تحدثت السورة بإسهاب عن المنافقين، وأشارت إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم وفضحت أكاذيبهم، إلا أنها في الختام حذرت المؤمنين من الانشغال بزينة الدنيا ومتاعها، وحثت على الإنفاق, ويمكن لدارس هذه السورة أن يلاحظ عدة محاور مهمة منها: 1 - تحدثت السورة الكريمة في البدء عن أخلاق المنافقين، وفضحت كذبهم في أقوالهم ووصفت حالهم (2)؛ فابتدأت هذه السورة بإيراد صفات المنافقين التي من أهمها الكذب في ادعاء الإيمان، وحلف الإيمان الكاذبة، وجبنهم وضعفهم وتآمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين, وصدهم الناس عن دين الله (3) , قال تعالى: (إذا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ - اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ - وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون: 1 - 4]. 2 - ثم بينت الآيات عنادهم وتصميمهم على الباطل، وعصيانهم لمن يدعوهم إلى الحق وبينت مقالاتهم الشنيعة بالتفصيل خاصة ما قالوه في غزوة بني المصطلق من أنهم سيطردون الرسول والمؤمنين من المدينة، وأن العزة لهم، إلى غير ذلك من الأقوال العظيمة الفظيعة (4). قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ - سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ - هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ - يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 5 - 8]. وهكذا كان المجتمع المدني يتربى بالأحداث, والقرآن الكريم يقوم بتوجيهه وتعليمه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بالإشراف على ذلك.   (1) انظر: سنن الترمذي, كتاب تفسير القرآن، باب «ومن سورة المنافقون» (5/ 415). (2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 327). (3) انظر: التفسير المنير، د. وهبة الزحيلي، (28/ 213). (4) انظر: حديث القرآن الكريم (1/ 327). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 خامسًا: محاولة المنافقين الطعن في عرض النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراء على عائشة- رضي الله عنها - بما يعرف بحديث الإفك: حاك المنافقون في هذه الغزوة حادثة الإفك، بعد أن فشل كيدهم في المحاولة الأولى لإثارة النعرة الجاهلية، فقد ألمت بالبيت النبوي هذه النازلة الشديدة والمحنة العظيمة التي كان القصد منها النيل من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل بيته الأطهار. هذا وقد أجمع أهل المغازي والسير (1) على أن حادثة الإفك كانت في أعقاب غزوة بني المصطلق، وتابعهم في ذلك المفسرون (2)، والمحدثون (3). وقد أخرج البخاري ومسلم حديث الإفك في صحيحيهما، وهذا سياق القصة من صحيح البخاري: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه, فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها (4) فخرج سهمي, فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي (5) وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك, وقفل ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل, فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش, فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جَزْعِ ظَفَارٍ (6) قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط (7) الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم, إنما نأكل العُلقة (8) من الطعام, فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السنة فبعثوا الجمل، وساروا, فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب, فأقمت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليَّ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي (9) ثم الذكواني من وراء الجيش   (1) كالواقدي، والذهبي، والطبري، وابن سعد، وابن حزم (2) كابن كثير، والرازي، والطبري وغيرهم. (3) كابن حجر، والنووي. (4) هي غزوة بني المصطلق. (5) الهودج: محمل له قبة تستر بالثياب يوضع على ظهر البعير تركب فيه النساء. (6) جزع ظفار: هو خرز معروف في سواده بياض كالعروق وهي مدينة باليمن. (7) الرهط: الجماعة من ثلاثة إلى عشرة. (8) العُلقة: البلغة من الطعام. (9) صحابي جليل كان صاحب ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 فأدلج (1) فأصبح عند منزلي, فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه (2) حين عرفني, فخمرت (3) وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه, حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها, فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين (4) في نحر الظهيرة (5) , فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول. 1 - انتشار الدعاية بالمدينة: وقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك, وهو يريبني (6) إني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول: «كيف تيكم؟» (7) ثم ينصرف, وذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت, فخرجت معي أم مسطح قِبَل المناصع (8) , وهو متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف (9) قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رُهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة (10) , فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا, فعثرت أم مسطح في مرطها (11) , فقالت: تعس مسطح, فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرًا؟ قالت: أي هنتاه (12) أَوَ لَمْ تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بخبر أهل الإفك فازددت مرضًا على مرضي, قالت: فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -تعني فسلَّم- ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت: أتأذن لي أن آتي أبويَّ؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قِبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجئت أبويَّ فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت   (1) فأدلج: بالتشديد سار آخر الليل .. (2) أي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون. (3) فخمرت: أي غطيت. (4) موغرين: الوغرة: شدة الحر. (5) نحر الظهر: أولها وهو وقت شدة الحر. (6) يريبني: يشككني. (7) كيف تيكم: وهي للمؤنث مثل ذاكم للمذكر. (8) المناصع: المواضع التي يتخلى فيها لقضاء الحاجة. (9) الكنف: جمع كنيف: المكان الساتر. (10) مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، توفي في خلافة عثمان. (11) فعثرت في مرطها: أي وطئته برجلها فسقطت. (12) هنتاه: يا بلهاء, كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 امرأة قط وضيئة (1) عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها (2) , قالت: فقلت: سبحان الله لقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع (3) ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي. 2 - استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه عند تأخر نزول الوحي: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث (4) الوحي يستأمرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود, فقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: «أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟» قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرًا أَغْمصه (5) عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها, فتأتي الداجن (6) فتأكله. فقام رسول الله فاستعذر (7) يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً (8) ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي» فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. 3 - آثار فتنة الإفك: قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج -وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحمية (9) - فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن   (1) وضيئة: الوضاءة: الحسن والبهجة. (2) إلا أكثرن عليها: أي القول في عيبها. (3) لا يرقأ لي دمع: لا ينقطع ولا يسكت. (4) استلبث: وهو الإبطاء والتأخر. (5) أغمصه عليها: أي أعيبها به وأطعن بها عليه. (6) الداجن: هي الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم. (7) فاستعذر: أي قال: من يقوم بعذري إن كفأته على سوء صنيعه. (8) هو صفوان بن المعطل السلمي. (9) احتملته الحمية: أي حملته الأنفة والغضب على الجهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 المنافقين، فتثاور الحيان (1) الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت: فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا، لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع, يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها. 4 - مفاتحة الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة وجوابها له: وقد لبث الوحي شهرًا (2) لا يوحى إليه في شأني قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: «أما بعد: يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا (3) , فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قَلُصَ (4) دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: إني والله لقد علمت، لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت إني بريئة، والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة لتصدقن، والله ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف (5) قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]. قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزلٌ في شأني وحيًا يتلى, ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها. 5 - نزول الوحي ببراءة عائشة: قالت: فوالله ما رام (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه   (1) فتثاور الحيان: أي تناهضوا للنزاع والعصبية. (2) التقيد بالشهر فهو المدة التي أولها إتيان عائشة إلى بيت أبويها. (3) كناية عما رميت به من الإفك. (4) قلص دمعي: أي ارتفع وذهب. (5) هو يعقوب عليه السلام. (6) ما رام: ما برح وما فارق مجلسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 ما كان يأخذه من البُرحَاء (1) حتى أنه ليتحدر منه مثل الجُمَان (2) من العرق، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي يَنْزِل عليه. قالت: فلما سُرِّي (3) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: «يا عائشةُ، أما الله عز وجل فقد برأك» فقالت أمي: قومي إليه، قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل. وأنزل الله: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ - لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ - لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ - وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ - وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ - يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ - وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ - وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [النور: 11 - 20]. 6 - موقف أبي بكر الصديق ممن تكلم في عائشة رضي الله عنها: فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله (وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور: 22]. قال أبو بكر: بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي، فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش (4) عن أمري فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي (5) سمعي وبصري، وما علمت إلا خيرًا، قالت: وهي التي كانت تساميني (6) من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعصمها   (1) البرحاء: شدة الكرب من ثقل الوحي. (2) الجمان: اللؤلؤ الصغار وقيل حب يتخذ من الفضة أمثال اللؤلؤ. (3) سُري: انكشف عنه ما يجده من الهم والثقل. (4) هي زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها وهي بنت عمته رضي الله عنها. (5) أحمي سمعي وبصري: أي أمنعهما من العذاب بسبب الكذب. (6) تساميني: أي تعاليني وتفاخرني, أي تطاولني عنده صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 الله (1) بالورع (2) وطفقت (3) أختها حمنة (4) تحارب لها, فهلكت ممن هلك من أصحاب الإفك (5). كانت قصة الإفك حلقة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعداء الدين، وكان من لطف الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين أن كشف الله زيفها وبطلانها، وسجل التاريخ بروايات صحيحة مواقف المؤمنين من هذه الفرية, لا سيما موقف أبي أيوب وأم أيوب، وهي مواقف يتأسى بها المؤمنون عندما تعرض لهم في حياتهم مثل هذه الفرية، فقد انقطع الوحي، وبقيت الدروس لتكون عبرة وعظة للأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (6). سادسًا: أهم الآداب والأحكام التي تؤخذ من آيات الإفك: أخذ العلماء من الآيات التي نزلت في حادثة الإفك أحكامًا وآدابًا من أهمها ما يأتي: 1 - تبرئة السيدة عائشة رضي الله عنها من الإفك بقرآن يتلى إلى آخر الزمان, قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ) [النور: 11]. 2 - أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يبزغ الخير من ثنايا الشر، فقد كان ابتلاء أسرة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بحديث الإفك خيرًا لهم, حيث كتب لهم الأجر العظيم على صبرهم وقوة إيمانهم, قال تعالى: (لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) [النور: 11]. 3 - الحرص على سمعة المؤمنين، وعلى حسن الظن فيما بينهم, قال تعالى: (لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) [النور: 12]. 4 - تكذيب القائلين بالإفك، قال تعالى: (لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النور: 13]. 5 - بيان فضل الله على المؤمنين ورأفته بهم, قال تعالى: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ) [النور: 14]. 6 - وجوب التثبت من الأقوال قبل نشرها، والتأكد من صحتها, قال تعالى: (وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 16].   (1) ومعنى عصمها: حفظها ومنعها. (2) الورع: الكف عن المحارم والتحرج منها. (3) طفقت: شرعت. (4) حمنة بنت جحش بنت عمته صلى الله عليه وسلم وهي أخت زينب رضي الله عنهما. (5) البخاري، كتاب التفسير باب (لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) رقم 4750. (6) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص440 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 7 - النهي عن اقتراف مثل هذا الذنب العظيم أو العودة إليه, قال تعالى: (يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ - وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النور:17، 18]. 8 - النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، قال تعالى: (وإِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونٌَ) [النور: 19]. 9 - بيان فضل الله سبحانه على عباده المؤمنين ورأفته بهم وكرر ذلك تأكيدًا له, قال تعالى: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) [النور: 20]. 10 - النهي عن تتبع خطوات الشيطان التي تؤدي للهلاك, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور: 21]. 11 - الحث على النفقة على الأقارب وإن أساءوا (1) , قال تعالى: (وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور: 22]. 12 - غيرة الله تعالى على عباده المؤمنين الصادقين, ودفاعه عنهم, وتهديده لمن يرميهم بالفحشاء باللعن في الدنيا والآخرة, قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 23 - 25]. قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات: ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ارتكب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مُفتنة، كل واحد منها كافٍ في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الآيات الثلاث: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) إلى قوله: (هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 23 - 25] لكفى بها حديثًا جعل القذفة معلونين في الدارين جميعًا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله (2).   (1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 385، 386). (2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/ 386) نقلاً عن تفسير الكشاف (3/ 223). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 13 - بيان سنة من سنن الله الجارية في الكون وهي أن الطيبين يجعلهم الله من نصيب الطيبات, والطيبات يجعلهن من نصيب الطيبين، قال تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [النور: 26]. 14 - والناس عندما رُميت الصديقة بنت الصديق بالإفك كانوا على أربعة أقسام (1): قال فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد - عند تعليقه على حديث يتعلق بقصة الإفك-: إن الناس عندما رُميت الصديقة بنت الصديق بالإفك كانوا أربعة أقسام: قسم: وهو أكثر الناس، حموا أسماعهم وألسنتهم فسكتوا، ولم ينطقوا إلا بخير ولم يصدقوا ولم يكذبوا، وقسم: سارع إلى التكذيب، وهم أبو أيوب الأنصاري وأم أيوب رضي الله عنهما، فقد وصفوه عند سماعه بأنه إفك وبرؤوا عائشة مما نسب إليها في الحال. أما القسم الثالث: فكانوا جملة من المسلمين لم يصدقوا ولم يكذبوا ولم ينفوه، ولكنهم يتحدثون بما يقول أهل الإفك, وهم يحسبون أن الكلام بذلك أمر هين لا يعرضهم لعقوبة الله؛ لأن ناقل الكفر ليس بكافر, وحاكي الإفك ليس بقاذف, ومن هؤلاء حمنة بنت جحش وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة. أما القسم الرابع: فهم الذين جاءوا بالإفك وعلى رأس هؤلاء عدو الله عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين لعنه الله وهو الذي تولى كبره. وقد أشار الله عز وجل إلى فضل القسم الثاني من هذه الأقسام، وأنه كان ينبغي لجميع المسلمين أن يقفوا هذا الموقف, فقال: (لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) [النور: 12]. أما القسم الثالث: فقد أشار الله عز وجل إلى أنه ما كان ينبغي لهم أن يتحدثوا بمثل هذا الحديث حيث يقول: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ - وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 15، 16]. وقد أثبت الله عز وجل لأهل هذا القسم فضائلهم التي عملوها حيث أثبت لمسطح هجرته وإيمانه عندما حلف أبو بكر أنه لن ينفق على مسطح، ولن يتصدق عليه وهو من ذوي قرابته, فقال عز وجل: (وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور: 22].   (1) انظر: حديث القرآن الكريم (1/ 387). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 أما القسم الرابع: وهو جماعة عبد الله بن أبي الذين جاءوا بالإفك واخترعوا هذا الكذب, فقد أشار الله إلى موتهم على الكفر، وأنه لن يقبل منهم توبة، وأنه أنزل عليهم لعنته في الدنيا والآخرة (1) , حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 23 - 25]. سابعًا: فوائد وأحكام ودروس من حادثة الإفك وغزوة بني المصطلق: 1 - بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم: جاءت محنة الإفك منطوية على حكمة إلهية استهدفت إبراز شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وإظهارها صافية مميزة عن كل ما قد يلتبس بها، فلو كان الوحي أمرًا ذاتيًّا غير منفصل عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم, لما عاش الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المحنة بكل أبعادها شهرًا كاملاً، ولكن الحقيقة التي تجلت للناس بهذه المحنة أن ظهرت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ونبوته، فعندما حسم الوحي اللغط الذي دار حول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عادت المياه إلى مجاريها بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرح الجميع بهذه النتيجة بعد تلك المعاناة القاسية، فدل ذلك على حقيقة الوحي، وأن الأمر لو لم يكن من عند الله تعالى لبقيت رواسب المحنة في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة, ولانعكس ذلك على تصرفاته مع زوجته عائشة رضي الله عنها، وهكذا شاء الله أن تكون هذه المحنة دليلاً كبيرًا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (2). 2 - حد القذف وأهميته في المحافظة على أعراض المسلمين: كان المجتمع الإسلامي يتربى من خلال الأحداث، فعندما وقعت حادثة الإفك أراد المولى -عز وجل- أن يشرع بعض الأحكام التي تساهم في المحافظة على أعراض المؤمنين, ولذلك نزلت سورة النور، التي تحدثت عن حكم الزاني والزانية وعن قبح فاحشة الزنا، وعما يجب على الحاكم أن يفعله إذا ما رمى أحد الزوجين صاحبه، وعن العقوبة التي أوجبها الله على الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى غير ذلك من الأحكام (3). إن الإسلام حرم الزنا، وأوجب العقوبة على فاعله، فقد حرم أيضًا كل الأسباب المسببة له، وكل الطرق الموصلة إليه، ومنها إشاعة الفاحشة والقذف بها لتنزيه المجتمع من أن تسري فيه ألفاظ الفاحشة والحديث عنها؛ لأن كثرة الحديث عن فاحشة الزنا وسهولة قولها في كل وقت يهون أمرها لدى سامعيها، ويجرئ ضعفاء النفوس على ارتكابها، لهذا حرمت الشريعة الإسلامية القذف بالزنا، وأوجبت على من قذف عفيفًا أو عفيفة, طاهرًا أو طاهرة, بريئًا أو بريئة   (1) انظر: فقه الإسلام، شرح بلوغ المرام، لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد (9/ 5). (2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص441. (3) انظر: حديث القرآن الكريم (1/ 357). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 من الزنا حد القذف وهو الجلد ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبة صادقة نصوحًا (1). هذا وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حد القذف على مسطح وحسان وحمنة، وروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحا وحسانًا وحمنة، وذكره الترمذي (2) قال القرطبي: والمشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حُدَّ حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد عبد الله بن أبي (3). وقد وردت آثار ضعيفة تدل على أن عبد الله بن أبي أقيم عليه الحد، ولكنها كلها ضعيفة لا تقوم بها حجة (4). وقد ذكر ابن القيم وجه الحكمة في عدم حد عبد الله بن أبي فقال: أ- قيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلاً لذلك, وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ويكفيه عن الحد. ب- وقيل: كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه. ج- وقيل: الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد, فإنه كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين. د- وقيل: بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته عليه، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارًا, وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم من الإسلام. ثم قال في ختام كلامه ولعله تُرك لهذه الوجوه كلها (5). 3 - اعتذار حسان - رضي الله عنه - للسيدة عائشة رضي الله عنها: قد بينت الروايات أن مَنْ خاض في الإفك قد تاب ما عدا ابن أبي، وقد اعتذر حسان - رضي الله عنه - عما كان منه، وقال يمدح عائشة بما هي أهل له (6): رأيتك وليغفر لك الله حرة ... من المحصنات غير ذات غوائل حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثي من لحوم الغوافل وإن الذي قد قيل ليس بلائق ... بك الدهر بل قيل امرئ متناحل   (1) انظر: آثار تطبيق الشريعة، د. محمد الزاحم، ص117. (2) انظر: تفسير القرطبي (12/ 197). (3) نفس المصدر (12/ 201). (4) انظر: مرويات غزوة بني المصطلق، ص242. (5) انظر: زاد المعاد (3/ 263، 264). (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 263). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 فإن كنت أهجوكم كما بلغوكم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي فكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل وإن لهم عزًا يرى الناس دونه ... قصارًا، وطال العز كل التطاول (1) 4 - من الأحكام المستنبطة من غزوة بني المصطلق: جواز الإغارة على من بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذار، ومنها صحة جعل العتق صداقًا كما فعل صلى الله عليه وسلم مع جويرية بنت الحارث في هذه الغزوة، ومنها مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن، ومنها جواز استرقاق العرب كما حدث في الغزوة وهو قول جمهور العلماء (2)، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سب عائشة رضي الله عنها بعد براءتها براءة قطعية بنص القرآن ورماها بما اتهمت به فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن (3). ومن الأحكام التي عرفت في هذه الغزوة حكم العزل عن النساء حيث سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فأذن به وقال: «ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة» (4). فذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزوجة الحرة بإذنها (5) , ونزلت آية التيمم في هذه الغزوة، تنويهًا بشأن الصلاة، وتنبيهًا على عظيم شأنها، وأنه لا يحول دون أدائها فقد الماء، وهو وسيلة الطهارة التي هي أعظم شروطها، كما لا يحول الخوف وفقد الأمن من إقامتها (6). * * *   (1) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص281. (2) انظر: كتاب الأم للشافعي (4/ 186). (3) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (5/ 643). (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (2/ 415). (5) انظر: نيل الأوطار للشوكاني (6/ 222 - 224). (6) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص210، 211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 الفصل الحادي عشر غزوة الأحزاب 5 هـ المبحث الأول تاريخ الغزوة، وأسبابها، وأحداثها أولاً: تاريخ الغزوة وأسبابها: 1 - تاريخ الغزوة: ذهب جمهور أهل السير والمغازي إلى أن غزوة الأحزاب كانت في شهر شوال من السنة الخامسة (1) , وقال الواقدي (2): إنها وقعت في يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة في العام الخامس الهجري، وقال ابن سعد (3): إن الله استجاب لدعاء الرسول فهزم الأحزاب يوم الأربعاء من شهر ذي القعدة سنة خمس من مهاجره صلى الله عليه وسلم، ونقل عن الزهري، ومالك بن أنس، وموسى بن عقبة، أنها وقعت سنة أربع هجرية (4). ويرى العلماء أن القائلين بأنها وقعت سنة أربع كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة، ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول, وهو مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة (5) وجزم ابن حزم (6) أنها وقعت سنة أربع لقول ابن عمر إن الرسول صلى الله عليه وسلم رده يوم أحد -وهي في السنة الثالثة باتفاق- وهو ابن أربع عشر سنة (7)، ولكن البيهقي (8)، وابن حجر (9) , وغيرهما فسروا ذلك بأن ابن عمر كان يوم أحد في بداية   (1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص443. (2) انظر: المغازي (2/ 440) بدون إسناد. (3) الطبقات (2/ 65، 73) بإسناد متصل. (4) انظر: البداية والنهاية (4/ 105). (5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص443. (6) انظر: جوامع السيرة، ص185. (7) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص444. (8) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/ 396). (9) انظر: الفتح (3/ 396). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 الرابعة عشرة ويوم الخندق في نهاية الخامسة عشرة وهو الموافق لقول الجمهور (1). وإلى ما ذهب إليه الجمهور وهو الراجح لديَّ مال ابن القيم حيث قال: وكانت سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، إذ لا خلاف أن أُحدًا كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل وهو سنة أربع، ثم أخلفوه من أجل جدب تلك السنة، فرجعوا فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه (2). 2 - أسبابها: إن يهود بني النضير بعد أن خرجوا من المدينة إلى خيبر خرجوا وهم يحملون معهم أحقادهم على المسلمين، فما أن استقروا بخيبر حتى أخذوا يرسمون الخطط للانتقام من المسلمين، فاتفقت كلمتهم على التوجه إلى القبائل العربية المختلفة لتحريضها على حرب المسلمين, وكونوا لهذا الغرض الخبيث وفدًا يتكون من سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس الوائلي وأبي عمار (3). وقد نجح الوفد نجاحًا كبيرًا في مهمته، حيث وافقت قريش التي شعرت بمرارة الحصار الاقتصادي المضروب عليها من قبل المسلمين، ووافقت غطفان طمعًا في خيرات المدينة وفي السلب والنهب وتابعتهم قبائل أخرى. وقد قال وفد اليهود لمشركي مكة: إن دينكم خير من دين محمد، وأنتم أولى بالحق منه (4) , وعن ذلك يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً - أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) [النساء: 51، 52]. وحول هذه المقالة أشار الأستاذ ولفنسون إلى الخطأ الكبير الذي وقع فيه هؤلاء اليهود بتفضيلهم دين قريش الوثني على دين الإسلام الذي يدعو إلى عبادة الإله الواحد، فقال: (والذي يؤلم كل مؤمن بإله واحد من اليهود والمسلمين على السواء، إنما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفر من اليهود وبين قريش الوثنيين، حيث فضل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دين صاحب الرسالة الإسلامية) (5) , ولا ريب فإن قريشًا قد سُرَّت بما سمعت من مدح لدينها، فازدادت حماسًا، وأصبحت أكثر تصميمًا على حرب المسلمين، ثم أعلنت   (1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص444. (2) انظر: زاد المعاد (2/ 288) (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 237). (4) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص310. (5) انظر: تاريخ اليهود في بلاد العرب، ولفنسون، ص142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 موافقتها على هذه الدعوة والاشتراك في الحملة التي ستهاجم المدينة، وضربت لها موعدًا (1). وقد أبرم الوفد اليهودي مع زعماء أعراب غطفان اتفاقية الاتحاد العربي الوثني اليهودي العسكري ضد المسلمين، وكان أهم بنود هذا الاتفاق هو: أ- أن تكون قوة غطفان في جيش الاتحاد هذا ستة آلاف مقاتل. ب- أن يدفع اليهود لقبائل غطفان (مقابل ذلك) كل تمر خيبر لسنة واحدة (2). لقد استطاع وفد اليهود أن يرجع من رحلته إلى المدينة، ومعه عشرة آلاف مقاتل؛ أربعة آلاف من قريش وأحلافها، وستة آلاف من غطفان وأحلافها، وقد نزلت تلك الأعداد الهائلة بالقرب من المدينة. ثانيًا: متابعة المسلمين للأحزاب: كان جهاز أمن الدولة الإسلامية على حذر تام من أعدائه؛ لذا فقد كان يتتبع أخبار الأحزاب، ويرصد تحركاتهم، ويتابع حركة الوفد اليهودي منذ خرج من خيبر في اتجاه مكة، وكان على علم تام بكل ما يجري بين الوفد اليهودي وبين قريش أولا, ثم غطفان ثانيًا، وبمجرد حصول المدينة على هذه المعلومات عن العدو شرع الرسول صلى الله عليه وسلم في اتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة، ودعا إلى اجتماع عاجل حضره كبار قادة جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار، بحث فيه معهم هذا الموقف الخطير الناجم عن مساعي اليهود الخبيثة (3). فأدلى سلمان الفارسي - رضي الله عنه - برأيه الذي يتضمن حفر خندق كبير لصد عدوان الأحزاب, فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, قال الواقدي -رحمه الله-: فقال سلمان: يا رسول الله, إنا إذا كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل، خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله أن تخندق؟ فأعجب رأي سليمان المسلمين) (4). وعندما استقر الرأي -بعد المشاورة- على حفر الخندق، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم هو وبعض أصحابه لتحديد مكانه واختار للمسلمين مكانًا تتوافر فيه الحماية للجيش. فقد ذكر الواقدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسًا له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعًا ينزله, فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سلعًا خلف ظهره ويخندق من المذاد إلى ذباب (5) إلى   (1) انظر: تاريخ اليهود في بلاد العرب، ولفنسون، ص310. (2) انظر: غزوة الأحزاب، محمد احمد باشميل، ص141. (3) المصدر نفسه، ص144، 145. (4) انظر: مغازي الواقدي (2/ 444) , والطبقات الكبرى (2/ 66). (5) ذباب: أكمة صغيرة في المدينة يفصل بينها وبين جبل سلع ثنية الوداع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 راتج (1) , وقد استفاد صلى الله عليه وسلم من مناعة جبل سلع (2) في حماية ظهور الصحابة. كان اختيار تلك المواقع موفقًا؛ لأن شمال المدينة هو الجانب المكشوف أمام العدو والذي يستطيع منه دخول المدينة وتهديدها، أما الجوانب الأخرى فهي حصينة منيعة، تقف عقبة أمام أي هجوم يقوم به الأعداء، فكانت الدور من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع، وكانت حرة واقم (3) من جهة الشرق, وحرة الوبرة من جهة الغرب، تقومان كحصن طبيعي، وكانت آطام بني قريظة في الجنوب الشرقي كفيلة بتأمين ظهر المسلمين، وكان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبني قريظة عهد ألا يمالئوا عليه أحدا، ولا يناصروا عدوًا ضده (4). ويستفاد من بحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن مكان ملائم لنزول الجند أهمية الموقع الذي ينزل فيه الجند، وأنه ينبغي أن يتوافر فيه شرط أساسي وهو الحماية التامة للجند؛ لأن ذلك له أثر واضح على سير المعركة ونتائجها (5). لقد كانت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في الخندق متطورة، ومتقدمة، حيث شرع بالأخذ بالأساليب الجديدة في القتال، ولم يكن حفر الخندق من الأمور المعروفة لدى العرب في حروبهم, بل كان الأخذ بهذا الأسلوب غريبًا عنهم، وبهذا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من استعمل الخندق في الحروب في تاريخ العرب والمسلمين، فقد كان هذا الخندق مفاجأة مذهلة لأعداء الإسلام، وأبطل خطتهم التي رسموها، وكان من عوامل تحقيق هذه المفاجأة ما قام به المسلمون من إتقان رفيع لسرية الخطة وسرعة إنجازها، وكان هذا الأسلوب الجديد في القتال له أثر في إضعاف معنويات الأحزاب وتشتيت قواتهم. ثالثًا: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالجبهة الداخلية: 1 - لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم جيش الأحزاب وأراد الخروج إلى الخندق أمر بوضع ذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم في حصن بني حارثة, حتى يكونوا في مأمن من خطر الأعداء، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم لأن حماية الذراري والنساء والصبيان لها أثر فعال على معنويات المقاتلين؛ لأن الجندي إذا اطمأن على زوجه وأبنائه يكون مرتاح الضمير هادئ الأعصاب, فلا يشغل تفكيره أمر من أمور الحياة, يسخر كل إمكاناته وقدراته العقلية والجسدية للإبداع في القتال، أما إذا كان الأمر بعكس ذلك فإن أمر الجندي يضطرب ومعنوياته تضعف ويستولي عليه القلق، مما   (1) راتج: حصن من حصون المدينة لأناس من اليهود. (2) جبل سلع: هو أشهر جبال المدينة، انظر: معجم البلدان (3/ 236). (3) هي حرة المدينة الشرقية: انظر: معجم معالم الحجاز (2/ 283، 285) (4) انظر: العبقرية العسكرية في غزوات الرسول، ص442. (5) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 يكون له أثر في تراجعه عن القتال؛ وبذلك تنزل الكارثة بالجميع (1). 2 - ومن الأمور التي ساهمت في تقوية وتماسك الجبهة الداخلية مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم جنده أعباء العمل، فقد شارك الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة في العمل المضني, فأخذ يعمل بيده الشريفة، في حفر الخندق، فعن ابن إسحاق قال: سمعت البراء يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر (2). فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة بهمة عالية لا تعرف الكلل، فأعطى القدوة الحسنة لأصحابه حتى بذلوا ما في وسعهم لإنجاز حفر ذلك الخندق. 3 - وكان صلى الله عليه وسلم يشارك الصحابة -رضي الله عنهم- في آلامهم وآمالهم، بل كان يستأثر بالمصاعب الجمة دونهم, ففي غزوة الأحزاب نجد أنه صلى الله عليه وسلم كان يعاني من ألم الجوع كغيره، بل أشد، حيث وصل به الأمر إلى أن يربط حجرًا على بطنه الشريف من شدة الجوع (3) , ثم إنه صلى الله عليه وسلم شاركهم في آمالهم فحين وجد ما يسد رمقه بعد هذا الجوع الذي استمر ثلاثًا، لم يستأثر بذلك دونهم, وهذا ما سوف نعرفه بإذن الله عند الحديث عن وليمة جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. 4 - رفع معنويات الجنود وإدخال السرور عليهم: اقترن حفر الخندق بصعوبات جمة، فقد كان الجو باردًا، والريح شديدة والحالة المعيشية صعبة، بالإضافة إلى الخوف من قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة، ويضاف إلى ذلك العمل المضني، حيث كان الصحابة يحفرون بأيديهم وينقلون التراب على ظهورهم، ولا شك في أن هذا الظرف بطبيعة الحال يحتاج إلى قدر كبير من الحزم، والجد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسَ في هذا الظرف أن هؤلاء الجند إنما هم بشر كغيرهم، لهم نفوس بحاجة إلى الراحة من عناء العمل، كما أنها بحاجة إلى من يدخل السرور حتى تنسى تلك الآلام التي تعانيها فوق معاناة العمل الرئيسي. ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب: اللهم لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأعادي قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا ثم يمد صوته بآخرها (4).   (1) انظر: غزوة الأحزاب، د. محمد عبد القادر أبو فارس، ص98. (2) انظر: البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الأحزاب، (5/ 57) رقم 4106. (3) انظر: غزوة الأحزاب، د. محمد أبو فارس، ص116، 117. (4) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/ 57) رقم 4106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 وعن أنس - رضي الله عنه - أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون يوم الخندق: نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الإسلام ما بقينا أبدًا أو قال على الجهاد والنبي يقول: اللهم إن الخير خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة (1) لقد كان لهذا التبسط والمرح في ذلك الوقت أثره في التخفيف عن الصحابة مما يعانونه نتيجة للظروف الصعبة التي يعيشونها، كما كان له أثره في بعث الهمة والنشاط بإنجاز العمل الذي كلفوا بإتمامه، قبل وصول عدوهم (2). 5 - تقدير ظروف الجند والإذن بالانصراف عند الحاجة: كان الصحابة رضي الله عنهم على قدر كبير من الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم, فكانوا يستأذنونه في الانصراف إذا عرضت لهم ضرورة، فيذهبون لقضاء حوائجهم، ثم يرجعون إلى ما كانوا فيه من العمل، رغبة في الخير واحتسابًا له, فأنزل الله فيهم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور: 62]. ومعنى الآية الكريمة: إذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن لقضاء بعض حاجاتهم التي تعرض لهم فأذن لمن شئت منهم في الانصراف عنك لقضائها، واستغفر لهم (3) , فكان النبي صلى الله عليه وسلم بالخيار، إن شاء أذن له إذا رأى ذلك ضرورة للمستأذن، ولم ير فيه مضرة على الجماعة، فكان يأذن أو يمنع حسب ما تقتضيه المصلحة ويقتضيه مقام الحال (4). 6 - تقسيم الصحابة إلى دوريات للحراسة: قسم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى مجموعات للحراسة ومقاومة كل من يريد أن يخترق الخندق، وقام المسلمون بواجبهم في حراسة الخندق وحراسة نبيهم صلى الله عليه وسلم, واستطاعوا أن يصدوا كل هجوم حاول المشركون شنه، وكانوا على أهبة الاستعداد جنودًا وقيادة، حتى أنهم استمروا ذات يوم من السحر إلى جوف من الليل في اليوم الثاني، ويفوت المسلمون الصلوات الأربع، ويقضونها لعجزهم عن التوقف لحظة واحدة أثناء الاشتباك المباشر للقتال، واستطاع علي بن أبي طالب مع مجموعة من الصحابة   (1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب (3/ 1432) رقم 129. (2) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص482. (3) انظر: صفوة التفاسير للصابوني (2/ 351). (4) أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1410). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 أن يصدوا محاولة عكرمة ابن أبي جهل، بل تصدى علي لبطل قريش عمرو بن عبد ود وقتله (1)، وكانت هناك مجموعة من الأنصار تقوم بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة على رأسهم عباد بن بشر - رضي الله عنه -، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو القائد الأعلى وهو المشرف المباشر على إدارة المعركة فهو الذي يرسم الخطط ويراقب تنفيذها فهو الذي: أ- أمر بحفر الخندق بعد أن تمت المشاورة في ذلك، فاختار مكانًا مناسبًا لذلك, وهي السهول الواقعة شمال المدينة، إذ كانت هي الجهة الوحيدة المكشوفة أمام الأعداء. ب- قسَّم أعمال حفر الخندق بين الصحابة، كل أربعين ذراعًا لعشرة من الصحابة، ووكل بكل جانب جماعة يحفرون فيه. ج- سيطر صلى الله عليه وسلم على العمل، فلا يستطيع أحد ترك عمله إلا بإذن منه صلى الله عليه وسلم. د- قسم صلى الله عليه وسلم واجبات احتلال الموضع بنفسه, بحيث تستمر الحراسة على كل شبر من الخندق ليلاً ونهارًا، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم بمهمة الإشراف العام على الجند بتشجيعهم ورفع معنوياتهم. هـ- استطاع صلى الله عليه وسلم لما يتمتع به من حنكة وبراعة سياسية مستمدة من شخصيته النبوية أن يمسك بزمام الأمور، وينقذ المؤمنين من الموقف الحرج الذي حدث لهم عندما وصلت الأحزاب إلى المدينة، وأصبح الخطر يهدد المدينة وما حولها (2) , فقد توحدت قيادة المسلمين تحت زعامته صلى الله عليه وسلم, فكان ذلك من أسباب كسب المعركة والفوز بها. * * * المبحث الثاني اشتداد المحنة بالمسلمين مع أن المسلمين أخذوا بكافة الاحتياطات في تأمين جبهتهم الداخلية, ومحاولة الدفاع عن الإسلام والمدينة من جيش الأحزاب الزاحف, إلا أن سنة الله الماضية لا نصر إلا بعد شدة، ولا منحة إلا بعد محنة، وكلما اقترب النصر زاد البلاء والامتحان، وقد ازدادت محنة المسلمين في الخندق لأمور: أولاً: نقض اليهود من بني قريظة العهد ومحاولة ضرب المسلمين من الخلف: كان المسلمون يخشون غدر يهود بني قريظة الذين يسكنون في جنوب المدينة فيقع المسلمون حينئذ بين نارين، اليهود خلف خطوطهم، والأحزاب بأعدادهم الهائلة من أمامهم،   (1) انظر: فقه السيرة لمنير الغضبان، ص504. (2) انظر: القيادة العسكرية في عصر الرسول، ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 ونجح اليهودي زعيم بني النضير في استدراج كعب بن أسد زعيم بني قريظة لينضم مع الأحزاب لمحاربة المسلمين. وسرت الشائعات بين المسلمين بأن قريظة قد نقضت عهدها معهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن تنقض بنو قريظة العهد الذي بينهم وبينه؛ لأن اليهود قوم لا عهد لهم ولا ذمة، ولذلك انتدب النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام (رجل المهمات الصعبة) ليأتيه من أخبارهم فذهب الزبير، فنظر ثم رجع فقال: يا رسول الله: رأيتهم يصلحون حصونهم ويدربون (1) طرقهم، وقد جمعوا ماشيتهم (2). وبعد أن كثرت القرائن الدالة على نقض بني قريظة للعهد، أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير -رضي الله عنهم- وقال لهم: انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًّا فالحنوا لي لحنًا (3) أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس (4). فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم قد نقضوا العهد, فرجعوا فسلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: عضل والقارة (5) , فعرف النبي صلى الله عليه وسلم مرادهم (6). واستقبل النبي صلى الله عليه وسلم غدر بني قريظة بالثبات والحزم واستخدام كل الوسائل التي من شأنها أن تقوي روح المؤمنين وتصدع جبهات المعتدين، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت نفسه (سلمة بن أسلم) في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل، يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير ليرهبوا بني قريظة, وفي هذه الأثناء استعدت بنو قريظة للمشاركة مع الأحزاب، فأرسلت إلى جيوشها عشرين بعيرًا كانت محملة تمرًا، وشعيرًا، وتينًا لتمدهم بها وتقويهم على البقاء إلا أنها أصبحت غنيمة للمسلمين الذين استطاعوا مصادرتها وأتوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم (7). ثانيًا: تشديد الحصار على المسلمين وانسحاب المنافقين ونشرهم الأراجيف: زادت جيوش الأحزاب في تشديد الحصار على المسلمين بعد انضمام بني قريظة إليها، واشتد الكرب على المسلمين، وتأزم الموقف، وقد تحدث القرآن الكريم عن حالة الحرج   (1) يدربون طرقهم: يسهلون طرقهم من أجل السير إلى المسلمين. (2) انظر: مغازي الواقدي (2/ 457). (3) لحنًا: أي كلام لا يفهمه أحد سواي. (4) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (3/ 199). (5) قبيلتان من هذيل سبق منهما الغدر بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذات الرجيع. (6) انظر: البداية والنهاية (4/ 95). (7) انظر: السيرة الحلبية (2/ 323). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 والتدهور التي أصابت المسلمين ووصف ما وصل إليه المسلمون من جزع وخوف، وفزع في تلك المحنة الرهيبة أصدق وصف, حيث قال تعالى: (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا - هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) [الأحزاب: 10، 11]. وكان ظن المسلمين بالله قويًا، وقد سجله القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22]. وأما المنافقون فقد انسحبوا من الجيش، وزاد خوفهم حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وطلب البعض الآخر الإذن لهم بالرجوع إلى بيوتهم بحجة أنها عورة، فقد كان موقفهم يتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وقد وردت روايات ضعيفة تحكي أقوالهم في السخرية والإجحاف والتخذيل (1) , ولكن القرآن الكريم يتكفل بتصوير ذلك أدق تصوير (2) , والآيات هي: (وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا - وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا - وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً - قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً - قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا - قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً - أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا - يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً) [الأحزاب: 13 - 20]. إن الآيات السابقة أشارت إلى النفاق وما تولد عنه من القلق في النفوس, والجبن في القلوب, وانعدام الثقة بالله عند تعاظم الخطوب والجرأة على الله تعالى بدل اللجوء إليه عند الامتحان، ولا يقف الأمر عند الاعتقاد بل يتبعه العمل المخذل المرجف، فهم يستأذنون الرسول صلى الله عليه وسلم للانصراف عن ميدان العمل، والقتال بحجج واهية؛ زاعمين أن بيوتهم مكشوفة   (1) انظر: المعجم الكبير للطبراني (11/ 376) مجمع الزوائد (6/ 131). (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 424). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 للأعداء، وإنما يقصدون الفرار من الموت لضعف معتقدهم وللخوف المسيطر عليهم، بل ويحثون الآخرين على ترك موقعهم والرجوع إلى بيوتهم، ولم يراعوا عقد الإيمان وعهود الإسلام (1). وتزايدت محاولات المشركين لاقتحام الخندق، وأصبحت خيل المشركين تطوف بأعداد كبيرة كل ليلة حول الخندق حتى الصباح، وحاول خالد بن الوليد مع مجموعة من فرسان قريش أن يقتحم الخندق على المسلمين في ناحية ضيقة منه, ويأخذهم على حين غرة، لكن أسيد بن حضير في مائتين من الصحابة يراقبون تحركاتهم، وقد حصلت مناوشات استشهد فيها الطفيل بن النعمان والذي قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد، رماه بحربة عبر الخندق فأصابت منه مقتلا (2)، واستطاع حبان بن العرقة من المشركين أن يرمي سهمًا أصاب سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في أكحله (3)، وقال: خذها وأنا بن العرقة، وقد قال سعد بن معاذ عندما أصيب: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إليَّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها شهادة, ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة (4). وقد استجاب الله دعوة هذا العبد الصالح وهو الذي سيحكم فيهم, ثم وجه المشركون كتيبة غليظة نحو مقر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقاتلهم المسلمون يومًا إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت كتيبة، فلم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا، وشغل بهم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل العصر، ولم تنصرف الكتيبة إلا مع الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» (5). ثالثًا: محاولة النبي صلى الله عليه وسلم تخفيف حدة الحصار بعقد صلح مع غطفان وبث الإشاعات في صفوف الأعداء: 1 - سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في المفاوضات مع غطفان: ظهرت حنكته صلى الله عليه وسلم وحسن سياسته حين اختار قبيلة غطفان بالذات لمصالحتها على مال يدفعه إليها على أن تترك محاربته وترجع إلى بلادها، فهو يعلم صلى الله عليه وسلم أن غطفان وقادتها ليس لهم من وراء الاشتراك في هذا الغزو أي هدف سياسي يريدون تحقيقه, أو باعث عقائدي يقاتلون تحت رايته، وإنما كان هدفهم الأول والأخير من الاشتراك في هذا الغزو الكبير هو الحصول   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 425). (2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (2/ 424). (3) الأكحل: عرق في وسط الذراع في كل عضو منه شعبة إذا قطع لم يرقأ الدم. (4) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود (3/ 1389) رقم 1769. (5) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/ 58) رقم 4111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 على المال بالاستيلاء عليه من خيرات المدينة عند احتلالها؛ ولهذا لم يحاول الرسول صلى الله عليه وسلم الاتصال بقيادة الأحزاب من اليهود (كحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع) أو قادة قريش كأبي سفيان بن حرب، لأن هدف أولئك الرئيسي، لم يكن المال, وإنما كان هدفهم هدفًا سياسيًّا وعقائديًّا يتوقف تحقيقه والوصول إليه على هدم الكيان الإسلامي من الأساس؛ لذا فقد كان اتصاله (فقط) بقادة غطفان، الذين (فعلاً) لم يترددوا في قبول العرض الذي عرضه عليهم النبي صلى الله عليه وسلم (1)، فقد استجاب القائدان الغطفانيان (عيينة بن حصن، والحارث بن عوف) لطلب النبي صلى الله عليه وسلم وحضرا مع بعض أعوانهما إلى مقر قيادة النبي صلى الله عليه وسلم واجتمعا به وراء الخندق مستخفين دون أن يعلم بهما أحد، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مفاوضتهم, وكانت تدور حول عرض تقدم به رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيه إلى عقد صلح منفرد بينه وبين غطفان، وأهم البنود التي جاءت في هذه الاتفاقية المقترحة: أ- عقد صلح منفرد بين المسلمين وغطفان الموجودة ضمن جيوش الأحزاب. ب- توادع غطفان المسلمين وتتوقف عن القيام بأي عمل حربي ضدهم (وخاصة في هذه الفترة). ج- تفك غطفان الحصار عن المدينة وتنسحب بجيوشها عائدة إلى بلادها. د- يدفع المسلمون لغطفان (مقابل ذلك) ثلث ثمار المدينة كلها من مختلف الأنواع، ويظهر أن ذلك لسنة واحدة (2) , فقد ذكر الواقدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقائدي غطفان: «أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟» قالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، وجاءا في عشرة من قومهما حين تقارب الأمر (3). ويعني قبول قائدي غطفان ما عرضه عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجهة العسكرية، وضوح الهدف الذي خرجت غطفان من أجله، وهو الوقود الذي يشعل نفوس هؤلاء ويحركها في جبهة القتال، ولا شك في أن اختفاء هذا الدافع يعني أن المحارب فقد ثلثي قدرته على القتال، وبذلك تضعف عنده الروح المعنوية التي تدفعه إلى الاستبسال في مواجهة خصمه؛ وبذلك استطاع صلى الله عليه وسلم أن يفتت ويضعف من قوة جبهة الأحزاب (4). فقد أبرز صلى الله عليه وسلم في هذه المفاوضات جانبًا من جوانب منهج النبوة في التحرك لفك الأزمات عند استحكامها وتأزمها, لتكون لأجيال المجتمع المسلم درسًا تربويًّا من دروس التربية المنهجية   (1) انظر: غزوة الأحزاب، محمد أحمد باشميل، ص201. (2) المصدر نفسه ص201، 202. (3) انظر: المغازي للواقدي (2/ 477). (4) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 عند اشتداد البلاء (1) , وقبل عقد الصلح مع غطفان شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة في هذا الامر، فكان رأيهم في عدم إعطاء غطفان شيئًا من ثمار المدينة وقال السعدان -سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة-: يا رسول الله أمرًا تحبه، فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة, وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما» فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت وذاك». فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا (2). كان رد زعيمي الأنصار سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة في غاية الاستسلام لله تعالى والأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، فقد جعلوا أمر المفاوضة مع غطفان ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون هذا الأمر من عند الله تعالى فلا مجال لإبداء الرأي بل لا بد من التسليم والرضا. والثاني: أن يكون شيئًا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، باعتباره رأيه الخاص، فرأيه مقدم وله الطاعة في ذلك. الثالث: أن يكون شيئًا عمله الرسول صلى الله عليه وسلم لمصلحة المسلمين من باب الإرفاق بهم، فهذا هو الذي يكون مجالا للرأي. ولما تبين للسعدين من جواب الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أراد القسم الثالث, أجاب سعد بن معاذ بجواب قوي كبت به زعيمي غطفان حيث بين أن الأنصار لم يذلوا لأولئك المعتدين في الجاهلية, فكيف وقد أعزهم الله تعالى بالإسلام، وقد أعجب النبي صلى الله عليه وسلم بجواب سعد, وتبين له منه ارتفاع معنوية الأنصار واحتفاظهم بالروح المعنوية العالية، فألغى بذلك ما بدأ به من الصلح مع غطفان (3). وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» (4) دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستهدف من عمله ألا يجتمع الأعداء عليه صفًّا واحدًا, وهذا يرشد المسلمين إلى عدة أمور منها: * أن يحاول المسلمون التفتيش عن ثغرات القوى المعادية.   (1) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/ 176). (2) انظر: البداية والنهاية (4/ 106). (3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 125). (4) انظر: البداية والنهاية (4/ 106). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 * أن يكون الهدف الإستراتيجي للقيادة المسلمة تحييد من تستطيع تحييده, ولا تنسى القيادة الفتوى والشورى والمصلحة الآنية والمستقبلية للإسلام (1). وفي استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة يبين لنا أسلوبه في القيادة, وحرصه على فرض الشورى في كل أمر عسكري يتصل بالجماعة، فالأمر شورى ولا ينفرد به فرد حتى ولو كان هذا الفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ما دام الأمر في دائرة الاجتهاد ولم ينزل به وحي (2). إن قبول الرسول صلى الله عليه وسلم رأي الصحابة في رفض هذا الصلح يدل على أن القائد الناجح هو الذي يربط بينه وبين جنده رباط الثقة، حيث يعرف قدرهم ويدركون قدره، ويحترم رأيهم ويحترمون رأيه، ومصالحة النبي صلى الله عليه وسلم مع قائدي غطفان تعد من باب السياسة الشرعية التي تراعي فيها المصالح والمفاسد حسب ما تراه القيادة الرشيدة للأمة (3). إن موقف الصحابة من هذا الصلح يحمل في طياته ثلاثة معانٍ: أ- أنه يؤكد شجاعة المسلمين الأدبية في إبداء الرأي، والمشورة في أي أمر يخص الجماعة، إذا دعت الحاجة إلى ذلك. ب- أنه يكشف عن جوهر المسلمين وعن حقيقة اتصالهم بالله ورسوله وبالإسلام. ج- أنه يبين ما تمتلئ به الروح المعنوية لدى المسلمين من قدرة على مواجهة المواقف الحرجة بالصبر, والرغبة القوية في قهر العدو, مهما كثر عدده وعتاده أو تعدد حلفاؤه (4). 2 - اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم ببث الخذلان في صفوف الأعداء: استخدام النبي صلى الله عليه وسلم سلاح التشكيك والدعاية لتمزيق ما بين الأحزاب من ثقة وتضامن، فلقد كان يعلم صلى الله عليه وسلم أن هناك تصدعًا خفيًا بين صفوف الأحزاب, فاجتهد أن يبرزه ويوسع شقته ويستغله في جانبه، فقد سبق أن أطمع غطفان ففكك عزمها، والآن ساق المولى عز وجل نعيم بن مسعود الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه، وقال له: يا رسول الله, إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة» (5). فقام نعيم بزرع الشك بين الأطراف المتحالفة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأغرى اليهود بطلب   (1) انظر: الأساس في السنة (2/ 687). (2) انظر: العبقرية العسكرية في غزوات الرسول، ص414. (3) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص414. (4) المصدر نفسه، ص 415، 416. (5) انظر: البداية والنهاية (4/ 113). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 رهائن من قريش لئلا تدعهم وتنصرف عن الحصار، وقال لقريش بأن اليهود إنما تطلب الرهائن لتسليمها للمسلمين ثمنًا لعودتها إلى صلحهم، لقد اشتهرت قصة نعيم بن مسعود في أنها لا تتنافى مع قواعد السياسة الشرعية, فالحرب خدعة (1). وقد نجحت دعاية نعيم بن مسعود أيما نجاح، فغرست روح التشكيك، وعدم الثقة بين قادة الأحزاب؛ مما أدى إلى كسر شوكتهم، وتهبيط عزمهم. وكان من أسباب نجاح مهمة نعيم قيامها على الأسس التالية: أ- أنه أخفى إسلامه عن كل الأطراف، بحيث وثق كل طرف فيما قدمه له من نصح. ب- أنه ذكر بني قريظة بمصير بني قينقاع وبني النضير، وبصرهم بالمستقبل الذي ينتظرهم إن هم استمروا في حروبهم للرسول صلى الله عليه وسلم, فكان هذا الأساس سببًا في تغيير أفكارهم وقلب مخططاتهم العدوانية. ج- أنه نجح في إقناع كل الأطراف بأن يكتم كل طرف ما قال له, وفي استمرار هذا الكتمان نجاح في مهمته، فلو انكشف أمره لدى أي طرف من الأطراف لفشلت مهمته. وهكذا قام نعيم بن مسعود بدور عظيم في غزوة الأحزاب (2). * * * المبحث الثالث مجيء نصر الله والوصف القرآني لغزوة الأحزاب أولاً: شدة تضرع الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول النصر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير التضرع والدعاء والاستعانة بالله, وخصوصا في مغازيه، وعندما اشتد الكرب على المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديدًا، فما كان من المسلمين إلا أن توجهوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، فقال: نعم. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا (3). وجاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم (4) , فاستجاب الله سبحانه دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم, فأقبلت بشائر الفرج فقد صرفهم الله بحوله وقوته، وزلزل أبدانهم وقلوبهم،   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 430). (2) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص477. (3) مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري (4/ 18). (4) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الأحزاب (5/ 59) رقم 4114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 وشتت جمعهم بالخلاف, ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده سبحانه, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الأحزاب: 9]. قال القرطبي -رحمه الله-: وكانت هذه الريح معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريبًا منهم، ولم يكن بينهم إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها ولا خبر عندهم بها ... وبعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط (1) , وأطفأت النيران, وأكفأت القدور, وجالت الخيول بعضها في بعض، وأرسل عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر حتى كان سيد كل خباء يقول: يا بني فلان هلم إليَّ فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء، لما بعث الله عليهم الرعب (2). وحرص الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤكد لصحبه ثم للمسلمين في الأرض، أن هذه الأحزاب التي تجاوزت عشرة آلاف مقاتل لم تهزم بالقتال من المسلمين، رغم تضحياتهم، ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنما هزمت بالله وحده: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الأحزاب: 9]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» (3). ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، واعتماده عليه وحده، لا يتناقض أبدا مع التماس الأسباب البشرية للنصر، فقد تعامل صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة مع سنة الأخذ بالأسباب, فبذل جهده لتفريق الأحزاب، وفك الحصار، وغير ذلك من الأمور التي ذكرناها (4). إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا سنة الأخذ بالأسباب, وضرورة الالتجاء إلى الله وإخلاص العبودية له؛ لأنه لا تجدي وسائل القوة كلها إذا لم تتوافر وسيلة التضرع إلى الله والإكثار من الإقبال عليه بالدعاء والاستغاثة, فقد كان الدعاء والتضرع إلى الله من الأعمال المتكررة الدائمة التي فزع إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كلها (5). ثانيًا: تحري انصراف الأحزاب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابع أمر الأحزاب, وأحب أن يتحرى عما حدث عن قرب فقال: ألا   (1) الفساطيط: جمع فسطاط نوع من الأبنية في السفر وهو دون السرادق. (2) انظر: تفسير القرطبي (4/ 144). (3) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5 - 59) رقم 4114. (4) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص503. (5) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 رجل يأتينا بخبر القوم, جعله الله معي يوم القيامة (1). فاستعمل صلى الله عليه وسلم أسلوب الترغيب، وكرره ثلاث مرات، وعندما لم يُجْدِ هذا الأسلوب لجأ إلى أسلوب الجزم والحزم في الأمر، فعين واحدًا بنفسه فقال: «قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم، ولا تذعرهم عليَّ» (2). وفي هذا معنى تربوي وهو أن القيادة الناجحة هي التي توجه جنودها إلى أهدافها عن طريق الترغيب والتشجيع، ولا تلجأ إلى الأمر والحزم إلا عند الضرورة. قال حذيفة - رضي الله عنه -: فمضيت كأنما أمشي في حمام, فإذا أبو سفيان يصلى ظهره بالنار, فوضعت سهمًا في كبد القوس، وأردت أن أرميه ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذعرهم عليَّ, ولو رميته لأصبته فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصابني البرد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسني فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائمًا حتى الصبح فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا نومان» (3). ويؤخذ من قصة حذيفة دروس وعبر منها: 1 - معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعادن الرجال، حيث اختار حذيفة ليقوم بمهمة التجسس على الأحزاب، وأن معدن حذيفة معدن ثمين فهو شجاع، ولا يقوم بهذه الأعمال إلا من كان ذا شجاعة نادرة, وهو بالإضافة إلى ذلك لبق ذكي خفيف الحركة، سريع التخلص من المآزق الحرجة. 2 - الانضباط العسكري الذي يتحلى به حذيفة: لقد مرت فرصة سانحة يقتل فيها قائد الأحزاب وهمَّ بذلك، ولكنه ذكر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يذعرهم، وأن مهمته الإتيان بخبرهم، فنزع سهمه من قوسه (4). 3 - كرامات الأولياء: إن ما حدث لحذيفة بن اليمان عندما سار لمعرفة خبر الأحزاب في جو بارد ماطر شديد الريح، وإذا به لا يشعر بهذا الجو البارد، ويمشي وكأنما يمشي في حمام، وتلازمه هذه الحالة مدة بقائه بين الأحزاب وحتى عاد إلى معسكر المسلمين؛ لا شك هذه كرامة يمنُّ الله بها على عباده المؤمنين (5). 4 - لطف النبي صلى الله عليه وسلم مع حذيفة عند رجوعه, فقد كان صلى الله عليه وسلم يترفق بأصحابه، ولم تمنعه صلاة الليل وحلاوة المناجاة من التلطف بحذيفة الذي جاء بأحسن الأنباء وأصدق الأخبار وأهمها، فشمله بكسائه الذي يصلي فيه، ليدفئه، وتركه ملفوفًا به حتى أتم صلاته، بل   (1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب (3/ 1414) رقم 1788. (2) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب رقم 1788. (3) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، (3/ 1414) رقم 1788. (4) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص505، السيرة النبوية لأبي فارس، ص367. (5) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 حتى بعد أن أفضى إليه بالمهمة، فلما وجبت المكتوبة أيقظه بلطف وخفة ودعابة قائلا: «قم يا نومان»، دعابة تقطر حلاوة, وتفيض بالحنان، وتسيل رقة، إنها صورة نموذجية للرأفة والرحمة اللتين تحلى بهما فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم, وتطبيق فريد رفيع لهما في أصحابه الكرام (1)، وصدق الله العظيم في قوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128]. 5 - وتستوقفنا سرعة البديهة لدى الصحابي الكريم، وقد دخل في القوم، كما في رواية الزرقاني، وقال أبو سفيان: ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه، قال حذيفة: فضربت بيدي على يد الذي على يميني فقلت: من أنت؟ قال: معاوية بن أبي سفيان، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن شمالي، فقلت: من أنت؟ قال: عمرو بن العاص (2). وهكذا بدرهم بالمسألة حتى لا يتيح لهم فرصة ليسألوه، وبهذا تخلص من هذا المأزق الحرج الذي ربما كان أودى بحياته (3). ثالثًا: الوصف القرآني لغزوة الأحزاب ونتائجها: تحدث القرآن الكريم عن غزوة الأحزاب ورد الأمر كله لله سبحانه, وقد سجل القرآن الكريم غزوتي الأحزاب وقريظة، والقرآن كعهدنا به يسجل الخالدات التي تسع الزمان والمكان، فالمسلمون معرضون دائمًا لأن يغزوا في عقر دارهم وفي عواصم بلدانهم، ومعرضون لأن يتكالب عليهم الأعداء جميعًا، فأن يسجل القرآن حادثتي الأحزاب وقريظة فذلك من سمة التكرار على مدى العصور (4)؛ لكي يستفيد المسلمون من الدروس والعبر من الحوادث السابقة التي ذكرت في القرآن الكريم على وجه الخصوص. والذي يتدبر حديث القرآن عن غزوة الأحزاب يراه قد اهتم ببيان أمور من أهمها ما يلي: 1 - تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم, كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الأحزاب:9]. 2 - التصوير البديع لما أصاب المسلمين من هم بسبب إحاطة الأحزاب بالمدينة: (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب: 10].   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص246. (2) انظر: شرح الزرقاني (2/ 120). (3) انظر: من معين السيرة، ص293. (4) انظر: الأساس في السنة (2/ 662) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 3 - الكشف عن نوايا المنافقين السيئة، وأخلاقهم الذميمة، وجبنهم الخالع, ومعاذيرهم الباطلة, ونقضهم للعهود, قال تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا) [الأحزاب: 12]. 4 - حض المؤمنين في كل زمان ومكان على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله, وجهاده وكل أحواله استجابة لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]. 5 - مدح المؤمنين على مواقفهم النبيلة وهم يواجهون جيوش الأحزاب بإيمان صادق ووفاء بعهد الله تعالى, قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23]. 6 - بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف, وهي جعل العاقبة للمؤمنين والهزيمة لأعدائهم, قال تعالى: (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) [الأحزاب: 25]. 7 - امتنانه سبحانه على عباده المؤمنين حيث نصرهم على بني قريظة, وهم في حصونهم المنيعة بدون قتال يذكر، حيث ألقى سبحانه الرعب في قلوبهم فنزلوا على حكم الله ورسوله (1) , قال تعالى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا - وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) [الأحزاب: 26، 27]. لقد كانت غزوة الأحزاب من الغزوات الهامة التي خاضها المسلمون ضد أعدائهم وحققوا فيها نتائج مهمة منها: * انتصار المسلمين, وانهزام أعدائهم, وتفرقهم, ورجوعهم مدحورين بغيظهم قد خابت أمانيهم وآمالهم. * تغير الموقف لصالح المسلمين, فانقلبوا من موقف الدفاع إلى الهجوم، وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «الآن نغزوهم، ولا يغزوننا, نحن نسير إليهم» (2). * كشفت هذه الغزوة يهود بني قريظة وحقدهم على المسلمين وتربص الدوائر بهم، فقد نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك الظروف وأصعبها. * كشفت غزوة الأحزاب حقيقة صدق إيمان المسلمين وحقيقة المنافقين وحقيقة يهود   (1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (2/ 490، 491). (2) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، (5/ 58) رقم 4110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 بني قريظة, فكان الابتلاء بغزوة الأحزاب تمحيصًا للمسلمين وإظهار حقيقة المنافقين واليهود. * كانت غزوة بني قريظة نتيجة من نتائج غزوة الأحزاب، حيث تم فيها محاسبة يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك الظروف وأقساها (1). رابعًا: التخلص من بني قريظة: بعد عودة النبي من الخندق ووضعه السلاح أمر الله تعالى نبيه بقتال بني قريظة، فأمر الحبيب صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتوجه إليهم, وقد أعلمهم بأن الله تعالى قد أرسل جبريل ليزلزل حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب وأوصاهم بأن: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» (2). وضرب المسلمون الحصار على بني قريظة خمسًا وعشرين ليلة (3) , ولما اشتد الحصار وعظم البلاء على بني قريظة، أرادوا الاستسلام والنزول على أن يحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - ونزلوا على حكمه, ورأوا أنه سيرأف بهم بسبب الحلف بينهم وبين قومه الأوس، فجيء بسعد محمولاً؛ لأنه كان قد أصابه سهم في ذراعه يوم الخندق, فقضى أن تُقتل المقاتلة، وأن تُسبى النساء والذرية، وأن تُقسم أموالهم، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «قضيت بحكم الله» (4) ونفذ حكم الإعدام في أربعمائة في سوق المدينة، حيث حفرت أخاديد وقتلوا فيها بشكل مجموعات، وقد نجا مجموعة قليلة جدا بسبب وفائها للعهد ودخولها في الإسلام، وقسمت أموالهم وذراريهم على المسلمين. وهذا جزاء عادل نزل بمن أراد الغدر وتبرأ من حلفه للمسلمين، وكان جزاؤهم من جنس عملهم, حين عرضوا بخيانتهم أرواح المسلمين للقتل، وأموالهم للنهب، ونساءهم وذراريهم للسبي، فكان أن عوقبوا بذلك جزاء وفاقًا (5). ولم تقتل من نساء بني قريظة إلا واحدة، ونترك السيدة عائشة -رضي الله عنها- تحدثنا عنها، قالت السيدة عائشة: لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة قالت: والله إنها لعندي تتحدث معي تضحك ظهرًا وبطنًا (6) , ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله، قالت: قلت: ويلك وما لك؟ قالت: أقتل, قلت: ولم؟ قالت: حدثًا   (1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (2/ 442). (2) البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب (5/ 60) رقم 4119. (3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص373. (4) البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع رسول الله من الأحزاب (5/ 61) رقم 4121. (5) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 315 - 317). (6) ظهرًا وبطنًا: لا يبدو على ملامحها أثر الحزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 أحدثته (1) قالت: فانطلق بها فضربت عنقها، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: والله ما أنسى عجبي من طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل (2). بالقضاء على بني قريظة خلت المدينة تمامًا من الوجود اليهودي، وصارت خالصة للمسلمين، وخلت الجبهة الداخلية من عنصر خطر، لديه القدرة على المؤامرة والكيد والمكر، واضمحل حلم قريش؛ لأنها كانت تعول، وتؤمل في يهود بأن يكون لهم موقف ضد المسلمين، وابتعد خطر اليهود الذي كان يمد المنافقين بأسباب التحريض والقوة (3). إن حماية الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية من العابثين منهج نبوي كريم رسمه الحبيب المصطفى للأمة المسلمة. * * * المبحث الرابع فوائد ودروس وعبر أولاً: المعجزات الحسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهرت خلال مرحلة حفر الخندق معجزات حسية للنبي صلى الله عليه وسلم, منها تكثير الطعام الذي أعده جابر بن عبد الله، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: إنا يوم الخندق مُحفِّر (4) , فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازل» ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب في الكدية فعاد كثيبًا أهيل (5) أو أهيم (6). قال جابر: فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ما كان في ذلك صبر, فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعناق (7) , فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم بالبرمة (8) , ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي (9). قد كادت أن تنضج، فقلت: طُعَيمٌ لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان،   (1) طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، فقتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم به. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص377. (3) انظر: سيرة الرسول، دروزة (2/ 76) نقلا عن دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص153. (4) محفر: اسم فاعل من حفَّر. (5) أهيل: رملاً سائلاً. انظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 289). (6) أهيم: الرمل الذي لا يتمالك، انظر: لسان العرب (3/ 858). (7) العناق: الأنثى من أولاد الماعز، انظر: النهاية في غريب الحديث (3/ 310). (8) البرمة: هي القدر مطلقًا، انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 121). (9) الأثافي: الحجارة التي تنصب ويجعل القدر عليها، انظر: القاموس المحيط (3/ 120) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 قال: «كم هو؟» فذكرت له، فقال «كثير طيب» , قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي. فقال: «قوموا»، فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحكِ جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم, قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال «ادخلوا ولا تضاغطوا» (1) فجعل يكثر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه, ويقرب إلى أصحابه, ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية، قال: «كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة» (2). وهذه ابنة بشير بن سعد تقول: دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما، قالت: فأخذتها فانطلقت بها, فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي, فقال: تعالي يا بنية ما هذا معك؟ فقلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد الله بن رواحة يتغذيانه، قال: هاتيه، قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له ثم دعا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلم إلى الغذاء، فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب (3). ففي هذين الخبرين معجزات حسية ظاهرة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما يظهر دور المرأة المسلمة في مشاركة المسلمين في جهادهم، فعندما اشتغل المسلمون بحفر الخندق تركوا أعمالهم، وبعدت عنهم أرزاقهم، وقل عنهم القوت, وأصاب الناس جوع وحرمان حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه يشدون على بطونهم الحجارة من شدة الجوع، فكانت المرأة المسلمة تعين المسلمين بإعداد ما قدرت عليه من الطعام (4). ومن دلائل النبوة أثناء حفر الخندق إخباره صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر- وهو يحفر معهم الخندق- بأن ستقتله الفئة الباغية, فقتل في صفين وكان في جيش علي (5)، وعندما اعترضت صخرة الصحابة وهم يحفرون، ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات فتفتتت قال إثر الضربة الأولى: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة»، ثم ضربها الثانية فقال: «الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض»، ثم ضرب الثالثة، وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من   (1) ولا تضاغطوا: أي لا تزاحموا. انظر: لسان العرب (2/ 537). (2) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/ 55) رقم 4101. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 241). (4) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص175. (5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص448. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 مكاني هذه الساعة» (1). وقد تحققت هذه البشارة التي أخبرت عن اتساع الفتوحات الإسلامية والإخبار عنها في وقت كان المسلمون فيه محصورين في المدينة يواجهون المشاق والخوف والجوع والبرد القارس (2). ثانيًا: بين التصور والواقع: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله وصحبتموه؟ قال: نعم، يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، فقال حذيفة: يا ابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالخندق (3)، ثم ذكر حديث تكليفه بمهمة الذهاب إلى معسكر المشركين. هذا تابعي يلتقي بالصحابي حذيفة ويتخيل أنه لو وجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستطاع أن يفعل ما لم يفعله الصحابة الكرام، والخيال شيء والواقع شيء آخر، والصحابة رضي الله عنهم بشر، لهم طاقات البشر، وقدراتهم، وقد قدموا كل من يستطيعون، فلم يبخلوا بالأنفس فضلا عن المال والجهد، وقد وضع صلى الله عليه وسلم الأمور في نصابها بقوله: «خير القرون قرني» فبين أن عملهم لا يعدله عمل. إن الذين جاءوا من بعد، فوجدوا سلطان الإسلام ممتدًا، وعاشوا في ظل الأمن والرخاء والعدل، بعيدين عن الفتنة والابتلاء، هم بحاجة إلى نقلة بعيدة يستشعرون من خلالها أجواء الماضي بكل ما فيه من جهالات وضلالات وكفر، وبعد ذلك يمكنهم تقدير الجهد المبذول من الصحابة حتى قام الإسلام في الأرض (4). ثالثًا: سلمان منا أهل البيت (5): قال المهاجرون يوم الخندق: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت (6)، وهذا الوسام النبوي الخالد لسلمان يشعر بأن سلمان من المهاجرين؛ لأن أهل البيت من المهاجرين (7).   (1) المصدر نفسه، ص449. (2) انظر: نضرة النعيم (1/ 325). (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 255). (4) انظر: من معين السيرة للشامي، ص291. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 247). (6) المصدر نفسه (3/ 247) ضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير. (7) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 108). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 رابعًا: الصلاة الوسطى: قال صلى الله عليه وسلم: «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» (1). وقد استدل طائفة من العلماء بهذا الحديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، كما هو منصوص عليه، وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث، وقد استدل طائفة من العلماء بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال كما هو مذهب مكحول والأوزاعي (2). قال الدكتور البوطي: لقد فاتت النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر كما رأيت في هذه الموقعة، لشدة انشغاله، حتى صلاها قضاء بعدما غربت الشمس. وفي روايات أخرى غير الصحيحين أن الذي فاته أكثر من صلاة واحدة، صلاها تباعًا بعدما خرج وقتها وفرغ لأدائها، وهذا يدل على مشروعية قضاء الفائتة، ولا ينقض هذه الدلالة ما ذهب إليه البعض من أن تأخير الصلاة لمثل ذلك الانشغال كان جائزًا إذ ذاك ثم نسخ حينما شرعت صلاة الخوف للمسلمين رجالاً وركبانًا عند التحام القتال بينهم وبين المشركين، إذ النسخ على فرض صحته ليس واردًا على مشروعية القضاء، وإنما هو وارد على صحة تأخير الصلاة بسبب الانشغال, أي أن نسخ صحة التأخير ليس نسخًا لما كان قد ثبت من مشروعية القضاء أيضًا، بل هي مسكوت عنها, فتبقى على مشروعيتها السابقة (3). خامسًا: الحلال والحرام: عرضت قريش فداء مقابل جثة عمرو بن ود، فقال صلى الله عليه وسلم: «ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية فلم يقبل منهم شيئًا». حدث هذا والمسلمون في ضنك من العيش، ومع ذلك فالحلال حلال والحرام حرام، إنها مقاييس الإسلام في الحلال والحرام، فأين هذا من الناس المحسوبين على المسلمين الذين يحاولون إيجاد المبررات لأكل الربا وما شابهه؟ (4) سادسًا: شجاعة صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم: كان صلى الله عليه وسلم قد وضع النساء والأطفال في حصن فارع وهو حصن قوي، حماية لهم؛ لأن المسلمين في شغل عن حمايتهم لمواجهتهم جيوش الأحزاب, فعندما نقض يهود بني قريظة   (1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق رقم 4111. (2) انظر: الأساس في السنة (2/ 682). (3) انظر: فقه السيرة النبوية، ص223. (4) انظر: من معين السيرة، ص294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت يهوديًّا ليستطلع وضع الحصن الذي فيه نساء المسلمين وأطفالهم, فأبصرته صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت عمودًا ونزلت من الحصن فضربته بالعمود فقتلته، فكان هذا الفعل من صفية رادعًا لليهود من التحرش بهذا الحصن الذي ليس فيه إلا النساء والأطفال، حيث ظنت يهود بني قريظة أنه محمي من قبل الجيش الإسلامي، أو أن فيه على الأقل من يدافع عنه من الرجال (1) , ففي هذا الخبر دليل للمرأة في الدفاع عن نفسها إن لم تجد من يدافع عنها (2). سابعًا: عدم صحة ما يروى عن جبن حسان - رضي الله عنه -: ففي قصة صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلها لليهودي جاء في رواية سندها ضعيف (3) أن صفية -رضي الله عنها- قالت لحسان بن ثابت: إن هذا اليهودي يطيف بالحصن كما ترى، ولا آمنه أن يدل على عورتنا من ورائنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت صفية: فلما قال ذلك، احتجزت عمودًا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت الحصن، فقلت: يا حسان انزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني أن استلبه إلا أنه رجل، فقال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب (4). وهذا الخبر لا يصح لأمور منها: 1 - من حيث الإسناد فالخبر ليس مسندًا, وهو ساقط لا يصح ولا يجوز أن يروى، فيساء إلى صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينافح عن الدعوة وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمره كله. 2 - لو كان حسان بن ثابت - رضي الله عنه - معروفًا بالجبن الذي ذكر عنه لهجاه أعداؤه ومبغضوه بهذه الخصلة الذميمة, لا سيما الذين كان يهاجيهم، فلم يسلم من هجائه أحد من زعماء الجاهلية، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤيده ويدعو له، ويشجعه على هجاء زعماء المشركين (5). ثامنًا: أول مستشفى إسلامي حربي: أنشأ المسلمون أول مستشفى إسلامي حربي في غزوة الأحزاب, فقد ضرب الرسول صلوات الله وسلامه عليه خيمة في مسجده الشريف في المدينة، عندما دارت رحى غزوة   (1) انظر: الرحيق المختوم، ص283، 284. (2) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/ 246). (3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص365. (4) المصدر نفسه، ص365. (5) انظر: غزوة الأحزاب، الدكتور أبو فارس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 الأحزاب, فأمر صلى الله عليه وسلم أن تكون رفيدة الأسلمية الأنصارية رئيسة ذلك المستشفى النبوي الحربي، وبذلك أصبحت أول ممرضة عسكرية في الإسلام (1) , وجاء في السيرة النبوية لابن هشام: ... وكان صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من به ضيعة من المسلمين، وكان صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصاب سعد بن معاذ السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب» (2). ويفهم من النص السابق أن من أصيب من المسلمين إن كان له أهل اعتنى به أهله، وإن لم يكن له أهل، جيء به إلى المسجد حيث ضربت خيمة فيه لمن كانت به ضيعة من المسلمين، وسعد بن معاذ الأوسي، ليس به ضيعة، ولكن لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم الاطمئنان عليه باستمرار، جعله في تلك الخيمة التي أعدت لمن به ضيعة وليس له أهل، ذلك أن هؤلاء هم في رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإلا فلم ضربت الخيمة في المسجد، وكان بالإمكان ضربها في أي مكان آخر؟ إن سعد بن معاذ يكرم لمآثره وما بذله في سبيل الله تعالى، فيكون هذا التكريم أن يجعل في خيمة أعدت لمن به ضيعة، وهكذا حينما يرتفع السادة يجعلون مع المغمورين الذين أخلصوا أعمالهم لله تعالى فاستحقوا أن يكونوا في رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) , وهذا منهج نبوي كريم أصبح دستورًا للمسلمين على مدى الزمن. تاسعًا: المسلم يقع في الإثم ولكنه يسارع في التوبة: أرسل بنو قريظة إلى أبي لبابة بن عبد المنذر -وكانوا حلفاءه- فاستشاروه في النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأشار إلى حلقه يعني الذبح، ثم ندم فتوجه إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فارتبط به حتى تاب الله عليه، وقد ظل مرتبطًا بالجذع في المسجد ست ليالٍ تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط في الجذع (4)، وقد قال أبو لبابة: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت: قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك فقلت: مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك. قال: تيب على أبي لبابة، قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئتِ، فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك قالت: فثار الناس ليطلقوه فقال: لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده. فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجًا إلى صلاة الصبح أطلقه (5). وذلك في   (1) انظر: المستشفيات الإسلامية، الدكتور عبد الله السعيد، ص43. (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 263). (3) انظر: من معين السيرة، ص294. (4) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 286). (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 262). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 الاعتراف بالذنب والتوبة النصوح، وإن موطن العبرة في هذا الموقف يكمن في تصرف أبي لبابة بعدما وقعت منه هذه الزلة التي أفشى بها سرًّا حربيًّا خطيرًا، فأبو لبابة لم يحاول التكتم على ما بدر منه والظهور أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بمظهر الرجل الذي أدى مهمته بنجاح, وأنه لم يحصل منه شيء من المخالفات، وكان بإمكانه أن يخفي هذا الأمر حيث لم يطلع عليه أحد من المسلمين، وأن يستكتم اليهود أمره، ولكنه تذكر رقابة الله عليه وعلمه بما يسر ويعلن، وتذكر حق رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيم عليه وهو الذي ائتمنه على ذلك السر، ففزع لهذه الزلة فزعًا عظيمًا (1)، وأقر بذنبه واعترف به وبادر إلى العقوبة الذاتية التلقائية، دون انتظار التحقيق وتوقيع العقوبة الواجبة، إنها صورة تطبيقية لقوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 17]. إنها صورة فريدة لتوقيع العقوبة من الإنسان نفسه على نفسه ... ولا يفعل ذلك إلا أهل الإيمان، وما ذلك إلا من آثار الإيمان العميق الراسخ، الذي لا يرضى لصاحبه أن يخالطه إثم أو فسوق. وقد فرح الصحابة وفرح النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، بتوبة الله على أبي لبابة، وتسابقوا إلى تهنئته حتى كانت أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم هي التي بادرت بالتهنئة بعد الإذن فبشرته بقبول الله توبته (2). وقد أنزل الله تعالى في أبي لبابة قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27]. ونزل في توبته قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 102] (3). عاشرًا: من فضائل سعد بن معاذ - رضي الله عنه -: ظهرت لسعد بن معاذ - رضي الله عنه - في هذه الغزوة فضائل كثيرة تدل على فضله ومنزلته عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منها: * استجابة الله تعالى لدعائه عندما قال: (اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم وأخرجوه، اللهم فإن بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك)، وقد استجيب دعاؤه فتحجر جرحه، وتماثل للشفاء (4) حتى كانت غزوة   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 165). (2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص261. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، (3/ 262). (4) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 بني قريظة، وكان سعد قد دعا أيضًا: (ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إليه، فحكم فيهم بالحق ولم تأخذه في الله لومة لائم, وهذا دليل على تجرد قلبه لله تعالى (1). * ومن إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله للأنصار عندما جاء سعد للحكم في بني قريظة: «قوموا إلى سيدكم» (2). وهذا تكريم لسعد، وتقدير لشجاعته حيث سماه سيدًا، وأمر بالقيام له (3). * وعندما نفذ حكم الله في يهود بني قريظة رفع سعد يده يدعو الله ثانية يقول: اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم (يعني قريشًا والمشركين) , فإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها (4) , وقد استجيب دعاؤه فانفجر جرحه تلك الليلة ومات رحمه الله (5). ومن خلال دعائه الأول والثاني، نلحظ هذا الدعاء العجيب، دعاء العظماء الذين يعرفون أن رسالتهم في الحياة ليست الاستشهاد فقط، بل متابعة الجهاد إلى اللحظة الأخيرة، فهو المسؤول عن نصرة الإسلام في قومه وأمته (6). * ونرى من سيرته أنه لو أقسم على الله لأبره، فهو وجيه في السماوات والأرض، فقد شاءت إرادة المولى تعالى أن يعيد الأمر في بني قريظة كله إليه، وأن يطلب بنو قريظة أن يكون الحكم فيهم لسعد بن معاذ. * إنه لم يحرص كثيرًا على الحياة، بعد انتهاء الجهاد، وانتهاء المسئولية وتأدية الأمانة المناطة به في قيادة قومه لحرب الأحمر والأسود من الناس، فإذا انتهت الحروب ووضعت بين المسلمين وقريش, وشفى غيظ قلبه في الحكم في بني قريظة، وبدا قطف الثمار للإسلام فلا ثمرة أشهى من الشهادة (فافجر جرحى واجعل موتي فيه) (7). وقد تحققت آماله، فقد أصدر حكمه في بني قريظة وشهد مصرع حلفاء الأمس أعداء اليوم، وها هو جرحه ينفجر (8).   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 170). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 263). (3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص265. (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 275). (5) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص228. (6) انظر: التربية القيادية (3/ 70). (7) انظر: التربية القيادية (4/ 71). (8) المصدر نفسه (4/ 74). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 وعندما انفجر جرحه نقله قومه فاحتملوه إلى بني عبد الأشهل إلى منازلهم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: انطلقوا فخرج وخرج معه الصحابة، وأسرع حتى تقطعت شسوع نعالهم، وسقطت أرديتهم، فقال: إني أخاف أن تسبقنا الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة، فانتهى إلى البيت وهو يغسل، وأمه تبكيه وتقول: ويل أم سعد سعدًا ... حزامة وجدًّا فقال: كل نائحة تكذب إلا أم سعد، ثم خرج به, وقال: يقول له القوم: ما حملنا يا رسول الله ميتًا أخف علينا منه قال: «وما يمنعه أن يخف؟ وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومهم قد حملوه معكم» (1). وقد جاء في النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما عدد الملائكة الذين شاركوا في تشييع جنازة سعد فقد قال صلى الله عليه وسلم: «هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفُتحت أبواب السماء، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة, لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك، لقد ضم ضمة ثم أفرج عنه» (2) يعني سعدًا. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع سعدًا كما روى عبد الله بن شداد: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكيد نفسه فقال: «جزاك الله خيرًا من سيد قوم، فقد أنجزت ما وعدته، ولينجزك الله ما وعدك» (3). * لقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العبد الصالح بعد موته كثيرًا أمام الصحابة ليتعرف الناس على أعماله الصالحة فيتأسوا به (4)، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» (5) وفي حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يلمسونه ويعجبون من لينها، فقال: «أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين» (6). ومع كل هذه المآثر والمحاسن والأعمال الجليلة التي قدمها لخدمة دين الله، فقد تعرض لضمة القبر: لما انتهوا إلى قبر سعد - رضي الله عنه - نزل فيه أربعة: الحارث بن أوس، وأسيد بن الحضير، وأبو نائلة سلكان، وسلمة بن سلامة بن وقش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف، فلما وضع في قبره، تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبح ثلاثًا، فسبح المسلمون حتى ارتج البقيع ثم كبَّر ثلاثًا،   (1) انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 287) إسناده حسن. (2) انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 295) إسناد صحيح، أخرجه النسائي (4/ 100) في الجنائز. (3) انظر: سير أعلام النبلاء (1/ 288) رجاله ثقات. (4) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 171). (5) مسلم، فضائل الصحابة رقم 2466. (6) مسلم، فضائل الصحابة، رقم 2468. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 وكبَّر المسلمون، فسئل عن ذلك فقال: «تضايق على صاحبكم القبر، وضم ضمة لو نجا منها أحد لنجا هو، ثم فرج الله عنه» (1). إن هذا الصحابي الجليل قد استُشهد وهو في ريعان شبابه، فقد كان في السابعة والثلاثين من عمره، يوم وافته منيته، وهذا يعني أنه قاد قومه إلى الإسلام وهو في الثلاثين من عمره، فقد كانت هذه السيادة في العشرينيات من عمره، وقبل أن يكون على مشارف الثلاثين، وإنما تنفجر الطاقات الكامنة والمواهب بعد سن الأربعين التي هي غاية الرشد قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف: 15]. فأي طراز هذا الذي حفل تاريخه بهذه المآثر، واستبشر أهل السماوات بقدومه, واهتز عرش الرحمن فرحًا لوفاته، من دون خلق الله أجمعين (2). كان سعد بن معاذ، رجلا أبيض، طوالاً، جميلاً، حسن الوجه، أعين، حسن اللحية (3) , رحمة الله عليه ورضي عنه، وأعلى ذكره في المصلحين. حادي عشر: مقتل حيي بن أخطب وكعب بن أسد: 1 - مقتل حيي بن أخطب النضري: روى عبد الرزاق في مصنفه بالسند إلى سعيد بن المسيب، فذكر بعض خبر الأحزاب وقريظة إلى أن قال: فلما فض الله جموع الأحزاب انطلق -يعني حيي- حتى إذا كان بالروحاء ذكر العهد والميثاق الذي أعطاهم، فرجع حتى دخل معهم، فلما أقبلت بنو قريظة أتي به مكتوفًا بعد، فقال حيي للنبي صلى الله عليه وسلم: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يُخذل، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فضربت عنقه (4). ثم أنه أقبل على الناس قبل تنفيذ حكم الإعدام وقال لهم: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه (5). وفي مقتل حيي بن أخطب دروس وعبر منها:   (1) انظر: التربية القيادية (4/ 77)، نقلا عن مسند الإمام أحمد (6/ 141). (2) انظر: القيادة الربانية (4/ 78). (3) انظر: سير النبلاء (1/ 290). (4) انظر: مصنف عبد الرزاق (5/ 371) رقم 9727. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 265). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 أ- لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله: فقد ألَّب القبائل العربية واليهودية على محاربة الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم, وأقنع بني قريظة بضرورة نقض العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم وطعْنه من الخلف، فجعل الله كيده في نحره وكبته، وفي النهاية قادته محاولاته إلى حتفه. إن الله لا يهمل الظالمين، ولكن يمهلهم ويستدرجهم حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فكان أخذه أليمًا شديدًا قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (1) ثم تلا قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]. ب- التجلد في مواطن الشدة: لقد تجلد حيي وتقدم لتضرب عنقه حتى لا يشمت فيه شامت, وهو يعرف أنه على باطل، ظالم لنفسه، قد أوردها موارد الهلاك، ومع هذا يموت على ذلك، والعزة بالإثم تأخذه إلى جهنم وبئس المصير؛ لأنه يعبد هواه، ولا يعبد ربه, قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23]. ج- من يخذل الله يخذل: إن الله تعالى إذا خذل أحدًا ليس له نصير يمنعه أو يدفع عنه، قال سبحانه: (إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160]. كما أن عداوة حيي للرسول صلى الله عليه وسلم باعثها الحسد والحقد؛ ولذلك عبر حيي صراحة أن الله لم يكن معه يومًا من الأيام، بل كان حيي في شق الشيطان عدوًّا لأولياء الرحمن، يشاقق الله، فالله خاذله ومُسْلِمه لكل ما يؤذيه ويتعبه، ولا توجد قوة في الأرض ولا في السماء تنصره وتحول بينه وبين الهزيمة؛ لأن إرادة الله هي النافذة, وقدره هو الكائن، لا رادَّ لقضائه، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء (2). قال تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام: 17]. 2 - مقتل كعب بن أسد القرظي: وجيء برئيس بني قريظة كعب بن أسد، وقبل أن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنقه جرى بينه وبين كعب الحوار التالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كعب بن أسد؟».   (1) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (2/ 112). (2) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (2/ 113، 114). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 قال كعب بن أسد: نعم يا أبا القاسم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدقًا بي، أما أمركم باتباعي، وإن رأيتموني تقرئوني منه السلام؟». قال كعب: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكني على دين يهود. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه فضربت (1). ومما ترويه كتب السيرة النبوية عن يهود بني قريظة أنهم كانوا يرسلون طائفة تلو طائفة لتضرب أعناقهم، وقد سألوا زعيمهم كعب بن أسد فقالوا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذُهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل (2). ونلحظ خبر مقتل كعب بن أسد، أنه كان متعصبًا ليهوديته وهو يعلم بطلانها, وأنه على علم بصدق رسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يؤمن ولم يدخل الإسلام خوفًا من أن تعيره يهود بأنه جزع من السيف، فعدم إيمانه وبقاؤه على الكفر كان نتيجة ريائه، وحبه للثناء وخوفه من ذمه وتعييره، وهذا دليل على السفه والحمق وخذلان الله لهذا اليهودي المخادع (3). ثاني عشر: شفاعة ثابت بن قيس في الزبير بن باطا، وسلمى بنت قيس في رفاعة بن سمؤال: 1 - شفاعة ثابت بن قيس في الزبير بن باطا: أقبل ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي الزبير اليهودي أجزه, فقد كانت له عندي يد يوم بعاث، فأعطاه إياه، فأقبل ثابت حتى أتاه فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني؟ فقال: نعم، وهل ينكر الرجل أخاه، قال ثابت: أردت أن أجزيك اليوم بيد لك عندي يوم بعاث، قال: فافعل، فإن الكريم يجزي الكريم، قال: قد فعلت، قد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبك لي، فأطلق عنه إساره، فقال الزبير: ليس لي قائد، وقد أخذتم امرأتي وابني، فرجع ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوهبه امرأته وبنيه فوهبهم له، فرجع ثابت إلى الزبير فقال: رد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتك وبنيك، فقال الزبير: حائط لي فيه أعذق، وليس لي ولا لأهلي عيش إلا به، فرجع ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبه له، فرجع ثابت إلى الزبير فقال: قد رد إليك رسول الله أهلك ومالك، فأسلم تسلم، قال: ما فعل الجليسان؟ (4) وذكر رجال قومه، قال   (1) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 368). (2) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 368). (3) انظر: الصراع مع اليهود (2/ 115). (4) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 372). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 ثابت: قد قتلوا وفُرغ منهم، ولعل الله تبارك وتعالى أن يكون أبقاك لخير، قال الزبير: أسألك بالله يا ثابت وبيدي التي عندك يوم بعاث إلا ألحقتني بهم، فليس في العيش خير بعدهم، فذكر ذلك ثابت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالزبير فقُتل (1). 2 - شفاعة سلمى بنت قيس في رفاعة بن سمؤال القرظي: كانت سلمى بنت قيس وكنيتها أم المنذر أخت سليط بن قيس، وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد صلت معه القبلتين، وبايعته بيعة النساء, سألته رفاعة ابن سمؤال القرظي، وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك فقالت: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، هب لي رفاعة، فإنه قد زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها، فاستحيته (2). وفي هذا الخبر دليل على أن الإسلام يكرم المرأة ويعتبر شفاعتها، هذه هي معاملة المرأة في هذا الدين، إنه يكرمها، ويساعدها ويشجعها على فعل الخير (3). ثالث عشر: من أدب الخلاف: في اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» (4) , فبعضهم فهم منه المراد الاستعجال، فصلى العصر لما دخل وقته, وبعضهم أخذ بالظاهر فلم يصل إلا في بني قريظة, ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا منهم أو عاتبه، ففي ذلك دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذورًا ومثابًا، كما أن فيه تقريرًا لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم (5). إن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل، إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما دام دليلها ظنيًّا محتملاً؟ ... ولو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان أولى الناس بألا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما رأيت؟ (6) وفي الحديث السابق من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث نبوي أو آية من كتاب الله، كما لا يعاب من استنبط من النص معنى يخصه، وفيه أيضا أن المختلفين في   (1) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 302). (2) المصدر نفسه (1/ 373). (3) انظر: الصراع مع اليهود (2/ 116). (4) البخاري، كتاب المغازي، (5/ 60) رقم 4119. (5) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص226. (6) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 الفروع من المجتهدين لا إثم على المخطئ, فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد» (1). وحاصل ما وقع أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت وقت الصلاة توجيهًا لهذا النهي الخاص على النهي العام عن تأخير الصلاة عن وقتها (2). وقد علق الحافظ ابن حجر على هذه القصة فقال: ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد, فيستفاد منه عدم تأثيمه، وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النص على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحًا للنهي الثاني على النهي الأول، وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق، والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة، وأنه كناية على الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدًا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم (3). رابع عشر: توزيع غنائم بني قريظة وإسلام ريحانة بنت عمرو: 1 - جمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم التي خلفها بنو قريظة، فكانت من السيوف ألفًا وخمسمائة سيف، ومن الرماح ألفي رمح، ومن الدروع ثلاثمائة درع، ومن التروس ألفًا وخمسمائة ترس وجحفة، كما تركوا عددًا كبيرًا من الشياه والإبل وأثاثًا كثيرًا وآنية كثيرة، ووجد المسلمون دنانًا من الخمر، فوزعت الغنائم وهي الأموال المنقولة كالسلاح والأثاث وغيرها بين المحاربين من أنصار ومهاجرين ممن شهدوا الغزوة، فأعطي أربعة أخماس الغنائم لهم، إذ جعل للفرس سهمين، وللراجل سهمًا، فالفارس يأخذ ثلاثة أسهم له ولفرسه، وغير الفارس يأخذ سهمًا واحدًا له، والخمس المتبقي هو سهم الله ورسوله المقرر في كتابه تعالى (4). وأما ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من الخمر عند بني قريظة فقد أراقوه ولم يأخذوا منه شيئًا، ولم ينتفعوا به كذلك، وقد أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لسويد بن خلاد الذي قتلته المرأة اليهودية بالرحى، وأعطى سهمه لورثته (5) , ولصحابي آخر مات أثناء حصار بني   (1) سنن أبي داود (3557). (2) المستفاد من قصص القرآن (2/ 286). (3) اختصار من فتح الباري (7/ 473). (4) انظر: الصراع مع اليهود (2/ 96، 97). (5) المصدر نفسه (2/ 97). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 قريظة (1) , كما رضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء اللواتي حضرن ولم يسهم لهن، منهن: صفية بنت عبد المطلب، وأم عمارة، وأم سليط، وأم العلاء، والسميراء بنت قيس، وأم سعد بن معاذ (2) , وأما الأموال غير المنقولة كالأراضي والديار فقد أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين دون الأنصار، وأمر المهاجرين أن يردوا إلى الأنصار ما أخذوه منهم من نخيل وأرض، وكانت على سبيل العارية، ينتفعون بثمارها (3) , قال تعالى عن تلك الأراضي والديار: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) [الأحزاب: 27]. قال الأستاذ محمد دروزة: أما عبارة «وأرضا لم تطؤوها» فقد قال المفسرون: إنها أرض خيبر، وإن الجملة بشرى سابقة لفتحها، غير أن الذي تلهم روح الآية ومضمونها على ما يتبادر لنا أنها أرض لبني قريظة بعيدة عن مساكنهم، آلت إلى المسلمين دون حرب أو حصار، ونتيجة للمصير الذي صار إليه أصحابها (4). هذا وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة - رضي الله عنه - بالخمس من الذرية والنساء إلى الشام فباعها، واشترى بالثمن سلاحًا وخيلاً ليستعين به المسلمون في معاركهم مع الأعداء من يهود ومشركين، وكذلك بعث إلى نجد سعد بن زيد فباع سبيًا واشترى سلاحًا (5). 2 - إسلام ريحانة رضي الله عنها: وكان من بين السبي ريحانة بنت عمرو بن خنافة إحدى نساء بني عمرو من بني قريظة قد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها بعد أن تسلم، فترددت، وبقيت وقتًا على دينها، ثم شرح الله صدرها للإسلام فأسلمت، فبعثها إلى بيت أم منذر بنت قيس حتى حاضت ثم طهرت، فجاءها وخيَّرها: أيعتقها ويتزوجها أو تكون في ملكه صلى الله عليه وسلم؟ فاختارت أن تكون في ملكه رضي الله عنها (6). خامس عشر: الإعلام الإسلامي في غزوة الأحزاب: قام شعراء الصحابة بدورهم الجهادي، فقالوا قصائد رائعة وضحوا بها موقف المسلمين في غزوة الأحزاب, نقتطف منها أبياتًا منها كنماذج لهذه القصائد، فمن ذلك قول كعب بن مالك، أخو بني سلمة: وسائلة تسائل ما لقينا ... ولو شهدت رأتنا صابرينا   (1) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 375). (2) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 375). (3) انظر: الصراع مع اليهود (2/ 98). (4) انظر: سيرة الرسول لعزة دروزة (2/ 202). (5) انظر: الصراع مع اليهود (2/ 98). (6) المصدر نفسه (2/ 99). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 صبرنا لا نرى لله عدلاً ... على ما نابنا متوكلينا وكان لنا النبي وزير صدقٍ ... به نعلو البرية أجمعينا نقاتل معشرا ظلموا وعقوا ... وكانوا بالعداوة مرصدينا (1) نعالجهم إذا نهضوا إلينا ... بضرب يعجل المتسرعينا ترانا في فضافض سابغات ... كغدران الملا متسربلينا (2) إلى أن قال: لننصر أحمدًا والله، حتى ... نكون عباد صدق مخلصينا ويعلم أهل مكة حين ساروا ... وأحزاب أتوا متحزبينا بأن الله ليس له شريك ... وأن الله مولى المؤمنينا فإما تقتلوا سعدًا سفاها ... فإن الله خير القادرينا سيدخله جنانا طيبات ... تكون مقامة للصالحينا كما قد ردكم فلا شريدًا ... بغيظكم خزايا خائبينا خزايا لم تنالوا ثم خيرًا ... وكدتم أن تكونوا دامرينا بريح عاصف هبت عليكم ... فكنتم تحتها متكمِّهينا (3) * * *   (1) المرصد: المعد للأمر عدته. (2) متسربلينا: بلبسون الدروع (3) متكمهينا: العمى الذين لا يبصرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 الفصل الثاني عشر ما بين غزوة الأحزاب والحديبية من أحداث مهمة المبحث الأول زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها ومع استمرار حركة السرايا، وبناء الدولة, وبسط هيبتها في الجزيرة العربية، كانت حركة البناء التشريعي والاجتماعي للأمة الإسلامية تتكامل, فنظام التبني يهدم، والحجاب يفرض، وأدب الولائم يقرر، وضرورة الالتزام بطاعة الله ورسوله يؤكد على وجوبها، وتحارب الأعراف التي تعارض شرع الله تعالى, ففي زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب بنت جحش حِكَمٌ ودروسٌ وعبرٌ بقت خالدة على مر العصور وكر الدهور وتوالي الأزمان، وهذه قصة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها. أولاً: اسمها ونسبها: هي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر الأسدية، أخت عبد الله بن جحش، وحمنة بنت جحش رضي الله عنهما. أمها: أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخت حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - (1). يقال كان اسمها: برة، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وكانت تكنى أم الحكم (2). وكانت زينب رضي الله عنها من المهاجرات الأول، ورعة صوامة قوامة، كثيرة الخير والصدقة، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدًا, قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدًا, قالت: فكانت أطولنا يدًا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق (3).   (1) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (1/ 372). (2) المصدر نفسه (4/ 1849). (3) مسلم في فضائل الصحابة (4/ 1907) رقم 2452. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 وقد مدحتها السيدة عائشة رضي الله عنها كثيرًا، وقالت في حقها: لم أر امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة (1). ثانيًا: زواجها من زيد بن حارثة - رضي الله عنه -: أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحطم تلك الفوارق الطبقية الموروثة في الأمة المسلمة من عادات الجاهلية ليكون الناس سواسية كأسنان المشط, لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وكان الموالي وهم الذي جرى عليهم الرق ثم تحرروا طبقة أدنى من طبقة السادة، ومن الموالي كان زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعتقه ثم تبناه, فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوج زيدًا من شريفة بني أسد، وهي ابنة عمته زينب بنت جحش رضي الله عنها، ليبطل تلك الفوارق الطبقية بنفسه في أسرته، وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتتخذ منه الأمة المسلمة أسوة وقدوة، وتسير البشرية على هداه في هذا الطريق. وأيضا لعلَّ من الحكمة في هذا الزواج أنه كان مقدمة لتشريع آخر لا يقل أهمية في حفظ توازن المجتمع وحماية الأسرة عن الأول، وإن لم تظهر هذه الحكمة في بداية الأمر (2). انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخطب لفتاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى فانكحيه» , قالت: يا رسول الله أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحادثان أنزل الله تعالى هذه الآية: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36]. فقالت: يا رسول الله قد رضيته لي زوجًا؟ قال: «نعم» قالت: لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد زوجته نفسي (3). وكان زيد بن حارثة إذ ذاك لا يزال يدعى زيد بن محمد، فتزوجها زيد، وأصدقها في هذا الزواج عشرة دنانير، وستين درهمًا، وخمارًا، وملحفة، ودرعًا, وخمسين مُدًّا من طعام، وعشرة أمداد من تمر (4). ثالثًا: طلاق زيد لزينب رضي الله عنها: شاءت حكمة الله تعالى أن لا يتوافق زيدٌ وزينبُ في زواجهما، وأصبحت حياة الزوجين لا تطاق، وصمم زيد على فراق زوجه زينب، وكان قبل ذلك يشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم   (1) مسلم في فضائل الصحابة (4/ 1892) رقم 2442. (2) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات, حفصة بنت عثمان الخليفي ص205. (3) انظر: جامع البيان للطبري (22/ 11). (4) انظر: تفسير ابن كثير (3/ 489). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 استطاعته البقاء مع زينب، ورسول الله يأمره بإمساك زوجه مع تقوى الله في شأنها، حتى أذن الله بالطلاق فطلقها زيد، وانفصمت العلاقة بينهما بعد أن قضى زيد وطره، وبعد أن مكث معها ما يقرب من سنة، قال ابن كثير: فمكثت عنده قريبًا من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما (يعني الخلاف) فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «أمسك عليك زوجك واتقِ الله» (1). لم يبقَ لزيد رغبة في إبقاء العلاقة الزوجية معها؛ لأنه كان كريم النفس لا يريد أن يبني سعادته وراحته على شقاء الآخرين وتعاستهم والإضرار بهم؛ ولهذا صمم على الفراق وعدم الإضرار بها؛ لأنها كانت تعيش في قلق واضطراب, وانتهى زواج زيد بن حارثة - رضي الله عنه - بزينب بنت جحش على هذا الوضع دون أي تدخل خارجي بينهما، ووقع ذلك الطلاق بمحض اختياره وإرادته، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهاه عن ذلك، ويأمره بتقوى الله وإمساك زوجته (2). قال ابن كثير بعد أن ذكر هذا السبب: (ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير آثارًا عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحًا لعدم صحتها فلا نوردها) (3). رابعًا: الحكمة من زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب: كانت عادة التبني متغلغلة في نفوس الناس ومشاعرهم، وليس من السهل التغلب عليها وإلغاء الآثار المترتبة عليها، هذه العادة في صدر الإسلام في مكة وفي أول الهجرة إلى المدينة، ثم شاء الله تعالى فنزلت الآيات في نفي أن يكون الأدعياء أبناء لمن ادَّعاهم في الحقيقة، وإنما ذلك حسب دعوى المدعي فقط، وذلك لا يغير من الواقع شيئًا, فقال تعالى: (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب: 4]. ثم أمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، فهذا من العدل والقسط والبر، فقال تعالى: (ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (إن زيد بن حارثة - رضي الله عنه - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن) (4).   (1) انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 491). (2) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص209. (3) انظر: تفسير القرآن العظيم (3/ 491). (4) البخاري في التفسير باب (ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ) (3/ 276) رقم 4782. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 ولم يجعل الله سبحانه وتعالى عدم معرفتهم لآبائهم الحقيقيين مبررًا لإبقاء تبنيهم لهم، بل حرم التبني في هذه الحالة، وأخبر أنهم حينئذ إخوانهم ومواليهم، فقال تعالى: (ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب: 5]. أي فإن لم تعرفوا آباءهم فليس بينكم وبينهم إلا الأخوة في الدين والموالاة، وذلك عوضًا عما فاتهم من النسب، فيقال: فلان مولى فلان، أو مولى بني فلان (1). وهذه الأخوة في الدين والموالاة لها أهمية كبرى، فهي ثابتة حتى للذين عرف آباؤهم؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة - رضي الله عنه -: «أنت أخونا ومولانا» (2) أي أخونا في الإسلام والولاية، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10]. وجاءت نصوص أخرى تعالج هذا الأمر من جهة أخرى، وهي جهة الابن، فجاء تحريم الانتساب إلى غير الأب الحقيقي والمنتسب يعلم ذلك تحريمًا قاطعًا لا شبهة فيه (3) , قال صلى الله عليه وسلم: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتهى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منه صرفًا ولا عدلاً (4)» (5). وقد جعل الشارع لنشوء النسب سببًا واضحًا هو الاتصال بالمرأة عن طريق الزواج أو ملك اليمين، وأبطل ما كان يجري عليه أهل الجاهلية من إلحاق الأولاد عن طريق العهر والزنا قال صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (6) ومعناه أن من يجيء من الأولاد ثمرة لفراش صحيح قائم على عقد الزواج أو ملك اليمين يلتحق نسبه بأبيه، وأن العهر والزنا لا يصلح أن يكون سببًا للنسب، وإنما يكون سببًا لشيء آخر هو الرجم والحجارة (7). ثم إن الله سبحانه وتعالى بعد أن منع وحرم دعوة الابن بنسبته إلى من تبناه وأمر بدعوته منسوبًا إلى أبيه الحقيقي إن عرف، أو إلى الأخوة في الدين والموالاة بعد ذلك بين حكم من أخطأ أو تعمد مخالفة هذا التشريع الإلهي, قال تعالى: (ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا   (1) انظر: تفسير السعدي (4/ 136). (2) البخاري في الصلح (2/ 267) رقم 2699. (3) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص189. (4) صرفا: توبة، وقيل: نافلة، عدلا: أي فدية وقيل: فريضة. (5) البخاري في الحدود (4/ 254) رقم (6818). (6) البخاري في الحدود (4/ 254) رقم 6818. (7) انظر: علاقة الآباء بالأبناء في الشريعة الإسلامية، د. سعاد الصانع، ص52، 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب: 5]. فقد نفى الله سبحانه وتعالى الجناح (الإثم) عمن أخطأ في نسبة الابن إلى غير أبيه في الحقيقة، وذلك بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع أو نسي فنسب الابن إلى غير أبيه بجريان لسانه بذلك، وأثبت الحرج والإثم لمن تعمد الباطل وهو دعوة الرجل لغير أبيه بعد علمه بتحريم ذلك (1). كانت عادة التبني مستحكمة في نفوس الناس، وقد أخذت أبعادها مع مرور الزمن فكان زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب إلغاءً عمليًّا وليس إلغاء ذهنيًّا فحسب (2). إن الحكمة في زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب حكمة واضحة وظاهرة، وقد بينها الله تعالى بقوله عز وجل: (لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب: 37]. وقد ذكر المبطلون من الكفار وفروخهم ومقلدوهم بما ينعقون به، ويردده الجهال متعلقين بروايات مكذوبة خلاصتها كما يفترون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هوي زينب بنت جحش بعد أن تزوجت بزيد بن حارثة، فلما علم زيد بذلك أراد طلاقها ليتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم (3) , فهذا قول باطل، وقد نسف الإمام ابن العربي هذا القول من جذوره فقال: فأما قولكم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها أي رأى زينب بنت جحش فوقعت في قلبه، فباطل, فإنه كان صلى الله عليه وسلم معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج؟ حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة، وقد قال تعالى: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [طه:131] والنساء أفتن الزهرات فيخالف هذا في المطلقات فكيف في المنكوحات؟ ثم إن قوله تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) [الأحزاب: 37] يعني من نكاحك لها وهو الذي أبداه لا سواه أقول: فلو كان الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حبه لها لأبداه الله تعالى وأظهره فتيقنا أن الذي أخفاه رسول الله من أمر زينب هو نكاحه إياها وليس ما تخيله المبطلون من حبه لها (4). إن الشرع أراد تأكيد إبطال نظام التبني وإبطال كل نتائجه وتعميق هذا الإبطال في النفوس وتأكيده بالتطبيق العملي، والقدوة والتأسي بمن يقتدي به في تطبيق هذه الأحكام الجديدة الناسخة، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بزواجه بزينب بأمر من الله تعالى العزيز الحكيم (5).   (1) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص191، 192. (2) انظر: من معين السيرة، ص311. (3) انظر: المفصل في أحكام المرأة, عبد الكريم زيدان (11/ 474، 475). (4) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1531، 1532). (5) انظر: المفصل في أحكام المرأة (11/ 476). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 خامسًا: قصة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب وما فيها من دروس وعبر: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها عليَّ فانطلق قال: فلما رأيتها عظمت في صدري فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن (1) , وأصدقها أربعمائة درهم، وكان زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب في السنة الخامسة على المشهور, وقال الحافظ البيهقي: تزوجها بعد بني قريظة (2). وأولم الرسول صلى الله عليه وسلم في عرس زينب وليمة كبيرة، فأولم بشاة وقد دُعِيَ إلى الوليمة كل من لقيه أنس - رضي الله عنه - بناء على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم, فعن أنس - رضي الله عنه - قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة (3). وهكذا تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، زينب بنت جحش -رضي الله عنها- بعد طلاق زيد لها وانقضاء عدتها، وفي زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب وما نزل فيه من القرآن وما واكبه من أحداث عظات وعبر (4) وقفنا عند بعضها, ويجدر بنا أن نتأمل في بعض الدروس والعبر التي نقف عليها منها: 1 - كان خاطب زينب للنبي صلى الله عليه وسلم هو زوجها الأول زيد بن حارثة - رضي الله عنه - , ولعل اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد مقصود لذاته، ليقطع بذلك ألسنة المتقولين وما قد يزعمونه من أن طلاقها وقع بغير اختيار منه، وأنه قد بقي في نفسه من الرغبة فيها شيء، وفي هذا يقول ابن حجر: (هذا من أبلغ ما وقع في ذلك، وهو أن يكون الذي كان زوَّجها هو الخاطب، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهرًا بغير رضاه، وفيه أيضا اختبار ما كان عنده منها هل بقي منه شيء أم لا؟) (5). وفي هذا من الحكمة أيضا أن ما يقع بين الزوجين من نفرة وخلاف ثم طلاق لا يجوز أن يكون مانعًا من نصح أحد الزوجين للآخر، وأن يراعي فيه حقوق الأخوة الإيمانية، فهذا زيد رغم ما وقع بينه وبين زينب، ورغم أن هذا كان بسببها إلا أنه ذهب يخطبها لرسول الله، بل ويقول لها: (يا زينب أبشري). 2 - في الآية التي نزلت بشأن هذا الزواج عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه، إذ كان حين يأتيه زيد يشكو   (1) مسلم في النكاح (2/ 1048) رقم 1428. (2) انظر: البداية والنهاية (4/ 147). (3) البخاري في النكاح باب من أولم على بعض نسائه (3/ 3870) رقم 5171. (4) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص312. (5) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (8/ 524). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 زينب ومعاملتها له ورغبته في طلاقها يقول: (أمسك عليك زوجك واتق الله) أي اتق الله ودع طلاقها، أو اتق الله فيما تذكره من سوء عشرتها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخفي في نفسه ما أبلغه الله به أن زيدًا سيطلقها، وأنها ستكون زوجة له، ويخشى متى وقع هذا من كلام الناس في قولهم: تزوج مطلقة من تبناه وهو زيد بن حارثة. روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اتق الله وأمسك زوجك» قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية) (1). 3 - في قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) منقبة عظيمة لزيد بن حارثة - رضي الله عنه - فقد انفرد بهذا، إذ لم يسم القرآن أحدًا من الصحابة غيره، قال السهيلي: (كان يقال: زيد بن محمد حتى نزل (ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ) فقال: أنا زيد بن حارثة، وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد، فلما نزع عنه هذا الشرف وهذا الفخر, وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وهي أنه سماه في القرآن، فقال تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا) يعني من زينب, ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنًا يتلى في المحاريب، نوه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة محمد صلى الله عليه وسلم له. ألا ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا» فبكى، وقال: أو ذكرت هنالك؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره، فكيف بمن صار اسمه قرآنًا يتلى مخلدًا لا يبيد, يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنة أبدًا, لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لا يزال مذكورًا على الخصوص عند رب العالمين، إذ القرآن كلام الله القويم وهو باقٍ لا يبيد، فاسم زيد هذا في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة تذكره في التلاوة السفرة الكرام البررة، وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبي من الأنبياء ولزيد بن حارثة تعويضًا من الله تعالى له ما نزع منه (2). 4 - زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها كان بأمر ربه، وهو الذي زوَّجه إياها, قال تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب: 37]. وفي هذا شرف عظيم ومنقبة جليلة لزينب رضي الله عنها، كانت تفاخر بها   (1) البخاري في التوحيد (4/ 388) رقم 7420. (2) انظر: تفسير القرطبي (14/ 194). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 وحق لها ذلك، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوَّجكن أهاليكن وزوَّجني الله من فوق سبع سموات (1)، وفي رواية أخرى: (كانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تقول: إن الله أنكحني في السماء) (2). ولعل هذه المنقبة وهذا الشرف لزينب رضي الله عنها كان جزاء لها حين أذعنت وخضعت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرها بالزواج من مولاه زيد بن حارثة، وكانت لذلك كارهة، ثم لما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرها بذلك قبلت الزواج منه (3). 5 - في وليمته صلى الله عليه وسلم على زينب علامة من علامات نبوته ودلالة من دلائلها, وهي تكثير الطعام بدعوته، وفي هذه الوليمة أيضا كان نزول آية حجاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم وما شرع من آداب الضيافة (4). فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله قال: فصنعت أمي أم سليم حيسًا فجعلته في تور (5) , فقالت: يا أنس: اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، قال: فذهبت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا منا قليل يا رسول الله، فقال: «ضعه»، ثم قال: «اذهب فادع لي فلانًا وفلانًا، ومن لقيت» وسمى رجالاً، قال: فدعوت من سمى ومن لقيت قال: قلت لأنس، عدد كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة. وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أنس: هات التور» قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه» قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفة، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم، فقال لي: «يا أنس، ارفع» قال: فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت، قال: وجلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه ثم رجع، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجع ظنوا أنهم قد أثقلوا عليه، قال: فابتدروا الباب فخرجوا كلهم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل، وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى خرج عليّ، وأنزلت هذه الآيات، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأهن على الناس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ   (1) البخاري في التوحيد، باب وكان عرشه على الماء (4/ 388) رقم 7420. (2) المصدر نفسه، (4/ 388) رقم (7421). (3) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص218. (4) المصدر نفسه، ص218. (5) تور: الإناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا) [الأحزاب: 53]. قال الجعد (1): قال أنس بن مالك: أنا أحدث الناس عهدًا بهذه الآيات، وحُجبن نساء النبي صلى الله عليه وسلم (2). وقد حجب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه لنزول آية الحجاب التي قال المولى عز وجل فيها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ... ). وقد كان نزول آية الحجاب من موافقات عمر - رضي الله عنه -، روى البخاري في صحيحه عن أنس قال: قال عمر - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب, فأنزل الله آية الحجاب (3). وبنزول هذه الآية كان تشريع الحجاب في الإسلام بالنسبة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد عدم إبداء شيء من أجسامهن للأجانب عنهن، وعدم محادثتهن أو طلب شيء منهم إلا من وراء حجاب، أي ستر يكون بينهن وبين غيرهن، ولما نزلت قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟. فأنزل الله قوله: (لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) [الأحزاب: 55]. ونزل أيضا في شأن نساء النبي في أدب الخطاب والإقامة في البيوت قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب:32، 33]. وقد فصل سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ما يتعلق بالنساء المسلمات: من غض البصر، وحفظ الفرج، وعدم إبداء مواضع الزينة من عنق وساق وعضد وساعد وشعر، ونحوها من العورة   (1) الجعد بن دينار، أبو عثمان اليشكري، البصري من أصحاب أنس. (2) البخاري في النكاح، باب (الهدية للعروس) (3/ 378) رقم 5163. (3) البخاري في التفسير (6/ 29) رقم 4790. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 الظاهرة إلا للمحارم (1). وقد جاء ذلك في سورة النور، وقد بينت السنة النبوية كل ما يتعلق بالنساء من احتجاب وتصون وتعفف، وعدم السفور والخلاعة والابتذال بما لا مزيد عليه (2). هذه بعض الدروس والعبر استخرجت من قصة زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش, وما واكب ذلك الزواج من نزول آيات بينات في أحكام الحجاب، وما شرع من آداب الضيافة. هذا وقد توفيت زينب بنت جحش رضي الله عنها سنة عشرين من الهجرة وعمرها ثلاث وخمسون سنة، وكانت كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أول نسائه لحوقًا به (3) , وقد بلغت مروياتها عن النبي صلى الله عليه وسلم وفق كتاب بقي بن مخلد أحد عشر حديثًا (4) ولها في الكتب الستة خمسة أحاديث (5) , اتفق لها في البخاري ومسلم عن حديثين (6) , فقد تركت ذكرًا طيبًا في تاريخ الأمة الإسلامية (7). * * * المبحث الثاني الآن نغزوهم ولا يغزوننا (8) كان صلى الله عليه وسلم يعمل حساب كل القوى المجاورة، ولا يغفل عن أي قوة منها، وقد صرح بعد غزوة الخندق بأن الخطة القادمة هي غزو قريش, فقد تغيرت موازين القوى، وأصبح المسلمون لهم القدرة على الهجوم أكثر من قبل، فسعى صلى الله عليه وسلم لبسط سيادة الدولة على ما تبقى من قوى حول المدينة؛ لأن ذلك له صلة بالإعداد لغزو قريش في مرحلة لاحقة، فقد قام صلى الله عليه وسلم خلال عام واحد -العام السادس- بغزوتين وأرسل أربع عشرة سرية غير ما قام به في نهاية العام الخامس الهجري، وهذه الأعمال والتحركات قصد منها المزيد من إنهاك قوى قريش وإحكام الحصار، وتقليم أظفارها من خلال اقتطاع كل ما يمدها بالقوة من حلفائها (9) , فقد استثمر رسول الله وأصحابه ما حققوه من نجاح في صد الأحزاب وإفشال خططهم، وردهم كيد يهود بني قريظة في نحورهم، فباشروا نشاطًا واسع النطاق ضد خصومهم على جميع الجبهات، فقد ضيقوا   (1) انظر: السنة النبوية لأبي شهبة (2/ 312). (2) المصدر نفسه (2/ 314). (3) انظر: الطبقات الكبرى (8/ 115). (4) انظر: تلقيح الفهوم لابن الجوزي، ص370. (5) انظر: تحفة الأشراف للمزي (11/ 321 - 323). (6) انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 121). (7) انظر: دور المرأة في خدمة الحديث، ص58. (8) البخاري في المغازي (5/ 58) رقم 4110. (9) انظر: دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 الخناق الاقتصادي على قريش من جديد, كما نفذوا العديد من السرايا لمعاقبة المشركين في الأحزاب من جهة أو للثأر من القبائل التي كانت قد غدرت بالدعاة, أو ناصبت الإسلام العداء، وقد تمثل النشاط العسكري الإسلامي خلال هذه الفترة فيما يلي: أولاً: سرية محمد بن مسلمة إلى بني القرطاء: كانت العشائر النجدية من أجرأ العناصر البدوية الوثنية على المسلمين؛ لأن النجديين أهل قوة وبأس وعدد غامر، وقد رأينا كيف أن العمود الفقري لقوات الأحزاب الضاربة كان من هذه القبائل النجدية، حيث كان رجال هذه القبائل الشرسة يشكلون الأغلبية الساحقة من تلك القوة الضاربة، ستة آلاف مقاتل من غطفان وأشجع وأسلم وفزارة وأسد، كانت ضمن الجيوش التي قادها أبو سفيان لحرب المسلمين فحاصرهم أهل المدينة. ولهذا فإن أول حملة عسكرية وجهها النبي صلى الله عليه وسلم لتأديب خصومه بعد غزوة الأحزاب هي تلك الحملة التي جردها على القبائل النجدية من بني بكر بن كلاب الذين كانوا يقطنون القرطاء بناحية ضربة (1) , على مسافة سبع ليالٍ من المدينة، ففي أوائل شهر المحرم عام خمس للهجرة وبعد الانتهاء مباشرة من القضاء على يهود بني قريظة وجه صلى الله عليه وسلم (2) سرية من ثلاثين من أصحابه عليهم محمد بن مسلمة لشن الغارة على بني القرطاء من قبيلة بكر بن كلاب، وذلك في العاشر من محرم سنة 6هـ (3) , وقد داهموهم على حين غرة فقتلوا منهم عشرة وفر الباقون, وغنم المسلمون إبلهم وماشيتهم. وفي طريق عودتهم أسروا ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، وهم لا يعرفونه فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك. إن تنعم تنعم على شاكر, فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟، فقال عندي ما قلت لك, فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله, يا محمد, والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان دين أبغض إليَّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين إليَّ والله ما كان بلد أبغض إليَّ من بلدك فأصبحت بلدك أحب البلاد إليَّ، وأن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله ولكني أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى   (1) قرية عامرة قديمة على وجه الدهر في طريق مكة من البصرة من نجد. (2) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص24. (3) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم (1). وقد أبر بقسمه مما دفع وجوه مكة إلى أن يكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليخلي لهم حمل الطعام (2) , فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لرجاء قومه بالرغم أنه في حالة حرب معهم، وكتب إلى سيد بني حنيفة ثمامة: أن خَلِّ بين قومي وبين ميرتهم، فامتثل ثمامة أمر نبيه، وسمح لبني حنيفة باستئناف إرسال المحاصيل إلى مكة, فارتفع عن أهلها كابوس المجاعة (3). وفي هذه القصة دروس وعبر منها: 1 - جواز ربط الكافر في المسجد. 2 - جواز المن على الأسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسيء, لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل. 3 - الاغتسال عند الإسلام كما فعل ثمامة حين أسلم. 4 - الإحسان يزيل البغض وينبت الحب. 5 - يشرع للكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم أن يستمر في عمل ذلك الخير. 6 - الملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه (4). 7 - الإسلام يغير سلوك المؤمن حين يضع المسلم قدراته تحت إمرة الإسلام والمسلمين, كما فعل ثمامة بعدم إرساله القمح لأهل مكة إلا بإذن من الرسول عليه السلام. 8 - ينبغي أن يخلع المؤمن على عتبة الإيمان, وعند تركه للكفر, كل علاقاته السابقة، والتزامه بأوامر رب العالمين بعد إيمانه (5). ثانيًا: سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر: تعتبر سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر، استمرارًا لسياسية النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية لإضعاف قريش ومحاصرتهم اقتصاديًّا على المدى الطويل، فقد بعث صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة راكب قبل الساحل, ليرصدوا عيرًا لقريش، وعندما كانوا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع, فكان قدر مزود تمر، يقوتهم منه كل يوم قليلاً قليلاً، حتى كان أخيرًا نصيب الواحد منهم تمرة واحدة، وقد أدرك الجنود صعوبة الموقف فتقبلوا هذا الإجراء بصدور رحبة دون تذمر أو ضجر، بل إنهم ساهموا في خطة قائدهم التقشفية, فصاروا يحاولون الإبقاء   (1) انظر: نضرة النعيم (1/ 330). (2) المصدر نفسه (1/ 330). (3) انظر: السيرة الحلبية (2/ 298)، الاستيعاب لابن عبد البر ترجمة ثمامة بن أثال الحنفي. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص386، 387. (5) المصدر نفسه، ص387. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 على التمرة أكبر وقت ممكن (1). يقول جابر - رضي الله عنه - أحد أفراد هذه السرية: (كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل) (2) وقد سأل وهب بن كيسان جابرًا - رضي الله عنه -: ما تغني عنكم تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت (3). وقد اضطر ذلك الجيش إلى أكل ورق الشجر، قال جابر - رضي الله عنه -: وكنا نضرب بعصينا الخبط (4) , ثم نبله بالماء فنأكله (5) (فسمى ذلك الجيش جيش الخبط) (6)، وقد أثر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أحد جنود هذه السرية الشجاعة, وهو رجل من أهل بيت اشتهر بالكرم، فنحر للجيش ثلاث جزائر (7) , ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه (8). فبينما هم كذلك من الجوع والجهد الشديدين إذ زفر البحر زفرة أخرج الله فيها حوتًا ضخمًا، فألقاه على الشاطئ، ويصف لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مقدار ضخامة هذا الحوت العجيب فيقول: وانطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم (9) , فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر (10)، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهرًا، ونحن ثلاثمائة حتى سمَّنا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب (11) عينيه بالقلال (12) الدهن، ونقتطع منه الفدر (13) كالثور، أو قدر الثور، فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها (14) , وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم (15) فقال: «ما حبسكم؟» قلنا: كنا نتبع   (1) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص118. (2) أبو داود كتاب الأطعمة، رقم (3840). (3) فتح الباري (8/ 77). (4) الخبط: ضرب الشجر بالعصا لينثر ورقها واسم الورق الساقط خبط. (5) شرح النووي (13/ 84). (6) فتح الباري (8/ 78). (7) جمع جزور، والجزور: البعير، أو خاص بالناقة. (8) فتح الباري (8/ 78). (9) الكثيب: التل من الرمل. (10) العنبر: سمكة كبيرة يتخذ من جلدها التراس. (11) الوقب: النقرة التي تكون فيها العين. (12) القلال: الجرة العظيمة. (13) الفدر: جمع فدرة وهي القطعة من اللحم. (14) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص121. (15) انظر: شرح النووي (13/ 85: 87). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 عيرات قريش، وذكرنا له من أمر الدابة (1)، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا» قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله (2). كانت هذه السرية على الأرجح قبل صلح الحديبية، وليس في رجب سنة ثمانٍ كما ذكر ابن سعد (3) , وذلك لسببين: السبب الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغز ولم يبعث سرية في الشهر الحرام، والثاني: أن رجب سنة ثمان هو ضمن فترة سريان صلح الحديبية (4). وذكر ابن سعد والواقدي (5) أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حي من جهينة، وقال ابن حجر (6): إن هذا لا يغاير ظاهره ما في الصحيح؛ لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيرًا لقريش ويقصدون حيًا من جهينة، ويحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم (7) أن البعث كان إلى أرض جهينة (8). وفي هذه القصة دروس وعبر منها: 1 - حكمة أبي عبيدة - رضي الله عنه - حيث جمع الأزواد، وسوى بين المجاهدين في التوزيع ليستطيع تجاوز الأزمة بهم، وذلك درس تعلمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عمليًا أكثر من مرة. 2 - كرم قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما، في وقت عصيب، ليس بيده يومها ما يخفف عن الناس، ففي رواية الواقدي: «أن قيس بن سعد - رضي الله عنه - استدان هذه النوق من رجل جهني، وأن أبا عبيدة - رضي الله عنه - نهاه قائلاً: تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك (9) , فأراد أبو عبيدة الرفق به (10). وقد بدأ سعد ينحر وينحر حتى نهاه أبو عبيدة, فقال له سعد: يا أبا عبيدة أترى أن أبا ثابت يقضي ديون الناس، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة، لا يقضي عني تمرًا لقوم مجاهدين في سبيل الله (11)، وقال ذلك قيس لأبي عبيدة؛ لأنه قد اتفق مع رجل من جهينة على أن يشتري منه نوقًا ينحرها للجيش على أن يعطيه بدل ذلك تمرًا بالمدينة وقد وافق الجهني على تلك الصفقة.   (1) صحيح سنن النسائي للألباني (3/ 910). (2) شرح النووي (13/ 87). (3) انظر: الطبقات لابن سعد (2/ 132) , والذهبي في المغازي، ص519. (4) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص125. (5) انظر: المغازي (2/ 774) , السيرة النبوية على ضوء مصادرها الأصلية، ص480. (6) انظر: السيرة النبوية على ضوء مصادرها الأصلية، ص480. (7) مسلم (3/ 1537) رقم 1935. (8) انظر: السيرة النبوية على ضوء مصادرها الأصلية، ص480. (9) انظر: معين السرية، ص323، السرايا والبعوث النبوية، ص119. (10) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص119. (11) انظر: معين السيرة، ص323 نقلا عن الزرقاني في شرحه (2/ 282). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 وعندما علم سعد بن عبادة بنهي أبي عبيدة لقيس بحجة أنه لا مال له، وإنما المال لأبيه، وهب ابنه أربع حوائط أدناها يُجذ منه خمسون وسقًا (1). 3 - الحلال والحرام: إن المسلمين في هذه السرية بلغ بهم الجوع غايته، فكانت التمرة الواحدة طعام الرجل طوال يوم كامل في سفر ومشقة، ويمرون وهم على تلك الحال من فقد التمر وأكل الخبط على الجهني الذي اشترى منه قيس أو على قومه، فما يخطر بفكرهم أن يغيروا عليهم لينتزعوا منهم طعامهم، كما كانت الحال في الجاهلية؛ لأنهم اليوم ينطلقون بدين الله الذي جاء ليحفظ على الناس أموالهم في جملة ما حفظ وهم اليوم يفرقون بين الحلال والحرام الذي تعلموه من منهج رب العالمين (2). 4 - جواز أكل ميتة البحر: وتدل القصة على جواز أكل ميتة البحر، وأنها لم تدخل في قوله عز وجل: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة: 3] , وقد قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) [المائدة: 96]، وقد صح عن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس وجماعة من الصحابة (أن صيد البحر ما صيد منه، وطعامه ما مات فيه) وفي السنن عن ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا: (أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال) حديث حسن. كما أن في أكل الرسول صلى الله عليه وسلم من لحم الحوت الذي تغذى منه المسلمون مدة دليل على مشروعية أكل ميتة البحر (3). 5 - بعض الأحكام التي ذكرها الإمام النووي: قال النووي: في هذا الحديث جواز صد أهل الحرب واغتيالهم والخروج لأخذ مالهم واغتنامه، وأن الجيوش لا بد لها من أمير يضبطها، وينقادون لأمره ونهيه، وأنه ينبغي أن يكون الأمير أفضلهم، أو من أفضلهم، قالوا: ويستحب للرفقة من الناس وإن قلوا أن يؤمروا بعضهم عليهم، وينقادوا له، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب للرفقة من المسافرين خلط أزوادهم ليكون أبرك، وأحسن في العشرة، وألا يختص بعضهم بأكل دون بعض، والله أعلم (4).   (1) انظر: معين السيرة، ص323. (2) المصدر نفسه، ص324. (3) انظر: السيرة في ضوء مصادرها الأصلية، ص480. (4) شرح النووي على مسلم (13/ 86). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 ثالثًا: سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل: كانت هذه السرية قد وجهت إلى أبعد مدى وصلت إليه الجيوش النبوية في الجزيرة العربية، ودومة الجندل قريبة من تخوم الشام، فهي أبعد ثلاثة أضعاف عن المدينة بعدها عن دمشق، وهي تقوم في قلب الصحراء العربية واسطة الصلة بين الروم في أرض الشام والعرب في الجزيرة، وسكانها من قبيلة كلب الكبرى، وقد دخلوا في النصرانية نتيجة جوارهم وتأثرهم بجوار الروم النصارى، وهذه السرية تدخل ضمن مخطط النبي صلى الله عليه وسلم في احتكاكه مع الإمبراطورية الرومانية. وأما أمير السرية فهو عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن رجال الرعيل الأول، فقد كان إحدى الدعائم الكبرى للدعوة الإسلامية منذ دخوله فيها على يد الصديق - رضي الله عنه -. ومهمة هذه السرية ذات جانبين: مهمة دعوية، ومهمة حربية؛ لذلك انتدب لها عبد الرحمن بن عوف الذي تربى على محض الإسلام منذ أيامه الأولى (1). وعن هذه السرية حدثنا عبد الله بن عمر فقال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف فقال: تجهز فإني باعثك في سرية في يومك هذا، أو من غد إن شاء الله، قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلن فلأصلين مع النبي الغداة، فلأسمعن وصيته لعبد الرحمن بن عوف. قال: فغدوت فصليت فإذا أبو بكر وعمر، وناس من المهاجرين فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: ما خلفك عن أصحابك؟ قال ابن عمر: وقد مضى أصحابه في السحر، فهم معسكرون بالجرف وكانوا سبعمائة رجل، فقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك وعليّ ثياب سفري. قال: وعلى عبد الرحمن بن عوف عمامة قد لفها على رأسه, قال ابن عمر: فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده، ثم عممه بعمامة سوداء فأرخى بين كتفيه منها، ثم قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف. قال: وعلى ابن عوف السيف متوشحه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزُ باسم الله, وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله، لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليدًا، قال ابن عمر: ثم بسط يده، فقال: يا أيها الناس، اتقوا خمسًا قبل أن يحل بكم: ما نقص مكيال قوم إلا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون، وما نكث قوم عهدهم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما منع قوم الزكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السماء، ولولا البهائم لم يسقطوا، وما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الطاعون، وما حكم قوم بغير آي القرآن إلا ألبسهم الله شيعًا، وأذاق بعضهم بأس بعض. قال: فخرج عبد الرحمن حتى لحق أصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل، فلما حل بها   (1) انظر: التربية القيادية (4/ 167، 168). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 دعاهم إلى الإسلام فمكث بها ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أول ما قدم يعطونه إلا السيف، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانيًّا وكان رأسهم، فكتب عبد الرحمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك, وبعث رجلاً من جهينة يقال له رافع بن مكيث، وكتب يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بنت الأصبغ تماضر، فتزوجها عبد الرحمن وبنى بها، ثم أقبل بها وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. وذكر الواقدي أن هذه السرية في شعبان سنة ست (1). وفي هذه السرية دروس وعبر منها: 1 - تواضع النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وشفقته عليهم، حيث ألبس عبد الرحمن بن عوف عمامته بيده، وهذا التواضع منه صلى الله عليه وسلم يرفع من معنويات الصحابة رضي الله عنهم، ويدفعهم إلى بذل المزيد من الطاقة في سبيل خدمة هذا الدين؛ لأن التلاحم والمودة بين القائد وجنوده، من أهم عوامل نجاح العمل وتحقيق الأهداف (2). 2 - كان جيش عبد الرحمن جيش مبادئ فتحرك ضاربًا في هذه الصحراء المترامية يحمل شرع الله إلى خلقه، وهدى رسوله إلى أمته مستوعبًا لمقاصد الجهاد وأحكامه، فالجهاد ليس باسم محمد صلى الله عليه وسلم فهو عبد الله ورسوله، ولا مكان لزعيم أو أمة أو قبيلة أو راية أو وطن أو جيش أو قومية بجوار هذه الراية الخفاقة في هذا الوجود, راية الله تعالى: «اغزُ باسم الله» فحزب الله تعالى هو الذي يحيي هذه الصحراء الظمأى بغيث العقيدة الخالصة عقيدة التوحيد (3) , وهدفهم من هذا التحرك في سبيل الله وحده قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163]. قتالهم لمن كفر بالله وليس القتال على المبدأ الجاهلي: وأحيانا على بكر أخينا ... إذا لم نجد إلا أخانا أما هذا الجيش القوي الفتي، فهو يمضي في الأرض قدمًا ليقاتل من كفر بالله (4). 3 - ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف عن الغلول وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، ونهاه عن الغدر في العهود وعن قتل الولدان، وتلك نماذج من الأدب الإسلامي في الجهاد، فالقتال نوع من العنف والقسوة، ولكنه بالنسبة للمسلمين الذين   (1) انظر: مغازي الواقدي (2/ 560، 561). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 184). (3) انظر: التربية القيادية (4/ 171). (4) المصدر نفسه (4/ 172). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 طهر الله تعالى قلوبهم من الغل والحسد أمر عارض لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وحماية المحقين من المبطلين وليس متأصلا في نفوسهم؛ ولذلك كان محفوفًا بالآداب السامية التي تجعل الإنسان الواحد جامعًا بين منتهى القوة والبطش ومنتهى الرحمة والعطف (1). 4 - كان عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - سيدًا من سادات هذه الأمة، وواحدًا من أكبر دعاتها، فهو يملك من الحلم، والحكمة والثقافة، والتجربة والعبقرية، والقدم في الإسلام، والبلاء فيه ما لا يملكه غيره، ولهذا بذل كل طاقته لتحقيق الهدف الرئيسي الأول، وهو الدخول في الإسلام، وكان متريثًا هاديًا خبيرًا بالنفوس والقلوب، فشحن كل الإمكانات الفكرية والحركية، لإنجاح هذه المهمة العظمى، وتكلل عمله بفضل الله تعالى بالنجاح الكبير، وخاصة أن الجهد انصب على إقناع الرئيس، حسب توجيهات المصطفى صلى الله عليه وسلم. 5 - إن إسلام سيد بني كلب في دومة الجندل الأصبغ بن عمرو على يد عبد الرحمن بن عوف، يذكرنا بجعفر بن أبي طالب الذي أسلم على يديه النجاشي ملك الحبشة، ومصعب بن عمير بالمدينة حيث استجاب له سادات الأوس والخزرج وزعامتهم للإسلام, وهذه الشخصيات العظمى الثلاثة هم من الرواد الأوائل، ومن المؤسسين في المدرسة الإسلامية الأولى بمكة المكرمة. هذا عبد الرحمن بن عوف الذي أصيب بأحد عشر جرحًا أدت بعضها إلى أن يكون عنده عرج من شدتها، يصنع ركائز العقيدة الإسلامية بجيشه المظفر شمال الجزيرة العربية, وينضم الكثيرون إلى الإسلام، لتغدو دومة الجندل موقعًا جديدًا من المواقع الإسلامية، في هذه الأطراف المتنامية، فلا غنى للمسلمين عن هذه القلعة، وعن هذه الموقعة للمستقبل القريب في المواجهة مع العرب والروم المناوئين للإسلام (2). وهذه أول مرة يحكم الإسلام خارج حدوده ويتعايش المسلمون والنصارى في دولة واحدة، فالذين أسلموا تطبق عليهم أحكام الإسلام، والذين بقوا على نصرانيتهم تؤخذ منهم الجزية، وكان هذا الانفتاح تدريبًا جديدًا للصحابة على المجتمعات الجديدة التي سينتقلون إليها فيما بعد، وينساحون في العراق والشام وفي قلب فارس والروم، ليعلموا الناس أن العقيدة تنبني من خلال الحوار لا من خلال السيف، وأن مبادئ الإسلام لها قوتها الذاتية التي تشع أنوارها على المجتمعات التي قد انغمست في الظلام البهيم (3). 6 - إن زواج عبد الرحمن بن عوف من ابنة سيد بني كلب زعيم دومة الجندل يقوي الروابط   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 184). (2) انظر: التربية القيادية (4/ 174). (3) المصدر نفسه (4/ 175). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 بين الزعيم المسلم الجديد بدومة الجندل وبين دولة الإسلام في المدينة، ويربط مصيره بمصير دولة الإسلام، ومصير الإسلام نفسه حين يشعر أن فلذة كبده مقيمة في العرين الإسلامي الذي أصبح يحن له حنينه لأرضه وبلده (1). وقد كان صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يتزوج هو وقادته ببنات سادة القبائل؛ لأن ذلك كسبًا كبيرًا لدعوة الإسلام، حيث تكون المصاهرة سببًا في القرب وامتصاص أسباب العداء ثم الدخول في الإسلام (2). رابعًا: تأديب الغادرين: غزوة بني لحيان، وغزوة الغابة وغيرهما: 1 - بعد رحيل الأحزاب انتقل المسلمون من دور الدفاع إلى دور الهجوم وأصبحوا يمسكون بأيديهم زمام المبادرة، وحان الوقت لتأديب بني لحيان الذين غدروا بخبيب وأصحابه يوم الرجيع, وأخذ ثأر الشهداء، فخرج إليهم في مائتي صحابي، في ربيع الأول أو جمادى الأولى سنة ست من الهجرة (3). أ- تضليل العدو: كانت أرض بني لحيان من هذيل تبعد عن المدينة أكثر من مائتين من الأميال. وهي مسافة بعيدة، يلاقي مشاقَّ كبيرة كل من يريد قطعها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على الاقتصاص لأصحابه من الذين استشهدوا (غدرًا) على يد هذه القبائل الهمجية التي لا قيمة للعهود عندها. وكما هي عادة النبي صلى الله عليه وسلم في تضليل العدو الذي يريد مهاجمته اتجه بجيشه نحو الشمال، بينما تقع منازل بني لحيان في أقصى الجنوب. وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحركه نحو الشمال: أنه يريد الإغارة على الشام، وحتى أصحابه لم يعلموا أنه يريد بني لحيان إلا عندما انحرف بهم نحو الجنوب، بعد أن اتجه بهم متوغلاً نحو الشمال حوالي عشرين ميلا .. في حركة تمويهية على العدو بارعة. وكان تغيير خط سيره من الشمال إلى الجنوب عند مكان يقال له (البتراء) , ففي ذلك المكان عطف بجيشه نحو الغرب حتى استقام على الجادة منصبًا نحو الجنوب (4). ب- فرار اللحيانيين قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم: كانت بنو لحيان على غاية التيقظ والانتباه, فقد بثت الأرصاد والجواسيس في الطرق ليتحسسوا لها ويتجسسوا لذلك, فما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يقترب بجيشه من منازلهم حتى انسحبوا منها   (1) انظر: التربية القيادية (4/ 174). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 186). (3) انظر: السيرة النبوية في ضوء مصادرها الأصلية، ص468. (4) انظر: صلح الحديبية باشميل، ص34، 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 فارين، وهربوا في رؤوس الجبال، وذلك بعد أن نقلت إليهم عيونهم خبر اقتراب جيش المسلمين من ديارهم. ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه عسكر في ديارهم ثم بث السرايا من رجاله ليتعقبوا هؤلاء الغادرين، ويأتون إليه بمن يقدرون عليه، واستمرت السرايا النبوية في البحث والمطاردة يومين كاملين إلا أنها لم تجد أي أثر لهذه القبائل التي تمنعت في رؤوس تلك الجبال الشاهقة، وأقام صلى الله عليه وسلم في ديارهم يومين لإرهابهم وتحديهم، وليظهر للأعداء مدى قوة المسلمين وثقتهم بأنفسهم، وقدرتهم على الحركة حتى إلى قلب ديار العدو متى شاءوا (1). ج- إرهاب المشركين بمكة: رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتنم فرصة وجوده بجيشه قريبًا من مكة فقرر أن يقوم بمناورة عسكرية يرهب بها المشركين في مكة، فتحرك بجيشه حتى نزل به وادي عسفان (2) , وهناك استدعى أبا بكر الصديق، وأعطاه عشرة فوارس من أصحابه وأمره بأن يتحرك بهم نحو مكة ليبث الذعر والفزع في نفوسهم، فاتجه الصديق بالفرسان العشرة نحو مكة حتى وصل بهم كراع الغميم (3) , وهو مكان قريب جدًا من مكة، فسمعت قريشٌ بذلك فظنت أن النبي صلى الله عليه وسلم ينوي غزوها فانتابها الخوف والفزع والرعب، وساد صفوفها الذعر، هذا هو الذي هدف إليه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحركة التي كلف الصديق أن يقوم بها. أما الصديق وفرسانه العشرة فبعد أن وصلوا كراع الغميم, وعلموا أنهم قد أحدثوا الذعر والفزع في نفوس أهل مكة عادوا سالمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتحرك بجيشه عائدًا إلى المدينة (4). د- الترحم على الشهداء: عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطن (غران) (5) حيث لقي الشهداء من أصحابه مصرعهم على أيدي الخونة من هذيل، ترحم على هؤلاء الشهداء ودعا لهم (6). 2 - غزوة الغابة (7): لم تكد تمضي ليالٍ قلائل على عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته لبني لحيان، حتى أغار   (1) المصدر نفسه، ص36. (2) عسفان: قرية بين مكة والمدينة على نحو يومين من مكة. (3) كراع الغميم: موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة وهو واد. (4) انظر: صلح الحديبية، ص37. (5) غران بضم أوله: واد بين سارية ومكة. (6) انظر: صلح الحديبية، ص38. (7) الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 عيينة بن حصن الفزاري في خيل لغطفان كان عددها أربعين على لقاح (الإبل الحوامل ذوات الألبان) لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، وقتلوا ذر بن أبي ذر الغفاري، وأسروا زوجته ليلى، واستاقوا الإبل التي كان عددها عشرين, ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر عيينة، خرج في خمسمائة من أصحابه في إثره، بعد أن استخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة (1). وعند جبل ذي قرد (2) أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم العدو، فقتل بعض أفراده واستنقذ الإبل (3). وقد أبدى سلمة بن الأكوع في هذه المعركة بطولة نادرة وخاصة قبل وصول كتيبة الفرسان النبوية، حيث كان من ضمن الرعاة في منطقة الغابة، وظل بمفرده يشاغل المغيرين ويراميهم بالنبل، وكان من أعظم الرماة في عصره، وقد استخلص مجموعة من الإبل المنهوبة قبل قدوم كتيبة الفرسان (4). أما المرأة التي أسرها المغيرون من غطفان وهي زوجة ابن أبي ذر الذي قتله المشركون أثناء الغارة في الغابة، فقد عادت سالمة إلى المدينة بعد أن تمكنت من الإفلات من القوم على ظهر ناقة تابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نذرت إن نجاها الله عز وجل لتنحرن تلك الناقة، فلما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم عن نذرها تبسم وقال: «بئسما جزيتِها» (أي أنها حملتك ونجت بك من الأعداء فيكون جزاؤها النحر) ثم قال لها صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين» (5). وقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن أمضى خمس ليالٍ خارجها (6). وهذه الغزوة من أكبر الغزوات التأديبية التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ضد أعراب نجد بعد غزوة الأحزاب وبني قريظة وقبل غزوة خيبر (7)، وتتابعت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة ذي قرد لتأديب المشركين فنجحت بعض هذه السرايا، وتعثر بعضها الآخر، وكان أبرزها سرية عكاشة بن محصن الأسدي التي عرفت بسرية الغمر (8) , وقد بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، إلى بني أسد، فوصلت إلى موضع يقال له الغمر، فوجدت القوم قد هربوا وتفرقوا في الجبال القريبة, فأغار عكاشة وأصحابه على نعم لهم فغنموا مائتي   (1) انظر: عيون الأثر، ابن سيد الناس (2/ 72، 73). (2) ذو قرد: ماء على نحو بريد من المدينة مما يلي غطفان. (3) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص327. (4) انظر: صلح الحديبية، ص43. (5) انظر: صلح الحديبية، ص45. (6) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص327. (7) انظر: صلح الحديبية، ص45. (8) الغمر: ماء لبني أسد على ليلتين من فيد الذي هو قلعة بطريق مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 بعير، وعادوا إلى المدينة (1). ومن أبرزها أيضا سرية محمد بن مسلمة الأنصاري إلى ذي القصة (2) لإرهاب بني ثعلبة وعُوال ومنعهم من الإغارة على سرح المدينة، وفي شهر ربيع الثاني سنة ست من الهجرة خرج محمد بن مسلمة في عشرة من المسلمين حتى وردوا عليهم ليلاً فأحدق بهم القوم وهم مائة رجل، فتراموا ساعة من الليل، ثم حملت عليهم الأعراب بالرماح فقتلوهم, ووقع محمد بن مسلمة جريحًا، ولم يتمكن من العودة إلا بعد أن مرَّ به رجل من المسلمين، فحمله حتى ورد به المدينة (3). وعلى الأثر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلا إلى منازلهم، فلم يجدوا واحدًا، ولكنهم غنموا بعض نعمهم فساقوها وعادوا بها إلى المدينة (4). وفي شهر جمادى الأولى من السنة نفسها، كانت سرية زيد بن حارثة الثانية إلى العيص (5) في سبعين ومائة راكب، لاعتراض قافلة لقريش كانت مقبلة من الشام فأدركها وأخذها وما فيها, وأسر بعض أفرادها، كان منهم أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله، وأمه هالة بن خويلد أخت خديجة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمغيرة بن معاوية بن أبي العاص (6). وفي شعبان سنة ست من الهجرة خرجت سرية بقيادة علي بن أبي طالب لتأديب بني سعد بن بكر الذين جمعوا الناس لإمداد يهود خيبر، وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائة من المسلمين، فأغار عليهم، وغنم بعض نعمهم وعاد بها إلى المدينة (7). كانت هذه السرية تأديبًا لكل من تسول له نفسه مساعدة اليهود في بغيهم المتوقع، حيث علمت تلك القبائل أن عين المدينة يقظة لكل ما يدور حولها، وأن جميع التحركات كانت تحت المراقبة (8). فقد تميزت الدولة الإسلامية بدقة رصدها لأعدائها، وهكذا يكون التخطيط الحربي السليم، وذلك بقطع الطريق على تجمع الأعداد الكبيرة حتى بالإمدادات الصغيرة (9). إن حركة السرايا والبعوث التي كان يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترشد المسلمين إلى أهمية   (1) تاريخ الطبري (2/ 640). (2) ذو القصة، موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا في طريق الربدة. (3) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص328. (4) الواقدي (1/ 551). (5) العيص: بينها وبين المدينة أربع ليال. (6) انظر: محمد رسول الله، محمد رضا، ص245، 246. (7) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص330. (8) انظر: من معين السيرة، ص325. (9) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (6/ 189). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 متابعة أخبار الأعداء وجمع المعلومات عنهم، فقد كانت المعلومات تتجمع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصادر متعددة عن طريق سراياه الاستطلاعية والمسلمين المتخفين، والمتعاطفين مع المسلمين، المعاهدين، الفراسة واستكشاف ما وراء السطور، المهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يفاجأ بتآمر داخلي أو تهديد خارجي, وهذا يجعل المسلمين في عصرنا أمام قضية يجب أن يعطوها كامل الاعتبار، مع ملاحظة الضوابط الشرعية (1). خامسًا: سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من عكل (2) وعرينة (3) في شوال من العام السادس الهجري (4) , وتكلموا بالإسلام، فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذودٍ (5) وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها ويتمسحوا بأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم فبعث الطلب في آثارهم (6) , فقبضوا عليهم؛ فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم، قال قتادة راوي الحديث: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة (7). وقال أبو قلابة في حديثه: (هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله) (8). قال الجمهور: إن الآية (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 33] قد نزلت في هؤلاء العرنيين (9) , وقيلت أسباب أخرى في نزولها (10).   (1) انظر: الأساس في السنة (2/ 712). (2) عكل: قبيلة من تيم الرباب. (3) عرينة: حي من بجيلة. من رواية الواقدي (2/ 568) معلقة, وابن سعد (2/ 93) معلقة. (4) من رواية الواقدي (2/ 568) معلقة وابن سعد (2/ 93) معلقة. (5) الذود: الإبل ما بين الثلاثة إلى العشرة وقيل ما بين الثنتين إلى التسعة. (6) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص478. (7) نفس المصدر، ص478. (8) نفس المصدر، ص478. (9) انظر: سبل الهدى والرشاد للشامي (6/ 181 - 190) فيها تفصيل. (10) انظر: تفسير الطبري (10/ 242 - 244). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 وعلى كل حال, فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فهذا الحكم باقٍ حتى يومنا هذا، وأدل دليل على ذلك، ما أجمع عليه المسلمون من وجود حكم الحرابة في الإسلام، سواء كانت الآية نزلت في الكفار أم في المسلمين، وهذه الآية نازلة في المشركين كما في البخاري، فدل ذلك على أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. وكون المثلة منسوخة أو منهيًا عنها, وأن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين العرنيين، لا يستدل به في هذه القضية, لكون العرنيين سملوا أعين الرعاة فصار سمل النبي صلى الله عليه وسلم لهم قصاصًا لا مثلة (1). إن حادثة العرنيين ترتب عليها تنفيذ حكم الحرابة, ونزول آيات بينات في هذا الحكم، فقد حصر المولى عز وجل جزاء المحاربين في أربعة أمور, وكان ذلك الحصر بأقوى أدوات الحصر. ثم إنه وصف هؤلاء المحاربين بأوصاف يشمئز منها كل عاقل، ذلك أنه وصفهم بأنهم حرب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم, وأنهم يريدون إفساد الأرض بتخويف سكانها، وتقتيلهم وسلبهم ونهب ممتلكاتهم ظلمًا وجورًا لا مستند لهم ولا باعث إلا الإفساد والطغيان، فكانت رحمة الله تعالى الرحيم بهم وغيرهم من خلقه مقتضية الحكم عليهم بواحد من أمور أربعة وهي: القتل، والصلب، وقطع الأيدي، والأرجل من خلاف، والإبعاد من مخالطة العامة، وعزلهم عنها بالنفي والتغريب حتى لا تتكرر منهم تلك الجرائم الشنيعة, وحتى يرتدع غيرهم من ارتكاب مثل هذا الجرم الشنيع، ولكي يطهرهم ما يوقع بهم من عقاب من الذنوب والآثام, إن هم تابوا ورجعوا إلى رشدهم وصوابهم. ثم إن هؤلاء لهم ذلة ومهانة في الحياة الدنيا لأذيتهم المسلمين, وقد علل تعالى لحوق تلك الرذيلة بهم مدة الحياة الدنيا بسبب ما اقترفوه من جريمة الحرابة، وباقية معهم إلى يوم القيامة، لكن الرب جل وعلا أعد لهؤلاء في الآخرة عذابًا عظيمًا. ثم استثنى جل وعلا من هؤلاء من أناب إليه ورجع في أسلوب حكيم مؤثر داعٍ إلى رجوعهم وتوبتهم من هذه الجريمة المنكرة، فلقد عفا عنهم تعالى إذا ما رجعوا وجاءوا تائبين قبل القدرة عليهم، لكون تلك التوبة مظنة لصدقهم في توبتهم ورجوعهم عن غيهم؛ لأنهم رجعوا قبل القدرة عليهم، وبتقييد العفو عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم يفهم أنهم إن قدر عليهم قبل التوبة لا ينالون من العفو ما ينالونه لو تابوا قبل القدرة عليهم. وهذا نوع من العلاج في غاية الدقة والإنصاف، وفيه من الحفز على التقليل من هذه الجريمة وتركها ما لا يخفى على ذي عقل لبيب.   (1) انظر: علاج القرآن الكريم للجريمة، د. عبد الله الشنقيطي، ص297، 298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 وكذلك الشأن في جميع أساليب القرآن الكريم العلاجية، كلها توافق الذوق السليم والعقل الراجح المتزن المتمتع بصفاء الفطرة السليمة. ثم ختم تعالى الآيتين الكريمتين بأنه غفور رحيم لمن تاب منهم وأصلح، فلا يقنط أحد من رحمته الواسعة، ولا يحول بين العبد ورحمة ربه ومغفرته عظيم ذنبه، وجسيم خطئه، ما لم يقارف شركًا. وفي الجملة فقد عالجت الآيات القرآنية الحرابة في المجتمع الإسلامي علاجًا لا مزيد عليه وذلك واضح مما يلي: 1 - وصف المحارب بأنه محارب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. 2 - عظم الجزاء المترتب على الحرابة أيا كان هو. 3 - مكانته الدنيئة في الدنيا والآخرة إن لم يتب. 4 - يظهر علاج القرآن الكريم لهذه الجريمة الشنعاء بفتحه باب التوبة لمتعاطيها على مصراعيه حتى لا يكون سده في وجهه حافزًا له على التمادي في جرمه والاستمرار في عتوه (1). قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 33، 34]. وهكذا كانت حركة بناء المجتمع وإقامة الدولة متشابكة في قضاياها العسكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية. * * * المبحث الثالث تصفية المحرضين على الدولة أولاً: سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق: كان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق من يهود بني النضير كثير التحريض على الدولة الإسلامية, حتى إنه جعل لغطفان ومن حولها من قبائل مشركي العرب الجعل العظيم إن هي قامت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاع أمر أبي رافع وانتشر, وكان ممن ألب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح تحريضه على دولة الإسلام من الأخطار التي يجب أن يوضع لها الحد (2).   (1) انظر: علاج القرآن الكريم للجريمة، ص 313 - 315. (2) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 1 - توجه السرية إلى خيبر ودخولها: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار فأمر عليهم عبد الله بن عتيك .. وكان أبو رافع في حصن له فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم. قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل, فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت، فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم غلق الأغاليق على وتد. قال ابن عتيك: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب (1). 2 - تنفيذ العقوبة بحق أبي رافع: ولما دخل أبو عتيك - رضي الله عنه - ومن معه من أفراد سريته إلى داخل الحصن، وأخذوا ينتظرون الفرصة المناسبة لقتل هذا اليهودي الخبيث أبي رافع. وقد جاء في البخاري: أن عبد الله بن عتيك أدرك نفرًا من أصحاب أبي رافع يسمرون عنده، وكان في علالي له, فكمن حتى ذهب عنه أهل سمره ثم صعد إليه، وكلما دخل بابًا أغلقه عليه، من الداخل حتى لا يحول أحد بينه وبين تنفيذ العقوبة، بحق أبي رافع، فانتهى إلى أبي رافع فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله, لا يدري أين هو من البيت، قال ابن عتيك: فقلت: يا أبا رافع. قال: من هذا؟ قال ابن عتيك: فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش ما أغنيت شيئا. وصاح، فخرجت من البيت، فمكثت غير بعيد ثم دخلت إليه. فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قلت: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته. فجعلت أفتح الأبواب بابًا بابًا حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة, فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك قام الناعي على   (1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص465. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع, فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: ابسط رجلك، فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط (1). وقد ذكرت كتب السيرة أن امرأة أبي رافع حينما ضُرب بالسيف صاحت فأراد قتلها, ثم كف عن ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاهم عن قتل النساء والصبيان (2)، وأن ابن عتيك كان يرطن بلغة اليهود، وأنه استخدمها مع زوجة أبي رافع اليهودي وأهل بيته. ويذكر كتاب السيرة أن سرية ابن عتيك كلها شاركت في ضرب أبي رافع، وأن كل واحد منهم ادَّعى أن ضربته كانت هي القاضية على أبي رافع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عجلوا بأسيافكم» فأتوا بأسيافهم فنظروا إليها، ثم قال: «هذا قتله» وهو سيف عبد الله بن أنيس، هذا أثر الطعام في سيف عبد الله بن أنيس (3). وقد يتوهم القارئ الكريم أن هناك تناقضًا بين رواية البخاري، ورواية كتب السيرة الأخرى التي تقول: إن الضربة القاضية كانت من عبد الله بن أنيس، والحق أنه ليس كذلك؛ ذلك لأن عبد الله بن عتيك يخبر عن نفسه، وأنه غلب على ظنه أنه هو القاتل, وأنه قد حكى عن دوره في ضرب اليهودي أبي رافع، ولا يعني هذا أن غيره لم يشارك في قتله، إذ لم ينف هو مشاركة غيره له في قتل أبي رافع، والروايات يفسر بعضها بعضًا، ويشرح بعضها بعضًا والروايات تذكر أن كل واحد من أفراد السرية كان يدعي أن ضربته هي القاضية والمميتة لأبي رافع، وقد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعواهم وفحص سيوفهم، وحكم بعد ذلك بأن الضربة القاضية كانت بسيف عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - لظهور أثر الطعام عليه، أي أن هذا السيف قد دخل جوف أبي رافع ومزق أحشاءه، وقطع أمعاءه، وخلط غذاءه في جوفه (4). وقد ذكرت كتب السيرة أسماء سرية عبد الله بن عتيك وهم: مسعود بن سنان، عبد الله بن أنيس، أبو قتادة الحارث بن ربعي، خزاعي بن أسود (5). وفي هذه السرية دروس وعبر كثيرة منها: 1 - إن كل أعضاء هذه السرية كانوا من الخزرج فقد حرصوا على أن ينافسوا إخوانهم من الأوس, الذين قتلوا كعب بن الأشرف, فقد كانوا كفرسي رهان في المسابقة في الخيرات فهم لا يتنافسون على اغتنام مظاهر الحياة الدنيا من المال والمناصب، وإنما يتسابقون إلى الفوز   (1) البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع (5/ 33) رقم 4039. (2) انظر: شرح المواهب اللدنية (2/ 168). (3) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 91، 92) المغازي للواقدي (1/ 294) المغازي النبوية للزهري، ص114. (4) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 189). (5) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 بمرضاة النبي صلى الله عليه وسلم التي مآلها رضوان الله تعالى والسعادة الأخروية (1). قال كعب بن مالك: وكان مما صنع الله تعالى به لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار، الأوس والخزرج، كانا يتصاولان (2) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين؛ يعني يتسابقان في خدمته، لا يصنع الأوس شيئًا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غناء إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام, قال: فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئًا قالت الأوس مثل ذلك (3). 2 - فائدة لغة العدو: فقد استطاع عبد الله بن عتيك أن يصعد إلى حصن أبي رافع وأن يخاطب امرأته وأن يدخل بيته مطمئنًا؛ لأنه خاطبه بلغته, لغة اليهود في ذلك الوقت، ويؤخذ من ذلك استحباب تعلم لغة غير المسلمين لا سيما الأعداء منهم خاصة لأولئك العسكريين الذين يذهبون لمهمات استطلاعية تجمع أخبار العدو وتزود القيادة بها، والقيادة ترسم (4). 3 - عناصر نجاح خطة ابن عتيك في قتل أبي رافع اليهودي: ذهابه وحده، فقد قرر أن يذهب وحيدًا إلى الحصن، ويحاول أن يدخله, ومن ثم يفتش عن طريقة يدخل بها أفراد سريته، تصرفه العادي الذي لم يلفت انتباه أحد من الحراس، قدرته على التمويه على الحارس، وإيهامه أنه يقضي حاجته، وهذا منع الحارس من النظر إليه وتفحصه وتفرسه في وجهه، مراقبة حركة الحارس الدقيقة بعد دخول الحصن وإغلاقه, فقد كمن في مكان لم يشعر به الحارس، وراقب الحارس حتى وضع مفتاح الحصن في مكان معين وتابعه حتى انصرف، وأخذ المفتاح وأصبح يستخدمه كيفما يشاء وفي أي وقت شاء (5). 4 - عناية الله عز وجل بأوليائه, فهذا الصحابي الجليل استمر بعون من الله تعالى يمشي ويبذل طاقته حتى بعد أن أصيبت رجله، وكأنه لا يشكو من علة حتى إذا انتهت مهمته تمامًا، وأصبح غير محتاج لبذل الجهد عاد إليه الألم، وحمله أصحابه، فلما حدث النبي صلى الله عليه وسلم خبره قال له: ابسط رجلك، قال: فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم اشتكها قط (6). 5 - فوائد من القصة استخرجها ابن حجر حيث قال: وفي هذا الحديث من الفوائد جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصر وقتل من أعان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أو ماله أو لسانه، وجواز التجسس على أهل الحرب, وتطلب غرتهم والأخذ بالشدة في محاربة   (1) انظر: التاريخ الإسلامي (6/ 177). (2) يتصاولان: يتفاخران، إذا فعل أحدهما شيئاً فعل الآخر مثله. (3) انظر: السيرة لابن هشام (6/ 177). (4) انظر: الصراع مع اليهود (1/ 191). (5) المصدر نفسه (1/ 192، 193). (6) البخاري، المغازي، رقم 4039. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 المشركين، وجواز إيهام القوم للمصلحة، وتعرض القليل من المسلمين للكثير من المشركين, والحكم بالدليل والعلامة لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته واعتماده على صوت الناعي بموته, والله أعلم (1). 6 - وجود عبد الله بن أنيس جنديًا في هذه السرية، وليس أميرًا فيها له دلالته الكبرى في عملية التربية والتعليم، فهو العقبي البدري المصلي للقبلتين, فهو من السابقين الأولين من الأنصار، وليس عبد الله بن أنيس نكرة في مجال الجهاد والبطولات، فلا بد أن نذكر أنه وحده الذي ابتعثه رسول الله إلى اغتيال سفيان بن خالد الهذلي في أطراف مكة، وهو الذي كان يعد العدة لغزو المدينة, وهو الذي نجح نجاحًا باهرًا في مهمته تلك، وقتله في فراشه وداخل خيمته، وأعجز قومه هربًا، وعاد منتصرًا مظفرًا، فهو مليء بالمجد، ومع ذلك فلم يكن أمير المجموعة، إنما كان أحد أفرادها, وهو يحمل هذا التاريخ المشرق في سجلاته عند ربه عز وجل قبل أن يكون عند الناس. وهو درس تربوي خالد قد استوعبه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا النوع من التربية لا مثيل له في عالم الأرض، فالذي يحكم في الجيوش تسلسل الرتب حتى أن الرتبة الواحدة يتحكم فيها المتقدم بالمستجد، وعلى المستجد السمع والطاعة للمتقدم ولو بأشهر، وبهذا المنطق لا يجوز أن يتقدم على عبد الله بن أنيس أحد، ولكنها التربية النبوية العظيمة التي خطها النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موقع، لتجعل هذا الجيل يتعلم من سابقه ويتدرب على يديه، فطالما أرسل عليه الصلاة والسلام سرايا فيها أبو بكر وعمر جنديان عاديان في غمار الجنود (2). ثانيًا: سرية عبد الله بن رواحة إلى اليسير بن رزام اليهودي: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اليسير بن رزام أمير اليهود بخيبر بعد سلام بن أبي الحقيق، أخذ في جمع يهود الشمال وتحريضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يكتف بذلك بل بدأ بتأليب قبائل غطفان وجمعها لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبيته اليهود له من الخديعة والمكر رأى صلى الله عليه وسلم أن يتأكد من ذلك قبل أن يقدم على أمر ما، فأرسل عبد الله بن رواحة في نفر من المسلمين روادًا يكتشفون ما تخبئه يهود ومن لف لفها من مشركي العرب (3). وقد تأكدت المخابرات النبوية من أمر اليسير بن رزام، وكان هذا كافيًا لقيام النبي صلى الله عليه وسلم ببعث سرية في ثلاثين راكبًا عليهم عبد الله بن رواحة، وفيهم عبد الله بن أنيس فأتوه فقالوا: أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملك على خيبر، فلم يزالوا به حتى تبعهم في ثلاثين رجلاً مع كل رجل منهم رديف من المسلمين، وكان هو رديف عبد الله بن أنيس على بعيره، حتى إذا كانوا   (1) فتح الباري (7/ 345). (2) انظر: التربية القيادية (4/ 148). (3) انظر: اليهود في السنة المطهرة (1/ 388، 389). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 بقرقرة ثيار على ستة أميال من خيبر، ندم اليسير على مسيره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهوى بيده على سيف رديفه ابن أنيس، ففطن له، فاقتحم به، ثم ضربه بالسيف، فقطع رجله وضربه اليسير بمخرش (1) في يده من شواحط (2) فضرب به وجه عبد الله فأمه (3) , ومال كل رجل من المسلمين على رديفه من اليهود فقتله، إلا رجل واحد أفلت على رجليه, فلما قدم ابن أنيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل على شجه، فلم تقح ولم تؤذه (4). وكانت هذه السرية في شوال سنة ست من الهجرة (5). وفي هذه السرية دروس وعبر منها: 1 - كانت الخطة النبوية هي محاولة إيقاف نهر الدم بين اليهود والمسلمين ابتداء, فقد كان دور عبد الله بن رواحة في هذا الاتجاه، غير أن الحقد اليهودي الذي أشرب قلوبهم والسم الذي ينفثونه على المسلمين، هو الذي غلب آخر الأمر، وأفسد الخطة كلها، فقد حاولوا الغدر بالمسلمين فوقعت الدائرة عليهم. 2 - إن البأس في الحرب ما لم يكن غليظًا وشديدًا، فلن تحسم المواجهة مع العدو، وستجعل الحرب تفنى كل شيء وتأكل كل شيء, فلا بد من بث الرهبة والرعب في قلوب العدو، ولا بد من الشدة معه حين لا يجدي الحوار أو المناقشة, ولا بد من الغلظة التي تشعر العدو أن من يقاتله لا يخشى في الله لومة لائم. 3 - شهد العام السادس من الهجرة تصعيدًا عنيفًا في عمليات المواجهة مع العدو، ولا يكاد يمر شهر دون سرية أو سريتين تضرب في الصحراء، وتفض جمعًا أو تحطم عدوًا أو تغتال طاغوتًا، فقد كان شعار المرحلة: الآن نغزوهم ولا يغزوننا، فقد كان حزب الله ينطلق في الآفاق باسم الله، يحمل المبادئ الخالدة، والقيم العليا يقدمها للخلق كافة، ويزيح كل طاغوت يحول دون وصول هذه المبادئ، ونشهد حزب الله في أفراده جميعًا، والذين تلقوا أعلى مستويات التربية الخلقية، والفكرية، والعسكرية، والسياسية، كيف ينفذون هذا المنهج وكيف يكون واقعهم ترجمة عملية وحية لمبادئهم، وكيف يتقدمون ليتصدروا مرحلة جديدة تبدأ معالمها وملامحها مع صلح الحديبية (6). * * *   (1) المخرش: شبه المقرعة يضرب به، وهي معوجة الرأس. (2) الشواحط: شجر ابن النبع، من أشجار الجبال التي يتخذ منها القسي والسهام. (3) فأمه: أي جرحه في رأسه، والشجة المأمومة هي التي تبلغ أم الرأس. (4) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص477. (5) المصدر نفسه، ص477. (6) انظر: التربية القيادية (4/ 189 - 192). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 الفصل الثالث عشر الفتح المبين (صلح الحديبية) المبحث الأول تاريخه وأسبابه ومخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة أولاً تاريخه وأسبابه: في يوم الاثنين الأول من ذي القعدة سنة 6هـ (1) خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجها بأصحابه إلى مكة لأداء العمرة (2) , وسبب هذه الغزوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا في منامه وهو في المدينة، وتتلخص هذه الرؤيا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنه قد دخل مكة مع أصحابه المسلمين محرمًا مؤديًا للعمرة، وقد ساق الهدي معظمًا للبيت مقدسًا له، فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ففرحوا بها (3) فرحًا عظيمًا, فقد طال عهدهم بمكة والكعبة التي رضعوا بلبان حبها ودانوا بتعظيمها، وما زادهم الإسلام إلا ارتباطًا بها وشوقًا إليها، وقد تاقت نفوسهم إلى الطواف حولها، وتطلعت إليها تطلعًا شديدًا، وكان المهاجرون أشدهم حنينًا إلى مكة، فقد ولدوا ونشأوا فيها وأحبوها حبًّا شديدًا، وقد حيل بينهم وبينها، فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، تهيأوا لتلك الزيارة العظيمة (4) , واستنفر صلى الله عليه وسلم أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه؛ لأنه كان يخشى أن تصده قريش عن البيت الحرام، وكانت استخبارات المدينة قد علمت بأمر التحالف العسكري الذي عقد بين قريش في جنوب المدينة المنورة وخيبر في شمالها، وكان هدف هذا التحالف جعل الدولة الإسلامية بين طرفي الكماشة، ثم إطباق فكيها عليها وإنهاء الوجود الإسلامي فيها، فقد حان الوقت لكسر ذلك التحالف سياسيًّا، فقد كانت الكعبة في نظر العرب قاطبة ليست ملكًا لقريش، بل هي تراث أبيهم إسماعيل، ولهذا فليس من حق قريش أن تمنع من زيارتها من تشاء، وتجيز من تشاء, فإذن من حق محمد وأصحابه زيارة الكعبة (5).   (1) أجمع أهل العلم على تاريخها بدون خلاف، انظر: المجموع للنووي (7/ 78). (2) انظر: نضرة النعيم (1/ 334). (3) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (2/ 495). (4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص273. (5) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، ص213، 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 وانتشر خبر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قبائل العرب، وكان انتشار الخبر له أثر في الرأي العام، وخصوصًا بعدما أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يريد حربًا، وإنّما يريد أن يعتمر ويعظم شعائر الله، وحقق هذا الفعل الكريم مكاسب إعلامية رفيعة المستوى، وقد كان هدف النبي صلى الله عليه وسلم معلنًا ألا وهو زيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة، فتجرد هو وأصحابه من المخيط، ولبسوا ثياب الإحرام، وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة بعد أن قلد الهدي وأشعره (1). وقد كان صلى الله عليه وسلم على جانب كبير من الحيطة والحذر، فقد أرسل بشر بن سفيان الخزاعي عينًا له (2) , وقدم بين يديه طليعة استكشافية مكونة من عشرين رجلاً, وفي ذلك يقول الواقدي: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فقدمه أمامه طليعة في خيل المسلمين من عشرين فارسًا، وكان فيها رجال من المهاجرين والأنصار) (3) وكان هدفه صلى الله عليه وسلم من ذلك الاستعداد للطوارئ التي يمكن أن يفاجأ بها، وأيضا فقد كانت مهمة هذه الطليعة استكشاف خبر العدو (4). وأخذ صلى الله عليه وسلم بمشورة عمر في ذي الحليفة عندما قال له: يا رسول الله تدخل على قوم هم لك حرب بغير سلاح ولا كراع؟ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من يحمل له الكراع والسلاح (5)، وكان قصده صلى الله عليه وسلم من ذلك: الاستعداد لهؤلاء الأعداء، الذين يملكون السلاح والعتاد ما يستطيعون به إلحاق الأذى بالمسلمين والنيل منهم (6)، وهذا التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب من هديه الكريم الذي جعله لأمته لتقتدي به من بعده صلى الله عليه وسلم, لما في ذلك من المصالح الكثيرة، ولما فيه من درء مكايد الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر (7). ثانيًا: وصول النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان: لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي الخزاعي، فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ومعها العوذ المطافيل (8) , قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح (9) قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في   (1) أشعره: إشعار البدن أن يشق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها، مرويات الحديبية، ص55. (2) انظر: مرويات غزوة الحديبية للحكمي، ص58، 59. (3) انظر: مغازي الواقدي (2/ 974). (4) انظر: صلح الحديبية، محمد باشميل، ص309. (5) تاريخ الطبري (2/ 622). (6) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص489. (7) المصدر نفسه، ص489. (8) المراد: خرجوا ومعهم النساء والأولاد لئلا يفروا عنهم وهم على الاستعارة. (9) يا ويح: كلمة ترحم وتوجع، انظر: لسان العرب (3/ 996). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 الإسلام وهم وافرون (1) , وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟ والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهر الله له أو تنفرد هذه السالفة» (2). وقد استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه لما بلغه خبر استعداد قريش لصده عن دخول البيت الحرام، وعرض صلى الله عليه وسلم على الصحابة -رضي الله عنهم- المشورة في هذا الأمر على رأيين يحملان العزم والتصميم: 1 - الميل إلى عيال وذراري الأحابيش الذين خرجوا لمعاونة قريش على مقاتلة المسلمين وصدهم عن البيت. 2 - قصد البيت الحرام, فمن صده عنه قاتله حتى يتمكن من تحقيق هدفه (3). ولما عرض صلى الله عليه وسلم المشورة في هذا الأمر على الصحابة تقدم أبو بكر الصديق برأيه الذي تدعمه الحجة الواضحة، حيث أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك قتالهم والاستمرار على ما خرج له من أداء العمرة حتى يكون بدء القتال منهم، فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي, وأخذ به وأمر الناس أن يمضوا في هذا السبيل (4). وعندما اقتربت خيل المشركين من المسلمين صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف بعسفان. ثالثًا: الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الطريق وينزل بالحديبية: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشًا قد خرجت تعترض طريقه وتنصب كمينًا له ولأصحابه بقيادة خالد بن الوليد، وهو لم يقرر المصادمة, رأى أن يغير طريق الجيش الإسلامي تفاديًا للصدام مع المشركين، فقال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقا وعرًا بين شعاب شق على المسلمين السير فيه حتى خرجوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، وعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: «قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك. فقال: «والله إنها الحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها» (5). فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش في طريق تخرجه إلى ثنية المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة، فسلك الجيش ذلك الطريق بخفة ودون أن يشعر به أحد، فما نظر خالد إلا وقترة (6) جيش المسلمين قد ثارت، فعاد مسرعًا هو ومن معه إلى مكة   (1) وافرون: جمع وافر وهو الذي لم ينقص منه شيء، لسان العرب (3/ 958). (2) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (3/ 237) رقم 2732. (3) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ص489. (4) انظر: ملامح الشورى في الدعوة الإسلامية للشيخ عدنان النحوي، ص160. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 338). (6) قتره: غبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 يحذر أهلها, ويأمرهم بالاستعداد لهذا الحدث المفاجئ (1) , وقد أصاب الذعر المشركين وفوجئوا بنزول الجيش الإسلامي بالحديبية حيث تعرضت مكة للخطر، وأصبحت مهددة من المسلمين تهديدًا مباشرًا (2). يقول اللواء محمود شيت في هذا الدرس الرائع: لم تكن حركة المسلمين على هذا الطريق خوفًا من قوات الجيش، فالذي يخاف من عدوه لا يقترب من قاعدته (3) الأصلية، وهي مركز قواته، بل يحاول الابتعاد عن قاعدة العدو الأصلية حتى يطيل خط مواصلات العدو، وبذلك يزيد من صعوباته ومشاكله، ويجعل فرصة النصر أمامه أقل من حالة الاقتراب من قاعدته الأصلية (4). وقد جاء في كتاب (اقتباس النظام العسكري في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم) ما بيَّن الحكمة من تغيير الطرق ما نصه: ويؤخذ من اتخاذ الأدلة والتحول إلى الطرق الآمنة أن القيادة الواعية البصيرة، تسلك في سيرها بالجيش طرقًا بعيدة عن المخاطر والمهالك وتتجنب الدروب التي تجعل الجيش خاضعًا تحت تصرفات العدو وهجماته (5). رابعًا: ما خلأت القصواء, وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل: وعندما اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية، بركت ناقته القصواء، فقال الصحابة رضي الله عنهم: خلأت القصواء (6) , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل»، ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» (7) ثم زجرها فوثبت ثم عدل عن دخول مكة، وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد -بئر- قليل الماء، ما لبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيها، فجاش لهم بالري فارتووا جميعا (8)، وفي رواية أنه جلس على شفة البئر فدعا بماء فمضمض ومج في البئر (9). ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معا وقعا، كما ذكر ابن حجر (10) , ويؤيده ما ذكره الواقدي (11) , وعروة (12) من أن الرسول صلى الله عليه وسلم تمضمض في دلو   (1) غزوة الحديبية لأبي فارس، ص39. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص374. (3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص374. (4) انظر: الرسول القائد، شيت خطاب، ص186، 187. (5) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص374 نقلا عن اقتباس النظم العسكرية، ص258. (6) بركت من غير علة ظاهرة، فلم تبرح مكانها. (7) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص484. (8) نفس المصدر، ص484. (9) الفتح (14/ 758) رقم 3577. (10) الفتح (11/ 164) رقم 2731، 2732. (11) المغازي (2/ 588). من رواية أبي الأسود عنه كما ذكر ابن حجر في الفتح (11/ 164). (12) من رواية أبي الأسود عنه كما ذكر ابن حجر في الفتح (11/ 164). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 وصبه في البئر، ونزع سهمًا من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت (1). وفي بروك ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه بعد ذلك دروس وعبر منها: 1 - كل شيء في هذا الكون يسير بأمر الله ومشيئته، ولا يخرج في سيره عن مشيئته وإرادته, فتأمل في ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أين بركت، وكيف كره الصحابة بروكها وحاولوا إنهاضها لتستمر في سيرها فيستمروا في سيرهم إلى البيت العتيق مهما كانت النتائج، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك (2). 2 - وقد استنبط ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- فائدة جليلة من قوله صلى الله عليه وسلم: «حبسها حابس الفيل» (3) فقال: وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة؛ لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقًا, أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره (4). 3 - ومن الفوائد أن المشركين وأهل البدع والفجور، والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرًا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك, فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ لله تعالى مُرْضٍ له، أجيب إلى ذلك كائنًا من كان، ما لا يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضيع وأصعبها، وأشقها على النفوس (5). 4 - إن الله سبحانه وتعالى، جلت قدرته، وعزت عظمته, قضى ألا يكون قتال بين المسلمين والمشركين من أهل مكة في هذه الغزوة بالذات؛ لحكم ظهرت فيما بعد منها: أ- دخول المسلمين بالقوة يعني أن تحدث مذابح، وتزهق أرواح كثيرة، وتسفك دماء غزيرة من الطرفين، وهذا أمر لم يرده الباري سبحانه، وكان لمصلحة الفريقين المؤمنين والمشركين. ب- إن من المحتمل أن ينال الأذى والقتل والتشريد على أيدي المؤمنين بعض المستضعفين من إخوانهم من المسلمين في مكة، وهذا فيه ما فيه من المعرة التي لا يليق بمسلم أن يقع فيها، قال سبحانه: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ   (1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص484. (2) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص43. (3) انظر: فتح الباري لابن حجر (6/ 260). (4) المصدر نفسه (6/ 61). (5) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح: 25]. ج- لقد سبق في علم الله عز وجل أن هؤلاء الذين يقفون اليوم صادين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم عن المسجد الحرام، هم الذين سيفتح قلوبهم إلى الإسلام, ويستفتح الله على أيديهم بلادًا كثيرة، حين يحملون هذه الرسالة للناس، وينيرون ظلمة الطريق للمدلجين (1). خامسًا: السفارة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش: بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وسعه لإفهام قريش أنه لا يريد حربًا معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه وهو حق للمسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه, ويتعرف على قوة المسلمين ومدى عزمهم على القتال إذا أُلجئوا إليه، وطمعًا في صد المسلمين عن البيت بالطرق السلمية من جهة ثالثة (2). 1 - ركب من خزاعة بقيادة بُدَيل بن ورقاء: جاء بُدَيل بن ورقاء في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة (3) نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، وبينوا أن قريشًا تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم سبب مجيئه، وذكر لهم الضرر الذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنة إلى وقت معلوم حتى يتضح لهم الأمر، وإن أبوا فلا مناص من الحرب, ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريش , وقالوا لهم: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، إن محمدًا لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرًا هذا البيت، فاتهموهم وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله لا يدخلها علينا عنوة أبدًا ولا تتحدث بذلك العرب (4). وقد ظهرت براعة النبي صلى الله عليه وسلم السياسية في عرضه على مشركي مكة الهدنة والصلاح؛ لأن في ذلك فوائد كثيرة منها: أ- فبالهدنة يضمن حياد قريش ويعزلها عن أي صراع يحدث في الجزيرة العربية، سواء كان هذا الصراع مع القبائل العربية الأخرى, أم مع اليهود ذلك العدو اللئيم الغادر الذي يتربص بالمسلمين الدوائر.   (1) صلح الحديبية لأبي فارس، ص45. (2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص485. (3) أي خاصته وأصحاب سره. (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 340). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 ب- حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يبقى الاتصال مفتوحًا بينه وبين قريش، ليسمع منهم ويسمعوا منه بواسطة الرسل، والسفراء، وفي هذا تقريب للنفوس وتبريد لجو الحرب، وإضعاف لحماسهم نحو القتال. ج- حرص صلى الله عليه وسلم على أن تدرك خزاعة بقيادة بديل والركب الذي معه أن حليفهم قوي, فتزداد ثقتهم به وحلفهم له ولبني هاشم من قبل الإسلام، فقد بقي ولم يُلْغَ، وتأكد في صلح الحديبية. د- إن العقلاء الذين يفكرون بعقولهم حين يسمعون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه جاء معظمًا للبيت، والمشركون يردونه، وهو يصر على تعظيمه، سيقف هؤلاء بجانبه ويتعاطفون معه فيقوى مركزه، ويضعُف مركز قريش الإعلامي والديني في نفوس الناس. هـ- إن مشركي مكة لم يطمئنوا إلى كلام بديل الذي نقله إليهم؛ ذلك لأنهم يعلمون أن خزاعة كانت عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشعرون بودّ خزاعة للرسول والمسلمين (1). وويؤخذ من جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء حسن التلطف في الوصول إلى الطاعات, وإن كانت غير واجبة، ما لم يكن ذلك ممنوعًا شرعًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب المشركين لما طلبوا منه، ولم يظهر لهم ما في النفوس من البغض لهم والكراهية فيهم لطفًا منه عليه السلام فيما يؤمل من البلوغ إلى الطاعة التي خرج إليها (2). 2 - سفارة عروة بن مسعود الثقفي: لم تقبل قريش ما نقله بديل بن ورقاء الخزاعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء زائرًا للبيت ولم يأت مقاتلاً، واتهمتهم، بل وأسمعتهم ما يكرهون, فاقترح عليهم عروة بن مسعود الثقفي أن يقابل الرسول صلى الله عليه وسلم ويسمع منه، ثم يأتيهم بالخبر اليقين (3). وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه فقال: ... فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى, قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ (4)، فلما بلحوا (5) عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آتيه، قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوًا من قوله لبديل (6) , فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل   (1) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص67. (2) المصدر نفسه، ص67. (3) المصدر نفسه، ص68. (4) اسم سوق من أسواق العرب في الجاهلية في شمال الطائف، يعقد كل عام. (5) بلحوا علي: أبوا، كأنهم أعيوا عن الخروج معه وإعانته. (6) البخاري، كتاب الشروط في الجهاد (3/ 236) رقم 2732. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإنني والله لا أرى وجوهًا، وإني لأرى أشوابًا (1) من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك، فقال أبو بكر: امصص بظر (2) اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ (3) فقال: من ذاك؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. لقد حاول عروة بن مسعود أن يشنَّ على المسلمين حربًا نفسية حتى يهزمهم معنويًّا، فاستخدم عنصر الإشاعة, ويظهر ذلك عندما لوح بقوة قريش العسكرية، معتمدًا على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش لا محالة، وذلك بأن يوقع الفتنة والإرباك في صفوف المسلمين, وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك, حاول ذلك من أجل التأثير على نفسيات المسلمين ولخدمة أهداف قريش العسكرية والإعلامية، وحاول أيضا أن يفتعل أزمة عسكرية كبيرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وجنوده من أجل التأثير على معنوياتهم وتحطيم عزائمهم، وهذا من أقوى أساليب الحرب النفسية التي استخدمت ضد المسلمين، أثناء تلك المفاوضات. وحاول عروة أن يثير الرعب وذلك بتخويف المسلمين من قوة قريش التي لا تقهر، وتصوير المعركة بأنها في غير صالحهم، لقد مارس عروة بن مسعود في مفاوضته عناصر الحرب النفسية من إشاعة وافتعال الأزمات وإثارة الرعب (4) , إلا أن تلك العناصر تحطمت أمام الإيمان العميق والتكوين الدقيق والصف الإسلامي المرصوص. ومن المفارقات الرائعة التي حصلت أثناء المفاوضات مع عروة بن مسعود وهي من عجائب الأحداث التي يستشف منها الدليل القاطع على قوة الإيمان التي كان يتمتع بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قدرة هذا الدين في تحويل الإنسان من شيطان مريد إلى إنسان فاضل نبيل، حيث كان أحد الذين يتولون حراسة النبي صلى الله عليه وسلم أثناء محادثاته مع عروة بن مسعود الثقفي في الحديبية هو المغيرة بن شعبة (5) -ابن أخي عروة بن مسعود نفسه- وكان المغيرة هذا قبل أن يهديه الله للإسلام شابًّا فاتكًا سكيرًا، قاطعًا للطريق غير أن دخوله للإسلام حوله إلى إنسان آخر، وقد أصبح بفضل الله تعالى من الصفوة المؤمنة، وقد وقع عليه الاختيار ليقوم بمهامّ حراسة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الجو الملبد بغيوم الحرب، وكان من عادة الجاهلية في المفاوضات، أن يمسك المفاوض بلحية الذي يراه ندًّا له أثناء الحديث، وعلى هذه القاعدة كان عروة بن مسعود يمسك بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء المناقشة، الأمر الذي أغضب المغيرة بن شعبة الذي كان قائمًا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف يحرسه وعلى وجهه المغفر فانتهر عمه وقرع يده بقائم   (1) أشوابا: أي أخلاطا من قبائل شتى. (2) البظر: ما تقطعه الخاتنة من بضع المرأة عند ختانها. (3) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (3/ 237) رقم 2732. (4) انظر: منهج الإعلام الإسلامي في صلح الحديبية، سليم حجازي، ص131، 132. (5) أسلم قبل عمرة الحديبية وشهدها، وشهد بيعة الرضوان، أصيبت عينه في اليرموك, وكان رسول سعد بن أبي وقاص إلى رستم، الإصابة (3/ 452). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 السيف قائلاً له: اكففْ يدك عن مس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم للذي يجري بين عروة المشرك وبين ابن أخيه المؤمن، ولما كان المغيرة بن شعبة يقف بلباسه الحربي متوشحًا بسيفه ودرعه وعلى وجهه المغفر، فإن عمه عروة لم يكن باستطاعته معرفته، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في أشد الغضب، ليت شعري من أنت يا محمد؟ من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، فقال له عمه: وأنت بذلك يا غُدر؟ لقد أورثتنا العداوة من ثقيف أبد الدهر، والله ما غسلت غدرتك إلا بالأمس. كان المغيرة صحب قومًا في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء. لقد فشل عروة في مفاوضاته، ورجع محذرًا قريشًا من أن تدخل في صراع مسلح مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال لهم: يا قوم, والله لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر, وكسرى، والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكًا قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمد وأصحابه، والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمر فيُفعل، وما يتنخم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجل منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيء، وقد حزرت القوم، واعلموا إنكم إن أردتم السيف، بذلوه لكم، وقد رأيت قومًا ما يبالون ما يصنع بهم، إذا منعوا صاحبهم، والله لقد رأيت نسيات معه، وإن كن ليسلمنه أبدًا على حال، فروا رأيكم، وإياكم وإضجاع (1) الرأي, فمادوه يا قوم، اقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح مع أني أخاف ألا تنصروا عليه؛ رجل أتى هذا البيت معظمًا له، معه الهدي، ينحره وينصرف، فقالت قريش: لا تكلم بهذا يا أبا يعفور (2) , لو غيرك تكلم بها للمناه، ولكن نرده عن البيت في عامنا هذا ويرجع قابل (3). لقد انتقلت الحرب النفسية وتأثيرها في صفوف المسلمين لتعمل داخل جبهة قريش وفي نفوسهم، فقد كان تصوير عروة لما رآه صادقًا، حيث بيَّن لقريش وضع المسلمين في الحديبية، من طاعتهم لنبيهم الكريم وحبهم له وتفانيهم بالدفاع عنه، وبما يتمتعون به من معنويات عالية جدًّا، واستعداد عسكري ونفسي يفوق الوصف، فكان ذلك بمثابة التحذير الفعلي لقريش بعدم التعجيل والدخول في حرب مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مما قد تكون نتائج هذه المعركة لصالح المسلمين، الأمر الذي أسقط في أيدي زعمائها، ولم تكن قريش تتوقعه أبدًا في تقويمها للأمور، لقد كان وقع كل كلمة قالها سيد ثقيف كالصاعقة على مسامع نفوس زعماء قريش، لقد كان صلى الله عليه وسلم موفقًا من قبل الله تعالى، ولذلك نجد أثره على عروة بن مسعود, مما جعل الانشقاق يدب في   (1) إضجاع الرأي: أي الوهن في الرأي. (2) أبا يعفور: كنية عروة بن مسعود الثقفي. (3) انظر: مغازي الواقدي (2/ 598). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 معسكر قريش، وأخذت جبهة قريش تتداعى أمام قوة الحق الصامدة، وكذلك فقد انهارت حجة قريش في جمعها للعرب ضد النبي صلى الله عليه وسلم. لقد نجح النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته وذكائه نجاحًا عظيمًا، باستخدام الأساليب الإعلامية والدبلوماسية المتعددة للحصول على الغاية المنشودة، وهي تفتيت جبهة قريش الداخلية، وإيقاع الهزيمة في نفوسهم، وإبعاد حلفائهم عنهم وإن هذه النتيجة لتعد بحق نصرًا ساحقًا حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبهات السياسية والإعلامية والعسكرية (1). 3 - سفارة الحُلس بن علقمة: ثم بعثوا الحلس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم يتألهون, فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه وأمر برفع الصوت في التلبية، فلما رأى الحلس الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، رجع إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك إعظاما لما رأى (2) فقد كان الوادي مجدبًا لا ماء فيه ولا مرعى، وقد أكل الهدي أوباره من طول الحبس عن محله، ورأى المسلمين وقد استقبلوه رافعين أصواتهم بالتلبية وهم في زي الإحرام، وقد شعثوا من طول المكوث على إحرامهم .. ولذلك استنكر تصرف قريش بشدة، وانصرف سيد بني كنانة عائدًا من حيث أتى دون أن يفاتح النبي صلى الله عليه وسلم بشيء, أو أن يفاوضه كما كان مقررًا من قبل، واعتبر عمل قريش عدوانيًّا ضد زوار بيت الله الحرام، ولا يجوز لأحد أن يؤيدها أو أن يناصرها على ذلك (3)، فرجع محتجًّا على قريش التي أعلنت غضبها لصراحة الحلس، وحاولت أن تتلافى هذا الموقف الذي يهدد بانقسام خطير في جبهة قريش العسكرية، ونسف الحلف المعقود بين قريش والأحابيش، وقالوا لزعيم الأحابيش: إنما كل ما رأيت هو مكيدة من محمد وأصحابه، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به (4). لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عالمًا ومستوعبًا لشخصية الحلس ونفسيته، ويظهر ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: هذا من قوم يتألهون. فالواضح من هذه المعلومة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على معرفة تامة بهذا الرجل، وبحكم هذه المعرفة قد درس شخصيته دراسة موضوعية وذلك بما كان عنده من حب شديد من التعظيم للحرمات والمقدسات والعمل على الاستفادة الكاملة من هذا الجانب في كسب المعركة، وعلى هذا الأساس فقد قام صلى الله عليه وسلم بوضع خطة محكمة مناسبة تقضي بوضع الحقائق كاملة أمام هذا الرجل وإظهار موقف المسلمين أو على الأقل وقوفه على الحياد في هذا الصراع.   (1) انظر: منهج الإعلام الإسلامي في صلح الحديبية، ص145. (2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص488. (3) انظر: منهج الإعلام الإسلامي في صلح الحديبية، ص108. (4) الواقدي، المغازي (2/ 600). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 والجدير بالذكر أن الحلس كان يتمتع بسمعة طيبة بين العرب جميعًا؛ وذلك لما يتميز به من رجاحة العقل، ولما يتمتع به من مركز ممتاز بوصفه زعيمًا وقائدًا لقوات الأحابيش، كما كان يتمتع باحترام وتقدير من جانب النبي صلى الله عليه وسلم وقريش على حد سواء، لهذا فإنه إذا ما تبين له أن الحق والعدل في جانب المسلمين فإنه يستطيع أن يقوم بدور مهم في إحلال السلام بين الطرفين المتنازعين والعمل على كبح جماح قريش، وإقناعها بالعدول عن موقفها العدائي ضد المسلمين وصدهم عن المسجد الحرام، ومن هنا فقد كانت الدراسة النفسية التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لشخصية الحلس تتناسب كليًا مع المبادئ التي يؤمن بها, وعلى ذلك فقد كانت درجة التأثير والاستجابة الناتجة عن هذه العملية إيجابية تمامًا (1) ومرضية, وهكذا استطاع صلى الله عليه وسلم أن يؤثر على عروة بن مسعود والحلس بن علقمة؛ مما جعل الانشقاق يدب في صفوف مشركي مكة. يقول الأستاذ العقاد عن قدرة الرسول في توظيف الطاقات وإدارة الصراع: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث الاستطلاع، وكان خبيرًا كذلك بتجنيد كل قوة في يده متى وجب القتال، إن كانت قوة رأي أو قوة لسان أو قوة نفوذ، فما نعرف أن أحدًا وجه قوة الدعوة توجيهًا أشد ولا أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه عليه السلام. ثم يضيف الكاتب قائلا: والدعوة في الحرب, كما لا يخفى، لها غرضان أصيلان من بين أغراضها العديدة، أحدهما: إقناع خصمك والناس بحقك، وثانيهما: إضعافه عن قتالك بإضعاف عزمه وإيقاع الشتات بين صفوفه، ثم يقول: وربما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم برجل واحد في هذا الغرض ما لم تبلغه الدول بالفرق المنظمة (2). 4 - سفارة مكرز بن حفص: وكان من سفراء قريش يوم الحديبية مكرز بن حفص، وقد روى البخاري ذلك فقال: فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز وهو رجل فاجر، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة، أنه لما جاء سهيل بن عمرو، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد سهل لكم من أمركم» (3) ولنا حديث مع سهيل بإذن الله تعالى. سادسًا: الوفود النبوية إلى قريش ووقوع بعض الأسرى في يد المسلمين: رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن من الضرورة إرسال مبعوث خاص من جانبه إلى قريش يبلغهم نواياه السلمية بعدم الرغبة في القتال، واحترام المقدسات، ومن ثم أداء مناسك العمرة، والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش (خراش بن أمية   (1) انظر: منهج الإعلام الإسلامي في صلح الحديبية، ص111. (2) انظر: عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، ص49. (3) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، (3/ 239) رقم 2732. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 الخزاعي) وحمله على جمل يقال له (الثعلب) , فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما صنعت قريش, فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل سفيرًا آخر بتبليغ قريش رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووقع اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر على عمر بن الخطاب (1) , فاعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهاب إليهم، وأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث عثمان مكانه (2)، وعرض عمر - رضي الله عنه - رأيه هذا معززًا بالحجة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء، وحيث إن هذا الأمر لم يكن متحققًا بالنسبة لعمر - رضي الله عنه - , فقد أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بعثمان - رضي الله عنه -، لأن له قبيلة تحميه من أذى المشركين حتى يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) , وقال لرسول الله: إني أخاف قريشًا على نفسي، قد عرفت عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم (4) , فلم يقل رسول الله شيئًا، قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجل أعز بمكة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان - رضي الله عنه - فقال: «اذهب إلى قريش فخبرهم أنا لم نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارًا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي، ننحره وننصرف» فخرج عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حتى أتى بلدح (5) , فوجد قريشًا هنالك فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في الدين كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون ويلي هذا منه غيركم, فإن ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثل منكم .. فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذا أبدًا، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا. فقام إليه أبان بن سعد بن العاص فرحب به وأجاره, وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً، أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وغيرهما, منهم من لقي ببلدح، ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إن محمدًا لا يدخلها علينا أبدًا (6).   (1) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص83. (2) انظر: المغازي للواقدي (2/ 600). (3) نفس المصدر (2/ 600). (4) انظر: المغازي للواقدي (2/ 600). (5) مكان قريب من مكة. (6) زاد المعاد (3/ 290) , السيرة النبوية لابن هشام (3/ 344). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 وعرض المشركون على عثمان - رضي الله عنه - أن يطوف بالبيت فأبى (1) , وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المستضعفين بمكة، وبشرهم بقرب الفرج والمخرج (2)، وأخذ منهم رسالة شفهية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيها: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكة (3). واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الفريق الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما, وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم (4). وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الفتح: 24]. وقد روى مسلم سبب نزول الآية السابقة: أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غرة (5) النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلمًا (6) فاستحياهم (7) , فأنزل الله عز وجل الآية المذكورة (8). وهذا سلمة بن الأكوع يحدثنا عما حدث؛ قال: ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض، واصطلحنا قال: وكنت تبيعًا (9) لطلحة بن عبيد الله، أسقي فرسه، وأحسه (10) وأخدمه وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي، مهاجرًا إلى الله ورسوله، قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها (11) فاضطجعت في أصلها، قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى منادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين قتل ابن زنيم, قال: فاخترطت سيفي (12) ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 344). (2) انظر: زاد المعاد (3/ 290). (3) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص85. (4) انظر: زاد المعاد (3/ 291). (5) (غرة) الغرة هي الغفلة: أي يريدون غفلته (شرح النووي 12/ 187). (6) سلمًا: المراد به الاستسلام والإذعان (شرح النووي 12/ 187). (7) فاستحياهم: فاستبقاهم (المفردات للراغب، ص140). (8) مسلم، كتاب الجهاد والسير (3/ 1442). (9) تبيعًا: خادمًا أتبعه (شرح النووي 12/ 176). (10) وأحسه: أي أحك ظهره بالمحسة لأزيل عنه الغبار، (شرح مسلم, النووي 12/ 176). (11) فكسحت شوكتها: أي كنست ما تحتها من الشوك (شرح مسلم, النووي 12/ 176). (12) فاخترطت سيفي: أي سللته (شرح مسلم, النووي 12/ 176). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 فجعلت ضغثًا (1) في يدي قال: ثم قلت: والذي كرم وجه محمد ما يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه (2) , قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات (3) يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف (4) في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه» (5) , فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الفتح: 24] (6). قال ابن كثير: هذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين حيث كف أيدي المشركين عنهم, فلم يصل إليهم منهم سوء، وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عن المسجد الحرام، بل صان كلا من الفريقين وأوجد بينهم صلحًا فيه خير للمؤمنين وعافية في الدنيا والآخرة (7). سابعًا: بيعة الرضوان: لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان - رضي الله عنه - قُتل, دعا رسول الله أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ومناجزتهم، فاستجاب الصحابة وبايعوه على الموت (8) , سوى الجد بن قيس، وذلك لنفاقه (9). وفي رواية أن البيعة كانت على الصبر (10) , وفي رواية على عدم الفرار (11) , ولا تعارض في ذلك؛ لأن المبايعة على الموت تعني الصبر وعدم الفرار (12). وكان أول من بايعه على ذلك سنان عبد الله بن وهب الأسدي (13) فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته (14) , وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس،   (1) ضعثًا: الضغث: الحزمة (شرح مسلم, النووي 12/ 176). (2) الذي فيه عيناه: يريد رأسه. (3) العبلات: قوم من قريش نسبوا إلى أمهم عبلة بنت عبيد (شرح مسلم, النووي 12/ 177). (4) مجفف: أي عليه تجفاف وهو ثوب كالجل يلبسه الفرس ليقيه من السلاح. (5) (وثناه) أي عودة ثانية (شرح مسلم للنووي 12/ 176). (6) مسلم، كتاب الجهاد والسير (3/ 1432). (7) تفسير ابن كثير (4/ 192). (8) البخاري رقم الحديث 4169. (9) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486. (10) البخاري، رقم 4169. (11) مسلم، رقم 1856. (12) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486. (13) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486. (14) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 وأوسطهم، وآخرهم (1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده (2) , وكان عدد الصحابة الذين أخذ منهم الرسول صلى الله عليه وسلم المبايعة تحت الشجرة ألفًا وأربعمائة صحابي (3) , وقد تحدث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرضوان وورد فضلهم في نصوص كثيرة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية منها: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 10]. وهذه الآية فيها ثناء ومدح عظيم لأهل بيعة الرضوان فقد جعل الله مبايعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم مبايعة له, وفي هذا غاية التشريف والتكريم لهم رضي الله عنهم (4). وقد ورد الثناء عليهم في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة ومن ذلك ما يلي: أ- من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض». وكنا ألفًا وأربعمائة ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة (5). ب- وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أخبرتني أم مبشر: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها» قالت: بلى يا رسول الله, فانتهرها, فقالت حفصة: (وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد قال الله عز وجل: (وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 71، 72]. قال النووي رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد, الذين بايعوا تحتها» قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعًا، وإنما قال إن شاء الله للتبرك لا للشك، وأما قول حفصة بلى، وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها فقالت: (وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقد قال: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) فيه دليل للمناظرة والجواب على وجه الاسترشاد وهو مقصود حفصة لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم. والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون (6).   (1) انظر: زاد المعاد (3/ 291). (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص404. (3) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص482. (4) انظر: عقيدة أهل السنة في الصحابة، د. ناصر حسن الشيخ (1/ 205). (5) مسلم (3/ 1485). (6) شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 85). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 وحين نمعن النظر في هذا الجيل الفريد مقارنة مع أهل بدر نلاحظ ارتفاع عدد المهاجرين إلى النصف من الجيش، وهذا الارتفاع الهائل في عدد المهاجرين من ثلاثة وثمانين في بدر إلى ثمانمائة كان معظمه من القبائل العربية المجاورة, وهي قبائل صغيرة، إذا قيست بالقبائل الكبرى، لكن شبابها كانوا يفدون إلى المدينة ينضوون تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويتلقون التربية اليومية في المسجد، والتربية العملية في المعارك والغزوات، فيتدربون على الجندية الخالصة ويفقهون دينهم مباشرة من رسول رب العالمين، وينشؤون في ظلال القدوة العليا لهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويتنافسون في الطاعة والامتثال لأمر الله ورسوله، فنالت قبائلهم بذلك شرفًا ربا على القبائل الكبرى التي تخاذلت في الانضمام للإسلام، فقبيلة أسلم وغفار كانت على رأس هذه القبائل، ويعود الفضل بعد الله في ذلك إلى الرعيل الأول منهم، واللبنات الأولى التي انضمت إلى الدعوة إلى أبي ذر الغفاري الذي كان من السابقين في إسلامه بمكة ومضى داعيًا في قومه حتى جاءه سبعون بيتًا من غفار يؤم بهم المدينة بعد أحد، وإلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، الذي تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل دخوله المدينة، فأسلم ومعه سبعون من قومه كذلك (1). أما القبائل الأخرى من مزينة وجهينة، وأشجع، وخزاعة، فقد بدأ شبابها يفدون إلى المدينة، لكن بأعداد ضئيلة, وبقي كيان القبيلة على الشرك، وبقي أعرابيًا بعيدًا عن محضن التربية العظيم داخل المدينة، فلم يتح له هذا الفضل، والاغتراف من رحيق النبوة؛ ولهذا كانت الآيات التي نزلت في المخلفين من الأعراب كالصواعق على رؤوسهم، لتخلفهم عن الانضمام إلى الجيش الإسلامي الماضي إلى الحديبية (2). * * * المبحث الثاني صلح الحديبية وما ترتب عليه من أحداث أولاً: مفاوضة سهيل بن عمرو لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لما بلغ قريشًا أمر بيعة الرضوان، وأدرك زعماؤها تصميم الرسول صلى الله عليه وسلم على القتال أوفدوا سهيل بن عمرو في نفر من رجالهم لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم (3) , ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلا قال: «لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» (4).   (1) انظر: التربية القيادية (4/ 214). (2) المصدر نفسه (4/ 216). (3) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص339، 340. (4) انظر: مغازي الواقدي (2/ 602، 604، 605). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 كان سهيل بن عمرو أحد زعماء قريش البارزين الذين كانوا يعرفون بالحنكة السياسية والدهاء, فهو خطيب ماهر، ذو عقل راجح، ورزانة، وأصالة في الرأي. شرع الفريقان المتفاوضان في بحث بنود الصلح، وذلك بعد رجوع عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وقد استعرض الفريقان النقاط التي يجب أن تتضمنها معاهدة الصلح، واستعرضا في مباحثاتهما مختلف القضايا التي كانت تشكل مثار الخلاف بينهما. هذا وقد اتفق الفريقان من حيث المبدأ على بعض النقاط، واختلفا على البعض الآخر، وقد طال البحث والجدل والأخذ والرد حول هذه البنود، وبعد المراجعات والمفاوضات تقاربت وجهات النظر بين الفريقين، وعند الشروع في وضع الصيغة النهائية للمعاهدة وكتابتها لتكون نافذة المفعول رسميًّا حدث خلاف بين الوفدين على بعض النقاط كاد أن يعثِّر سير هذه الاتفاقية, فعندما شرع النبي صلى الله عليه وسلم في إملاء صيغة المعاهدة المتفق عليها، أمر الكاتب وهو سيدنا علي بن أبي طالب، بأن يبدأ المعاهدة بكلمة: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهنا اعترض رئيس الوفد القرشي سهيل بن عمرو قائلا: لا أعرف الرحمن، اكتب (باسمك اللهم)، فضج الصحابة على هذا الاعتراض، قائلين: هو الرحمن، ولا نكتب إلا الرحمن, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تمشيًا مع سياسة الحكمة والمرونة والحِلْم، قال للكاتب: «اكتب باسمك اللهم» (1) واستمر في إملاء صيغة المعاهدة هذه، فأمر الكاتب أن يكتب «هذا ما اصطلح عليه رسول الله»، وقبل أن يكمل الجملة اعترض رئيس الوفد القرشي على كلمة رسول الله قائلا: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ اكتب اسمك واسم أبيك (2). واعترض المسلمون على ذلك, ولكن رسول الله بحكمته وتسامحه وبُعد نظره حسم الخلاف وأمر الكاتب بأن يشطب كلمة رسول الله من الوثيقة فالتزم الصحابة الصمت والهدوء. إن النبي صلى الله عليه وسلم وافق المشركين على ترك كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وكتابة (باسمك اللهم) بدلا عنها، وكذا وافقهم في كتابة محمد بن عبد الله وترك كتابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا وافقهم في رد من جاء منهم إلى المسلمين دون من ذهب منهم إليهم، وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور، أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله (محمد بن عبد الله) هو أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا   (1) انظر: مغازي الواقدي (2/ 610). (2) انظر: مغازي الواقدي (2/ 610). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك. وأما شرط رد من جاء منهم وعدم رد من ذهب إليهم، فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم تعليل ذلك والحكمة فيه في هذا الحديث بقوله: «من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا ثم كان كما قال صلى الله عليه وسلم» (1). وتم عقد هذه المعاهدة وكانت صياغتها من عشرة بنود جاءت على الشكل التالي: 1 - باسمك اللهم. 2 - هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. 3 - واصطلحا على وضع الحرب على الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض. 4 - على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجًّا أو معتمرًا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازًا إلى مصر أو إلى الشام، يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله. 5 - على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه. 6 - وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا أسلال ولا أغلال (2). 7 - وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتوثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم). 8 - وأنت ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيرها. 9 - وعلى أن هذا الهدي ما جئناه ومحله فلا تقدمه علينا. 10 - أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين.   (1) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/ 342). (2) العيبة هنا مثل: والمعنى أن بيننا صدورًا سليمة في المحافظة على العهد الذي عقدناه بيننا, وقد يشبه صدر الإنسان الذي هو مستودع سره، وقوله: لا أسلال ولا أغلال: تعني الأسلال من السلة وهي السرقة، والأغلال أي الخيانة والمعنى العام: أن بعضنا يأمن بعضًا في نفسه وماله فلا يتعرض لدمه ولا لماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 فمن المسلمين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف, وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن سلمة، وعلي بن أبي طالب كاتب المعاهدة رضي الله عنهم أجمعين. ومن المشركين: مكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو (1). تعتبر هذه المعاهدة أساسًا للمعاهدات الإسلامية ونموذجًا فريدًا للمعاهدات الدولية، بما سبقها من مفاوضات، وما حوته من شروط، وما تمثل بها من خلق النبي صلى الله عليه وسلم في النزول عند رضا الطرف الآخر، وفي كيفية الصياغة والالتزام، هذه المعاهدة سبقها مفاوضات من قبل المشركين والمسلمين، وفشل بعض الممثلين في الوصول إلى اتفاق، ودارت مشاورات شتى من الجانبين قبل الوصول إليه، حتى توصل الفريقان إلى اتفاق عن طريق ممثل المشركين (سهيل بن عمرو) ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ملأ المسلمين. عقدت هذه المعاهدة في الوقت الذي كان فيه المسلمون بمركز القوة لا الضعف، وكان باستطاعتهم ألا يقبلوا شروطها التي اغتاظ منها كثير من الصحابة، ولكن ما كان لهم أن يخرجوا عن طوع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وقد تمادى رسول قريش على رسول الله في مفاوضته, وكان فردًا بين جيش المسلمين، فلم ينله أذى، ولم يتمادَ عليه المسلمون بالقتل (لأن السفراء لا تقتل) ولكن رسول الله يرضيه، ويسعه بالحلم واللين، حتى يصل إلى الغاية التي ينشدها الإسلام، وهي حقن الدماء، وإحلال السلام، ورجاء أن يعقل القوم الحق، وأن يراجعوا المواقف، ويسمعوا كلام الله (2) , وتدخل الدعوة الإسلامية طورًا جديدًا بصور أخرى في الانتشار والاتصال بالناس عندما نتأمل نصوص المعاهدة التي تمت في الحديبية فإننا نأخذ منها الآتي: 1 - إن ديباجة المعاهدات الإسلامية كانت تبدأ باسم الله، أو باسمك اللهم، والقانون الدولي في صياغة المعاهدات يقول: (تبدأ كتابة المعاهدات بديباجة يتفق عليها طرفا التعاقد). والذي يجب أن نلاحظه أن المعاهدات في الإسلام تستند إلى الله الذي تبدأ باسمه سبحانه، حيث هو الرقيب والحسيب على ما في النوايا والقلوب، واسم الله مقدس في كل قلب يؤمن به، حتى أولئك الذين فسدت عقائدهم، فإنهم لا ينكرون الله، ولكنهم أفسدوا تصورهم لذات الله، وقد جرت أعراف بعض الذين يستهوون قلوب العامة بالشعارات الجوفاء أن يقولوا بدل اسم الله: باسم الشعب، أو باسم الأمة، باعتبار قدسية ما يبدأون به   (1) المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، د. محمد الديك، ص270، 271. (2) انظر: المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، ص268، 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 كما يزعمون، ولكن الذي يؤمن بالله لا يعدل عن قدسية الله في اعتقاده، ولذلك كانت البداية (باسمك اللهم). 2 - ذكر في المعاهدة طرفا التعاقد بعد (الديباجة) كما يسميها القانون الدولي، وهذا ما عليه القانون الدولي العام من أنه يذكر بعد الديباجة أسماء الممثلين أو الدول التي هي أطراف في عقد المعاهدة. 3 - بواعث المعاهدة، فقد جاء في بداية هذه المعاهدة ذكر الصلح لأجل وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس, ويكف بعضهم عن بعض، وهذا ما عليه القانون الدولي العام كذلك. 4 - الدخول في صلب المعاهدة وشروطها، حيث ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المعاهدة الشروط المتفق عليها بين الطرفين، وهذا ما عليه القانون الدولي العام. 5 - في معاهدة صلح الحديبية جواز ابتداء الإمام (رئيس الدولة الإسلامية) بطلب صلح العدو إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم (1). 6 - إن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائز للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما (2). 7 - إن صلح الحديبية سماه الله فتحًا؛ لأن الفتح في اللغة هو فتح المغلق, والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مغلقًا ففتحه الله، والصلح كذلك يفتح القلوب المغلقة نحو الطرف الآخر. لقد كانت الصورة الظاهرة في شروط الحديبية فيها ضيم للمسلمين, وهي في باطنها عز وفتح ونصر، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ما وراء المعاهدة من الفتح العظيم من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب (3). 8 - إن المعاهدة قد تكون مفتوحة لمن يحب أن يدخل فيها من الأطراف أو الدول الأخرى، وهذا ما عليه القانون الدولي، حيث أجاز أن تكون المعاهدة مفتوحة لمن يحب الدخول فيها من الأطراف الأخرى، فقد دخلت خزاعة وكنانة في الصلح الذي أنهى حالة الحرب القائمة بين هاتين القبيلتين والتي امتدت سنوات عديدة (4).   (1) انظر: زاد المعاد لابن القيم (3/ 306). (2) المصدر نفسه (3/ 306). (3) انظر: المعاهدات في الشريعة الإسلامية، ص272. (4) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 9 - إن المعاهدة لا بد لها من توقيع الأطراف والإشهاد عليها، وتوقيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإشهاد أصحابه إنما هو بمثابة التوقيع على المعاهدة والتصديق عليها، كما هو في القانون الدولي العام. 10 - إن المعاهدة يجوز أن يكون الوسيط فيها طرفًا محايدًا، أو طرفًا يقرب بين وجهات النظر كوساطة سيد الأحابيش (الحلس بن علقمة) حليف قريش الأكبر، وطلبت منه قريش أن يكون وسيطًا بينهم وبين المسلمين، وكان الحلس ذا عقل راجح وبصيرة نافذة، وكان سيدًا مطاعًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفه ويعرف فيه التأله الشديد والتعظيم للحرم. وعندما اختارته قريش كانت تطمع في أن يكون لمركزه الممتاز بين العرب, ولما يتمتع به من تقدير لدى النبي صلى الله عليه وسلم, تأثير على الرسول وأصحابه (1). وهذا ما يقره القانون الدولي، حيث إن المعاهدة قد تعقد بوساطة دولة أخرى ليست طرفًا في النزاع، أو أحد المبعوثين الذي لا علاقة له أو لدولته في النزاع القائم بين طرفي التعاقد. 11 - إن المعاهدة تعتبر نافذة المفعول بمجرد الاتفاق على المعاهدة وشروطها، حتى ولو لم تكتب ولم يوقع عليها الطرفان، وذلك كما حدث لأبي جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده الرسول صلى الله عليه وسلم بموجب قبوله عليه السلام بالبند الخامس من المعاهدة، والذي يقول: (على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ... ) فمنذ أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم التزامه بهذا الشرط أجراه ولو لم تكن المعاهدة قد كتبت بعد، ولم يوقع عليها الطرفان. 12 - إن المعاهدة تكتب من نسختين، ويأخذ كل طرف نسخة طبق الأصل من المعاهدة، حيث إنه بعد أن تمت إجراءات الصلح النهائية في الحديبية أخذ كل من الفريقين نسخة من وثيقة الصلح التاريخية، وانصرف الوفد القرشي راجعًا إلى مكة (2). ثانيًا: موقف أبي جندل والوفاء بالعهد: إن من أبلغ دروس صلح الحديبية درس الوفاء بالعهد, والتقيد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات التي يقطعها المسلم على نفسه، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه أعلى مثل في التاريخ القديم والحديث، لاحترام كلمة لم تكتب, واحترام كلمة تكتب كذلك, وفي الجد في عهوده، وحبه للصراحة والواقعية، وبغضه التحايل والالتواء والكيد، وذلك حينما كان يفاوض (سهيل بن عمرو) في الحديبية، حيث جاءه ابن سهيل يرسف في الأغلال، وقد فر من مشركي مكة، وكان أبوه يتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الابن ممن آمنوا بالإسلام جاء مستصرخًا   (1) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص199، 200. (2) انظر: المعاهدات في الشريعة الإسلامية، ص273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 بالمسلمين، وقد انفلت من أيدي المشركين, فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذ بتلابيبه، وقال: يا محمد لقد لجت القضية بيني وبينك، أي فرغنا من المناقشة قبل أن يأتيك هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فلم يغن عنه ذلك شيئًا، ورده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأبي جندل: إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهدًا، وإنا لا نغدر بهم، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم إزاء هذه المأساة التي حالت بنود معاهدة الصلح بينه وبين أن يجد مخرجًا منها لأبي جندل المسلم، طمأن أبا جندل وبشره بقرب الفرج له ولمن على شاكلته من المسلمين, وقال له وهو يواسيه: «يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا» (1). وفي هذه الكلمات النبوية المشرقة العظيمة دلالة ليس فوقها دلالة على مقدار حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمسكه بفضيلة الوفاء بالعهد مهما كانت نتائجه وعواقبه فيما يبدو للناس (2). لقد كان درس أبي جندل امتحانًا قاسيًا ورهيبًا لهذا الوفاء بالعهد أثبت فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون نجاحًا عظيمًا في كبت عواطفهم وحبس مشاعرهم، وقد صبروا لمنظر أخيهم أبي جندل وتأثروا من ذلك المشهد عندما كان أبوه يجتذبه من تلابيبه، والدماء تنزف منه, مما زاد في إيلامهم حتى أن الكثيرين منهم أخذوا يبكون بمرارة إشفاقًا منهم على أخيهم في العقيدة، وهم ينظرون إلى أبيه المشرك وهو يسحبه بفظاظة الوثني الجلف ليعود به مرة أخرى إلى سجنه الرهيب في مكة. وقد صبر أبو جندل واحتسب لمصابه في سبيل دينه وعقيدته, وتحقق فيه قول الله تعالى: ( ... وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَّتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2، 3]. فلم تمر أقل من سنة حتى تمكن مع إخوانه المسلمين المستضعفين بمكة من الإفلات من سجون مكة، وأصبحوا قوة صار كفار مكة يخشونها, بعد أن انضموا إلى أبي بصير، وسيطروا على طرق قوافل المشركين الآتية من الشام (3). وسيأتي تفصيل ذلك لاحقًا بإذن الله تعالى. ثالثًا: احترام المعارضة النزيهة: بعد الاتفاق على معاهدة الصلح وقبل تسجيل وثائقها ظهرت بين المسلمين معارضة شديدة وقوية لهذه الاتفاقية، وخاصة في البندين اللذين يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم بموجبهما برد من جاءه من المسلمين لاجئًا، ولا تلتزم قريش برد من جاءها من المسلمين مرتدًا، والبند الذي يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام، وقد كان أشد الناس   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 347). (2) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/ 275). (3) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص322 - 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 معارضة لهذه الاتفاقية وانتقادًا لها، عمر بن الخطاب، وأسيد بن حضير سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج. وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلنًا معارضته لهذه الاتفاقية، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست برسول الله؟ قال: «بلى» قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى» قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: «إني رسول الله ولست أعصيه» (1). وفي رواية: «أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني» (2) , قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قلت: لا، قال: «فإنك آتيه ومطوف به». قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر ناصحًا الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة: الزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر الله ولن يضيعه الله (3). وبعد حادثة أبي جندل المؤلمة المؤثرة عاد الصحابة إلى تجديد المعارضة للصلح، وذهبت مجموعة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم عمر بن الخطاب لمراجعته، وإعلان معارضتهم مجددًا للصلح إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاه الله من صبر وحكمة وحلم وقوة حجة استطاع أن يقنع المعارضين بوجاهة الصلح، وأنه في صالح المسلمين، وأنه نصر لهم (4) وأن الله سيجعل للمستضعفين من أمثال أبي جندل فرجًا ومخرجًا، وقد تحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. وبهذا يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع قاعدة احترام المعارضة النزيهة، حيث قرر ذلك بقوله وفعله، وهو -والله أعلم- إنما أراد بهذا الفعل إرشاد القادة من بعده إلى احترام المعارضة النزيهة التي تصدر من أتباعهم، وذلك بتشجيع الأتباع على إبداء الآراء السليمة التي تخدم المصلحة العامة (5). وهذا الهدي النبوي الكريم بيًّن أن حرية الرأي مكفولة في المجتمع الإسلامي، وأن للفرد في المجتمع المسلم الحرية في التعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرأي نقدًا لموقف حاكم من الحكام, أو خليفة من الخلفاء، فمن حق الفرد المسلم أن يبين وجهة نظره في جو من الأمن والأمان دون إرهاب أو تسلط يخنق حرية الكلمة والفكر.   (1) انظر: من معين السيرة، ص333. (2) انظر: تاريخ الطبري (2/ 634). (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 346). (4) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص270. (5) انظر: القيادة العسكرية في عهد رسول الله، ص495. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 ونفهم من معارضة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن المعارضة لرئيس الدولة في رأي من الآراء, وموقف من المواقف ليست جريمة تستوجب العقاب، ويغيب صاحبها في غياهب السجون (1). رابعًا: التحلل من العمرة ومشورة أم سلمة رضي الله عنها: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية كتابة الصلح قال لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كان بعضهم يقتل بعضًا غمًّا (2). وقد حلق رجال يوم الحديبية, وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين» (3). وكان في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية جَمَلٌ لأبي جهل في رأسه برة (4) من فضة, يغيظ بذلك المشركين (5). وفي هذه الحادثة تستوقفنا أمور فيها دروس وعبر منها: 1 - كان رأي أم سلمة سديدًا ومباركًا، حيث فهمت رضي الله عنها وعن الصحابة أنه وقع في أنفسهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذًا بالرخصة في حقهم، وأنه يستمر على الإحرام أخذًا بالعزيمة، في حق نفسه، فأشارت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به، فلم يبق بعد ذلك غاية تنتظر، فكان ذلك رأيًا سديدًا ومشورةً مباركةً، وفي ذلك دليل على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة ما دامت ذات فكرة صائبة ورأي سديد (6). كما أنه لا فرق في الإسلام بين أن تأتي المشورة من رجل أو امرأة طالما أنها مشورة صائبة، وهذا عين التكريم للمرأة التي يزعم أعداء الإسلام أنه غمطها حقها وتجاهل وجودها، وهل هناك اعتراف واحترام لرأي المرأة أكثر من أن تشير على نبي مرسل ويعمل النبي صلى الله عليه وسلم   (1) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص134، 135. (2) البخاري، كتاب الشروط (3/ 240) رقم 2732. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 348). (4) البرة: حلقة تجعل في أنف البعير ليذل ويرتاض. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 349). (6) انظر: ملامح الشورى في الدعوة الإسلامية، ص161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 بمشورتها لحل مشكلة اصطدم بها وأغضبته (1). 2 - أهمية القدوة العملية، فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر وكرره ثلاث مرات, وفيهم كبار الصحابة وشيوخهم، ومع ذلك لم يستجب أحد لدعوته، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخطوة العملية التي أشارت بها أم سلمة تحقق المراد، فالقدوة العملية في مثل هذه المواقف أجدى وأنفع (2). 3 - حكم الإحصار في العمرة والحج: دلَّ عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من أمر الصلح، من التحلل والنحر والحلق، على أن المحصر يجوز له أن يتحلل، وذلك بأن يذبح شاة، حيث أحصر أو ما يقوم مقامها، ويحلق ثم ينوي التحلل مما كان قد أهل به، سواء كان حجًّا أو عمرة، كما دل على أن المتحلل لا يلزم بقضاء الحج أو العمرة إذا كان متطوعًا، وخالف الحنفية فرأوا أن القضاء بعد المباشرة واجب، بدليل أن جميع الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية خرجوا معه في عمرة القضاء إلا من توفي أو استُشهد منهم في غزوة خيبر (3). خامسًا: العودة إلى المدينة ونزول سورة الفتح: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قاصدًا المدينة حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح قال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [الفتح: 11]. وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عظيم فرحته بنزولها وقال: أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس (4) ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) [الفتح: 1]، فقال أصحاب رسول الله: هنيئًا مريئًا, فما لنا؟ فأنزل الله: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ) [الفتح: 5] (5). وقد أسرع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بكراع الغميم فقرأ عليهم (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا). فقال رجل: يا رسول الله, أفتح هو؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح (6) , فانقلبت كآبة المسلمين وحزنهم إلى فرح غامر، وأدركوا أنهم لا يمكن أن يحيطوا   (1) انظر: المعاهدات في الشريعة الإسلامية، ص273. (2) انظر: تأملات في السيرة النبوية لمحمد السيد الوكيل، ص211. (3) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص243. (4) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (5/ 80) رقم 4177. (5) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (5/ 78) رقم 4172. (6) سنن أبي داود، معالم السنن، كتاب الجهاد رقم 2736. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 بالأسباب والنتائج، وأن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام (1). كان حديث القرآن الكريم عن هذا الحدث العظيم في سورة الفتح، وكان القرآن الكريم له منهجه الخاص في عرضه لغزوة الحديبية, فنجد في حديثه عن هذه الغزوة أنه سمى الصلح الذي وقع بين الفريقين مع عدم وقوع القتال فتحًا مبينًا. إننا بالتأمل في أسباب النزول نجد أن سورة الفتح نزلت بعد انتهاء النبي صلى الله عليه وسلم من الصلح وهو عائد إلى المدينة النبوية، وبعد أن خاض النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تلك التجارب العظيمة من الأمل في العمرة، إلى مواجهة المشركين، إلى بيعة الرضوان, إلى الصلح الذي لم يكن بعض الصحابة راضين عنه ودارت في أنفسهم أشياء كثيرة حول هذه الأحداث الجسام. ينزل القرآن الكريم ويبين للمسلمين بأن هذا الصلح هو فتح مبين، ويؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على صواب في قبول الصلح، بل لتزداد ثقة المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم حين يبشره الله على الملأ من الدنيا بأن الله تعالى فتح بالصلح ليغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كرامة منه سبحانه لرسوله؛ ليزداد المسلمون ثقة واطمئنانًا بأنهم على الصواب، وأن ما فعلوه هو الحق ومآله السعادة، ثم بين سبحانه أن توفيق الله كان مع المؤمنين فهو الذي وفقهم للصبر مع رسوله, وموافقتهم أخيرًا على ما جنح له من أمر الصلح، وأن ذلك كان بسبب إنزال السكينة على قلوبهم حتى على قلوب من أنكر بعض شروط الصلح، واستسلم للأمر على مضض, فلم يحصل رفض لهذا الصلح بل كلهم نزلوا على أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بفضل السكينة التي أنزلها عليهم, قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح: 4]. فالقرآن الكريم يبين أن الله هو الذي أنزل السكينة عليهم ليتذكروا فضله، ويداوموا على شكره، وهذا الإعلام بإنزال السكينة مما يتميز به حديث القرآن الكريم عن هذه الغزوة، إذ السكينة أمر معنوي لا يعلم نزوله إلا الله، وأشار القرآن الكريم إلى بيعة الرضوان وهي مبايعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم على الموت, فأثنى الله سبحانه وتعالى على هذه البيعة، وكتب لها الخلود في القرآن، وقرر أنها مبايعة لله عز وجل, فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 10]. وبهذا نرى ما يتميز به القرآن الكريم في حديثه عن الغزوات فهو يبين الحقائق ويصحح العقائد، ويربي النفوس، ويفضح المنافقين، ويبشر المسلمين بغنائم قريبة تحققت في خيبر، وبين أصحاب الأعذار, فليس كل من تخلف عن الجهاد يعاتب وإنما هناك استثناء، وهذا من كمال رحمته الإلهية، ثم لما تم صلح الحديبية وعاد المسلمون إلى المدينة ولم يتحقق ما   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 449). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 قصدوه من دخول مكة أشار سبحانه وتعالى إلى الرؤيا التي سبقت أن رآها النبي صلى الله عليه وسلم وبشر بها أصحابه وبين أنها رؤيا صدق، وأنها ستتحقق, قال تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح: 27]. ثم اختتمت السورة الجليلة بصفات مدح للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الكرام. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا - مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 28، 29]. لقد أيقن الصحابة الكرام أن الدعوة قد دخلت في طور جديد وفتح أكيد، وآفاق أوسع، وامتداد أرحب، وأن من طبيعة هذا الدين أن ينمو ويعيش في أجواء السلم والأمن أكثر منه وقت الحرب, ولمسوا مع الأيام نتائج صلح الحديبية التي كان من أهمها: 1 - اعترفت قريش في هذه المعاهدة بكيان الدولة المسلمة، فالمعاهدة دائمًا لا تكون إلا بين ندين، وكان لهذا الاعتراف أثره في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش الجحودي، حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة. 2 - دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين، وتيقن الكثير منهم بغلبة الإسلام، وقد تجلت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثير من صناديد قريش إلى الإسلام, مثل: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، كما تجلت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلفهم. 3 - أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام وتعريف الناس به؛ مما أدى إلى دخول كثير من القبائل فيه، يقول الإمام الزهري: (فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضًا, والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة, فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر) (1). وعقب عليه ابن هشام بقوله: والدليل على قول الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 351). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 بسنتين في عشرة آلاف (1). 4 - أمن المسلمون جانب قريش فحولوا ثقلهم على اليهود, ومن كان يناوئهم من القبائل الأخرى، فكانت غزوة خيبر بعد صلح الحديبية. 5 - مفاوضات الصلح جعلت حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليه، فهذا الحلس بن علقمة عندما رأى المسلمين يلبون رجع إلى أصحابه, قال: لقد رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. 6 - مكن صلح الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم من تجهيز غزوة مؤتة, فكانت خطوة جديدة لنقل الدعوة الإسلامية بأسلوب آخر خارج الجزيرة العربية. 7 - ساعد صلح الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم على إرسال رسائل إلى ملوك الفرس والروم والقبط يدعوهم إلى الإسلام. 8 - كان صلح الحديبية سببًا ومقدمة لفتح مكة: يقول ابن القيم: كانت الهدنة مقدمة بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطئ لها بين يديها بمقدمات وتوطئات تؤذن لها وتدل عليها (2). سادسًا: أبو بصير في المدينة وقيادته لحرب العصابات: في أعقاب صلح الحديبية مباشرة استطاع أبو بصير عتبة بن أسيد أن يفر بدينه من سجون الشرك في مكة المكرمة، وأن يلتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فبعثت قريش في إثره اثنين من رجالها إلى رسول الله، ليرجعا به، تنفيذًا لشرط المعاهدة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق إلى قومك، فقال أبو بصير: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: يا أبا بصير، انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا (3). فانطلق معهما، وقد شق ذلك على المسلمين وهم ينظرون بحزن إلى أخيهم في العقيدة، وهو يعود إلى سجنه بمكة بعد أن استطاع أن يفلت من ظلم قريش، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهتم بالوفاء بالعهود والمواثيق، ولم يكن عنده مجرد نظرية مكتوبة على الورق، ولكنه كان سلوكًا عمليًّا في حياته وفي علاقته الدولية، فقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود، وحذر من نقض الأيمان بعد توكيدها في كثير من   (1) المصدر نفسه (3/ 351، 352). (2) انظر: زاد المعاد (3/ 309). (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 352). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 الآيات القرآنية, قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل: 91]. وقال جل وعلا: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 34]. وبهذا يكون الوفاء بالعهد عند المسلمين قاعدة أصولية من قواعد الدين الإسلامي التي يجب على كل مسلم أن يلتزم بها (1). لقد التزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهده مع قريش، وسلَّم أبا بصير إليهما (القرشيين) وانطلق معهما، فلما كانا بذي الحليفة، قال لأحد صاحبيه: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم، قال: أنظر إليه؟ قال: انظر إن شئت، فاستله أبو بصير، ثم علاه به حتى قتله، ففر الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتل صاحبكم صاحبي، فما لبث أبو بصير أن حضر، متوشحًا السيف، وقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه، أو يعبث بي (2) , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد» (3) , فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سيف البحر (4)، وقد فهم المستضعفون بمكة من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا بصير بحاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وغيره حتى اجتمع عند أبي بصير عصبة قوية، فما يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا طريقها وقتلوا من فيها، وأخذوا الأموال التي كانوا يتجرون بها، فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم لما أرسل إلى أبي بصير ومن معه، ومن أتاه منهم فهو آمن، وتخلوا في ذلك عن أقسى شروطهم التي صبوا فيها كؤوس كبريائهم، فذلت قريش من حيث طلبت العز (5). فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم (6) وهم بناحية العيص، فقدموا عليه وكانوا قريبًا من الستين أو السبعين (7) , فآوى النبي صلى الله عليه وسلم تلك العصبة المؤمنة التي أقضت مضاجع قريش، وأرغمتها على إسقاط شرطها التعسفي، فزادت بهم قوة المسلمين وقويت بهم شوكتهم، واشتد بأسهم. غير أن أبا بصير، رأس تلك العصابة ومؤسسها، لم يقدر له أن يكون معها، فقد وافاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة، وهو على فراش الموت، فلفظ أنفاسه حيث كان في الثغر،   (1) انظر: منهج الإعلام الإسلامي في صلح الحديبية، ص329. (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 353). (3) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (3/ 241) رقم 4732. (4) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (3/ 241) رقم 4732. (5) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/ 281). (6) البخاري، كتاب الشروط (3/ 241) رقم 4732. (7) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 451). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 وهواه في قلب المجتمع النبوي في المدينة (1). إن قصة أبي جندل وأبي بصير وما احتملاه في سبيل العقيدة، وما أبدياه من الثبات والإخلاص والعزيمة والجهاد حتى مرغوا رؤوس المشركين بالتراب, وجعلوهم يتوسلون بالمسلمين لترك ما اشترطوه عليهم في الحديبية، هذه القصة نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها، وفيها ما يشير إلى مبدأ (قد يسع الفرد ما لا يسع الجماعة) فقد ألحق أبو بصير وجماعته الضرر بالمشركين في وقت كانت فيه دولة الإسلام لا تستطيع ذلك وفاء بالصلح، لكن أبا بصير وأصحابه خارج سلطة الدولة، ولو في ظاهر الحال، ولم يكن ما قام به أبو بصير والمستضعفون بمكة مجرد اجتهاد فردي لم يحظ بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر أبا بصير بالكف عن قوافل المشركين ابتداء أو بالعودة إلى مكة، لكن ذلك لم يحدث, فكان إقرارًا له، إذ كان موقف أبي بصير وأصحابه في غاية الحكمة حيث لم يستكينوا لطغاة مكة يفتنونهم عن دينهم ويمنعونهم من اللحاق بالمدينة، فاختاروا موقفًا فيه خلاصهم وإسناد دولتهم بأعمال تضعف اقتصاد مكة وتزعزع إحساسهم بالأمن في وقت الصلح، بل يمكن القول بأن اتخاذ هذا الموقف كان بإشارة وتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم حين وصف أبا بصير (2) بأنه: «مسعر حرب لو كان معه أحد» (3). سابعًا: امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن رد المهاجرات: صممت مجموعة من النساء المستضعفات في مكة على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي مقدمة هؤلاء النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فقد هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية, فأراد كفار مكة أن يردوهن فأنزل الله تعالى في حقهن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنْفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الممتحنة: 10]. قال الأستاذ محمد الغزالي: (وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردوا النسوة المهاجرات بدينهن إلى أوليائهن، إما لأنهم فهموا أن المعاهدة خاصة بالرجال فحسب، أو لأنهم خشوا على النساء اللاتي أسلمن، أن يضعفن أمام التعذيب والإهانة، وهن لا يستطعن ضربًا في الأرض، وردًا للكيد كما فعل أبو جندل وأبو بصير وأضرابهما، وأيا كان الأمر فإن احتجاز من   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص296. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 452). (3) البخاري، كتاب الشروط (3/ 241) رقم 4732. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 أسلم من النساء تم بتعليم القرآن) (1). * * * المبحث الثالث دروس وعبر وفوائد كانت غزوة الحديبية غنية بالدروس العقائدية، والفقهية، والأصولية والتربوية .. إلخ، وسوف أذكر منها بعض الدروس على سبيل المثال لا الحصر: أولاً: أحكام تتعلق بالعقيدة: 1 - حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس: في قيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف، ولم يكن من عادته أن يقام على رأسه وهو قاعد, وهذه سنة يقتدى بها عند قدوم رسل العدو من إظهار العز والفخر والتعظيم للإمام وطاعته ووقايته بالنفوس, وهذه هي العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين, وليس هذا من النوع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من أحب أن يتمثل له الرجل قيامًا فليتبوأ مقعده من النار» (2). كما أن الفخر والخيلاء في الحرب ليسا من هذا النوع المذموم في غيره (3) , ويشبه هذا ما فعله أبو دجانة في غزوة أحد، فكل ما يدل على التكبر أو التجبر في المشي ممنوع شرعًا، ولكنه جائز في حالة الحرب بخصوصها, بدليل قوله صلى الله عليه وسلم عن مشية أبي دجانة: «إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموضع» (4). 2 - استحباب الفأل وأنه مغاير للطيرة: لما جاء سهيل بن عمرو لمفاوضة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله: «سهل أمركم» (5) ففي الحديث استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطيرة المكروهة (6). وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين معنى الفأل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طيرة وخيرها (7) الفأل» قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: «الكلمة الصالحة يسمعها   (1) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص367. (2) أخرجه أبو داود في الأدب (5229): باب قيام الرجل للرجل. (3) انظر: زاد المعاد (3/ 304). (4) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص241. (5) انظر: زاد المعاد (3/ 305). (6) انظر: زاد المعاد (3/ 305). (7) انظر: غزوة الحديبية للحكمي، ص303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 أحدكم» (1) والفرق بين الفأل والطيرة: أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء فلذلك كرهت (2). وقد ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أحسنها الفأل ولا ترد مسلمًا, فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت, ولا يدفع بالسيئات إلا أنت, ولا حول ولا قوة إلا بك» (3). 3 - بيان كفر من اعتقد أن للكوكب تأثيرًا في إيجاد المطر: قال خالد الجهني - رضي الله عنه - صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية -على إثر سماء (4) كانت من الليلة- فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر, فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء (5) كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب» (6). وقد حمل العلماء الكفر المذكور في الحديث على أحد نوعيه الاعتقادي أو كفر النعمة بحسب حال القائل. فمن قال: مطرنا بنوء كذا معتقدًا أن للكوكب فاعليه وتأثيرًا في إيجاد المطر فهو كافر كفرًا مخرجًا من الملة، قال الشافعي: من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان أهل الجاهلية يعنون من إضافة المطر إلى أنه بنوء كذا فذلك كفر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النوء وقت, والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئًا، ومن قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفرًا وغيره من الكلام أحب إليَّ منه (7). فالشافعي يقصد هنا الكفر الاعتقادي (8). 4 - هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم: ففي حديث عروة بن مسعود وهو يصف أصحاب رسول الله حوله قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده .. وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه (9).   (1) صحيح البخاري مع الفتح، 5754. (2) فتح الباري (10/ 215). (3) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الطب: 3919. (4) إثر سماء: المقصود المطر. (5) الأنواء: ثمان وعشرون منزلة, ينزل القمر كل ليلة في منزلة. (6) البخاري، كتاب الأذان، 846. (7) الأم (1/ 252). (8) انظر: غزوة الحديبية للحكمي، ص304. (9) البخاري مع الفتح، كتاب الشروط رقم 2731، 2732. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 وقد علق الشاطبي على هذا الحديث وأحاديث أخرى تماثله فقال: فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعًا في حق من ثبت ولايته واتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتبرك بفضل وضوئه, ويتدلك بنخامته ويستشفى بآثاره كلها، ويرجى نحو مما كان في آثار المتبوع الأصل (1) صلى الله عليه وسلم إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله, وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم في شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أفضل من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك, ولا عمر - رضي الله عنه - وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان ثم علي ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركًا تبرك على أحد تلك الوجوه أو نحوها, بل اقتصروا على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم, فهو إذن إجماع منهم على ترك تلك الأشياء (2). وقد أخرج ابن وهب في جامعه من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: حدثني رجل (3) من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم، فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم: «لم تفعلون هذا؟» قالوا: نلتمس الطهور والبركة بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق الحديث, وليؤد الأمانة، ولا يؤذ جاره» (4). وهذا الحديث أفاد أن الأولى ترك التبرك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك يوم الحديبية ليرى عروة بن مسعود رسول قريش مدى تعلق الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وحبهم له, لا سيما وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك (5). هذه بعض المسائل العقائدية. ثانيًا: أحكام فقهية وأصولية: 1 - قصة كعب بن عجرة ونزول آية الفدية: قال كعب بن عجرة - رضي الله عنه -: وقف عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت (6) قملاً   (1) قال محقق كتاب الاعتصام: يظهر أن الجملة محرفة. (2) انظر: غزوة الحديبية للحكمي، ص305. (3) هو عبد الرحمن بن أبي قرد - رضي الله عنه -. الترغيب والترهيب (3/ 589). (4) هذا الحديث قال عنه الألباني: هو حديث ثابت له طرق وشواهد في معجمي الطبراني وغيرها، السلسلة الصحيحة رقم 2998. (5) البخاري، كتاب الشروط رقم 2732. (6) يتهافت: يتساقط، النهاية (5/ 266). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 فقال: «أيؤذيك هوامك» (1) قلت: نعم، قال: «فاحلق رأسك» أو قال: «احلق» قال: فنزلت هذه الآية: (فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة: 196] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك (2) بما تيسر» (3) وفي رواية مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال: أيؤذيك هوامك هذا؟ قال نعم، قال: فاحلق رأسك وأطعم فرقًا بين ستة مساكين (والفرق ثلاث أصع) أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة (4) , وآية البقرة المذكورة تبين حكم من كان مُحرِمًا وبه أذى من رأسه, وهي نزلت في كعب بن عجرة خاصة، وأصبحت لكل مسلم يمر بنفس الحالة. 2 - مشروعية الصلاة في الرحال: روى ابن ماجة عن أبي المليح بن أسامة قال: خرجت إلى المسجد في ليلة مطيرة فلما رجعت استفتحت فقال أبي (5): من هذا؟ قال: أبو المليح، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وأصابتنا سماء لم تبل أسافل نعالنا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا في رحالكم (6). وهذا الحديث صحيح فسنده متصل برواية الثقات، وقد صححه ابن حجر (7). 3 - انصراف المسلمين من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح: كانت مدة إقامة المسلمين بالحديبية بضعة عشر يومًا، ويقال: عشرين ليلة على قول الواقدي (8) وابن سعد (9). وعن ابن عائذ: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في غزوته هذه شهرًا ونصفًا) (10). والذي يبدو أن الواقدي وابن سعد أرادا تحديد مدة إقامته صلى الله عليه وسلم في الحديبية، أما ابن عائذ فقصد الزمن الذي استغرقته غيبة النبي صلى الله عليه وسلم منذ خروجه من المدينة إلى عودته إليها. وبعد أن تحلل المسلمون من عمرتهم تلك قفلوا راجعين إلى المدينة، فلما كان من الليل   (1) الهوام: جمع هامة وهي ما يدب من الأخشاش, والمراد القمل. (2) انسك: اذبح، النهاية (5/ 48). (3) صحيح البخاري مع الفتح كتاب المحصر: 1815. (4) مسلم، كتاب الحج: 1201. (5) أسامة بن عمير الهذلي البصري، صحابي تفرد ولده عنه. (6) سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة: 936. (7) فتح الباري (2/ 113) غزوة الحديبية للحكمي، ص221. (8) انظر: مغازي الواقدي (2/ 616). (9) انظر: الطبقات الكبرى (2/ 98). (10) انظر: شرح الزرقاني على المواهب (2/ 210). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 عدلوا عن الطريق للنوم ووكلوا بلالا بحراستهم، فنام بلال ولم يوقظهم إلا حرُّ الشمس (1) , كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يكلؤنا؟» (2) فقال بلال: أنا. فناموا حتى طلعت الشمس، واستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «افعلوا كما كنتم تفعلون» قال: ففعلنا، قال: «فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي» (3) وقد وردت أحاديث أخرى تفيد أن قصة نومهم عن صلاة الصبح وقعت في غير الحديبية، وحاول بعض العلماء التوفيق بين هذه النصوص، وذهب الدكتور حافظ الحكمي إلى أن ما ورد من اختلاف بين حديث عبد الله بن مسعود في قصة الحديبية وغيره محمول على تعدد القصة كما رجح ذلك النووي (4)، وجنح إليه ابن كثير (5) وابن حجر (6) والزرقاني, بل قال السيوطي: لا يجمع إلا بتعدد القصة (7). 4 - مشروعية الهدنة بين المسلمين وأعدائهم ومقدار المدة التي تجوز المهادنة عليها: استدل العلماء والأئمة بصلح الحديبية على جواز عقد هدنة بين المسلمين وأهل الحرب من أعدائهم إلى مدة معلومة، سواء أكان ذلك بعوض يأخذونه منهم أم بغير عوض، أما بدون عوض فلأن هدنة المدينة كانت كذلك، وأما بعوض فبقياس الأولى؛ لأنها إذا جازت بدون عوض، فلأن تجوز بعوض أقرب وأوجه. وأما إذا كانت المصالحة على مال يبذله المسلمون فهو غير جائز عند جمهور المسلمين، لما فيه من الصغار لهم، ولأنه لم يثبت دليل من الكتاب أو السنة على جواز ذلك، قالوا: إلا إن دعت إليه ضرورة لا محيص عنها, وهو أن يخاف المسلمون الهلاك أو الأسر فيجوز كما يجوز للأسير فداء نفسه بالمال. وقد ذهب الشافعي وأحمد -رحمهما الله- وكثير من الأئمة إلى أن الصلح لا ينبغي أن يكون إلا إلى مدة معلومة، وأنه لا يجوز أن تزيد المدة على عشر سنوات مهما طالت؛ لأنها هي المدة التي صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا عليها عام الحديبية (8).   (1) انظر: غزوة الحديبية، ص251. (2) يكلؤنا: يحرسنا. (3) انظر: سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة: 447. (4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 181، 182) , غزوة الحديبية، ص258. (5) انظر: البداية والنهاية (4/ 213). (6) فتح الباري (1/ 449) , شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 47). (7) انظر: تنوير الحوالك (1/ 33). (8) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 وذهب آخرون إلى جواز الهدنة أكثر من عشر سنين على ما يراه الإمام من المصلحة وهو قول أبي حنيفة (1). والتحقيق: أن القول الأول هو الراجح لظاهر الحديث، وإن وجدت مصلحة في الزيادة على العشر جدد العقد، كما قال الشافعي (2). وقال بعض المتأخرين (3): يجوز عقد صلح مؤبد غير مؤقت بمدة معينة, واستدل بقوله تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) [النساء: 90]. وهذا قول مبني على أن الأصل في علاقة المسلمين بالكفار هي السلم لا الحرب (4) , وأن الجهاد إنما شرع لمجرد الدفاع عن المسلمين فحسب (5). وهذا القول مردود لما يلي: أ- أن صاحب هذا القول قد خرق الاتفاق بعد أن حكاه بنفسه، حيث قال: اتفق الفقهاء على أن عقد الصلح مع العدو لا بد من أن يكون مقدرًا بمدة معينة، فلا تصح المهادنة مطلقة إلى الأبد من غير تقدير بمدة (6). ب- الآية التي استدل بها منسوخة بقوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 5] فقد نقل ذلك ابن جرير (7) عن عكرمة والحسن وقتادة وابن زيد، وحكاه القرطبي (8) عن مجاهد، ثم قال: وهو أصح شيء في معنى الآية. ج- الأصل الذي انبنى عليه هذا القول: مردود بآية براءة السابقة وبواقع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه مع أعدائهم.   (1) انظر: فتح القدير (5/ 546) , غزوة الحديبية، ص294. (2) انظر: غزوة الحديبية، ص295. (3) آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي، ص680. (4) آثار الحرب في الفقه الإسلامي للزحيلي (ص675). (5) المصدر السابق، (ص675). (6) المصدر نفسه، ص675. (7) انظر: تفسير الطبري (9/ 24: 26). (8) المصدر نفسه (5/ 308). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 د- أما فكرة أن الجهاد إنما شرع للدفاع عن المسلمين، فهي فكرة دخيلة, وقد تصدى لها سيد قطب (1) -رحمه الله- ففندها، وبين أن سبب نشوئها هو الانهزام أمام هجمات المستشرقين، وعدم الفهم لمرحلية الدعوة (2). 5 - المطلق يجري على إطلاقه: هذه قاعدة أصولية يؤيدها ما رواه ابن هشام عن أبي عبيد أنه قال: عن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما قدم المدينة: ألم تقل يا رسول الله إنك تدخل مكة آمنًا؟ قال: «بلى, أفقلت لكم من عامي هذا؟» قالوا: لا، قال: «فهو كما قال لي جبريل عليه السلام» (3). وفي هذا الأثر، تبشير المؤمنين بفتح مكة في المستقبل, وإيماء بالوحي الصادق إلى ذلك النصر، ولفت لهم إلى وجوب التسليم لأمره، بإطلاق، كما ورد مطلقًا، دون تحميله زيادات وقيودًا تصرفه عن إطلاقه (4). 6 - وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره وإن خالف ظاهر ذلك القياس أو كراهته النفوس: جاء في قصة الحديبية أن عمر بن الخطاب وبعض الصحابة -رضي الله عنهم- كرهوا الصلح مع قريش (5) , لما رأوا في شروطها من الظلم والإجحاف في حقهم، لكنهم ندموا بعد ذلك على صنيعهم, ورأوا أنهم وقعوا في حرج، إذ كيف يكرهون شيئًا رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلت تلك الحادثة درسًا لهم فيما استقبلوا من حياتهم، وكانوا يحذرون غيرهم من الوقوع فيما وقعوا فيه من الاعتماد على الرأي (6)؛ فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: (أيها الناس اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي اجتهادًا, فوالله ما آلو عن الحق وذلك يوم أبي جندل) (7). وكان سهل بن حنيف - رضي الله عنه - يقول: اتهموا رأيكم, رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته (8). ولقد بقي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - برهة من الزمن متخوفًا أن ينزل الله به عقابًا للذي صنع يوم الحديبية.   (1) في ظلال القرآن (3/ 1433) وما بعدها. (2) انظر: غزوة الحديبية للحكمي، ص296. (3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص297. (4) انظر: غزوة الحديبية للحكمي، ص313. (5) نفس المصدر، ص313. (6) انظر: غزوة الحديبية، للحكمي، ص313. (7) المصدر نفسه، ص179. (8) المصدر السابق، ص313. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 فكان - رضي الله عنه - يتحدث عن قصته تلك ويقول: فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرًا (1). قال ابن الديبع الشيباني تعليقًا على هذه الحادثة: قال العلماء: لا يخفى ما في هذه القصة من وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره، وإن خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس أو كرهته النفوس, فيجب على كل مكلف أن يعتقد أن الخير فيما أمر به، وأنه عين الصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وأنه جاء على أتم الوجوه وأكملها غير أن أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره (2). ثالثًا: أنموذج من التربية النبوية: في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يصعد الثنية, ثنية المرار, فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل» (3). يظهر في هذا الحديث جانب عظيم من جوانب التربية النبوية يستحق التأمل والتدبر، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يشجع أصحابه على صعود الثنية، ثم يخبرهم أن الذي يجتازها سينال مغفرة من الله تعالى، وحين نتأمل هذا الحديث تبرز لنا معانٍ عظيمة منها: 1 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يربط قلوب أصحابه باليوم الآخر في كل لحظة من لحظات حياتهم. 2 - أنه يريد لفت أنظارهم إلى أن كل حركة يتحركونها وكل عمل يقومون به حتى ما يرون أنه من العادات أو من دواعي الغريزة، يجب استغلاله للتزود لذلك اليوم، وكان صلى الله عليه وسلم يسعى دائمًا لترسيخ تلك المعاني في نفوس الصحابة فنراه يقول في موطن آخر: «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» (4). ويقول في موطن ثالث: «وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك» (5). إن تلك المعاني إذا تمكنت في قلب المسلم لكفيلة بأن تصبغ حياته كلها بصبغة العبودية لله وحده، وإذا شملت العبادة كل نواحي حياة المسلم فإن لهذا الشمول آثارًا مباركة   (1) انظر: حدائق الأنوار ومطالع الأسوار (2/ 622). (2) انظر: مرويات غزوة الحديبية، ص315. (3) مسلم، كتاب صفات المنافقين رقم 2780. (4) مسلم، كتاب الزكاة: 53. (5) البخاري، مع الفتح كتاب الوصايا: 2742. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 سوف يشعر بها الفرد في نفسه ثم يلمسها فيمن حوله (1). ومن أبرز تلك الآثار أمران: أ- أن يصبغ حياة المسلم وأعماله بالصبغة الربانية ويجعله مشدودًا إلى الله في كل ما يؤديه، فهو يقوم به بنية العابد الخاشع، وروح القانت المخبت، وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع, وكل إنتاج صالح، وكل ما ييسر له ولأبناء نوعه الانتفاع بالحياة، على أمثل وجوهها، فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات والقربات عند الله تعالى, كما يدعوه هذا المعنى إلى إحسان عمله الدنيوي وتجويده وإتقانه ما دام يقدمه إلى ربه سبحانه ابتغاء رضوانه وحسن مثوبته. ب- أنه يمنح المسلم وحدة الوجهة ووحدة الغاية في حياته كلها، فهو يرضي ربًا واحدًا في كل ما يأتي ويدع، ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله الديني والدنيوي، لا انقسام ولا صراع، ولا ازدواج في شخصيته ولا في حياته (2). ولقد عاش الصحابة الكرام تلك المعاني وحولوها إلى حقائق ملموسة في حياتهم كلها، وما حفظ الله سيرتهم إلا لكي نقتدي بهم في حياتنا وتكون حجة على كل من جاء بعدهم (3). * * *   (1) انظر: مرويات غزوة الحديبية للحكمي، ص315. (2) انظر: العبادة في الإسلام للقرضاوي، ص66. (3) انظر: مرويات غزوة الحديبية للحكمي، ص316، لقد استفدت في فصل غزوة الحديبية استفادة كبيرة من كتاب مرويات غزوة الحديبية، للحكمي، وصلح الحديبية، باشميل، غزوة الحديبية لأبي فارس. وكانت هذه الكتب هي العمدة في هذا الفصل كما استفدت من غيرها كمراجع ومصادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 الفصل الرابع عشر أهم الأحداث ما بين الحديبية وفتح مكة المبحث الأول غزوة خيبر أولاً: تاريخها وأسبابها: ذكر ابن إسحاق (1) أنها كانت في المحرم من السنة السابعة للهجرة، وذكر الواقدي (2) أنها كانت في صفر أو ربيع الأول من السنة السابعة للهجرة, بعد العودة من غزوة الحديبية، وذهب ابن سعد (3) إلى أنها في جمادى الأولى سنة سبعٍ، وقال الإمامان الزهري ومالك: إنها في محرم من السنة السادسة (4)، وقد رجح ابن حجر (5) قول ابن إسحاق على قول الواقدي (6). لم يُظهر يهود خيبر العداء للمسلمين حتى نزل فيهم زعماء بني النضير، الذي حزَّ في نفوسهم إجلاؤهم عن ديارهم، ولم يكن الإجلاء كافيًا لكسر شوكتهم، فقد غادروا المدينة ومعهم النساء والأبناء والأموال, وخلفهم القيان يضربن الدفوف والمزامير بزهاء وفخر ما رئي مثله في حي من الناس في زمانهم (7). وكان من أبرز زعماء بني النضير الذين نزلوا في خيبر سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب فلما نزلوا دان لهم أهلها (8).   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 455)، معلقًا. (2) انظر: المغازي (2/ 634). (3) انظر: الطبقات لابن سعد (2/ 106). (4) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (1/ 33) (5) انظر: الفتح (16/ 41)، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص500. (6) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص500. (7) انظر: السيرة النبوية الأصلية، (1/ 319). (8) المصدر نفسه (1/ 319). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 وكان تزعم هؤلاء ليهود خيبر كافيًا في جرها إلى الصراع والتصدي والانتقام من المسلمين، فقد كان يدفعهم حقد دفين ورغبة قوية في العودة إلى ديارهم داخل المدينة، وكان أول تحرك قوي ما حدث في غزوة الأحزاب، حيث كان لخيبر وعلى رأسها زعماء بني النضير دور كبير في حشد قريش والأعراب ضد المسلمين وتسخير أموالهم في ذلك، ثم سعيهم في إقناع بني قريظة بالغدر والتعاون مع الأحزاب (1) , بل إنهم أنفقوا أموالهم واستغلوا علاقاتهم مع يهود بني قريظة من أجل نصرة الأحزاب وطعن المسلمين في ظهورهم (2) , وهكذا أصبحت خيبر مصدر خطر كبير على المسلمين ودولتهم النامية. تفرغ المسلمون بعد صلح الحديبية لتصفية خطر يهود خيبر الذي أصبح يهدد أمن المسلمين، ولقد تضمنت سورة الفتح التي نزلت بعد الحديبية وعدًا إلهيًّا بفتح خيبر وحيازة أموالها غنيمة (3) , قال تعالى: (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا - وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا) [الفتح:20، 21]. ثانيًا: مسير الجيش الإسلامي إلى خيبر: سار الجيش إلى خيبر بروح إيمانية عالية على الرغم من علمهم بمنعة حصون خيبر وشدة بأس رجالها وعتادها الحربي، وكانوا يكبرون ويهللون بأصوات مرتفعة، فطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفقوا بأنفسهم قائلا: «أيها الناس .. إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم» (4). وكان سيره صلى الله عليه وسلم بالجنود ليلا، فقد قال سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً (5)، وكان عامر بن الأكوع يحدو بالقوم ويقول: اللهم لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اتقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا وبالصياح عولوا علينا (6)   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 319). (2) انظر: نضرة النعيم (1/ 349). (3) انظر: نضرة النعيم (1/ 349). (4) البخاري، كتاب الدعوات رقم 6384. (5) البخاري، كتاب المغازي رقم 4196. (6) البخاري، كتاب المغازي رقم 4196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذا السائق؟» قالوا: عامر بن الأكوع. قال: «يرحمه الله». قال رجل -وهو عمر بن الخطاب (1) - من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا متعتنا به (2). وعندما وصل الجيش الإسلامي بالصهباء، وهي من أدنى خيبر، صلى العصر ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا السويق، فأمر به فثري، فأكل وأكل معه الصحابة، ثم قام إلى المغرب فمضمض ثم صلى بالصحابة ولم يتوضأ (3). وكان صلى الله عليه وسلم قد بعث عباد بن بشر - رضي الله عنه - في سرية استطلاعية يتلقط أخبار العدو, ويستطلع إن كان هناك كمائن، فلقي في الطريق عينًا لليهود من أشجع فقال: من أنت؟ قال: باغٍ ابتغى أبعرة ضلت لي، أنا على إثرها، قال عباد: ألك علم بخيبر؟ قال: عهدي بها حديث، فيم تسألني عنه؟ قال: عن اليهود؟ قال: نعم، كان كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ساروا في حلفائهم من غطفان، فاستنفروهم وجعلوا لهم ثمر خيبر سنة، فجاءوا معدين مؤيدين بالكراع والسلاح يقودهم عتبة بن بدر، ودخلوا معهم في حصونهم، وفيهم عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل الحصون التي لا ترام، وسلاح وطعام كثير لو حصروا لسنين لكفاهم، وماء وأنى يشربون في حصونهم، ما أرى لأحد بهم طاقة، فرفع عباد بن بشر السوط فضربه ضربات، وقال: ما أنت إلا عين لهم، اصدقني وإلا ضربت عنقك. فقال الأعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون، وجلون لما صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود، وقال لي كنانة: اذهب معترضًا للطريق فإنهم لا يستنكرون مكانك واحزرهم لنا، وادن منهم كالسائل لهم ما تقوى به، ثم ألق إليهم كثرة عددنا ومادتنا, فإنهم لن يدعوا سؤلك، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم (4). وعندما وصل جيش المسلمين إلى مشارف خيبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قفوا. ثم قال: «اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها، وشر ما فيها»، اقدموا باسم الله، وكان يقولها لكل قرية دخلها (5). ولما أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم الليل أمر الجيش بالنوم على مشارف خيبر، ثم استيقظوا مبكرين، وضربوا خيامهم ومعسكرهم بوادي الرجيع، وهو وادي يقع بين خيبر وغطفان، حتى يقطعوا المدد عن يهود خيبر من قبيلة غطفان (6).   (1) انظر: فتح الباري (7/ 466). (2) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4196. (3) انظر: الصراع مع اليهود (2/ 30). (4) انظر: المغازي للواقدي (2/ 640: 641). (5) انظر: المستدرك (2/ 100) قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي. (6) انظر: الصراع مع اليهود (2/ 45). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 ولما أصبح الصبح خرجت اليهود بمساحيهم (1) ومكاتلهم (2) , فلما رأوا جيش المسلمين قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» (3). ثالثًا: وصف تساقط حصون خيبر: هرب اليهود إلى حصونهم وحاصرهم المسلمون، وأخذوا في فتح حصونهم واحدًا تلو الآخر، وكان أول ما سقط من حصونهم ناعم والصعب بمنطقة النطاة, وأبى النزار بمنطقة الشق، وكانت هاتان المنطقتان في الشمال الشرقي من خيبر، ثم حصن القموص المنيع في منطقة الكتيبة، وهو حصن ابن أبي الحقيق، ثم أسقطوا حصني منطقة الوطيح والسلالم (4). وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة عند فتح بعض هذه الحصون، منها حصن ناعم الذي استُشهد تحته محمود بن مسلمة الأنصاري، حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن (5) , والذي استغرق فتحه عشرة أيام (6) , فقد حمل راية المسلمين عند حصاره أبو بكر الصديق، ولم يفتح الله عليه، وعندما جهد الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيدفع اللواء غدًا إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له، فطابت نفوس المسلمين، فلما صلى فجر اليوم الثالث دعا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ودفع إليه اللواء فحمله فتم فتح الحصن على يديه (7)، وكان علي يشتكي من رمد في عينيه عندما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ (8)، ولقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم عليًّا بأن يدعو اليهود إلى الإسلام قبل أن يداهمهم، وقال له: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن تكون لك حمر النعم» (9) وعندما سأله علي: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: «قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منكم دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله» (10). وعندما حاصر المسلمون هذا الحصن برز لهم سيده وبطلهم مرحب وكان سببًا في   (1) المساحي: جمع ومفردها مسحاة، والمسحاة: المجرفة من الحديد. (2) المكاتل: جمع مكتل، وهو المقطف الكبير. (3) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4210. (4) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص501. (5) نفس المصدر، ص501. (6) انظر: الواقدي (2/ 657). (7) انظر: المستدرك (3/ 37) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (8) مسلم (4/ 1872) رقم 2406. (9) مسلم (2/ 1872) رقم 2406. (10) مسلم (2/ 1872) رقم 2405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 استشهاد عامر بن الأكوع، ثم بارزه علي فقتله (1) , مما أثر سلبيًّا في معنويات اليهود ومن ثم هزيمتهم (2). ووردت مجموعة من روايات تخبر بأن عليًّا - رضي الله عنه - تترس بباب عظيم كان عند حصن ناعم بعد أن أسقط يهودي ترسه من يده، وكلها روايات ضعيفة (3) , وعدم الاعتماد عليها لا ينفي قوة علي وشجاعته، فيكفيه ما ثبت في ذلك وهو كثير (4). توجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ بعد فتح حصن ناعم، وأبلى حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسنًا حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام، ووجدوا فيه الكثير من الطعام والمتاع، يوم كانوا في ضائقة من قلة الطعام، ثم توجهوا بعده إلى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من حصون يهود، فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه، فاضطروهم إلى النزول للقتال، فهزموهم بعد ثلاثة أيام، وبذلك تمت السيطرة على آخر حصون منطقة النطاة التي كان فيها أشد اليهود، ثم توجهوا إلى حصون منطقة الشق وبدءوا بحصن أبي فاقتحموه، وأفلت بعض مقاتلته إلى حصن نزار, وتوجه إليهم المسلمون فحاصروهم ثم افتتحوا الحصن، وفر بقية أهل الشق من حصونهم وتجمعوا في حصن القموص المنيع وحصن الوطيح وحصن السلالم, فحاصرهم المسلمون لمدة أربعة عشر يومًا حتى طلبوا الصلح (5). وهكذا فتحت خيبر عنوة (6) استنادًا إلى النظر في مجريات الأحداث التي سقناها, وما روى البخاري (7) ومسلم (8)، وأبو داود (9) من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر وافتتحها عنوة (10). وبذلك سقطت سائر خيبر بيد المسلمين، وسارع أهل فدك في شمالي خيبر إلى طلب الصلح، وأن يسيرهم ويحقن دماءهم، وبذلوا له الأموال فوافق على طلبهم (11) , فكانت فدك   (1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، 502. (2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، 502. (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 324). (4) المصدر السابق، (1/ 34). (5) انظر: الواقدي (2/ 658 - 671). (6) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص504. (7) نفس المصدر، ص504. (8) مسلم (3/ 1427) رقم 1365. (9) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص504. (10) نفس المصدر، ص504. (11) انظر: مغازي الواقدي (2/ 699). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وحاصر المسلمون وادي القرى، وهي مجموعة قرى بين خيبر وتيماء ليالي (1) , ثم استسلمت, فغنم المسلمون أموالا كثيرة وتركوا الأرض والنخل بيد اليهود وعاملهم عليها مثل خيبر وصالحت تيماء على مثل صلح خيبر ووادي القرى (2). وبذلك تساقطت سائر الحصون اليهودية أمام قوات المسلمين وقد بلغ قتلى اليهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعين رجلا (3) , وسبيت النساء والذراري منهن صفية بنت حيي بن أخطب فأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها (4). واستشهد من المسلمين عشرون رجلا فيما ذكر ابن إسحاق (5) , وخمسة عشر فيما ذكر الواقدي (6). رابعًا: الأعرابي الشهيد، والراعي الأسود، وبطل إلى النار: 1 - الأعرابي الشهيد: جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمن به، واتبعه، فقال: أهاجر معك؟ فأوصى به بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر، غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فقسمه، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «قسم قسمته لك» قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمي هاهنا، وأشار إلى حلقه، بسهم، فأموت فأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، ثم نهض إلى قتال العدو، فأُتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مقتول، فقال: «أهو هو؟» قالوا: نعم. قال: «صدق الله فصدقه». فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته، ثم قدمه، فصلى عليه، وكان من دعائه له: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك، قُتل شهيدًا، وأنا عليه شهيد» (7). 2 - الراعي الأسود: وجاء عبد أسود حبشي من أهل خيبر، كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا   (1) انظر: تاريخ خليفة 85 نقلا عن ابن إسحاق. (2) زاد المعاد (3/ 354، 355). (3) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص504. (4) مسلم، كتاب النكاح (2/ 1045). (5) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 327). (6) انظر: المغازي (2/ 700). (7) أخرجه النسائي (4/ 60) , والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 291) , والحاكم (3/ 595) , والبيهقي (4/ 15، 16) , وإسناده صحيح نقلا عن زاد المعاد (3/ 324). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 السلاح، سألهم: ما تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي، فوقع في نفسه ذكر النبي، فأقبل بغنمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا تقول؟ وما تدعو إليه؟ قال: «أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وألا تعبد إلا الله» قال العبد: فما لي إن شهدت وآمنت بالله عز وجل، قال: «لك الجنة إن مت على ذلك». فأسلم ثم قال: يا نبي الله, إن هذه الغنم عندي أمانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرجها من عندك وارمها بـ (الحصباء) فإن الله سيؤدي عنك أمانتك» ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها، فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فوعظهم وحضهم على الجهاد, فلما التقى المسلمون واليهود قتل فيمن قتل العبد الأسود واحتمله المسلمون إلى معسكرهم فأدخل في الفسطاط فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في الفسطاط، ثم أقبل على أصحابه، وقال: «لقد أكرم الله هذا العبد، وساقه إلى خيبر، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين، ولم يصل لله سجدة قط» (1). 3 - بطل لكنه إلى النار: كان في جيش المسلمين بخيبر رجل لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة (2) إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنه من أهل النار» فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان من أهل النار؟ فقال رجل: والله لا يموت على هذه الحال أبدًا، فاتبعه حتى جرح، فاشتدت جراحته واستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فجاء رجل إلى رسول الله فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: «وما ذاك» فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة» (3). خامسًا: قدوم جعفر بن أبي طالب ومن معه من الحبشة: قدم جعفر بن أبي طالب وصحبه من مهاجري الحبشة على رسول الله يوم فتح خيبر، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه والتزمه وقال: «ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر»، وكان صلى الله عليه وسلم قد أرسل في طلبهم من النجاشي، عمرو بن أمية الضمري، فحملهم في سفينتين ووافق قدومهم عليه يوم فتح خيبر، وقد رافق جعفر في قدومه أبو موسى الأشعري ومن كان بصحبته من الأشعريين (4) , فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن   (1) انظر: زاد المعاد (3/ 323، 324) , السيرة الحلبية (3/ 39). (2) الشاذ: الذي يفارق الجماعة، الفاذ: الذي لم يختلط بالجماعة. (3) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 4207. (4) انظر: معين السيرة، ص253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهم أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال: في بضع, وإما قال في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي، فركبنا السفينة, فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا جميعًا, فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر (1). لقد مكث جعفر وإخوانه في الحبشة بضعة عشر عامًا، نزل خلالها قرآن كثير، ودارت معارك شتى مع الكفار، وتقلب المسلمون قبل الهجرة العامة وبعدها في أطوار متباينة، حتى ظن البعض أن مهاجري الحبشة -وقد فاتهم هذا كله- أقل قدرًا من غيرهم (2). فعن أبي موسى: كان أناس يقولون لنا سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس على حفصة زوج النبي زائرة -وكانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر- فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت أسماء: ابنة عميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله, كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله، وايم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاءت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كذا وكذا، قال: «ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» (3). فأخذت أسماء هذا الوسام ووزعته على جميع أعضاء الوفد حيث كانوا (4) , كما قالت: يأتون أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في نفوسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (5). وقد أشركهم النبي صلى الله عليه وسلم في مغانم خيبر بعد أن استأذن من الصحابة رضي الله عنهم الذين شاركوا في فتحها (6). سادسًا: تقسيم الغنائم: 1 - كانت غزوة خيبر من أكثر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم غنيمة، من حيث الأراضي والنخيل والثياب والأطعمة وغير ذلك، ومن خلال وصف كتب السيرة نلاحظ أن الغنائم تتكون من:   (1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم 4230، 4231. (2) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص350. (3) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم 4231. (4) انظر: فقه السيرة للغضبان، ص535. (5) مسلم، فضل الصحابة، رقم 2502، 2503. (6) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس، (3/ 96). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 أ- الطعام: فقد غنم المسلمون كثيرًا من الأطعمة من حصون خيبر، فقد وجدوا فيها الشحم والزيت والعسل والسمن، وغير ذلك, فأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكل من تلك الأطعمة، ولم يخمسها (1). ب- الثياب والأثاث والإبل والبقر والغنم، لقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسها ووضعه فيما وضعه الله فيه، ووزع أربعة أخماسها على المحاربين. ج- السبي: لقد سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا من نساء اليهود، ووزع السبي على المسلمين، فهو غنيمة ويأخذ حكم الغنيمة. د- أما الأراضي والنخيل فقد قسمها النبي إلى ستة وثلاثين سهمًا، وجمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، ووزع النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه، وما ينزل به من أمور المسلمين (2). هـ- وكان من بين ما غنم المسلمون من يهود خيبر عدة صحف من التوراة فطلب اليهود ردَّها، فأمر بتسليمها إليهم، ولم يصنع صلى الله عليه وسلم ما صنع الرومان حينما فتحوا أورشليم وأحرقوا الكتب المقدسة، وداسوها بأرجلهم، ولا ما صنع النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوراة (3). وقد أبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر فيها على أن يعملوا في زراعتها وينفقوا عليها من أموالهم, ولهم نصف ثمارها، على أن للمسلمين حق إخراجهم منها متى أرادوا، وكان اليهود قد بادروا بعرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم فوافق على ذلك بعد أن هم بإخراجهم منها (4). وقد اشترط عليهم أن يجليهم عنها متى شاء، وهنا تظهر براعة سياسة جديدة في عقد الشروط، فإن بقاء اليهود في الأرض يفلحونها يوفر للمسلمين الجنود المجاهدين في سبيل الله، ومن جهة أخرى فإن اليهود هم أصحاب الأرض وهم أدرى بفلاحتها من غيرهم، فبقاؤهم فيها يعطي ثمرة أكثر وأجود وبخاصة أنهم لن يأخذوا أجرًا، ولكنهم سيأخذون نصف ما يخرج من الأرض قل أو كثر. وقد ضمن الرسول -بشرط إجلائهم متى شاء المسلمون- إخضاعهم وكسر شوكتهم؛   (1) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس، (3/ 140). (2) المصدر نفسه (3/ 141، 142). (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 419). (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 328). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 لأنهم يعلمون إذا فعلوا شيئًا يضر بالمسلمين سيطردونهم منها، ولا يعودون إليها أبدًا. وقد حدث ذلك فعلا في عهد سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث اعتدوا على عبد الله ابن عمر ففدعوا يديه من المرفقين، وكانوا قبل ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اعتدوا على عبد الله بن سهل فقتلوه, فلما تحقق عمر من غدرهم وخيانتهم أمر بإجلائهم (1). وحاول يهود خيبر أن يخفوا الفضة والذهب وغيبوا مسكًا (2) لحيي بن أخطب، وكان قد قتل مع بني قريظة، وكان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعية عم حيي بن أخطب: أين مسك حيي بن أخطب؟ قال: أذهبته الحروب والنفقات (3). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العهد قريب والمال أكثر من ذلك، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير بن العوام، فمسه بعذاب، وقد كان حيي قبل ذلك دخل خربة، فقال عمه: قد رأيت حييًا يطوف في خربة هاهنا, فذهبوا فطافوا، فوجدوا المسك في الخربة (4). وبعد الاتفاق الذي تم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهود خيبر على إصلاح الأرض جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة خرصه (5) , وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ، ولأنتم أبغض الناس إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض (6). لقد أصبحت خيبر ملكًا للمسلمين وصارت موردًا مهمًّا لهم, قال ابن عمر - رضي الله عنه -: ما شبعنا حتى فتحت خيبر (7)، وقد تحسن الوضع الاقتصادي بعد خيبر, ورد المهاجرون المنائح التي أعطاهم إياها الأنصار (8) من النخل. سابعًا زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية بنت حيي بن أخطب: لما فتح المسلمون القموص -حصن بني أبي الحقيق- كانت صفية في السبي فأعطاها   (1) انظر: تأملات في سيرة الرسول، لمحمد سيد الوكيل، ص228، 229. (2) المسك: الجلد عامة أو جلد السلخة خاصة (السلخة ولد الشاة). (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/ 326). (4) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (المغازي)، ص424. (5) الخرص: الحرز والحدس والتخمين، وخرص العدد: قدره تقديرًا بظن لا إحاطة. (6) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، (المغازي)، ص424. (7) البخاري، كتاب المغازي، غزوة خيبر رقم 4243. (8) انظر: معين السيرة، ص352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 دحية الكلبي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال يا رسول الله, أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قومها، وهي ما تصلح إلا لك، فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم ما أشار به الرجل، وقال لدحية، خذ جارية من السبي غيرها (1) , ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها وجعل عتقها صداقها (2)، ثم تزوجها بعد أن طهرت من حيضتها (3) , وبعد أن أسلمت. ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر حتى طهرت صفية من حيضها، فحملها وراءه فلما صار إلى منزل على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها, فأبت عليه, فوجد في نفسه، فلما كان بالصهباء نزل بها هناك فمشطتها أم سليم، وعطرتها، وزفتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبنى بها، فسألها: «ما حملك على الامتناع من النزول أولا» فقالت: خشيت عليك من قرب اليهود، فعظمت في نفسه، ومكث رسول الله بالصهباء ثلاثة أيام، وأولم عليها ودعا المسلمين، وما كان فيها من لحم وإنما التمر والأقط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ له خلفه ومد عليها الحجاب، فأيقنوا أنها إحدى أمهات المؤمنين (4). وقد كانت أم المؤمنين صفية بنت حيي قد رأت رؤية، فقد روى البيهقي -رحمه الله- بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث طويل قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: «يا صفية ما هذه الخضرة؟» فقالت: كان رأسي في حجر ابن حقيق، وأنا نائمة، فرأيت كأن قمرًا وقع في حجري، فأخبرته بذلك فلطمني، وقال: تمنين ملك يثرب (5). وهكذا صدق الله رؤيا صفية رضي الله عنها، وأكرمها بالزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتقها من النار، وجعلها أمًّا للمؤمنين، وزوجًا في الجنة لخاتم الأنبياء والمرسلين (6)، وقد أكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية الإكرام, وكان يجلس عند بعيره فيضع ركبته لتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب، وقد بلغ من أدبها أنها كانت تأبى أن تضع رجلها على ركبته، فكانت تضع ركبتها على ركبته وتركب (7). وهذه صفية رضي الله عنها تحدثنا عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: ما رأيت أحدًا قط أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأيته ركب بي في خيبر، وأنا على عجر ناقته ليلاً، فجعلت أنعس،   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 383). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 383). (3) انظر: الصراع مع اليهود (3/ 101). (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 384). (5) انظر: السنن الكبرى (9/ 138) نقلا عن الصراع مع اليهود (3/ 103). (6) انظر: الصراع مع اليهود (3/ 122). (7) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 384). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 فتضرب رأسي مؤخرة الرحل، فيمسني بيده، ويقول: «يا هذه مهلاً» (1). وعن صفية رضي الله عنها أنها بلغها عن عائشة وحفصة أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية، نحن أزواجه وبنات عمه، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «ألا قلتِ: وكيف تكونان خير مني وزوجي محمد وأبي هارون، وعمي موسى» (2). لقد تأثرت صفية بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصبح صلى الله عليه وسلم أحب إليها من أبيها وزوجها والناس أجمعين، بل أصبح أحب إليها من نفسها، تفديه بكل ما تملك حتى نفسها، وإذا ألم به مرض تمنت أن يكون فيها، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمًا معافى، فقد أخرج ابن سعد -رحمه الله- بإسناد حسن عن زيد بن أسلم - رضي الله عنه - قال: اجتمع نساؤه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية رضي الله عنها: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي، فغمز بها أزواجه، فأبصرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مضمضن» , فقلن: من أي شيء فقال: «من تغامزكن بها، والله إنها لصادقة» (3). ومما له صلة بزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي، حراسة أبي أيوب الأنصاري لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن دخل بصفية، فعن ابن إسحاق أنه قال: ولما أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بخيبر، أو ببعض الطريق .. فبات بها رسول الله في قبة له، وبات أبو أيوب خالد بن زيد أخو بني النجار متوشحًا سيفه، يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطيف بالقبة، حتى أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رأى مكانه قال: «ما لك يا أبا أيوب؟» قال: يا رسول الله، خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك (4)، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمله الذي ينبئ على غاية الحب، والإيمان، وقال: «اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحرسني» (5). وكان زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية فيه حكمة عظيمة, فهو لم يرد بزواجه منها قضاء شهوة، أو إشباعًا لغريزة, كما يزعم الأفاكون، وإنما أراد إعزازها وتكريمها، وصيانتها من أن تفترش لرجل لا يعرف لها شرفها ونسبها في قومها، وهذا إلى ما فيه من العزاء لها، قد قتل أبوها من قبل, وزوجها وكثير من قومها، ولم يكن هناك أجمل مما صنعه الرسول معها، كما أن فيه رباط المصاهرة بين النبي واليهود عسى أن يكون هذا ما يخفف من عدائهم للإسلام والانضواء تحت لوائه والحد من مكرهم وسعيهم بالفساد (6)، وكانت أم المؤمنين صفية عاقلة وحليمة، وصادقة, يروى أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود، فبعث إليها فسألها عن ذلك، فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحمًا فأنا أصلها، فقبل منها، ثم قالت للجارية: ما حملك على هذا؟ قالت: الشيطان، فقالت لها: اذهبي فأنت حرة.   (1) انظر: السيرة الحلبية (3/ 45). (2) انظر: شرح المواهب اللدنية (2/ 233). (3) المصدر السابق (2/ 233). (4) انظر: زاد المعاد (3/ 328). (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 385). (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 385). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 وكانت وفاتها في رمضان سنة خمسين للهجرة في زمن معاوية، وقيل سنة اثنتين وخمسين رضي الله عنها وأرضاها (1). ثامنًَا: محاولة أثيمة لليهود .. الشاة المسمومة: قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود» فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني سائلكم عن شيء فهل أنت صادقي عنه؟». فقالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أبوكم؟». قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبتم بل أبوكم فلان». فقالوا: صدقت وبررت. فقال: «هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟» فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أهل النار؟». فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفوننا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخسؤوا فيها والله لا نخلفكم فيها أبدًا». ثم قال لهم: «فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟». قالوا: نعم. فقال: «هل جعلتم في الشاة سمًّا». فقالوا: نعم. فقال: «ما حملكم على ذلك؟». فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريح منك، وإن كنت نبيًّا لم يضرك (2). قال صاحب بلوغ الأماني عن الشاة المسمومة: أهدتها إليه زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم، وكانت سألت أي عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل: الذراع، فأكثرت فيها من السم، فلما تناول الذراع لاك منها مضغة، ولم يسغها، وأكل منها معه بشر بن البراء فأساغ لقمة ومات منها (3).   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 385). (2) البخاري، كتاب الجهاد والسير (4/ 79) رقم 3169. (3) انظر: بلوغ الأماني بحاشية الفتح الرباني (21/ 123). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 وفي مغازي عروة: فتناول الذراع فانتهش منها، وتناول بشر عظمًا آخر، فانتهش منه، فلما أرغم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرغم بشر ما في فيه، فقال رسول الله: ارفعوا أيديكم، فإن كتف الشاة تخبرني أني قد بغيت فيها، فقال بشر بن البراء: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت، ولم يمنعني أن ألفظها إلا أني كرهت أن أنغص طعامك، فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا أكون رغمتها وفيها بغي (1). وقال ابن القيم: وجيء بالمرأة إلى رسول الله فقالت: أردت قتلك، فقال: «ما كان الله ليسلطك علي» قالوا: ألا تقتلها؟ قال: «لا» ولم يتعرض لها، ولم يعاقبها، واحتجم على الكاهل، وأمر من أكل منها فاحتجم، فمات بعضهم (2). وقد اختلف في قتل المرأة والصحيح أنه لما مات بشر قتلها (3) , ولقد كان السم الذي وضعته اليهودية قويًّا جدًّا إذ مات بشر بن البراء فورًا، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاوده ألم السم حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها (4). وقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرض موته الذي مات فيه: «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري (5) من ذلك السم» (6). تاسعًا: الحجاج بن علاط السلمي وإرجاع أمواله من مكة: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قال الحجاج بن علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وإني أريد أن أكاتبهم, فأنا في حل إن أنا نلت منك, وقلت شيئًا؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما يشاء فأتى امرأته حين قدم، فقال: اجمعي لي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا، أو أصيبت أموالهم، قال: ففشا ذلك في مكة فانقمع المسلمون، وأظهر المشركون فرحًا وسرورًا، قال: وبلغ الخبر العباس - رضي الله عنه - فقعد، وجعل لا يستطيع أن يقوم. قال معمر: فأخبرني عثمان الجزري عن مقسم قال: فأخذ ابنًا له يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له، قثم، فاستلقى فوضعه على صدره وهو يقول:   (1) انظر: مغازي رسول الله، لعروة بن الزبير، ص198. (2) زاد المعاد (3/ 336). (3) المصدر السابق (3/ 336). (4) انظر: الصراع مع اليهود (3/ 121). (5) أبهري: عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. (6) صحيح البخاري بشرح فتح الباري (9/ 159 - 196) طبعة الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 حبي قثم، حبي قثم ... شبيه ذي الأنف الأشم نبي رب ذي النعم ... برغم أنف من رغم قال ثابت بن أنس: ثم أرسل غلامًا له إلى الحجاج فقال: ويلك ما جئت به؟ وماذا تقول؟ فما وعد الله خير مما جئت به، قال: فقال الحجاج بن علاط لغلامه: اقرأ على أبي الفضل السلام، وقل له: فيخل لي في بعض بيوته لآتيه، فإن الخبر على ما يسره، فجاءه غلامه، فلما بلغ باب الدار قال: أبشر يا أبا الفضل، قال: فوثب العباس فرحًا، حتى قبل بين عينيه، فأخبره بما قال الحجاج، فأعتقه، قال: ثم جاء الحجاج فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد افتتح خيبر، وغنم أموالهم، وجرت سهام الله في أموالهم، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي، فأخذها لنفسه وخيرها أن يعتقها، وتكون زوجته (1) , ولكني جئت لمالي، وإني استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لي، فأخف عليَّ يا أبا الفضل ثلاثًا، ثم اذكر ما شئت (2) , فجمعت امرأته ما كان عندها من حلي ومتاع فجمعه، فدفعته إليه, ثم انشمر به، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك؟ فأخبرته أنه ذهب يوم كذا وكذا، وقالت: لا يخزيك الله يا أبا الفضل، لقد شق علينا الذي بلغك، قال: أجل، لا يخزيني الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا، فتح الله خيبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرت فيها سهام الله، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي لنفسه، فإن كانت لك حاجة في زوجك فالحقي به، قالت: أظنك والله صادقًا، قال فإني صادق، الأمر على ما أخبرتك, فقال: ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش، وهم يقولون إذ مر بهم: لا يصيبك إلا خيرًا يا أبا الفضل، قال لهم: لم يصبني إلا خير بحمد الله، قد أخبرني الحجاج بن علاط أن خيبر قد فتحها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وجرت فيها سهام الله، واصطفى صفية لنفسه، وقد سألني أن أخفي عليه ثلاثًا، وإنما جاء ليأخذ ماله، وما كان له من شيء هاهنا، ثم يذهب, قال: فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، وخرج المسلمون ومن كان دخل بيته مكتئبًا حتى أتوا العباس، فأخبرهم الخبر, وسر المسلمون ورد الله تبارك وتعالى ما كان من كآبة أو غيظ أو حزن على المشركين (3). وفي هذا الخبر فقه غزير منه: جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص459. (2) انظر: تاريخ الذهبي (المغازي)، ص439. (3) أخرجه أحمد في المسند (3/ 138، 139) عبد الرزاق في المصنف رقم 9771، وأبو يعلى برقم 3479، والبيهقي في السنن (9/ 151)، والدلائل (4/ 5266، 5267) وقال الهيثمي في المجمع (6/ 154، 155) رواه أحمد، وأبو يعلي، والبزار والطبراني، ورجاله رجال الصحيح، وقال ابن كثير في البداية (4/ 23) عن سند أحمد: وهذا الإسناد على شرط الشيخين، نقلا عن صحيح السيرة النبوية، ص460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 الحجاج بن علاط على المسلمين، حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت المسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، بمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب، ولاسيما تكميل الفرح والسرور، وزيادة الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب، فكان الكذب سببًا في حصول هذه المصلحة الراجحة. عاشرًا: بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالغزوة: وردت في غزوة خيبر أحكام شرعية كثيرة منها: 1 - تحريم أكل لحوم الحمر الأنسية: عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية (1). 2 - حرمة وطء السبايا الحوامل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره» (2). 3 - حرمة وطء السبايا غير الحوامل قبل استبراء الرحم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها» (3). والاستبراء إنما يكون بأن تطهر من حيضة واحدة فقط، ولا تجب عليها العدة وإن كانت متزوجة من كافر سواء مات أو بقي حيًّا؛ لأن العدة وفاء الزوج الميت وحداد عليه، ولا يحد على الكافر كما علمت (4). 4 - حرمة ربا الفضل: عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل تمر خيبر هكذا؟» فقال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، فقال: «لا تفعل بِِعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا» (5). فالتفاضل مع اتحاد الجنس هو ربا الفضل، إذ اشترى صاعًا بأكثر من صاع، فالزيادة هنا   (1) انظر: زاد المعاد (4/ 122، 123) البخاري، كتاب المغازي رقم 4215. (2) انظر: الطبقات (2/ 113). (3) انظر: الروض الأنف (4/ 41). (4) انظر: الصراع مع اليهود (3/ 134). (5) البخاري كتاب المغازي رقم 4244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 هي الربا، وهذا محرم, كما رأيت إذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأرشد إلى الحل السليم بأن يبيع ما لديه من تمر ثم يشتري بما لديه من نقود ما يشتهي من تمر؛ لأن الحاجة قد تدفع صاحبها إلى قبول الربا (1). 5 - حرمة بيع الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالورق العين: روى عن عبادة بن الصامت أنه قال: نهانا رسول الله يوم خيبر أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالورق العين، وقال «ابتاعوا تبر الذهب بالورق والعين، وتبر الفضة بالذهب والعين» (2). والمراد من الحديث: أن يباع الذهب بالذهب مثلاً بمثل والفضة بالفضة مثلاً بمثل، بلا زيادة ولا نقص، وعندما يقابل الذهب بالفضة لا تشترط المماثلة، كما هو معلوم وثابت في الصحاح (3). 6 - مشروعية المساقاة والمزارعة: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر لليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها (4). وقد تساءل بعض الباحثين: لِمَ جاءت أحكام هذه البيوع في خيبر وما الحكمة من ذلك؟ وأجاب الشيخ محمد أبو زهرة على هذا فقال: إن فتح خيبر كان فتحًا جديدًا بالنسبة للعلاقات المالية التي يجري في ظلها التبادل المالي، فكانت فيها شرعية المزارعة والمساقاة ولم تكن تجري كثيرًا في يثرب (5). 7 - حل أكل لحوم الخيل: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر، ورخص في الخيل (6). 8 - تحريم المتعة: عن علي - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم   (1) انظر: الصراع مع اليهود (3/ 134). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام مع الروض الأنف (4/ 41). (3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص321. (4) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4248. (5) انظر: خاتم النبيين (2/ 1104) , الصراع مع اليهود (3/ 136). (6) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 الحمر الأنسية (1). 9 - مشاركة المرأة في غزوة خيبر: روت أمية بنت أبي الصلت عن امرأة من بني غفار قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار فقلن: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا -وهو السير إلى خيبر- فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا, فقال: على بركة الله، قالت: فخرجنا معه، قالت: فوالله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح ونزلت عن حقيبة رحله، قالت: وإذا بها دم مني وكانت أول حيضة حضتها، قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال: «ما لك؟ لعلك نفست؟» قالت: قلت: نعم؟ قال: «فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك» قالت: فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفيء، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدًا (2) , وكانت في عنقها حتى ماتت، ثم أوصت أن تدفن معها، قالت: وكانت لا تطهر من حيضها، إلا جعلت في طهرها ملحًا، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت (3). وهي صورة حية أمام كل فتاة مسلمة، تحرص على أن تشارك في أجر الجهاد مع المسلمين (4). وهكذا كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تعليمًا وتربية للأمة في السلم والحرب على معاني العقيدة وحقيقة العبادة، وهذا غيض من فيض وجزء من كل. هذا وقد أحدث فتح خيبر وفدك ووادي القرى وتيماء دويًّا هائلاً في الجزيرة العربية بين مختلف القبائل، وقد أصيبت قريش بالغيظ والكآبة إذ لم تكن تتوقع ذلك، وهي تعلم مدى حصانة قلاع يهود خيبر، وكثرة مقاتليهم ووفرة سلاحهم ومؤونتهم ومتاعهم (5)، أما القبائل العربية الأخرى المناصرة لقريش فقد أدهشها خبر هزيمة يهود خيبر وخذلها انتصار المسلمين الساحق؛ ولذلك فإنها جنحت إلى مسالمة المسلمين وموادعتهم بعد أن أدركت عدم جدوى استمرارها في عدائهم، مما فتح الباب واسعًا لنشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، بعد أن تعززت مكانة المسلمين في أعين أعدائهم إلى جانب ما تحقق له من خير وتعزيز لوضعهم الاقتصادي (6).   (1) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4216. (2) انظر: البداية والنهاية (4/ 205). (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/ 372، 373). (4) انظر: فقه السيرة لمنير الغضبان، ص534. (5) انظر: نضرة النعيم، (1/ 353). (6) المصدر نفسه، (1/ 353). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 واستمرت حركة السرايا بعد خيبر، وكانت كثيرة، وأمر عليها صلى الله عليه وسلم كبار الصحابة، وكان في بعضها قتال، ولم يكن في بعضها قتال (1). * * * المبحث الثاني دعوة الملوك والأمراء أولاً: كان صلح الحديبية إيذانًا ببداية المد الإسلامي: فقد انساح هذا المد إلى أطراف الجزيرة العربية بل تجاوزها إلى ما وراء حدود الجزيرة العربية فمنذ (أن عقد الرسول صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع قريش وما تلا ذلك من إخضاع يهود شمال الحجاز في خيبر ووادي القرى وتيماء وفدك إلى سيادة الإسلام، فإن الرسول لم يأل جهدا لنشر الإسلام خارج حدود الحجاز، وكذلك خارج حدود الجزيرة العربية, وقد عبر عليه الصلاة والسلام عن هذا المنهج قولاً وعملاً من خلال إرساله عددًا من الرسل والمبعوثين إلى أمراء الجزيرة العربية وإلى ملوك العالم المعاصر خارج الجزيرة العربية. وتعد هذه الخطوة نقطة تحول هامة في تاريخ العرب والإسلام ليس لأن الرسول سوف يوحد عرب الجزيرة العربية تحت راية الإسلام فحسب، ولكن لأن هؤلاء العرب بعد أن اعتنقوا الإسلام وتمثلوا رسالة السماء أنيط بهم حمل الدعوة الإسلامية إلى البشرية كافة) (2). ويشير المنهج النبوي في دعوة الزعماء والملوك إلى ما يجب أن تكون عليه وسائل الدعوة، فإلى جانب دعوة الأمراء والشعوب، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوبًا جديدًا من أساليب الدعوة وهو مراسلة الملوك ورؤساء القبائل، وكان لأسلوب إرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء أثر بارز في دخول بعضهم الإسلام وإظهار الود من البعض الآخر، كما كشفت هذه الرسائل مواقف بعض الملوك والأمراء من الدعوة الإسلامية ودولتها في المدينة؛ وبذلك حققت هذه الرسائل نتائج كثيرة, واستطاعت الدولة الإسلامية من خلال ردود الفعل المختلفة تجاه الرسائل أن تنتهج نهجًا سياسيًّا وعسكريًّا واضحًا ومتميزًا (3) , وإليك أهم هذه الرسائل: 1 - فقد وردت رواية صحيحة (4) تضمنت نص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعثه مع دحية الكلبي إلى هرقل عظيم الروم (5) , وذلك في مدة هدنة الحديبية وهو كما يلي:   (1) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص221. (2) انظر: السفارات النبوية، د. محمد العقيلي، ص15. (3) انظر: العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية، د. سعيد المهجر، ص112. (4) مسلم (3/ 1393 - 1397) رقم 1773. (5) انظر: نضرة النعيم (1/ 344) اعتمدت عليه في توثيق مصادر الرسائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت عليك إثم الأريسيين, (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64] (1)». ولقد تسلم هرقل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودقق في الأمر كما في الحديث الطويل المشهور بين أبي سفيان وهرقل المروي في الصحيحين حين سأله عن أحوال النبي، وقال بعد ذلك لأبي سفيان: (إن كان ما تقول فيه حقًّا فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) (2). 2 - أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى كسرى ملك الإمبراطورية الفارسية، مع عبد الله بن حذافة السهمي، (أمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين (3) فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه, فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمَّزقوا كل ممزق) (4)، ونص الرسالة كما أورده الطبري كالتالي: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلى الناس كافة، لينذر من كان حيًّا، أسلِمْ تسلَمْ، فإن أبيت عليك إثم المجوس» (5). 3 - أما كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة فقد أرسله مع عمرو بن أمية الضمري وقد جاء في الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى النجاشي ملك الحبشة، أسلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة, فحملت به، فخلقه من روحه ونفخه, كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة عن طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى» (6).   (1) مسلم شرح النووي، كتاب الجهاد، كتب النبي (12/ 107). (2) مسلم (3/ 1393) رقم 1773. (3) شرح المواهب اللدنية (3/ 341). (4) البخاري مع فتح الباري (8/ 26) رقم 4424، وكانت الرسالة في محرم سنة 7هـ، كما في زاد المعاد. (5) انظر: تاريخ الطبري (2/ 654، 655). (6) انظر: نصب الراية للزيلعي (4/ 421) نقلا عن نضرة النعيم (1/ 346). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 4 - أما كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس حاكم مصر (1) , وكذلك رد المقوقس إليه (2) , فلم تثبت من طرق صحيحة، ولا يعني ذلك نفي إرسال الكتاب إليه، كما أن ذلك لا يعني الطعن بصحة النصوص من الناحية التاريخية, فربما تكون صحيحة من حيث الشكل والمضمون غير أنها لا يمكن أن يحتج بها في السياسة الشرعية (3). فلقد أورد محمد بن سعد في طبقاته (4) أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى المقوقس جريح بن مينا ملك الإسكندرية وعظيم القبط، كتابًا مع حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، وأنه قال خيرًا وقارب الأمر، غير أنه لم يسلم وأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم عدة هدايا كان بينها مارية القبطية، وأنه لما ورد جواب المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ضن الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه» (5). 5 - وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب أخا بني أسد بن خزيمة، برسالة إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق (6) , حين عودته والمسلمين من الحديبية، وقد تضمن نص الرسالة قوله: سلام على من اتبع الهدى، وآمن به، إني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يُبقى لك ملكك (7). 6 - وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري بكتاب إلى هوذة بن علي الحنفي (8) عند مقدمه من الحديبية, وقد اشترط هوذة الحنفي على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قراءته رسالته إليه أن يجعل له بعض الأمر معه، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل ذلك (9). 7 - وأرسل صلى الله عليه وسلم أبا العلاء الحضرمي (10) بكتابه إلى المنذر بن ساوي العبدي أمير البحرين بعد انصرافه من الحديبية، ونقلت المصادر التاريخية أن المنذر قد استجاب لكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وأسلم معه جميع العرب بالبحرين، فأما أهل البلاد من اليهود والمجوس فإنهم صالحوا العلاء والمنذر على الجزية من كل حالم دينار (11) , ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام نص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي برواية عروة بن الزبير، وجاء فيه:   (1) انظر: نضرة النعيم (1/ 346). (2) انظر: نضرة النعيم (1/ 346). (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 459). (4) انظر: الطبقات الكبرى (1/ 260، 261). (5) البداية والنهاية (5/ 340). (6) انظر: تاريخ الطبري (2/ 652). (7) انظر: تاريخ الطبري (2/ 652). (8) كان صاحب اليمامة، ومات بعد فتح مكة بقليل. (9) انظر: نصب الراية (4/ 425)، إعلام السائلين، ابن طولون، ص105، 107. (10) انظر: صبح الأعشي للقلقشندي (6/ 368). (11) الزيلعي تخريج أحاديث الهداية (4/ 419، 420). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 «سلام أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا, فذلك المسلم الذي له ذمة الله، وذمة الرسول، فمن أحب ذلك من المجوس فإنه آمن ومن أبى فإن الجزية عليه» (1). وفي ذي القعدة سنة 8هـ بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بكتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين بعمان (2) , وقد جاء فيه: «من محمد النبي رسول الله لعباد الله الأسبذيين ملوك عمان، وأسد عمان، ومن كان منهم بالبحرين إنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا حق النبي صلى الله عليه وسلم، ونسكوا نسك المؤمنين، فإنهم آمنون وأن لهم ما أسلموا عليه، غير أن مال بيت النار ثنيا لله ورسوله, وأن عشور التمر صدقة، ونصف عشور الحب، وأن للمسلمين نصرهم ونصحهم، وأن لهم على المسلمين مثل ذلك، وأن لهم أرحاءهم يطحنون بها ما شاءوا» (3). وأوردت المصادر بعد ذلك عددًا كبيرًا من المرويات عن رسائل أخرى لم تثبت من الناحية الحديثية (4). ثانيًا: دروس وعبر وفوائد: 1 - الأريسيون: وردت كلمة (الأريسيين) أو (اليريسيين) -على اختلاف الروايات- في الكتاب الذي وجه إلى هرقل وحده، ولم ترد في كتاب من الكتب التي أرسلت إلى غيره، واختلف علماء الحديث واللغة من مدلول هذه الكلمة، فالقول المشهور أن (الأريسيين) جمع (أريسي) وهم الخول، والخدم والأكارون (5). وذهب العلامة أبو الحسن الندوي إلى أن المراد بالأريسيين هم أتباع (أريوس) المصري وهو مؤسس فرقة مسيحية كان لها دور كبير في تاريخ العقائد المسيحية والإصلاح الديني، وقد شغلت الدولة البيزنطية والكنيسة المسيحية زمنًا طويلاً، و (أريوس) هو الذي نادى بالتوحيد، والتمييز بين الخالق والمخلوق والأب والابن على حد تعبير المسيحيين، لعدة قرون (6). ودامت عقيدة (أريوس) ودعوته تصارعان الدعوة المكشوفة إلى تأليه المسيح وتسويته بالإله الواحد الصمد، وكانت الحرب سجالاً، وقد دان بهذه العقيدة عدد كبير من النصارى في الولايات الشرقية من المملكة البيزنطية إلى أن عقد تيوسورس الكبير مجمعًا مسيحيًّا في القسطنطينية قضى بألوهية المسيح وابنيته، وقضى هذا الإعلان على العقيدة التي دعا إليها   (1) الأموال لأبي عبيد، ص28. (2) انظر: صبح الأعشي (6/ 376). (3) انظر: الأموال لأبي عبيد، ص28، 29. (4) انظر: نضرة النعيم (1/ 348). (5) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص304. (6) المصدر نفسه، ص305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 (أريوس) واختفت, ولكنها عاشت بعد ذلك، ودانت بها طائفة من النصارى، اشتهرت بالفرقة الأريسية أو الأريسيين، فمن المرجح المعقول أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنى هذه الفرقة بقوله: «فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين» فإنها هي القائمة بالتوحيد النسبي في العالم المسيحي الذي تتزعمه الدولة البيزنطية العظمى، التي كان على رأسها (هرقل) (1). وقد تحدث الإمام أبو جعفر الطحاوي عن هذه الفرقة فقال: وقد ذكر بعض أهل المعرفة بهذه المعاني أن في رهط هرقل فرقة تعرف بالأروسية، توحد الله، وتعترف بعبودية المسيح له عز وجل، ولا تقول شيئًا مما يقول النصارى في ربوبيته وتؤمن بنبوته، فإنها تمسك بدين المسيح مؤمنة بما في إنجيله, جاحدة لما يقوله النصارى سوى ذلك، وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يقال لهذه الفرقة (الأريسيون) في الرفع، (الأريسيين) في النصب والجر، كما ذهب إليه أصحاب الحديث) (2). 2 - اعتبارات حكيمة خاصة بالملوك: في رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم للملوك فوارق دقيقة مؤسسة على حكمة الدعوة, روعي فيها ما يمتاز به هؤلاء الملوك في العقائد التي يدينون بها, (والخلفيات) التي يمتازون بها، فلما كان هرقل والمقوقس يدينان بألوهية المسيح كليًّا أو جزئيًّا، وكونه ابن الله، جاءت في الكتابين اللذين وجها إليهما كلمة (عبد الله) مع اسم النبي صلى الله عليه وسلم صاحب هاتين الرسالتين، فيبتدئ الكتابان بعد التسمية بقوله: «من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم» وبقوله: «من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط» بخلاف ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز, فاكتفى بقوله: «من رسول الله إلى عظيم الفرس». وجاءت كذلك آية (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64] في هذين الكتابين، وما جاءت في كتابه إلى كسرى أبرويز لأن الآية تخاطب أهل الكتاب الذين دانوا بألوهية المسيح، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وقد كان هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية والمقوقس حاكم مصر قائدين سياسين، وزعيمين دينيين كبيرين للعالم المسيحي، مع اختلاف يسير في الاعتقاد في المسيح هل له طبيعة أم طبيعتان (3). ولما كان كسرى أبرويز وقومه يعبدون الشمس والنار، ويدينون بوجود إلهين، أحدهما   (1) وقد ذهب إلى ما ذهب إليه العلامة الندوي، الدكتور معروف الدواليبي في الأريسيين, ويؤيد ما قاله الندوي أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عني بقوله: فإن توليت عليك إثم (اليريسيين) أتباع أريوس الفرق المسيحية الوحيدة القائلة ببشرية المسيح النافية لألوهيته وقد جاء هذا البحث القيم في رسالة نظرات إسلامية، ص68 - 83، انظر: السيرة النبوية، ص307. (2) انظر: مشكل الآثار (3/ 399) (3) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي، ص38، 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 يمثل الخير وهو يزدان، والثاني يمثل الشر وهو أهرمن، وكانوا بعيدين عن مفهوم النبوة والتصور الصحيح للرسالة السماوية، جاءت في الكتاب الذي وجه إلى الإمبراطور الإيراني عبارة: «وأني رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيًّا» (1). وقد كان تلقي الملوك لهذه الرسائل يختلف, فأما هرقل والنجاشي والمقوقس، فتأدبوا، وتلطفوا في جوابهم وأكرم (النجاشي والمقوقس رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأرسل المقوقس هدايا منها جاريتان كانت إحداهما مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، وأما كسرى إبرويز فلما قرئ عليه الكتاب مزقه وقال: (يكتب إليَّ هذا وهو عبدي؟) فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مزق الله ملكه» (2). وأمر كسرى باذان وهو حاكمه على اليمن بإحضاره، فأرسل بابويه يقول له: إن ملك الملوك قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي, فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله (3). وقد تحقق ما أنبأ به رسول الله بكل دقة، فقد استولى على عرشه ابنه (قباذ) الملقب بـ (شرويه) وقتل كسرى ذليلا مهانًا بإيعاز منه سنة 628م، وقد تمزق ملكه بعد وفاته، وأصبح لعبة في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة، فلم يعش (شرويه) إلا ستة أشهر، وتوالى على عرشه مدة أربع سنوات عشرة ملوك، واضطرب حبل الدولة إلى أن اجتمع الناس على (يزدجرد) وهو آخر ملوك بني ساسان، وهو الذي واجه الزحف الإسلامي الذي أدى إلى انقراض الدولة الساسانية التي دامت وازدهرت أكثر من أربعة قرون انقراضًا كليًّا، وكان ذلك في سنة 637م، وهكذا تحققت هذه النبوءة في ظرف ثماني سنين (4). 3 - الوصف العام لرسائل الرسول: ويلاحظ الباحث أن الوصف العام لكتب الرسول إلى الملوك والأمراء يكاد يكون واحدًا، ويمكننا أن نستخرج منها الأمور التالية: أ- نلاحظ أن جميع كتب الرسول صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك والرؤساء يفتتحها صلى الله عليه وسلم بالبسملة، والبسملة آية من كتاب الله تبارك وتعالى, وفي تصدير الكتاب بها أمور مهمة، كاستحباب بدء الكتب ببسم الله الرحمن الرحيم اقتداء برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد واظب عليها في كتبه صلى الله عليه وسلم، كما فيها جواز كتابة آية من القرآن الكريم في كتاب، وإن كان هذا الكتاب موجهًا إلى الكافرين، وفيها جواز قراءة الكافر لآية أو أكثر من القرآن الكريم؛ لأن كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص290. (2) انظر: تاريخ الطبري (3/ 90). (3) انظر: تاريخ الطبري (3/ 90، 91). (4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 تضمنت البسملة وغيرها، وفيها جواز قراءة الجنب لآية أو أكثر من القرآن الكريم؛ لأن هذا الكافر الذي أرسلت إليه الرسالة تضمنت البسملة وغيرها لا يحترز من الجنابة والنجاسة, فيقرأ الرسالة التي اشتملت على آيات من القرآن الكريم وهو جنب. ب- ونستنبط من رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء الآتي: * مشروعية إرسال السفراء المسلمين إلى زعماء الكفر؛ لأن كل كتاب كان يكتبه الرسول صلى الله عليه وسلم يكلف رجلاً من المسلمين يحمله إلى المرسَل إليه. * مشروعية الكتابة إلى الكفار في أمر الدين والدنيا. * ينبغي أن يكتب في الكتاب اسم المرسل والمرسل إليه وموضوع الكتاب وهو واحد في جميع الكتب ويتلخص في دعوتهم إلى الإسلام. * عدم بدء الكافر بتحية الإسلام، وهي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطرح السلام في كتبه على ملك من ملوك الكفر بل كان يصدر كتبه بقوله: السلام على من اتبع الهدى، أي آمن بالإسلام، ويؤخذ من هذا عدم جواز مخاطبة الكافر بتحية الإسلام. * اتخاذ الخاتم: فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم رسائله بعد كتابته بخاتمه، وقد كتب عليه ثلاث كلمات، [نقش بهذا الشكل]: اللَّه رسول محمد (1) فعن أنس - رضي الله عنه - قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا أن يكون مختومًا، فاتخذ خاتمًا من فضة، فكأني أنظر إلى بياضه في يده، ونقش فيه محمد رسول الله (2). 4 - تقدير الرجال: لما أسلم باذان بن ساسان وكان أميرًا على اليمن لم يعزله رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل أبقاه أميرًا عليها بعد إسلامه، حين رأى فيه الإداري الناجح والحاكم المناسب، مما يدلل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدر الكفاءات في الرجال ويضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ومن الجدير   (1) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص239، 240. (2) البخاري، باب دعوة اليهود والنصارى، فتح الباري (6/ 108). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 بالذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ولى ولده شهرًا أميرًا على اليمن بعد موته (1). 5 - جواز أخذ الجزية من المجوس: وهذا الحكم استخرج من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسله إلى المنذر بن ساوي يحدد فيه الموقف من اليهود والمجوس، إذ ورد فيه: (ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية) (2). وقد ذهب ابن القيم مع طائفة من العلماء إلى جواز أخذ الجزية من كل إنسان يبذلها سواء أكان كتابيًا أم غير كتابي كعبدة الأوثان من العرب وغيرهم, فقد جاء في زاد المعاد (وقد قالت طائفة في الأمم كلها إذا بذلوا الجزية، قبلت منهم، أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحق بهم؛ لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب؛ لأنهم أسلموا قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعد تبوك (3). 6 - جواز أخذ هدية الكافر: فقد أرسل المقوقس عظيم القبط حاكم مصر -مع سفير رسول الله حاطب بن أبي بلتعة- وهو كافر هدية تشتمل على جاريتين وكسوة للرسول صلى الله عليه وسلم وبغلة يركبها, فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحدى هاتين الجاريتين مارية القبطية (4). 7 - من نتائج إرسال الكتب إلى الملوك والأمراء: أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم في سياسته الخارجية دراية سياسية فاقت التصور، وأصبحت مثالا لمن جاء بعده من الخلفاء, كما أظهر صلى الله عليه وسلم قوة وشجاعة فائقتين، فلو كان غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لخشي عاقبة ذلك الأمر، لا سيما أن بعض هذه الكتب قد أرسلت إلى ملوك أقوياء على تخوم بلاده كهرقل وكسرى والمقوقس، ولكن حرص رسول الله وعزيمته على إبلاغ دعوة الله، وإيمانه المطلق بتأييد الله سبحانه وتعالى، كل ذلك دفعه لأن يقدم على ما أقدم عليه وقد حققت هذه السياسة النتائج الآتية: أ- وطد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه السياسة أسلوبًا جديدًا في التعامل الدولي لم تكن تعرفه البشرية من قبل.   (1) غزوة الحديبية لأبي فارس، ص242. (2) نفس المصدر، ص242. (3) انظر: زاد المعاد (5/ 91). (4) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 ب- أصبحت الدولة الإسلامية لها مكانتها وقوتها وفرضت وجودها على الخريطة الدولية لذلك الزمان. ج- كشف للرسول صلى الله عليه وسلم نوايا الملوك والأمراء وسياستهم نحوه وحكمهم على دعوته. د- كانت مكاتبة الملوك خارج جزيرة العرب تعبيرًا عمليًّا على عالمية الدعوة الإسلامية, تلك العالمية التي أوضحتها آيات نزلت في العهد المكي مثل قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]. وهكذا, فإن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمراء العرب والملوك المجاورين لبلاده تعتبر نقطة تحول في سياسة دولة الرسول الخارجية، فعظم شأنها، وأصبحت لها مكانة دينية وسياسية بين الدول، وذلك قبل فتح مكة، كما أن هذه السياسة مهدت لتوحيد الرسول صلى الله عليه وسلم لسائر أنحاء بلاد العرب في عام الوفود (1). * * * المبحث الثالث عمرة القضاء وفي ذي القعدة في السنة السابعة من الهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة قاصدًا العمرة، كما اتفق مع قريش في صلح الحديبية، وقد بلغ عدد من شهد عمرة القضاء ألفين سوى النساء والصبيان, ولم يتخلف من أهل الحديبية إلا من استُشهد في خيبر أو مات قبل عمرة القضاء (2). وقد اتجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من المدينة باتجاه مكة المكرمة في موكب مهيب يشق طريقه عبر القرى والبوادي، وكان كلما مر الموكب النبوي بمنازل قوم من الذين يسكنون على جانبي الطريق بين مكة والمدينة خرجوا وشاهدوا منظرًا لم يألفوه من قبل, حيث المسلمون بزي واحد من الإحرام، وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية, ويسوقون هديهم في علاماته وقلائده, في مظهر بهي لم تشهد المنطقة له مثيلاً (3). أولاً: الحيطة والحذر من غدر قريش: اصطحب النبي صلى الله عليه وسلم معه السلاح الكامل، ولم يقتصر على السيوف تحسبًا لكل طارئ قد يقع، خاصة أن المشركين في الغالب لا يحافظون على عهد قطعوه، ولا عقد عقدوه (4).   (1) انظر: التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة، ص351. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، ص464. (3) انظر: منهج الإعلام الإسلامي في صلح الحديبية، ص310. (4) صلح الحديبية لأبي فارس، ص267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 وما إن وصل خبر مسير النبي صلى الله عليه وسلم ومعه هذا العدد الضخم، وهذه الأسلحة المتنوعة، وفي مقدمة القافلة مائتا فارس بقيادة محمد بن مسلمة حتى أرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكرز بن حفص في نفر من قريش، ليستوضحوا حقيقة الأمر، فقابلوه في بطن يأجج (1) بمر الظهران فقالوا له: يا محمد والله ما عرفناك صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر، تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا على العهد، وأنه لن يدخل الحرم غير السيوف في أغمادها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ندخلها إلا كذلك» ثم رجع مكرز مسرعًا بأصحابه إلى مكة فقال: إن محمدًا لا يدخل بسلاح وهو على الشرط الذي شرط لكم (2). ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح خارج الحرم قريبًا منه تحسبًا لكل طارئ، وأبقى عنده مائتي فارس بقيادة محمد بن مسلمة يحرسونه, وينتظرون أمر الرسول ليتحركوا في أي جهة وينفذوا أي أمر، ويقاتلوا متى دعت الضرورة لذلك (3). إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمن غدر مشركي قريش وخيانتهم, فقد تسول لهم أنفسهم أن ينصبوا كمينًا أو أكثر للمسلمين ويشنوا عليهم هجومًا مباغتًا؛ ولذلك احتاط وأخذ الحذر ووفى بعهده ووعده لقريش, وعلم الأمة لكي تحذر من أعدائها (4) , وفي بقاء كوكبة من الصحابة في حراسة الأسلحة والعتاد لكي يراقبوا الموقف بدقة وتحفز معنى من معاني العبادة في هذا الدين (5). ثانيًا: دخول مكة والطواف والسعي: ومن بطن يأجج تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره نحو مكة على راحلته القصواء، فدخلها من الثنية التي تطلعه على الحجون, والمسلمون حوله متوشحون سيوفهم محدقون به كل جانب، يسترونه من المشركين مخافة أن يؤذوه بشيء، وأصواتهم تعج بالتلبية لله العلي الكبير (6). هذه التلبية الجماعية التي تعج أصوات المسلمين بها، والتي لم تنقطع منذ أن أحرموا واستمرت حتى دخلوا مكة، فقد كان للتلبية مغزى ومعنى، فهي تعلن التوحيد وترفع شعاره، وتعني إبطال الشرك وإسقاط رايته، وتعلن الحمد والثناء على الله الذي مكنهم من أداء هذا النسك (7) .. فهذه بعض معاني تلبية المسلم بقوله: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.   (1) موضع قرب مكة على ثمانية أميال منها. (2) انظر: مغازي الواقدي (3/ 734) , طبقات ابن سعد (2/ 121). (3) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص268. (4) المصدر نفسه، ص275. (5) المصدر السابق، ص277. (6) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص353. (7) انظر: صلح الحديبية، ص277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 وكان عبد الله بن رواحة آخذًا بزمام راحلته وهو يرتجز بشعره: خلوا بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير في رسوله يا رب إني مؤمن بقيله ... أعرف حق الله في قبوله ضربًا يزيل الهم عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله (1) وكان مظهرًا دعويًّا مؤثرًا عندما بدأ الموكب النبوي الكريم يقترب من بيوت مكة المكرمة، وأبنيتها شاقًّا طريقه باتجاه الكعبة المشرفة, وهم في مظهرهم المهيب، وأصواتهم تشق عنان السماء بالتلبية، فقد ذكرت معظم كتب السير والمغازي أن قسمًا من أهالي مكة خرج إلى رءوس الجبال لينظر إلى المسلمين من الأماكن العالية، والقسم الأكبر وقف عند دار الندوة المجاورة للكعبة الشريفة آنذاك، ليشاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام أثناء دخولهم مكة المكرمة، وبيت الله الحرام (2). وكان المشركون قد أطلقوا شائعة ضد المسلمين مفادها أنهم وهنتهم (3) حمى يثرب, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين (4) , لكي يرى المشركون قوتهم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت الحرام واضطبع (5) بردائه فأخرج عضده اليمنى وشرع في الطواف, وأصحابه يتابعونه ويقتدون به. ولما رأى المشركون ذلك قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا (6). وقد قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة التي فعلها عند دخوله المسجد الحرام وهي الاضطباع والهرولة، ورفع الأصوات بالتلبية، أن يرهب قريشًا، وأن يظهر لها قوة المسلمين وعزيمتهم وتمسكهم بدينهم، ومناعة جبهتهم، وقد أثر هذا الأسلوب في نفوس المشركين (7) , وبهذا الأسلوب النبوي الكريم أغاظ الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين وكايدهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتقرب إلى الله بمكايدتهم وإغاظتهم، ففي غزوة أحد أذن صلى الله عليه وسلم لأبي دجانة أن يمشي متبخترًا أمام المشركين لإظهار عزة المؤمن؛ ولأن ذلك يغيظ المشركين، وزيادة في إغاظتهم كان يلبس العصابة الحمراء دون أن ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك. وفي غزوة الحديبية ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهدي جمل أبي جهل الذي غنمه في بدر، ليراه المشركون فيزدادوا غيظًا حين يذكرون مصارع قتلاهم وذل   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص481. (2) انظر: منهج الإعلام الإسلامي في صلح الحديبية، ص314. (3) أضعفتهم. (4) البخاري، كتاب المغازي، (5/ 6)، رقم 4256. (5) الاضطباع: هو أن يدخل بعض رداءه تحت عضده اليمنى ويجعل طرفه على منكبه. (6) صحيح السيرة النبوية، ص481. (7) انظر: منهج الإعلام، ص315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 أسراهم, وها هو ذا صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين في عمرة القضاء بإظهار التجلد والهرولة لإغاظتهم ومكايدتهم ورد كيدهم في نحورهم (1) , وقد ذكر ابن القيم: (بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكيد المشركين بكل ما يستطيع) (2). فهذه حرب نفسية شنها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين وقد أتت أكلها، ولقد أقام الرسول في مكة ثلاثة أيام، ومعه المسلمون يرفعون راية التوحيد، ويطوفون بالبيت العتيق، ويرفعون الأذان ويقيمون الصلاة ويصلي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في جماعة، وكان بلال بن رباح بصوته الندي يرفع الأذان من على ظهر الكعبة، فكان وقعه على المشركين كالصاعقة (3). ولم ينس صلى الله عليه وسلم مجموعة الحراسة التي كانت تحرس الأسلحة والعتاد بأن يرسل من يقوم بمهمتهم ممن طاف وسعى مكانهم, ويأتي هؤلاء ليؤدوا النسك، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع نفوس يدرك حقيقة شوقها لبيت الله الحرام، وما جاءت للمرة الثانية وقطعت هذه المسافة الشاسعة إلا لتنال هذا الشرف، وتبل هذا الظمأ، فتطوف مع الطائفين وتسعى مع الساعين، فعمل صلى الله عليه وسلم على مراعاة النفوس، وساعدها ولبى مطالبها من أجل إصلاحها والرقي بها، إنه من منهج النبوة في التربية (4). ثالثًا: زواجه من أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث: كانت ميمونة، أخت أم الفضل، زوجة العباس بن عبد المطلب فتاة في السادسة والعشرين، قد جعلت أمر زواجها بعد وفاة زوجها أبو رهم بن عبد العزى إلى أختها أم الفضل، فجعلته أم الفضل إلى زوجها العباس، فزوجها العباس من ابن أخيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة درهم (5)، وهي خالة عبد الله بن عباس، وخالد بن الوليد، ولما انقضت الثلاثة أيام، التي نص عليها عهد الحديبية، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ من زواجه من ميمونة وسيلة لزيادة التفاهم بينه وبين قريش، فجاءه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، موفدين من نفر من قريش فقالوا: إنه قد انقضى أجلك، فاخرج عنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن إسحاق: «وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه؟». قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا (6).   (1) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص282. (2) انظر: زاد المعاد (3/ 371). (3) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص270. (4) صلح الحديبية لأبي فارس، ص277. (5) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص326. (6) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، (4/ 19). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 فخرج، وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة، حتى أتاه بها في بسرف (موضع قرب التنعيم) فبنى بها هناك (1) , وهي آخر من تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم من نسائه, وآخر من مات من نسائه بعده، وأنها ماتت ودفنت بسرف، فمكان عرسها هو مكان دفنها، فرضي الله عنها وأرضاها (2). وفي زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة مسألة فقهية اختلف الفقهاء فيها وهي هل تزوج صلى الله عليه وسلم بميمونة وهو محرم (عقد نكاحها عليها فقط) أو عقد عليها بعد التحلل؟ (3) , وقد أجاد الفقهاء في تفصيلها. رابعًا: التحاق بنت حمزة بن عبد المطلب بركب المسلمين: لقد تغيرت النفوس والعقول بتأثير الإسلام تغيرًا عظيمًا، فعادت البنت -التي كان يتعير بها أشراف العرب، وجرت عادة وأدها في بعض القبائل فرارًا من العار، وزهدًا في البنات- حبيبة يتنافس في تربيتها المسلمون، وكانوا سواسية، لا يرجع بعضهم على بعض إلا بفضل أو حق (4) , فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة، تبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم، يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها، وقال لفاطمة -رضي الله عنها-: دونك ابنة عمك، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر. قال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر: هي ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي, فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم»، وقال لعلي: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خَلْقِي وخُلُقِي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» وقال علي لزيد: ألا تتزوج بنت حمزة، قال: إنها ابنة أخي من الرضاعة (5). وفي هذه القصة دروس وعبر وأحكام وفوائد منها: 1 - الخالة بمنزلة الأم. 2 - الخالة تقدم على غيرها في الحضانة إذا لم يوجد الأبوان. 3 - تزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - ووصفه له بقوله: أشبهت خَلْقي وخُلُقي. 4 - منقبة علي: تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: أنت مني وأنا منك، والمعنى أنت مني وأنا منك في النسب والصهر والسابقة والمحبة. 5 - منقبة زيد بن حارثة: يقول له الرسول: أنت أخونا ومولانا؛ لأنه كان أخًا لحمزة بن عبد المطلب, فقد آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما، وهو باجتهاده يريد أن يكون عليه ما على الأخ   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، (4/ 19). (2) انظر: هذا الحبيب محمد يا محب، للجزائري، ص375. (3) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص258. (4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص321. (5) البخاري، كتاب المغازي (5/ 100) رقم 4215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 الشقيق من واجبات, والواجب هنا يكون وليًّا على بنت حمزة - رضي الله عنه -. 6 - الخالة تقدم على العمة في الحضانة: لقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجة جعفر بالحضانة وعمتها صفية بنت عبد المطلب حية موجودة. 7 - زواج المرأة لا يسقط حقها في الحضانة: فقد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحضانة لخالة بنت حمزة وهي متزوجة من جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -. 8 - لا بد من موافقة الزوج على حضانة زوجته لابنة أختها؛ لأن الزوجة محتسبة لمصلحته ومنفعته, والحضانة قد تفوت هذه المصلحة جزئيًا، فلا بد من استئذانه، ونلاحظ هنا أن جعفر بن أبي طالب قد طالب بحضانة بنت عمه حمزة لخالتها وهي زوجة له، فدل على رضاه بذلك. 9 - إن الطفل إذا رضع مع عمه يصبح أخًا له في الرضاعة، وتصبح بناته كلها بنات أخيه في الرضاعة، فيحرم عليه نكاحهن (1). خامسًا: أثر عمرة القضاء على الجزيرة وإسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة: لقد كان تأثير هذه العمرة على قريش وعلى عرب الجزيرة تأثيرًا بالغًا، فقد حملت في مضمونها مهمة دعوية عظيمة، ولقد تأثر أهل مكة من هذه العمرة السلمية. يقول اللواء محمود شيت خطاب: (أثرت عمرة القضاء في هذه الفترة على معنويات قريش تأثيرًا كبيرًا, فقد وقف الكثير من قريش عند دار الندوة بمكة، كما عسكر آخرون فوق الهضاب المحيطة بها ليشهدوا دخول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: «رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة»، ثم استلم الركن وأخذ يهرول وأصحابه معه، فلم يكد يترك الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، حتى وقف خالد ابن الوليد يقول في جمع من قريش: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فحق كل ذي لب أن يتبعه، وسمع أبو سفيان بما كان من قول خالد بن الوليد، فبعث في طلبه، وسأله عن صحة ما سمع, فأكد له خالد صحته, فاندفع أبو سفيان إلى خالد في غضبه، فحجز عنه عكرمة وكان حاضرًا، وقال: مهلاً يا أبا سفيان، فوالله خفت للذي خفت أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه، أنتم تقتلون خالدًا على رأي رآه، وهذه قريش كلها تبايعت عليه، والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم. وأسلم من بعد خالد بن الوليد عمرو بن العاص، وحارس الكعبة نفسها عثمان بن طلحة، بل وظهر الإسلام في كل بيت من قريش سرًّا وعلانية؛ وبهذه النتيجة   (1) انظر: زاد المعاد فيه تفصيل كثير (3/ 374، 375) , صلح الحديبية لأبي فارس، ص286، 287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 الطيبة يمكننا القول بأن عمرة القضاء هذه قد فتحت أبواب قلوب أهل مكة قبل أن يفتح المسلمون أبواب مكة نفسها) (1). ويقول الأستاذ عباس العقاد: ( ... وحسبك أن عمرة القضاء هذه قد جمعت في آثارها من أسباب الإقناع بالدعوة المحمدية ما أقنع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وهما في رجاحة العقل والخلق مثلان متكافئان يحتذى بهما) (2). 1 - إسلام عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: ونترك عمرو بن العاص يحدثنا عن إسلامه، حيث قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش، كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوًا منكرًا، وإني قد رأيت أمرًا، فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي، قلت: فاجمعوا لنا ما نهديه له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم (3) , فجمعنا له أدمًا كثيرًا ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده، قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو دخلت على النجاشي، وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني أجزأت عنها (4) , حيث قتلت رسول محمد، قال: فدخلت عليه، فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبًا صديقي، أهديت إليَّ من بلادك شيئًا؟ قال: قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت إليك أدمًا كثيرًا، قال: ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه, ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقًا منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لقتله قال: قلت: أيها الملك أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه, كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال   (1) انظر: الرسول القائد، ص209، 210. (2) انظر: عبقرية محمد، ص69. (3) الأدم: الجلد. (4) أجزأت عنها: كفيتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 رأيي عما كان عليه، وكتمت على أصحابي إسلامي ثم خرجت عامدًا إلى رسول الله لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم (1)، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم، فحتى متى؟ قال: قلت: والله ما جئت إلا لأسلم، قال: فقدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم خالد بن الوليد، فأسلم، وبايع، ثم دنوت، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمرو، بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها» قال: فبايعته ثم انصرفت (2). وفي رواية قال: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: «ما لك يا عمرو؟» قال: قلت: أردت أن أشترط, قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يُغفر لي, قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» (3). 2 - إسلام خالد بن الوليد - رضي الله عنه -: وهذا خالد بن الوليد يحدثنا عن قصة إسلامه فيقول: ( .. لما أراد الله بي من الخير ما أراد قذف في قلبي حب الإسلام وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد، فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني مُوضع في غير شيء وأن محمدًا سيظهر، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيل المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر آمنًا منا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا -وكانت فيه خيرة- فاطلع على ما في أنفسنا من الهموم فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعًا وقلت: الرجل ممنوع، وافترقنا وعدل عن سنن خيلنا وأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشًا بالحديبية ودافعته قريش بالروح قلت في نفسي: أي شيء بقي؟ أين المذهب إلى النجاشي؟ فقد اتبع محمدًا، وأصحابه آمنون عنده، فأخرج إلى هرقل؟ فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية، فأقيم مع عجم تابعًا، أو أقيم في داري فيمن بقي؟ فأنا على ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضية، فتغيبت فلم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتابًا فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام, وعَقْلُك عَقْلُك، ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به؟ فقال: ما مثله جهل الإسلام، ولو كان جعل   (1) استقام المنسم: تبين الطريق ووضح. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص494. (3) مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله، رقم 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 نكايته وجده مع المسلمين على المشركين لكان خيرًا له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة. قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام وسرني مقالة رسول الله، قال خالد: وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة جديبة، فخرجت إلى بلد أخضر واسع، فقلت: إن هذه لرؤيا .. فلما قدمت المدينة قلت: لأذكرنها لأبي بكر، قال: فذكرتها فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك، فلما أجمعت للخروج إلى رسول الله قلت: من أصاحب إلى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أكلة رأس (1) , وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد فاتبعناه فإن شرف محمد على العرب، فأبى أشد الإباء، وقال: لو لم يبق غيري من قريش ما اتبعته أبدًا، فافترقنا، وقلت: هذا رجل موتور يطلب وترًا، قد قتل أبوه وأخوه ببدر، فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل الذي قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان، فلقيت عثمان بن طلحة، قلت: فاطوِ ما ذكرت من قُتل من آبائه فكرهت أذكِّره، ثم قلت: وما عليَّ وإني راحل من ساعتي، فذكرت له ما صار الأمر إليه فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر، لو صب عليه ذنوب (2) من ماء لخرج، قال: وقلت له نحو ما قلت لصاحبيه، فأسرع في الإجابة، وقال: لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بضح مناخة، قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج، إن سبقني أقام وإن سبقته أقمت عليه، قال: فأدلجنا سحرًا فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة، فنجد عمرو بن العاص بها, فقال: مرحبا بالقوم، فقلنا: وبك، قال: مسيركم؟ قلنا: ما أخرجك؟ قال: فما الذي أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم قال: وذلك الذي أقدمني. قال: فاصطحبنا جميعًا حتى قدمنا المدينة فأنخنا بظاهر الحرة ركابنا، فأُخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بنا، فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيني أخي فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم، فأسرعت المشي فطلعت عليه، فما زال يتبسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: «الحمد لله الذي هداك, قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير» قلت: يا رسول الله قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندًا عن الحق, فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يجب ما كان قبله» قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: «اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صد عن   (1) أي هم قليل يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل. (2) الذنوب: الدلو العظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 سبيلك» قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بى أحد من أصحابه فيما حزبه (1). وفي إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما دروس ولطائف وعبر منها: أ- غضبة النجاشي تدل على صدق إيمانه وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبه للمسلمين، وصدق النجاشي كان له أثر في إيمان عمرو بن العاص، ودخوله في الإسلام، وبذلك نال النجاشي أجرًا عظيمًا حيث جذب إلى الإسلام رجلاً من عظماء قريش (2). ب- كان إسلام عمرو بن العاص نصرًا كبيرًا للإسلام، والمسلمين فلقد سخر عقله الكبير ودهاءه العظيم لصالح دعوة الإسلام، وخسر الكفار بإسلامه خسارة كبيرة؛ لأنهم كانوا يعدونه لعظائم الأمور التي تحتاج إلى دهاء ومقدرة على التأثير وخاصة فيما يتعلق بعدائهم مع المسلمين (3). ج- أدرك خالد بن الوليد أن العاقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمل قوله: لقد شهدت هذه المواطن كلها على محمد فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمدًا سيظهر (4) , وفي هذا عبرة لكل الذين يحاربون الإسلام (5). د- الاهتمام بالبشر طريق من طرق التأثير عليهم، وكسبهم إلى الصف المؤمن ولذلك قال رسول الله للوليد بن الوليد: ما مثل خالد يجهل الإسلام, ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين لكان خيرًا له ولقدمناه على غيره (6)، فكانت لهذه الكلمات البليغة أعظم الأثر في تحول قلب خالد وتوجهه نحو الإسلام، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليمًا في مخاطبة النفوس والتأثير عليها، فلقد أدرك مواهب خالد في القيادة والزعامة فوعد بتمكينه من ذلك وتقديمه على غيره في هذا المضمار، ومدح صلى الله عليه وسلم سداد رأيه ورجاحة عقله، ونضج فكره، فانتزع صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات كل الجوانب التي تجعل خالدًا يظل على الشرك الذي لم يكن مقتنعًا به إلا بمقدار ما حصل له فيه من قيادة وتصدر، فلما كان ما هيأه له المشركون سيحصل له إذا دخل في الإسلام، واطمأن بأنه لو أسلم لن يكون في آخر القائمة، ولن يكون مهملا, شجعه ذلك على التغلب على وساوس إبليس، ورجح ما اطمأنت إليه نفسه من الميل إلى الإسلام فعزم على   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 239، 240)، التاريخ الإسلامي، (7/ 95). (2) انظر: التاريخ الإسلامي (7/ 90). (3) نفس المصدر (7/ 91). (4) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص263. (5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (7/ 95). (6) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (7/ 95). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 الدخول فيه. لقد كان إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد قوة للإسلام وضعفًا للشرك, وكتب الله على أيديهما صفحات مشرقة من تاريخ المسلمين الجهادي أصبحت باقية في ذاكرة الأمة وتاريخها المجيد على مر الدهور وكر العصور، توالي الأزمان (1). * * * المبحث الرابع سرية مؤتة (8 هـ) أولاً: أسبابها وتاريخها: أشعل عرب الشام فتيل الصراع بين المسلمين والبيزنطيين، فقد دأبت قبيلة كلب من قضاعة التي كانت تنزل على دومة الجندل على مضايقة المسلمين، وحاولت أن تفرض عليهم نوعًا من الحصار الاقتصادي عن طريق إيذائها للتجار الذين كانوا يحملون السلع الضرورية من الشام إلى المدينة، ولذلك غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة كلب بدومة الجندل سنة (5 هـ) لكنه وجدهم قد تفرقوا, كما أن رجالا من جذام ولخم قطعوا الطريق على دحية بن خليفة الكلبي عند مروره بحسمى بعد إنجازه لمهمة أناطها به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستلبوا كل ما معه، فكانت سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في سنة 6هـ, ويضاف إلى ذلك أيضا ما قامت به قبيلتا مذحج وقضاعة من اعتداء على زيد بن حارثة وصحبه في العام المذكور (6 هـ) , وذلك عندما ذهبوا إلى وادي القرى في بعثة بغرض الدعوة إلى الله، وبعد صلح الحديبية أخذ هذا المسلك العدواني يأخذ منحنى أكثر خطورة (2) , بعد مقتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله إلى حاكم (بصرى) التابع لحاكم الروم، فقد قام شرحبيل بن عمرو الغساني بضرب عنق رسول رسول الله, ولم تجر العادة بقتل الرسل والسفراء، كما أن الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق أساء استقبال مبعوث رسول الله وهدد بإعلان الحرب على المدينة، ثم حدث بعد ذلك بما يزيد قليلا عن العام أن بعث رسول الله سرية بقيادة عمرو بن كعب الغفاري ليدعو إلى الإسلام في مكان يقال له (ذات أطلاح) فلم يستجب أهل المنطقة إلى الإسلام وأحاطوا بالدعاة من كل مكان وقاتلوهم حتى قتلوهم جميعًا إلا أميرهم, كان جريحًا فتحامل على جرحه حتى وصل إلى المدينة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) , وقد قام نصارى الشام بزعامة الإمبراطورية الرومانية بالاعتداءات على من يعتنق الإسلام أو يفكر بذلك، فقد قتلوا والي مَعَانَ حين أسلم، وقتل والي الشام من أسلم من   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (7/ 95). (2) انظر: المسلمون والروم في عصر النبوة، عبد الرحمن أحمد سالم، ص87. (3) انظر: تاريخ الطبري (3/ 103). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 عرب الشام (1). كانت هذه الأحداث المؤلمة وبخاصة مقتل سفير رسول الله الحارث بن عمير الأزدي، محركة لنفوس المسلمين، وباعثًا ليضعوا حدًّا لهذه التصرفات النصرانية العدوانية، ويثأروا لإخوانهم في العقيدة الذين سُفكت دماؤهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ونبينا محمد رسول الله (2). كما أن تأديب عرب الشام التابعين للدولة الرومانية والذين دأبوا على استفزاز المسلمين وتحديهم وارتكاب الجرائم ضد دعاتهم أصبح هدفًا مهمًّا، لأن تحقيق هذا الهدف معناه فرض هيبة الدولة الإسلامية في تلك المناطق بحيث لا تتكرر مثل هذه الجرائم في المستقبل, وبحيث يأمن الدعاة المسلمون على أنفسهم ويأمن التجار المترددون بين الشام والمدينة من كل أذى يحول دون وصول السلع الضرورية إلى المدينة (3). وفي سنة 8هـ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز للقتال، فاستجابوا للأمر النبوي وحشدوا حشودًا لم يحشدوها من قبل، إذ بلغ عدد المقاتلين في هذه السرية ثلاثة آلاف مقاتل، واختار النبي صلى الله عليه وسلم للقيادة ثلاثة أمراء على التوالي: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة (4) , فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى عبد الله ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة (5). وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش الإسلامي أن يأتوا المكان الذي قتل فيه الحارث بن عمير الأزدي - رضي الله عنه - وأن يدعوا من كان هناك إلى الإسلام فإن أجابوا فبها ونعمت, وإن أبوا استعينوا بالله عليهم وقاتلوهم (6). وقد زود الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش في هذه السرية وغيرها من السرايا بوصايا تتضمن آداب القتال في الإسلام (7) , فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بقوله: «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرًا، اغزوا باسم الله، في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا، ولا امرأة ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقربوا نخلا، ولا تقطعوا شجرًا، ولا تهدموا بناء, وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث: فإما الإسلام، وإما الجزية،   (1) انظر: خاتم النبيين (2/ 1139) نقلا عن الصراع مع الصليبيين لأبي فارس، ص20. (2) انظر: الصراع مع الصليبيين لأبي فارس، ص20. (3) انظر: المسلمون والروم في عصر النبوة، ص89. (4) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص20. (5) البخاري، كتاب المغازي (5/ 102) رقم 4261. (6) انظر: السيرة الحلبية (2/ 787). (7) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 وإما الحرب ... » (1). ثانيًا: وداع الجيش الإسلامي: لما تجهز الجيش الإسلامي وأتم استعداده، توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يودعون الجيش, ويرفعون أكف الضراعة لله عز وجل أن ينصر إخوانهم المجاهدين، لقد سلموا عليهم وودعوهم بهذا الدعاء: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين (2). ولما ودع الناس عبد الله بن رواحة وسلموا عليه بكى وانهمرت الدموع من عينيه ساخنة غزيرة, فتعجب الناس من ذلك، وقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا وصبابة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار (وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) [مريم: 71] , فلست أدري كيف بي بالصدر بعهد الورود، فقال لهم المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة: لكني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فراغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشده الله من غاز وقد رشدا (3) وودع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة، فقال ابن رواحة يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرًا كالذي نصروا إني تفرست فيك الخير نافلة ... فراسة خالفتهم في الذي نظروا أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر (4) ثالثًا: الجيش يصل إلى معان واستشهاد الأمراء الثلاثة: لما وصل الجيش الإسلامي إلى معان من أرض الشام -وهي الآن محافظة من محافظات الأردن- بلغه أن النصارى الصليبيين من عرب وعجم قد حشدوا حشودًا ضخمة لقتالهم، إذ حشدت القبائل العربية مائة ألف صليبي من لخم وجذام وبهراء وبلى, وعينت لهم قائدًا هو مالك بن رافلة, وحشد هرقل مائة ألف نصراني صليبي من الروم فبلغ الجيش مائتي ألف مقاتل، مزودين بالسلاح الكافي يرفلون في الديباج لينبهر المسلمون بهم وبقوتهم (5) , ولقد قام المسلمون في معان يومين يتشاورون في التصدي لهذا الحشد الضخم فقال بعضهم: نرسل إلى   (1) انظر: المغازي (2/ 757،758). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 21). (3) المصدر السابق (4/ 21). (4) انظر: مغازي رسول الله لعروة بن الزبير، ص204، 205. (5) انظر: شرح المواهب اللدنية (2/ 271). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة نخبره بحشود العدو, فإن شاء أمدنا بالمدد، وإن شاء أمرنا بالقتال (1) , وقال بعضهم لزيد بن حارثة قائد الجيش: وقد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيء (2)، ولكن عبد الله بن رواحة حسم الموقف بقوله: (يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون؛ الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة، فألهبت كلماته مشاعر المجاهدين، واندفع زيد بن حارثة بالناس إلى منطقة مؤتة جنوب الكرك يسير حيث آثر الاصطدام بالروم هناك، فكانت ملحمة سجل فيها القادة الثلاثة بطولة عظيمة انتهت باستشهادهم (3)، فقد استبسل زيد بن حارثة وتوغل في صفوف الأعداء وهو يحمل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم (4). ثم أخذ الراية جعفر وانبرى يتصدى لجموع المشركين الصليبيين، فكثفوا حملاتهم عليه، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، فلم تلن له قناة، ولم تهن له عزيمة، بل استمر في القتال, وزيادة في الإقدام ونزل عن فرسه وعقرها، وأخذ ينشد: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردًا شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها عليَّ إذا لاقيتها ضرابها (5) لقد أخذ - رضي الله عنه - اللواء بيده اليمنى فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت, فاحتضنه بعضديه وانحنى عليه حتى استشهد وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولقد أُثخن - رضي الله عنه - بالجراح إذ بلغ عدد جراحه تسعين بين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم, وليس من بينها جرح في ظهره بل كلها في صدره (6). روى الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: كنت في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى, ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين من طعنة أو رمية (7). ولقد عوض الله -تبارك وتعالى- جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأكرمه على شجاعته وتضحيته   (1) انظر: زاد المعاد (3/ 382). (2) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (1/ 396). (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 468). (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 25). (5) المصدر نفسه (4/ 26). (6) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص58. (7) البخاري، كتاب المغازي (5/ 102) رقم 4261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 بأن جعل له جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء، فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى عامر قال: كان ابن عمر إذا حيا ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين (1). وبعد استشهاد جعفر بن أبي طالب استلم الراية عبد الله بن رواحة الأنصاري - رضي الله عنه - وامتطى جواده، وهو يقول: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه إن أجلب (2) الناس وشدوا الرنة (3) ... ما لي أراك تكرهين الجنة قد طال ما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنة يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هُديت (4) ويذكر أن ابن عم لعبد الله بن رواحة قد قدم له قطعة من لحم وقال له: شد بهذا صلبك، فإنك لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذها من يده ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع جلبة وزخامًا في جبهة القتال، فقال يخاطب نفسه: وأنت في الدنيا؟ ثم ألقى قطعة اللحم من يده وتقدم يقاتل العدو حتى استُشهد - رضي الله عنه - , وكان ذلك في آخر النهار (5). رابعًا: المسلمون يختارون خالد بن الوليد قائدًا: ولما استشهد عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -، وسقطت الراية من يده فالتقطها ثابت بن أقرم بن ثعلبة بن عدي بن العجلان البلوي الأنصاري، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد (6). وجاء في إمتاع الأسماع أن ثابت بن أقرم نظر إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان، فقال: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سن، فقد شهدت بدرًا، فقال ثابت: خذه أيها الرجل فوالله ما أخذته إلا لك، فأخذه خالد بن الوليد - رضي الله عنه - (7). وأصبحت الخطة الأساسية المنوطة بخالد في تلك الساعة العصيبة من القتال، أن ينقذ المسلمين من الهلاك الجماعي، فبعد أن قدر الموقف واحتمالاته المختلفة قدرًا دقيقًا، ودرس ظروف المعركة درسًا وافيًا وتوقع نتائجها، اقتنع بأن الانسحاب بأقل خسارة ممكنة هو الحل الأفضل، فقوة العدو تبلغ (66) ضعفًا لقوة   (1) البخاري، كتاب المغازي، (5/ 103) رقم 4264. (2) إن أجلب الناس: صاحوا واجتمعوا. (3) الرنة: صوت ترجيع شبه البكاء. (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 26، 27). (5) انظر: الصرع مع الصليبيين، ص61. (6) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، (4/ 27). (7) انظر: إمتاع الأسماع (1/ 348، 349). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 المسلمين، فلم يبق أمام هؤلاء إلا الانسحاب المنظم وعلى هذا الأساس وضع خالد الخطة التالية: أ- الحيلولة بين جيش الروم وجيش المسلمين، ليضمن لهذا الأخير سلامة الانسحاب. ب- لبلوغ هذا الهدف، لا بد من تضليل العدو بإيهامه أن مددًا ورد إلى جيش المسلمين فيخفف من ضغطه وهجماته, ويتمكن المسلمون من الانسحاب، وصمد خالد حتى المساء عملا بهذه الخطة، وغير في ظلام الليل مراكز المقاتلين في جيشه، فاستبدل الميمنة بالميسرة، ومقدمة القلب بالمؤخرة، وفي أثناء عملية الاستبدال اصطنع ضجة صاخبة وجلبة قوية، ثم حمل على العدو، عند الفجر، بهجمات سريعة متتالية وقوية ليدخل في روعه إن إمدادات كثيرة وصلت إلى المسلمين (1). ونجحت الخطة؛ إذ بدا للعدو صباحًا أن الوجوه والرايات التي تواجهه جديدة لم يرها من قبل، وأن المسلمين يقومون بهجمات عنيفة، فأيقن أنهم تلقوا إمدادات، وأن جيشًا جديدًا نزل إلى الميدان، وكان البلاء الحسن الذي أبلاه المسلمون قد فت في عضد الروم وحلفائهم، فأدركوا أن إحراز نصر حاسم ونهائي على المسلمين أمر مستحيل، فتخاذلوا وتقاعسوا عن متابعة الهجوم، وضعف نشاطهم واندفاعهم، فخف الضغط عن جيش المسلمين، وانتهز خالد الفرصة فباشر الانسحاب, وكانت عملية التراجع التي قام بها خالد في أثناء معركة (مؤتة) من أكثر العمليات في التاريخ العسكري مهارة ونجاحًا، بل إنها تتفق وتتلائم مع التكتيك الحديث للانسحاب, فقد عمد خالد إلى سحب الجناحين بحماية القلب، ولما أصبح الجناحان بمنأى عن العدو، وفي مأمن منه، عمد إلى سحب القلب بحماية الجناحين، إلى أن تمكن وضمن سلامة الانسحاب كليًّا (2)، ويقول المؤرخون: إن خسارة المسلمين لم تتعد الاثني عشر قتيلا في هذه المعركة، وأن خالدًا قال: (لقد انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي إلا صفيحة يمانية) (3). ويمكن القول إن خالدًا بخطته تلك، قد أنقذ الله المسلمين به من هزيمة ماحقة وقتل محقق, وأن انسحابه كان قمة النصر بالنسبة إلى ظروف المعركة، حيث يكون الانسحاب في ظروف مماثلة أصعب حركات القتال، بل أجداها وأنفعها (4). خامسًا: معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وموقف أهل المدينة من الجيش: ظهرت معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم في أمر هذه السرية, فقد نعى المسلمين في المدينة زيدًا وجعفرًا   (1) البداية والنهاية (4/ 247)، الواقدي (2/ 764). (2) انظر: معارك خالد بن الوليد، د. ياسين سويد، ص173. (3) البخاري، كتاب المغازي (5/ 103) رقم 4266. (4) انظر: معارك خالد بن الوليد، ص175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 وابن أبي رواحة قبل أن يصل إليه خبرهم، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع للسرية وذرفت عيناه الدموع، ثم أخبرهم بتسلم خالد الراية، وبشرهم بالفتح على يديه وأسماه سيف الله (1) , وبعد ذلك قدم من أخبرهم بأخبار السرية، ولم يزد عما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم (2). ولما دنا الجيش من حول المدينة، تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون, ولقيهم الصبيان ينشدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال: خذوا الصبيان واحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأتي بعبد الله، فأخذه فحمله على يديه، وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار, أفررتم في سبيل الله، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى (3). وإن الإنسان ليعجب من هذه التربية النبوية التي صنعت من الأطفال الصغار، رجالاً وأبطالاً، يرون العودة من المعركة دون شهادة في سبيل الله، فرارًا من سبيل الله، لا يكافأون عليه إلا بحثو التراب في وجوههم، فأين شبابنا المتسكعون في الشوارع، من هذه النماذج الرفيعة من الرجولة الفذة المبكرة؟ ولن تستطيع الأمة أن ترتفع إلى هذه الأهداف النبيلة والقمم الشوامخ إلا بالتربية الإسلامية الجادة القائمة على المنهاج النبوي الكريم (4). سادسًا: دروس وعبر وفوائد: ففي هذه الغزوة دروس وعبر كثيرة منها: 1 - أهمية هذه المعركة: تعتبر هذه المعركة من أهم المعارك التي وقعت بين المسلمين وبين النصارى الصليبيين من عرب وعجم؛ لأنها أول صدام مسلح ذي بال بين الفريقين، وأثرت تلك المعركة على مستقبل الدولة الرومانية، فقد كانت مقدمة لفتح بلاد الشام وتحريرها من الرومان. ونستطيع أن نقول إن تلك الغزوة هي خطوة عملية قام بها النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء على دولة الروم المتجبرة في بلاد الشام، فقد هز هيبتها من قلوب العرب، وأعطت فكرة عن الروح المعنوية العالية عند المسلمين، كما أظهرت ضعف الروح المعنوية في القتال عند الجندي الصليبي النصراني (5) , وأعطت فرصة للمسلمين للتعرف على حقيقة قوات الروم، ومعرفة أساليبهم في القتال. 2 - حب الشهادة باعث للتضحية: إن الصبر والثبات والتضحية التي تجلت في كل واحد من الأمراء الثلاثة وسائر الجند كان   (1) انظر: نضرة النعيم (1/ 360). (2) انظر: البداية والنهاية (4/ 255). (3) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص328، تاريخ الذهبي، ص491. (4) انظر: دروس وعبر من الجهاد النبوي، ص358. (5) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 مبعثها الحرص على ثواب المجاهدين, والرغبة في نيل الشهادة لكي يكرمهم الله برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, ويدخلوا جنات الله الواسعة التي فيها ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. 3 - تميز هذه المعركة عن سائر المعارك: فهي الوحيدة التي جاء خبرها من السماء، إذ نعى النبي صلى الله عليه وسلم استشهاد الأبطال الثلاثة قبل أن يصل الخبر من أرض المعركة، بل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أحداثها، وتمتاز أيضا عن غيرها بأنها الوقعة الوحيدة التي اختار النبي صلى الله عليه وسلم لها ثلاثة أمراء على الترتيب: زيد بن حارثة، جعفر بن أبي طالب، عبد الله بن رواحة (1). 4 - إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لآل جعفر: لما أصيب جعفر دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسماء بنت عميس فقال: «ائتيني ببني جعفر» فأتت بهم فشمهم وقبلهم وذرفت عيناه، فقالت أسماء: أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: «نعم أصيبوا هذا اليوم»، فجعلت تصيح وتولول, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعامًا، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» (2). وتلحظ في هذا الخبر عدة أمور منها: أ- جواز بكاء المرأة على زوجها المتوفى: أُخذ هذا من فعل أسماء بنت عميس رضي الله عنها حينما نعى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها ومن معه، فبكت وصاحت، فلم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينهها عن ذلك، ولو كان ممنوعًا لنهاها عن ذلك، والبكاء الذي نهى عنه الإسلام هو ما كان سائدًا عند أهل الجاهلية من النواح واللطم وشق الجيوب، والتبرم بقضاء الله وقدره، وما إلى ذلك مما يكون سببًا في معصية الخالق سبحانه. ب- استحباب صنع الطعام لأهل الميت: وقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أن يصنعوا طعامًا لآل جعفر، وهذا فيه مواساة لأهل المتوفى وتخفيف مصابهم، وفي الوقت نفسه تكافل بينهم وهذه السنة خالفتها بعض الشعوب الإسلامية، وأصبح أهل الميت يصنعون الطعام للقادمين، وهذا أمر قبيح ينبغي أن يبتعد عنه المسلمون (3). هذا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البكاء بعد ثلاث, فقد دخل على أسماء وقال لها: «لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي» فجيء بهم كأنهم أفرخ، فدعا بالحلاق فحلق   (1) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص66. (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 28). (3) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 لهم رؤوسهم ثم قال: «أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي»، ثم أخذ بيمين عبد الله وقال: «اللهم اخلف جعفرًا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه» قالها ثلاثا (1). ولما ذكرت له أمهم يتمهم وضعفهم قال لها: «العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة» (2). وهذا منهج نبوي كريم خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاية وتكريم أبناء الشهداء لكي تسير الأمة على نهجه الميمون (3). ج- زواج أبي بكر الصديق من أسماء بنت عميس: وبعد أن انقضت عدة أسماء بنت عميس خطبها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فتزوجها، وولدت له محمد بن أبي بكر، وبعدما توفي الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب، وولدت له أولادًا - رضي الله عنه - وعنها وعنهم أجمعين (4). وقد ذكر ابن كثير أن أسماء بنت عميس رثت زوجها جعفر بن أبي طالب بقصيدة تقول فيها: فآليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا فلله عينا من رأى مثله فتى ... أكر وأحمر في الهياج وأصبرا (5) 5 - من فقه القيادة: إنه درس عظيم يقدمه لنا الصحابي الجليل ثابت بن أقرم العجلاني، عندما أخذ اللواء بعد استشهاد عبد الله بن رواحة آخر الأمراء، وذلك أداء منه للواجب؛ لأن وقوع الراية معناه هزيمة الجيش، ثم نادى المسلمين أن يختاروا لهم قائدًا، وفي زحمة الأحداث قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل .. فاصطلح الناس على خالد. وفي رواية أن ثابتًا مشى باللواء إلى خالد، فقال خالد: لا آخذه منك، أنت أحق به فقال: والله ما أخذته إلا لك. إن مضمون كلتا الروايتين واحدٌ، أن ثابتًا جمع المسلمين أولاً وأعطى القوس باريها, فأعطى الراية أبا سليمان خالد بن الوليد (6) , ولم يقبل قول المسلمين: أنت أميرنا، ذلك أنه يرى فيهم من هو أكفأ منه لهذا العمل، وحينما يتولى العمل من ليس له بأهل، فإن الفساد متوقع، والعمل حينما يكون لله تعالى، لا يكون فيه أثر لحب الشهرة، أو حظ النفس. إن ثابتًا لم يكن عاجزًا عن قيادة المسلمين، وهو ممن حضر بدرًا، ولكنه رأى من الظلم أن يتولى عملاً وفي المسلمين من هو أجدر به منه، حتى ولو لم يمضِ على إسلامه أكثر من   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 430). (2) انظر: البداية والنهاية (4/ 353). (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 430). (4) انظر: البداية والنهاية (4/ 353). (5) المصدر نفسه (4/ 352). (6) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (7/ 124). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 ثلاثة أشهر؛ لأن الغاية هي السعي لتنفيذ أوامر الله على الوجه الأحسن والطريقة الأمثل (1). إن كثيرًا ممن يتزعمون قيادة الدعوة الإسلامية اليوم يضعون العراقيل أمام الطاقات الجديدة، والقدرات الفذة خوفًا على مكانتهم القيادية، وامتيازاتهم الشخصية، وأطماعهم الدنيوية، فعلى أولئك القادة أن يتعظوا من هذا الدرس البليغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. 6 - درس نبوي في احترام القيادة: قال عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه -: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مدديّ من اليمن (2) ... ومضينا فلقينا جموع الروم، فيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وله سلاح مذهب، فجعل الرومي يضرب بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه بسيفه، وفر الرومي، فعلاه بسيفه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه بعض السلب, قال عوف: فأتيت خالدًا، وقلت له: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته قلت: لتردنها إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأبى أن يرد عليه. قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله فقصصت عليه قصة المددي، وما فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خالد ما حملك على ما صنعت؟» قال: استكثرته فقال: «رد عليه الذي أخذت منه». قال عوف: فقلت: دونكها يا خالد، ألم أوف لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذلك؟» فأخبرته قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره» (3). هذا موقف عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم في حماية القادة والأمراء من أن يتعرضوا للإهانة بسبب الأخطاء التي قد تقع منهم، فهم بشر معرضون للخطأ، فينبغي السعي في إصلاح خطئهم من غير تنقص ولا إهانة، فخالد حين يمنع ذلك المجاهد سلبه لم يقصد الإساءة إليه، وإنما اجتهد فغلَّب جانب المصلحة العامة، حيث استكثر ذلك السلب على فرد واحد، ورأى أنه إذا دخل في الغنيمة العامة نفع عددًا أكبر من المجاهدين، وعوف بن مالك أدى مهمته في الإنكار على خالد، ثم رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما لم يقبل خالد قوله، وكان المفترض أن تكون مهمته قد انتهت بذلك؛ لأنه والحال هذه قد دخل في أمر من أوامر الإصلاح، وقد تم الإصلاح على يديه، ولكنه تجاوز هذه المهمة حيث حول القضية من قضية إصلاحية إلى قضية شخصية، فأظهر   (1) انظر: من معين السيرة للشامي، ص376. (2) مددي أي جاء مددا، وفي رواية: رجل من حمير. (3) أبو داود، كتاب الجهاد، رقم 2719. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 شيئًا من التشفي من خالد، ولم يقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل أنكر عليه إنكارًا شديدًا وبيَّن حق الولاة على جنودهم، وكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر خالدًا بعدم رد السلب على صاحبه لا يعني أن حق ذلك المجاهد قد ضاع؛ لأنه لا يمكن أن يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانًا بجريرة غيره، فلا بد أن ذلك المجاهد قد حصل منه الرضا، إما بتعويض عن ذلك السلب أو بتنازل منه أو غير ذلك فيما لا يذكر تفصيله في الخبر (1). إن الأمة التي لا تقدر رجالها ولا تحترمهم لا يمكن أن يقوم فيها نظام، إن التربية النبوية استطاعت بناء هذه الأمة بناء سليمًا، وما أحرى المسلمين اليوم أن يكون كل إنسان في مكانه، وأن يحترم ويقدر بمقدار ما يقدم لهذا الدين، ويبقى الجميع بعد ذلك في الإطار العام الذي وصف الله به المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة: 54]. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «هل أنتم تاركون لي أمرائي» وسام آخر يضاف إلى خالد - رضي الله عنه - حيث عد من أمراء الرسول صلى الله عليه وسلم, وهذا من المنهاج النبوي الكريم في تقدير الرجال (2). 7 - مقاييس الإيمان وأثرها في المعارك: توقف الجيش الإسلامي في معان يناقش كثرة جيش العدو، وكانت المقاييس المادية لا تشجعهم على خوض المعركة، ومع ذلك تابعوا طريقهم ودخلوا بمقاييس إيمانية، فهم خرجوا يطلبون الشهادة فلماذا إذن يفرون مما خرجوا لطلبه. قال زيد بن أرقم: كنت يتيمًا لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته ينشد أبياتًا منها: وجاء المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مشتهى الثواء فلما سمعتها منه بكيت, قال: فخفقني بالدرة، وقال: وما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل (3). إن التأمل بعمق في غزوة مؤتة يساعدنا في معالجة الهزيمة النفسية والروحية التي تمر بها الأمة, وإقامة الحجة على القائلين بأن سبب هزيمتنا التفوق التكنولوجي لدى الأعداء. لقد سجل ابن كثير رأيه في هذه المعركة وقال: ( ... هذا عظيم جدا أن يقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (7/ 130). (2) انظر: معين السيرة، ص378. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 24، 25). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلا، وقد قتل من المشركين خلق كثير، هذا خالد وحده يقول: لقد اندقَّت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقى في يدي إلا صفيحة يمانية, فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟ دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن في ذلك الزمان وفي كل أوان ... ) (1). 8 - من شعر كعب بن مالك في بكاء قتلى مؤتة: حيث قال: في ليلة وردت عليَّ همومها ... طورًا أحن (2) وتارة أتململ (3) واعتادني حزن فبت كأنني ... ببنات نعشٍ والسماك موكَّل (4) وكأنما بين الجوانح والحشى ... مما تأوبني شهاب مدخل (5) وجدا على النفر الذين تتابعوا ... يومًا بمؤتة أسندوا لم ينقلوا صلى الإله عليهم من فتية ... وسقى عظامهم الغمام المسبل (6) صبروا بمؤتة للإله نفوسهم ... حذر الردى ومخافة أن ينكلوا (7) فمضوا أمام المسلمين كأنهم ... فُنُق عليهن الحديد المرفل (8) إذ يهتدون بجعفر ولوائه ... قدام أولهم فنعم الأول حتى تفرجت الصفوف وجعفر ... حيث التقى وعث الصفوف مجدل فتغير القمر المنير لفقده ... والشمس قد كسفت وكادت تأفل (9) هذه بعض الأبيات التي بكى بها كعب بن مالك شهداء مؤتة, ولم يتغيب حسان بن ثابت - رضي الله عنه - عن نظم القصائد في بكاء قتلى مؤتة، وبكاء جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة, فقد كانت المؤسسة الإعلامية تقوم بدورها بتفوق وجدارة وتتعبد المولى عز وجل بما أخصها به من ملكات ومواهب شعرية فذة. * * *   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 259). (2) أحن: من الحنين, وفي رواية أخن: صوت يخرج من الأنف عند البكاء. (3) أتململ: أتقلب متبرمًا بمضجعي. (4) يريد أنه بات يرعى النجوم طول ليله من طول السهاد. (5) المدخل: النافذ إلى الداخل. (6) المسبل: الممطر. (7) صبروا نفوسهم: حبسوها على ما يريدون، ينكلوا: يرجعوا هائبين. (8) فنق: الفحول من الإبل والمرفل: الذي تنجر أطرافه على الأرض، يريد أن دروعهم سابغة. (9) تأفل: تغيب، السيرة النبوية لابن هشام (4/ 33، 34). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 المبحث الخامس سرية ذات السلاسل لم تمضِ سوى أيام على عودة الجيش من مؤتة إلى المدينة حتى جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل، وذلك لتأديب قضاعة التي غرها ما حدث في مؤتة التي اشتركت فيها إلى جانب الروم, فتجمعت تريد الدنو من المدينة، فتقدم عمرو بن العاص في ديارها ومعه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، ولما وصل إلى مكان تجمع الأعداء بلغه أن لهم جموعًا كثيرة، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب المدد فجاءه مدد بقيادة أبي عبيدة ابن الجراح (1) , وقاتل المسلمون الكفار وتوغل عمرو في ديار قضاعة التي هربت وتفرقت وانهزمت، ونجح عمرو في إرجاع هيبة الإسلام لأطراف الشام، وإرجاع أحلاف المسلمين لصداقتهم الأولى، ودخول قبائل أخرى في حلف المسلمين، وإسلام الكثيرين من بني عبس، وبني مرة وبني ذبيان، وكذلك فزارة وسيدها عيينة بن حصن في حلف مع المسلمين، وتبعها بنو سليم، وعلى رأسهم العباس بن مرداس، وبنو أشجع, وأصبح المسلمون هم الأقوى في شمال بلاد العرب، وإن لم يكن في بلاد العرب جميعهًا (2). وفي هذه السرية دروس وعبر وحكم منها: 1 - إخلاص عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: قال عمرو بن العاص: بعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذ عليك ثيابك، وسلاحك ثم ائتني فأتيته، وهو يتوضأ، فصعد في النظر، ثم طأطأ، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش (3) فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك في المال رغبة صالحة، قال: قلت: يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح» (4). فهذا الموقف يدل على قوة إيمان وصدق وإخلاص عمرو بن العاص للإسلام وحرصه على ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بين له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المال الحلال نعمة إذا وقع بيد الرجل الصالح؛ لأنه يبتغي به وجه الله ويصرفه في وجوه الخير ويعف به نفسه وأسرته (5).   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 471). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 433). (3) جيش سرية ذات السلاسل. (4) رواه ابن حبان كما في الموارد 2277، صحيح السيرة، ص508، صححه الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد. (5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (7/ 133). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 2 - الاتحاد قوة والتنازع ضعف: عندما وصل المدد الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيادة أبي عبيدة بن الجراح لجيش عمرو في ذات السلاسل، أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ويتقدم عمرو، فقال له عمرو: إنما قدمت علي مددًا لي، وليس لك أن تؤمني، وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلي مددًا، فقال المهاجرون كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه، فقال عمرو: لا، بل أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، وكان حسن الخلق، لين الطبع, قال: لتطمئن يا عمرو، وتعلمن أن آخر ما عهد إلي رسول الله أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا، وأنك والله إن عصيتني لأطيعنك, فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس (1). لقد أدرك أبو عبيدة - رضي الله عنه - أن أي اختلاف بين المسلمين في سرية ذات السلاسل يؤدي إلى الفشل, ومن ثم تغلب العدو عليهم، ولهذا سارع إلى قطع النزاع، وانضم جنديًا تحت إمرة عمرو بن العاص امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم «لا تختلفا» (2). 3 - حرص عمرو بن العاص على سلامة قواته: ظهرت عبقرية عمرو العسكرية في ذات السلاسل في حرصه على وحدة الصف، وفي حرصه على سلامة قوته ويتجلى ذلك في عدة صور منها: أ- أنه كان يسير ليلاً ويختفي نهارًا: كان عمرو يدرك بثاقب بصره، وبعد نظره أن العدو يمكن أن يسعى إلى معرفة أخباره قبل اللقاء بينهما، فيستعد للقاء جيش المسلمين؛ ولهذا رأى عمرو - رضي الله عنه - أن السير ليلا والاختفاء نهارًا هو أفضل أسلوب للمحافظة على قواته وحقق بذلك أمرين مهمين: * إخفاء تحركاته عن عدوه وبذلك يضمن سلامة قواته. * حماية الجند من شدة الحر وحتى يبقى لهم نشاطهم فيصلون إلى مكان المواجهة، وهم أقوياء على مجابهة أعدائهم. ب- عدم السماح للجند بإيقاد النار: عندما طلب الجنود من عمرو أن يسمح لهم بإيقاد النار لحاجتهم الماسة إلى التدفئة منعهم من ذلك معتمدًا في ذلك على خبرته الحربية وعمق فكره العسكري وخوفًا من وقوع مفسدة أعظم من تلك المصلحة وهي أن يمتد الضوء فيكشف المسلمين، وهم قلة لأعدائهم فيهجموا عليهم, ويتجلى هذا الفقه في حزمه الشديد مع أصحابه عندما كلمه أبو بكر في ذلك   (1) انظر: مغازي رسول الله لعروة، ص207، وأسانيدها ضعيفة. (2) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 فقال: لا يوقد أحد منهم نارًا إلا قذفته فيها، فلما رجعوا إلى المدينة ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارًا فيرى عدوهم قلتهم (1) , فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على فعله. ج- منع الجند من مطاردة أعدائهم: عندما هزم المسلمون أعداءهم طمعوا فيهم، فأرادوا مطاردتهم وتتبع فلولهم، ولكن قائد السرية منع جنده من ذلك لئلا يترتب على هذه المطاردة مفسدة أعظم منها, وهي أن يقع المسلمون في كمين. ويتجلى هذا الفقه في قول عمرو بن العاص - رضي الله عنه - للرسول صلى الله عليه وسلم: وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد (2) , فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا التصرف الحكيم الذي حقق للجيش الأمن والحماية (3). 4 - من فقه عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29]. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا (4)، ولقد استُنبط بعض الأحكام من هذه القصة: أ- التيمم يقوم مقام الغسل بالنسبة للجنب مع وجود الماء إذا خشي أن يؤدي استخدام الماء إلى الضرر، فلقد تيمم عمرو بن العاص لما أصبح جنبًا مع وجود الماء عنده وصلى وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه. ب- يجوز الاجتهاد في عهده صلى الله عليه وسلم: فقد اجتهد عمرو بن العاص فتيمم وصلى وقد احتلم في تلك الليلة الباردة اعتمادًا على قوله تعالى (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29] فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهاده بل أقره على أمرين: الأول: جواز الاجتهاد، والثاني تصحيح اجتهاده. ج- من الأسباب المبيحة للتيمم تعذر استخدام الماء وإن وجد كالبرد الشديد. د- تجوز إمامة المتيمم بالمتوضئ: فقد صلى عمرو بن العاص وهو متيمم إمامًا بخمسمائة صحابي قد توضأوا، وأقره الرسول على ذلك ولم ينكر عليه.   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص509. (2) نفس المصدر، 509. (3) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص540. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص509، قال إبراهيم العلي: الحديث إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 هـ- اجتهاد عمرو بن العاص يدل على فقهه ووفور عقله، ودقة استنباطه الحكم من دليله (1). ولئن وقف الفقهاء عند هذه الحادثة يفرعون عليها الأحكام فإن الذي يستوقفنا (2) في السيرة منها تلك السرعة في أخذ عمرو للقرآن وصلته به حتى بات قادرًا على فقه الأمور من خلال الآيات وهو لم يمض على إسلامه أربعة أشهر، إنه الحرص على الفقه في دين الله، وقد يكون عمرو -وهذا احتمال وارد- على صلة بالقرآن قبل إسلامه يتتبع ما يستطيع الوصول إليه، وحينئذ نكون أمام مثال آخر من عظمة هذا القرآن الذي لوى أعناق الكافرين وجعلهم وهم في أشد حالات العداوة لهذا الدين يحاولون استماع هذا القرآن، كما رأينا ذلك في العهد المكي، ويؤيد هذا ما رأيناه من معرفته بالقرآن حينما طلب من النجاشي أن يسأل مهاجري الحبشة عن رأيهم في عيسى عليه السلام (3). 5 - من نتائج سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشمال: اتجهت حملات المسلمين العسكرية بعد صلح الحديبية نحو الشمال، وأصبح غرب الجزيرة وجنوبها الغربي حيث تقبع مكة آمنة في ظلال الصلح (4)، وحققت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدافها ومقاصدها في شمال الجزيرة، فوصلت إلى حدود الروم، فأمنت حدود الدولة الإسلامية، وبسطت هيبتها وأفشلت محاولات الإغارة على المدينة، وبذلك حققت سياسية النبي صلى الله عليه وسلم في حركة السرايا هدفين عظيمين هما: 1 - تأمين حماية الدين الإسلامي في الداخل. 2 - حمايته في الخارج (5). وما من شك أن المتتبع لأحداث السيرة النبوية الشريفة والمطلع على تفاصيلها ودقائقها بإمعان يجد بحق أن صلح الحديبية هو من أهم المكاسب السياسية، والعسكرية، والإعلامية، بل هو حصيلة كسب لأعظم معركة دارت بين الإسلام والوثنية في العهد النبوي، من حيث النتائج الإيجابية التي رسخت دعائم الإسلام، من جهة, وصدعت بفعلها قواعد الشرك والوثنية من جهة أخرى, وما حدث في خيبر من فتوح، وفي مؤتة من نصر، وفي ذات السلاسل من توسيع هيبة الدولة الإسلامية إلا نتائج تابعة لصلح الحديبية (6) وبسبب القدرة الفائقة في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع سنن الله في المجتمعات والشعوب، وبناء الدول. * * *   (1) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص210. (2) القائل هو صالح أحمد الشامي صاحب معين السيرة، ص381. (3) انظر: معين السيرة، ص381. (4) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص170. (5) الإعلام في صدر الإسلام، د. عبد اللطيف حمزة، ص173. (6) انظر: منهج الإعلام الإسلامي، ص337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 الفصل الخامس عشر غزوة فتح مكة (8 هـ) المبحث الأول أسبابها، والاستعداد للخروج والشروع فيه أولاً: أسبابها: 1 - ارتكبت قريش خطأ فادحًا عندما أعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة حليفة المسلمين بالخيل والسلاح والرجال، وهاجم بنو بكر وحلفاؤهم قبيلة خزاعة عند ماء يقال له الوتير، وقتلوا أكثر من عشرين من رجالها (1) , ولما لجأت خزاعة إلى الحرم الآمن -ولم تكن متجهزة للقتال- لتمنع بني بكر منه، قالت لقائدهم: يا نوفل، إنا قد دخلنا حرم إلهك! فقال نوفل: لا إله اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم (2) , عندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي، في أربعين من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأخبروه بما كان من بني بكر، وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريش بني بكر عليهم، ووقف عمرو بن سالم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال: يا رب إني ناشدٌ محمدًا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم وُلدًا، وكنا والدًا ... ثُمت أسلمنا فلم ننزع يدا (3) فانصر -هداك الله- نصرًا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدًا ... إن قريشًا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في (كَدَاءِ) رُصَّدا وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالوتير هجّدا ... وقتلونا ركَّعا وسُجَّدا   (1) انظر: الواقدي (2/ 781 - 784). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 39). (3) يريد أن أم عبد مناف وأم قصير خزاعيتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نُصرت يا عمرو بن سالم! (1) لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب» ولما عرض السحاب من السماء قال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب (2). وجاء في رواية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سمع وتأكد من الخبر أرسل إلى قريش فقال لهم: «أما بعد، فإنكم إن تبرؤوا من حلف بني بكر، أتُدوا خزاعة (3)، وإلا أوذنكم بحرب» فقال قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف صهر معاوية: إن بني بكر قوم مشائيم، فلا ندى ما قتلوا لنا سبد، ولا لبد (4)، ولا نبرأ من حلفهم فلم يبق على ديننا أحد غيرهم، ولكن نؤذنه بحرب (5). وفي هذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفاجئ قريشًا بالحرب وإنما خيرَّهم بين هذه الخصال الثلاث فاختاروا الحرب (6). 2 - أبو سفيان يحاول تلافي حماقة قريش: بعثت قريش أبا سفيان إلى المدينة لتمكين الصلح وإطالة أمده, وعندما وصل إلى المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض حاجته، أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجبه، فاستعان بكبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى يتوسطوا بينه وبين رسول الله، فأبوا جميعًا، فعاد أبو سفيان إلى مكة من غير أن يحظى بأي اتفاق أو عهد (7)، ومما يذكر عند نزوله في المدينة أنه دخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين، وأراد أن يجلس على فراش رسول الله طوته عنه، فقال: يا بنية, ما أدري، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟! قالت: بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس، قال: والله لقد أصابك بعدي شر (8). وهذا الموقف لا يستغرب من أم حبيبة، فهي ممن هاجر الهجرتين وقد قطعت صِلاتها بالجاهلية منذ أمد بعيد، إنها لم تر أباها منذ ست عشرة سنة، فلما رأته لم تر فيه الوالد الذي ينبغي أن يقدر ويحترم، وإنما رأت فيه رأس الكفر الذي وقف في وجه الإسلام وحارب رسوله تلك السنوات الطويلة (9) , وهذا ما كان يتصف به الصحابة رضي الله عنهم من تطبيق أحكام الإسلام في الولاء والبراء وإعزاز الإسلام والمسلمين. وفي مخاطبة أم حبيبة لأبيها بهذا الأسلوب -مع كونه أباها ومع مكانته العالية في قومه وعند العرب- دليلٌ على قوة إيمانها ورسوخ يقينها، لقد كان في   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 44). (2) المصدر نفسه (4/ 44) , البداية والنهاية (4/ 278). (3) أي تدفعوا دية قتلاهم. (4) السبد: الشعر واللبد: الصوف، يعني إن فعلنا ذلك لم يبق لنا شيء. (5) انظر: المطالب العالية (4/ 243) رقم 4361، قال ابن حجر: مرسل صحيح الإسناد. (6) انظر: التاريخ الإسلامي (7/ 164). (7) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص365. (8) انظر: البداية والنهاية (4/ 479). (9) انظر: معين السيرة، ص395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 سلوك أم حبيبة مظهر من اجتهاد الصحابة البالغ في إظهار أمر له أهميته البالغة في المحافظة على شخصية المسلم ودفع معنوياته إلى النماء والحيوية (1). وأمام نقض قريش للعهود والمواثيق مع المسلمين فقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة وتأديب كفارها، وقد ساعده على ذلك العزم -بعد توفيق الله- عدة أسباب منها: أ- قوة جبهة المسلمين الداخلية في المدينة وتماسكها: فقد تخلصت الدولة الإسلامية من غدر اليهود، وتم القضاء على يهود بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة, ويهود خيبر. ب- ضعف جبهة الأعداء في الداخل: وفي مقدمة هؤلاء المنافقون الذين فقدوا الركن الركين لهم -وهو يهود المدينة- فهم أساتذتهم الذين يوجهونهم ويشيرون عليهم. ج- اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطوير القوة العسكرية، وإرسال السرايا في فترة الصلح؛ وبذلك أصبحت متفوقة على قوة مشركي قريش حيث العدد والعدة والروح المعنوية. د- كانت الغزوة بعد أن ضعفت قريش اقتصاديًّا وبعد أن قويت الدولة الإسلامية اقتصاديًّا, فقد فتح المسلمون خيبر وغنموا منها أموالاً كثيرة. هـ- انتشار الإسلام في القبائل المجاورة للمدينة، وهذا يطمئن القيادة حين تتخذ قرارها العسكري بنقل قواتها ومهاجمة أعدائها. وقيام السبب الجوهري والقانوني لغزو مكة, وهو نقض قريش للعهد والعقد (2). ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضيع قانون الفرصة وتعامل معه بحكمة بالغة، فكان فتح خيبر, وذلك بعد صلح الحديبية، والآن تتاح فرصة أخرى بعد أن نقضت قريش عهدها، وتغيرت موازين القوى في المنطقة، فكان لا بد من الاستفادة من المعطيات الجديدة، فأعد صلى الله عليه وسلم جيشًا لم تشهد له الحجاز مثيلاً من قبل، فقد وصلت عدته إلى عشرة آلاف رجل (3). ثانيًا: الاستعداد للخروج: إن حركة النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة وتربية المجتمع وإرسال السرايا، وخروجه في الغزوات, تعلمنا كيفية التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب, سواء كانت تلك الأسباب مادية أو معنوية، ففي   (1) انظر: التاريخ الإسلامي (7/ 170، 171). (2) انظر: السيرة لأبي فارس، ص401. (3) انظر: الكامل في التاريخ (2/ 244)، التاريخ السياسي والعسكري ص366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 غزوة الفتح نلاحظ هذه السنة واضحة في هديه صلى الله عليه وسلم؛ فعندما قرر صلى الله عليه وسلم السير لفتح مكة، حرص على كتمان هذا الأمر؛ حتى لا يصل الخبر إلى قريش فتعد العدة لمجابهته, وتصده قبل أن يبدأ في تنفيذ هدفه, وشرع في الأخذ بالأسباب الآتية لتحقيق مبدأ المباغتة: 1 - أنه كتم أمره حتى عن أقرب الناس إليه: فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمبدأ السرِّية المطلقة والكتمان الشديد حتى عن أقرب الناس إليه وهو أبو بكر - رضي الله عنه - أقرب أصحابه إلى نفسه، وزوجته عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه، فلم يعرف أحد شيئًا عن أهدافه الحقيقية, ولا باتجاه حركته, ولا بالعدو الذي ينوي قتاله؛ بدليل أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما سأل ابنته عائشة رضي الله عنها عن مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم قالت له: ما سمى لنا شيئًا. وكانت أحيانًا تصمت، وكلا الأمرين يدل على أنها لم تعلم شيئًا عن مقصده صلى الله عليه وسلم (1). ويستنبط من هذا المنهج النبوي الحكيم أنه ينبغي للقادة العسكريين أن يخفوا خططهم عن زوجاتهم؛ لأنهن ربما يذعن شيئًا من هذه الأسرار -عن حسن نية- فتتنقلها الألسن حتى تصير سببًا في حدوث كارثة عظيمة (2). 2 - أنه بعث سرية بقيادة أبي قتادة إلى بطن إضم: بعث النبي صلى الله عليه وسلم قبل مسيرة مكة سرية مكونة من ثمانية رجال؛ وذلك لإسدال الستار على نياته الحقيقية، وفي ذلك يقول ابن سعد: (لما همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضم (3) ليظن ظان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية؛ ولأن تذهب بذلك الأخبار، فمضوا ولم يلقوا جمعًا، فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خُشُب (4) فبلغهم أن رسول الله قد توجه إلى مكة، فأخذوا على (بيبين) حتى لقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالسُّقيا (5)) (6). وهذا منهج نبوي حكيم في توجيه القادة من بعده إلى وجوب أخذ الحذر وسلوك ما يمكن من أساليب التضليل على الأعداء والإيهام التي من شأنها صرف أنظار الناس عن معرفة مقاصد الجيوش الإسلامية التي تخرج من أجل الجهاد في سبيل الله حتى تحقق أهدافها وتسلم من كيد أعدائها (7).   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 282) , الرسول القائد، شيت خطاب، ص333، 334. (2) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص395، 396. (3) بطن إضم: وادي المدينة الذي يجتمع فيه الوديان الثلاثة، بطحان، وقناة، والعقيق. (4) ذو خشب: هو موضع على مرحلة من المدينة إلى الشام يبعد عن المدينة 35ميلا. (5) السقيا: موضع يقع في وادي القرى، معجم البلدان (3/ 288). (6) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 132). (7) انظر: القيادة العسكرية، ص498. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 3 - أنه بعث العيون لمنع وصول المعلومات إلى الأعداء: بث صلى الله عليه وسلم رجال استخبارات الدولة الإسلامية داخل المدينة وخارجها حتى لا تنتقل أخباره إلى قريش, وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنقاب (1)، فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يطوف على الأنقاب قيمًا بهم فيقول: لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه .. إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ به ويسأل عنه أو ناحية مكة (2). إن جمع المعلومات سلاح ذو حدين، وقد استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم من حدِّه النافع لصالح المسلمين, وأبطل مفعول الحد الآخر باتباعه السرِّية واتخاذها أساسًا لتحركاته واستعداداته؛ ليحرم عدوه من الحصول على المعلومات التي تفيده في الاستعداد لمجابهة هذا الجيش بالقوة المناسبة (3). 4 - دعاؤه صلى الله عليه وسلم بأخذ العيون والأخبار عن قريش: وبعد أن أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسباب البشرية التي في استطاعته توجه إلى الله عز وجل بالدعاء والتضرع قائلا: «اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعوا بنا إلا فجأة» (4). وهذا شأن النبي صلى الله عليه وسلم في أموره؛ يأخذ بجميع الأسباب البشرية، ولا ينسى التضرع والدعاء لرب البرية ليستمد منه التوفيق والسداد. 5 - إحباط محاولة تجسس حاطب لصالح قريش: عندما أكمل النبي صلى الله عليه وسلم استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى أهل مكة يخبرهم فيه نبأ تحرك النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وأرسله مع امرأة مسافرة إلى مكة، ولكن الله -سبحانه وتعالى- أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي على هذه الرسالة، فقضى صلى الله عليه وسلم على هذه المحاولة وهي في مهدها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا والزبير والمقداد فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميلا من المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تخرج الكتاب فسلمته لهم, ثم استدعي حاطب - رضي الله عنه - للتحقيق, فقال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقًا في قريش -يقول: كنت حليفًا- ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم   (1) الأنقاب: جمع نقب، وهو كالعريف على القوم. (2) التحفظ: هو الاحتراز والتيقظ، مغازي الواقدي (2/ 796). (3) انظر: القيادة العسكرية، ص365. (4) انظر: البداية والنهاية (4/ 282). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقكم». فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم (1)، فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1]. ويقول الأستاذ سيد قطب: على الرغم من كل ما ذاق المهاجرون من العنت والأذى من قريش فقط ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة، وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات، وكأن الله يريد استقصاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه ... فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ، بالأحداث والتعقيب على الأحداث ليكون العلاج على مسرح الأحداث, وليكون الطرق والحديد ساخن (2). ثالثًا: الشروع في الخروج وأحداث في الطريق: 1 - خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدًا مكة في العاشر من رمضان من العام الثامن للهجرة (3) واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري (4) وكان عدد الجيش عشرة آلاف فيهم المهاجرون والأنصار الذين لم يتخلف منهم أحد، فسار هو ومن معه إلى مكة يصوم ويصومون, فلما وصل الجيش الكديد (الماء الذي بين قديد وعسفان) أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر الناس معه (5) وفي الجحفة لقيه العباس بن عبد المطلب عمه وقد خرج مهاجرًا بعياله, فسر صلى الله عليه وسلم (6). وفي خروج العباس بأهله وأولاده من مكة -وكان بها بمثابة المراسل العسكري أو مدير الاستخبارات هناك- إشارة إلى أن مهمته فيها قد انتهت, وخاصة إذا لاحظنا أن بقاءه في مكة كان بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم (7).   (1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح، (5/ 105) رقم 4274. (2) في ظلال القرآن (6/ 358). (3) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص560، 561. (4) المصدر نفسه، ص561. (5) البخاري، كتاب المغازي (5/ 106) رقم 4276. (6) انظر: البداية والنهاية (4/ 286)، السيرة النبوية لأبي فارس، ص406. (7) انظر: تأملات في السيرة النبوية، محمد السيد الوكيل، ص254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 2 - إسلام أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أمية: خرج أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية بن المغيرة من مكة, فلقيا رسول الله بثنية العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصهرك، فقال: لا حاجة لي فيهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال، فلما خرج الخبر إليهما بذلك -ومع أبي سفيان بن الحارث ابن له- فقال: والله ليأذنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهب في الأرض حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لهما، فدخلا عليه، فأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره عما كان مضى فيه فقال: لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أوان الحق أهدي وأهتدي فقل لثقيف لا أريد قتالكم ... وقل لثقيف تلك عندي فأوعدي هداني هاد غير نفسي ودلني ... إلى الله من طرَّدت كل مطرد أفر سريعًا جاهدًا عن محمد ... وأدعى وإن لم أنتسب لمحمد همُ عصبة من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذا رأي يُلَمْ ويفند أريد لأرضيهم ولست بلاقط ... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد فما كنت في الجيش الذي نال عامرا ... وما كان عن غير لساني ولا يدي قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... توابع جاءت من سهام وسردد وإن الذي أخرجتم وشتمتم ... سيسعى لكم امرؤ غير مقدد (1) قال: فلما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى الله من طردت كل مطرد)، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، فقال: «أنت طردتني كل مطرد» (2). كان أبو سفيان بن الحارث يهجو بشعره رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وأما عبد الله بن أمية فقد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله لا أومن بك حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك كما تقول, ثم وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك) (3). ومع فداحة جرمهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنهما وقبل عذرهما، وهذا مثال عالٍ في الرحمة والعفو والتسامح، ولقد كفَّر أبو سفيان بن الحارث عن أشعاره السابقة بهذه القصيدة البليغة التي قالها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وبيان اهتدائه به، ولقد حسن إسلامه، وكان له موقف مشرف في الجهاد   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص517. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 43 - 45) ومجمع الزوائد (6/ 164 - 167). (3) انظر: ابن هشام (1/ 295 - 300). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 مع رسول الله في معركة حنين (1). 3 - النزول بمر الظهران وإسلام أبي سفيان بن حرب سيد قريش: وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره حتى أتى مر الظهران (2) فنزل فيه عشاء، فأمر الجيش فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله على الحرس عمر بن الخطاب (3). قال العباس: فقلت: واصباح قريش! والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، وركب بغلة رسول الله وخرج يلتمس من يوصل الخبر إلى مكة ليخرجوا إلى رسول الله فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة، وكان أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد خرجوا يلتمسون الأخبار، فلما رأوا النيران قال أبو سفيان: ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرًا، فقال بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب (4)، فقال أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها .. وسمع العباس أصواتهم فعرفهم فقال: يا أبا حنظلة، فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، قال: ما لك، فداك أبي وأمي؟! قال العباس: قلت: ويحك يا أبا سفيان, هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس واصباح قريش والله! قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟! قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله, إني قد أجرته. فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر، فوالله أن لو كان من بني عدي ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به» , فلما أصبح غدوت به, فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟» قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد، قال:   (1) انظر: التاريخ الإسلامي (7/ 182). (2) مر الظهران: واد من أودية الحجاز شمال مكة بـ 22كم. (3) انظر: معين السيرة، ص387، الطبقات لابن سعد (2/ 135). (4) حمشتها الحرب: أحرقتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟» قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن نضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم. قال العباس: قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا, قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» فلما ذهب لينصرف قال رسول الله: «يا عباس, احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها» قال: فخرجت حتى حبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم, فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة, فيقول: ما لي ولمزينة .. حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، قال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، ثم قال: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا. قال: قلت: يا أبا سفيان: إنها النبوة، قال: فنعم إذن، قال: قلت: النجاء إلى قومك (1). إن في هذه القصة دروسا وعبرا وحكما في كيفية معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفوس البشرية ومن أهم هذه الدروس: 1 - عندما أصبح أبو سفيان رهينة بيد المسلمين، وأصبح رهن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم، وهمَّ به عمر، وأجاره العباس، ثم جاء في صبيحة اليوم الثاني ليمثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت المفاجأة الصاعقة له بدل التوبيخ والتهديد والإذلال أن يدعى إلى الإسلام، فتأثر بهذا الموقف واهتز كيانه؛ فلم يملك إلا أن يقول: بأبي أنت وأمي يا محمد، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! إنه يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه، ويثني عليه الخير كله: ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! (2) وعندما قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ففي تخصيص بيت أبي سفيان شيئًا يشبع ما تتطلع إليه نفس أبي سفيان، وفي هذا تثبيت له على الإسلام وتقوية لإيمانه (3) وكان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملا على امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان, وبرهن له بأن المكانة التي كانت له عند قريش، لن تنتقص شيئا في الإسلام، إن هو أخلص له وبذل في سبيله (4) وهذا منهج نبوي كريم على العلماء والدعاة إلى الله أن يستوعبوه ويعملوا به في تعاملهم مع الناس.   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص518 - 520. (2) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص564. (3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 403). (4) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد رواس، ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 2 - وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس عن أبي سفيان: «احبسه بمضيق الوادي، حتى تمر به جنود الله فيراها» (1) ففعل العباس, وكان صلى الله عليه وسلم يريد أن يشن حربًا نفسية للتأثير على معنويات قريش حتى يتسنى له القضاء على روح المقاومة عند زعيم مكة، وحتى يرى أبو سفيان بعيني رأسه مدى قوة ما وصل إليه الجيش الإسلامي من تسليح وتنظيم وحسن طاعة وانضباط؛ وبذلك تتحطم أي فكرة في نفوس المكيين يمكن أن تحملهم على مقاومة هذا الجيش المبارك إذا دخل مكة لتحريرها من براثن الشرك والوثنية (2) , وبالفعل تم ما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأدرك أبو سفيان قوة المسلمين، وأنه لا قبل لقريش بهم, حتى إذا مرت به كتيبة المهاجرين والأنصار قال أبو سفيان: سبحان الله! يا عباس, من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، قال: قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: نعم إذاً .... (3). «إنها النبوة»؛ تلك هي الكلمة التي أدارتها الحكمة الإلهية على لسان العباس، حتى تصبح الرد الباقي إلى يوم القيامة على كل من يتوهم أو يوهم أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت ابتغاء ملك أو زعامة، أو إحياء قومية أو عصبية, وهي كلمة جاءت عنوانًا لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، فقد كانت ساعات عمره ومراحلها كلها دليلاً ناطقا على أنه بعث لتبليغ رسالة الله إلى الناس، لا لإشادة ملك لنفسه في الأرض (4). لقد تعمد النبي صلى الله عليه وسلم شن الحرب النفسية على أعدائه أثناء سيره لفتح مكة, حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيقاد النيران فأوقدوا عشرة آلاف نار في ليلة واحدة حتى ملأت الأفق, فكان لمعسكرهم منظر مهيب كادت تنخلع قلوب القريشيين من شدة هوله (5) , وقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحطيم نفسيات أعدائه والقضاء على معنوياتهم حتى لا يفكروا في أية مقاومة، وإجبارهم على الاستسلام لكي يتم له تحقيق هدفه دون إراقة دماء، وبتطبيق هذا الأسلوب تم له صلى الله عليه وسلم ما أراد، ولقد كان اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بمعنويات المقاتل ونفسيته سبقًا عسكريًّا؛ بدليل أن المدارس العسكرية التي جاءت فيما بعد جعلت هذا الأمر موضع العناية والاهتمام من الناحية العسكرية (6). * * *   (1) انظر: سيرة ابن هشام (4/ 52). (2) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص447. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 52). (4) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص275. (5) انظر: الطبقات لابن سعد (2/ 135). (6) انظر: العبقرية العسكرية وغزوات الرسول، اللواء محمد فرج، ص565. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 المبحث الثاني خطة النبي صلى الله عليه وسلم لدخول مكة وفتحها أولاً: توزيع المهام بين قادة الصحابة: عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي طوى (1) وزع المهام، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة (2) وبطن الوادي، فقال: «يا أبا هريرة ادع لي الأنصار» فدعاهم فجاءوا يهرولون، فقال: «يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟» قالوا: نعم، قال: «انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن تحصدوهم حصدًا» وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال: «موعدكم الصفا» (3). وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم, وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأمره أن يغرز رايته بالحجون, ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم (4) , وبهذا كانت المسئوليات واضحة، وكل قد عرف ما أسند إليه من مهام والطريق الذي ينبغي أن يسير فيه (5). ودخلت قوات المسلمين مكة من جهاتها الأربع في آنٍ واحدٍ, ولم تلق تلك القوات مقاومة، وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربة قاضية لفلول المشركين، حيث عجزت عن التجمع, وضاعت منها فرصة المقاومة، وهذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد، ونجحت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلم يستطع المشركون المقاومة، ولا الصمود أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى، فاحتل كل فيلق منطقته التي وجه إليها، في سلم واستسلام، إلا ما كان من المنطقة التي توجه إليها خالد (6)، فقد تجمع متطرفو قريش ومنهم صفوان بن أمية, وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم مع بعض حلفائهم في مكان اسمه (الخندمة) وتصدوا للقوات المتقدمة بالسهام, وصمموا على القتال، فأصدر خالد بن الوليد أوامره بالانقضاض عليهم, وما هي إلا لحظات حتى قضى على تلك القوة الضعيفة وشتت شمل أفرادها، وبذلك أكمل الجيش السيطرة على مكة   (1) انظر: معين السيرة، ص389. (2) البياذقة: الرجالة. (3) مسلم، باب فتح مكة. (4) انظر: معين السيرة، ص390. (5) انظر: معين السيرة، ص390. (6) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 المكرمة (1). وقد حدثتنا كتب السيرة والتاريخ عن قصة حماس بن خالد من قبيلة بني بكر، فقد أعد سلاحًا لمقاتلة المسلمين، وكانت امرأته إذا رأته يصلحه ويتعهده تسأله: لماذا تعدُّ ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه، وقالت امرأته له يومًا: والله ما أرى أنه يقوم لمحمد وصحبه شيء، فقال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم .. ثم قال: إن يقبلوا اليوم فما لي علة ... هذا سلاح كامل وألَّة (2) وذو غرارين سريع السلة فلما جاء يوم الفتح ناوش حماس هذا شيئًا من قتال مع رجال عكرمة, ثم أحس بالمشركين يتطايرون من حوله أمام جيش خالد، فخرج منهزمًا حتى بلغ بيته فقال لامرأته: أغلقي عليَّ الباب ... فقالت المرأة لفارسها المعلم: فأين ما كنت تقول؟ فقال يعتذر لها: إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فر صفوان وفر عكرمة وأبو يزيد قائم كالمؤتمة (3) ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة ... ضربًا فلا تسمع إلا غمغمة لهم نهيتٌ (4) خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي باللوم أدنى كلمة (5) لقد أعلن في مكة قبيل دخول جيش المسلمين أسلوب منع التجول؛ لكي يتمكنوا من دخول مكة بأقل قدر من الاشتباكات والاستفزازات، وإراقة الدماء، وكان الشعار المرفوع: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، وجعل صلى الله عليه وسلم لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون أبو سفيان ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدوء, ويستخدمه كمفتاح أمان يفتح أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة دماء, ويشبع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها أبو سفيان حتى يتمكن الإيمان من قلبه (6). لقد دخل أبو سفيان إلى مكة مسرعًا ونادى بأعلى صوته: يا معشر قريش, هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو   (1) انظر: قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية والعسكرية، ص122، 123. (2) ألة: حربة. (3) المؤتمة: الأسطوانة، وأبو يزيد: سهيل بن عمرو. (4) النهيت: صوت الصدر. (5) انظر: البداية والنهاية (4/ 295). (6) انظر: دراسة في السيرة، د. عماد الدين خليل، ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميث الدسم الأحمس -تشبهه بالزق لسمنه-، قبح من طليعة قوم. قال: ويلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم؛ فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك؟! قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد (1). وحرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكداء التي بأعلى مكة (2) تحقيقًا لقول صاحبه الشاعر المبدع حسان بن ثابت, حين هجا قريشا وأخبرهم بأن خيل الله تعالى ستدخل من كداء, وتعد هذه القصيدة من أروع ما قال حسان, حيث قال: عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع (3) موعدها كداء ينازعن الأعنة مصغيات ... على أكتافها الأسل الظماء تظل جيادنا متمطرات ... يلطمهن بالخُمُرِ النساء فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز (4) الله فيه من يشاء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق إن نفع البلاء شهدت به فقوموا صدقوه ... فقلتم لا نقوم ولا نشاء وقال الله قد سيرت جندًا ... هم الأنصار عرصتها اللقاء لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة (5) فقد برح الخفاء بأن سيوفنا تركتك عبدًا ... وعبد الدار سادتها الإماء هجوتَ محمدًا فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء؟! ... فشركما لخيركما الفداء هجوت مباركًا برًّا حنيفًا ... أمين الله شيمته الوفاء أمن يهجو رسول الله منكم ... ويحمده وينصره سواء   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 290). (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص524. (3) النقع: موضع قرب مكة, أو الغبار. (4) انظر: البداية والنهاية (4/ 309). (5) مغلغلة: رسالة محمولة من بلد إلى بلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء (1) ومما يؤيد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دخوله من كداء ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر (2)؛ فتبسم إلى أبي بكر فقال: «يا أبا بكر, كيف قال حسان؟» فأنشده قوله: تظل جيادنا متمطرات ... تلطمهن بالخُمُر النساء (3) ثانيًا: دخول خاشع متواضع، لا دخول فاتح متعالٍ: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام (4) , وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعرًا بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز (5) , وعندما دخل مكة فاتحًا -وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحي والسياسي- رفع كل شعار من شعائر العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، فأردف أسامة بن زيد -وهو ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولم يردف أحدا من أبناء بني هاشم وأبناء أشراف قريش وهم كثير، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمانٍ من الهجرة (6). يقول محمد الغزالي في وصف دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة: على حين كان الجيش الزاحف يتقدم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته تتوج هامته عمامة دسماء، ورأسه خفيض من شدة التخشع لله، لقد انحنى على رحله وبدا عليه التواضع الجمّ .. إن الموكب الفخم المهيب الذي ينساب به حثيثا إلى جوف الحرم، والفيلق الدارع الذي يحف به ينتظر إشارة منه فلا يبقى بمكة شيء آمن، إن هذا الفتح المبين ليذكره بماض طويل الفصول: كيف خرج مطاردًا؟ وكيف يعود اليوم منصورًا مؤيدًا؟ وأي كرامة عظمى حفه الله بها هذا الصباح الميمون؟ وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعًا وانحناء ... (7). هذا وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تأمين الجبهة الداخلية في مكة عند دخوله يوم الفتح؛ ولذلك عندما بلغته مقولة سعد بن عبادة لأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم نستحل الكعبة, قال صلى الله عليه وسلم:   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 309). (2) الخمر جمع خمار، مأخوذ من الخمر وهو الستر وهو ما تستر به النساء وجوههن. (3) انظر: مغازي الواقدي (2/ 831). (4) مسلم رقم 1358. (5) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص396. (6) انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، ص337. (7) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص379، 380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 «هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة»، وأخذ الراية من سعد بن عبادة وسلمها لابنه قيس بن سعد؛ وبهذا التصرف الحكيم حال دون أي احتمال لمعركة جانبية هم في غنى عنها، وفي نفس الوقت لم يثره, ولا أثار الأنصاري، فهو لم يأخذ الراية من أنصاري ويسلمها لمهاجر، بل أخذها من أنصاري وسلمها لابنه، ومن طبيعة البشر ألا يرضى الإنسان بأن يكون أحد أفضل منه إلا ابنه (1). ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81] (جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) [سبأ:49] والأصنام تتساقط على وجوهها (2) وإنه لمظهر رائع لنصر الله وعظيم تأييده لرسوله، إذ كان يطعن تلك الآلهة الزائفة المنثورة حول الكعبة بعصا معه، فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه أو ينقلب على ظهره جذاذًا (3) , ورأى في الكعبة الصور والتماثيل فأمر بالصور وبالتماثيل فكسرت (4) وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت الصور، وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة إبراهيم وإسماعيل وفي يديهما من الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله؛ لقد علموا ما استقسما بها قط ... » (5). ثم دخل البيت وكبَّر في نواحيه ثم صلى, فقد روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقها عليه ثم مكث فيها, قال ابن عمر: فسألت بلالا حين خرج: ما صنع رسول الله؟ قال: جعل عمودين عن يساره وعمودًا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه -وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة- ثم صلى (6). وكان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة، قبل أن يسلم، فأراد علي - رضي الله عنه - أن يكون المفتاح له مع السقاية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من الكعبة ورده إليه قائلا: اليوم يوم بر ووفاء (7)، وكان صلى الله عليه وسلم قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول ونال منه، فحلم عنه, وقال: «يا عثمان، لعلك ترى هذا المفتاح يومًا بيدي, أضعه حيث شئت» فقال: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال: «بل عمرت وعزت يومئذ»، ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعًا، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال (8) , ولقد أعطى له   (1) انظر: قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية والعسكرية، ص196. (2) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص339. (3) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص282. (4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص339. (5) البخاري، كتاب المغازي، (5/ 110) رقم 4288. (6) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 61، 62). (7) المصدر نفسه (4/ 61). (8) انظر: المغازي، (2/ 838). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة قائلا له: «هاك مفتاحك يا عثمان, اليوم يوم بر ووفاء (1)، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم» (2) وهكذا لم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يستبد بمفتاح الكعبة، بل لم يشأ أن يضعه في أحد من بني هاشم، وقد تطاول لأخذه رجال منهم، لما في ذلك من الإثارة، ولما به من مظاهر السيطرة وبسط النفوذ، وليست هذه من مهام النبوة بإطلاق ... هذا مفهوم الفتح الأعظم في شرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: البر والوفاء حتى للذين غدروا ومكروا، وتطاولوا (3). هذا, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يصعد فوق ظهر الكعبة فيؤذن للصلاة, فصعد بلال وأذن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد على آذانهم كأنهم في حلم، إن هذه الكلمات تقصف في الجو فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين؛ فلا يملكون أمام دويها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر (4). ذلك الصوت الذي كان يهمس يومًا ما تحت أسواط العذاب: أحد، أحد، أحد .. ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى قائلا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والكل خاشع منصت خاضع (5). ثالثًا: إعلان العفو العام: 1 - نال أهل مكة عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، ورغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم, وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم, فقال: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» فقالوا: خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ، فقال: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) [يوسف:92] (6). وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي, وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها, وعدم فرض الخراج عليها، فلم تعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى المفتوحة عنوة؛ لقدسيتها وحرمتها، فإنها دار النسك, ومتعبد الخلق, وحرم الرب تعالى، لذلك ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ولا إجارة بيوتها؛   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 62). (2) انظر: المغازي (2/ 838). (3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص401. (4) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص383. (5) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص269. (6) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 فهي مناخ لمن سبق، يسكن أهلها فيما يحتاجون إلى سكناه من دورها، وما فضل عن حاجتهم فهو لإقامة الحجاج والمعتمرين والعباد القاصدين، وذهب آخرون إلى جواز بيع أراضي مكة وإجارة بيوتها، وأدلتهم قوية في حين أن أدلة المانعين مرسلة وموقوفة (1). 2 - إهدار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الدماء: إلى جانب ذلك الصفح الجميل كان هناك الحزم الأصيل, الذي لا بد أن تتصف به القيادة الحكيمة الرشيدة، ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر رجلا أمر بقتلهم، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة؛ لأنهم عظمت جرائمهم في حق الله ورسوله، وحق الإسلام، ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس بعد الفتح (2). قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد جمعت أسماءهم من متفرقات الأخبار، وهم: عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيد -مصغرًا- ومقيس بن حبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن خطل: فرتني وقريبة، وسارة مولاة بني عبد المطلب، وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلال الخزاعي, وذكر الحاكم أن فيمن أهدر دمه كعب بن زهير، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة (3). ومن هؤلاء من قُتل، ومنهم من جاء مسلمًا تائبًا فعفا عنه الرسول، وحسُن إسلامه (4). 3 - خطبة النبي صلى الله عليه وسلم غداة الفتح وإسلام أهل مكة: وفي غداة الفتح بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن خزاعة حلفاءه عدت على رجل من هذيل فقتلوه - وهو مشرك- برجل قتل في الجاهلية، فغضب وقام بين الناس خطيبًا فقال: «يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد -يقطع- فيها شجرًا, لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي, ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبًا على أهلها، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس, فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم. يا معشر خزاعة, ارفعوا أيديكم عن القتل, فلقد كثر أن يقع، لقد قتلتم قتيلا لأدينَّه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله» (5).   (1) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص180. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 451) تأملات في السيرة، ص262. (3) فتح الباري (7/ 9). (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 451). (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 451)، وعقله: ديته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 كان من أثر عفو النبي صلى الله عليه وسلم الشامل عن أهل مكة، والعفو عن بعض من أهدر دماءهم، أن دخل أهل مكة -رجالاً ونساء وأحرارًا وموالي- في دين الله طواعية واختيارًا، وبدخول مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجا، وتمت النعمة، ووجب الشكر (1) وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جميعا الرجال والنساء، والكبار والصغار, وبدء بمبايعة الرجال، فقد جلس لهم على الصفا، فأخذ عليهم البيعة على الإسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وجاء مجاشع بن مسعود بأخيه مجالد بعد يوم الفتح فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: «ذهب أهل الهجرة بما فيها» فقال: على أي شيء تبايعه؟ قال: «أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد» (2). وقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية (3) وإذا استنفرتم فانفروا» والمراد أن الهجرة التي كانت واجبة من مكة قد انتهت بفتح مكة، فقد عز الإسلام، وثبت أركانه ودعائمه، ودخل الناس فيه أفواجا، أما الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو من بلد لا يقدر أن يقيم فيه دينه ويظهر شعائره, إلى بلد يتمكن فيه من ذلك, فهي باقية إلى يوم القيامة، ولكن هذه دون تلك، فقد تكون واجبة، وقد تكون غير واجبة، كما أن الجهاد والإنفاق في سبيل الله مشروع وباقٍ إلى يوم القيامة، ولكنه ليس كالإنفاق ولا الجهاد قبل فتح مكة, قال عز شأنه (4): (وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد: 10]. ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة، على ألا يشركن بالله شيئا, ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين في معروف، ولما قال النبي: «ولا يسرقن» قالت هند: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي بنيَّ فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال لها صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف» , ولما قال: «ولا يزنين» قالت هند: وهل تزني الحرة؟ ولما عرفها رسول الله قال لها: «وإنك لهند بنت عتبة؟» قالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك. وقد بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير مصافحة، فقد كان لا يصافح النساء، ولا يمس يد امرأة إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لا   (1) المصدر نفسه (2/ 456). (2) البخاري، كتاب المغازي رقم 4305 (5/ 114). (3) البخاري، كتاب الجهاد والسير, رقم 2783. (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 257). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 والله، ما مست يد رسول الله يد امرأة قط) وفي رواية: ما كان يبايعهن إلا كلاما ويقول: «إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة» (1). رابعًا: بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعيًا إلى الإسلام، وكان ذلك في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة (2) قبل حنين, ومعه جنود من بني سليم ومدلج والأنصار والمهاجرين, كان تعدادهم حوالي ثلاثمائة وخمسين رجلاً، فلما رأى بنو جذيمة الجيش بقيادة خالد أخذوا السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، فقام رجل منهم يسمى جحدرا فقال: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدًا. فلم يزالوا به حتى وضع سلاحه، فلما وُضع السلاح أمر بهم خالد فكتفوا، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، وخالد يأخذ فيهم أسرا وقتلا، فأنكر عليه بعض أصحابه ذلك، ثم دفع الأسرى إلى من كان معه، حتى إذا أصبح يومًا أمر خالد أن يقتل كل واحد أسيره، فامتثل البعض، وامتنع عبد الله بن عمر وامتنع معه آخرون من قتل أسراهم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه، فغضب ورفع يديه إلى السماء قائلا: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» (3). ودار كلام بين خالد وعبد الرحمن بن عوف حول هذا الموضوع حتى كان بينهما شر، فقد خشي ابن عوف أن يكون ما صدر عن خالد ثأرا لعمه الفاكه بن المغيرة الذي قتلته جذيمة في الجاهلية، ولعل هذا الذي وقع بينهما هو ما أشار إليه الحديث المروي عند مسلم وغيره: كان بين ابن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبَّه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» (4)، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فودى لهم قتلاهم وزادهم فيها تطييبًا لنفوسهم وبراءة من دمائهم (5) , وبهذا التصرف النبوي الحكيم واسى النبي صلى الله عليه وسلم بني جذيمة، وأزال ما في نفوسهم من أسى وحزن (6) وكان قتل خالد لبني جذيمة تأولا منه واجتهادًا خاطئًا, وذلك بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه على فعله (7).   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 319). (2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص248. (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 464). (4) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص579. (5) في إسناده ضعف. المصدر السابق، ص579. (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 465). (7) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص579. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 خامسًا: هدم بيوت الأوثان: بعد أن طهر البيت الحرام من الأوثان التي كانت فيه، كان لا بد من هدم البيوت التي أقيمت للأوثان, فكانت معالم للجاهلية ردحًا طويلاً من الزمن (1). فكانت سرايا رسول الله تترى لتطهير الجزيرة منها: 1 - سرية خالد بن الوليد إلى العزى: توجهت سرية قوتها ثلاثون فارسًا بقيادة خالد بن الوليد إلى الطاغوت الأعظم منزلة ومكانة عند قريش وسائر العرب (العزى) لإزالته من الوجود نهائيًا, وعندما وصلت السرية إلى العزى بمنطقة نخلة قام إليها خالد فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليه (2) وهو يردد: كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك (3) , ثم رجع خالد وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم تقريره بإنجاز المهمة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استدرك على قائد السرية وقال له: «هل رأيت شيئًا؟» قال: لا (4) فقال: «ارجع فإنك لم تصنع شيئا» (5) فرجع خالد وهو مغيظ حنق على عدم إنهاء مهمته على الوجه المطلوب، فلما وصل إليها ونظرت السدنة إليه عرفوا أنه جاء هذه المرة ليكمل ما فاته في المرة السابقة, فهربوا إلى الجبل وهم يصيحون: يا عزى خبليه، يا عزى عوريه, فأتاه خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراث على رأسها، فتقدم إليها خالد - رضي الله عنه - بشجاعته المعروفة وضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال: «تلك هي العزى» (6). 2 - سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة: مناة اسم صنم وكانت على ساحل البحر الأحمر مما يلي قديدا (7) في منطقة تعرف بالمشلل (8) , وكانت للأوس والخزرج وغسان ومن دان بدينهم يعبدونها ويعظمونها في الجاهلية ويهلون منها للحج، وقد بلغ من تعظيمهم إياها أنهم كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة تحرجا وتعظيما لها حيث كان ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة (9). ولم تزل هذه عادتهم حتى أسلموا، فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ذكروا ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية (10) قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 158].   (1) انظر: معين السيرة، ص394. (2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص282. (3) المصدر نفسه، ص282. (4) انظر: المغازي (2/ 874). (5) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص282. (6) المصدر نفسه، ص283. (7) ما بين مكة والمدينة. (8) المشلل من قديد وبالمشلل كانت مناة. (9) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص286. (10) شرح النووي على مسلم، (9/ 22). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 وقد كان أول من نصبها لهم مؤسس الشرك في الجزيرة العربية ومبتدع الأوثان محرف الحنفية دين إبراهيم عليه السلام, عمرو بن لحي الخزاعي (1) , فلما فتح الله على المسلمين مكة بعث رسول الله إلى مناة رجلا من أهلها سابقا الذين كانوا يعظمونها في الجاهلية وهو سعد بن زيد الأشهلي - رضي الله عنه - على رأس سرية قوتها عشرون فارسًا, وكان واجب السرية هو إزالة مناة من الوجود نهائيا (2). انطلق سعد بن زيد ومن معه في مسير اقترابي سريع لإنجاز المهمة المحددة حتى وصل إليها, فقابله سادنها متسائلا: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها (3). فصاح بها السادن صيحة الواثق: مناة دونك بعض عصاتك (4) ولكن صيحته ذهبت أدراج الرياح، فلم يأبه سعد - رضي الله عنه - بكل ذلك وضربها ضربة قاتلة قضت عليها، ثم أقبل مع أصحابه على الصنم فهدموه، ولم يجدوا في خزانتها شيئًا، وانصرف راجعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (5). 3 - سرية عمرو بن العاص إلى سواع: قال تعالى مخبرا عن قوم نوح: (وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) [نوح: 23]. وسواع المذكور ضمن هذه الأصنام: هو اسم صنم كان لقوم نوح عليه السلام, ثم صار بعد ذلك لقبيلة هذيل المضرية (6) وظل هذا الوثن منصوبًا تعبده هذيل وتعظمه حتى إنهم كانوا يحجون إليه (7) حتى فتحت مكة ودخلت هذيل فيمن دخل في دين الله أفواجا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لتحطيم سواع، ويحدثنا قائد السرية عن مهمته، فيقول: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن   (1) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص287. (2) المصدر نفسه، ص287. (3) انظر: الطبقات (2/ 146). (4) المصدر نفسه (2/ 146). (5) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص288، قال مؤلف الكتاب الدكتور بريك العمري: الخبر ضعيف من الناحية الحديثية، ويمكن الاستئناس به تاريخيًا, حيث ذكر أهل المغازي أن رسول الله أرسل بعض السرايا لتحطيم الأصنام في الجزيرة العربية, ولا يمكن استثناء مناة من ذلك لكونها أحد أكبر الطواغيت في الجزيرة، ولقد اعتمدت في دراسة السرايا والبعوث على هذه الرسالة العلمية التي أشرف عليها الدكتور أكرم العمري. (6) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص292. (7) انظر: سبل الرشاد للشامي (6/ 303). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لم؟ قال: تمنع، قلت: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك! هل يسمع أو يبصر؟! قال: فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا شيئًا, ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمتُ لله (1). ونستفيد من حركة السرايا التي أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم للقضاء على الأصنام والأوثان أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة ألبتة. وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركا عندها وبها (2). * * * المبحث الثالث دروس وعبر وفوائد أولاً: مواقف دعوية وقدرة رفيعة في التعامل مع النفوس: 1 - إسلام سهيل بن عمرو: قال سهيل بن عمرو: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وظهر، انقحمت (3) بيتي وأغلقت عليَّ بابي، وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل أن اطلب لي جوارًا من محمد، وإني لا آمن من أن أقتل، وجعلت أتذكر أثري عند محمد وأصحابه فليس أحد أسوأ أثرًا مني، وإني لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم يلحقه أحد، وكنت الذي كاتبته، مع حضوري بدرًا وأحدًا، وكلما تحركت قريش كنت فيها، فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله, تؤمنه؟ فقال: «نعم»، هو آمن بأمان الله، فليظهر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه، فليخرج, فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف, وما مثل سهيل يجهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بنافع» فخرج عبد الله إلى أبيه، فقال سهيل: كان والله برًّا، صغيرًا وكبيرًا. فكان سهيل يقبل ويدبر، وخرج إلى حنين مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على شركه حتى أسلم بالجعرانة (4).   (1) انظر: مغازي الواقدي (2/ 870). (2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص302. (3) أي رميت بنفسي. (4) انظر: مغازي الواقدي (2/ 846، 847) ,المستدرك للحاكم (3/ 381). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 لقد كان لهذه الكلمات التربوية الأثر الكبير على سهيل بن عمرو, حيث أثنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبر طوال عمره، ثم دخل في الإسلام بعد ذلك، وقد حسن إسلامه وكان مكثرًا من الأعمال الصالحة (1) يقول الزبير بن بكار: كان سهيل بعدُ كثير الصلاة والصوم والصدقة، خرج بجماعته إلى الشام مجاهدًا، ويقال: إنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير، وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن، وكان أميرًا على كردوس (2) يوم اليرموك (3). 2 - إسلام صفوان بن أمية: قال عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -: ... وأما صفوان بن أمية فهرب حتى أتى الشعيبة (4) وجعل يقول لغلامه يسار وليس معه غيره: ويحك, انظر من ترى, قال: هذا عمير بن وهب، قال صفوان: ما أصنع بعمير؟ والله ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمدا عليَّ. فلحقه فقال: يا عمير، ما كفاك ما صنعت بي؟ حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي، قال: أبا وهب جعلت فداك، جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس. وقد كان عمير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، سيد قومي خرج هاربًا ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه فداك أبي وأمي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أمنته»، فخرج في أثره فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنك، فقال صفوان: لا والله، لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، جئت صفوان هاربًا يريد أن يقتل نفسه فأخبرته بما أمنته فقال: لا أرجع حتى تأتي بعلامة أعرفها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ عمامتي». قال: فرجع عمير إليه بها، وهو البرد الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معتجرًا (5) به، بُرد حَبَرة (6) فخرج عمير في طلبه الثانية، حتى جاء بالبُرد فقال: أبا وهب جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك, ابن أمك وأبيك، اذكر الله في نفسك، قال له: أخاف أن أقتل، قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سيرك شهرين، فهو أوفى الناس وأبرهم، وقد بعث إليك ببرده الذي دخل فيه معتجرًا، تعرفه؟ قال: نعم، فأخرجه، فقال: نعم، هو هو، فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالمسلمين العصر بالمسجد، فوقفا، فقال صفوان: كم   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (7/ 216، 217). (2) كردوس: فرقة كبيرة. (3) انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 195). (4) الشعيبة: مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز, وهو كان مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة. معجم البلدان (5/ 276). (5) الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه. (النهاية 3/ 69). (6) الحبرة: ضرب من ثياب اليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 تصلون في اليوم والليلة؟ قال: خمس صلوات، قال: يصلي بهم محمد؟ قال: نعم، فلما سلم صاح صفوان: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرًا وإلا سيرتني شهرين، قال: «انزل أبا وهب» قال: لا والله حتى تبين لي, قال: «بل تُسيَّر أربعة أشهر» فنزل صفوان. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن وخرج معه صفوان وهو كافر، وأرسل إليه يستعيره سلاحه، فأعاره سلاحه مائة درع بأداتها، فقال: طوعًا أو كرهًا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عارية مؤداة» فأعاره، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملها إلى حنين، فشهد حنينًا، والطائف ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفوان بن أمية جعل صفوان ينظر إلى شعب مليء نعمًا وشاء ورعاء فأدام إليه النظر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه, فقال: «أبا وهب، يعجبك هذا الشعب؟» قال: نعم، قال: «هو لك وما فيه» , فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. وأسلم مكانه (1). ونلاحظ في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حاول أن يتألف صفوان بن أمية إلى الإسلام حتى أسلم، وذلك بإعطائه الأمان ثم بتخييره في الأمر أربعة أشهر، ثم بإعطائه من مال العطايا الكبيرة التي لا تصدر من إنسان عادي، فأعطاه أولا مائة من الإبل مع عدد من زعماء مكة, ثم أعطاه ما في أحد الشعاب من الإبل والغنم فقال: ما طابت نفس أحد بهذا إلا نفس نبي. ثم أسلم مكانه (2)، وقد وصف لنا صفوان بن أمية عطاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ) (3). 3 - إسلام عكرمة بن أبي جهل: قال عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -: قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمِّنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو آمن» , فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت على حيٍّ من عكٍّ (4) فاستغاثتهم عليه فأوثقوه رباطًا، وأدركت عكرمة، وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة فركب البحر، فجعل نُوتيَّ السفينة يقول له: أخلص، فقال: أي شيء أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله، قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا، فجاءت أم حكيم على هذا الكلام، فجعلت تلح عليه وتقول: يا ابن عم، جئتك من عند أوصل الناس, وأبرّ الناس, وخير الناس، لا   (1) انظر: مغازي الواقدي (2/ 853 - 855). (2) انظر: التاريخ الإسلامي (7/ 220). (3) مسلم، كتاب الفضائل، رقم 2313، ص1806. (4) عك: مخلاف من مخاليف مكة التهامية، معجم ما استعجم، ص223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 تهلك نفسك. فوقف لها حتى أدركته فقالت: إني قد استأمنت لك محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم، أنا كلمته فأمنك. فرجع معها وقال: ما لقيتِ من غلامك الرومي؟ فخبرته خبره فقتله عكرمة، وهو يومئذ لم يسلم، فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت». قال: وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها، فتأبى عليه، وتقول: إنك كافر وأنا مسلمة، فيقول: إن أمرًا منعك مني لأمر كبير، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عكرمة وثب إليه -وما على النبي صلى الله عليه وسلم رداء- فرحا بعكرمة، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف بين يديه، وزوجته متنقبة، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت، فأنت آمن» فقال عكرمة: فإلامَ تدعو يا محمد؟ قال: «أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتفعل وتفعل» حتى عد خصال الإسلام، فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق وأمر حسن جميل، قد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا، ثم قال عكرمة: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله علمني خير شيء أقوله، قال: «تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله» قال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقول: أشهد الله وأُشهد من حضر أني مسلم مهاجر ومجاهد» فقال عكرمة ذلك. فقال رسول الله: «لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدًا إلا أعطيتكه» فقال عكرمة: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسير وضعت فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض، في وجهي أو وأنا غائب عنه» فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدّ عن سبيل الإسلام إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صدّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله, ثم اجتهد في القتال حتى قُتل شهيدًا (1). وبعد أن أسلم ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته له بذلك النكاح الأول (2). كان سلوك النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع عكرمة لطيفًا حانيًا يكفي وحده لاجتذابه إلى الإسلام، فقد أعجل نفسه عن لبس ردائه، وابتسم له ورحب به, وفي رواية قال له: «مرحبا بالراكب المهاجر» (3) فتأثر عكرمة من ذلك الموقف فاهتزت مشاعره وتحركت أحاسيسه، فأسلم، كما   (1) يعني يوم اليرموك. (2) انظر: مغازي الواقدي (2/ 851 - 853). (3) انظر: مجمع الزوائد (9/ 385) مرسل ورجاله رجال الصحيح في إحدى سنديه, وأما الإسناد الآخر من رواية الطبراني فرجاله رجال الصحيح إلا مصعب بن سعد لم يسمع من عكرمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 كان لموقف أم حكيم بنت الحارث بن هشام أثر في إسلام زوجها، فقد أخذت له الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغامرت بنفسها تبحث عنه لعل الله يهديه إلى الإسلام كما هداها إليه، وعندما أرادها زوجها امتنعت عنه وعللت ذلك بأنه كافر وهي مسلمة، فعظم الإسلام في عينه وأدرك أنه أمام دين عظيم، وهكذا خطت أم حكيم في فكر عكرمة بداية التفكير في الإسلام ثم توج بإسلامه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صادقًا في إسلامه, فلم يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم دنيا, وإنما سأله أن يغفر الله تعالى له كل ما وقع فيه من ذنوب ماضية، ثم أقسم أمام النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحمل نفسه على الإنفاق في سبيل الله تعالى بضعف ما كان ينفق في الجاهلية، وأن يبلي في الجهاد في سبيل الله بضعف ما كان يبذله في الجاهلية، ولقد بر بوعده فكان من أشجع المجاهدين والقادة في سبيل الله تعالى في حروب الردة ثم في فتوح الشام حتى وقع شهيدًا في معركة اليرموك بعد أن بذل نفسه وماله في سبيل الله (1). 4 - مثل من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم: إسلام والد أبي بكر: قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودخل المسجد، أتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟» قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت، قالت: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: «أسلم» فأسلم، قالت: فدخل به أبو بكر وكأن رأسه ثغامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غيروا هذا من شعره» (2) ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هنأ أبا بكر بإسلام أبيه (3). وفي هذا الخبر منهج نبوي كريم سنه النبي صلى الله عليه وسلم في توقير كبار السن واحترامهم, ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا» (4) وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم» (5) كما أنه صلى الله عليه وسلم سن إكرام أقارب ذوي البلاء والبذل والعطاء والسبق في الإسلام؛ تقديرًا لهم على ما بذلوه من الخدمة للإسلام والمسلمين ونصر دعوة الله تعالى (6). 5 - مثل من عفو النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه: إسلام فضالة بن عمير: أراد فضالة بن عمير بن الملوح الليثي قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا   (1) انظر: التاريخ الإسلامي (7/ 223 - 225). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 54، 55). (3) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص577. (4) انظر: سنن الترمذي، كتاب البر، باب 15رقم 1986. (5) انظر: سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب 20, رقم 4843. (6) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (7/ 195). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضالة؟» قال: نعم، فضالة يا رسول الله، قال: «ماذا كنت تحدث به نفسك؟» قال: لا شيء، كنت أذكر الله، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «استغفر الله» , ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليَّ منه، قال فضالة: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا، وانبعث فضالة يقول: قالت هلمَّ إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك اللهُ والإسلامُ لو ما رأيت محمدًا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بينا ... والشرك يغشى وجهَه الإظلام (1) ثانيًا: أتكلمني في حد من حدود الله؟ قال عروة بن الزبير: إن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه، قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها تلوَّن وجه رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله خطيبًا فأثنى على الله بما هو أهله, ثم قال: «أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها. فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت، قالت عائشة: فكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وهكذا يستمر البناء التربوي للأمة، ونرى العدل في إقامة شرع الله على القريب والبعيد على حد سواء، ووجدت قريش نفسها أمام تشريع رباني لا يفرق بين الناس، فهم كلهم أمام رب العالمين سواء، وأصبحت معايير الشرف هي الالتزام بأوامر الله تعالى، وفي هذا الموقف الذي أثار غضب رسول الله الشديد واهتمامه الكبير, عبرة للمسلمين حتى لا يتهاونوا في تنفيذ أحكام الله تعالى، أو يشفعوا لدى الحاكم، من أجل تعطيل الحدود الإسلامية (3). ثالثًا: أجرْنا من أجرتِ يا أم هانئ: قالت أم هانئ بنت أبي طالب: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إليَّ رجلان من أحمائي، من بني مخزوم, وكانت عند هُبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل علي   (1) التاريخ الإسلامي للحميدي (7/ 213). (2) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4304. (3) انظر: معين السيرة، ص402، التاريخ الإسلامي، (7/ 233). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 بن أبي طالب أخي، فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه, فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إليَّ فقال: «مرحبًا وأهلا يا أم هانئ, ما جاء بك؟» فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي، فقال: «قد أجرْنا من أجرتِ وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما» (1). رابعًا: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين: كان عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد أسلم وكتب الوحي ثم ارتد, فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة -وقد أهدر دمه- فر إلى عثمان -وكان أخاه من الرضاعة- فلما جاء به ليستأمن له صمت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: «نعم» , فلما انصرف مع عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد صمت فيقتله؟» فقالوا: يا رسول الله، هلا أومأت إلينا؟ فقال: «إن النبي لا يقتل بإشارة» (2) , وفي رواية: «إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين» (3). قال ابن هشام: وقد حسن إسلامه بعد ذلك وولاه عمر بعض أعماله ثم ولاه عثمان (4). وقال ابن كثير: ومات وهو ساجد في صلاة الصبح أو بعد انقضاء صلاتها في بيته (5). خامسًا: المحيا محياكم والممات مماتكم: قال أبو هريرة: ... أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه، فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره، ويدعوه, قال: والأنصار تحته، قال: يقول بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لم يخف علينا فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي, قال: فلما قضى الوحي رفع رأسه ثم قال: يا معشر الأنصار قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته؟ قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال: فما اسمي إذن؟ كلا, إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم، قال: فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الظن بالله ورسوله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن الله ورسوله ليصدقانكم ويعذرانكم» (6).   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 59، 60)، صحيح السيرة، ص527. (2) انظر: البداية والنهاية، (4/ 296). (3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص528. (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 58). (5) انظر: البداية والنهاية (4/ 296). (6) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص529، 530. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 سادسًا: إسلام عبد الله بن الزِّبَعْرَى شاعر قريش: لما فتحت مكة فر عبد الله بن الزِّبَعْرَى السهمي إلى نجران فلحقته قوافي حسان, فقد كان خصمًا عنيدًا للإسلام، فراح يعيره بالجبن والفرار فقال له: لا تعد منْ رجلاً أحلك بغضه ... نجران من عيش أحذَّ لئيم (1) أي فليبق الله لنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هذا الرجل العظيم الذي أحللك بغضه ديار نجران، وليدم الله عليك ابن الزبعرى عيشا ذليلا مهينا أشأم. ثم راح حسان يستنزل غضب الله ومقته على ابن الزبعرى، وعلى نجله ويسأله الله تعالى أن يخلده في سوء العذاب وأليمه (2): غضب الإله على الزبعرى وابنه ... وعذاب سوء في الحياة مقيم فتطايرت تلك الأبيات ووصلت إلى ابن الزبعرى، فقام وقعد وقلب أموره، ثم أراد الله به الخير فعزم على الدخول في الإسلام, ثم توجه إلى مكة وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلن إسلامه, وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له كل عداوة له وللإسلام, فقال له رسول الله: «إن الإسلام يجب ما قبله» (3) ثم أدناه رسول الله منه وآنسه، ثم خلع عليه حلة (4) وقد أجمع الرواة أن ابن الزبعرى - رضي الله عنه - قال بعد إسلامه شعرًا كثيرًا حسنًا يعتذر فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (5). قال ابن عبد البر رحمه الله: وله -ابن الزبعرى- في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أشعار كثيرة، ينسخ بها ما قد مضى من شعره في كفره (6). وكذا نص ابن حجر في الإصابة: ثم أسلم ومدح النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بحلة (7)، وقال القرطبي: (وكان شاعرًا مجيدًا، وله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، أشعارٌ كثيرة، ينسخ بها ما قد مضى في كفره (8) ... ) وقال ابن كثير: كان من أكبر أعداء الإسلام ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء المسلمين، ثم منَّ الله عليه بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الإسلام والقيام بنصره والذب عنه (9).   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 307). (2) الصحابي الشاعر عبد الله بن الزبعري، محمد كابتي، ص92. (3) المغازي (2/ 848). (4) الزركلي: الأعلام (4/ 84)، الإصابة لابن حجر (2/ 308) نقلا عن المرجع الذي بعده. (5) انظر: الصحابي الشاعر عبد الله بن الزبعري، ص97. (6) انظر: الاستيعاب لابن عبد البر، (2/ 310). (7) انظر: الإصابة (2/ 308). (8) انظر: تفسير القرطبي، (6/ 407). (9) البداية والنهاية (4/ 308). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 ومن القصائد الرائعة التي قالها في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - وندمه على محاربة الإسلام وتأخره في الدخول فيه حيث قال: منع الرقاد بلابل وهموم ... والليل معتلج (1) الرِّواق (2) يهيم (3) مما أتاني أن أحمد لامني ... فيه فبت كأنني محموم يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانه (4) سرح اليدين غشوم (5) إني لمعتذر إليك من الذي ... أسديت إذ أنا في الضلال أهيم أيام تأمرني بأغوى خطة ... سهم وتأمرني بها مخزوم وأمد أسباب الردى ويقودني ... أمر الغواة وأمرهم مشؤوم فاليوم آمن بالنبي محمد ... قلبي ومخطيء هذه محروم مضت العداوة وانقضت أسبابها ... ودعت أواصر بيننا وحلوم فاغفر فدى لك والدي كلاهما ... زللي فإنك راحم مرحوم وعليك من علم المليك علامة ... نور أغر وخاتم مختوم أعطاك بعد محبة برهانه ... شرفاً وبرهان الإله عظيم ولقد شهدت بأن دينك صادق ... حق وأنك في العباد جسيم والله يشهد أن أحمد مصطفى ... مستقبل في الصالحين كريم قرم علا بنيانه من هاشم ... فرع تمكن في الذرى وأروم (6) سابعًا: من الأحكام الشرعية التي تؤخذ من الغزوة, ومكان نزول الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة: 1 - اتضحت كثير من الأحكام الشرعية خلال فتح مكة منها: أ- جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية؛ حيث صام الرسول في مسيرة الجيش من المدينة حتى بلغ كديدًا فأفطر (7). ب- صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى ثماني ركعات خفيفة (8) واستدل قوم بهذا على أنها سنة مؤكدة (9).   (1) معتلج: ملتطم. (2) الرواق: مقدم الليل. (3) يهيم: لا ضوء فيه إلى الصباح. (4) عيرانه: راحلة. (5) غشوم: شجاع لا يثنيه أمر عن عزمه. (6) انظر: البداية والنهاية (4/ 307، 308) أروم: أصل. (7) انظر: السيرة النبوية، في ضوء المصادر الأصلية، ص574. (8) المصدر نفسه، 574. (9) المصدر نفسه، 574. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 ج- قصر الصلاة الرباعية للمسافر، فقد أقام النبي بمكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة (1). د- تحريم نكاح المتعة إلى الأبد بعد إباحته لمدة ثلاث أيام (2). ويرى الإمام النووي (3) أنه وقع تحريمه وإباحته مرتين؛ إذ كان حلالاً قبل غزوة خيبر، فحرم يومها، ثم أبيح يوم الفتح، ثم حرم للمرة الثانية إلى الأبد. ويرى ابن القيم (4) أن المتعة لم تحرم يوم خيبر، وإنما كان تحريمها فقط يوم الفتح، وله في هذا مناقشة طويلة عند كلامه عن الأحكام الفقهية المستنبطة من أحداث غزوة خيبر وغزوة الفتح, والمتفق عليه أنها حرمت إلى الأبد بعد الفتح (5). هـ- قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الولد للفراش وللعاهر الحجر كما جاء ذلك في حديث ابن وليدة بن زمعة، فقد تنازع فيه سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن زمعة، فقضى فيه رسول الله لعبد الله بن زمعة لأنه ولد على فراش أبيه. وعدم جواز الوصية بأكثر من ثلث المال، كما في قصة سعد بن أبي وقاص حين مرضه بمكة واستشارة الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يوصي بأكثر من الثلث (6). هذه بعض الأحكام الفقهية المستنبطة من أحداث الغزوة والفتح العظيم. 2 - مكان نزول الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون في المكان الذي تعاقدت فيه قريش على مقاطعة بني هاشم والمسلمين، وقال عندما سأله أسامة بن زيد إن كان سينزل في بيته: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» مبينا أنه لا يرث المسلمُ الكافرَ (7). وكان عقيل قد ورث أبا طالب هو وطالب أخوه وباع الدور كلها، وأما علي وجعفر فلم يرثاه؛ لأنهما مسلمان وأبو طالب مات كافرًا (8). ثامنًا: من نتائج فتح مكة: كان لفتح مكة نتائج كثيرة منها:   (1) انظر: المجتمع المدني، ص185. (2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص575. (3) النووي على شرح مسلم (9/ 181)، اعتمدت على فقه الأحكام على ما استخرجه الدكتور العمري في المجتمع المدني، والدكتور مهدي رزق الله في السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية. (4) انظر: زاد المعاد (3/ 343: 345، 459 - 464). (5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص575. (6) المجتمع المدني للعمري، ص186، سنن الترمذي (3/ 291). (7) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (2/ 482). (8) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (2/ 482). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 1 - دخلت مكة تحت نفوذ المسلمين, وزالت دولة الكفر منها, وحانت الفرصة للقضاء على جيوب الشرك في حنين والطائف, ومن ثم إلى العالم أجمع. 2 - أصبح المسلمون قوى عظمى في جزيرة العرب. وبعد فتح مكة، تحققت أمنية الرسول صلى الله عليه وسلم بدخول قريش في الإسلام, وبرزت قوة كبرى في الجزيرة العربية لا يستطيع أي تجمع قبلي الوقوف في وجهها، وهي مؤهلة لتوحيد العرب تحت راية الإسلام ثم الانطلاق إلى الأقطار المجاورة، لإزالة حكومات الظلم والطغيان، وتأمين الحرية لخلق الله لكي يدخلوا في دين الله، ويعبدوه وحده من دون سواه (1). 3 - كان لهذا الفتح آثار عظيمة دينية وسياسية واجتماعية, وقد بدأت هذه الآثار بصورة يلمسها كل من يمعن النظر في هذا الفتح المبارك، فأما الآثار الاجتماعية فتمثلت في رفقه صلى الله عليه وسلم بالناس وحرصه على الأخذ بأيديهم ليعيد إليهم ثقتهم بأنفسهم، وبالوضع الجديد الذي سيطر على بلدهم, وتعيين من يعلمهم، ويفقههم في دينهم، فقد أبقى معاذ بن جبل - رضي الله عنه - في مكة بعد انصرافه عنها ليصلي بالناس، ويفقههم في دينهم، وأما الآثار السياسية فقد عين عتاب بن أسيد أميرًا على مكة، يحكم في الناس بكتاب الله، فيأخذ لضعيفهم، وينتصر للمظلوم من الظالم (2)، وأما الآثار الدينية فإن فتح مكة وخضوعها لسلطان الإسلام, قد أقنع العرب جميعًا بأن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده فدخلوا فيه أفواجا (3). 4 - تحقق وعد الله بالتمكين للمؤمنين الصادقين بعد ما ضحوا بالغالي والنفيس, وحققوا شروط التمكين وأخذوا بأسبابه, وقطعوا مراحله وتعاملوا مع سننه كسنة الابتلاء، والتدافع، والتدرج، وتغير النفوس، والأخذ بالأسباب، ولا ننسى تلك الصورة الرائعة وهي وقوف بلال فوق الكعبة مؤذنًا للصلاة بعد أن عذب في بطحاء مكة وهو يردد: «أحد أحد» في أغلاله وحديده، ها هو اليوم قد صعد فوق الكعبة، ويرفع صوته الجميل بالأذان وهو في نشوة الإيمان. * * *   (1) انظر: قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية والعسكرية، أحمد عرموش، ص129. (2) انظر: تأملات في سيرة الرسول، ص266. (3) المصدر نفسه، ص267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 الفصل السادس عشر غزوة حنين والطائف (8 هـ) المبحث الأول أسبابها وأحداث المعركة لما فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين، وخضعت له قريش, خافت هوازن وثقيف وقالوا: قد فرغ محمد لقتالنا، فلنغزه قبل أن يغزونا، وأجمعوا أمرهم على هذا، وولوا عليهم مالك بن عوف النصري، فاجتمع إليه هوازن، وثقيف وبنو هلال, ولم يحضرها من هوازن كعب وكلاب, وكان معهم دريد بن الصمة، وكان معروفًا بشدة البأس في الحرب وأصالة الرأي، إلا أنه كان كبيرًا فلم يكن له إلا الرأي والمشورة. وكان رأي مالك بن عوف أن يخرجوا وراءهم النساء والذراري والأموال حتى لا يفروا، فلما علم بذلك دريد سأله: لم ذلك؟ فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ولكنه لم يستمع لمشورته (1). أولاً: أهم أحداث غزوة حنين: تحرك المسلمون باتجاه حنين في اليوم الخامس من شوال ووصلوا حنين في مساء العاشر من شوال (2) وقد استخلف الرسول صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة عند خروجه، وكان عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفا من المسلمين, أما عدد هوازن وثقيف فكانوا ضعف عدد المسلمين أو أكثر، ولما رأى بعض الطلقاء جيش المسلمين قالوا: لن نغلب اليوم من قلة, ودخل الإعجاب في النفوس (3).   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 467)، السيرة النبوية لابن هشام (4/ 88). (2) انظر: طبقات ابن سعد (2/ 150). (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 497). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 أ- التعبئة التي اتخذها مالك بن عوف زعيم هوازن وثقيف: اتخذ مالك بن عوف زعيم قبائل هوازن وثقيف تعبئة مرت بمراحل: 1 - رفع الروح المعنوية لدى جنوده: وقف مالك خطيبًا في جيشه وحثهم على الثبات والاستبسال، ومما قال في هذا الجمع الحاشد: إن محمدًا لم يقاتل قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قومًا أغمارًا (1) لا علم لهم بالحرب فيُنصر عليهم (2). 2 - حشر ذراري المقاتلين وأموالهم خلف الجيش: أمر قائد هوازن بحشد نساء المقاتلين وأطفالهم وأموالهم خلفهم، وقد قصد من وراء هذا التصرف، دفع المقاتلين إلى الاستبسال والثبات أمام أعدائهم؛ لأن المقاتل -من وجهة نظره- إذا شعر أن أعز ما يملك وراءه في المعركة صعب عليه أن يلوذ بالفرار مخلفا ما وراءه في ميدان المعركة، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: افتتحنا مكة، ثم غزونا حنينًا, فجاء المشركون بحنين بأحسن صفوف رأيت، قال: فصفت الخيل ثم صفت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك ثم صفت الغنم ثم صفت النعم (3). 3 - تجريد السيوف وكسر أجفانها: جرت عادة العرب في حروبهم أن يكسروا أجفان سيوفهم قبل بدء القتال، وهذا التصرف يؤذن بإصرار المقاتل على الثبات أمام الخصم حتى النصر أو الموت، وقد أمر مالك جنده بذلك تحقيقًا لهذا, بدليل قولهم: إذا أنتم رأيتم القوم فاكسروا جفون سيوفكم وشدوا شدة رجل واحد عليهم (4). 4 - وضع الكمائن لمباغتة جيش المسلمين والانقضاض عليهم: كانت عند مالك بن عوف النصري معلومات وافية عن الأرض التي ستدور عليها المعركة، ولهذا رأى أن يستغل هذه الظروف الطبيعية لصالح جيشه، فعمل -بمشورة الفارس المحنك دريد بن الصمة- في نصب الكمائن لجيوش المسلمين، وقد كادت هذه الخطة تقضي على قوات المسلمين لولا لطف الله سبحانه وتعالى وعنايته. 5 - الأخذ بزمام المبادرة في الهجوم على المسلمين: كان ضمن الخطة التي رسمها القائد الهوازني, الأخذ بزمام المبادرة ومهاجمة المسلمين؛   (1) أغمار: جمع غُمر، بضم الغين وإسكان الميم, وهو الذي لا يجرب الأمور. (2) انظر: مغازي الواقدي (3/ 893). (3) مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (2/ 736) رقم 1059. (4) انظر: مجمع الزائد (6/ 179، 180) , المستدرك للحاكم (3/ 48، 49) صحيح الإسناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 لأن النصر في الغالب يكون للمهاجم، أما المدافع فغالبا ما يكون في مركز الضعف، ولهذا آتت هذه الخطة ثمارها بعض الوقت، ثم انقلبت موازين القوى بفضل الله تعالى ثم بثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث كسب المسلمون الجولة وانتصروا على أعدائهم (1). 6 - شن الحرب النفسية ضد المسلمين: كان من ضمن بنود الخطة الحربية التي رسمها القائد مالك بن عوف الهوازني، استعمال سلاح معنوي له تأثير كبير في النفوس، فقد شن الحرب النفسية ضد المسلمين من أجل إلقاء الخوف في نفوسهم، وذلك بأن عمد إلى عشرات الآلاف من الجمال التي صحبها معه في الميدان فجعلها وراء جيشه ثم أركب عليها النساء، فكان لذلك المشهد منظر مهيب يحسب من يراه أن هذا الجيش مائة ألف مقاتل، وهو ليس كذلك (2). ب- خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم لصد هذه الحشود: لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عزم هوازن على حربه بعد أن تم له فتح مكة -شرفها الله- قام بالآتي: 1 - أرسل عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي حتى يوافيه بخبر هوازن: فذهب - رضي الله عنه - ومكث بينهم يومًا أو يومين ثم عاد وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى (3). ولقد ذهب عبد الله إلى حيث أمره الرسول صلى الله عليه وسلم وعاد على وجه السرعة بخبر هؤلاء الأعداء, إلا أنه قصر - رضي الله عنه - في أداء هذا الواجب حيث لم يختلط بهوازن اختلاطًا كاملاً بحيث يسمع ويرى ما يدبر ضد المسلمين هناك، وكان من أهم ما يجب أن يُعنى به معرفة مواقع المشركين التي احتلوها, وقد فوجئ المسلمون باختفاء تلك الكمائن التي نصبها الأعداء في منحنيات الوادي حتى استطاعوا أن يمطروا المسلمين بوابل من سهامهم فانهزموا في الجولة الأولى، فكان الجهل بهذه الكمائن أحد الأسباب الرئيسية وراء هزيمة المسلمين في أول المعركة, وما حدث نتيجة لهذا الخطأ لا يقدح في العصمة الثابتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الأمر ليس وحيًا من الله سبحانه وتعالى, وإنما هو من باب الاجتهاد في الأمور العسكرية، وقد بذل النبي صلى الله عليه وسلم جهده في سبيل الحصول على أدق المعلومات وأوفاها لكي يضع على ضوئها الخطة العسكرية المناسبة لمجابهة العدو (4). 2 - عدة الجيش واستعارة الدروع والرماح: أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا قوامه عشرة آلاف -وهم من خرجوا معه من المدينة- وألفان من   (1) انظر: القيادة العسكرية على عهد رسول الله، ص252. (2) انظر: غزوة حنين للشيخ محمد أحمد باشميل، ص128 - 131. (3) انظر: تاريخ الطبري (3/ 73). (4) انظر: القيادة العسكرية على عهد رسول الله، ص369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 مسلمة الفتح؛ فكان عدد من خرج في تلك الغزوة اثني عشر ألفا، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان بذراريهم ونَعمهم ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عشرة آلاف ومعه الطلقاء (1) وهم ألفان , وسعى صلى الله عليه وسلم لتأمين عدة الجيش فطلب من ابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح إعارة، وطلب من صفوان بن أمية دروعًا, وتكفل صلى الله عليه وسلم بالضمان, وكان نوفل وصفوان لا يزالان على شركهما، عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتتك رسلي فأعطهم -أو قال فادفع إليهم- ثلاثين درعا وثلاثين بعيرا، أو أقل من ذلك» فقال له: العارية مؤداة يا رسول الله، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم» (2) وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين دروعا فقال: أغصبًا يا محمد؟ قال: «لا, بل عارية مضمونة» قال: فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضعها له، فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب (3)، قال أبو داود: وكان أعاره قبل أن يسلم ثم أسلم. 3 - ثباته صلى الله عليه وسلم وأثره في كسب المعركة: سبقت هوازن المسلمين إلى وادي حنين، واختاروا مواقعهم, وبثوا كتائبهم في شعابه ومنعطفاته وأشجاره، وكانت خطتهم تتمثل في مباغتة المسلمين بالسهام أثناء تقدمهم في وادي حنين المنحدر. لقد باغت المشركون المسلمين وأمطرهم الأعداء من جميع الجهات، فاضطربت صفوفهم, وماج بعضهم في بعض، ونتيجة لهول هذا الموقف انهزم معظم الجيش ولاذوا بالفرار، كل يطلب النجاة لنفسه، وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم ونفر قليل في الميدان يتصدون لهجمات المشركين, ونترك العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم يصف لنا ذلك المشهد المهيب حيث يقول: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء، فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين, فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبَل الكفار، قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي عباس، نادِ أصحاب السمرة» (4) فقال العباس -وكان رجلا صيتًا-: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك! قال: فاقتلوا الكفار، والدعوة في الأنصار، يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث من الخزرج, فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته، كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال   (1) الطلقاء: هم الذين أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وخلى سبيلهم. (2) انظر مسند الشاميين للإمام أحمد. (3) رواه الإمام أحمد في المسند. (4) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين (3/ 1398) رقم 1775. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا حين حمي الوطيس» (1). لقد أيد الله نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين بأمور منها: * نزول الملائكة من السماء. * سلاح الرعب (2). تأثير قبضتي الحصى والتراب في أعين الأعداء: من الأسلحة المادية التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين تأثير قبضتي الحصى والتراب اللتين رمى بهما وجوه المشركين، حيث دخل في أعينهم كلهم من ذلك الحصى والتراب فصار كل واحد يجد لها في عينيه أثرًا، فكان من أسباب هزيمتهم (3) , قال العباس - رضي الله عنه -: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: «انهزموا وربِّ محمد» قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبرا (4). ثانيًا: مطاردة فلول الفارين إلى أوطاس والطائف: أ- قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس, فلقي دُريد بن الصمة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرُمي أبو عامر في ركبته، رماه جُشمي بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه فقلت: يا عم, من رماك؟ فأشار إليَّ فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له، فلحقته، فلما رآني ولى فأتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا تثبت؟ فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه الماء. قال: يا ابن أخي أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام وقل له: استغفر لي، واستخلفني أبو عامر على الناس فمكث يسيرًا ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته على سرير مُرمل (5) وعليه فراش قد أثر رمال السرير بظهره وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقوله: قل له استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال: «اللهم اغفر لعبيد أبي عامر» ورأيت بياض إبطيه، ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس» فقلت: ولي فاستغفر,   (1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين (3/ 1399) رقم 1772. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص599. (3) انظر: القيادة العسكرية في عهد رسول الله، ص259. (4) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين (3/ 1399) رقم 1775. (5) أي معمول بالرمال وهي حبال الحصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 فقال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريمًا». قال أبو بردة (1): إحداهما لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى (2). ب- محاصرة الفارين إلى الطائف: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف, واستخدم أساليب متنوعة في القتال والحصار, ومارس الشورى، واختار المكان المناسب عند الحصار، واستخدم الحرب النفسية والدعاية في صفوف الأعداء .. ومن هذه الأساليب: 1 - استخدامه صلى الله عليه وسلم أسلوبا جديدا في القتال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم في حصاره للطائف أسلحة جديدة لم يسبق له أن استعملها من قبل, وهذه الأسلحة هي: * المنجنيق: فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل هذا السلاح عند حصاره لحصن ثقيف بالطائف، فعن مكحول - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف (3). والمنجنيق من أسلحة الحصار الثقيلة ذات التأثير الفعال على من وجهت إليه, فبحجارته تهدم الحصون والأبراج, وبقنابله تحرق الدور والمعسكرات، وهذا النوع يحتاج إلى عدد من الجنود في إدارته واستخدامه عند القتال (4). * الدبابة: ومن أسلحة الحصار الثقيلة التي استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم لأول مرة في حصار الطائف: الدبابة؛ والدبابة على شكل بيت صغير تعمل من الخشب وتتخذ للوقاية من سهام الأعداء، عندما يراد نقض جدار الحصن، بحيث إذا دخلها الجنود كان سقفها حرزًا لهم من الرمي (5). * الحسك الشائك: من الأسلحة الجديدة التي استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم في حصاره لأهل الطائف: الحسك الشائك؛ وهو من وسائل الدفاع الثابتة، ويعمل من خشبتين تسمران على هيئة الصليب، حتى تتألف منهما أربع شعب مدببة، وإذا رمى في الأرض بقيت شعبة منه بارزة تتعثر بها أقدام الخيل والمشاة،   (1) أبو بردة هو ابن أبي موسى الأشعري راوي الحديث عن أبيه. (2) البخاري، المغازي، (5/ 120) رقم 4323. (3) أبو داود، كتاب الجهاد، باب فضل الجهاد, ح (35) مراسيل أبي داود، ص183. (4) انظر: المدرسة العسكرية الإسلامية، اللواء محمد فرج، ص407. (5) انظر: القيادة في عهد الرسول، ص405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 فتتعطل حركة السير السريعة المطلوبة في ميدان القتال (1). وقد ذكر أصحاب المغازي والسير أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل هذا السلاح في حصاره لأهل الطائف، حيث أمر جنده بنشر الحسك الشائك حول حصن ثقيف (2) , وفي هذا إشارة إلى قادة الأمة خصوصًا، والمسلمين عموما, ألا يعطلوا عقولهم وتفكيرهم من أجل الاستفادة من النافع والجديد الذي يحقق للأمة مصلحة الدارين، ويدفع عنها شرور أعدائها. 2 - اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانًا مناسبًا عند القتال: نزل الجيش في مكان مكشوف قريب من الحصن، وما كاد الجند يضعون رحالهم حتى أمطرهم الأعداء بوابل من السهام؛ فأصيب من جراء ذلك ناس كثيرون, وحينئذ عرض الحباب بن المنذر على الرسول صلى الله عليه وسلم فكرة التحول من هذا الموقع إلى مكان آمن من سهام أهل الطائف، فقبل صلى الله عليه وسلم هذه المشورة وكلف الحباب -لكونه من ذوي الخبرات الحربية الواسعة في هذا المجال- بالبحث عن موقع ملائم لنزول الجند، فذهب - رضي الله عنه - ثم حدد المكان المناسب, وعاد فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم جيشه بالتحول إلى المكان الجديد، وهذا شاهد عيان يحدثنا عما رأى؛ قال عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه -: لقد أطلع علينا من نبلهم ساعة نزلنا شيء الله به عليم كأنه رجل جراد, وترسنا لهم حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة, ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحباب فقال: «انظر مكانًا مرتفعًا مستأخرًا عن القوم» فخرج الحباب حتى انتهى إلى موضع مسجد الطائف (3) خارج من القرية, فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحولوا (4). 3 - استخدام الحرب النفسية والدعاية: لما اشتدت مقاومة أهل الطائف وقتلوا مجموعة من المسلمين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بساتين العنب والنخل في ضواحي الطائف للضغط على ثقيف, ثم أوقف هذا العمل بعد أثره في معنوياتهم وإضعافه روح المقاومة، وبعد أن ناشدته ثقيف بالله والرحم أن يترك هذا العمل, ووجه النبي صلى الله عليه وسلم نداء لعبيد الطائف أن من ينزل من الحصن ويخرج إلى المسلمين فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون من العبيد منهم أبو بكرة الثقفي فأسلموا، فأعتقهم ولم يعدهم إلى ثقيف بعد إسلامهم (5).   (1) انظر: الفن الحربي في صدر الإسلام، اللواء عبد الرءوف عون, ص 195. (2) انظر: الطبقات الكبرى (2/ 214). (3) مسجد الطائف: هو المسجد المعروف الآن بمسجد ابن عباس. (4) انظر: مغازي الواقدي (1/ 416). (5) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 510). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 4 - الحكمة من رفع الحصار: كانت حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفع الحصار واضحة؛ فالمنطقة المحيطة بها لم تعد تابعة لها، بل صارت ضمن سيادة الدولة الإسلامية، ولم تعد تستمد قوتها إلا من امتناع حصونها، فحصارها ورفعه سواء أمام القائد المحنك، وقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم من حوله في عملية الحصار (1) فقال نوفل بن معاوية الديلي: ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن الخطاب فأذن في الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل، ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاغدوا على القتال» فغدوا, فأصبت المسلمين جراحات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا قافلون غدا إن شاء الله» , فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك (2) , فلما ارتحلوا واستقلوا، قال: «قولوا: آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون» (3) , وقيل: يا رسول الله, ادع الله على ثقيف, فقال: «اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم» (4). * * * المبحث الثاني فقه الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع النفوس ويظهر هذا الفقه في عدة مواقف من هذه الغزوة منها: أ- لا رجعة للوثنية: خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين بعض حديثي العهد بالجاهلية, وكانت لبعض القبائل شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما، وبينما هم يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقع بصرهم على الشجرة، فتحلبت أفواههم على أعياد الجاهلية التي هجروها، ومشاهدها التي طال عهدهم بها، فقالوا: يا رسول الله, اجعل لنا (ذات أنواط) كما لهم (ذات أنواط) , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر! قلتم -والذي نفس محمد بيده- كما قال قوم موسى لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قال إنكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) لتركبن سنن من كان قبلكم» (5). وهذا يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص رغم إسلامهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم   (1) انظر: دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة, للشجاع، ص206. (2) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة حنين (3/ 1403) رقم 1778. (3) انظر: زاد المعاد (3/ 497). (4) انظر: زاد المعاد (3/ 497)، صحيح السيرة النبوية، ص566. (5) انظر: السيرة النبوية للندوي ص349. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 أوضح لهم ما في طلبهم من معاني الشرك, وحذرهم من ذلك, ولم يعاقبهم أو يعنفهم؛ لعلمه بحداثة عهدهم بالإسلام (1)، وقد سمح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشاركة في الجهاد؛ لأنه لا يشترط فيمن يخرج للجهاد أن يكون قد صحح اعتقاده تماما من غبش الجاهلية، وإنما الجهاد عمل صالح يثاب عليه فاعله، وإن قصر في بعض أمور الدين الأخرى، بل الجهاد مدرسة تربوية تعليمية يتعلم فيه المجاهدون كثيرًا من العقائد والأحكام والأخلاق؛ وذلك لما يتضمنه من السفر وكثرة اللقاءات التي يحصل فيها تجاذب الأحاديث وتلاقح الأفكار (2). ب- الإعجاب بالكثرة يحجب نصر الله: الإعجاب بالكثرة حجب عن المسلمين النصر في بداية المعركة, وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة: 25]. وقد نبه إلى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أوضح أنه لا حول ولا قوة إلا بالله فيقول: «اللهم بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل» (3). وهكذا أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يراقب المسلمين ويقوِّم ما يظهر من انحرافات في التصور والسلوك, حتى في أخطر ظروف المواجهة مع خصومه العتاة (4). وعلى الرغم من الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في بداية غزوة حنين وفرار معظم المسلمين في ميدان المعركة؛ لأنهم فوجئوا بما لم يتوقعوه, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدا ممن فرَّ عنه, حتى حينما طالبه بعض المسلمين بأن يقتل الطلقاء لأنهم فروا, لم يوافق على هذا (5). ج- الغنائم وسيلة لتأليف القلوب: رأى صلى الله عليه وسلم أن يتألف الطلقاء والأعراب بالغنائم تأليفًا لقلوبهم لحداثة عهدهم بالإسلام, فأعطى لزعماء قريش وغطفان وتميم عطاء عظيمًا, إذ كانت عطية الواحد منهم مائة من الإبل, ومن هؤلاء: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو, وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، ومعاوية ويزيد ابنا أبي سفيان، وقيس ابن عدي (6). وكان الهدف من هذا العطاء المجزي هو تحويل قلوبهم من حب الدنيا إلى حب   (1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 497). (2) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (8/ 62). (3) المسند للإمام أحمد (4/ 333). (4) انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة للعمري، ص199. (5) المصدر نفسه، ص204، 205. (6) انظر: معين السيرة، ص421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 الإسلام, أو كما قال أنس بن مالك: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا, فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها (1). وعبر عن هذا صفوان بن أمية بقوله: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ (2). وقد تأثر حدثاء الأنصار من هذا العطاء بحكم طبيعتهم البشرية, وترددت بينهم مقالة, فراعى صلى الله عليه وسلم هذا الاعتراض وعمل على إزالة التوتر, وبين لهم الحكمة في تقسيم الغنائم, وخاطب الأنصار خطابًا إيمانيًّا عقليًّا عاطفيًّا وجدانيًّا، ما يملك القارئ المسلم على مر الدهور وكر العصور وتوالي الزمان إلا البكاء عندما يمر بهذا الحدث العظيم, فعندما دخل سعد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة؟» قال: فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا, وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا أتى سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار, ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضُلاَّلا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟» قالوا: الله ورسوله أمنُّ وأفضل، ثم قال: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل. قال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقْتم ولصُدِّقتُم: أتيتنا مكذَّبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلا فآسيناك. أوجدتم عليَّ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء (3) والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة، لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وواديًا، وسلكتْ الأنصار شعبًا وواديًا لسلكتُ شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار والناس دثار (4) , اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» , قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًّا, ثم انصرف رسول الله وتفرقوا (5) , وفي رواية: «إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا   (1) مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله شيئًا قط (4/ 1806) رقم 2312. (2) مسلم، كتاب الفضائل، (4/ 1806) رقم 2313. (3) بالشاء: أي الشياه وهي الأغنام. (4) دثار: هو الثوب الذي يكون فوق الشعار .. (5) انظر: زاد المعاد (3/ 474). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 حتى تلقوني على الحوض» (1). ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن هذه المقالة لم تصدر من الأنصار كلهم، وإنما قالها حديثو السن منهم؛ بدليل ما ورد في الصحيحين، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن ناسًا من الأنصار قالوا يوم حنين: أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس بن مالك: فحُدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم, فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟» فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله! يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم» (2). ويرى الإمام ابن القيم -استدلالاً بهذه الحادثة-: أنه قد يتعين على الإمام أن يتألف أعداءه لاستجلابهم إليه, ودفع شرهم عن المسلمين فيقول: الإمام نائب عن المسلمين يتصرف لمصالحهم وقيام الدين، فإن تعين ذلك -أي التأليف- للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته واستجلاب رءوس أعدائه إليه ليأمن المسلمون شرهم، ساغ له ذلك، بل تعين عليه، فإنه وإن كان في الحرمان مفسدة، فالمفسدة المتوقعة من فوات تأليف هذا العدو أعظم، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل بناء مصالح الدنيا والدين على هذين الأصلين (3). والتأليف لهذه الطائفة إنما هو من قبيل الإغراء والتشجيع في أول الأمر حتى يخالط الإيمان بشاشة القلب، ويتذوق حلاوته. ويوضح الشيخ محمد الغزالي حقيقة هذا الأمر في مثال محسوس فيقول: ... إن في الدنيا أقوامًا كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم لا من عقولهم، فكما تهدى الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظل تمد إليه فمها، حتى تدخل حظيرتها آمنة، فكذلك هذه الأصناف من البشر تحتاج إلى فنون الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهش له (4). إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب للأنصار صورة مؤثرة: قوم يبشرون بالإيمان يقابلهم قوم يبشرون بالجِمال، وقوم يصحبهم رسول الله يقابلهم قوم يصحبهم الشاة والبعير، لقد أيقظتهم تلك الصور, وأدركوا أنهم وقعوا في خطأ ما كان لأمثالهم أن يقع فيه، فانطلقت حناجرهم بالبكاء ومآقيهم   (1) مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (2/ 738) رقم 1061. (2) مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (2/ 734) رقم 1509. (3) انظر: زاد المعاد (3/ 486). (4) انظر: فقه السيرة، ص427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 بالدموع, وألسنتهم بالرضا، وبذلك طابت نفوسهم واطمأنت قلوبهم بفضل سياسة النبي صلى الله عليه وسلم الحكيمة في مخاطبة الأنصار (1). د- الصبر على جفاء الأعراب: لقد ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الصبر على جفاء الأعراب, وطمعهم في الأموال, وحرصهم على المكاسب, فكان مثالا للمربي الذي يدرك أحوالهم, وما جبلتهم عليه بيئتهم وطبيعة حياتهم من القساوة والفظاظة والروح الفردية، فكان يبين لهم ويطمئنهم على مصالحهم ويعاملهم على قدر عقولهم، فكان بهم رحيمًا ولهم مربيًا ومصلحًا، فلم يسلك معهم مسلك ملوك عصره مع رعاياهم الذين كانوا ينحنون أمامهم أو يسجدون, وكانوا دونهم محجوبين, وإذا خاطبوهم التزموا بعبارات التعظيم والإجلال, كما يفعل العبد مع ربه، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فكان كأحدهم؛ يخاطبونه ويعاتبونه، ولا يحتجب عنهم قط، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يراعون التأدب بحضرته ويخاطبونه بصوت خفيض, ويكنون له في أنفسهم المحبة العظيمة، وأما جفاة الأعراب فقد عنفهم القرآن على سوء أدبهم وجفائهم, وارتفاع أصواتهم وجرأتهم في طبيعة مخاطبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم (2) , وهذه مواقف تدل على حسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعراب: 1 - الأعرابي الذي رفض البشرى: قال أبو موسى الأشعري: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: «أبشر» فقال: قد أكثرت عليَّ من أبشر، فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: «رد البشرى، فاقبلا أنتما» قالا: قبلنا. ثم دعا بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه ثم قال: «اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا» فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما, فأفضلا لها منه طائفة (3). 2 - مقولة الأعرابي: ما أريدَ بهذه القسمة وجه الله: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ... فلما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك, وأعطى أناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله، قال: فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فأتيته فأخبرته بما قال,   (1) انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص219. (2) المصدر السابق، ص219. (3) البخاري، كتاب المغازي رقم 4328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 قال: فتغير وجهه حتى كان كالصرف, ثم قال: «فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟!» قال: ثم قال: «يرحم الله موسى؛ قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» قال: قلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا (1). تعامله مع هوازن لما أسلمت: جاء وفد هوازن لرسول الله بالجعرانة وقد أسلموا, فقالوا: يا رسول الله, إنا أصل وعشيرة, وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك, فامنن علينا منَّ الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله, إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك, ولو أنا ملحنا لابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر (2) ثم أصابنا منها مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما, وأنت رسول الله خير المكفولين, ثم أنشأ يقول: امنن علينا رسولَ الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر (3) إلى أن قال: امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها درر امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم, فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديما وحديثًا وخصوصًا وعمومًا (4). فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوفد قال لهم: «نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: يا رسول الله خيَّرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا، فقال رسول الله: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين, وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا, فإني سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم» فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس ابن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستة فرائض من   (1) مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم، حديث 1062. (2) انظر: البداية والنهاية (4/ 352). (3) المصدر نفسه (4/ 352). (4) انظر: البداية والنهاية (4/ 363، 364). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 أول فيء نصيبه, فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم» (1)، وفي رواية ... فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المؤمنين فقال: «إن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل» فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم: «إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا (2) وقد سر الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلام هوازن وسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف النصري، فأخبروه أنه في الطائف مع ثقيف, فوعدهم برد أهله وأمواله عليه، وإكرامه بمائة من الإبل إن قدم عليه مسلمًا، فجاء مالك مسلمًا فأكرمه وأمّره على قومه وبعض القبائل المجاورة. لقد تأثر مالك بن عوف وجادت قريحته لمدح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في الناس كلهم بمثل محمد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشاء يخبر عما في غد وإذا الكتيبة عردت (3) أنيابها ... بالسمهري وضرب كل مهند فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة (4) خادر (5) في مرصد (6) لقد كانت سياسته صلى الله عليه وسلم مع خصومه مرنة إلى أبعد الحدود؛ وبهذه السياسة الحكيمة استطاع صلى الله عليه وسلم أن يكسب هوازن وحلفاءها إلى صف الإسلام، واتخذ من هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب بها قوى الوثنية في المنطقة ويقودها زعيمهم مالك بن عوف الذي قاتل ثقيفًا في الطائف حتى ضيق عليهم، وقد فكر زعماء ثقيف في الخلاص من المأزق بعد أن أحاط الإسلام بالطائف من كل مكان فلا تستطيع تحركًا ولا تجارة، فمال بعض زعماء ثقيف إلى الإسلام مثل عروة بن مسعود الثقفي الذي سارع إلى اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة بعد أن قسم غنائم حنين واعتمر من الجعرانة، فالتقى به قبل أن يصل إلى المدينة، وأعلن إسلامه وعاد إلى الطائف، وكان من زعماء ثقيف محبوبًا عندهم، فدعاهم إلى الإسلام وأذن في أعلى منزله فرماه بعضهم بسهام فأصابوه, فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين في حصار الطائف (7).   (1) المصدر نفسه (4/ 352، 353). (2) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4319 .. (3) عردت: اشتدت وضربت، القاموس المحيط (1/ 313). (4) الهباءة: غبار الحرب, مختار الصحاح، ص689. (5) الخادر: المقيم في عرينه، والخدر ستر يمد للجارية من ناحية البيت. (6) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 144). (7) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 192). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 إن الإنسان ليعجب من فقه النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة النفوس, ومن سعيه الحثيث لتمكين دين الله تعالى، لقد استطاع صلى الله عليه وسلم أن يزيل معالم الوثنية، وبيوتات العبادة الكفرية من مكة وما حولها، ورتب صلى الله عليه وسلم الأمور التنظيمية للأراضي التي أضيفت للدولة الإسلامية، فعين عتاب بن أسيد أميرا على مكة، وجعل معاذ بن جبل مرشدًا وموجهًا ومعلمًا ومربيًا (1) , وعين على هوازن مالك بن عوف قائدًا ومجاهدًا, ثم اعتمر ورجع إلى المدينة صلى الله عليه وسلم. * * * المبحث الثالث دروس وعبر وفوائد أولاً: تفسير الآيات التي نزلت في غزوة حنين: قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ - ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ - ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 25 - 27]. إن غزوة حنين سجلت في القرآن الكريم لكي تبقى درسا للأمة في كل زمان ومكان, ولقد عرضت في القرآن الكريم على منهجية ربانية كان من أهم معالمها الآتي (2): أ- بين القرآن الكريم أن المسلمين أصابهم الإعجاب بكثرة عددهم, قال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) ثم بين القرآن أن هذه الكثرة لا تفيد (فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا). ب- بين القرآن الكريم أن المسلمين انهزموا وهربوا ما عدا النبي صلى الله عليه وسلم ونفر يسير من أصحابه، قال تعالى: (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ). ج- بين القرآن الكريم أن الله نصر رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة وأكرمه بإنزال السكينة عليه وعلى المؤمنين فقال تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ). د- بين القرآن الكريم أن الله أمد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالملائكة في حنين قال تعالى: (وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 153). (2) انظر: حديث القرآن (2/ 602، 603). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 794 وأكد -سبحانه- على أنه يقبل التوبة من عباده ويوفق من شاء إليها, قال تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). ثانيًا: أسباب الهزيمة وعوامل النصر في حنين: أ- أسباب الهزيمة: وقعت الهزيمة في الجولة الأولى لعدة أسباب منها: 1 - أن شيئًا من العجب تسرب إلى قلوب المسلمين، لما رأوا عددهم، فقد قال رجل منهم: لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة. 2 - خروج شبان ليس لديهم سلاح أو سلاح كافٍ, وإنما عندهم حماس وتسرع. 3 - أن عدد المشركين كان كثيرًا بلغ أكثر من ضعفي عدد المسلمين. 4 - أن مالك بن عوف سبق بجيشه إلى حنين فتهيأ هنالك ووضع الكمائن والرماة في مضايق الوادي وعلى جوانبه، وفاجأوا المسلمين، برميهم بالنبال وبالهجوم المباغت. 5 - كان العدو مهيأ ومنظما ومستعدا للقتال حال مواجهته لجيش المسلمين، فقد جاء المشركون بأحسن صفوف رُئيت: صف الخيل ثم المقاتلة ثم النساء من وراء ذلك ثم الغنم ثم النعم. 6 - وجود ضعاف الإيمان الذين أسلموا حديثًا في مكة، ففروا فانقلبت أولاهم على أخراهم، فكان ذلك سببا لوقوع الخلل وهزيمة غيرهم (1). ب- عوامل النصر: كانت عوامل النصر في حنين عدة أسباب منها: 1 - ثبات الرسول في القتال وعدم تراجعه، مما جعل الجنود يثبتون ويستجيبون لنداء القائد الثابت. 2 - شجاعة القائد، فالرسول القائد لم يثبت في مكانه فحسب, بل تقدم نحو عدوه راكبًا بغلته، فطفق يركض ببغلته قِبَل الكفار والعباس آخذ بلجام البغلة يكفها ألا تسرع. 3 - ثبات قلة من المسلمين معه وحوله حتى جاء الذين تولوا وأكملوا المسيرة؛ مسيرة الثبات والبر والقتال حتى النصر. 4 - سرعة استجابة الفارِّين والتحاقهم بالقتال. 5 - وقوع الجيش المعادي في خطأ عسكري قاتل, وهو عدم الاستمرار في مطاردة الجيش   (1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 409). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 الإسلامي بعد فراره، مما أعطى فرصة ثمينة للجيش الإسلامي ليلتقط أنفاسه ويعود إلى ساحة القتال ويستأنف القتال من جديد بقيادة القائد الثابت الشجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 6 - رمية الحصى، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: «انهزموا ورب محمد» (1). 7 - الاستعانة والاستغاثة بالله عز وجل، فقد كان الرسول يلح على الله في الدعاء بالنصر على الأعداء. 8 - إنزال الملائكة في الغزوة ومشاركتهم فيها، وقد سجل الله هذه المشاركة في كتابه الكريم في سورة التوبة (2): (وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ). ثالثًا: الأحكام المستنبطة من غزوة حنين والطائف: 1 - نزول الآية الكريمة (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 24] في يوم أوطاس لبيان حكم المسبيات المتزوجات، وقد فرق السبي بينهن وبين أزواجهن، فأوضحت الآية جواز وطئهن إذا انقضت عدتهن، لأن الفرقة تقع بينهن وبين أزواجهن الكفار بالسبي وتنقضي العدة بالوضع للحامل وبالحيض لغير الحامل (3). 2 - منع المخنثين خلقة من الدخول على النساء الأجنبيات: وكان ذلك مباحًا إذ لا حاجة للمخنث بالنساء, وكان سبب المنع ما رواه البخاري عن زينب بنت أبي سلمة عن أمها أم سلمة، دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث فسمعته يقول لعبد الله بن أمية: يا عبد الله, أرأيت إن فتح الله عليك الطائف غدًا، فعليك بابنة غيلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلن هؤلاء عليكم» (4). وفي هذا المنع حرص النبي صلى الله عليه وسلم على سلامة أخلاق المجتمع الإسلامي. 3 - النهي عن قصد قتل النساء والأطفال والشيوخ والأجراء ممن لا يشتركون في القتال ضد المسلمين: وقد ذكر ابن كثير أن رسول الله مر يوم حنين بامرأة قتلها خالد بن الوليد والناس متقصفون (5) عليها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كانت هذه لتقاتل» وقال لأحدهم: «الحق خالدًا فقل له لا يقتلن ذرية ولا عسيفًا» (6) , وفي رواية: «فقل له إن رسول الله ينهاك أن تقتل   (1) مسلم بشرح النووي (12/ 116، 117). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص423. (3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 520). (4) البخاري، كتاب المغازي، (5/ 120) رقم 4324. (5) متقصفون: مجتمعون. (6) انظر: البداية والنهاية (4/ 336). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 796 وليدًا أو امرأة أو عسيفًا» (1). 4 - تشريع العمرة من الجعرانة: أحرم النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة من الجعرانة، وكان داخلا إلى مكة وهذه هي السنَّة لمن دخلها من طريق الطائف وما يليه، وأما ما يفعله كثير مما لا علم عندهم من الخروج من مكة إلى الجعرانة ليحرم منها بعمرة ثم يرجع إليها فهذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا استحبه أحد من أهل العلم، وإنما يفعله عوام الناس زعموا أنه اقتداء بالنبي وغلطوا، فإنه إنما أحرم منها داخلا إلى مكة ولم يخرج منها إلى الجعرانة ليحرم منها (2). 5 - إرشاده للأعرابي بأن يصنع في العمرة ما يصنع في الحج: قال يعلى بن منبه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه جبة، وعليها خلوق (3) -أو قال: أثر صفرة- فقال: كيف تأمرني أصنع في عمرتي؟ قال: وأُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فستر بثوب, وكان يعلى يقول: وددت أني أرى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الوحي عليه, قال: فرفع عمر طرف الثوب عنه فنظرت إليه، فإذا له غطيط (قال) فلما سري عنه قال: «أين السائل عن العمرة؟ اغسل عنك الصفرة -أو قال: أثر الخلوق- واخلع عنك جبتك، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجتك» (4). 6 - من قتل قتيلاً فله سلبه: قال أبو قتادة: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله, فأسرعت إلى الذي يختله فرفع ليضربني وأضرب يده فقطعتها, ثم أخذني فضمني ضمًّا شديدًا حتى تخوفت, ثم ترك فتحلل ودفعته ثم قتلته, وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ قال: أمر الله, ثم تراجع الناس إلى رسول الله، فقال رسول الله: «من أقام بينة على قتيل قتله، فله سلبه»، فقمت لألتمس بينة قتيلي فلم أر أحدًا يشهد لي فجلست, ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه, فقال أبو بكر: كلا لا يعطه (5) أصيبغ من قريش ويدع (6) أسدًا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأداه إليَّ فاشتريت منه خرافًا (7) , فكان أول مال تأثلته في الإسلام (8).   (1) انظر: البداية والنهاية (4/ 335). (2) انظر: زاد المعاد (3/ 504). (3) خلوق: طيب. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص578. (5) لا يعطه: أي لا يعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله أصيبغ: نوع من الطيور شبه له لعجزه وضعفه. (6) يدع: يترك. (7) خرافا: أي بستانا أقام الثمر مقام الأصل. (8) البخاري، كتاب المغازي (5/ 119) رقم 4322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 797 ونلحظ في هذا الخبر أن أبا قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - حرص على سلامة أخيه المسلم، وقتل ذلك الكافر بعد جهد عظيم، كما أن موقف الصديق - رضي الله عنه - فيه دلالة على حرصه على إحقاق الحق، والدفاع عنه, ودليل على رسوخ إيمانه وعمق يقينه وتقديره لرابطة الأخوة الإسلامية وأنها بمنزلة رفيعة بالنسبة له (1). 7 - النهي عن الغلول: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وبرة من سنام بعير من الغنائم، فجعلها بين إصبعيه ثم قال: «أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه، إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط, وإياكم والغلول، فإن الغلول عار، ونار، وشنار على أهله في الدنيا والآخرة» (2). ولما سمع الناس هذا الزجر بما فيه من وعيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشفقوا على أنفسهم وخافوا خوفا شديدًا فجاء أنصاري بكبة خيط من خيوط شعر، فقال: يا رسول الله, أخذت هذه الوبرة لأخيط بها برذعة بعير لي دبر، فقال له صلى الله عليه وسلم: «أما حقي منها، وما كان لبني عبد المطلب فهو لك» , فقال الأنصاري: أما إذا بلغ الأمر فيها ذلك فلا حاجة لي بها, فرمى بها من يده (3). وأما عقيل بن أبي طالب فقد دخل على امرأته فاطمة بنت شيبة يوم حنين، وسيفه ملطخ دمًا، فقال لها: دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك، فدفعها إليها, فسمع المنادي يقول: من أخذ شيئًا فليرده، حتى الخياط والمخيط, فرجع عقيل فأخذ الإبرة من امرأته، فألقاها في الغنائم (4). وهذا التشديد في النهي عن الغلول، وتبشيعه بهذه الصورة الشائهة المرعبة، ولو كان في شيء تافه لا يلتفت إليه، يمثل معلما من أهم معالم المنهج النبوي في تربية الأفراد على ما ينبغي أن يكون عليه الفرد المسلم في حياته العملية, إيمانًا وأمانة, وفي التزام الأفراد بهذا التوجيه يتطهر المجتمع المسلم من رذيلة الخيانة، لأن التساهل في صغيرها يقود إلى كبيرها، والخيانة من أرذل الأخلاق الإنسانية التي لا تليق بالمجتمع المسلم (5). 8 - وفاء نذر كان في الجاهلية: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لما قفلنا من حنين سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكافًا فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوفائه (6).   (1) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي، (8/ 26). (2) انظر: البداية والنهاية (4/ 353). (3) انظر: البداية والنهاية (4/ 353). (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 145). (5) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/ 387؛ 388). (6) البخاري، كتاب المغازي (5/ 118)، رقم 4320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 798 رابعًا: مواقف لبعض الصحابة والصحابيات: 1 - أنس بن أبي مرثد الغنوي وحراسة المسلمين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اندلاع معركة حنين: «من يحرسنا الليلة؟» فقال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: «فاركب» فركب ابن أبي مرثد فرسا له، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: «استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ونُغَرَنَّ من قبلك الليلة». قال سهيل بن الحنظلية: فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال: «هل أحسستم فارسكم؟» قالوا: ما أحسسناه، فثّوب بالصلاة, فجعل صلى الله عليه وسلم يصلي، وهو يلتفت إلى الشعِّب، حتى إذا قضى صلاته، قال: «أبشروا فقد جاءكم فارسكم» , فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب, فإذا هو قد جاء حتى وقف عليه فقال: إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى الشعب حيث أمرني صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل نزلت الليلة؟» فقال: لا، إلا مصليا أو قاضي حاجة، فقال له صلى الله عليه وسلم: «قد أوجبت، فلا عليك أن تعمل بعدها» (1) وفي هذا الخبر يظهر لنا المنهج النبوي الكريم في الاهتمام بالأفراد، فقد ظهر اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بطليعة القوم حتى جعل يلتفت في صلاته، وما كان ذلك ليحدث إلا لأمر مهم، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال: «أبشروا فقد جاء فارسكم» , إنها الكلمة التي يستعملها صلى الله عليه وسلم في إخبارهم بما يسرهم من الأمور العظيمة، تلك هي أهمية الفرد في المجتمع الإسلامي، إنه ليس كمَّا مهملاً، ولا رقمًا في سجل ولا بزالاً في آلة، يستغنى عنه عند الضرورة ليؤتى بغيره، إنها بعض التفسير للمنهج الإلهي (2) في قوله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]. كما أن في هذه القصة معلمًا من معالم المنهج النبوي الكريم في وجوب اليقظة وتعرف أحوال العدو، ومراقبة حركاته، ومعرفة ما عنده من القوة عددًا وعدة, وما رسمه من خطط حربية، وهي سياسة مهمة بالنسبة للقادة الذين يسعون لإعلاء كلمة الله في الأرض (3). وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «قد أوجبت فلا عليك أن تعمل بعدها» فهذا محمول على النوافل التي يكفر الله بها السيئات، ويرفع بها الدرجات، والمقصود أنه عمل عملا صالحًا كبيرًا يكفي لتكفير ما قد يقع منه من سيئات في المستقبل، ويرفع الله به درجاته في الجنة، وليس المقصود أن هذا العمل يكفيه عن أداء الواجبات (4).   (1) أبو داود في الجهاد رقم 2501، صحيح السيرة النبوية، ص550. (2) انظر: معين السيرة، ص429. (3) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/ 366). (4) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 14). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 2 - شجاعة أم سليم يوم حنين: قال أنس - رضي الله عنه -: إن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا (1) فكان معها, فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الخنجر» قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، قالت: يا رسول الله, اقتل من بعدنا (2) من الطلقاء (3) انهزموا بك (4) , فقال رسول الله: «يا أم سليم, إن الله قد كفى وأحسن» (5). 3 - الشيماء بنت الحارث أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة: كان المسلمون قد ساقوا فيمن ساقوه إلى رسول الله الشيماء بنت الحارث، وبنت حليمة السعدية، أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وعنفوا عليها في السوق، وهم لا يدرون, فقالت للمسلمين: تعلمون والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله، ولما انتهت الشيماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إني أختك من الرضاعة، قال: «ما علامة ذلك؟» قالت: عضة عضضتها في ظهري، وأنا متوركتك (6) , وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة، وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، وخيَّرها، وقال: «إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت» فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي (7). ومتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعماء وشاء (8). خامسًا: إسلام كعب بن زهير -الشاعر- والهيمنة الإعلامية على الجزيرة: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، جاءه كعب بن زهير -الشاعر ابن الشاعر- وكان قد هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضاقت به الأرض، وضاقت عليه نفسه, وحثه أخوه (بجير) على أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم تائبا مسلما، وحذره من سوء العاقبة إن لم يفعل ذلك، فقال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي اشتهرت بـ (قصيدة بانت سعاد) , فقدم المدينة، وغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح، ثم جلس إليه، ووضع يده في يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كعب بن زهير جاء يستأمنك تائبًا مسلمًا، فهل أنت قابل منه؟ فوثب عليه رجل   (1) خنجرًا: سكين كبير ذو حدين. (2) من بعدنا: من سوانا. (3) الطلقاء: هم الذين أسلموا يوم الفتح وكانوا سبب الانهزام في المرة الأولى. (4) انهزموا بك: انهزموا عنك. (5) مسلم، رقم 1809، صحيح السيرة النبوية، 563. (6) متوركتك: يعني حاملتك على وركي. (7) انظر: البداية والنهاية (4/ 363) السيرة النبوية الصحيحة (2/ 506). (8) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 من الأنصار، فقال: يا رسول الله, دعني وعدو الله، أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه عنك فقد جاء تائبًا نازعًا» , وأنشد كعب قصيدته اللامية التي قال فيها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول (1) ... متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة الطرف إذ رحلوا ... إلا أغنُّ قرير العين مكحول (2) ومنها: إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا: زولوا شُمُّ العرانين أبطال لبوسُهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل (3) ويقال إنه لما أنشد رسول الله قصيدته أعطاه بردته، وهي التي صارت إلى الخلفاء (4). قال ابن كثير: هذا من الأمور المشهورة جدًّا، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه، فالله أعلم (5). ويقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له بعد ذلك: «لولا ذكرت الأنصار بخير فإن الأنصار لذلك أهل!» (6)، فقال: من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار (7) ورثوا المكارم كابرًا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار المكرهين السمهريَّ بأذرع ... كسوالف الهندي غير قصار (8) والناظرين بأعين محمرَّة ... كالجمر غير كليلة الأبصار والبائعين نفوسَهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار والقائدين (9) الناس عن أديانهم ... بالمشرفي وبالقنا الخطار (10) يتطهرون يرونه نسكًا لهم ... بدماء من علقوا من الكفار   (1) متبول: مغرم، مكبول: مقيد. (2) أغن: صفة للغزال الذي في صوته غنة. (3) انظر: البداية والنهاية (4/ 369 - 371). (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 487). (5) انظر: البداية والنهاية (374). (6) المصدر نفسه (4/ 373). (7) المقنب: الجماعة من الخيل، يريد به القوم على ظهور جيادهم. (8) السمهري: الرمح، سوالف الهندي: حواشي السيف. (9) القائدين: المانعين الناس. (10) المشرفي: السيف، والقنا، الرماح جمع قناة، والخطار: المهتز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 801 إلى أن قال: لو يعلم الأقوام علمي كله ... فيهم لصدقني الذين أماري (1) قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين (2) النازلين مقاري (3) وبإسلام كعب بن زهير نستطيع القول إن الشعراء المعارضين للدعوة الإسلامية قد انتهى دورهم، فقد أسلم ضرار بن الخطاب وعبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن هشام، والعباس بن مرداس، وتحولوا إلى الصف الإسلامي, واستظلوا بلوائه عن قناعة وإيمان، ولم يكتف بعضهم بأن تكون كلمته في الدفاع عن الإسلام, بل كان سيفه إلى جانب كلمته، وهذا من بركات فتح مكة (4). سادسًا: من نتائج غزوة حنين والطائف: 1 - انتصار المسلمين على قبيلتي هوازن وثقيف في هذه الغزوة. 2 - كانت غزوة حنين والطائف آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم لمشركي العرب. 3 - رجوع كثير من أهل مكة والأعراب بغنائم إلى مواطنهم تأليفا لهم لدخول الإسلام، وحصول الأنصار على وسام عظيم وهو شهادة رسول الله لهم بالإيمان, والدعاء لهم ولأبنائهم وأحفادهم, ورجوعهم برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. 4 - انضمام كوكبة مباركة من قيادة أهل مكة وهوازن إلى الإسلام وأصبحوا حربًا ضروسًا على الأوثان والأصنام والمعابد الجاهلية في الجزيرة العربية، كما كان لقبيلة هوازن, دور كبير في مجاهدات أهل الطائف والتضييق عليهم حتى أسلموا. 5 - توسعت الدولة الإسلامية وامتد نفوذها وأصبح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء بمكة وعلى قبيلة هوازن، وصارت تلك الأماكن جزءًا من الدولة الإسلامية التي عاصمتها المدينة النبوية، وأصبح بالإمكان أن يرسل رسول الله بعوثا دعوية بدون خوف أو وجل من أحد, وصارت المدينة بعد الفتح تستقبل وفود المستجيبين، وأخذت حركة السرايا تستهدف الأوثان والأصنام لتهديمها, فقد أصبح استئصال وجودها من الجزيرة سهلا، ونظم رسول الله فريضة الزكاة فكلف من يقوم على جمعها من القبائل التابعة للدولة (5). * * *   (1) أماري: أجادل. (2) خوت النجوم: أي سقطت، الطارقين: الذين يأتون بالليل. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 167، 168). (4) انظر: معين السيرة، ص431 - 433. (5) انظر: الأساس في السنة وفقهها في السيرة النبوية (2/ 961). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 802 المبحث الرابع أهم الأحداث ما بين حنين وتبوك أولاً: ترتيب استيفاء الصدقات: شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته إلى المدينة -في أواخر ذي القعدة- في تنظيم الإدارة والجباية، وكان صلى الله عليه وسلم قد استخلف عتاب بن أسيد على مكة حين انتهى من أداء العمرة, وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس ويعلمهم القرآن، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم عندما تدخل القبائل في الإسلام أن يحرص على تعليمها وتربيتها ويعين من يشرف على ذلك؛ لأن النفوس تحتاج إلى العناية والاهتمام وغرس العقائد الصحيحة والتصورات السليمة فيها، وفي مطلع المحرم من العام التاسع وجه الرسول صلى الله عليه وسلم عماله إلى المناطق المختلفة، فبعث بريدة بن الحصيب إلى أسلم وغفار, وعباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة، ورافع بن مكيث إلى جهينة، وعمرو بن العاص إلى فزارة، والضحاك بن شعبان الكلابي إلى بني كلاب، وبسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب، وابن اللُّتْبيَّة الأزدي إلى بني ذبيان, ورجلا من بني سعد بن هذيم إلى بني هذيم (1) , والمهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء، وزياد بن لبيد إلى حضرموت، والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم إلى بني سعد (2) , والعلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وعلي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم (3). وكان صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال، يحاسبهم على المستخرج والمصروف, كما فعل مع عامله ابن اللُّتبيَّة بن الأزد حيث حاسبه عندما قال الرجل (4): هذا لكم، وهذا أُهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه, إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال: «اللهم هل بلغت» مرتين (5) وكان يقول أيضا: «أيما عامل استعملناه وفرضنا له رزقًا فما أصاب بعد رزقه فهو غلول» (6). ثانيًا: أهم السرايا في هذه المرحلة: أ- سرية الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث الطفيل بن عمرو من مقره في حنين وقبل أن يسير إلى الطائف،   (1) انظر: نضرة النعيم (1/ 384). (2) انظر: نضرة النعيم (1/ 384). (3) انظر: نضرة النعيم (1/ 384). (4) انظر: الدولة العربية الإسلامية، منصور الحرابي، ص43. (5) مسلم، باب محاسبة الإمام عماله رقم 1832، صحيح السيرة، ص 579. (6) انظر: التراتيب الإدارية للكتاني، (1/ 265). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 أمره بأن يهدم (ذي الكفين) صنم عمرو بن حُمَمَة الدوسي، ثم يستمد قومه ويوافيه مع المدد إلى الطائف، وقد نفذ الطفيل بن عمرو أوامر النبي صلى الله عليه وسلم, فهدم ذي الكفين وحرقه, وقاد أربعمائة من قومه ومعهم دبابة ومنجنيق مددًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فوصلوا إليه بعد مقدمه الطائف بأربعة أيام (1). ب- سرية عبد الله بن حذافة السهمي, ويقال إنها سرية الأنصار: قال علي بن أبي طالب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل عليها رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب, فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبًا, فجمعوا فقال: أوقدوا نارًا, فأوقدوها فقال: ادخلوها, فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضًا ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار, فما زالوا حتى خمدت النار فسكن غضبه, فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة, الطاعة في المعروف» (2). ج- سرية علي بن أبي طالب لهدم صنم الفُلس في بلاد طيئ: وفي ربيع الآخر خرجت سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس، صنم لطيئ ليهدمه, وكان تعدادها خمسين ومائة رجل من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض, فشنوا الغارة على محلة آل حاتم -حاتم الطائي الذي ضرب المثل بجوده- مع الفجر فهدموا الفلس وخربوه، وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء, وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام (3). د- سرية جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الخلصة: قال جرير بن عبد الله: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» فقلت: بلى, فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس, وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري فقال: «اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا» قال: فما وقعت عن فرسي بعد، قال: وكان ذو الخلصة بيتًا باليمن لخشعم وبجيلة، فيه نصب يقال له: الكعبة، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها، قال: ولما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالأزلام, فقيل له إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا, فإن قدر عليك ضرب عنقك، قال: فبينما هو يضرب بها إذ وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها ولتشهدوا أن لا إله إلا الله أو لأضربن عنقك. قال: فكسرها وشهد, ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أبا أرطاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك, فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله, والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب, قال: فبرَّك النبي صلى الله عليه وسلم على خيل   (1) انظر: نضرة النعيم، (1/ 385). (2) البخاري، كتاب المغازي (5/ 126) رقم 4340. (3) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص624. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 أحمس ورجالها خمس مرات (1). ثالثًا: إسلام عدي بن حاتم: عندما وقعت أخت عدي بن حاتم في أسر المسلمين عاملها رسول الله معاملة كريمة, وبقيت معززة مكرمة، ثم كساها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها ما تتبلغ به في سفرها, وعندما وصلت إلى أخيها في الشام شجعته على الذهاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأثر بنصيحتها وقدم على المدينة (2) , ونترك أبا عبيدة بن حذيفة يحدثنا عن قصة إسلام عدي: قال أبو عبيدة بن حذيفة: كنت أحدث عن عدي بن حاتم فقلت: هذا عدي في ناحية الكوفة، فلو أتيته فكنت أنا الذي أسمع منه، فأتيته فقلت: إني كنت أحدث عنك حديثا، فأردت أن أكون أنا الذي أسمعه منك، قال: لما بعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم فررت منه حتى كنت في أقصى أرض المسلمين مما يلي الروم. قال: فكرهت مكاني الذي أنا فيه حتى كنت أشد كراهية له مني من حيث جئت، قال: قلت: لآتين هذا الرجل, فوالله إن كان صادقًا فلأسمعن منه، وإن كان كاذبا ما هو بضائري. قال: فأتيته واستشرفني الناس وقالوا: عدي ابن حاتم، عدي بن حاتم، قال: أظنه قال ثلاث مرار، قال: فقال لي: يا عدي بن حاتم, أسلم تسلم، قال: قلت: إني من أهل دين، قال: يا عدي بن حاتم, أسلم تسلم، قال: قلت: إني من أهل دين، قالها ثلاثا, قال: «أنا أعلم بدينك منك»، قال: قلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: «نعم» قال: «أليس ترأس قومك؟» قال: قلت: بلى، قال: فذكر محمد الركوسية (3) قال كلمة التمسها يقيمها فتركها قال: فإنه لا يحل في دينك المرباع (4). قال: فلما قالها، تواضعت لها. قال: «وإني قد أرى أن مما يمنعك خصاصة تراها ممن حولي، وأن الناس علينا إلبًا واحدًا, هل تعرف مكان الحيرة؟» قال: قلت: قد سمعت بها ولم آتها، قال: «لتوشكن الظعينة أن تخرج منها بغير جوار حتى تطوف بالكعبة، ولتوشكن كنوز كسرى بن هرمز تفتح» قال: قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «كسرى بن هرمز -ثلاث مرات- وليوشكن أن يبتغي من يقبل ماله منه صدقة فلا يجد» , قال: فلقد رأيت اثنتين، قد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالكعبة, وكنت في الخيل التي أغارت على   (1) البخاري، المغازي، (5/ 132) رقم 4357. (2) انظر: التاريخ الإسلامي، (8/ 81). (3) قوم لهم دين بين النصارى والصابئة، النهاية (2/ 259). (4) المرباع: هو ربع الغنيمة يأخذه سيد القوم قبل القسمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 المدائن، وايم الله لتكونن الثالثة؛ إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيه (1) , وفي رواية جاء فيه .. فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل؟» فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك, قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم (2) محشوة ليفًا فقذفها إليَّ، فقال: «اجلس على هذه» , قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: «بل أنت» فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك (3). وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة منها: 1 - كان عدي وهو مقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل في تصوره أنه أحد رجلين: إما نبي، وإما ملك، فلما رأى وقوف رسول الله مع المرأة الضعيفة الكبيرة مدة طويلة شعر بخلق التواضع وانسلخ من ذهنه عامل الملك، واستقر في تصوره عامل النبوة. 2 - كان النبي صلى الله عليه وسلم موفقا حينما انتقد عديا في مخالفته للدين الذي يعتنقه، حيث حصل لعدي اليقين بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعلم من دينه ما لا يعلمه الناس من حوله. 3 - لما ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم أن عديا قد أيقن بنبوته تحدث عن العوائق التي تحول بين بعض الناس واتباع الحق, حتى مع معرفتهم بأنه حق، ومنها ضعف المسلمين وعدم اتساع دولتهم، وما هم فيه من الفقر, فأبان له النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأمن سيشمل البلاد حتى تخرج المرأة من العراق إلى مكة من غير أن تحتاج إلى حماية أحد، وأن دولة الفرس ستقع تحت سلطان المسلمين، وأن المال سيفيض حتى لا يقبله أحد، فلما زالت عن عدي هذه المعوقات أسلم. 4 - كان النبي صلى الله عليه وسلم موفقا في دعوته حيث كان خبيرا بأدواء النفوس ودوائها، ومواطن الضعف فيها, وأزمة قيادها، فكان يلائم كل إنسان بما يلائم علمه وفكره وما ينسجم مع مشاعره وأحاسيسه؛ ولذلك أثر في زعماء القبائل ودخل الناس في دين الله أفواجا (4). 5 - وجد عدي سمات النبوة الصادقة في مظهر معيشته صلى الله عليه وسلم وحياته، ووجد هذه السمات أيضا في لون حديثه وكلامه, ووجد مصداق ذلك فيما بعد، في وقائع الزمن والتاريخ، فكان ذلك سببًا في إسلامه، وزيادة يقينه وانخلاعه عن زخارف الحياة الدنيا ومظاهر الأبهة والترف   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص580. (2) أدم: هو بفتحتين: الجلد. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 236). (4) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 58، 86). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 806 التي كان قد أسبغها عليه قومه (1). رابعًا: أحداث متفرقة في سنة ثمان: قال ابن كثير نقلا عن الواقدي: ... وفي هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعمرو ابني الجلندي من الأزد، وأخذت الجزية من مجوس بلدها ومن حولها من الأعراب، وفيها تزوج رسول الله فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في ذي القعدة, فاستعاذت منه عليه السلام ففارقها، وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم بن رسول الله من مارية القبطية فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولدا ذكرا (2). وفي عام 8هـ توفيت السيدة زينب بنت رسول الله وزوج أبي العاص بن الربيع، ولدت قبل المبعث بعشر سنين، وكانت أكبر بناته صلى الله عليه وسلم تليها رقية, ثم أم كلثوم، ثم فاطمة رضي الله عنهن، كان رسول الله محبا لها، أسلمت قديما ثم هاجرت قبل إسلام زوجها بست سنين، وكانت قد أجهضت في هجرتها ثم نزفت وصار المرض يعاودها حتى توفيت, ولما ماتت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغسلنها وترًا: ثلاثًا، أو خمسًا، واجعلن في الآخر كافورًا» (3). * * *   (1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص321. (2) انظر: البداية والنهاية (4/ 374). (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 490) , الكافور: نبت طيب الرائحة وهو -فضلا عن كونه يطيب الميت- يجفف جسمه ويجعله صلبًا متماسكا، ويمنع إسراع الفساد إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 807 الفصل السابع عشر غزوة تبوك (9 هـ) , وهي غزوة العسرة المبحث الأول تاريخ الغزوة، وأسماؤها وأسبابها أولاً: تاريخها وأسماؤها: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الغزوة في رجب من العام التاسع الهجري (1) بعد العودة من حصار الطائف بنحو ستة أشهر (2). واشتهرت هذه الغزوة باسم غزوة تبوك، نسبة إلى مكان هو عين تبوك، التي انتهى إليها الجيش الإسلامي، وأصل هذه التسمية جاء في صحيح مسلم, فقد روي بسنده إلى معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي» (3). وللغزوة اسم آخر, وهو: غزوة العسرة، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم حينما تحدث عن هذه الغزوة في سورة التوبة، قال تعالى: (لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 117]. وقد روى البخاري بسنده إلى أبي موسى الأشعري، قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك ... , وعنون البخاري لهذه الغزوة بقوله: (باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة) (4). لقد سميت بهذا الاسم لشدة ما لاقى المسلمون فيها من الضنك، فقد كان الجو شديد الحرارة، والمسافة بعيدة، والسفر شاقًّا لقلة المؤونة وقلة الدواب التي تحمل المجاهدين إلى   (1) انظر: تفسير الطبري (14/ 540 - 542) , السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص614. (2) انظر: فتح الباري (16/ 237). (3) صحيح مسلم (4/ 1784) رقم 706. (4) البخاري (5/ 150) رقم 4415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 808 أرض المعركة، وقلة الماء في هذا السفر الطويل والحر الشديد، وكذلك قلة المال الذي يجهز به الجيش وينفق عليه (1) , ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر بن عقيل قال: خرجوا في قلة من الظهر, وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء، فكان ذلك عسرة من الماء (2) , وهذا الفاروق عمر بن الخطاب يحدثنا عن مدى ما بلغ العطش من المسلمين فيقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع, حتى إن كان أحدنا يذهب يلتمس الخلاء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته تنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرشه فيشربه وبضعه على بطنه (3). وللغزوة اسم ثالث هو: الفاضحة, ذكره الزرقاني -رحمه الله- في كتابه «شرح المواهب اللدنية» (4) وسميت بهذا الاسم لأن هذه الغزوة كشفت عن حقيقة المنافقين, وهتكت أستارهم، وفضحت أساليبهم العدائية الماكرة، وأحقادهم الدفينة، ونفوسهم الخبيثة, وجرائمهم البشعة بحق رسول الله والمسلمين (5). وأما موقع تبوك فيقع شمال الحجاز, يبعد عن المدينة 778 ميلاً حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك (6). ثانيًا: أسبابها: ذكر المؤرخون أسباب هذه الغزوة فقالوا: وصلت الأنباء للنبي صلى الله عليه وسلم من الأنباط الذين يأتون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من مستنصرة العرب, وجاءت في مقدمتهم إلى البلقاء (7) فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم قبل أن يغزوه (8). ويرى ابن كثير أن سبب الغزوة هو استجابة طبيعية لفريضة الجهاد؛ ولذلك عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم؛ لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا   (1) انظر: الصراع مع الصليبيين لأبي فارس، ص83. (2) فتح الباري (9/ 174). (3) انظر: مجمع الزوائد (6/ 194). (4) انظر: شرح المواهب اللدنية (3/ 62). (5) انظر: الصرع مع الصليبيين، ص84. (6) انظر: المجتمع الإسلامي للعمري، ص229. (7) البلقاء: هي كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى عاصمتها عمان. (8) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 165). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 123]. والذي قاله ابن كثير هو الأقرب للصواب، إضافة إلى أن الأمر الذي استقر عليه حكم الجهاد هو قتال المشركين كافة بمن فيهم أهل الكتاب, الذين وقفوا في طريق الدعوة وظهر تحرشهم بالمسلمين كما روى أهل السير (1). ولا يمنع ما ذكره المؤرخون بأن سبب الخروج هو عزم الروم على غزو المسلمين في عقر دارهم أن يكون هذا حافزًا للخروج إليهم، لأن أصل الخروج كان واردًا. لقد كان المسلمون على حذر من مجيء غسان إليهم من الشام, ويظهر ذلك جليا مما وقع لعمر بن الخطاب, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا فهجرهن، ففي صحيح البخاري: وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء فضرب بابي ضربًا شديدًا، وقال: أثمَّ هو؟ ففزعت، فخرجت إليه، وقال: حدث عظيم، فقلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول, طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ... (2). ثالثًا: الإنفاق في هذه الغزوة وحرص المؤمنين على الجهاد: حث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة على الإنفاق في هذه الغزوة لبعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته, وكان عثمان - رضي الله عنه - صاحب القِدْح المُعَلَّى في الإنفاق في هذه الغزوة (3) , فهذا عبد الرحمن بن حباب يحدثنا عن نفقة عثمان حيث قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله, عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان، فقال: يا رسول الله, عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله, عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه (4) وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهما قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم -يرددها مرارًا-» (5). وأما عمر فقد تصدق بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبا بكر بذلك, وهذا الفاروق يحدثنا   (1) انظر: البداية والنهاية (5/ 3). (2) البخاري، كتاب النكاح، باب موعظة الرجل ابنته (6/ 180) رقم 5191. (3) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص615. (4) سنن الترمذي، مناقب (5/ 625، 626) رقم 3700. (5) مسند أحمد (5/ 63). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 810 بنفسه عن ذلك حيث قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي, فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر - رضي الله عنه - بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا (1). وروى أن عبد الرحمن بن عوف أنفق ألفي درهم وهي نصف أمواله لتجهيز جيش العسرة (2). وكانت لبعض الصحابة نفقات عظيمة، كالعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن عبيد الله، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن عدي رضي الله عنهم (3). وهكذا يفهم المسلمون أن المال وسيلة, واستطاع أغنياء الصحابة أن يبرهنوا أن مالهم في خدمة هذا الدين، يدفعونه عن طواعية ورغبة، وإن تاريخ الأغنياء المسلمين تاريخ مشرف؛ لأن تاريخ المال في يد الرجال لا تاريخ الرجال تحت سيطرة المال, وكما كان الجهاد بالنفس، فكذلك هو بالمال، وإن الذين ربوا على أن يقدموا أنفسهم، تهون عليهم أموالهم في سبيل الله تعالى (4). إن في مسارعة الموسرين من الصحابة إلى البذل والإنفاق دليلا على ما يفعله الإيمان في نفوس المؤمنين من مسارعة إلى فعل الخير, ومقاومة لأهواء النفس وغرائزها, مما تحتاج إليه كل أمة لضمان النصر على أعدائها، وخير ما يفعله المصلحون وزعماء النهضات هو غرس الدين في نفوس الناس غرسًا كريمًا (5). وقدم فقراء المسلمين جهدهم من النفقة على استحياء؛ ولذلك تعرضوا لسخرية وغمز ولمز المنافقين، فقد جاء أبو عقيل بنصف صاع تمر, وجاء آخر بأكثر منه، فلمزوها قائلين: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت الآية: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ) (6) [التوبة: 79]. وقالوا: ما أعطي ابن عوف هذا إلا رياء، فكانوا يتهمون الأغنياء بالرياء ويسخرون من صدقة الفقراء (7).   (1) سنن أبي داود، الزكاة (2/ 312، 313) رقم 1678. (2) انظر: السيرة في ضوء المصادر الأصلية، ص616. (3) انظر: مغازي الواقدي، (3/ 391). (4) انظر: معين السيرة، ص449. (5) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر, للسباعي، ص161. (6) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص616. (7) المصدر نفسه، ص617. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 لقد حزن الفقراء من المؤمنين؛ لأنهم لا يملكون نفقة الخروج إلى الجهاد, فهذا عُلَبة بن زيد أحد البكائين صلى من الليل وبكى، وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرض, فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد غفر له (1). وفي هذه القصة وما جرى فيها آيات من الإخلاص وحب الجهاد لنصرة دين الله وبث دعوته في الآفاق, وفيها من لطف الله بضعفاء المؤمنين الذين يعيشون في حياتهم عيشة عملية (2). وهذا واثلة بن الأسقع نتركه يحدثنا عن قصته: ... عندما نادى رسول الله في غزوة تبوك، خرجت إلى أهلي فأقبلت وقد خرج أول صحابة رسول الله فطفقت في المدينة أنادي: ألا من يحمل رجلاً له سهمه؟ فإذا شيخ من الأنصار، فقال: لنا سهمه على أن نحمله (3) عقبة، وطعامه معنا؟ فقلت: نعم، قال فسر على بركة الله، فخرجت مع خير صاحب حتى أفاء الله علينا (4)، فأصابني قلائص (5)، فسقتهن حتى أتيته فخرج، فقعد على حقيبة من حقائب إبله، ثم قال: سقهن مدبرات, ثم قال: سقهن مقبلات، فقال: ما أرى قلائصك إلا كرامًا, إنما هي غنيمتك التي شرطت لك، قال: خذ قلائصك يا ابن أخي فغير سهمك أردنا (6). وهكذا تنازل واثلة في بداية الأمر عن غنيمته ليكسب الغنيمة الأخروية، أجرًا وثوابًا يجده عند الله يوم لقائه، وتنازل الأنصاري عن قسم كبير من راحته ليتعاقب وواثلة على راحلته ويقدم له الطعام مقابل سهم آخر هو الأجر والثواب. إنها مفاهيم تنبع من المجتمع الذي تربى على كتاب الله وسنة رسوله، لها نفس الخاصية في الإضاءة وتحمل نفس البريق، متمم بعضها لبعضها الآخر (7). وجاء الأشعريون يتقدمهم أبو موسى الأشعري يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على إبل ليتمكنوا من الخروج للجهاد, فلم يجد ما يحملهم عليه حتى مضى بعض الوقت فحصل لهم على ثلاثة من الإبل (8).   (1) وردت من طرق ضعيفة ولها شاهد صحيح وهي بالجملة تصلح للشاهد التاريخي، انظر: المجتمع المدني للعمري، ص235. (2) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون، (4/ 443). (3) عقبة: أي بالتعاقب. (4) كان واثلة بن الأسقع أحد أفراد سرية خالد بن الوليد في دومة الجندل. (5) قلائص: إبل. (6) انظر: جامع الأصول رقم 6188، معين السيرة، ص453. (7) انظر: معين السيرة، ص453. (8) انظر: المجتمع المدني، ص236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 812 وبلغ الأمر بالضعفاء والعجزة ممن أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى حد البكاء شوقًا للجهاد وتحرجًا من القعود حتى نزل فيهم قرآن: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 91 - 92]. إنها صورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد على عهد رسول الله، وما كان يحسه صادقو الإيمان من ألم إذا ما حالت ظروفهم المادية بينهم وبين القيام بواجباتهم، وكان هؤلاء المعوزون وغيرهم ممن عذر الله لمرض أو كبر سن أو غيرهما يسيرون بقلوبهم مع المجاهدين (1) وهم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم» قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر» (2). رابعًا: موقف المنافقين من غزوة تبوك: عندما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم النفير ودعا إلى الإنفاق في تجهيز هذه الغزوة، أخذ المنافقون في تثبيط همم الناس قائلين لهم: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله تعالى فيهم: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ - فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة: 81 - 82]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في جهازه لتبوك، للجد بن قيس: «يا جد, هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبًا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك» ففيه نزلت الآية: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) [التوبة: 49]. وذهب بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبدين أعذارًا كاذبة ليأذن لهم بالتخلف، فأذن لهم, فعاتبه الله بقوله: (عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) [التوبة: 43]. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسًا منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهم من أحرق عليهم بيت سويلم (3).   (1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص618. (2) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4423. (3) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص618. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 813 وهذا يدل على مراقبة المسلمين الدقيقة ومعرفتهم بأحوال المنافقين واليهود، فقد كانت عيون المسلمين يقظة تراقب تحركات اليهود والمنافقين، واجتماعاتهم وأوكارهم، بل كانوا يطلعون فيها على أدقِّ أسرارهم واجتماعاتهم وما يدور فيها من حبك المؤامرات, وابتكار أساليب التثبيط, واختلاق الأسباب الكاذبة لإقناع الناس بعدم الخروج للقتال، وقد كان علاج رسول الله لدعاة الفتنة وأوكارها حازما حاسما، إذ أمر بحرق البيت على من فيه من المنافقين، وأرسل من أصحابه من ينفذه, ونفذ بحزم, وهذا منهج نبوي كريم يتعلم منه كل مسئول في كل زمان ومكان كيف يقف من دعاة الفتنة ومراكز الشائعات المضللة التي تلحق الضرر بالأفراد والمجتمعات والدول؛ لأن التردد في مثل هذه الأمور يعرض الأمن والأمان إلى الخطر وينذر بزوالها (1). لقد تحدث القرآن الكريم عن موقف المنافقين قبل الغزوة وأثناءها وبعدها, ومما جاء من حديث القرآن الكريم عن موقف المنافقين قبل غزوة تبوك ما يتضمن استئذانهم، وتخلفهم عن الخروج، وكان ممن تخلف عبد الله بن أبيّ ابن سلول, وقد تحدث القرآن عنهم فقال تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة: 42]. فقد بين -سبحانه وتعالى- موقف المنافقين وأنهم تخلفوا بسبب بعد المسافة وشدتها، وأنه لو كان الذي دعوتهم إليه يا محمد عرضًا من أعراض الدنيا ونعيمها وكان السفر سهلا لاتبعوك في الخروج، ولكنهم تخلفوا ولم يخرجوا, فالآية تشرح وتوضح ملابسات موقفهم قبل الخروج إلى الغزوة، وأسباب هذا الموقف, ثم حكى -سبحانه- ما سيقوله هؤلاء المنافقون بعد عودة المؤمنين من هذه الغزوة: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). كان نزول هذه الآية قبل رجوعه صلى الله عليه وسلم من تبوك. والمعنى: وسيحلف هؤلاء المنافقون بالله -كذبًا وزورًا- قائلين: لو استطعنا -أيها المؤمنون- أن نخرج معكم للجهاد في تبوك لخرجنا، فإننا لم نتخلف عن الخروج معكم إلا مضطرين فقد كانت لنا أعذارنا القاهرة التي حملتنا على التخلف (2). وقوله -سبحانه-: (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). قال ابن عاشور: أي يحلفون مهلكين أنفسهم -أي موقعينها في الهلك, والهلك: الفناء والموت- ويطلق على الأضرار الجسمية وهو المناسب هنا أي يتسببون في ضر أنفسهم بالأيمان الكاذبة وهو ضر الدنيا وعذاب الآخرة, وفي هذه الآية دلالة على أن تعمد اليمين الفاجرة   (1) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص121. (2) انظر: حديث القرآن الكريم (2/ 647). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 814 يفضي إلى الهلاك (1). ثم عاتب الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: (عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ). قال مجاهد (2): نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا, وهؤلاء هم فريق من المنافقين، منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، والجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، وكانوا تسعا وثلاثين واعتذروا بأعذار كاذبة (3). والآية الكريمة عتاب لطيف من اللطيف الخبير -سبحانه- لحبيبه صلى الله عليه وسلم على ترك الأولى, وهو التوقف عن الإذن إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال (4) ثم قال تعالى: (لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ - إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة: 44 - 45]. هذه الآيات أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال (5)، فبين -سبحانه- أنه ليس من شأن المؤمنين بالله واليوم الآخر الاستئذان وترك الجهاد في سبيل الله، وإنما هذا من صفات المنافقين الذين يستأذنون من غير عذر, وصفهم -سبحانه- بقوله: (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: شكت في صحة ما جئتهم به، وقوله (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي: يتحيرون يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شيء (6). لقد كانت غزوة تبوك منذ بداية الإعداد لها مناسبة للتمييز بين المؤمنين والمنافقين، وضحت فيها الحواجز بين الطرفين، ولم يعد هناك أي مجال للتستر على المنافقين أو مجاملتهم, بل أصبحت مجابهتهم أمرًا ملحًّا بعد أن عملوا كل ما في وسعهم لمجابهة الرسول والدعوة، وتثبيط المسلمين عن الاستجابة للنفير الذي أعلنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والذي نزل به القرآن الكريم، بل وأصبح الكشف عن نفاق المنافقين، وإيقافهم عند حدهم واجبًا شرعيًّا (7).   (1) انظر: تفسير التحرير والتنوير (10/ 209). (2) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 360). (3) انظر: التحرير والتنوير (10/ 210). (4) انظر: حديث القرآن الكريم (2/ 647). (5) انظر: تفسير المراغي (4/ 127). (6) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 361). (7) انظر: نضرة النعيم (1/ 389). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 خامسًا: إعلان النفير وتعبئة الجيش: أعلن النفير العام للخروج لغزوة تبوك, حتى بلغ عدد من خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ثلاثين ألفا، وقد عاتب القرآن الكريم الذين تباطأوا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) [التوبة: 38]. وقد طالبهم القرآن الكريم بأن ينفروا شبابًا وشيوخًا وأغنياء وفقراء بقوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة: 41]. لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحشد ثلاثين ألف مقاتل (1) من المهاجرين والأنصار وأهل مكة والقبائل العربية الأخرى، ولقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم -على غير عادته في غزواته- هدفه ووجهته في القتال، إذ أعلن صراحة أنه يريد قتال بني الأصفر (الروم) , علما بأن هديه في معظم غزواته أن يوري فيها (2) , ولا يصرح بهدفه ووجهته وقصده, حفاظًا على سرية الحركة ومباغتة العدو (3). وقد استدل بعض العلماء بهذا الفعل على جواز التصريح لجهة الغزو إذا لم تقتضِ المصلحة ستره، وقد صرح صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة -على غير العادة- بالجهة التي يريد غزوها وجلى هذا الأمر للمسلمين لأسباب, منها: 1 - بعد المسافة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أن السير إلى بلاد الروم يعد أمرًا صعبًا؛ لأن التحرك سيتم في منطقة صحراوية ممتدة قليلة الماء والنبات، ولا بد - حينئذ- من إكمال المؤنة ووسائل النقل للمجاهدين قبل بدء الحركة؛ حتى لا يؤدي نقص هذه الأمور إلى الإخفاق في تحقيق الهدف المنشود. 2 - كثرة عدد الروم, بالإضافة إلى أن مواجهتهم تتطلب إعدادًا خاصًّا، فهم عدو يختلف في طبيعته عن الأعداء الذين واجههم النبي صلى الله عليه وسلم من قبل، فأسلحتهم كثيرة، ودرايتهم بالحرب كبيرة, وقدرتهم القتالية فائقة (4). 3 - شدة الزمان، وذلك لكي يقف كل امرئ على ظروفه, ويعد النفقة اللازمة له في هذا السفر الطويل لمن يعول وراءه (5). 4 - أنه لم يعد مجال للكتمان في هذا الوقت، حيث لم يبق في جزيرة العرب قوة معادية لها   (1) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص97. (2) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص97. (3) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص97. (4) انظر: الرسول القائد، ص398. (5) انظر: البداية والنهاية (5/ 4). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 خطرها تستدعي هذا الحشد الضخم سوى الرومان ونصارى العرب الموالين لهم في منطقة تبوك ودومة الجندل والعقبة (1). لقد شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا الأخذ بمبدأ المرونة عند رسم الخطط الحربية، ومراعاة المصلحة العامة في حالتي الكتمان والتصريح, ويعرف ذلك من مقتضيات الأحوال (2). ولما علم المسلمون بجهة الغزوة سارعوا إلى الخروج إليها, وحث الرسول صلى الله عليه وسلم على النفقة قائلا: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» (3). واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وخلَّف علي بن أبي طالب على أهله، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا وتخففا منه، فأخذ علي - رضي الله عنه - سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف (4) فقال: يا نبي الله, زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني، فقال: «كذبوا, ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك, أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي» (5) فرجع عليُّ إلى المدينة (6). وكان استخلاف علي - رضي الله عنه - في أهله باعتبار قرابته ومصاهرته, فكان استخلافه في أمر خاص، وهو القيام بشأن أهله، وكان استخلاف محمد بن مسلمة الأنصاري في الغزوة نفسها استخلافًا عامًّا، فتعلق بعض الناس بأن استخلاف علي يشير إلى خلافته من بعده، ولا صحة لهذا القول؛ لأن خلافته كانت في أهله خاصة (7). وعندما تجمع المسلمون عند ثنية الوداع بقيادة رسول الله، اختار الأمراءَ والقادة وعقد الألوية والرايات لهم، فأعطى اللواء الأعظم إلى أبي بكر الصديق, ورايته العظمى إلى الزبير بن العوام - رضي الله عنه - ودفع راية الأوس إلى أسيد بن حضير، وراية الخزرج إلى أبي دجانة، وأمر كل بطن من الأنصار أن يتخذ لواء (8)، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراسة تبوك من يوم قدم إلى أن رحل منها عباد بن بشر، فكان - رضي الله عنه - يطوف في أصحابه على العسكر (9) , وكان   (1) انظر: غزوة تبوك، محمد أحمد باشميل ص57. (2) انظر: القيادة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ص510. (3) البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب عثمان (4/ 243). (4) انظر: زاد المعاد (3/ 529). (5) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص589، البخاري، كتاب المغازي، رقم 4416. (6) انظر: زاد المعاد، (3/ 530). (7) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص466، 467. (8) انظر: المغازي (3/ 996)، الطبقات الكبرى لابن سعد، (2/ 166). (9) انظر: سبل الهدى والرشاد (5/ 652) , الصراع مع الصليبيين، ص99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 دليل رسول الله في هذه الغزوة علقمة بن الفغواء الخزاعي، فقد كان من أصحاب الخبرة والكفاءة في معرفة طريق تبوك (1). وقد انفرد الواقدي بالمعلومات عن طريق الجيش وتوزيع الرايات، وهو متروك, ولكنه غزير المعلومات في السيرة، وأخذ مثل هذه المعلومات منه لا يضر (2). ويلاحظ الباحث التطور السريع لعدد المقاتلين بشكل عام, ولسلاح الفرسان بشكل خاص. إن الذي يدرس تاريخ الدعوة الإسلامية، ونشوء الدولة الإسلامية ومؤسساتها العامة -وفي مقدمة هذه المؤسسات الجيش الإسلامي القوة الضاربة للدولة- يلاحظ أن هناك تطورًا سريعًا جدًّا في مجال القوة العسكرية، إذ بلغ عدد المقاتلين في غزوة بدر الكبرى ثلاثمائة وثلاثة عشر مقاتلا، وفي غزوة أحد بلغ سبعمائة مقاتل تقريبا، وفي غزوة الأحزاب ثلاثة آلاف مقاتل، وفي غزوة فتح مكة عشرة آلاف مقاتل، وفي غزوة حنين بلغ العدد اثني عشر ألف مقاتل، وأخيرًا بلغ عدد المقاتلين في تبوك ثلاثين ألف مقاتل أو يزيد. وإن الدارس يلاحظ هذا التطور السريع اللافت للنظر في مجال سلاح الفرسان, ففي غزوة بدر كان عدد الفرسان فارسين في بعض الروايات، وفي غزوة أحد لم يتجاوز عدد الفرسان ما كان في بدر, ويقفز العدد بعد ست سنوات فقط إلى عشرة آلاف فارس، وهذا يعود إلى انتشار الإسلام في الجزيرة العربية, وبخاصة في البادية، ذلك لأن أهلها يهتمون باقتناء الخيول وتربيتها أكثر من أبناء المدن (3). * * * المبحث الثاني أحداث في الطريق والوصول إلى تبوك وبعد تعبئة الجيش وتوزيع المهام والألوية والرايات, توجه الجيش الإسلامي بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، ولم ينتظر أحدًا قد تأخر, وقد تأخر نفر من المسلمين يظن فيهم خير, وكلما ذكر لرسول الله اسم رجل تأخر قال صلى الله عليه وسلم: «دعوه, إن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» (4). أولاً: قصة أبي ذر الغفاري: قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرًا، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: «دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه»، حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره. فقال: «دعوه, فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير   (1) انظر: إمتاع الأسماع (1/ 451) , شرح المواهب اللدنية (3/ 72). (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 532). (3) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص100. (4) انظر: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء, للكلاعي (2/ 276). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 818 ذلك فقد أراحكم الله منه» وتلوَّم (1) أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيًا، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا ذر» (2) فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو -والله- أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» (3) , ومضى الزمان، وجاء عصر عثمان, ثم حدثت بعض الأمور وسُيِّر أبو ذر إلى الربذة، فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه: إذا مت فاغسلاني وكفناني ثم احملاني فضعاني على قارعة الطريق, فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر. فلما مات فعلوا به كذلك فطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذر، فاستهل ابن مسعود يبكي، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده»، فنزل فوليه بنفسه حتى دفنه (4). وفي هذه القصة دروس وعبر منها: 1 - ما تعرض له أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - من الصعوبات والمخاطر التي نجاه الله منها وقواه بالصبر عليها، لقد بذل أبو ذر جهدًا كبيرًا في المشي على قدميه وهو يحمل متاعه على ظهره حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ لكي ينال شرف الجهاد في سبيل الله (5). 2 - وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده»، دلالة واضحة -وضوح الشمس في رابعة النهار- على صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ الإخبار بأمور لا تقع ثم تقع بعد الإخبار يدل على معجزة وتكريم من الله لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الوسيلة من إثبات النبوة كثيرة في السيرة النبوية الشريفة (6). 3 - كما أن في القصة دلالة على علم ابن مسعود - رضي الله عنه - وقوة ذاكرته وسرعة استحضاره لما حفظ، حيث تذكر بعد سنوات عديدة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سيئول إليه أمر أبي ذر في آخر حياته - رضي الله عنه - (7).   (1) تلوم على بعيره: تمهل. (2) كن أبا ذر: لفظه الأمر ومعناه الدعاء؛ أي أرجو الله أن تكون أبا ذر. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 178). (4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 178). (5) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص129، التاريخ الإسلامي للحميدي (8/ 114). (6) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص129. (7) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 114). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 ثانيًا: قصة أبي خيثمة: قال ابن إسحاق: ... ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا إلى أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه (1) قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا, فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح (2) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ, وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زادًا، ففعلتا ثم قدم ناضحه (3) فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبًا، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة» , فقالوا: يا رسول الله, هو -والله- أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك (4) يا أبا خيثمة» , ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له بخير (5). قال ابن هشام: وقال أبو خيثمة في ذلك شعرًا, واسمه مالك بن قيس: لما رأيت الناس في الدين نافقوا ... أتيت التي كانت أعفَّ وأكرما وبايعت باليمنى يدي لمحمد ... فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما تركت خضيبا (6) في العريش وصرمة (7) ... صفايا (8) كرامًا يسرها قد تحمما (9) وكنت إذا شك المنافق أسمحت (10) ... إلى الدين نفسي شطره حيث يمما (11) وفي هذه القصة دروس وعبر منها: 1 - المسلم صاحب ضمير حي: فقد رأى أبو خيثمة - رضي الله عنه - ما أعدت له زوجتاه من الماء البارد والطعام مع الظل المبرد والإقامة, فتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو فيه من التعرض للشمس والريح والحر, فأبصر وتذكر   (1) حائطه: أي بستانه. (2) الضح: أي في الشمس. (3) ناضحه: أي جمله. (4) أجدر بك. (5) انظر: البداية والنهاية (5/ 8). (6) خضيبا: مخضوبة وهي المرأة. (7) صرمة: جماعة النخل. (8) صفايا: كثيرة الثمر. (9) تحمما: أخذ في الإرطاب فاسود. (10) أسمحت: انقادت (11) انظر: البداية والنهاية (5/ 8). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 وتيقظ ضميره وحاسب نفسه، ثم عزم على الخروج، وخرج وحده يقطع الفيافي والقفار حتى التقى بعمير بن وهب الجمحي, ولعله كان قادما من مكة، فهذه الصورة تبين لنا مثلا من سلوك المتقين الذين تمر عليهم لحظات ضعف يعودون بعدها أقوى إيمانا مما كانوا عليه إذا تذكروا وراجعوا أنفسهم, وفي بيان ذلك يقول الله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف: 201]. وقد تذكر سريعا وخرج لعله يدرك ما فاته، وظل يشعر بالذنب حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك وحصل على رضاه وسروره (1). 2 - معرفة الرسول بأصحابه وبمعادنهم: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال له أصحابه: هذا راكب على الطريق مقبل: «كن أبا خيثمة» , فلما اقترب وعرفوه قالوا: يا رسول الله, هو -والله- أبو خيثمة، يدل على معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأنه أعرفهم بمعادن رجاله، يعرف المستجيب من غيره، ويعرف التائب المنيب إلى ربه إذ زلت قدمه بسرعة رجوعه، ومعرفة خصال الرجال ومعادنهم تدل على معرفة واسعة، وخبرة مستوعبة فاحصة نتيجة التعامل والاحتكاك في ميادين الحياة المختلفة، فقد كان يخالط الجميع، يسمع منهم ويسمعهم ويسيرون معه، ويجاهدون تحت رايته (2). 3 - حزم أبي خيثمة وصبره ونفاذ عزيمته: تأمل هذا القرار الذي اتخذه أبو خيثمة - رضي الله عنه - أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، في هذه الرحلة المضنية، في هذه الصحراء القليلة الماء ذات الحر اللافح، لقد اتخذ هذا القرار الحازم ونفذه بدقة، فدل على قوة عزيمته وعنفوان إرادته وعلى جلده وصبره (3). 4 - عتاب القائد للجندي له أثره: وصل أبو خيثمة معترفا بذنبه، يطرح السلاح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاتبه, صلى الله عليه وسلم معاتبة تحمل في طياتها اللوم والتأنيب والتهديد, إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك يا أبا خيثمة» فهي كلمة فيها معنى التهديد، ومعناها: دنوت من الهلكة. إنه مما لا شك فيه أن هذا الكلام كان له وقعه في نفس الجندي، إذ أوقفه على حقيقة ما ارتكب من الذنب. وهذا منهج نبوي كريم في تعليم القادة عدم السكوت على أخطاء الجنود؛ لأن ذلك   (1) انظر: التاريخ الإسلامي، (8/ 111، 112). (2) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص133. (3) المصدر نفسه، ص133، 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 يضرهم ويلحق الضرر بغيرهم، بل عليهم أن يسعوا إلى تصويب الخطأ ومحاسبة مرتكبه وتقويمه, وبذلك يكونون معلمين ومرشدين ومربين (1). ثالثًا: الوصول إلى تبوك: عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد أثرًا للحشود الرومانية ولا القبائل العربية, وبالرغم من أن الجيش مكث عشرين ليلة في تبوك لم تفكر القيادة الرومانية مطلقا في الدخول مع المسلمين في قتال، حتى القبائل العربية المنتصرة آثرت السكون، أما حكام المدن في أطراف الشام فقد آثروا الصلح ودفع الجزية، فقد أرسل ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم هدية -وهي بغلة بيضاء وبرد- فصالحه على الجزية. وأرسل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - على رأس سرية من الفرسان بلغ عددها أربعمائة وعشرين فارسا إلى دومة الجندل، واستطاع خالد بن الوليد أن يأسر أكيدر بن عبد الملك الكندي -ملكها- وهو في الصيد خارجها (2) , فصالحه النبي صلى الله عليه وسلم على الجزية (3) , وقد تعجب المسلمون من قباء كان أكيدر يلبسه, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا» (4) وقد ورد أن غنائم خالد من أكيدر كانت ثمانمائة من السبي وألف بعير وأربعمائة درع وأربعمائة رمح (5) , وقد وصلت إلى تبوك هدية ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي بغلة بيضاء وبرد، فصالحه على الجزية (6) , وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدات لكل من أهل جرباء وأذرح (7)، ولأهل مقنا (8) يؤدي بموجبها هؤلاء الناس من نصارى العرب الجزية كل عام، وتخضع لسلطان المسلمين، لقد انفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإمارات الواقعة في شمال الجزيرة وعقد معها معاهدات, وبذلك أمن حدود الدولة الإسلامية الشمالية (9) , وبهذه المعاهدات قص صلى الله عليه وسلم أجنحة الروم، فقد كانت هذه القبائل تابعة للروم ودخلوا في النصرانية، فإقدام من أقدم منها على مصالحة رسول الله والتزامها بالجزية يعد قصًا لهذه الأجنحة، وبترًا لحبال تبعيتهم للروم، وتحريرًا لهم من هذه التبعية التي كانت تذلهم وتخضعهم لسلطان الروم، لينالوا من تساقط فتاتهم شيئا يعيشون به، وخوفا من ظلمهم لقوتهم الباطشة, وقد وفوا بعهد الصلح والتزموا أداء الجزية, فأعطوها عن   (1) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص134. (2) انظر: الإصابة (1/ 412 - 415) من طريق ابن إسحاق بإسناد حسن. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 180). (4) المصدر نفسه (4/ 180) بإسناد حسن. (5) انظر: البداية والنهاية (5/ 17) وفي إسناده ابن لهيعة عن أبي الأسود, وابن لهيعة ضعيف فضلا عن إرسال عروة. (6) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص241. (7) المغازي (3/ 1032). (8) انظر: الوثائق السياسية في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص119 - 124. (9) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 يد وهم صاغرون (1) , وهذه سياسة نبوية حكيمة اختطها رسول الله في بناء الدولة ودعوة الناس لدين الله، فقد استطاع أن يفصل بين المسلمين والروم بإمارات تدين للرسول بالطاعة وتخضع لحكم المسلمين، وأصبحت في زمن الخلفاء الراشدين نقاط ارتكاز سهلت مهمة الفتح الإسلامي في عهدهم, فمنها انطلقت قوات المسلمين إلى الشمال، وعليها ارتكزت لتحقيق هدفها العظيم (2). رابعًا: وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش عند مروره بحجر ثمود: قال أبو كبشة الأنصاري: - رضي الله عنه - لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس: «الصلاة جامعة» قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره، وهو يقول: «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم؟» فناداه رجل منهم: نعجب منهم يا رسول الله، قال: «أفلا أنذركم بأعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله عز وجل لا يعبأ بعذابكم شيئًا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئًا» (3). وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود، الحجر، واستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة (4) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم» ثم زجر (5) فأسرع حتى خلفها (6) , وهذا منهج نبوي كريم في توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته إلى الاعتبار بديار ثمود، وأن يتذكروا بها غضب الله على الذين كذبوا رسوله، وألا يغفلوا عن مواطن العظة برسومها الدارسة، وأطلالها القديمة، ونهاهم عن الانتفاع بشيء مما في ربوعها، حتى الماء لكيلا تفوت بذلك العبرة، وتخف الموعظة، بل أمرهم بالبكاء، وبالتباكي، تحقيقا للتأثر بعذاب الله, ولو أنهم مروا بها كما نمر نحن بآثار السابقين، لتعرضوا لسخط الله، فإن الغابرين شهدوا المعجزات ودلائل النبوة، وعاينوا العجائب، لكن قست قلوبهم فاستهانوا بها، وحق عليهم العذاب، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون من نقمة الله وغضبه. إن الله عز وجل ما قص علينا من أنباء الأمم الخالية، إلا لكي نأخذ منها العظة والاعتبار، فإذا شهدنا بأعيننا ديارهم التي نزل فيها سخط المولى عز وجل وعذابه الأليم، وجب أن تكون   (1) محمد صادق عرجون (4/ 479). (2) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص221. (3) انظر: الفتح الرباني (21/ 195). (4) البخاري، كتاب الأنبياء، رقم 3379. (5) زجر: أي زجر ناقته, ومعناه ساقها سوقا شديدا حتى خلفها أي جاوز المساكن. (6) البخاري، كتاب الأنبياء، رقم 3381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 الموعظة أشد، والاعتبار أعمق، والخوف من سخط المولى -سبحانه- أبلغ، ولهذا تسجى النبي صلوات الله وسلامه عليه بثوبه لما مر بالديار الملعونة المسخوطة واستحث خطا راحلته (1) وقال لأصحابه: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين, حذرًا أن يصيبكم ما أصابهم» (2). خامسًا: وفاة الصحابي عبد الله ذي البجادين (3) - رضي الله عنه -: قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، قال: فاتبعتها، أنظر إليها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حضرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: «أدنيا إليَّ أخاكما» فدلياه إليه، فلما هيأه بشقه، قال: «اللهم إني أمسيت راضيًا عنه، فارض عنه» قال (الراوي عن ابن مسعود): قال عبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة (4). قال ابن هشام: وإنما سمي ذا البجادين؛ لأنه كان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك يضيقون عليه، حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره, فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما كان قريبا منه، شق بجاده باثنين، فاتزر بواحد واشتمل بالآخر، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ذو البجادين، لذلك (5). وفي هذه القصة دروس وحكم وفوائد منها: 1 - تكريم النبي صلى الله عليه وسلم لجنوده أحياء وأمواتًا: فهذا الفعل مع ذي البجادين يدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تكريم أصحابه حتى في حالة الوفاة؛ لأنهم قدموا أنفسهم للجهاد في سبيل الله تاركين وراءهم أعز ما يملكون، فكانت تلك الرعاية مظهرًا من مظاهر تكريمهم في الدنيا، حيث لم يترك جثثهم تتناوشها الذئاب وغيرها من دواب الأرض؛ لكي يكون هذا التكريم من الأسباب التي تدفع غيرهم إلى الاستبسال والإقدام في ميادين الجهاد, ومن الجدير بالذكر أن هذا المبدأ لم يجد من يدعو إلى تطبيقه إلا في العصر الحديث، وبهذا يمكن أن يقال: إن رعاية القائد المسلم لشئون جنده تعد سبقا عسكريًا لم تعرفه النظم والدساتير الوضعية إلا بعد قرون طويلة، من بزوغ الإسلام (6).   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص480. (2) البخاري، كتاب الأنبياء رقم 3381. (3) البجاد: الكساء الغليظ الجافي. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص598. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 182). (6) انظر: المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية ص299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 فهذه صورة من البر والتكريم فريدة يتيمة، لن تجد في تاريخ الملوك والحكام من يبر ويتواضع إلى هذا المستوى، إلى حيث يوسد الحاكم فردا من رعيته بيده في مثواه الأخير، ثم يلتمس له المرضاة من رب العالمين، أما هو فقد أعلن أنه أمسى راضيا عنه (1). 2 - جواز الدفن في الليل, والغبطة مشروعة في الخير: فقد دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا البجادين ليلا، والسنة أن يعجل في دفن الميت، كما أن الغبطة وهي أن تتمنى حصول الخير لك كما حصل لغيرك من إخوانك, وهذا عكس الحسد، إذ الحسد تمنى زوال النعمة عن غيرك, والحسد كله شر كما ترى، أما الغبطة فلا تكون إلا في الخير (2) , تأمل قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حينما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حق ذي البجادين: «اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه» فقال ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب اللحد (3) إنها كلمة كل مؤمن آمن بالله واليوم الآخر، ووقف موقفه ذاك, فقد عرفوا أين تكون ميادين التنافس (4). سادسًا: بعض المعجزات التي حدثت في الغزوة: ظهرت في غزوة تبوك معجزات منها: 1 - الله تعالى يرسل السحاب لدعاء نبيه بالسقيا: لما جاز النبي صلى الله عليه وسلم حجر ثمود، أصبح الناس ولا ماء لهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، واستسقى لمن معه من المسلمين، فأرسل الله -سبحانه وتعالى- سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء، فتحدث ابن إسحاق عمن قال لمحمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم والله، إن كان الرجل ليعرفه من أخيه، ومن أبيه، ومن عمه، وفي عشيرته، ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك، ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي، عن رجل من المنافقين معروف نفاقه، كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سار، فلما كان من أمر الناس بالحجر ما كان، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا، فأرسل الله السحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس، قالوا: أقبلنا عليه ونقول: ويحك! هل بعد هذا الشيء؟ قال: سحابة مارة (5). 2 - خبر ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرًا في طريقه إلى تبوك، ضلت ناقته، فخرج أصحابه في   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص472. (2) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص163، 164. (3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص598. (4) انظر: معين السيرة، ص452. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 176)، صور وعبر من الجهاد النبوي، ص473. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 طلبها وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، يقال له: عمارة بن حزم, وكان عقبيًّا بدريًّا، وهو عم بني عمرو بن حزم، وكان في رحله زيد بن اللصيت القينقاعي, وكان منافقًا. قال زيد بن اللصيت وهو في رحل عمارة، وعمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس محمد يزعم أنه نبي؟ ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارة عنده: «إن رجلا قال: هذا محمد يزعم أنه يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها» فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله، فقال: والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا، للذي قال زيد بن اللصيت، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة، ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي, فأقبل عمارة على زيد، يجأ في عنقه (يطعنه فيه) يقول: إليَّ عباد الله، إن في رحلي لداهية، وما أشعر، اخرج أي عدو الله (1) من رحلي فلا تصحبني، قال ابن إسحاق: فزعم بعض الناس أن زيدًا تاب بعد ذلك، وقال بعض الناس: لم يزل متهما بشر حتى هلك (2). 3 - الإخبار بهبوب ريح شديدة والتحذير منها: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في تبوك بأن ريحًا شديدة ستهب, وأمرهم بأن يحتاطوا لأنفسهم ودوابهم فلا يخرجوا حتى لا تؤذيهم، وليربطوا دوابهم حتى لا تؤذى، وتحقق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهبت الريح الشديدة وحملت من قام فيها إلى مكان بعيد (3) فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي حميد قال: وانطلقنا حتى قدمنا تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيئ (4). قال النووي في شرحه على صحيح مسلم معقبا على هذا الحديث: هذا الحديث فيه هذه المعجزة الظاهرة من إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيب وخوف الضرر من القيام وقت الريح (5). 4 - تكثير ماء عين تبوك والإخبار بما ستكون عليه من خصب: قال معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك,   (1) انظر: إعلام النبوة للماوردي، ص100، السيرة النبوية لابن هشام (4/ 177). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 177). (3) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص141. (4) صحيح مسلم بشرح النووي (15/ 42)، مختصر مسلم رقم 1543. (5) شرح النووي على صحيح مسلم (15/ 42). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 826 وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي» فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك (1) , تبض (2) بشيء من ماء، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل مسستما من مائها شيئا؟» قالا: نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء, وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه, ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر حتى استقى الناس (3). وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا» (4) , لقد كانت منطقة تبوك والوادي الذي كانت فيه العين منطقة جرداء لقلة الماء، ولكن الله -عز وجل- أجرى على يد رسوله صلى الله عليه وسلم بركة تكثير هذا الماء حتى أصبح يسيل بغزارة، ولم يكن هذا آتيا لسد حاجة الجيش، بل أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيستمر وستكون هناك جنان وبساتين مملوءة بالأشجار المثمرة، ولقد تحقق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فترة قليلة من الزمن، وما زالت تبوك حتى اليوم تمتاز بجنانها وبساتينها ونخيلها وتمورها، تنطق بصدق نبوة الرسول وتشهد بأن الرسول لا يتكلم إلا صدقًا, ولا يخبر إلا حقا, ولا ينبئ بشيء إلا ويتحقق (5). 5 - تكثير الطعام: قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله, لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا (6) فأكلنا وأدمنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افعلوا»، فجاء عمر فقال: يا رسول الله, إنهم إن فعلوا قل الظَّهْر (7) ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم بالبركة، لعل الله يجعل في ذلك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنطع (8) فبسطه، ثم دعاهم بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف الذرة، والآخر بكف التمر، والآخر بالكسرة حتى اجتمع على النطع في ذلك شيء يسير، ثم دعا عليه بالبركة، ثم قال لهم: «خذوا في أوعيتكم» فأخذوا من أوعيتهم حتى ما تركوا من المعسكر وعاء إلا ملأوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاكٍّ فتحجب عنه الجنة» (9).   (1) الشراك: هو سير النعل ومعناه ماء قليل جدا. (2) تبض: بفتح التاء وكسر الموحدة وتشديد الضاد ومعناه تسيل. (3) صحيح مسلم بشرح النووي (15/ 41) , مختصر مسلم رقم 1530. (4) صحيح مسلم بشرح النووي، الفتح الرباني (21/ 196). (5) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص142. (6) نواضحنا: جمع ناضح وهي الإبل التي يسقى عليها. (7) الظهر: ما يحمل عليه من الإبل. (8) النطع: بساط من الجلد. (9) الفتح الرباني (21/ 196 - 198). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 827 هذه بعض المعجزات والكرامات التي أظهرها الله على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك تدل على صدق نبوته ورسالته, وتدل على رفعة منزلته وتكريمه عند ربه (1). سابعًا: حديث القرآن الكريم عن مواقف المنافقين أثناء الغزوة: أ- قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يومًا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطونا, ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت, ولكنك منافق, لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقا بحقب (2) ناقة رسول الله والحجارة تنكبه (3)، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟». وفي رواية قتادة قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات .. فأطلع الله نبيه على ذلك فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «احبسوا هؤلاء الركب»، فأتاهم فقال: قلتم كذا وقلتم كذا، قالوا: فأنزل الله فيهم ما تسمعون (4) , فأنزل الله تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) [التوبة: 64 - 65]. والاستفهام في قوله: (قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) استفهام إنكاري. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء موبخًا ومنكرًا: ألم تجدوا ما تستهزئون به في مزاحكم ولعبكم -كما تزعمون- سوى فرائض الله وأحكامه وآياته ورسوله الذي جاء لهدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور؟! ثم بين -سبحانه- أن استهزاءهم هذا أدى بهم إلى الكفر فقال: (لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة: 66]. ومعنى الآية: أي لا تذكروا هذا العذر لدفع هذا الجرم، لأن الإقدام على الكفر لأجل اللعب لا ينبغي أن يكون, فاعتذاركم إقرار بذنبكم, فهو كما يقال: عذر أقبح من ذنب (5).   (1) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص141. (2) الحقب: حبل يشد به الرحل في بطن البعير. (3) الحجارة تنكبه: تصيبه وتؤذيه. (4) انظر: الدر المنثور للسيوطي، (4/ 230). (5) انظر: تفسير المراغي (4/ 153). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 828 وقوله: (إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) أي: إن نعف عن بعضكم لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم -كمخشن بن حمير- نعذب بعضًا آخر لإجرامهم وإصرارهم عليه (1). ب- إيذاء الرسول والمؤمنين ومحاولة اغتيال رسول الله: وقد نزل في هؤلاء المنافقين قول الله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) [التوبة: 74]. وقد ذكر ابن كثير أن الضحاك قال: إن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض الليالي في حال السير, وكانوا بضعة عشر رجلا نزلت فيهم هذه الآية (2) , وفي رواية الواحدي عن الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله: «يا أهل النفاق, ما هذا الذي بلغني عنكم؟» فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك، فأنزل الله هذه الآية إكذابًا لهم (3). والمعنى الإجمالي للآية: (يحلفون بالله أنهم ما قالوا تلك الكلمة التي نسبت إليهم، والله يكذبهم ويثبت أنهم قد قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم. ولم يذكر القرآن هذه الكلمة لأنه لا ينبغي ذكرها ... ) (4). * * * المبحث الثالث العودة من تبوك إلى المدينة وحديث القرآن في المخلَّفين عن الغزوة وعن مسجد الضرار عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن مكث في تبوك عشرين ليلة (5) , وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدم مسجد الضرار الذي بناه المنافقون وهو راجع إلى المدينة، ولما اقترب من المدينة خرج الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقونه, ودخل المدينة، فصلى في مسجده ركعتين ثم جلس للناس, وجاء   (1) انظر: تفسير المراغي (4/ 153). (2) تفسير ابن كثير (2/ 372). (3) انظر: أسباب النزول للواحدي، ص251. (4) انظر: حديث القرآن الكريم (2/ 665). (5) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص603. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 829 المخلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون له الاعتذار, وكانوا أربعة أصناف: فمنهم من له أعذار شرعية وعذرهم الله -سبحانه وتعالى-، ومنهم من ليس له أعذار شرعية وتاب الله عليهم، ومنهم من منافقي الأعراب الذين يسكنون حول المدينة، ومنهم من منافقي المدينة. أولاً: المخلفون الذين لهم أعذار شرعية وعذرهم الله سبحانه وتعالى: قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ - وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 91، 92]. بينت هذه الآيات الكريمة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وكان لهم عذر شرعي بأنه ليس عليهم حرج وليس عليهم إثم في هذا التخلف؛ ذلك لأن لهم عذرًا شرعيًّا منعهم من الخروج, وفي المراد بالضعفاء: أنهم الزمنى والمشايخ الكبار، وقيل: الصغار, وقيل: المجانين، سموا ضعافًا لضعف عقولهم, ذكر القولين الماوردي. والصحيح أنهم الذين يضعفون لزمانة أو عمى، أو سن، أو ضعف في الجسم، والمرضى: الذين بهم أعلال مانعة من الخروج للقتال (1). وقوله: (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ). أي: ليس على الذين لا يجدون نفقة تبلغهم إلى الغزو حرج أو إثم (إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ) أي إذا عرفوا الحق، وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه (2). وقوله: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ) قال الطبري: يقول تعالى: ليس على من أحسن فنصح لله ورسوله في تخلفه عن رسول الله عن الجهاد معه، لعذر يعذر به, طريق يتطرق عليه فيعاقب من قبله (وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). يقول تعالى: والله ساتر على ذنوب المحسنين، يتغمدها بعفوه لهم عنها، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها (3). وقال القرطبي: الآية أصل في سقوط التكاليف عن العاجز، من جهة القوة أو العجز من جهة المال (4). وقوله: (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) معطوف على ما قبله من عطف الخاص على العام، اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم -لتميزهم-   (1) انظر: زاد المسير (4/ 485). (2) انظر: تفسير القرطبي (8/ 226). (3) انظر: تفسير الطبري (10/ 211). (4) انظر: تفسير القرطبي (8/ 226). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 830 جنس آخر، مع أنهم مندرجون مع الذين وصفهم الله قبل ذلك (أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}. أي: لا حرج ولا إثم على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون، إذا ما تخلفوا عن الجهاد، وكذلك لا حرج ولا إثم أيضا على فقراء المؤمنين {الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) على الرواحل التي يركبونها لكي يخرجوا معك إلى هذا السفر الطويل, (قُلْتَ) لهم يا محمد (1): (لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) , وقوله: (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) أي انصرفوا وأعينهم تسيل بالدموع من شدة الحزن لأنهم لا يجدون المال الذي ينفقونه في مطالب الجهاد، ولا الرواحل التي يركبونها في حال سفرهم إلى تبوك (2). ثانيًا: المخلفون الذين ليس لهم أعذار شرعية وتاب الله عليهم: جاءت ثلاث آيات تتحدث عن هؤلاء المخلفين وهي: 1 - قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 102]. ومعنى الآية الكريمة: أن هؤلاء الجماعة تخلفوا عن الغزو لغير عذر مسوغ للتخلف ثم ندموا على ذلك، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة كما اعتذر المنافقون, بل تابوا واعترفوا بالذنب ورجوا أن يتوب الله عليهم, والمراد بالعمل الصالح: ما تقدم من إسلامهم وقيامهم بشرائع الإسلام وخروجهم إلى الجهاد في سائر المواطن, والمراد بالعمل السيئ: هو تخلفهم عن هذه الغزوة، وقد أتبعوا هذا العمل السيئ عملا صالحا وهو الاعتراف به والتوبة عنه. وأصل الاعتراف الإقرار بالشيء. ومجرد الإقرار لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال والاستقبال، وقد وقع منهم ما يفيد هذا، ومعنى الخلط أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر, كقولك: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء. وفي قوله: (عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) دليل على أنه قد وقع منهم -مع الاعتراف- ما يفيد التوبة، أو مقدمة التوبة -وهي الاعتراف- قامت مقام التوبة, وحرف الترجي وهو (عسى) هو في كلام الله -سبحانه- يفيد تحقيق الوقوع لأن الإطماع من الله سبحانه إيجاب؛ لكونه أكرم الأكرمين (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي: يغفر الذنوب ويتفضل على عباده (3).   (1) انظر: حديث القرآن الكريم (2/ 672). (2) المصدر نفسه (2/ 673). (3) انظر: تفسير الشوكاني (2/ 399). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 831 2 - قوله تعالى: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 106]. والمراد بهؤلاء المرجون -كما في الصحيحين- هلال بن أمية، وكعب بن مالك, ومرارة ابن الربيع، وكانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ما -مع الهمّ باللحاق به عليه الصلاة والسلام- فلم يتيسر لهم, ولم يكن تخلفهم عن نفاق -وحاشاهم- فقد كانوا من المخلصين, فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان ما كان من المتخلفين قالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة, ولم يعتذروا له صلى الله عليه وسلم ولم يفعلوا كما فعل أهل السواري (1) , وأمر رسول الله باجتنابهم، وشدد الأمر عليهم كما سنعلمه إن شاء الله تعالى، وقد وقف أمرهم خمسين ليلة لا يدرون ما الله -تعالى- فاعل بهم (2). 3 - قال تعالى: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 118]. والمراد بهؤلاء الثلاثة هم هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع, وفيهم نزلت هذه الآية (3) , وسوف نتحدث عن هذه القصة -بإذن الله- بنوع من التفصيل لما فيها من الدروس والعبر والحكم. ثالثًا: المخلفون من منافقي الأعراب الذين يسكنون حول المدينة: هؤلاء المخلفون من منافقي الأعراب نزل فيهم قوله تعالى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 90]. رابعًا: المخلفون من منافقي المدينة: قال تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ - فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إلى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) [التوبة: 81: 83]. هذا وقد لاحظت اختلاف سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملته للمنافقين عندما اعتذروا له, عن   (1) أي الذين ربطوا أنفسهم في سواري المسجد كأبي لبابة وأصحابه. (2) انظر: تفسير الألوسي (11/ 17). (3) انظر: حديث القرآن الكريم (2/ 677). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 832 المسلمين الصادقين, حيث إنه صلى الله عليه وسلم عامل المنافقين باللين والصفح، واختار للمسلمين الصادقين الشدة والعقوبة! ولا شك أن الشدة والقسوة في هذا المقام مع المسلمين مظهر للإكرام والتشريف، وهو ما لا يستحقه المنافقون، وكيف يستحق المنافقون أن تنزل آيات في توبتهم -على أي حال؟! إنهم كفرة، ولن ينشلهم شيء مما يتظاهرون به في الدنيا، من الدرك الأسفل في النار يوم القيامة، وقد أمر الشارع جل جلاله أن ندعهم لما تظاهروا به ونجري الأحكام الدنيوية حسب ظواهرهم، ففيم التحقيق عن بواطن أعذارهم وحقيقة أقوالهم، وفيم معاقبتهم في الدنيا على ما قد يصدر عنهم من كذب ونحن إنما نعطيهم الظاهر فقط من المعاملة والأحكام؛ كما يبدون لنا هم أيضًا الظاهر فقط من أحوالهم وعقائدهم, قال ابن القيم: وهكذا يفعل الرب -سبحانه- بعباده في عقوبات جرائمهم، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده، بأدنى زلة وهفوة, فلا يزال مستيقظا حذرًا، وأما من سقط من عين الله وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة (1). خامسًا: مسجد الضرار: في أثناء عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة راجعا من تبوك نزلت عليه الآيات الآتية: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 107 - 108]. وسبب نزول هذه الآيات الكريمات: أنه كان بالمدينة -قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها- رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه, وصارت للإسلام كلمة عالية, وأظهرهم الله يوم بدر, شرق اللعين أبو عامر بريقه, وبارز بالعداوة وظاهر بها, وخرج فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاجتمعوا بمن وافقهم في أحياء العرب فكان من أمر المسلمين ما كان, وامتحنهم الله عز وجل, وكانت العاقبة للمتقين, وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وكسرت رباعيته اليمنى والسفلى, وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم، واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه, فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه القرآن، فأبى أن يسلم   (1) انظر: زاد المعاد (3/ 578). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 833 وتمرد, فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدًا طريدًا فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم, فوعده ومناه, وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه, ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء, فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك, وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته, وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية, فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: «إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل عليه السلام راجعًا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم، مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة (1). هذا ما ذكره ابن كثير في سبب النزول. أما معنى الآيات الكريمات: أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء المسجد أربعة أمور: 1 - الضرار لغيرهم، وهو المضارة. 2 - الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام, لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق. 3 - التفريق بين المؤمنين, لأنهم أرادوا ألا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى. 4 - الإرصاد لمن حارب الله ورسوله، أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله (2). وقد خيَّب الله -تعالى- مسعاهم، وأبطل كيدهم بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بهدمه وإزالته. وقوله: (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى) ذم لهم على أيمانهم الفاجرة، وأقوالهم الكاذبة؛ لذلك قال تعالى: (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ). ثم نهى الله تعالى رسوله والمؤمنين عن الصلاة في هذا المسجد نهيا مؤكدًا, فقال سبحانه: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).   (1) انظر: تفسير ابن كثير (2/ 338). (2) انظر: تفسير الشوكاني (2/ 403). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 834 قال ابن عاشور: وقوله سبحانه: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) المراد بالقيام الصلاة؛ لأن أولها قيام, ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه تكسبه يمنًا وبركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه؛ ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر، ومالك بن الدخشم مع بعض أصحابه وقال لهم: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه» , ففعلوا (1) وقوله: (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ) احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادة في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه, فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قباء، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه، وهذا أدب نفساني عظيم (2). وفيه أيضا دفع مكيدة المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في مسجدهم فامتنع فقوله: (أَحَقُّ) وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة؛ لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقًا بصلاته فيه أصلاً. ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين لمجازاتهم، ظاهرا في دعوتهم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقًا بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه، فيعرف من وصفه بأنه (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى) أن هذا أسس على ضدها (3). وقد رأى ابن عاشور أن المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى أنه مسجد هذه صفته لا مسجدا واحدا معينا، فيكون هذا الوصف كليا انحصر في فردين: المسجد النبوي, ومسجد قباء (4). قوله تعالى: (فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا) روى ابن ماجه أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار, إن الله قد أثنى عليكم في الطهور فما طهوركم؟» قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء، قال: فهو ذاك فعليكموه (5). وفي قصة مسجد الضرار دروس وعبر وفوائد منها: 1 - الكفر ملة واحدة: وقد تبين هذا في موقف أبي عامر الراهب من الإسلام ومن المسلمين؛ إذ غضب غضبا شديدا، وتألم لهزيمة المشركين في بدر، فأعلن عداءه للرسول, وتوجه إلى عاصمة الشرك مكة يحث أهلها على قتال المسلمين, وخرج مقاتلا معهم في أحد، وحاول تفتيت الصف   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 184). (2) انظر: حديث القرآن الكريم (2/ 661). (3) انظر: التحرير والتنوير (11/ 31). (4) المصدر نفسه (11/ 32). (5) سنن ابن ماجه، كتاب الطهارة، باب الاستنجاء بالماء (1/ 127). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 835 الإسلامي (1) وصدق الله تعالى عندما قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73]. 2 - محاولة التدليس على المسلمين: حاول المنافقون أن يضفوا الشرعية على هذا البناء وأنه مسجد بنوه لأسباب مقنعة في الظاهر، ولكن لا حقيقة لها في نفوس أصحابها، فقد جاءوا يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة في هذا البناء ليكون مسجدا قد باركه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فيه، فإذا حدث هذا فقد استقر قرارهم في تحقيق أهدافهم، وهذا أسلوب ماكر خبيث قد ينطلي على كثير من الناس (2). 3 - فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين: إن الباحث ليلاحظ مدى العناية الإلهية بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أطلعه الله -عز وجل- على أسرار هؤلاء المنافقين وما أرادوه من تأسيس هذا المسجد، فلولا إعلام الله لرسوله لما أدرك رسول الله حقيقة نواياهم، ولصلى في البناء فأضفى عليه الشرعية وأقبل الناس يصلون فيه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وبذلك يحدث الاختلاط بين المنافقين وضعاف المسلمين فينفردون بهم وقد يؤثرون عليهم بالشائعات (3). 4 - العلاج النبوي الحاسم: إن ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر بهدم مسجد الضرار هو التصرف الأمثل، وهذا منهج نبوي كريم سنه لقادة الأمة في القضاء على أي عمل يراد منه الإضرار بالمسلمين وتفريق كلمتهم، فالداء العضال لا يعالج بتسكينه والتخفيف منه، وإنما يعالج بحسمه وإزالة آثاره، حتى لا يتجدد ظهوره بصورة أخرى، وإن الثمار العملية، التي لمسها المسلمون على إثر تطبيق الأمر النبوي الحازم لتدلنا على أن هذه المنهجية التي نهجها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا المكر الخبيث, هي الطريقة المثلى لقمع حركة النفاق في المجتمع المسلم، فقد أصبح أمرهم بعد ذلك يتلاشى شيئا فشيئا حتى لم يبق منهم بعد لحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى إلا عدد قليل، ولم يعرف عنهم بعد تدمير مسجد الضرار أن قاموا بأعمال تخدم الهدف نفسه لعلمهم بنتائج العمل بعد انكشافهم (4). 5 - ما يلحق بحكم مسجد الضرار: ذكر المفسرون ما يلحق بمسجد الضرار في الحكم، فهذه بعض أقوالهم:   (1) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص179. (2) المصدر نفسه، ص181. (3) المصدر نفسه، ص181. (4) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 130). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 836 أ- قال الزمخشري: ... وقيل كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب, فهو لاحق بمسجد الضرار (1). علق الدكتور عبد الكريم زيدان على قول الزمخشري فقال: ولكن هل يلحق بمسجد الضرار فيهدم، كما هدم مسجد الضرار الذي بناه المنافقون في المدينة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه؟ لا أرى ذلك, وإنما يمكن أن يقال إن المسجد الذي بنى لهذه الأغراض يلحق بمسجد الضرار من جهة عدم ابتنائه على التقوى، والإخلاص الكامل لله تعالى (2). ب- قال القرطبي في تفسيره: قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه (3). ج- وقال سيد قطب في تفسيره: هذا المسجد مسجد الضرار الذي اتخذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكيدة للإسلام والمسلمين، هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى؛ يتخذ في صورة نشاط ظاهره الإسلام وباطنه لسحق الإسلام أو تشويهه ... ويتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها، وهي ترمي هذا الدين، ويتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام، لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يُذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب بما توحيه لهم من أن الإسلام بخير، وأنه لا داعي للخوف أو القلق عليه (4). 6 - قاعدة لمعرفة ما يلحق بالمسجد الضرار: قال الدكتور عبد الكريم زيدان: كل ما يتخذ مما هو في ظاهره مشروع، ويريد متخذوه تحقيق غرض غير مشروع، فهو ملحق بالمسجد الضرار، لأنه يحمل روحه وعناصره (5) , وإذا أردنا الإيجاز قلنا في هذه القاعدة: كل ما كان ظاهره مشروعا ويريد متخذوه الإضرار بالمؤمنين فهو ملحق بالمسجد الضرار (6). وبناء على هذه القاعدة يخرج من نطاق مسجد الضرار وما يلحق به، ما ذكره الإمام ابن القيم من مشاهد الشرك، ومن أماكن المعاصي والفسوق كالحانات وبيوت الخمر والمنكرات ونحو ذلك؛ لأن هذه المنكرات ظاهرها غير مشروع فلا تلحق به وإن استحقت الإزالة كمسجد   (1) انظر: تفسير الزمخشري (2/ 310). (2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 504). (3) انظر: تفسير القرطبي (8/ 254). (4) في ظلال القرآن (3/ 1710، 1711). (5) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 506). (6) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 507). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 837 الضرار باعتبارها منكرات ظاهرًا وباطنًا (1). 7 - مساجد الضرار في بلاد المسلمين: لا يزال أعداء الإسلام من المنافقين والملحدين، والمبشرين (المنصِّرين) والمستعمرين, يقيمون أماكن باسم العبادة وما هي لها، وإنما المراد بها الطعن في الإسلام وتشكيك المسلمين في معتقداتهم وآدابهم، وكذلك يقيمون مدارس باسم الدرس والتعليم ليتوصلوا بها إلى بث سمومهم بين أبناء المسلمين، وصرفهم عن دينهم، وكذلك يقيمون المنتديات باسم الثقافة والغرض منها خلخلة العقيدة السليمة في القلوب, والقيم الخلقية في النفوس، ومستشفيات باسم المحافظة على الصحة والخدمة الإنسانية والغرض منها التأثير على المرضى والضعفاء وصرفهم عن دينهم, وقد اتخذوا من البيئات الجاهلة والفقيرة -لاسيما في بلاد إفريقيا- ذريعة للتوصل إلى أغراضهم الدنيئة التي لا يقرها عقل ولا شرع ولا قانون (2). إن مسجد الضرار ليس حادثة في المجتمع الإسلامي الأول وانقضت, بل هي فكرة باقية، يخطط لها باختيار الأهداف العميقة، وتختار الوسائل الدقيقة لتنفيذها, وخططها تصب في التآمر على الإسلام وأهله بالتشويه وقلب الحقائق، والتشكيك، وزرع بذور الفتن لإبعاد الناس عن دينهم وإشغالهم بما يضرهم ويدمر مصيرهم الأخروي (3). * * * المبحث الرابع قصة الثلاثة الذين خلفوا وردت قصة الثلاثة الذين خلفوا على لسان كعب بن مالك - رضي الله عنه - في كتب السيرة والحديث والتفسير بروايات متقاربة في ألفاظها، ولقيت عناية فائقة في الشرح والتدريس, وكان صحيح البخاري من أكثر الكتب دقة وتفصيلا لهذه القصة (4). ونترك كعب بن مالك - رضي الله عنه - يحدثنا بنفسه حيث قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة (5) حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن -قط- أقوى ولا أيسر حين   (1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 507). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 508). (3) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص182. (4) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص187. (5) ليلة العقبة: الليلة التي بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار على الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 838 تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان -قط- حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد, واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، وعدوًّا كثيرًا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريدون الديوان, قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي الله. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حيث طابت الثمار والظلال, وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقضِ شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو (1) وهممت أن أرتحل فأدركهم, وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصًا عليه النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه، ونظره في عطفيه (2) فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت, والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا (3) يزول به السراب (4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة» فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه (5) المنافقون, قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلاً (6) حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا (7) زاح (8) عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجمعت صدقه (9)   (1) تفارط الغزو: تقدم الغزاة وسبقوا وفاتوا. (2) والنظر في عطفيه: أي جانبيه, وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه ولباسه. (3) مبيضا: لابس البياض. (4) يزول به السراب: يتحرك وينهض، والسراب ما يظهر للإنسان. (5) لمزه المنافقون: عابوه واحتقروه. (6) توجه قافلا: راجعًا. (7) أظل قادمًا: أقبل ودنا قدومه كأنه أبقى على ظله .. (8) زاح: أزال. (9) أجمعت صدقه: عزمت على صدقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 839 وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا, فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئت، فلما سلمت، تبسم تبسم المغضب, ثم قال: «تعال» , فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» قال: قلت: بلى, إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً (1) ولكني -والله- لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن (2) الله أن يُسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليَّ فيه (3) إني لأرجو فيه عقبى الله (4) , لا -والله- ما كان لي عذر، والله ما كنت -قط- أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك» , فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك، استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: فوالله مازالوا يؤنبونني (5) حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذِّب نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوة. فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -أيها الثلاثة- من بين من تخلف عنه. فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف, فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا (6) وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم (7) فكنت أخرج، فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى طال ذلك عليَّ من جفوة الناس،   (1) أعطيت جدلاً: فصاحة وقوة في الكلام وبراعة. (2) ليوشكن: ليسرعن. (3) تجد عليَّ فيه: تغضب. (4) إني لأرجو عقبى الله: يعقبني خيرا ويثيبني عليه. (5) يؤنبونني: يلومونني أشد اللوم .. (6) استكانا: خضعا. (7) أشب القوم وأجلدهم: أي أصغرهم سنا وأقواهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 840 مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، -وهو ابن عمي, وأحب الناس إلي- فسلمت عليه, فوالله ما رد عليَّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة, أنشدك بالله (1) هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينما أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط أهل الشام (2) ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاءني فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبا، فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة (3) فالحقْ بنا نو فقلت حين قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيممت (4) بها التنور، فسجرتها (5) به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا, بل اعتزلها فلا تقربنها، قال: فأرسل إلى صاحبي بمثل هذا. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله، فقالت له: يا رسول الله, إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك, فقالت: إنه -والله- ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك؟ فقد أذن لامرأة هلال ابن أمية أن تخدمه، قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب، قال فلبثت بذلك عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت علىَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع (6) يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك, أبشر. قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج، قال: فآذن (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم توبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا, فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إليَّ فرسًا، وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس, فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشارته، والله ما أملك غيرهما   (1) أنشدك بالله: أسألك بالله. (2) نبط أهل الشام: فلاحو العجم .. (3) مضيعة: يعني أنك لست بأرض يضيع فيها حقك. (4) فتياممت: تيممت: قصدت. (5) فسجرتها: أحرقتها. (6) أوفى على سلع: صعده وارتفع عليه، وسلع: جبل بالمدينة معروف. (7) فآذن الناس: أي أعلمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 841 يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني الناس فوجا فوجا (1)،يهنئونني بالتوبة ويقولون: لتهنأك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، حوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني, والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة, قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: «لا, بل من عند الله» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر قال: وكنا نعرف ذلك قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله, إن من توبتي أن أنخلع (2) من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال: وقلت: يا رسول الله, إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت, فوالله ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبلاه (3) الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، قال: فأنزل الله عز وجل: (لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ - وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 117 - 118] حتى بلغ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]. قال كعب: والله ما أنعم الله علي من نعمة -قط- بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا الله حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال الله: (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إذا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 95 - 96]. قال كعب: وكنا تخلفنا -أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه, فبذلك قال الله عز وجل: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ   (1) فوجا فوجا: الفوج الجماعة. (2) أنخلع من مالي: أتصدق به .. (3) أبلاه الله: أنعم عليه .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 842 وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة: 118] وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا (1)، عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه (2). وفي هذه القصة دروس وعبر وفوائد كثيرة نذكر منها: 1 - الأسلوب الجميل والبيان الرائع والأدب الرفيع: لقد تمت صياغة هذا الحديث بأسلوب جميل، وبيان رائع، وأدب رفيع، وإنه ليعتبر -مع أمثاله كحديث صلح الحديبية وحديث الإفك- نماذج عالية للأدب العربي الرفيع, وليت القائمين على وضع المناهج الدراسية يختارون هذه الأحاديث وأمثالها لتنمية مدارك الطلاب, وتكوين الملكة الأدبية والثروة اللغوية العالية، انظر مثلا إلى قول كعب في هذا الحديث: فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذب؛ فأجمعت صدقه (3). 2 - الصدق سفينة النجاة: لقد أدرك كعب, وهلال، ومرارة -رضي الله عنهم- خطورة الكذب فعزموا على سلوك طريق الصراحة والصدق وإن عرضهم ذلك للتعب والمضايقات، ولكن كان أملهم بالله -تعالى- كبيرًا في أن يقبل توبتهم ثم يعودون إلى الصف الإسلامي أقوى مما كانوا عليه (4) , وما أجمل ختم رب العالمين توبته على كعب ومن معه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]. 3 - الهجر التربوي وأثره في المجتمع: إن الهجر التربوي له منافعه العظيمة في تربية المجتمع المسلم على الاستقامة ومنع أفراده من التورط في المخالفات التي تكون إما بترك شيء من الواجبات أو فعل شيء من المحرمات؛ لأن من توقع أنه إذا وقع في شيء من ذلك سيكون مهجورا من جميع أفراد المجتمع, فإنه لن يفكر في الإقدام على ذلك. ولا يغيب عن البال أن تطبيق هذا الحكم يجب أن يتم في الظروف المشابهة لحياة المسلمين في العهد النبوي المدني، حيث توجد الدولة المهيمنة والمجتمع القوي, مع أمن الوقوع في الفتنة لمن طبق عليه هذا الحكم.   (1) إرجاؤه أمرنا: تأخيره أمرنا. (2) البخاري، كتاب المغازي رقم 4418، صحيح السيرة النبوية، ص614. (3) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 137). (4) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 138). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 843 وهذا الهجر التربوي يختلف عن الهجر الذي يكون بين المسلمين على أمور الدنيا, فهذا دنيوي وذاك ديني، فالهجر الديني مطلب شرعي يثاب عليه فاعله، أما الهجر الدنيوي فإنه مكروه إلا إذا زاد عن ثلاثة أيام فإنه يكون محرما (1) لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ, يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا, وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه» (3). 4 - تنفيذ أوامر القيادة في المجتمع المسلم: استجاب المجتمع المسلم كله لتنفيذ أمر المقاطعة والهجر الذي صدر من القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم وامتنعوا جميعا عن الحديث مع هؤلاء الثلاثة, ووصف كعب لنا ذلك فقال: ... فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف, فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم, فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد (4) ... وقد أطلق كعب السلام على ابن عمه أبي قتادة فلم يرد عليه السلام, وناشده بالله مرارًا: هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، مع أنه من أحب الناس إليه، لقد كان أبو قتادة في هذا الموقف موزع الفكر بين إجابة رجل حبيب إليه عزيز عليه، وبين تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتطبيق الهجر التربوي, ولكن ليس هناك تردد بين الأمرين، فالذي أوحى به إيمان أبي قتادة هو تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم فظهر ذلك على سلوكه (5). وقد بلغ الالتزام بالأمر النبوي في الهجر التربوي ذروته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلفوا باعتزال زوجاتهم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا, فالتزم الجميع بذلك، واستأذنت زوجة هلال بن أمية -وكان شيخا طاعنا في السن لا يجد من يخدمه- فطلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن لها أن تخدمه فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك شريطة ألا يقربها؛ فالتزمت رضي الله عنها (6). 5 - الولاء التام لله ورسوله: كان العدو الصليبي يراقب ويرصد ويستغل الفرصة السانحة لكي يمزق الجبهة الداخلية ويشعل نار الفتنة بين المسلمين ليوهن البنيان ويقوض الأركان, ولذلك استغل ملك غسان فرصة هجران المسلمين لكعب بن مالك - رضي الله عنه - وعقوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم له, بأن يرسل سفيره لكعب برسالة خاصة منه إليه يغريه فيها, تأمل قوله: قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار   (1) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 139). (2) مسلم، كتاب البر، رقم 2560، ص1984. (3) مسند أحمد (4/ 220). (4) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص195. (5) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 140). (6) انظر: الصراع مع الصليبين، ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 844 هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك (1). فكان تعليق كعب على هذه الرسالة: وهذا من البلاء أيضا، قد بلغ مني ما وقعت فيه أن طمع فيَّ رجال من أهل الشرك، ثم أحرق الرسالة (2) وهذا الموقف يدل على شدة ولاء كعب لله ورسوله وقوة إيمانه وعظمة نفسه, فقد أدرك أنها محنة جديدة أقسى من الأولى، فلا يرضيه أن يجيب ملك غسان بالسلب، أو يرمي بالكتاب ويمزقه، ولكنه رمى به في التنور ليصير رمادا، ويصير كل ما به دخانا يتبدد في الهواء، وخرج الرجل من محنته وهو أقوى ما يكون إيمانا، وأصفى ما يكون روحا، وأكرم ما يكون أخلاقا, فيالعظمة هذه النفوس المؤمنة الكبيرة (3)! لقد مر كعب من فوق هذا الاختبار والابتلاء عزيزًا قويًا بإسلامه، لم يتأثر به ولا انزلق فيه (4). 6 - توبة الله على العبد قيمة دينية يتطلع إليها الصادقون: عندما نزلت الآيات الكريمة التي بينت توبة الله على هؤلاء الثلاثة كان ذلك اليوم من الأيام العظيمة عند المسلمين, ظهرت فيه الفرحة على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استنار كأنه قطعة قمر، وظهرت الفرحة على وجوه الصحابة -رضي الله عنهم- حتى صاروا يتلقون كعبًا وصاحبيه أفواجًا يهنئونهم بما تفضل الله به عليهم من التوبة, وجاء كعب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه يبرق من السرور فقال له: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، وهذا يعني مقام التوبة وأنها أعظم من الدخول في الإسلام. إن التوبة تعني عودة العبد إلى الدخول تحت رضوان الله تعالى الذي هو أعلى هدف ينشده المسلم، وبالتالي فإنه يحظى بحفظه -جل وعلا- في الدنيا وتكريمه في الآخرة، لقد كانت توبة كعب عظيمة عبر عنها بنزع ثوبيه -اللذين لا يملك يومئذ غيرهما- وإهدائهما لمن بشره (5) وعدم نسيان كعب لطلحة بن عبيد الله مصافحته وتهنئته له (6) وكذلك كانت فرحة صاحبيه عظيمة غير أن كعبا لم يذكر في هذا الخبر إلا ما جرى له (7) وقد جاء في رواية الواقدي: وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد قال: وخرجت إلى بني واقف فبشرته فسجد، قال سعيد: فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نفسه (8). 7 - تشرع أنواع من العبادات شكرًا لله عند النعمة: كانت فرحة كعب بن مالك بتوبة الله -سبحانه وتعالى- عليه لا تحدها حدود, ولا يتصورها مثل، وقد تفنن هو - رضي الله عنه - في التعبير عنها بجملة من العبادات منها:   (1) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4418. (2) المغازي (3/ 1051، 1052). (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 517). (4) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص307. (5) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 141). (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 581). (7) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 142). (8) المغازي للواقدي (3/ 1054). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 845 أ- سجود الشكر: حينما سمع كعب البشارة بتوبة الله عليه خر ساجدًا من فوره شكرًا لله -تبارك وتعالى- فقد كان من عادة الصحابة -رضي الله عنهم- أن يسجدوا شكرًا لله -تعالى- كلما تجددت لهم نعمة أو انصرفت عنهم نقمة, وقد تعلموا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ب- مكافأة الذي يحمل البشرى: فقد نزع كعب ثوبيه اللذين كان يلبسهما، فكساهما الذي سمع صوته بالبشرى، وما كان يملك وقتئذ غيرهما، ثم استعار ثوبين فلبسهما، ولا شك أن هذا ضرب من الهبة المشروعة, فإن كان المبشر غنيا كان له هدية، وإن كان فقيرا كان له صدقة، وكلاهما إخراج المال شكرا لله -تعالى- على إنزاله الفرج (2). ج- التصدق بالمال: فقد جعل كعب من توبته أن ينخلع من ماله صدقة لله تعالى, لكنه -عليه الصلاة والسلام- لم يتقبل منه التصدق بجميع ماله، وقال له: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك» , وكأنه يستشيره بذلك، فكانت المشورة بإمساك بعض ماله (3) وقد ثار الخلاف الفقهي فيمن نذر التصدق بجميع ماله، والصدقة مستحبة, والنذر واجب الوفاء، ولم يذهب كعب إلى النذر, وإنما استشار في الصدقة بكل المال، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بإمساك بعض ماله. * * * المبحث الخامس دروس وعبر وفوائد أولاً: معالم من المنهج القرآني في الحديث عن غزوة تبوك: إن الآيات التي أنزلها الله في كتابه المتعلقة بغزوة العسرة هي أطول ما نزل في قتال المسلمين وخصومهم, وقد بدأت باستنهاض الهمم لرد هجوم المسيحية، وإشعارهم بأن الله لا يقبل ذرة تفريط في حماية دينه ونصرة نبيه، وإن التراجع أمام الصعوبات الحائلة دون قتال الروم، يعد مزلقة إلى الردة والنفاق (4) قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ - إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ   (1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي، ص493. (2) نفس المصدر، ص493، الصراع مع الصليبيين، ص202. (3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي، ص493. (4) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 846 تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة: 38، 39]. وعند التأمل في سورة التوبة يلاحظ القارئ أن لها معالم في عرضها لغزوة تبوك منها: 1 - عاتب القرآن الكريم من تخلف عتابًا شديدًا، وتميزت غزوة تبوك عن سائر الغزوات بأن الله حث على الخروج فيها -وعاتب من تخلف عنها- والآيات الكريمة جاءت بذلك, كقوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة: 41]. وقد ختمت الغزوات النبوية بهذه الغزوة, وقد كان تطبيقا عمليا لوضع النص القرآني في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ) [التوبة: 123] موضع التنفيذ (1). 2 - ميز القرآن الكريم هذه الغزوة عن غيرها, فسماها الله تعالى ساعة العسرة، قال تعالى: (لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) [التوبة: 117] فقد كانت غزوة عسرة بمعنى الكلمة. 3 - من معالم منهج القرآن في عرضه لهذه الغزوة العظيمة أن الله رد على المنافقين لمزهم فقراء الصحابة عندما جاء أحدهم بنصف صاع وتصدق به, فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا إلا رياء، فنزلت الآية: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة: 79]. 4 - بين القرآن الكريم أن المؤمنين الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعددهم يزيد عن الثلاثين ألفا- قد كتب الله لهم الأجر العظيم (2) قال تعالى: (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 92]. ثانيًا: ممارسة الشورى في هذه الغزوة: مارس رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة الشورى وقبِل مشورة الصدِّيق والفاروق في بعض النوازل التي حدثت في الغزوة ومن هذه النوازل: أ- قبول مشورة عمر بن الخطاب في ترك نحر الإبل حين أصابت الجيش مجاعة: أصابت جيش العسرة مجاعة أثناء سيرهم إلى تبوك, فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم حتى   (1) انظر: حديث القرآن الكريم (2/ 702). (2) انظر: حديث القرآن الكريم (2/ 703). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 847 يسدوا جوعتهم، فلما أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك جاءه عمر - رضي الله عنه - فأبدى مشورته في هذه المسألة, وهي أن الجند إن فعلوا ذلك نفدت رواحلهم وهم أحوج ما يكونون إليها في هذا الطريق الطويل، ثم ذكر - رضي الله عنه - حلا لهذه المعضلة وهو: جمع أزواد القوم ثم الدعاء لهم بالبركة فيها، فعمل صلى الله عليه وسلم بهذه المشورة حتى صدر القوم عن بقية من هذا الطعام بعد أن ملأوا أوعيتهم منه وأكلوا حتى شبعوا. ب- قبول مشورة عمر - رضي الله عنه - في ترك اجتياز حدود الشام والعودة إلى المدينة: عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى منطقة تبوك وجد أن الروم فروا خوفًا من جيش المسلمين، فاستشار أصحابه في اجتياز حدود الشام, فأشار عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأن يرجع بالجيش إلى المدينة وعلل رأيه بقوله: إن للروم جموعا كثيرة وليس بها أحد من أهل الإسلام، ولقد كانت مشورة مباركة؛ فإن القتال داخل بلاد الرومان يعد أمرًا صعبًا، إذ إنه يتطلب تكتيكًا خاصًا لأن الحرب في الصحراء تختلف في طبيعتها عن الحرب في المدن, بالإضافة إلى أن عدد الرومان في الشام يقرب من مائتين وخمسين ألفًا، ولا شك في أن تجمع هذا العدد الكبير في تحصنه داخل المدن يعرض جيش المسلمين للخطر (1). إن ممارسة الشورى في حياة الأمة في كل شئونها السياسية والعسكرية والاجتماعية ... إلخ منهج تربوي كريم سار عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته. ثالثا: التدريب العملي العنيف: كان في خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى تبوك فوائد كثيرة, منها: تدريبهم تدريبا عنيفا، فقطع بهم صلى الله عليه وسلم مسافة طويلة في ظروف جوية صعبة حيث كانت حرارة الصيف اللاهب, بالإضافة إلى الظروف المعيشية التي كانوا يعانون منها، فقد كانت هناك قلة في الماء حتى كادوا يهلكون من شدة العطش، وأيضا كانت هناك قلة في الزاد والظهر ولا شك في أن هذه الأمور تعد تدريبا عنيفا لا يتحمله إلا الأقوياء من الرجال. وفي هذا الدرس يقول الأستاذ محمود شيت خطاب: تعمل الجيوش الحديثة على تدريب جنودها تدريبا عنيفا, كاجتياز مواقع وعراقيل صعبة جدا، وقطع مسافات طويلة في ظروف جوية مختلفة، وحرمان من الطعام والماء بعض الوقت، وذلك لإعداد هؤلاء الجنود لتحمل أصعب المواقف المحتمل مصادفتها في الحرب، لقد تحمل جيش العسرة مشقات لا تقل صعوبة عن مشقات هذا التدريب العنيف -إن لم تكن أصعب منها بكثير- لقد تركوا المدينة في موسم نضج ثمارها, وقطعوا مسافات طويلة شاقة في صحراء الجزيرة العربية صيفًا, وتحملوا الجوع والعطش مدة طويلة. إن غزوة تبوك تدريب عنيف للمسلمين، كان غرض الرسول صلى الله عليه وسلم منه إعدادهم لتحمل رسالة   (1) انظر: غزوة تبوك، باشميل, ص176، 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 848 حماية حرية نشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية ... فقد كانت هذه الغزوة آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم, فلابد من الاطمئنان إلى كفاءة جنوده قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى (1) وقد ساعد هذا التدريب العملي الصحابة في عصر الخلفاء فقاموا بفتح بلاد الشام وبلاد الفرس بقوة إيمانهم, وثقتهم بخالقهم, وساعدهم على ذلك لياقتهم البدنية العالية، ومعرفتهم العملية لاستخدام السيوف والرماح وأنواع الأسلحة في زمانهم. رابعًا: أهم نتائج الغزوة: أ- يمكن للباحث أن يلاحظ أهم نتائج هذه الغزوة وهي: 1 - إسقاط هيبة الروم من نفوس العرب جميعًا -مسلمهم وكافرهم على السواء- لأن قوة الروم كانت في حس العرب لا تقاوم، ولا تغلب، ومن ثم فقد فزعوا من ذكر الروم وغزوهم، ولعل الهزيمة التي لحقت بالمسلمين في غزوة (مؤتة) كانت مؤكدة على ما ترسخ في ذهن العربي في جاهليته من أن الروم قوة لا تقهر، فكان لا بد من هذا النفير العام لإزاحة هذه الهزيمة النفسية من نفوس العرب. 2 - إظهار قوة الدولة الإسلامية كقوة وحيدة في المنطقة قادرة على تحدي القوى العظمى عالميا -حينذاك- ليس بدافع عصبي أو عرقي، أو تحقيق أطماع زعامات معاصرة، وإنما بدافع تحريري؛ حيث تدعو الإنسانية إلى تحرير نفسها من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ولقد حققت هذه الغزوة الغرض المرجو منها بالرغم من عدم الاشتباك الحربي مع الروم الذين آثروا الفرار شمالا فحققوا انتصارا للمسلمين دون قتال، حيث أخلوا مواقعهم للدولة الإسلامية، وترتب على ذلك خضوع النصرانية التي كانت تمت بصلة الولاء لدولة الروم مثل إمارة دومة الجندل، وإمارة إيلة (مدينة العقبة حاليا على خليج العقبة) , وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم كتابا يحدد ما لهم وما عليهم (2) وأصبحت القبائل العربية الشامية الأخرى التي لم تخضع للسيطرة الإسلامية في تبوك تتعرض بشدة للتأثير الإسلامي، وبدأ الكثير من هذه القبائل يراجع موقفه ويقارن بين جدوى الاستمرار في الولاء للدولة البيزنطية أو تحويل هذا الولاء إلى الدولة الإسلامية الناشئة، ويعد ما حدث في تبوك نقطة البداية العملية للفتح الإسلامي لبلاد الشام (3) وإن كانت هناك محاولات قبلها ولكنها لم تكن في قوة التأثير كغزوة تبوك, فقد كانت هذه الغزوة بمثابة المؤشر لبداية عمليات متواصلة لفتح البلدان، والتي واصلها خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده، ومما يؤكد هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل موته جهز جيشا بقيادة   (1) انظر: الرسول القائد، ص281، 282. (2) انظر: دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة, للشجاع، ص209. (3) انظر: المسلمون والروم في عصر النبوة، عبد الرحمن أحمد، ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 849 أسامة بن زيد بن حارثة ليكون رأس حربة موجهة صوب الروم، وطليعة لجيش الفتح، ضم هذا الجيش جُلَّ صحابة رسول الله، ولكنه لم يقم بمهمته إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم, ومع هذا فقد حقق الهدف المطلوب منه كما سيأتي (1) بإذن الله عند الحديث في سيرة الصديق - رضي الله عنه -. لقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسس الأولى والخطوات المثلى لفتح بلاد الشام والفتوحات الإسلامية. 3 - توحيد الجزيرة العربية تحت حكم الرسول صلى الله عليه وسلم, حيث تأثر موقف القبائل العربية من الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة الإسلامية بمؤثرات متداخلة كفتح مكة، وخيبر, وغزوة تبوك، فبادر كل قوم بإسلامهم بعد أن امتد سلطان المسلمين إلى خطوط التماس مع الروم ثم مصالحة نجران في الأطراف الجنوبية على أن يدفعوا الجزية، فلم يعد أمام القبائل العربية إلا المبادرة الشاملة إلى اعتناق الإسلام والالتحاق بركب النبوة بالسمع والطاعة؛ ونظرا لكثرة وفود القبائل العربية التي قدمت إلى المدينة من أنحاء الجزيرة العربية بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك لتعلن إسلامها هي ومن وراءها, فقد سمي العام التاسع للهجرة في المصادر الإسلامية بعام الوفود (2). وبهذه الغزوة المباركة ينتهي الحديث عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي قادها بنفسه، فقد كانت حياته المباركة غنية بالدروس والعبر التي تتربى عليها أمته في أجيالها المقبلة (3) , ومليئة بالدروس والعبر في تربية الأمة وإقامة الدولة التي تحكم بشرع الله. * * * المبحث السادس أهم الأحداث ما بين غزوة تبوك وحجة الوداع أولاً: وفد ثقيف وإسلامهم: لما انصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، ورجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فرموه بالنبل، فأصابه سهم فقتله, ثم إنهم رأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب الذين أسلموا, فأجمعوا على أن يرسلوا رجالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقدم عليه ستة منهم في رمضان بعد رجوعه من تبوك سنة تسع (4).   (1) انظر: دراسات في عهد النبوة، للشجاع، ص209. (2) انظر: نضرة النعيم (1/ 395، 396). (3) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون، (4/ 460). (4) انظر: رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر، ص199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 850 وكان الوفد يتكون من ستة من كبار بني مالك والأحلاف، ثلاثة لكل منهما وعلى رأسهم جميعا عبد ياليل بن عمرو (1) , وتكوين هذا الوفد على هذا النحو يدل على فكر سياسي عميق؛ ذلك لأن ثقيف تأمل في أن يتدخل المهاجرون من بني أمية للتوسط في إقرار الصلح مع الرسول بسبب علاقة بني أمية التاريخية بالأحلاف (2). كان الصحابة يعرفون اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلام ثقيف؛ ولذلك ما إن ظهر وفد ثقيف قرب المدينة، حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول، وتنازل المغيرة لأبي بكر (3). واستقبل الرسول الوفد راضيًا وبنى لهم خياما لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا, وكانت ضيافتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا يفدون عليه كل يوم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم، فكان عثمان كلما رجعوا وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن، حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبي بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعجب منه وأحبه (4). فمكث الوفد أياما يختلفون إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يدعوهم إلى الإسلام، فقال له عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى أهلنا وقومنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم, وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم». قال عبد ياليل: أرأيت الزنى؟ فإنا قوم عزاب بغرب (5) لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العزبة, قال: «هو مما حرم الله على المسلمين, يقول الله تعالى (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)» [الإسراء: 32]. قال: أرأيت الربا؟ قال: «الربا حرام» قال: فإن أموالنا كلها ربا, قال: «لكم رءوس أموالكم, يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ)» [البقرة: 278]. قال أفرأيت الخمر؟ فإنها عصير أعنابنا، لا بد لنا منها. قال: «فإن الله قد حرمها» ثم تلا رسول الله هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 193). (2) انظر: رجال الإدارة في الدولة الإسلامية، د. حسين محمد، ص76. (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 193). (4) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص670. (5) أي: نذهب إلى بلاد بعيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 851 وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض، فقال عبد ياليل: ويحكم! نرجع إلى قومنا بتحريم هذه الخصال الثلاث! والله والله لا تصبر ثقيف عن الخمر أبدا، ولا عن الزنا أبدا. قال سفيان بن عبد الله: أيها الرجل، إن يرد الله بها خيرا تصبر عنها، قد كان هؤلاء الذين معه على مثل هذا، فصبروا وتركوا ما كانوا عليه، مع أنا نخاف هذا الرجل، قد أوطأ الأرض غلبة ونحن في حصن في ناحية من الأرض, والإسلام حولنا فاش، والله لو قام على حصننا شهرا لمتنا جوعا، وما أرى إلا الإسلام وأنا أخاف يوما مثل يوم مكة. وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتبوا الكتاب، كان خالد هو الذي كتبه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم الطعام فلا يأكلون منه شيئًا حتى يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا. قالوا: أرأيت الرَّبَّة، ما ترى فيها؟ قال: «هدمها». قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنا أوضعنا هدمها (1) قتلت أهلنا، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ويحك يا عبد ياليل, إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده، قال عبد ياليل: إنا لم نأتك يا عمر, فأسلموا وكمل الصلح، وكتب ذلك الكتاب خالد بن سعيد، فلما كمل الصلح كلموا النبي صلى الله عليه وسلم يدع الربة ثلاث سنين لا يهدمها, فأبى, قالوا: سنتين، فأبى، قالوا: سنة, فأبى، قالوا: شهرًا واحدًا، فأبى أن يوقت لهم وقتًا وإنما يريدون بترك الربة لما يخافون من سفهائهم والنساء والصبيان، وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من هدمها (2) فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلبهم ذلك، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين لا صلاة فيه» (3). لقد طلب وفد ثقيف أن يعفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض الفرائض وأن يحلل لهم بعض المحرمات إلا أنهم فشلوا في طلباتهم وخضعوا للأمر الواقع (4). وقد أكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفادتهم وأحسن ضيافتهم في قدومهم وإقامتهم وعند سفرهم، وأمرَّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص على الطائف، فقد كان أحرصهم على تعلم القرآن والتفقه في الدين، وكان أصغرهم سنًا (5) , ولقد تأثر الوفد من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومن اختلاطهم بالمسلمين   (1) أي: أسرعنا السير في السفر. (2) انظر: المغازي للواقدي (3/ 968). (3) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (8/ 50) , المغازي للواقدي (3/ 968). (4) انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص221 - 223. (5) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 519). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 852 حتى إنهم صاموا ما بقي عليهم من شهر ومكثوا في المدينة خمسة عشر يوما ثم رجعوا إلى الطائف (1) وبعد رجوعهم جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ومشاركة المغيرة بن شعبة (2) - رضي الله عنه - وأبي سفيان بن حرب - رضي الله عنه - (3) وبعثهم في أثر الوفد (4). وبينما نجحت مساعي الوفد في إقناع ثقيف بالدخول في الإسلام وأخبروهم بمصير اللات، وإذا بالسرية قد وصلت إلى الطائف ودخل المغيرة بن شعبة في بضعة عشر رجلا يهدمون الربة (5) وكان ذلك تحت حراسة مشددة من قومه بني معتب الذين قاموا دونه خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود (6) , وخرجت ثقيف عن بكرة أبيها رجالها ونساؤها وصبيانها حتى الأبكار من خدورهن، وكانوا -لقرب عهدهم بالشرك- لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة ويظنون أنها ممتنعة (7). وكان المغيرة رجلاً فيه دعابة وظرف فقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالفأس ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أبعد الله المغيرة فقد قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطًا (8) وقالوا مخاطبين أفراد السرية: من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها, فوالله لا تستطيع أبدًا، فوثب المغيرة بن شعبة، وقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف! إنما هي لكاع (9) حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه (10). أكمل المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - ومن معه هدم الطاغية حتى سووها بالأرض، وكان سادنها واقفا على أحر من الجمر ينتظر نقمة الربة وغضبها على هؤلاء العصاة (11)، فما إن وصلوا إلى أساسها حتى صاح قائلا: سترون إذا انتهى أساسها يغضب الأساس غضبًا يخسف بهم (12) , فلما سمع المغيرة - رضي الله عنه - بذلك السخف قال لقائد السرية: دعني أحفر أساسها, فحفره حتى أخرجوا ترابها وانتزعوا حليتها، وأخذوا ثيابها، فبهتت ثقيف (13) وأدركت الواقع الذي كانت تحجبه غشاوة على أعينهم (14). وأقبل الوفد حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها, فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، وحمدوا الله على نصرة نبيه وإعزازه دينه (15).   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/ 519، 520). (2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 195). (3) المصدر نفسه، (4/ 195). (4) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (5/ 303، 304). (5) المغازي (3/ 671). (6) انظر: دلائل النبوة (5/ 304). (7) انظر: السرايا والبعوث، ص300. (8) المصدر نفسه، ص300. (9) لكاع عند العرب: العبد, ثم استعمل في الحمق والذم. (10) انظر: دلائل النبوة (5/ 303). (11) انظر: السرايا والبعوث، ص300. (12) انظر: المغازي (3/ 972). (13) انظر: دلائل النبوة (5/ 303). (14) انظر: السرايا والبعوث، ص301. (15) انظر: تاريخ ابن شيبة (2/ 507) نقلا عن السرايا والبعوث، ص301. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 853 وتم القضاء على ثاني أكبر طواغيت الشرك في الجزيرة العربية، وحل محلها بيت من بيوت الله عز وجل يوحد فيه الرب الذي لا إله إلا هو، وذلك بتوجيه كريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن أبي العاص (1) - رضي الله عنه - عامله على الطائف حيث أمره (بأن يجعل مسجد الطائف حيث كان طاغيتهم) (2). ثانيًا: وفاة زعيم المنافقين (عبد الله بن أبيّ ابن سلول): مرض عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، في ليالٍ بقين من شوال, ومات في ذي القعدة من السنة التاسعة (3). قال أسامة بن زيد: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ في مرضه نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قد كنت أنهاك عن حب يهود»، فقال عبد الله: فقد أبغضهم سعد بن زرارة فمات (4). ولما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما خيرني الله فقال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 80]. وسأزيده على سبعين» قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل آية: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة: 84] (5). وإنما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إجراء له على حكم الظاهر وهو الإسلام، ولما فيه من إكرام ولده عبد الله -وكان من خيار الصحابة وفضلائهم- وهو الذي عرض على النبي أن يقتل أباه لما قال مقالته يوم غزوة بني المصطلق كما بينَّا، ولما فيه من مصلحة شرعية، وهي تأليف قلوب قومه وتابعيه، فقد كان يدين له بالولاء فئة كبيرة من المنافقين، فعسى أن يتأثروا ويرجعوا عن نفاقهم ويعتبروا ويخلصوا لله ولرسوله، ولو لم يجب ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة وعارا على ابنه وقومه، فالرسول الكريم اتبع أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي فانتهى (6).   (1) انظر: السرايا والبعوث، ص301. (2) انظر: دلائل النبوة (5/ 299 - 303)، المغازي (3/ 970 - 972). (3) انظر: تاريخ الإسلام للذهبي، المغازي، ص659. (4) أبو داود، كتاب الجنائز، باب في العيادة رقم 3094. (5) البخاري، كتاب تفسير القرآن رقم 4670. (6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 533، 534). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 854 وأما إعطاؤه صلى الله عليه وسلم القميص فلأن الغنى به بخل بالكرم، وقد كان من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يرد طالب حاجة قط، على أنه كان مكافأة له على إعطائه العباس عم الرسول قميصه لما جيء به أسيرًا يوم بدر، وكان من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته رد الجميل بخير منه (1). وبموت عبد الله بن سلول تراجعت حركة النفاق في المدينة, حتى إننا لم نجد لهم حضورًا بارزًا في العام العاشر للهجرة، ولم يبق إلا العدد غير المعروف إلا لصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان (2) , وكان عمر -فيما بعد- لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليه حذيفة بن اليمان؛ لأنه كان يعلم أعيان المنافقين، وقد أخبره رسول الله بهم (3). كان العام التاسع حاسمًا لحركة النفاق في المجتمع الإسلامي، فقد وصل النظام الإسلامي إلى قوته؛ ومن ثم لا بد من تحديد إطار التعامل مع كل القوى بوضوح (4)، ولهذا عبر الإمام ابن القيم عن خطة الإسلام أمام المنافقين، فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهى أن يصلى عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم (5). وجاءت هذه الخطة وفق النصوص القرآنية التي احتوتها سورة التوبة (براءة) , (الفاضحة) حيث يستغرق الحديث عن المنافقين أكثر من نصف السورة فيفضح نواياهم وأعمالهم ووصف أحوالهم النفسية والقلبية، وموقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة حيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد، وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصفوف، وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والعمل (6). ومن أهم الأحكام التي برزت في هذه المرحلة ضد المنافقين: 1 - عدم الصلاة على من مات منهم، ودمغهم بالكفر: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ - وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُّعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة: 84، 85].   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص621، 622، السيرة لأبي شهبة (28534). (2) انظر: دراسات في عهد النبوة, للشجاع، ص221. (3) انظر: معين السيرة النبوية، ص464. (4) انظر: دراسات في عهد النبوة، ص219. (5) زاد المعاد (2/ 91). (6) انظر: المنافقون، محمد جميل غازي، ص92، 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 855 2 - تهديم مسجدهم الذي بنوه للإضرار بالمسلمين، وهو مسجد الضرار وقد تحدثت عنه فيما مضى بنوع من التفصيل. 3 - إصدار الأمر بمجاهدة المنافقين كمجاهدة الكافرين: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التحريم: 9] , وسواء أكان الجهاد بالقتال أم في المعاملة والمواجهة والكشف والفضح فإن طريقة التعامل مع المنافقين بعد سورة براءة، غير المعاملة قبلها. 4 - الكشف عن صفاتهم وأعمالهم بوضوح: كما جاء في سورة التوبة أيضا؛ فهم الذين قالوا تثبيطا للمسلمين: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة: 81] وهم الذين يلمزون المطوعين في الصدقات ويؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القول والفعل (1) ... إلخ. هذه معالم المنهج النبوي في التعامل مع حركة النفاق في المجتمع الإسلامي في العام التاسع الهجري. ثالثًا: تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته (دروس في بيوتات الرسول صلى الله عليه وسلم): قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً - وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28 - 29]. وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن نزول هاتين الآيتين كان بعد اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه بعد أن أقسم ألا يدخل عليهن شهرًا، فاعتزلهن في مشربة له، وهي القصة المعروفة بقصة إيلائه (2) من نسائه, وكان تاريخ نزول هذه الآيات في العام التاسع للهجرة (3). وأما سبب نزولها فهو طلب زوجاته صلى الله عليه وسلم التوسعة عليهن في النفقة, فقد أخرج مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجمًا (4) ساكتًا، قال: فقال: لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, لو رأيت بنت خارجة (5) سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها (6) , فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) انظر: دراسات في عهد النبوة, الشجاع، ص220. (2) الإيلاء: الحلف، قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص51. (3) المصدر نفسه، ص68. (4) واجمًا: هو الذي اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام. (5) بنت زيد امرأة عمر جميلة بنت ثابت نسبها عمر إلى أحد أجدادها. (6) فوجأت عنقها: بمعنى طعنت عنقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 856 وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة» , فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: أتسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟! فقلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرًا أو تسعًا وعشرين، ثم نزلت عليه هذه الآية (1). كانت الحياة المعيشية في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجري على وتيرة واحدة بالرغم من إمكانية التوسع في بعض الأحيان, ونساء الرسول صلى الله عليه وسلم هن من البشر، يرغبن بما يرغب به الناس، ويشتهين ما يشتهيه الناس (2) , فقد كان مساكنهن متواضعة بسيطة غاية البساطة, فقد وصفها الدكتور أبو شهبة فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بنى حُجرا حول مسجده الشريف لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة، بل كانت بيوت من ترفع عن الدنيا وزخرفها، وابتغى الدار الآخرة، فقد كانت -كمسجده- مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة، وسقوفها من جذوع النخل والجريد قريبة الفناء، قصيرة البناء، ينالها الغلام الفارع بيده, قال الحسن البصري -وكان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة-: قد كنت أنال أطول سقف في حُجر النبي صلى الله عليه وسلم بيدي. وكان لكل حجرة بابان، خارجي وداخلي من المسجد ليسهل دخول النبي صلى الله عليه وسلم إليه (3). وأما الإضاءة, فلم يكن هناك مصباح يستضاء به، يدل على ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح (4). أما الفراش الذي يأوي إليه النبي -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- فهو عبارة عن رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، ووسادته من أدم حشوها ليف (5) , فقد كانت معيشته صلى الله عليه وسلم تدل على الشدة, فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرققا (6) حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطًا (7) بعينه قط (8) , وعن عائشة قالت: إن كنا لننظر إلى الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات   (1) مسلم في الطلاق (2/ 1104). (2) انظر: معين السيرة، ص465. (3) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، (2/ 35، 36). (4) البخاري، كتاب الصلاة رقم 513. (5) البخاري، كتاب المظالم والغصب، رقم 2468. (6) مرققًا: رقيقًا ضد الغليظ. (7) سميط: الذي أزيل شعره بالماء المسخن وشوي. (8) البخاري في الرقائق، رقم 6457. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 857 رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقال لها عروة بن الزبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء (1). هذا, وقد فتح الله على المسلمين بعد خيبر وفتح مكة، وغزوة تبوك, وقد قرأت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم آيات في كتاب الله تبيح التمتع بنعم الله دون إسراف، فرغبن أن ينالهن حظ من ذلك, كما في قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]. وحض على أكل الطيبات من الرزق, قال سبحانه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 32]. ودعا إلى التوسط في الإنفاق والاعتدال فيه فقال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29]. إلا أن هناك جانبا آخر يتعلق به صلى الله عليه وسلم ونمط من المعيشة اختاره بتوجيه من ربه عز وجل, فلم يلتفت لشيء من هذا كما أدبه ربه -سبحانه وتعالى- بقوله: (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 88] , وقوله سبحانه: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131]. ولذلك جاءت آيات التخيير فوقف زوجاته صلى الله عليه وسلم من قضية التخيير موقفا حاسمًا لا تردد فيه، فإنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فقد كن يطلبن منه صلى الله عليه وسلم التوسعة في النفقة, وكن يدافعن عن ذلك ما استطعن، فلما وصل الأمر إلى وضعهن أمام خيارين: الحياة الدنيا وزينتها، أو الله ورسوله والدار الآخرة, لم يترددن لحظة واحدة في سلوك الخيار الثاني، بل قلن جميعهن بصوت واحد: نريد الله ورسوله والدار الآخرة (2). فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: «إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك» , قالت: وقد علم أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: «إن الله -جل ثناؤه- قال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً - وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا)» [الأحزاب: 28 - 29] , قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت (3). وهكذا تتجلى في موقفهن -رضي الله عنهن- صورة ناصعة لقوة الإيمان، واختبار حقيقي للإخلاص والصدق مع الله تعالى، فإن الله تعالى في الآية الأولى من آيتي التخيير يقول: {إِن كُنتُنَّ   (1) البخاري في الرقائق رقم 6459. (2) انظر: قضايا نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنات في سورة الأحزاب، ص77. (3) البخاري، كتاب التفسير رقم 4786. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 858 تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ) كالوعد بحصولهن على مبتغاهن في الحياة الدنيا وزينتها إن اخترن ذلك, ولكنهن رفضن هذا، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة, وفي قوله تعالى في الآية الثانية: (وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) إشارة إلى أن ما ينلنه من الأجر سببه كونهن محسنات، ومن ذلك اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة، إذ لا يكفي لحصولهن على هذا الأجر كونهن زوجات للرسول صلى الله عليه وسلم (1). وتنكير الأجر, ثم وصفه بأنه عظيم، فيه ترغيب لهن بالكف عن التطلع إلى الحياة الدنيا وزينتها, فهذا الأجر لا يقدر قدره إلا الله، وهو شامل لخيري الدنيا والآخرة (2). ولقد اعتبر الخلفاء الراشدون قصة التخيير تلك معلمًا من معالم الإسلام, ومنهجًا نبويًا كريمًا ينبغي أن يسلكه بيت القيادة في الأمة، وإن النظرة الفاحصة في التاريخ لتبين أن هذا الجانب يعد معيارًا دقيقا به يعرف القرب من الاستقامة أو البعد عنها, وقد فهم قادة الأمة المؤمنون حينما وجدوا على امتداد تاريخ الإسلام، أهمية هذا الجانب فرعوه حق رعايته، وإن الأمثلة العملية من تاريخ الخلافة الراشدة هي من الوفرة والكثرة بمكان بحيث لا تتعب الباحث في التفتيش عنها (3). إن قيادة الأمة تكليف ومغرم وليس مغنمًا, ولا بد للذين يتولونها أن يحسبوا أهمية التعالي على حطام الدنيا، والشوق إلى الله والدار الآخرة (4). رابعًا: حج أبي بكر - رضي الله عنه - بالناس: كانت تربية المجتمع وبناء الدولة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مستمرة على كل الأصعدة والمجالات العقائدية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والتعبدية, وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية، فحجة عام 8هـ بعد الفتح كُلِّف بها عتَّاب بن أسيد، ولم تكن قد تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين (5) , فلما حل موسم الحج أراد صلى الله عليه وسلم الحج, ولكنه قال: «إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فأرسل صلى الله عليه وسلم الصدِّيق أميرًا على الحج سنة تسع، فخرج أبو بكر ومعه عدد كبير من الصحابة (6) , وساقوا معهم الهدي (7) فلما خرج الصديق بركب الحجيج نزلت سورة براءة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا - رضي الله عنه - وأمره أن يلحق بأبي بكر الصديق، فخرج على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء, حتى أدرك   (1) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات في سورة الأحزاب، ص79. (2) انظر: تفسير السعدي (4/ 148). (3) انظر: البداية والنهاية (7/ 136). (4) انظر: معين السيرة، ص475. (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 536)، دراسات في عهد النبوة، ص222. (6) انظر: نضرة النعيم (1/ 398)، الطبقات الكبرى (2/ 168). (7) انظر: فتح الباري (8/ 82). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 859 الصديق أبا بكر بذي الحليفة، فلما رآه الصديق قال له: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم سارا، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة لا في شهر ذي القعدة كما قيل، وقد خطب الصديق قبل التروية ويوم عرفة ويوم النحر، ويوم النفر الأول, فكان يعرف الناس مناسكهم في وقوفهم وإفاضتهم ونحرهم، ونفرهم، ورميهم للجمرات ... إلخ، وعلي يخلفه في كل موقف من هذه المواقف، فيقرأ على الناس صدر سورة براءة ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك (1). وقد أمر الصديق أبا هريرة في رهط آخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب في إنجاز مهمته (2). إن نزول صدر سورة براءة يمثل مفاصلة نهائية مع الوثنية وأتباعها, حيث منعت حجهم وأعلنت الحرب عليهم (3). قال تعالى: (بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ - وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة: 1 - 3]. وقد أُمهل المعاهدون لأجل معلوم منهم إلى انتهاء مدتهم, فقال تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 4]. كما أمهل من لا عهد له من المشركين إلى انسلاخ الأشهر الحرم، حيث يصبحون بعدها في حالة حرب مع المسلمين, قال تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 5]. وقد كلف النبي صلى الله عليه وسلم عليًا بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج, مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم في عقد العهود ونقضها, ألا يتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه، وهذا العرف ليس فيه منافاة للإسلام؛ فلذلك تدارك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص625. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 537). (3) انظر: نضرة النعيم (1/ 399). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 860 وأرسل عليًا بذلك, فهذا هو السبب في تكليف علي بتبليغ صدر صورة براءة, لا ما زعمته الرافضة من أن ذلك للإشارة إلى أن عليًا أحق بالخلافة من أبي بكر, وقد علق على ذلك الدكتور محمد أبو شهبة فقال: ولا أدري كيف غفلوا عن قول الصديق له: أمير أم مأمور؟ (1) وكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير؟! (2). وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة الوداع (3). لقد أعلن في حجة أبي بكر أن عهد الأصنام قد انقضى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وما على الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، أيقنت تلك القبائل أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلا, فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها في التوحيد (4). خامسًا: عام الوفود (9 هـ): لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك, وأسلمت ثقيف وبايعت, وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمد أربعة أشهر لقبائل العرب المشركين لكي يقرروا مصيرهم بأنفسهم قبل أن تتخذ الدولة الإسلامية منهم موقفا معينا، ضربت إليه وفود العرب آباط الإبل من كل وجه معلنة إيمانها وولاءها (5) , وقد اختلف العلماء في تاريخ مقدم الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عددها, حيث أشارت المصادر الحديثة والتاريخية إلى قدوم بعض الوفود إلى المدينة في تاريخ مبكر عن السنة التاسعة؛ ولعل مما أدى إلى الاختلاف في تحديد عدد الوفود بين ما يزيد على ستين وفدا عند البعض، وليرتفع فيبلغ أكثر من مائة وفد عند آخرين، ولعل البعض قد اقتصر على ذكر المشهور منهم (6) فقد أورد محمد بن إسحاق أنه: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت, ضربت إليه وفود العرب من كل وجه (7). وقد استقصى ابن سعد في جمع المعلومات عن الوفود، كما فصل كثيرًا وقدم ترجمات وافية عن رجال الوفود، ومن كانت له صحبة منهم، وما ورد عن طريقهم من آثار, ولا تخلو أسانيد ابن سعد -أحيانا- من المطاعن، كما أن فيها أسانيد من الثقات أيضا (8) ولا شك في أن الأخبار التي أوردها المؤرخون ليست ثابتة بالنقل الصحيح المعتمد وفق أساليب المحدثين, رغم أن عددا كبيرا من المرويات عن تلك الوفود ثابتة وصحيحة (9) فقد أورد البخاري معلومات عن وفد قبيلة تميم وقدومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ووفود أخرى مثل: عبد القيس, وبني حنيفة، ووفد نجران،   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص624. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، (2/ 540). (3) المصدر نفسه (2/ 540). (4) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية, ص283 (5) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، ص284. (6) انظر: نضرة النعيم (1/ 396). (7) انظر: البداية والنهاية (5/ 46، 47). (8) انظر: نضرة النعيم (1/ 397). (9) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 542). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 861 ووفد الأشعريين، وأهل اليمن، ووفد دوس (1) وتعززت أخبار هذه الوفود بمعلومات إضافية وردت في مصادر تاريخية إلى جانب ما ورد عنها في كتب السير والمغازي (2) وقد أورد مسلم أخبارا عن أغلب الوفود المذكورة آنفا (3) كما أوردت بقية الكتب الستة معلومات أوسع شملت عددًا كبيرًا من الوفود (4). إن قصص الوفود وأخبارها وكيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم معها من الأهمية بالمكان الكبير (5) وتبقى مسألة الحاجة الماسة إلى نقد تاريخي لمتون الأخبار المفصلة التي وصلتنا عن الوفود (6). لقد تركت لنا تلك الأخبار والقصص منهجًا نبويًا كريمًا في تعامله صلى الله عليه وسلم مع الوفود يمكننا الاستفادة من هديه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع النفسية البشرية وتربيته ودقته وتنظيمه, ففيها ثروة هائلة من الفقه الذي يدخل في دوائر التعليم والتربية والتثقيف وبعد النظر وجمع القلوب على الغاية, وربط أفراد بأعينهم بالمركز بحيث تبقى في كل الظروف والأحوال مرتكزات قوية إلى الإسلام, إلى غير ذلك من مظاهر العظمة للعاملين في كل الحقول نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وإداريًا وسياسيًا وعسكريًا تعطي لكل عامل في جانب من هذه الجوانب دروسا تكفيه وتغنيه (7) هذا وقد تميز العام التاسع بتوافد العرب إلى المدينة, وقد استعدت الدولة الإسلامية لاستقبالهم وتهيئة المناخ التربوي لهم، وقد تمثل هذا الاستقبال، بتهيئة مكان إقامة لهم وكانت هناك دار للضيافة (8) ينزل فيها الوافدون، وهناك مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان ساحة للاستقبال، ثم كان هناك تطوع أو تكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة باستضافة بعض القادمين (9) واهتم صلى الله عليه وسلم بتلك الوفود وحرص على تعليمها وتربيتها، وقد كانت تلك الوفود حريصة على فهم الإسلام وتعلم شرائعه وأحكامه، وآدابه، ونظمه في الحياة، وتطبيق ما علموه تطبيقا عمليا، جعلهم نماذج حياة لفضائله، وقد كان لكثير منهم تساؤلات عن أشياء كانت شائعة بينهم ابتغاء معرفة حلالها وحرامها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على تفقيههم في الدين، وبيان ما سألوه عنه, وكان صلى الله عليه وسلم يدني منهم من يعلم منه زيادة حرص على القرآن العظيم وحفظ آياته تفقهًا فيه ويقول لأصحابه: فقهوا إخوانكم (10) وكان صلى الله عليه وسلم يسأل عمن يعرف من شرفائهم، فإذا رغبوا في   (1) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4365، 4368، 4372، 4392. (2) انظر: البداية والنهاية (5/ 40 - 98) مثلا. (3) انظر: نضرة النعيم (1/ 398). (4) المصدر نفسه (1/ 398). (5) انظر: السيرة النبوية الأساس في السنة (2/ 1014). (6) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 544). (7) انظر: الأساس في السنة (2/ 1014). (8) انظر: المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي، محمد شراب (2/ 400). (9) انظر: دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص221 .. (10) انظر: محمد رسول الله, صادق عرجون, (4/ 520). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 862 الرحيل إلى بلادهم أوصاهم بلزوم الحق، وحثهم على الاعتصام بالصبر، ثم يجزيهم بالجوائز الحسان، ويسوي بينهم, فإذا رجعوا إلى أقوامهم رجعوا هداة دعاة مشرقة قلوبهم بنور الإيمان، يعلمونهم مما علموا، ويحدثونهم بما سمعوا، ويذكرون لهم مكارم النبي وبره وبشره واستنارة وجهه سرورا بمقدمهم عليه، ويذكرون لهم ما شاهدوه من حال أصحابه في تآخيهم وتحاببهم, ومواساة بعضهم بعضًا ليثيروا في أنفسهم الشوق إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقاء أصحابه, ويحببوا إليهم التأسي بهم في سلوكهم ومكارم أخلاقهم (1) واختارت بعض الوفود البقاء على نصرانيتها كوفود نصارى نجران ووافقت على دفع الجزية، ونحاول أن نتحدث عن بعض الوفود لما في ذلك من الفقه والدروس والعبر, كوفد عبد القيس، وبني سعد بن بكر ووفد نصارى نجران: أ- وفد عبد القيس: وقد تحدث ابن عباس رضي الله عنهما عن قدومهم فقال: إن وفد عبد القيس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من الوفد؟» أو «من القوم؟» قالوا: ربيعة قال: «مرحبا بالقوم (2) -أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى» (3). قال: فقالوا: يا رسول الله, إنا نأتيك من شقة بعيدة (4) وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل (5) نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة، قال: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: «هل تدرون ما الإيمان بالله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خُمسا من المغنم» ونهاهم عن الدباء (6) والحنتم (7) والمزفت (8) وربما قال النقير (9) أو المقير، وقال: «احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم» (10) وفي رواية: أن الأشج بن عبد القيس تخلف في الركاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها،   (1) انظر: محمد رسول الله, صادق عرجون, (4/ 521). (2) مرحبا بالقوم: صادفت رحبا وسعة. . (3) غير خزايا ولا ندامى: معناه لم يكن منكم تأخر عن الإسلام ولا عناد. (4) شقة بعيدة: السفر البعيد، وقيل المسافة البعيدة. (5) الأمر الفصل: البين الواضح الذي ينفصل به المراد. (6) الدباء: القرع اليابس, أي الوعاء فيه. (7) الحنتم: أصح الأقوال فيها: الجرار الخضر وهي جرار كان يحمل فيها الخمر. (8) المزفت: الأوعية التي فيها الزفت. (9) النقير: جذع ينقر وسطه ثم ينبذ فيها الرطب والبسر. (10) البخاري، كتاب الإيمان رقم 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 863 فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله» فقال: جبل جبلت عليه أم تخلقا مني؟ قال: «بل جبل» قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله (1). وقد انشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهم وأخر صلاة السنة البعدية بعد الظهر وصلاها بعد العصر (2). ب- وفد ضمامة بن ثعلبة عن قومه بني سعد بن بكر: قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد, ثم علقه, ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك. فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسألك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد (3) عليَّ في نفسك, فقال: «سل عما بدا لك» فقال: أسألك بربك وربِّ من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: «اللهم نعم». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: «اللهم نعم». قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: «اللهم نعم» قال: أنشدك بالله, آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها في فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم». فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي, وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر (4). وفي رواية ابن عباس ... حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص. قال: ثم انصرف راجعا إلى بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولَّى: «إن يصدق ذو العقيصتين (5) يدخل الجنة» قال: فأتى إلى بعيره، فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه, فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، قالوا: صه يا ضمام اتق   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية, ص 631. (2) المصدر نفسه، ص 635. (3) تجد: تحقد وتحمل البغضاء (4) البخاري، كتاب العلم, رقم 63. (5) لأنه فرق شعره فرقتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 864 البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم! إنهما -والله- لا يضران ولا ينفعان، إن الله عز وجل قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا, قال: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة (1). وتدل قصة إسلامه على مدى انتشار تعاليم الإسلام في وسط القبائل العربية، حتى جاء ضمام لا ليسأل عنها، ولكن جاء ليستوثق منها، معددا لها الواحدة تلو الأخرى، مما يدل على استيعابه لها قبل مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (2). ج- وفد نصارى نجران: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران (3) كتابا قال فيه: أما بعد, فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد, فإن أبيتم فالجزية, فإن أبيتم آذنتكم بحرب، والسلام (4). فلما أتى الأسقف الكتاب، جمع الناس وقرأه عليهم، وسألهم عن الرأي فيه, فقرروا أن يرسلوا إليه وفدًا يتكون من أربعة عشر من أشرافهم، وقيل ستين راكبًا، منهم ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذي يصدرون عن رأيه، والسيد وهو صاحب رحلتهم، وأبو الحارث أسقفهم وحبرهم وصاحب مدارسهم. فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، وفي أيديهم خواتيم الذهب، فقاموا يصلون في المسجد نحو المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوهم». ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنهم، ولم يكلمهم، فقال لهم عثمان: من أجل زيكم هذا، فانصرفوا يومهم هذا، ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلموا عليه، فرد عليهم ودعاهم إلى الإسلام، فأبوا وقالوا: كنا مسلمين قبلكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولدًا» (5) وكثر الجدال والحجاج بينه وبينهم، والنبي يتلو عليهم القرآن ويقرع باطلهم بالحجة, وكان مما قالوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك تشتم صاحبنا وتقول إنه عبد الله، فقال: «أجل إنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول»، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص630، مسند أحمد (1/ 264). (2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص650 (3) نجران بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن. . (4) انظر: البداية والنهاية (5/ 48). (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 547). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 865 كنت صادقا فأرنا مثله؟ فأنزل الله في الرد عليهم قوله سبحانه: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ) [آل عمران: 59 - 60]. فكانت حجة دامغة شبه فيها الغريب بما هو أغرب منه (1) , فلما لم تُجْدِ معهم المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة دعاهم إلى المباهلة (2) امتثالا لقوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران: 61]. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه علي، والحسن والحسين، وفاطمة وقال: «وإذا أنا دعوت فأمنوا» (3) فائتمروا فيما بينهم فخافوا الهلاك لعلمهم أنه نبي حقًّا، وأنه ما باهل قوم نبيًا إلا هلكوا، فأبوا أن يلاعنوه وقالوا: احكم علينا بما أحببت، فصالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر (4) ولما عزموا على الرجوع إلى بلادهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعث معنا رجلاً أمينًا ليقبض منهم مال الصلح, فقال لهم: «لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين» فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح»، فلما قام قال: «هذا أمين هذه الأمة» (5). سادسًا: بعوث رسول الله لتعليم مبادئ الإسلام وترتيب أمور الإدارة والمال: كانت الوفود تسعى إلى المدينة لتعلن إسلامها وتنضوي تحت سيادة الدولة الإسلامية ويتعلموا ما شاء الله أن يتعلموه في المدينة قبل رجوعهم إلى موطنهم، وكان صلى الله عليه وسلم يرسل معهم من يعلمهم دينهم، وشرع صلى الله عليه وسلم يبعث دعاته في شتى الجهات, واهتم بجنوب الجزيرة حيث قبائل اليمن لتعليمهم مبادئ الإسلام وأحكامه, فقد انتشر أمر الإسلام في الجزيرة ومختلف أطرافها، وأصبحت الحاجة داعية إلى معلمين ودعاة ومرشدين يشرحون للناس حقائق الإسلام (6) لكي تتطهر قلوبهم وتشفى صدورهم من أمراض الجاهلية وأدرانها الخبيثة، وامتنعت قبيلة بني الحارث بن كعب عن الدخول في الإسلام، فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدًا في سرية دعوية جهادية. أ- بعث خالد إلى بني الحارث بن كعب (10 هـ): كان بنو الحارث بن كعب يسكنون بنجران, ولم يقبل منهم أحد الإسلام، فبعث   (1) انظر: زاد المعاد (3/ 633)، السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 547). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 547). (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 547). (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 547). (5) البخاري, كتاب فضائل الصحابة, رقم 3745. (6) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 866 رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى سنة عشر، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا قبل منهم، وإن لم يفعلوا قاتلهم، فخرج خالد حتى قدم عليهم, فبعث الركبان في كل وجه يدعون إلى الإسلام، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم كتب خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه بإسلامهم وأنه مقيم فيهم حتى يكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بأن يقبل إلى المدينة ومعه وفد منهم ففعل، فلما قدموا أمَّر عليهم قيس بن الحصين، وبعث إليهم بعد ذلك عمرو بن حزام ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة، ومعالم الإسلام (1) وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم أرسل عليًا بدلاً من خالد, وعندما وصل إلى قبائل همدان قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعًا, فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم, فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خرَّ ساجدًا، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان, السلام على همدان. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على الجبهة الجنوبية للدولة وأن تدخل قبائل اليمن في الإسلام, وظهر هذا الاهتمام في النتائج الباهرة التي حققتها الدعوة في كثرة عدد الوفود التي كانت تنساب من كل أطراف اليمن متجهة إلى المدينة؛ مما يدل على أن نشاط المبعوثين إلى اليمن كان متصلا وبعيد المدى، وكانت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تساند هذا النشاط الدعوي السلمي حيث بعث خالد بن الوليد ثم علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- في هذا السياق (2). إن الوثائق التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع قبائل اليمن وحضرموت قد بلغت عددا كبيرا ضمنها محمد حميد الله -رحمه الله- في كتابه (مجموعة الوثائق السياسية) (3). إن التركيز على مفاصل القوى، ومراكز التأثير في المجتمعات وبناء الدول، منهج نبوي كريم حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ممارسته في حياته. ب- بعث معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- إلى اليمن: 1 - بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل الأنصاري أعلم الصحابة في علم الحلال والحرام إلى اليمن قاضيا ومفقها، وأميرًا، ومصدقًا (4)، وجعله على أحد مخلافيها (5) وهو الأعلى, ولما خرج معاذ قاصدا اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعه ويوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته، فأوصاه بوصايا كثيرة ورسم له منهجا دعويًا عظيمًا   (1) انظر: السيرة لابن هشام (4/ 250). (2) انظر: الفقه السياسي للوثائق النبوية، ص231. (3) انظر: الوثائق السياسية، حميد الله، (111 ص 230). (4) المصدق: آخذ الزكاة. (5) المخلاف: الإقليم والكورة والرستاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 867 حيث قال له: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم طاعوا بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم, فإن هم طاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (1). وفي هذا الحديث إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم للدعاة إلى الله بالتدرج والبدء بالأهم فالمهم، فالدعوة تكون بترسيخ الإيمان بالله تعالى ورسوله إيمانا يثبت في القلوب ويهيمن على الأفكار والسلوك، ثم تكون الدعوة بعد ذلك إلى تطبيق أركان الإسلام العملية التي ترسخ هذا الإيمان وتنميه، ثم يأتي بعد ذلك الأمر بالواجبات والنهي عن المحرمات، فيتقبل الناس تكاليف الإسلام التي قد تكون مخالفة لهوى النفس؛ لأن قلوبهم قد عمرت بالإيمان واليقين قبل ذلك (2). وهذا منهج نبوي كريم رسمه صلى الله عليه وسلم لمعاذ ولمن يريد أن يسير على هدى الصحابة الكرام, وما أحوج الذين نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله إلى الوقوف أمام هذا الهدي النبوي يترسمون خطاه، ويستوعبونه فهمًا ووعيًا، وتطبيقًا، وحينئذ تكون خطاهم في الطريق الصحيح (3). ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصاياه لمعاذ قال له: «يا معاذ، إنك عسى لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري» (4)، فبكى معاذ خشعًا لفراق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك وقع الأمر كما أشار الرسول، فقد أقام معاذ باليمن ولم يقدم إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (5). 2 - وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وبعث كل واحد منهما على مخلاف، قال: "واليمن مخلافان"، ثم قال: قاضيًا ومفقهًا وأميرًا ومصدقًا، وأوصاه ومعاذ فقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا» (6). وهذا منهج نبوي كريم أرشد إليه رسول الله معاذا وأبا موسى بأن يأخذا بالتيسير على الناس ونهاهما عن التعسير عليهم، وأمرهما بالتبشير ونهاهما عن التنفير (7). ج- ترتيب أمور الإدارة والمال: إن النظام جزء من هذا الدين، وداخل في كل أموره، لأن النظام يجمع الأشتات، وتحقق به الأهداف والغايات، فالنظام سمة يتميز بها الإسلام منذ اللحظة الأولى, حيث يدخل في جميع جوانب الإسلام التصورية والشعائرية والتعبدية وفي الشرائع الحياتية كلها، فكان صلى الله عليه وسلم يضع من   (1) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4347. (2) انظر: التاريخ الإسلامي (8/ 187). (3) انظر: معين السيرة، ص486. (4) انظر: صحيح السيرة، ص654. (5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 559). (6) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4342. (7) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (8/ 186). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 868 يدير المدينة في حالة غيبته عنها، وكلما فتح منطقة وضع عليها أميرا، وكانت الوفود تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعين عليها أميرًا من قبله، ثم يترك لهم من يعلمهم دينهم, ويرسل إليهم من يجمع صدقاتهم (1) , وكان يختار عماله من الصالحين وأولي العلم والدين، ومن المنظور إليهم من العرب وذوي الشخصيات المؤثرة في قبائلهم، فقد كان عامله على مكة عتاب بن أسيد, وعلى الطائف عثمان بن العاص، وبعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن, وأقر الرسول في بعض الحالات أمراء وملوك القبائل التي أسلمت أو قبلت الجزية, ومنهم باذان ابن سامان ولد بهرام الذي أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على اليمن بعد إسلامه, ولما بلغه موته قسم عمله على جماعة من الصحابة، فولى على صنعاء شمر بن باذان, وعلى مأرب أبا موسى الأشعري، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى همذان عامر ابن شمر الهمذاني، وعلى ما بين نجران وزمع وزبيد خالد بن سعيد بن العاص، وعلى نجران عمرو بن حزام، وعلى بلاد حضرموت زياد بن لبيد البياضي, وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور (2). وكان صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال؛ يحاسبهم على المستخرج والمصروف، وحدد صلى الله عليه وسلم لبعض عماله رواتب، منهم عتاب بن أسيد والي مكة درهمًا كل يوم (3) , ولما استعمل -عليه الصلاة والسلام- قيس بن مالك على قومه همذان خصص له قطعة من الأرض يأخذ خراجها، وكانت رواتب عماله تتغير بتغير أحوال المعيشة فهي ليست ثابتة (4). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي لنا ولاية ولم يكن له بيت فليتخذ بيتا، أو لم تكن له زوجة فليتخذ زوجة، أو لم تكن له دابة فليتخذ دابة» (5) , وهذه هي الحاجات الرئيسية لولي الأمر في ذلك الوقت منعا لأخذ الرشوة، وهذه قاعدة قانونية جاء بها الإسلام قبل أن تثبتها القوانين الوضعية الحديثة في بنودها, وهي أن الهدية للحاكم رشوة صريحة (6). * * * المبحث السابع حجة الوداع (10 هـ) الحج أحد الأركان الخمسة، وقد فرض في العام العاشر, وهذا ما ذهب إليه ابن القيم (7) واستدل بأدلة قوية وهو اللائق بهديه صلى الله عليه وسلم في عدم تأخير ما هو فرض؛ لأن الله تعالى يقول: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران: 97] وقد نزلت عام الوفود   (1) انظر: دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص221. (2) ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر (2/ 59). (3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 153). (4) انظر: الدولة العربية الإسلامية، منصور الحرابي، ص44. (5) انظر: الدولة العربية الإسلامية، ص44، التراتيب الإدارية للكتاني (1/ 227). (6) انظر: الدولة العربية الإسلامية, ص 44. (7) انظر: زاد المعاد (3/ 595). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 869 أواخر سنة تسع (1). لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة غير حجته التي كانت في العام العاشر, وعرفت هذه الحجة بحجة البلاغ، وحجة الإسلام، وحجة الوداع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها ولم يحج بعدها, وحجة البلاغ لأنه صلى الله عليه وسلم بلغ الناس شرع الله في الحج قولا وعملا، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بينه, فلما بين لهم شريعة الحج ووضحه وشرحه أنزل الله عليه بعرفة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3] ولما نزلت هذه الآية بكى بعض الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكأنهم فهموا منها الإشارة إلى قرب أجل الرسول صلى الله عليه وسلم, ولما قيل لسيدنا عمر: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان (2) , وكان عدد الذين مع رسول الله أكثر من مائة ألف (3). أولاً: كيف حج النبي صلى الله عليه وسلم؟: عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج وأعلم الناس أنه حاج، فتجهزوا -وذلك في شهر ذي القعدة سنة عشر- للخروج معه، وسمع بذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع الرسول, صلى الله عليه وسلم ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، فكانوا من بين يديه, ومن خلفه, وعن يمينه، وعن شماله، مد البصر، وخرج من المدينة نهارًا بعد الظهر لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت، بعد أن صلى الظهر بها أربعًا (4). وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه, ثم سار وهو يلبي ويقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك» (5). والناس معه يزيدون وينقصون، وهو يقرهم، ولا ينكر عليهم، ولزم تلبيته ثم مضى حتى نزل بـ (العرج) ثم سار حتى أتى (الأبواء) فوادي (عسفان) في (سرف) ثم نهض إلى أن نزل بـ (ذي طوى) فبات بها ليلة الأحد، لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل من يومه، ونهض إلى مكة فدخلها نهارا من أعلاها، ثم سار، حتى دخل المسجد، وذلك ضحى (6)، فاستلم الركن (7) فرمل ثلاثا (8) ومشى أربعًا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم (9) عليه السلام.   (1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص680، زاد المعاد (3/ 595). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 575). (3) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص386. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية, 664, السيرة النبوية للندوي, 386. (5) البخاري، كتاب الحج، باب التلبية رقم 1549. (6) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص387. (7) مسلم، كتاب الحج, باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 1227. (8) الرمل: إسراع المشي مع تقارب الخطا. (9) نفذ إلى مقام إبراهيم: أي بلغه ماضيا في زحام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 870 فقرأ (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان يقرأ في الركعتين: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 158] وبدأ بما بدأ الله به؛ فبدأ بالصفا، فرقى عليه، حتى إذا رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا بين ذلك قال مثل هذه ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت (1) قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا (2) مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة» (3). فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله, ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا, بل لأبد أبد» (4) وأقام بمكة أربعة أيام: يوم الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فلما كان يوم الخميس ضُحى توجه بمن معه من المسلمين إلى منى ونزل بها وصلى بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء والفجر، ومكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة (5) فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام (6) كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي (8) فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني   (1) انصبت قدماه: انحدرت. (2) صعدتا: ارتفعت قدماه عن بطن الوادي. (3) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي رقم 1218. (4) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي، رقم 1218، صحيح السيرة النبوية، ص659. (5) نمرة: موضع بجنب عرفات وليست من عرفات. (6) المشعر الحرام: جبل بمزدلفة كانت قريش تقف عليه، ولا تقف مع العرب في عرفات ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في عرفات. (7) فأجاز: جاوز المزدلفة ولم يقف بها، وإنما توجه إلى عرفات. (8) بطن الوادي: وادي عرنة، وليست عرنة من أرض عرفات عند العلماء إلا مالكًا قال هي من عرفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 871 سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه (1) فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح (2)، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكثها (3) إلى الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات (4) ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات (5) وجعل جبل المشاة بين يديه (6) واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص (7)، وذكر أبو الحسن الندوي: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته والتضرع والابتهال إلى غروب الشمس، وكان في دعائه رافعا يديه إلى صدره، كاستطعام المسكين، يقول فيه: «اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق المقر المعترف بذنوبي, أسألك مسألة المسكين, وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته, وفاضت لك عيناه، وذل جسده، ورغم أنفه لك، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رءوفا رحيما، يا خير المسئولين ويا خير المعطين» (8). وهنالك أنزلت عليه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3] فلما غربت الشمس أفاض من عرفة، وأردف أسامة بن زيد خلفه، وأفاض بالسكينة, ثم ضم إليه زمام ناقته، حتى إن رأسها ليصيب طرف رحله، وهو يقول: «أيها الناس عليكم السكينة» (9) وكان يلبي في مسيره ذلك، لا يقطع التلبية حتى أتى المزدلفة وأمر المؤذن بالأذان فأذن, ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال، فلما حطوا رحالهم، أمر فأقيمت   (1) أي لا يجوز للمرأة أن تدخل أحدا إلى بيت زوجها من قريب أو بعيد أو امرأة إلا من يرضى عنه زوجها. (2) الضرب المبرح: الشديد الشاق. (3) ينكثها: يقابلها ويرددها إلى الناس مشيرا إليهم. (4) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص661، مسلم كتاب الحج، رقم 1218. (5) الصخرات: صخرات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات. (6) جبل المشاة: مجتمعهم، وقيل جبل المشاة: معناه طريقهم حيث تسلك الرجالة. (7) حتى غاب قرص الشمس، حتى غابت الشمس وذهبت الصفرة .. (8) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص389. (9) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص662. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 872 الصلاة ثم صلى العشاء، ثم نام، حتى أصبح، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع، والتكبير والتهليل والذكر، حتى أسفر جدا، وذلك قبل طلوع الشمس, ثم سار من مزدلفة، مردفًا للفضل بن عباس، وهو يلبي في مسيره، وأمر ابن عباس أن يلتقط له حصى الجمار سبع حصيات, فلما أتى بطن محسر، حرك ناقته، وأسرع السير (1) فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل العذاب، حتى أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فرماها راكبا بعد طلوع الشمس، وقطع التلبية (2) ثم رجع إلى منى فخطب الناس خطبة بليغة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه، وفضله عند الله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمر بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه، وأمر الناس ألا يرجعوا بعده كفارا، يضرب بعضهم رقاب بعض, وأمر بالتبليغ عنه (3) وقد جاء في هذه الخطبة: «أتدرون أي يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: «أليس ذي الحجة؟» قلنا: بلى، قال: «أي بلد هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: «أليست بالبلدة الحرام؟» قلنا: بلى، قال: «فإن دماءكم وأموالكم -وفي رواية أعراضكم- عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم, قال: «اللهم اشهد, فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» (4). ثم انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سني عمره، ثم أمسك وأمر عليًّا أن ينحر ما بقي من المائة، فلما أكمل صلى الله عليه وسلم نحره استدعى الحلاق، فحلق رأسه، وقسم شعره بين من يليه، ثم أفاض إلى مكة راكبا، وطاف طواف الإفاضة (5) فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: «انزعوا بني عبد المطلب, فولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم»، فناولوه دلوًا فشرب منه (6) ثم رجع إلى منى من يومه ذلك فبات بها, فلما أصبح انتظر زوال الشمس، فلما زالت مشى من رحله إلى الجمار، فبدأ بالجمرة الأولى ثم الوسطى ثم الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة، وخطب الناس بمنى خطبتين: خطبة يوم النحر، وخطبة ثانية في ثاني يوم النحر (7) وهو يوم النفر الأول, وهي تأكيد لبعض ما جاء في خطبتي عرفة، ويوم النحر بمنى، والواقع أن تكرار   (1) انظر: صحيح السيرة، ص662، السيرة النبوية، للندوي ص389. (2) انظر: صحيح السيرة النبوية للندوي، ص389 (3) انظر: صحيح السيرة النبوية للندوي، ص389 (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 550)، السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 578). (5) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص390. (6) مسلم، كتاب الحج، رقم 1218، صحيح السيرة النبوية، ص663. (7) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 873 الخطب في حجة الوداع كان أمرا لا بد منه لحاجة المسلمين، فهي الحجة الوحيدة التي حجها الرسول صلى الله عليه وسلم وقد عز فيها الإسلام والمسلمون, وأصبحت كلمتهم هي النافذة في الجزيرة كلها، كما كانت الوداع الأخير، فما أشد حاجة المسلمين في هذا المشهد العظيم إلى التذكير والنصح والتوصية وإلى تكرار القول والتأكيد عليه حتى يعوه ويحفظوه ولا ينسوه، وإلى تقريرهم بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة (1). هذا, وقد تأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، ثم نهض إلى مكة فطاف للوداع ليلاً سحرًا، وأمر الناس بالرحيل وتوجه إلى المدينة (2) وفي طريق العودة من حجة الوداع خطب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في غدير خم قريبًا من الجحفة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وقد جاء في هذه الخطبة: «أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله؛ فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغَّب فيه, ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي» (3) وفي رواية ... أخذ بيد علي - رضي الله عنه - وقال: «من كنت وليه، فهذا وليه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه» (4) وفي رواية: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (5) وكان علي قد أقبل من اليمن وشهد حجة الوداع (6) وقد اشتكى بعض الجند عليًّا وأنه اشتد في معاملتهم، وكان قد استرجع منهم حللا وزعها عليهم نائبه، فأوضح لهم النبي صلى الله عليه وسلم في غدير خم مكانة علي, ونبه على فضله لينتهوا عن الشكوى, (7) فقد كان الحق مع علي في إرجاع ما أعطاهم نائبه في غيبته لأنها أموال صدقات وخمس (8). ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الحليفة بات بها، فلما رأى المدينة كبَّر ثلاث مرات، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون, صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»، ثم دخلها نهارًا (9).   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 579) , المستفاد من قصص القرآن (2/ 515). (2) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص390. (3) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل علي بن أبي طالب، رقم 2048. (4) النسائي في خصائص علي، ص21، صحيح السيرة النبوية، ص688. (5) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 550). (6) انظر: البداية والنهاية (5/ 209). (7) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 551). (8) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 581). (9) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص391، نقلا عن زاد المعاد (1/ 249). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 874 ثانيًا: الدروس والعبر والفوائد: 1 - مرحلة النضج التي وصلت إليها الأمة: وصلت الأمة الإسلامية في السنة العاشرة مرحلة من النضج متقدمة, وكان ذلك يقتضي لمسات أخيرة, فوسع صلى الله عليه وسلم في العامين التاسع والعاشر من الهجرة دائرة التلقي المباشر من خلال استقباله الوفود, ومن خلال رحلة الحج، فأوجد قاعدة عريضة تحمل دعوته وقد تلقت عنه مباشرة, وكان لذلك أكبر الأثر في أن تبقى رحى الإسلام دائرة وإلى الأبد (1) ففي حجة الوداع كانت اللمسات الأخيرة في تربية الأفراد والمجتمع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 2 - تربية الأفراد على قطع الصلة بالجاهلية والابتعاد عن الذنوب: أ- فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أهمية قطع المسلم علاقته بالجاهلية، أوثانها، وثاراتها، ورباها، وغير ذلك, ولم يكن حديثه صلى الله عليه وسلم مجرد توصية بل كان قرارًا أعلن عنه للملأ كله لأولئك الذين كانوا من حوله والأمم التي ستأتي من بعده, وهذه هي صيغة القرار: «ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية، تحت قدمي موضوع، دماء الجاهلية موضوعة ... وربا الجاهلية موضوع» (2) لأن الحياة الجديدة التي يحياها المسلم بعد إسلامه حياة لا صلة لها برجس الماضي وأدرانه (3). ب- وقد حذر صلى الله عليه وسلم من الذنوب والخطايا والآثام، ما ظهر منها وما بطن؛ لأن الذنوب والخطايا تفعل بالفرد ما لا يفعله العدو بعدوه, فهي سبب مصائبه في الدنيا (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30] فترديه في نار جنهم في الآخرة، وتفعل في المجتمعات ما لا يفعله السيف، وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يقصد بالخطايا العودة إلى عبادة الأصنام؛ لأن العقول التي تفتحت على التوحيد، ترفض أن تعود إلى الشرك الظاهر، ولكن الشيطان لا ييأس من أن يجد طريقه إليها من ثغرات الخطايا والذنوب، حتى تردي صاحبها في المهاوي (4). 3 - تربية المجتمع على مبادئ أساسية: أ- الأخوة في الله هي العروة الوثقى التي تربط بين جميع المسلمين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10] فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس, اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة, فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم» وقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة   (1) انظر: الأساس في السنة (2/ 1054). (2) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص331. (3) قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص303. (4) المصدر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 875 يومكم هذا في بلدكم هذا حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض». ب- الوقوف بجانب الضعيف حتى لا يكون هذا الضعف ثغرة في البناء الاجتماعي، فأوصى صلى الله عليه وسلم في خطبته بالمرأة والرقيق على أنهما نموذجان عن الضعفاء (1) , فقد شدد صلى الله عليه وسلم في وصيته على الإحسان إلى الضعفاء (2) وأوصى خيرا بالنساء، وأكد في كلمة مختصرة جامعة القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية، وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية التي تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية (3). ج- التعاون مع الدولة الإسلامية على تطبيق أحكام الإسلام، والالتزام بشرع الله، ولو كان الحاكم عبدًا حبشيًّا، فإن في ذلك الصلاح والفلاح، والنجاة في الدنيا والآخرة (4) فقد بين صلى الله عليه وسلم العلاقة بين الحاكم والمحكوم بأنها تعتمد على السمع والطاعة ما دام الرئيس يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فإذا مال عنهما فلا سمع ولا طاعة، فالحاكم أمين من قبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى (5). د- المساواة بين البشر: فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي, ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض, إلا بالتقوى، الناس من آدم, وآدم من تراب» حيث حدد أن أساس التفاضل لا عبرة فيه لجنس، ولا لون، ولا وطن، ولا قومية، وإنما أساس التفاضل قيمة خلقية راقية ترفع مكانة الإنسان إلى مقامات رفيعة جدا (6). هـ- تحديد مصدر التلقي: وقد حدد صلى الله عليه وسلم مصدر التلقي والطريقة المثلى لحل مشاكل المسلمين التي قد تعترض طريقهم في الرجوع إلى مصدرين لا ثالث لهما، ضمن لهم بعد الاعتصام بهما الأمان من كل شقاء وضلال، وهما: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتجده يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده، ليبين للناس أن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليست وقفًا على عصر دون آخر، وأنه لا ينبغي أن يكون لأي تطور حضاري أو عرف زمني أي سلطان أو تغلب عليهما (7).   (1) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، ص304. (2) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص575. (3) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص332. (4) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، ص576. (5) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص333. (6) انظر: الموسوعة في سماحة الإسلام، عرجون (2/ 876). (7) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 876 لقد وصف صلى الله عليه وسلم الداء والدواء, ووضع العلاج لكل المشكلات بالالتزام التام بما جاء من أحكام من في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي» هذا هو العلاج الدائم, وقد كرر صلى الله عليه وسلم نداءه للبشرية عامة, عبر الأزمنة والأمكنة, بوجوب الاهتداء بالكتاب والسنة في حل جميع المشكلات التي تواجه البشرية، فإن الاعتصام بهما يجنب الناس الضلال ويهديهم إلى التي هي أقوم في الحاضر والمستقبل، لقد اجتازت تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه حدود الجزيرة، واخترقت حواجز الزمن، وأسوار القرون, وظل يتردد صداها حتى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلم يكن يخاطب سامعيه فيقول لهم: أيها المؤمنون, أو أيها المسلمون, أو أيها الحجاج .. بل كان يقول لهم: يا أيها الناس, وقد كرر نداءه إلى الناس كافة مرات متعددة دون أن يخصصه بجنس أو بزمان أو مكان أو لون، فقد بعثه الله للناس كافة وأرسله رحمة للعالمين (1). 4 - الأساليب التعليمية من خطب حجة الوداع: أ- التعليم بمباشرة ما يراد تعليمه: علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام مناسك الحج بصورة عملية، بأن قام بها وباشرها فعلا، ولم يكتف بأن يعلمها لهم قولاً، ولذلك قال لهم: «خذوا عني مناسككم» (2) وعلى هذا فيستحسن من الدعاة وهم يعلمون الناس معاني الإسلام, أن يعلموهم هذه المعاني، والمطلوبات الشرعية، أو بعضها -في الأقل- بصورة عملية, كالوضوء، والصلاة، وتعليم قراءة القرآن بصورة سليمة (3). ب- تكرار الخطب: لاحظنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر خطبه، فقد خطب في عرفة، وفي منى مرتين, كما كرر معاني بعض هذه الخطب، فعلى الدعاة أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكرروا خطبهم ويكرروا بعض معانيها التي يرون حاجة لتكرارها، حتى يستوعبها السامعون ويحفظوها؛ لأن القصد من خطب الخطيب إفادة السامعين بما يقول، فإذا كانت الفائدة لا تحصل -أو لا تتم- إلا بتكرار الخطب من حيث عددها، أو بتكرارها من حيث تكرار معانيها، فليكررها الداعية، ولا يكون حرصه على أن يأتي بجديد في خطبه ما دام يرى الحاجة في ترسيخ معان معينة في أذهان السامعين، إن الداعية همه أن يفيد السامعين, وليس همه أن يظهر براعته في الخطب، وفي تنوع معانيها, دون نظر ولا اعتبار إلى ما يحتاجه السامعون، ودون اعتبار لفهمهم هذه المعاني واستيعابهم لها (4).   (1) انظر: الجانب السياسي في حياة الرسول، ص131، أحمد محمد باشميل. (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 549) مسلم (2/ 942) رقم 1297. (3) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 518). (4) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/ 517، 518). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 877 ج- فليبلغ الشاهدُ الغائبَ: وفي هذا توجيه نبوي كريم لكي تعم الفائدة أكبر عدد ممكن من الناس؛ فهذا من باب التعاون على الخير، ولأن الغائب قد يكون أوعى للعلم وأكثر فهمًا له من الحاضر الذي سمع, وعلى الدعاة والعلماء عندما يلقون درسا أو محاضرة لإخوانهم أو لعامة الناس فمن المستحسن أن يقولوا للحاضرين: فليبلغ الحاضر منكم الغائب بما سمعه. د- جلب انتباه الحاضر لما يقوله الخطيب: ويستفاد من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين عن اسم اليوم الذي هم فيه، وكذا عن الشهر والبلد وهم يعرفونها؛ مما يجلب انتباههم إلى ما قد عسى أن يريده بطرح هذه الأسئلة فيصغون إليها إصغاء تامًّا، قال القرطبي: سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة -أي عن اليوم والشهر والبلد- وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه .. فعلى العلماء والدعاة أن يقدموا بين يدي ما يقولونه ما يدعو إلى جلب انتباه السامعين ويشدهم إلى كلامهم (1). 5 - بعض الأحكام الفقهية المستنبطة من حجة الوداع: جاءت حجة الوداع حافلة بالأحكام الشرعية خاصة ما يتعلق بالحج وبالوصايا والأحكام التي وردت في خطبة عرفات؛ لذلك اهتم العلماء بحجة الوداع اهتماما كبيرا واستنبطوا منها الكثير من أحكام المناسك وغيرها مما تحفل به كتب الفقه وكتب شروح الحديث, وخصص بعضهم مؤلفات مستقلة في حجة الوداع (2). ونشير إلى بعض هذه الأحكام باختصار شديد فمن هذه الأحكام: أ- إفطار الحاج يوم عرفة: قالت ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: إن الناس شكوا في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلت إليه ميمونة بحلاب (3) اللبن، وهو واقف في الموقف, فشرب منه، والناس ينظرون إليه (4). ب- كيف يفعل بمن توفي محرما؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته، فوقصته -أو قال فأوقصته- (5) فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اغسلوه بماء وسدر, وكفنوه في ثوبين،   (1) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/ 518). (2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 549) , ما ألفه الألباني «حجة النبي» وغيره. (3) الإناء الذي يحلب فيه. (4) البخاري، كتاب الصوم، باب صوم يوم عرفة، حديث رقم 1989. (5) فوقصته: قتلته في الحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 878 ولا تحنطوه (1) ولا تخمروا رأسه (2) فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيًا» (3). ج- هل يجوز الحج عن الغير؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم, فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نعم» وذلك في حجة الوداع (4). د- منهج التيسير: لا حرج, لا حرج: قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فطفق ناس يسألونه فيقول القائل: يا رسول الله، إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل الرمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فارم ولا حرج» قال: وطفق آخر يقول: إني لم أشعر أن النحر قبل الحلق، فحلقت قبل أن أنحر، فيقول: «انحر ولا حرج» , قال: فما سمعته يُسأل يومئذ عن أمر، مما ينسى المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها، إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افعل ولا حرج». هذه بعض الأحكام المختصرة, ومن أراد المزيد فليراجع ما كتبه الألباني عن حجة الوداع, فقد لخص الحجة في اثنتين وسبعين مسألة (5) , وكتاب (الوصية النبوية للأمة الإسلامية) للدكتور فاروق حمادة, فقد جمع من المصادر الأدبية والحديثية وكتب أهل السير ثمانية وثلاثين بندا, ثم قام بتحليلها وتخريجها وتوثيق نصوصها بميزان الجرح والتعديل الذي اعتمده أئمة المسلمين منذ الصدر الأول, لأن الأمر دين وشرع -كما قال- وقد أجاد وأفاد (6). 6 - فوائد في تسمية أيام الحج: كان يقال لليوم السابع من ذي الحجة يوم الزينة؛ لأنه يزين فيه البُدن التي تهدى بالجلال وغيرها، واليوم الثامن يقال له: يوم التروية؛ لأنهم كانوا يروون فيه إبلهم من الماء ويحملون منه ما يحتاجون إليه حال الوقوف وما بعده، لأن هذه الأماكن لم يكن فيها يومئذ آبار ولا عيون، أما الآن ففيها الماء الكثير والحمد لله، واليوم التاسع: يوم عرفة للوقوف فيه بها، واليوم العاشر: يوم النحر ويوم الأضحى ويوم الحج الأكبر، واليوم الحادي عشر: يوم القر لأنهم يقرون فيه، ويقال له: يوم الرءوس لأنهم يأكلون فيه رءوس الأضاحي، وهو أول أيام التشريق، وثاني أيام   (1) لا تحنطوه: لا تضعوا عليه من الطيب شيئا. (2) لا تخمروا رأسه: لا تغطوا رأسه. (3) البخاري، كتاب الجنائز, باب الكفن في ثوبين، رقم 1265، ملبيًا: يحشر يوم القيامة على الهيئة التي مات عليها. (4) البخاري في الحج، باب وجوب الحج وفضله، رقم 1513. (5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص683. (6) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص681. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 879 التشريق، يقال له: يوم النفر الأول لجواز الخروج فيه إلى مكة لمن يريد التعجيل، وثالث أيام التشريق يقال له يوم النفر الثاني (1) قال عز شأنه: [البقرة: 203]. * * * المبحث الثامن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته إن الأرواح الشفافة الصافية القوية لتدرك بعض ما يكون مخبوءا وراء حجب الغيب بقدرة الله تعالى، والقلوب الطاهرة المطمئنة لتحدث صاحبها بما عسى أن يحدث له فيما يستقبل من الزمان، والعقول الذكية المستنيرة بنور الإيمان لتدرك ما وراء الألفاظ والأحداث من إشارات وتلميحات, ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الصفات الحظ الأوفر، وهو منها بالمحل الأرفع الذي لا يسامى ولا يطاول (2). ولقد جاءت بعض الآيات القرآنية مؤكدة على حقيقة بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كغيره من البشر سوف يذوق الموت ويعاني سكراته كما ذاقه من قبل إخوانه من الأنبياء، ولقد فهم صلى الله عليه وسلم من بعض الآيات اقتراب أجله، وقد أشار صلى الله عليه وسلم في طائفة من الأحاديث الصحيحة إلى اقتراب وفاته، منها ما هو صريح الدلالة على الوفاة, ومنها ما ليس كذلك، حيث لم يشعر ذلك منها إلا الآحاد من كبار الصحابة الأجلاء كأبي بكر والعباس ومعاذ رضي الله عنهم (3). أولاً: الآيات والأحاديث التي أشارت إلى وفاته صلى الله عليه وسلم: 1 - الآيات: أ- قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]. قال القرطبي: فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل، وإن فقد الرسل بموت أو قتل (4). ب- قال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر: 30].   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، (2/ 579). (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، (2/ 587). (3) انظر: مرض النبي ووفاته، خالد أبو صالح، ص33. (4) انظر: تفسير القرطبي، (4/ 222). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 880 قال ابن كثير: هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق - رضي الله عنه - عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تحقق الناس موته (1). ج- قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الأنبياء: 34] ثم أعقب ذلك ببيان أن الموت حتم لازم وقدر سابق, فقال عز وجل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35] فهذه الآيات صريحة ونصت على وفاته صلى الله عليه وسلم، وهناك بعض الآيات أشارت إلى ذلك وإن لم تصرح, منها: د- قال تعالى: (وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى - وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 4 - 5]. هـ- قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ) [الرحمن: 26 - 27]. وقال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88]. فهذه الآيات تبين أن جميع أهل الأرض ستمضي فيهم سنة الله في موت خلقه لن يتخلف منهم أحدًا أبدًا. ز- قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3]. وقد بكى عمر بن الخطاب حين نزلت الآية, فقيل: ما يبكيك؟ فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وكأنه استشعر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (2). قال تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 1: 3]. فقد سأل عمر - رضي الله عنه - ابن عباس عن هذه الآية: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ). فقال: أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه، فقال: ما أعلم منها إلا ما تعلم (3)، وفي رواية الطبراني قال ابن عباس: نعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين نزلت فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادا في أمر الآخرة (4).   (1) انظر: تفسير ابن كثير (4/ 53) (2) انظر: البداية والنهاية (5/ 189). (3) البخاري، كتاب المغازي رقم 4430. (4) مجمع الزوائد (9/ 26) رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأحد أسانيده رجاله ثقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 881 2 - أما الأحاديث التي أشارت إلى ذلك فهي: أ- قالت -عائشة رضي الله عنها-: اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، لم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشية أبيها, فقال: «مرحبا يا بنيتي» فأقعدها يمينه أو شماله، ثم سارَّها فبكت، ثم سارَّها فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله بالسرار وأنت تبكين؟ فلما أن قامت قلت لها أخبريني ما سارَّك؟ فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما توفي قلت لها: أسألك لما لي عليك من الحق لما أخبرتني، قالت: أما الآن فنعم، قالت: سارني في الأول قال لي: «إن جبريل كان يعارضني في القرآن كل سنة مرة، وقد عارضني في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا اقتراب أجلي، فاتقي الله واصبري، فنعم السلف أنا لك»، فبكيت, ثم سارني فقال: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟» فضحكت (1). وفي هذا الحديث دليل قاطع وإشارة واضحة إلى اقتراب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ساعة الفراق قد باتت قريبة, إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختص ابنته فاطمة -رضي الله عنها- بعلم ذلك، ولم يعلم به المسلمون إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). ب- قال جابر - رضي الله عنه -: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: «لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» (3). قال النووي: فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم، وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته وتعلم أمور الدين، وبهذا سميت حجة الوداع (4). وقال ابن رجب: وما زال صلى الله عليه وسلم يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال للناس: «خذوا عني مناسككم, فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا» فطفق يودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع (5). ج- قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: «إن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ذلك العبد ما عند الله» قال: فبكى أبو بكر, فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر, وكان أبو بكر   (1) البخاري، كتاب الاستئذان رقم 6285، 6286. (2) انظر: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، ص35. (3) مسلم، كتاب الحج، رقم 1297. (4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 45). (5) انظر: لطائف المعارف، ص105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 882 أعلمنا (1). قال الحافظ ابن حجر: وكأن أبا بكر - رضي الله عنه - فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته, فاستشعر منه أنه أراد نفسه؛ فلذلك بكى (2). د- قال العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: رأيت في المنام كأن الأرض تنزع إلى السماء (3) بأشطان (4) شداد, فقصصت ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ذاك وفاة ابن أخيك» (5) , وفي هذا الحديث إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقرب وفاته، وفيه صدق رؤيا المؤمن، واستشعار بعض الصحابة وفاته عليه الصلاة والسلام (6). هـ- وعن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن خرج راكبا والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته فقال: «يا معاذ, عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، فتمر بقبري ومسجدي» فبكى معاذ لفراقه صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا تبك يا معاذ؛ فإن البكاء من الشيطان» (7) وفي الحديث إخبار النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل باقتراب أجله، وأنه يمكن ألا يلقاه بعد عامه هذا، وفيه شدة محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وبكاؤهم إذا ذكروا فراقه (8). ثانيًا: مرض الرسول صلى الله عليه وسلم: 1 - بدء الشكوى: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع في ذي الحجة, فأقام بالمدينة بقيته والمحرم وصفرًا، من العام العاشر, فبدأ بتجهيز جيش أسامة، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة, وأمره أن يتوجه نحو البلقان وفلسطين، فتجهز الناس وفيهم المهاجرون والأنصار، وكان منهم أبو بكر وعمر، وكان أسامة بن زيد ابن ثماني عشرة سنة، وتكلم البعض في تأميره وهو مولى وصغير السن على كبار المهاجرين والأنصار, فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم طعنهم في إمارة أسامة (9) , فقال صلى الله عليه وسلم: «إن يطعنوا في إمارته فقد طعنوا في إمارة أبيه, وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليَّ وإن ابنه هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده» (10) وبينما الناس يستعدون   (1) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، رقم 3654. (2) فتح الباري (7/ 16). (3) تنزع إلى السماء: أي تجذب، وأصل النزع: الجذب والقلع. (4) بأشطان شداد: الأشطان جمع شطن وهو الحبل. (5) البزار (1/ 397) , كشف الأستار رقم 844، مجمع الزوائد (9/ 24) رجاله ثقات. (6) انظر: مرض النبي ووفاته، ص37. (7) مجمع الزوائد (9/ 22) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 2497. (8) انظر: مرض النبي ووفاته، ص38. (9) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/ 552). (10) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي (4/ 213). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 883 للجهاد في جيش أسامة ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم شكواه الذي قبضه الله فيه، وقد حدثت حوادث ما بين مرضه ووفاته منها: أ- النبي في البقيع وزيارته قتلى أحد وصلاته عليهم: عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: «يا أبا مويهبة, إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع, فانطلق معي»، فانطلقت معه, فلما وقف بين أظهرهم قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى» (1) ثم أقبل عليَّ فقال: «يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة» قال: فقلت: بأبي أنت وأمي, خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: «لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة» , ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف, فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي قبضه الله فيه (2). ومن حديث عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: «إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا, ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها» فقال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). ب- استئذانه صلى الله عليه وسلم أن يمرَّض في بيت عائشة وشدة المرض الذي نزل به: قالت عائشة رضي الله عنها: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه, استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي, فأذن له, فخرج وهو بين رجلين، تخط رجلاه في الأرض، بين عباس ورجل آخر (4) , ولما دخل بيتي اشتد وجعه، قال: «أهريقوا عليَّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن (5) , لعلي أعهد إلى الناس» فأجلسناه في مخضب (6) لحفصة، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم (7) وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم (8) , وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله, إنك لتوعك وعكا   (1) أي الفتن الآخرة. (2) الحاكم في المستدرك (3/ 55، 56) , صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي. (3) البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، رقم 1344. (4) قال ابن عباس: الرجل الآخر هو علي بن أبي طالب. (5) جمع الوكاء، وهو ما يشد به رأس القربة. (6) مخضب: بكسر الميم وهي الإجانة التي تغسل فيها الثياب. (7) البخاري، كتاب الوضوء، رقم 198. (8) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص695. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 884 شديدًا، قلت: إن ذاك بأن لك أجرين؟ قال: «أجل ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه، كما تحات ورق الشجر» (1). ثالثًا: من وصايا رسول الله في أيامه الأخيرة: 1 - وصيته صلى الله عليه وسلم بالأنصار: مر العباس - رضي الله عنه - بقوم من الأنصار يبكون حين اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه, فقال لهم: (ما يبكيكم؟) قالوا: ذكرنا مجلسنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل العباس عليه صلى الله عليه وسلم فأخبره فعُصِّب بعصابة دسماء (2) أو قال: بحاشية برد، وخرج وصعد المنبر -ولم يصعد بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي (3) وعيبتي (4) , وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» (5) , وفي الحديث شدة محبة الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكاؤهم لمرضه وحرمانهم من مجلسه (6). 2 - إخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد: لقد ازدادت شدة المرض على رسول الله، بحيث كان يغمى عليه في اليوم الواحد مرات عديدة، ومع ذلك كله أحب صلى الله عليه وسلم أن يفارق الدنيا وهو مطمئن على أمته أن تضل من بعده, فأراد أن يكتب لهم كتابا مفصلا ليجتمعوا عليه ولا يتنازعوا, فلما اختلفوا عنده صلى الله عليه وسلم عدل عن كتابة ذلك الكتاب وأوصاهم بأمور ثلاثة, ذكر الراوي منها اثنين: * «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب». * «وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به» (7). 3 - النهي عن اتخاذ قبره مسجدًا: كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «قاتل الله اليهود والنصارى, اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب» (8).   (1) البخاري، كتاب المرض، باب شدة المرض، رقم 5647. (2) بعصابة دسماء: أي سوداء. (3) كرشي وعيبتي: أراد أنهم بطانته وموضع سره وأمانته، والذين يعتمد عليهم في أموره, واستعار الكرش والعيبة لذلك. (4) العيبة: ما يحرز فيه الرجل نفيس ما عنده. (5) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3799. (6) انظر: مرض النبي ووفاته، ص65. (7) البخاري، كتاب الجهاد والسير رقم 3035. (8) انظر: صحيح السيرة النبوية ص 712، البخاري، كتاب الصلاة رقم 435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 885 4 - إحسان الظن بالله: قال جابر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: «أحسنوا الظن بالله عز وجل» (1). 5 - الوصية بالصلاة وما ملكت أيمانكم: قال أنس - رضي الله عنه -: كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل يغرغر بها في صدره، ولا يفيض بها لسانه (2). 6 - لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا: قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستر, ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوب في مرضه الذي مات فيه، فقال: «اللهم بلغت» ثلاث مرات، «أنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا، يراها العبد الصالح أو ترى له, ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فإذا ركعتم فعظموا الله، وإذا سجدتم فاجتهدوا في الدعاء, فإنه قمن (3) أن يستجاب لكم» (4). رابعًا: أبو بكر يصلي بالمسلمين: ولما اشتد المرض بالنبي صلى الله عليه وسلم وحضرت الصلاة فأذن بلال, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مروا أبا بكر فليصل» فقيل: إن أبا بكر رجل أسيف (5) إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: «إنكن صواحب يوسف (6)، مروا أبا بكر فليصل بالناس» فخرج أبو بكر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة, فخرج يهادي بين رجلين، كأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض، فلما رآه أبو بكر، ذهب يتأخر فأشار إليه أن صل فتأخر أبو بكر - رضي الله عنه - وقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه وأبو بكر يسمع الناس التكبير (7). خامسًا: الساعات الأخيرة من حياة المصطفى: 1 - كان أبو بكر يصلي بالمسلمين حتى إذا كان يوم الإثنين، وهم صفوف في صلاة الفجر، كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، ينظر إلى المسلمين، وهم وقوف أمام ربهم، ورأى كيف   (1) مسلم, كتاب الوصية, رقم 1637. (2) رواه الإمام أحمد في مسنده. (3) قمن: أي جدير وحقيق. (4) مسلم (1/ 348) كتاب الصلاة رقم 207. (5) أسيف: من الأسف وهو شدة الحزن والمراد أنه رقيق القلب. (6) والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن. (7) البخاري، كتاب الأذان رقم 712. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 886 أثمر غرس دعوته وجهاده, وكيف نشأت أمة تحافظ على الصلاة، وتواظب عليها بحضرة نبيها وغيبته، وقد قرت عينه بهذا المنظر البهيج، وبهذا النجاح الذي لم يقدر لنبي أو داعٍ قبله، واطمأن أن صلة هذه الأمة بهذا الدين وعبادة الله تعالى صلة دائمة، لا تقطعها وفاة نبيها، فملئ من السرور ما الله به عليم, واستنار وجهه وهو منير (1) يقول الصحابة رضي الله عنهم: كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر حجرة عائشة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح، وظننا أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا أن أتموا صلاتكم، ودخل الحجرة، وأرخى الستر وانصرف بعض الصحابة إلى أعمالهم، ودخل أبو بكر على ابنته عائشة وقال: ما أرى رسول الله إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة، إحدى زوجتيه, وكانت تسكن بالسنح (2) فركب على فرسه وذهب إلى منزله (3). 2 - في الرفيق الأعلى: واشتدت سكرات الموت بالنبي صلى الله عليه وسلم, ودخل عليه أسامة بن زيد وقد صمت فلا يقدر على الكلام، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة، فعرف أنه يدعو له، وأخذت السيدة عائشة رسول الله وأوسدته إلى صدرها بين سحرها ونحرها (4)، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقالت عائشة: آخذه لك؟ فأشار برأسه: نعم، فأخذته من أخيها ثم مضغته ولينته وناولته إياه فاستاك به كأحسن ما يكون الاستياك، وكل ذلك وهو لا ينفك عن قوله: «في الرفيق الأعلى» وكان صلى الله عليه وسلم يدخل يده في ركوة ماء أو علبة فيها ماء، فيمسح بها وجهه ويقول: «لا إله إلا الله، إن للموت سكرات» ثم نصب يده فجعل يقول: «في الرفيق الأعلى» .. حتى قبض ومالت يده , وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم أعني على سكرات الموت» (5). وفي رواية: أن عائشة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند ظهره يقول: «اللهم اغفر لي وارحمني, وألحقني بالرفيق الأعلى» (6). وقد ورد أن فاطمة رضي الله عنها قالت: واكرب أباه! فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» , فلما مات قالت: يا أبتاه .. أجاب ربا دعاه، يا أبتاه .. جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه .. إلى جبريل ننعاه, فلما دفن صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة لأنس: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على   (1) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص401. (2) السنح: موضع خارج المدينة كان للصديق مال فيه وبيت. (3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 593). (4) السحر: الرئة. النحر: الثغرة التي في أسفل العنق. (5) الترمذي، كتاب الجنائز رقم 978. (6) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4440. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 887 رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! (1). 3 - كيف فارق رسول الله الدنيا؟ فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب، ويرهبه ملوك الدنيا، ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم, وما ترك عند موته دينارًا ولا درهمًا، ولا عبدًا ولا أمة، ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضًا جعلها صدقة. وتوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير (2). وكان ذلك يوم الإثنين 12 من ربيع الأول سنة 11 للهجرة بعد الزوال (3) وله صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة , وكان أشد الأيام سوادًا ووحشة ومصابًا على المسلمين، ومحنة كبرى للبشرية، كما كان يوم ولادته أسعد يوم طلعت فيه الشمس (4). يقول أنس - رضي الله عنه -: كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وبكت أم أيمن فقيل لها: ما يبكيك على النبي؟ قالت: إني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت, ولكن إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا. 4 - هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها: قال ابن رجب: ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية (5). قال القرطبي مبينا عظم هذه المصيبة وما ترتب عليها من أمور: من أعظم المصائب المصيبة في الدين .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي, فإنها أعظم المصائب» (6) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب, وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه (7).   (1) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4462. (2) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص403. (3) انظر: البداية والنهاية (4/ 223). (4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص404. (5) انظر: لطائف المعارف، ص114. (6) انظر: السلسلة الصحيحة للألباني، رقم 1106. (7) انظر: تفسير القرطبي (2/ 176). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 888 لقد أذهل نبأ الوفاة عمر - رضي الله عنه - فصار يتوعد وينذر من يزعم أن النبي مات, ويقول: ما مات, ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم, والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات (1). ولما سمع أبو بكر الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي! والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي عليك فقد متَّها (2)، وخرج أبو بكر وعمر يتكلم, فقال: اجلس يا عمر، وهو ماضٍ في كلامه، وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في الناس خطيبًا بعد أن حمد الله وأثنى عليه فقال: أما بعد: فإن من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]. قال عمر: فوالله ما إن سمعت أبا بكر تلاها فهويت إلى الأرض ما تحملني قدماي، وعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات (3). قال القرطبي: هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجراءة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم, فظهرت شجاعته وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر, فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح (4). فرحم الله الصديق الأكبر، كم من مصيبة درأها عن الأمة! وكم من فتنة كان المخرج على يديه! وكم من مشكلة ومعضلة كشفها بشهب الأدلة من القرآن والسنة، التي خفيت على مثل عمر - رضي الله عنه -! فاعرفوا للصديق حقه، واقدروا له قدره، وأحبوا حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحبه إيمان وبغضه نفاق (5).   (1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 594). (2) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4452. (3) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4454. (4) انظر: تفسير القرطبي (4/ 222). (5) انظر: مرض النبي ووفاته، ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 889 5 - بيعة أبي بكر بالخلافة: وبايع المسلمون أبا بكر بالخلافة، في سقيفة بني ساعدة، حتى لا يجد الشيطان سبيلاً إلى تفريق كلمتهم، وتمزيق شملهم، ولا تلعب الأهواء بقلوبهم، وليفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا وكلمة المسلمين واحدة، وشملهم منتظم، وعليهم أمير يتولى أمورهم، ومنها تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه (1) والحديث عن بيعة أبي بكر سنتكلم عنه بالتفصيل عند الدخول في عصر الخلفاء الراشدين, إن شاء الله تعالى. 6 - غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفنه والصلاة عليه: قالت عائشة رضي الله عنها: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره, فكلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو، أن اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون بالقميص دون أيديهم، قالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه (2). وكفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية، من ثياب سحول -بلدة باليمن- ليس فيها قميص ولا عمامة (3) وقد صلى عليه المسلمون. قال ابن عباس: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالا، حتى فرغوا، ثم أدخل النساء فصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه، ثم أدخل العبيد فصلوا عليه أرسالا، لم يؤمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد (4). قال ابن كثير: وهذا الصنيع -وهو صلاتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد- أمر مجمع عليه لا خلاف فيه (5). 7 - موقع دفنه وصفة قبره ومن باشر دفنه؟ ومتى دفن؟ اختلف المسلمون في موقع دفنه فقال بعضهم: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: بالبقيع، وقال قائل: في مصلاه (6) , فجاء أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فحسم مادة هذا الخلاف أيضا بما   (1) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص406. (2) المستدرك للحاكم (3/ 59، 60) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان. (3) انظر: مختصر سيرة الرسول، ص37، تهذيب الأسماء للنووي، ص23، مسلم (2/ 650) كتاب الجنائز رقم 45. (4) انظر: دلائل النبوة، (7/ 250) وسنن ابن ماجة رقم 1628، والحديث فيه ضعف. (5) انظر: البداية والنهاية (5/ 232). (6) الموطأ رقم 545، ابن سعد (2/ 293). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 890 سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت عائشة وابن عباس: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وغسل اختلفوا في دفنه, فقال أبو بكر: ما نسيت ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض الله نبيًا إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه»، ادفنوه في موضع فراشه (1). وهذا الحديث وإن كان مختلفًا في صحته إلا أن دفن النبي صلى الله عليه وسلم في موضعه الذي توفي فيه أمر مجمع عليه (2). وقال ابن كثير: قد علم بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام دفن في حجرة عائشة التي كانت تختص بها، شرقي مسجده في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ثم دفن فيها أبو بكر, ثم عمر, رضي الله عنهما (3). وقد لحد (4) قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع العلماء على أن اللحد والشق (5) جائزان، لكن إذا كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها فاللحد أفضل، وإن كانت رخوة تنهار فالشق أفضل (6). وقد قال الألباني -رحمه الله-: ويجوز في القبر اللحد والشق لجريان العمل عليهما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الأول أفضل (7) لأن الله تعالى لا يختار لنبيه إلا الأفضل (8) , وأما صفة قبره فقد كان مسنمًا (9) أي مرتفعًا، وذهب جمهور العلماء إلى أن المستحب في بناء القبور هو التسنيم وأنه أفضل من التسطيح (10) , وفي المسألة خلاف طويل ليس هذا محله، وقد قرب ابن القيم رحمه الله بين المذهبين فقال: وكانت قبور أصحابه لا مشرفة، ولا لائطة، وهكذا كان قبره الكريم، وقبرا صاحبيه، فقبره صلى الله عليه وسلم مسنم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء، لا مبني ولا مطين، وهكذا قبرا صاحبيه (11) وقد كان قبره صلى الله عليه وسلم مرتفعا قليلا عن سطح الأرض (12). وأما الذين باشروا دفنه صلى الله عليه وسلم فقال ابن إسحاق: وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم   (1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص727. (2) انظر: مرض النبي ووفاته، ص160. (3) انظر: البداية والنهاية (5/ 238). (4) اللحد: الشق الذي يعمل في جانب القبر لموضع الميت. (5) والشق: أي يحفر في وسط الأرض. (6) انظر: المجموع للنووي (5/ 287). (7) انظر: أحكام الجنائز، ص144. (8) انظر: مرض النبي ووفاته، ص160 وقد استفدت من هذا الكتاب فائدة كبرى في مبحث مرض ووفاة الرسول. (9) البخاري، كتاب الجنائز رقم 1390. (10) انظر: مرض النبي ووفاته، ص164. (11) انظر: زاد المعاد (1/ 524). (12) انظر: تهذيب السنن لابن القيم (4/ 338). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 891 علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) , وزاد النووي (2) والمقدسي (3): العباس, قال النووي: ويقال كان أسامة بن زيد وأوس بن خولي (4) معهم. ودفن في اللحد، وبنى عليه صلى الله عليه وسلم في لحده اللبن، يقال إنها تسع لبنات، ثم أهالوا التراب (5). وأما وقت دفنه فقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه دفن ليلة الأربعاء, قال ابن كثير: والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه من أنه عليه السلام توفي يوم الإثنين ودفن ليلة الأربعاء (6). لقد كان لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر على الصحابة الكرام, فقد قال أنس - رضي الله عنه -: وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي -إنا لفي دفنه- حتى أنكرنا قلوبنا (7). سادسًا: بعض ما قيل من المراثي في وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: 1 - ما قاله حسان - رضي الله عنه - في موت رسول الله: لقد نافح حسان بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، ودافع عن الإسلام والمسلمين بقصائده الرائعة التي هزت عرب الجزيرة وفعلت فيهم الأفاعيل، ولقد تأثر بموت حبيبنا صلى الله عليه وسلم فرثاه بقصائد مبكية حزينة، حفظها لنا التاريخ, ولم تهملها الليالي, ولم تفصلها عنا حواجز الزمن, ولا أسوار القرون, فمما قاله يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال عينك لا تنام كأنها ... كحلت مآقيها (8) بكحل الأرمد (9) جزعا على المهدي أصبح ثاويًا ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد وجهي يقيك الترب لهفي ليتني ... غيبت قبلك في بقيع الغرقد (10) بأبي وأمي من شهدت وفاته ... في يوم الاثنين النبي المهتدى فظللت بعد وفاته متبلدا ... متلددا (11) يا ليتني لم أولد أأقيم بعدك بالمدينة بينهم؟! ... يا ليتني صبحت (12) سم الأسود (13) أو حلَّ أمر الله فينا عاجلاً ... في روحة من يومنا أو في غد فتقوم ساعتنا فنلقى طيبا ... محضا ضرائبه (14) كريم المحتد (15)   (1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 321). (2) انظر: تهذيب الأسماء، ص23. (3) انظر: مختصر السيرة، ص35. (4) انظر: مرض النبي ووفاته، ص173. (5) انظر: تهذيب الأسماء للنووي، ص23. (6) انظر: البداية والنهاية (5/ 237) صحيح السيرة النبوية، ص728. (7) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص729. (8) المآقي: جمع مأق ومؤق وهي مجاري الدمع من العين (9) الأرمد: الذي يشتكي وجع العين (10) بقيع الغرقد: المكان الذي يدفن فيه أهل المدينة موتاهم. (11) متلدد: متحير. (12) صبحت: سقيت صبحا. (13) الأسود: ضرب من الحيات. (14) الضرائب: الطبائع. (15) المحتد: الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 892 يا بكر آمنة المبارك بكرها ... ولدته محصنة بسعد الأسعد نورًا أضاء على البرية كلها ... من يهد للنور المبارك يهتدي يا رب فاجمعنا معا ونبينا ... في جنة تثنى عيون الحسد (1) في جنة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد والله أسمع ما بقيت بهالك ... إلا بكيت على النبي محمد يا ويح أنصار النبي ورهطه! ... بعد المغيَّب في سواء الملحد (2) ضاقت بالانصار البلاد فأصبحوا ... سودًا وجوههم كلون الإثمد (3) ولقد ولدناه (4) وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لم تجحد والله أكرمنا به وهدى به ... أنصاره في كل ساعة مشهد صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمدِ (5) وقال أيضا: تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ... مثل الرسول نبي الأمة الهادي ولا يرى الله خلقا من بريته ... أوفى بذمة جار أو بميعاد من الذي كان فينا يستضاء به ... مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد إلى أن قال: يا أفضل الناس إني كنت في نهر ... أصبحت منه كمثل المفرد الصادي (6) 2 - ومما قاله أبو بكر الصديق يبكي النبي صلى الله عليه وسلم: لما رأيت نبينا متجندلاً ... ضاقت عليَّ بعرضهن الدور فارتاع قلبي عند ذاك لموته ... والعظم مني -ما حييت- كسير أعتيق ويحك!! إن خلك قد ثوى ... والصبر عندك -ما بقيت- يسير يا ليتني من قبل مهلك صاحبي ... غُيبت في لحد عليه صخور فلتحدثن بدائع من بعده ... تعيا لهن جوانح وصدور (7) 3 - وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم:   (1) تثني عيون الحسد: تصرفها وتدفعها. (2) سواء الملحد: وسطهم. (3) الإثمد: كحل أسود. (4) أي بني النجار أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل آبائه. (5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/ 328). (6) الصادي: العاطش، السيرة النبوية لابن هشام (4/ 329). (7) انظر: المستطرف للأبشيهي، ص366، ديوان أبي بكر الصديق، طبع حديثا حققه وشرحه راجي الأسمر، ص32، 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 893 أرقت فبات ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل لقد عظمت مصيبتنا وجلَّت ... عشية قيل: قد قبض الرسول وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرائيل وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كادت تسيل نبي كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول ويهدينا فلا نخشى ملاما ... علينا والرسول لنا دليل أفاطم, إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي فهو السبيل فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول (1) 4 - وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برًا ولم تك جافيا وكنت رحيمًا هاديًا ومعلمًا ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا لعمرك ما أبكي النبيَّ لفقده ... ولكن لما أخشى من الهرج (2) آتيا كأن على قلبي لذكر محمد ... وما خفت من بعد النبي المكاويا أفاطم, صلى الله رب محمد ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا فدى لرسول الله أمي وخالتي ... وعمي وآبائي ونفسي وماليا صدقتَ وبلغت الرسالة صادقا ... ومت صليب العود أبلجَ صافيا فلو أن رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا، ولكن أمره كان صافيا عليك من الله السلام تحية ... وأدخلت جنات من العدن راضيا (3) * * *   (1) انظر: الاكتفاء للكلاعي (2/ 456). (2) الهرج والفتن. (3) انظر: تفسير القرطبي (4/ 220،219). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 894 الخاتمة وبعد, فهذا ما يسره الله لي من جمع وترتيب وتحليل تضمنتها فصول هذا الكتاب, فيما يتعلق «بالسيرة النبوية .. عرض وقائع وتحليل أحداث» فما كان فيه من صواب فهو محض فضل الله علي فله الحمد والمنة، وما كان فيه من خطأ فاستغفر الله تعالى وأتوب إليه، والله ورسوله بريء منه، وحسبي أني كنت حريصًا أن لا أقع في الخطأ وعسى أن لا أحرم من الأجر. وأدعو الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب إخواني المسلمين، وأن يذكرني من يقرؤه في دعائه, فإن دعوة الأخ لأخيه في ظهر الغيب مستجابة إن شاء الله تعالى, وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10]. ويقول الشاعر: إلهي أنت للإحسان أهل ... ومنك الجود والفضل الجزيل إلهي بات قلبي في هموم ... وحالي لا يسرُّ به خليل إلهي تب وجد وارحم عُبيدًا ... من الأوزار مدمعه يسيل إلهي ثوب جسمي دنستْه ... ذنوب حملها أبدًا ثقيل إلهي جد بعفوك لي فإني ... على الأبواب منكسر ذليل إلهي خانني جلدي وصبري ... وجاء الشيب واقترب الرحيل إلهي داوني بدواء عفو ... به يُشفي فؤادي والغليل إلهي ذاب قلبي من ذنوبي ... ومن فعل القبيح أنا القتيل إلهي قلت ادعوني أجبكم ... فهاك العبد يدعو يا وكيل إلهي هذه الأوقات تمضي ... بأعمار لنا وبها تزول ويقول الشاعر: اطلب العلم ولا تكسل فما ... أبعد الخير على أهل الكسل احتفل للفقه في الدين ولا ... تشتغل عنه بمال وحَوَل واهجر النوم وحصله فمن ... يعرف المطلوب يحقر ما بذل لا تقل قد ذهبت أربابه ... كل من سار على الدرب وصل سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 895 المصادر والمراجع (أ) 1 - آثار الحرب في الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دراسة مقارنة، دار الفكر، 1981م. 2 - آثار تطبيق الشريعة، د. محمد عبد الله الزاحم، دار المنار، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1991م. 3 - آفات على الطريق، محمد سيد نوح، دار الوفاء، المنصورة، مصر، 1990م. 4 - أسد الغابة في معرفة الصحابة، علي بن أبي الكرم ابن الأثير. 5 - الأم، محمد إدريس الشافعي، طبعة الفكر، بيروت، لبنان، سنة 1410هـ - 1990م. 6 - الإتقان في علوم القرآن، عبد الرحمن السيوطي، المكتبة الثقافية، بيروت، لبنان. 7 - الإدارة الإسلامية في عصر عمر بن الخطاب، د. فاروق مجدلاوي، دار مجدلاوي، عمان. 8 - الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق علي محمد البجاوي، دار النهضة مصر. 9 - الاعتصام للإمام الشاطبي، دار الفكر، الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض. 10 - الإعلام في صدر الإسلام، د. عبد اللطيف حمزة، دار الفكر. 11 - إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع، للشيخ أحمد المقريزي، صححه وشرحه محمود محمد شاكر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة بالقاهرة 1941م. 12 - الأحاديث الواردة في فضائل المدينة، صالح الرفاعي، دار الخضيري، المدينة، 1418هـ. 13 - أحكام الجنائز وبدعها للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت. 14 - أحكام السوق في الإسلام، أحمد الدريويش، دار عالم الكتب، 1409هـ- 1989م. 15 - أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي تحقيق: محمد عبد القادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 897 عطاء، دار الكتب العلمية بيروت، ط1/ 1408هـ. 16 - الأخلاق الإسلامية وأسسها، عبد الرحمن الميداني، دار القلم، دمشق. 17 - الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية، محمود محمد الجوهري. 18 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل, محمد ناصر الدين الألباني -إشراف زهير الشاويش. 19 - الأساس في السنة وفقهها، السيرة النبوية، سعيد حوى، دار السلام بمصر، 1989م. 20 - الأساس في السنة، سعيد حوى، دار السلام، مصر. 21 - أساليب التشويق والتعزيز في القرآن الكريم، د. الحسين جرنو محمود جلو، مؤسسة الرسالة، دار العلوم الإنسانية، الطبعة الأولى 1414هـ- 1994م. 22 - أسباب النزول، أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1402هـ- 1982م. 23 - أسباب هلاك الأمم السالفة، سعيد محمد بابا سيلا، سلسلة الحكمة البريطانية، 2000م. 24 - الاستخبارات العسكرية في الإسلام، عبد الله علي السلامة مناصرة, مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1412هـ - 1991م. 25 - الإسلام في خندق، مصطفى محمود، دار أخبار اليوم القاهرة، مصر،1994م. 26 - أصول الفكر السياسي في القرآن المكي، التجاني عبد القادر حامد، الطبعة الأولى، عمان، الأردن، دار البشير 1416هـ - 1995م. 27 - أضواء على الهجرة، توفيق محمد سبع، مطبعة الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 1973م. 28 - أعلام النبوة للماوردي، الكليات الأزهرية. 29 - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية بيروت. 30 - الاكتفاء بما تضمنه من مغازي الرسول والثلاثة الخلفاء، تأليف أبي الربيع سليمان ابن موسى الكلاعي الأندلسي، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1417هـ - 1997م. 31 - الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام، مؤسسة ناصر الثقافية، بيروت. 32 - الانحرافات العقدية والعلمية، علي بن نجيب الزهراني، دار طيبة، 1418هـ 33 - أنساب الأشراف للبلاذري، تحقيق محمد حميد الله، دار المعارف - مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 898 34 - الأنساب، أبو سعيد عبد الكريم بن محمد السمعاني، تحقيق عبد الرحمن المعلمي اليماني، نشر مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند 1382هـ-1962م. 35 - أهمية الجهاد في نشر الدعوة، د. علي العلياني، دار طيبة، الطبعة الأولى، 1405هـ 36 - الإيمان والحياة، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة العاشرة، 1984م. (ب) 37 - البحر الرائق في الزهد والرقائق، أحمد فريد، دار البخاري، القصيم بالسعودية. 38 - بدائع السالك في طبائع الملك، أبو عبد الله بن الأزرق, تحقيق وتعليق علي سامي النشار، منشورات وزارة الإعلام، الجمهورية العراقية. 39 - البداية والنهاية، أبو الفداء ابن كثير الدمشقي. دار الريان للتراث. 40 - بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، محمود شكري الآلوسي، تحقيق محمد بهجة الأثري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية. 41 - بناء المجتمع الإسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق رمضان، دار ابن كثير، دمشق. 42 - بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل، شرح جمال الدين محمد الأشخر اليمني، دار صادر - بيروت. (ت) 43 - تأملات في سورة الكهف للشيخ أبي الحسن الندوي، دار القلم. 44 - تأملات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، د. محمد السيد الوكيل، دار المجتمع، 1408هـ. 45 - تاريخ الإسلام للذهبي (المغازي)، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي. 46 - التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، د. عبد العزيز الحميدي، دار الدعوة، الإسكندرية. 47 - التاريخ السياسي والحضاري، د. السيد عبد العزيز سالم. 48 - التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، استراتيجية الرسول السياسية والعسكرية، د. علي معطي، مؤسسة المعارف بيروت. 49 - تاريخ الطبري، لأبي جعفر بن جرير، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 899 بيروت. 50 - تاريخ اليهود في بلاد العرب، ولفنسون، طبعة القاهرة 1927م. 51 - تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة الآداب، النجف، 1967م. 52 - تاريخ دولة الإسلام الأولى، فايد حماد عاشور، سليمان أبو عزب، دار قطري بن الفجاءة، الدوحة، الطبعة الأولى، 1409هـ- 1989م. 53 - تاريخ صدر الإسلام, عبد الرحمن عبد الولي شجاع، دار الفكر المعاصر، صنعاء. 54 - التحالف السياسي في الإسلام، منير محمد الغضبان، دار السلام، الطبعة الثانية 1988م. 55 - التحرير والتنوير، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، دار الكتب الشرقية تونس. 56 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري، مطبعة الاعتماد، نشر محمد عبد المحسن الكتبي، تصحيح عبد الرحمن محمد عثمان. 57 - تحفة الأشراف، أبو الحجاج يوسف المزي، الدار القيمة 1384هـ. 58 - التربية القيادية، منير الغضبان، دار الوفاء المنصورة، الطبعة الأولى، 1418هـ - 1998م. 59 - تفسير ابن أبي حاتم (تفسير القرآن العظيم) , ابن أبي حاتم -تحقيق أسعد الطيب- مكتبة نزار مصطفى الباز- السعودية - ط2/ 1419هـ- 1999م. 60 - تفسير أبي السعود، المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، لقاضي القضاة أبي السعود محمد العمادي الحنفي، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، الناشر: مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، مطبعة السعادة، القاهرة. 61 - تفسير ابن كثير، ابن كثير القرشي، دار الفكر ودار القلم، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية. 62 - تفسير الآلوسي، المسمى روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي (محمود الآلوسي البغدادي) إدارة الطباعة المصطفائية بالهند. 63 - تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل، الإمام الفراء البغوي الشافعي، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 64 - تفسير البيضاوي المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل, تأليف الإمام ناصر الدين أبو الخير عبد الله الشيرازي البيضاوي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1402هـ - 1982م. 65 - تفسير الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة. 66 - تفسير الزمخشري المسمى بالكشاف، دار المعرفة 1967م. 67 - تفسير السعدي المسمى تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن ناصر السعدي، المؤسسة السعدية بالرياض، 1977م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 900 68 - تفسير القرطبي، لأبي عبد الله القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1965م. 69 - تفسير المراغي، لأحمد مصطفى المراغي، طبع دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1394هـ. 70 - تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 71 - التفسير المنير، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر، بيروت، دار الفكر, دمشق، الطبعة الأولى 1411هـ- 1991م. 72 - تفسير النسفي المسمى بمدارك التنزيل وحقائق التأويل، تأليف الإمام عبد الله أحمد بن محمد النسفي، المتوفى سنة 710هـ، الناشر دار الكتاب العربي، بيروت. 73 - تفسير ابن عطية المسمى المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق ابن عطية الأندلسي، من مطبوعات رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1991م. 74 - تفسير سورة فصلت، د. محمد صالح علي مصطفى، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1409هـ -1989م. 75 - تلقيح فهوم أهل الأثر، لابن الجوزي، مكتبة الآداب، القاهرة، دون ذكر الطبعة. 76 - التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، محمد السيد حمد يوسف، دار السلام، مصر، الطبعة الأولى 1418هـ - 1997م. 77 - تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة، صالح أحمد العلي، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد السابع عشر، بغداد 1969م. 78 - تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، جلال الدين السيوطي، دار إحياء الكتب. 79 - تهذيب مدارج السالكين لابن القيم، هذبه عبد المنعم صالح العلي العزي مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1409هـ - 1989م. (ج) 80 - جامع الأصول، لابن الأثير المتوفى سنة 606هـ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، طبع مكتبة الحلواني سوريا، عام 1392هـ. 81 - جامع العلوم والحكم، للإمام ابن رجب الحنبلي، دار الفكر، بيروت. 82 - الجامع لأخلاق الراوي، وآداب السامع للخطيب البغدادي، مكتبة المعارف بالرياض، 1403هـ- 1983م. 83 - الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، محمد خير هيكل، دار البيارق، عمان، بيروت الطبعة الأولى 1414هـ- 1993م. 84 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية، مطابع المجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 901 85 - جوامع السيرة لابن حزم، المتوفى 456هـ، تحقيق الدكتور إحسان عباس والدكتور ناصر الدين الأسد، طبع دار إحياء السنة باكستان 1368هـ. 86 - جيل النصر المنشود، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، الطبعة السادسة، 1405هـ - 1985م. (ح) 87 - حاشية ابن عابدين، مطابع مصطفى البابي وأولاده. 88 - حدائق الأنوار ومطالع الأسرار، لابن الدَّيْبَع الشيباني، تحقيق عبد الله إبراهيم الأنصاري. 89 - حديث القرآن عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، د. محمد بكر آل عابد، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى. 90 - الحرب النفسية ضد الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، د. عبد الوهاب كحيل، عالم الكتب بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ - 1986م. 91 - الحركة السنوسية في ليبيا، علي محمد الصلابي، دار البيارق، عمان طبعة أولى 1999م. 92 - حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، د. محمد بن خليفة التميمي، دار أضواء السلف، الطبعة الأولى، 1418هـ - 1997م. 93 - الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، عبد العزيز مصطفى كامل، دار طيبة، الطبعة الأولى، 1415هـ- 1995م. 94 - الحكومة الإسلامية، أبو الأعلى المودودي، ترجمة أحمد إدريس، المختار الإسلامي للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1397هـ - 1977م. 95 - حلية الأولياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، مطبعة السعادة، مصر، 1351هـ. 96 - حوار الرسول مع اليهود، د. محسن الناظر، الطبعة الثانية، 1412هـ- 1992م، دار الوفاء. (خ) 97 - خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، للشيخ محمد أبي زهرة، دار الفكر بيروت الطبعة الأولى 1972م. 98 - الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، الطبعة الرابعة 1409هـ - 1989م. 99 - الخصائص الكبرى، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الكتب العلمية بيروت. (د) 100 - دائرة المعارف الكاثوليكية، مقال التثليث. 101 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، الإمام السيوطي، الناشر محمد أمين دمج، بيروت، لبنان. 102 - دراسات في السيرة النبوية، د. عماد الدين خليل، دار النفائس، بيروت الطبعة الحادية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 902 عشرة 1409هـ - 1989م. 103 - دراسات في عهد النبوة، د. عبد الرحمن الشجاع، دار الفكر المعاصر، صنعاء، اليمن، الطبعة الأولى، 1419هـ - 1999م. 104 - دراسات قرآنية، محمد قطب، دار الشروق، الطبعة الخامسة 1408هـ- 1988م. 105 - دراسة تحليلية لشخصية الرسول، د. محمد قلعجي، دار النفائس الطبعة الأولى، سنة 1408هـ -1988م. 106 - الدرر في اختصار المغازي والسير، يوسف بن عبد البر، وزارة الأوقاف بمصر، لجنة إحياء التراث، القاهرة 1412هـ- 1994م. 107 - دروس في الكتمان، محمود شيت خطاب، مكتبة النهضة، بغداد، الطبعة العاشرة، 1988م. 108 - دستور للأمة من القرآن والسنة، د. عبد الناصر العطار، مؤسسة علوم القرآن، الشارقة، الإمارات، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ - 1993م. 109 - الدعوة الإسلامية، عبد الغفار عزيز. 110 - دعوة الله بين التكوين والتمكين، د. علي جريشة، مكتبة وهبة، مصر، الطبعة الأولى، 1406هـ - 1986م. 111 - دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، للحافظ أبي بكر أحمد البيهقي، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى، 1405هـ. 112 - دور المرأة في خدمة الحديث، آمال قرداش، كتاب الأمة، الطبعة الأولى، 1420هـ. 113 - دولة الرسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين، كامل سلامة الدقس، دار عمار، عمان، الطبعة الأولى، 1415هـ- 1994م. 114 - الدولة العربية الإسلامية، منصور الحرابي، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية بليبيا الطبعة الثانية 1983م. 115 - ديوان أبي بكر الصديق، حققه وشرحه راجي الأسمر، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى، 1997م. 116 - ديوان شوقي، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت، طبعة 1986م. 117 - ديوان عنترة، فاروق الطباع، دار القلم بيروت، لبنان. (ر) 118 - الرؤى والأحلام في النصوص الشرعية، أسامة عبد القادر. 119 - الرؤيا ضوابطها وتفسيرها، هشام الحمصي، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت، الطبعة الثانية، 1417هـ - 1996م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 903 120 - رجال الإدارة في الدولة الإسلامية، د. حسين محمد سليمان، دار الإصلاح، الدمام بالسعودية. 121 - الرحيق المختوم، لصفي الدين عبد الرحمن المباركفوري، الطبعة الأولى، 1417هـ - 1996م، مؤسسة الرسالة، لبنان. 122 - رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر، دار الحكمة دمشق، الطبعة الأولى، 1418هـ - 1997م. 123 - الرسول القائد، محمود شيت خطاب، دار مكتبة الحياة ومكتبة النهضة بغداد الطبعة الثانية، 1960م. 124 - الرسول المبلغ، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1418هـ- 1997م. 125 - الرسول المعلم وأساليبه في التعليم للشيخ عبد الفتاح أبي غدة، دار مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة الأولى 1417هـ - 1996م. 126 - الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، لأبي القاسم السهيلي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، طبعة 1387هـ. (ز) 127 - زاد المسير في علم التفسير، أبو الفرج الجوزي، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1384هـ- 1965م. 128 - زاد المعاد في هدي خير العباد، أبو عبد الله ابن القيم حققه: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر، الطبعة الأولى، 1399هـ، دار الرسالة. 129 - زاد اليقين لأبي شنب، لاشين أبو شنب، دار البشير، طنطا، مصر، الطبعة الأولى، 1413هـ- 1993م. 130 - الزهد، أحمد بن حنبل، دار الريان للتراث، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 1412هـ- 1992م. 131 - زيد بن ثابت، كاتب الوحي، وجامع القرآن، صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1411هـ- 1990م. (س) 132 - سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، لجنة إحياء التراث الإسلامي، 1394هـ- 1974م. 133 - السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة، د. بريكك محمد بريكك، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 1417هـ- 1996م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 904 134 - السفارات النبوية، د. محمد العقيلي، دار إحياء العلوم، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ - 1986م. 135 - سفراء الرسول، محمود شيت خطاب، مؤسسة الريان, دار الأندلس الخضراء، الطبعة الأولى، 1417هـ- 1996م. 136 - سنن الدارقطني: على بن عمر الدارقطني وبذيله التعليق المغني لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي- عالم الكتب- لبنان - دون تاريخ. 137 - سنن أبي داود: الإمام أبو داود السجستاني، تحقيق وتعليق عزت الدعاس، 1391هـ، سوريا. 138 - سنن ابن ماجة: الحافظ أبو عبد الله بن زيد القزويني، دار الفكر. 139 - سنن الترمذي: الإمام أبو عيسى الترمذي، دار الفكر، 1398هـ. 140 - سنن النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، مطبعة مصطفى الحلبي القاهرة، 1964م. 141 - سير أعلام النبلاء: شمس الدين الذهبي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1403هـ. 142 - السير والمغازي لابن إسحاق، تحقق سهيل زكار، دار الفكر، طبعة أولى 1978م. 143 - السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون، علي بن برهان الدين الحلبي، دار المعرفة. 144 - سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم صور مقتبسة من القرآن الكريم، تأليف الأستاذ محمد عزة دروزة، عني بها الأستاذ عبد الله إبراهيم الأنصاري، المؤتمر العالمي للسيرة النبوية الدوحة 1400هـ،. 145 - السيرة النبوية، أبو الحسن الندوي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة ط7/ 1408. 146 - السيرة النبوية، دراسة تحليلية، محمد أبو فارس، دار الفرقان، عمان الطبعة الأولى 1418هـ- 1997م. 147 - السيرة النبوية، للذهبي، تحقيق حسام الدين القدسي، مكتبة هلال بيروت. 148 - السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم العمري، الطبعة الأولى 1412هـ/ 1992م، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة. 149 - السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، صالح أحمد الشامي، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1992م. 150 - السيرة النبوية دروس وعبر، د. مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة التاسعة، 1406هـ - 1986م. 151 - السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، الطبعة الثالثة، 1417هـ - 1996م. 152 - السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله أحمد، مركز الملك فيصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 905 للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض الطبعة الأولى، 1412هـ - 1992م. 153 - السيرة النبوية لأبي حاتم البستي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م. 154 - السيرة النبوية، لأبي محمد بن عبد الملك بن هشام، دار الفكر، بدون تاريخ. 155 - السيرة النبوية، لابن كثير، للإمام أبي الفداء إسماعيل، تحقيق مصطفى عبد الواحد، الطبعة الثانية، 1398هـ، دار الفكر بيروت، لبنان. 156 - السيرة النبوية، لمحمد الصوياني، مؤسسة الريان، الطبعة الأولى، 1420هـ - 1999م. (ش) 157 - شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 158 - شرح ديوان حسان بن ثابت, ضبطه وصححه عبد الرحمن البرقوقي -دار الأندلس بيروت, بدون تاريخ 159 - شرح السنة، لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: علي محمد معوض وعادل أحمد, دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1965م، القاهرة. 160 - شرح الشفا: نور الدين مُلا علي قاري- تحقيق حسنين مخلوف, مطبعة المدني - القاهرة- مصر - 1398هـ 161 - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، تحقيق وتعليق وتخريج أحاديث وتقديم د/ عبد الله بن عبد المحسن التركي وشعيب الأرناؤوط، ط4، 1412هـ - 1992م، مؤسسة الرسالة، بيروت. 162 - شرح المعلقات للحسين الزوزني، تحقيق يوسف علي بدوي، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، 1410هـ- 1989م. 163 - شرح المواهب اللدنية للقسطلاني، لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني، دار المعرفة، بيروت. 164 - شرح النووي على صحيح مسلم للإمام النووي المتوفى 676هـ - طبع المطبعة المصرية ومكتبتها - القاهرة عام 1347هـ. 165 - الشفاء في التعريف بحقوق المصطفى، الإمام القاضي عياض، استانبول، عثمانية. (ص) 166 - صبح الأعشي في صناعة الإنشا، أحمد بن علي القلقشندي، تحقيق محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ - 1987م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 906 167 - الصحابي الشاعر عبد الله بن الزبعرى، تأليف محمد علي كابتي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1999م. 168 - صحيح البخاري، محمد إسماعيل البخاري، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1411هـ - 1991م. 169 - صحيح الجامع الصغير وزيادته، محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1408هـ- 1988م. 170 - صحيح السيرة النبوية للطرهوني، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى 1414هـ. 171 - صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، دار النفائس، الطبعة الثالثة، 1408هـ -1998م. 172 - صحيح سنن ابن ماجة: ناصر الدين الألباني، مكتب التربية العربية لدول الخليج الرياض، الطبعة الثالثة، 1408هـ- 1988م. 173 - صحيح مسلم بشرح النووي، المطبعة المصرية بالأزهر، الطبعة الأولى، 1347هـ- 1929م. 174 - صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان الطبعة الثانية، 1972م. 175 - الصراع مع الصليبين، محمد عبد القادر أبو فارس، دار البشير، طنطا، طبعة عام 1419هـ- 1999م. 176 - الصراع مع اليهود، محمد أبو فارس، دار الفرقان، الطبعة الأولى، 1411هـ- 1990م. 177 - صفة الصفوة لابن الجوزي، تحقيق: محمود خوري، ومحمد قلعجي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية 1399هـ. 178 - صفة الغرباء, سلمان العودة، دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية، 1412هـ- 1991م. 179 - صفوة التفاسير للصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1401هـ. 180 - صلاح الدين الأيوبي، عبد الله علوان. 181 - صلح الحديبية، محمد أحمد باشميل، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1973م - 1393هـ. 182 - صور من حياة الرسول، أمين دويدار، الطبعة الرابعة، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ. 183 - صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، تأليف: د. محمد فوزي فيض الله، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1996م. (ض) 184 - ضوابط المصلحة، محمد رمضان سعيد البوطي، مؤسسة الرسالة ط4، سنة 1402هـ. (ط) 185 - الطاعة والمعصية وأثرهما في المجتمع، محمد بن العثيمين، غزوة أحد. 186 - طبقات الشعراء الجاهليين والإسلاميين، أبو عبد الله محمد بن سلام بن عبد الله الجمحي بدون معلومات نشر. 187 - طبقات ابن سعد الكبرى، محمد بن سعد الزهري، دار صادر، ودار بيروت للطباعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 907 والنشر، 1376هـ- 1957م. 188 - طريق النبوة والرسالة، د. حسين مؤنس، دار الرشاد، الطبعة الثانية، 1418هـ - 1997م. 189 - الطريق إلى المدائن، عادل كمال، دار النفائس، بيروت، لبنان الطبعة الخامسة، 1407هـ- 1987م. 190 - الطريق إلى المدينة، محمد العبده، دار الجوهرة، عمان، الطبعة الثانية، 1999م. 191 - الطريق إلى جماعة المسلمين، حسين بن محسن بن علي جابر، دار الوفاء بالمنصورة في مصر الطبعة الخامسة، 1413هـ-1992م. (ظ) 192 - ظاهرة الإرجاء، سفر الحوالي، مكتبة الطيب، الطبعة الأولى، 1417هـ، القاهرة، مصر. (ع) 193 - العبادة في الإسلام، يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية عشرة، 1405هـ- 1985م. 194 - عبد الله بن مسعود، عبد الستار الشيخ، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية 1410هـ- 1990م. 195 - العبقرية العسكرية في غزوات الرسول، محمد فرج، دار الفكر العربي، القاهرة الطبعة الثالثة، سنة 1977م. 196 - عقيدة أهل السنة في الصحابة، د. ناصر حسن الشيخ، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1413هـ- 1993م. 197 - علاج القرآن الكريم للجريمة، د. عبد الله الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1413هـ. 198 - العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية، د. سعيد عبد الله حارب المهيري، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1416هـ- 1995م. 199 - علاقة الآباء بالأبناء في الشريعة الإسلامية، د. سعاد الصالح، الناشر: تهامة جدة، الطبعة الأولى، 1401هـ. 200 - عمدة التفسير (مختصر ابن كثير) الشيخ أحمد شاكر, مكتبة التراث الإسلامي, 1991م 201 - عمدة القاري، شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني. 202 - العهد والميثاق في القرآن الكريم، د. ناصر العمري، دار العاصمة، الطبعة الأولى، 1413هـ. 203 - عون المعبود، شرح سنن أبي داود، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر بيروت. 204 - عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، ابن سيد الناس، دار المعرفة، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 908 (غ) 205 - الغرباء الأولون، سلمان العودة، الطبعة الثالثة، دار ابن الجوزي، الدمام السعودية عام 1412هـ- 1991م. 206 - غزوة أحد, أحمد عز الدين. 207 - غزوة أحد دراسة دعوية، محمد عيظة بن سعيد بن مذجح، دار إشبيليا، الطبعة الأولى، 1420هـ- 1999م. 208 - غزوة أحد لأبي فارس، محمد عبد القادر أبو فارس، ط1، 1402هـ- 1982م، دار الفرقان، عمان - الأردن. 209 - غزوة الأحزاب, محمد عبد القادر أبو فارس، دار الفرقان، عمان، الطبعة الأولى، 1403هـ- 1983م. 210 - غزوة الأحزاب، محمد أحمد باشميل، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1397هـ- 1977م. 211 - غزوة بدر الكبرى الحاسمة، محمود خطاب. 212 - غزوة بدر الكبرى، محمد أبو فارس، دار الفرقان، الطبعة الأولى، 1402هـ- 1982م. 213 - غزوة بدر الكبرى، محمد أحمد باشميل، طبعة دار الفكر، الطبعة السادسة، سنة 1394هـ. 214 - غزوة تبوك، محمد أحمد باشميل، دار الفكر، بيروت. (ف) 215 - فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 216 - الفتح الرباني، للساعاتي، أحمد عبد الرحمن الساعاتي، في ترتيب مسند الإمام أحمد، أحمد عبد الرحمن الساعاتي، مطبعة الفتح الرباني بالقاهرة، الطبعة الأولى. 217 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية، من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني، دار الفكر. 218 - الفصل في الملل والنحل، لابن حزم، مكتبة السلام العالمية. 219 - فصول في السيرة النبوية، عبد المنعم السيد. 220 - فقه الإسلام، شرح بلوغ المرام، لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد، مطابع الرشيد، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، عام 1403هـ. 221 - فقه الابتلاء محمد أبو صعيليك، دار البيارق، عمان - بيروت، الطبعة الأولى، 1420هـ- 1999م. 222 - فقه التمكين في القرآن الكريم، علي محمد الصلابي، دار البيارق، عمان، الطبعة الأولى، 1999م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 909 223 - فقه الدعوة إلى الله، عبد الحليم محمود، دار الوفاء، الطبعة الأولى، 1410هـ - 1990م. 224 - فقه الدعوة الفردية، د. سيد محمد نوح، دار اقرأ، صنعاء. 225 - فقه الزكاة للقرضاوي، مكتبة وهبة، الطبعة الحادية والعشرون، 1414هـ- 1994م. 226 - الفقه السياسي للوثائق النبوية، خالد الفهداوي، دار عمار، الطبعة الأولى 1419هـ- 1998م. 227 - فقه السيرة النبوية، منير الغضبان، معهد البحوث العلمية وإحياء التراث مكة المكرمة. 228 - فقه السيرة، محمد سعيد رمضان البوطي، الطبعة الحادية عشرة، دار الفكر، دمشق- سوريا، 1991م. 229 - فقه السيرة للغزالي، دار القلم، دمشق، سوريا الطبعة الرابعة، 1409هـ- 1989م. 230 - فلسفة التربية الإسلامية، ماجد عرسان الكيلاني، مكتبة هادي، مكة المكرمة، طبعة عام 1409هـ. 231 - الفوائد لابن القيم، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، دار الريان للتراث، القاهرة مصر، الطبعة الأولى 1407هـ- 1987م. 232 - في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، الدكتور إبراهيم علي محمد أحمد، وزارة الأوقاف بدولة قطر الطبعة الأولى، رجب 1417هـ. 233 - في ظلال السيرة النبوية، الهجرة النبوية، الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس، دار الفرقان، عمان، الأردن، الطبعة الثانية، 1408هـ- 1988م. 234 - في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، الطبعة التاسعة، 1400هـ- 1980م. (ق) 235 - القاموس المحيط، مجد الدين محمد الفيروزآبادي، مطبعة مصطفى البابي وأولاده، بمصر, الطبعة الثانية 1371هـ- 1952م. 236 - قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، دار النفائس بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1416هـ- 1996م. 237 - قصيدة بانت سعاد لكعب بن زهير وأثرها في التراث العربي، تأليف د. السيد إبراهيم محمد، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1406هـ- 1986م. 238 - قضايا في المنهج، سلمان العودة، دار مكتبة القدس، الطبعة الثالثة، 1420هـ- 1999م. 239 - قضايا نساء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنات, حفصة بنت عثمان الخليفي، دار المسلم, الطبعة الأولى، 1418هـ- 1997م. 240 - قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (660 هـ) المكتبة الحسينية المصرية، بجوار الأزهر، الطبعة الأولى، 1353هـ - 1934م. 241 - القول المبين في سيرة سيد المرسلين، د. محمد الطيب النجار، دار اللواء، الرياض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 910 1401هـ- 1981م. 242 - قيادة الرسول السياسية والعسكرية، أحمد راتب عرموش، دار النفائس، الطبعة الأولى 1419هـ- 1989م. 243 - القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، دار القلم، الطبعة الأولى، 1410هـ- 1990م. (ك) 244 - الكامل في التاريخ، لابن الأثير، دار صادر، بيروت. (ل) 245 - لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت. 246 - لقاء المؤمنين، عدنان النحوي، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض - السعودية، الطبعة الثالثة، 1405هـ- 1985م. (م) 247 - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لأبي الحسن الندوي، دار المعارف الطبعة السابعة، 1408هـ- 1988م. 248 - المال في القرآن الكريم، سليمان الحصين، دار المعراج الدولية، الطبعة الأولى، 1415هـ- 1995م. 249 - مباحث في إعجاز القرآن، مصطفى مسلم، دار المسلم، الرياض، الطبعة الثانية، 1416هـ- 1996م. 250 - مباحثات في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم، دار القلم، دمشق، سوريا. 251 - مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثامنة، 1401هـ- 1981م. 252 - مبادئ علم الإدارة، محمد نور الدين عبد الرزاق، مكتبة الخدمات الحديثة، جدة السعودية، الطبعة الأولى، بدون تاريخ. 253 - مبادئ نظام الحكم في الإسلام، عبد الحميد متولي، دار المعارف, الطبعة الأولى. 254 - المبسوط، شمس الدين السرخسي، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأولى. 255 - المجتمع المدني في عهد النبوة، د. أكرم العمري، الطبعة الأولى 1404هـ- 1984م. 256 - مجلة المجتمع الكويتية، عدد رقم 248، 17 صفر 1399هـ. 257 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت الطبعة الثالثة، سنة 1402هـ- 1982م. 258 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن محمد قاسم العاصمي النجدي، المكتب التعليمي السعودي بالمغرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 911 259 - مجموعة الوثائق السياسية، لمحمد حميد الله، دار النفائس، الطبعة الخامسة، 1405هـ- 1985م. 260 - محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، دار الفكر، بيروت. 261 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية، أبي محمد بن عبد الحق بن غالب الأندلسي، تحقيق المجلس العلمي بفاس، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب طبعة 1395هـ. 262 - محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون، دار القلم، الطبعة الثانية، 1415هـ- 1995م. 263 - محمد رسول الله، محمد رشيد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1975م. 264 - محنة المسلمين في العهد المكي، د. سليمان السويكت، مكتبة التوبة, الرياض، الطبعة الأولى، 1412هـ- 1992م. 265 - المختار من كنوز السنة، محمد عبد الله دراز، دار الأنصار القاهرة، الطبعة الثانية 1978م. 266 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية المعطلة، لابن قيم الجوزية، اختصره محمد الموصلي، مكتبة الرياض الحديثة. 267 - مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، لمحمد بن عبد الوهاب، جامعة الإمام محمد بن سعود. 268 - مختصر صحيح مسلم للحافظ زكي المنذري، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق الطبعة الثالثة، سنة 1397هـ- 1977م. 269 - المدخل إلى العقيدة والإستراتيجية العسكرية، محمد جمال الدين علي محفوظ، مطابع الهيئة المصرية للكتاب بالقاهرة. 270 - مدخل لفهم السيرة، د. يحيى اليحيى، أخذها المؤلف من صاحب الكتاب قبل أن يطبعها. 271 - المدرسة النبوية العسكرية لأبي فارس، دار الفرقان، عمان. 272 - المدينة المنورة فجر الإسلام والعصر الراشدي، محمد حسين شراب، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1415هـ- 1994م. 273 - المرأة في العهد النبوي، د. عصمة الدين كركر، دار الغرب الإسلامي، بيروت الطبعة الأولى 1993م. 274 - مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته وأثره على الأمة, خالد أبو صالح، دار الوطن، الطبعة الأولى، 1414هـ. 275 - مرويات غزوة أحد، حسين أحمد الباكري، رسالة ماجستير نوقشت في الجامعة الإسلامية، إشراف، د. أكرم العمري، عام 1399هـ. 276 - مرويات غزوة الحديبية، د. حافظ الحكمي، دار ابن القيم، الطبعة الأولى، 1411هـ - 1991م. 277 - مرويات غزوة بدر، أحمد باوزير، مكتبة طيبة، الطبعة الأولى 1400هـ- 1980م. 278 - مرويات غزوة بني المصطلق، إبراهيم القريبي، طبع المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، عام 1402هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 912 279 - مساجد القاهرة ومدارسها، أحمد فكري، طبعة الإسكندرية، 1961م. 280 - المستدرك على الصحيحين، للإمام أبي عبد الله النيسابوري بذيله التلخيص للذهبي، دار النشر مكتب المطبوعات الإسلامية, طبعة سنة 1390هـ - 1970م. 281 - المستشفيات الإسلامية، د. عبد الله عبد الرزاق، مسعود العيد, دار الضياء للنشر والتوزيع، عمان، الأردن الطبعة الأولى، 1408هـ- 1987م. 282 - المستطرف في كل فن مستطرف، شهاب الدين الأبشيهي، مكتبة الحياة، بيروت. 283 - المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة، عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1418هـ- 1997م. 284 - المسلمون والروم في عصر النبوة، عبد الرحمن أحمد سالم، دار الفكر العربي، طبعة 1418هـ- 1997م. 285 - مسند أبي يعلي الموصلي, الحافظ أحمد بن علي التميمي - دار المأمون للتراث- دمشق, بيروت, ط1. 286 - المسند، أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، بيروت. 287 - المشروع الإسلامي لنهضة الأمة قراءة في فكر حسن البنا، لمجموعة من الباحثين لم تطبع حتى كتابة هذا البحث (1). 288 - مشكاة المصابيح، الخطيب التبريزي المكتب الإسلامي، دمشق، الطبعة الأولى، 1381هـ- 1961م. 289 - مصعب بن عمير، الداعية المجاهد، محمد حسن بريغش، دار القلم، دمشق، الطبعة الرابعة،   (1) طبع فيما بعد بعنوان: حول أساسيات المشروع الإسلامي لنهضة الأمة -قراءة في فكر الإمام الشهيد حسن البنا- المركز الإسلامي للدراسات والبحوث - إعداد أ. د. عبد الحميد الغزالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 913 1407هـ- 1987م. 290 - مصنف عبد الرزاق، لأبي بكر عبد الزراق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى. 291 - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: أحمد حجر العسقلاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. 292 - معارك خالد بن الوليد، د. ياسين سويد، المؤسسة العربية للدارسة والنشر الطبعة الرابعة، 1989م. 293 - معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، د. مصطفى مسلم محمد، دار المسلم، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ- 1994م. 294 - المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، د. محمد الديك،، دار الفرقان للنشر والتوزيع, الطبعة الثانية، 1418هـ- 1997م. 295 - معجم البلدان، الياقوت الحموي، دار صادر، ودار بيروت، 1404هـ-1984م. 296 - معجم الطبراني، سليمان بن أحمد الطبراني، دار العربية، بغداد، 1398هـ. 297 - المعجم الكبير لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني, م:260هـ- ت360هـ، دار مكتبة العلوم والحكم، طبعة 2، 1406هـ- 1985م. 298 - معركة الوجود بين القرآن والتلمود، عبد الستار فتح الله سعيد، مكتبة المنار. 299 - المعوقون للدعوة الإسلامية في عهد النبوة وموقف الإسلام منها، د. سميرة محمد جمجوم، دار المجتمع جدة، الطبعة الأولى، 1407هـ- 1987م. 300 - المغازي النبوية، تحقيق سهيل زكار، للزهري، دار الفكر، دمشق، 1401 - 1981م. 301 - مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، عروة بن الزبير، تحقيق: د. محمد الأعظمي، نشر: مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، الطبعة الأولى، 1401هـ- 1981م. 302 - المغازي للواقدي، محمد عمر بن واقد المتوفي 207هـ، تحقيق د. مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة، 1404هـ- 1984م. 303 - مفاهيم ينبغي أن تصحح، محمد قطب، دار الشروق, القاهرة، الطبعة الثامنة، 1413هـ- 1993م. 304 - المفصل في أحكام النساء، عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1413هـ - 1993م. 305 - مقاصد الشريعة الإسلامية، د. محمد سعد اليوبي، دار الهجرة، الرياض، الطبعة الأولى، 1418هـ- 1998م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 914 306 - المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، يوسف حامد العالم، الدار العلمية للكتاب الإسلامي، ط2، سنة 1415هـ - 1993م، الرياض. 307 - مقدمة ابن الصلاح وشرحها، للحافظ العراقي، طبع دار الكتب العلمية بيروت، لبنان. 308 - مقدمة ابن خلدون، للعلامة عبد الرحمن بن خلدون، ط، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة بدون تاريخ. 309 - مقومات الداعية الناجح، د. علي بادحدح، دار الأندلس الخضراء، جدة، الطبعة الأولى، 1417هـ- 1996م. 310 - مقومات السفراء في الإسلام، حسن فتح الباب، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة 1970م. 311 - مقومات النصر، د. أحمد أبو الشباب, المكتبة العصرية، لبنان 1420هـ- 1999م. 312 - مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول للأستاذ أحمد الشريف. 313 - ملامح الشورى في الدعوة الإسلامية، عدنان النحوي، الطبعة الثانية. 314 - من معين السيرة، صالح أحمد الشامي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1413هـ- 1992م. 315 - من هدي سورة الأنفال، محمد أمين المصري، طبع مكتبة دار الأرقم، الكويت. 316 - المنافقون، محمد جميل غازي، مكتبة المدني ومطبعتها، جدة، السعودية 1972م. 317 - منامات الرسول صلى الله عليه وسلم، عبد القادر الشيخ إبراهيم، دار القلم العربي، بحلب، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1999م. 318 - مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم، د. عبد الرحمن البر، دار اليقين المنصورة، الطبعة الأولى، 1420هـ- 1999م. 319 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لأبي الفرج بن الجوزي، دراسة وتحقيق محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان. 320 - منهاج السنة النبوية، لابن تيمية مؤسسة قرطبة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1416هـ- 1986م. 321 - المنهاج القرآني في التشريع، عبد الستار فتح الله سعيد، مطابع دار الطباعة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1413هـ، 1992م. 322 - منهج الإعلام الإسلامي في صلح الحديبية، سليم حجازي، دار المنارة، الطبعة الأولى، 1406هـ- 1986م. 323 - منهج الإسلام في تزكية النفس، د. أنس أحمد كرزون، دار نور المكتبات، دار ابن حزم، الطبعة الثانية، 1418هـ- 1997م. 324 - المنهج التربوي للسيرة النبوية- التربية الجهادية، منير الغضبان، مكتبة المنار، الطبعة الأولى، 1411هـ- 1991م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 915 325 - منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، دار الشروق، الطبعة الخامسة، 1403هـ- 1983م. 326 - المنهج الحركي للسيرة النبوية، منير الغضبان، مكتبة المنار، الأردن الطبعة الثالثة 1411هـ - 1990م. 327 - منهج الرسول في غرس الروح الجهادية في نفوس الصحابة، السيد محمد نوح، نشرته جامعة الإمارات العربية المتحدة, الطبعة الأولى، 1411هـ - 1990م. 328 - الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة والقرآن، للإمام ابن القيم الجوزية، تحقيق: مجدي فتحي السيد. 329 - الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق إبراهيم موسى اللخمي الشهير بالشاطبي، دار الفكر، 1341هـ. 330 - الموسوعة في سماحة الإسلام، محمد الصادق عرجون، الدار السعودية للنشر والتوزيع جدة ط الثانية 1404هـ.- 1984م (ن) 331 - نشأة الدولة الإسلامية، د. عون الشريف قاسم، دار الكتب اللبناني، بيروت، ط2، 1400هـ - 1980م. 332 - نصب الراية في أحاديث الهداية، بحاشية بغية الألمعي في تخريج الزيلعي، عبد الله ابن يوسف بن محمد الزيلعي, المكتب الإسلامي، دمشق، 1393هـ. 333 - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، إعداد مجموعة من المختصين بإشراف صالح بن حميد، دار الوسيلة، الطبعة الأولى 1418هـ. 334 - نظام الحكم، في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي، دار النفائس، الطبعة السادسة، 1411هـ- 1990م. 335 - نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية، محمد عبد الحي الكتاني، دار الأرقم، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية. 336 - النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس، دار الفرقان، الطبعة الثانية 1407هـ- 1986م. 337 - نظرات في رسالة التعاليم, محمد عبد الله الخطيب, محمد عبد الحليم حامد، دار التوزيع والنشر الإسلامية, مصر 1995. 338 - نظرات في السيرة للإمام حسن البنا، سجلها وأعدها للنشر أحمد عيسى عاشور، مكتبة الاعتصام، القاهرة، الطبعة الأولى، 1399هـ- 1979م. 339 - نفوس ودروس في إطار التصوير القرآني، توفيق محمد سبع، مجمع البحوث الإسلامية القاهرة، مصر الطبعة الأولى، بدون تاريخ. 340 - النكت والعيون (تفسير الماوردي)، لأبي الحسن علي بن حبيب الماوردي، تحقيق خضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 916 محمد خضر - نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية والتراث الإسلامي، بالكويت. 341 - النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير, تحقيق طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي ط/ المكتبة الإسلامية 1385هـ. 342 - نور اليقين، محمد الخضري، دار القلم، دمشق، سوريا. 343 - نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، محمد بن علي الشوكاني، دار الحديث، القاهرة. (هـ) 344 - الهجرة الأولى في الإسلام، د. سليمان العودة، دار طيبة للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 1419هـ. 345 - هجرة الرسول وصحابته في القرآن والسنة، أحمد عبد الغني النجولي الجمل، دار الوفاء، الطبعة الأولى، 1409هـ- 1989م. 346 - الهجرة النبوية المباركة، د. عبد الرحمن البر، دار الكلمة، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1418هـ - 1997م. 347 - الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون جزولي، مكتبة الرشد الرياض، الطبعة الأولى، 1417هـ- 1996م. 348 - هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يا محب، لأبي بكر الجزائري، مكتبة لينة. 349 - هذا الدين، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة الرابعة، 1412هـ-1992م. (و) 350 - واقعنا المعاصر، لمحمد قطب، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، جدة الطبعة الثانية، 1408هـ- 1987م. 351 - الوحي والرسالة، د. يحيى اليحيى، أخذت من المؤلف صورة قبل الطبع. 352 - الوسطية في القرآن الكريم، علي محمد الصلابي، دار النفائس، دار البيارق، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1999م. 353 - وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، أبو الحسن بن عبد الله السمهوري، دار المصطفى، طبعة القاهرة، 1326هـ. 354 - الوفود في العهد المكي وأثره الإعلامي، لعلي رضوان أحمد الأسطل، دار المنار، الأردن عمان الطبعة الأولى 1404هـ - 1984م. 355 - وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد، دار طيبة، الرياض، الطبعة الثالثة، 1417هـ- 1997م. 356 - وقفات تربوية من السيرة النبوية، عبد الحميد البلالي، المنار، الكويت, الطبعة الثالثة، 1411هـ - 1991م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 917 357 - الولاء والبراء في الإسلام، محمد سعيد القحطان، دار طيبة الرياض، الطبعة السادسة، 1413هـ. 358 - ولاية الشرطة في الإسلام، نمر محمد الحميداني، دار عالم الكتب، الطبعة الثانية، 1414هـ- 1994م. (ي) 359 - يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر الجنة والنار، لصديق حسن. 360 - اليهود في السنة المطهرة، د. عبد الله الشقاري، دار طيبة، الرياض، طبعة أولى، 1417هـ- 1996م. 361 - اليوم الآخر في الجنة والنار، د. عمر الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الثانية، 1408هـ- 1988م. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 918