الكتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد المؤلف: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (المتوفى: 1285هـ) المحقق: محمد حامد الفقي الناشر: مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، مصر الطبعة: السابعة، 1377هـ/1957م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ الكتاب: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد المؤلف: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (المتوفى: 1285هـ) المحقق: محمد حامد الفقي الناشر: مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، مصر الطبعة: السابعة، 1377هـ/1957م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... فتح المجيد شرح كتاب التوحيد تأليف: عبد الله بن حسن آل الشيخ تحقيق: محمد حامد الفقي بسم الله الرحمن الر حيم مفدمة الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين كالمبتدعة والمشركين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه أجمعين. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإن كتاب التوحيد الذي ألفه الإمام شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب"1 أجزل الله له الأجر والثواب، وغفر له ولمن أجاب دعوته إلي يوم يقوم الحساب قد جاء بديعا في معناه: من بيان التوحيد ببراهينه، وجمع جملا من أدلته لإيضاحه وتبيينه. فصار علما للموحدين، وحجة على الملحدين. فانتفع به الخلق الكثير، والجم الغفير. فإن هذا الإمام -رحمه الله- في مبدأ منشئه قد شرح الله صدره للحق المبين، الذي بعث الله به المرسلين: من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين، وإنكار ما كان عليه الكثير من شرك المشركين، فأعلى الله همته، وقوى عزيمته، وتصدى لدعوة أهل نجد إلى التوحيد، الذي هو أساس الإسلام والإيمان، ونهاهم عن عبادة الأشجار والأحجار والقبور، والطواغيت والأوثان، وعن الإيمان بالسحرة والمنجمين والكهان، فأبطل الله بدعوته كل بدعة وضلالة يدعو إليها كل شيطان، وأقام الله به علم الجهاد، وأدحض به شبه المعارضين من أهل الشرك والعناد، ودان بالإسلام أكثر أهل تلك البلاد، الحاضر منهم والباد، وانتشرت دعوته ومؤلفاته في الآفاق، حتى أقر له بالفضل من كان من أهل الشقاق، إلا من استحوذ عليه الشيطان، وكره إليه الإيمان، فأصر على العناد والطغيان. وقد أصبح أهل جزيرة العرب بدعوته، كما قال قتادة -رحمه الله- عن حال أول هذه الأمة: "إن المسلمين لما قالوا: "لا إله إلا الله" أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم، وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها ويظهرها، ويفلجها وينصرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير من الدهر في فئام من الناس، لا يعرفونها ولا يقرون بها".   1 ولد في العيينة سنة 1115 وتوفي بالدرعية سنة 1206 رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وقد شرح الله صدور كثير من العلماء لدعوته، وسروا واستبشروا بطلعته، وأثنوا عليه نثرا ونظما. فمن ذلك ما قاله عالم صنعاء: محمد بن إسماعيل الأمير1 في هذا الشيخ -رحمه الله تعالى-: وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن بالأيدي وقال شيخنا عالم الأحساء أبو بكر حسين بن غنام -رحمه الله تعالى- فيه: 2 لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلى الضلال ويرفع سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى ... وعام بتيار المعارف يقطع فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... وأوهى به من مطلع الشرك مهيع سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... سواه ولا حاذى فناها سميذع وشمر في منهاج سنة أحمد ... يشيد ويحيي ما تعفى ويرفع يناظر بالآيات والسنة التي ... أمرنا إليها في التنازع نرجع فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... وأمسى محياها يضيء ويلمع   1 ولد بصنعاء سنة 1059 وتوفي في شعبان سنة 1182 وكان إماما جليلا, له المؤلفات الكثيرة النافعة, منها: سبل السلام شرح بلوغ المرام, ومنحة الغفار على ضوء النهار, والعدة على شرح العمدة لابن دقيق العيد, وشرح التنقيح في علوم الحديث. 2 قالها في رثاء الشيخ رحمه الله, وهي تسعة وثلاثون بيتا مذكورة بتمامها في كتاب "عنوان المجد في تاريخ نجد" في حوادث سنة 1206 (ج1 ص95) توفي ابن غنام سنة 1225 وله ترجمة في عنوان المجد (ج1 ص149) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وعاد به نهج الغواية طامسا ... وقد كان مسلوكا به الناس ترتع وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتلمع وأما كتابه المذكور فموضوعه في بيان ما بعث به الله رسله: من توحيد العبادة، وبيانه بالأدلة من الكتاب والسنة، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر، أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر ونحوه، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه. وقد تصدى لشرحه حفيد المصنف، وهو الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله تعالى-1 فوضع عليه شرحا أجاد فيه وأفاد، وأبرز فيه من البيان ما يجب أن يطلب منه ويراد، وسماه "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد". وحيث أطلق "شيخ الإسلام" فالمراد به أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، و "الحافظ" فالمراد به أحمد بن حجر العسقلاني. ولما قرأت شرحه رأيته أطنب في مواضع، وفي بعضها تكرار يستغنى بالبعض منه عن الكل ولم يكمله، فأخذت في تهذيبه وتقريبه وتكميله، وربما أدخلت فيه بعض النقول المستحسنة تتميما للفائدة، وسميته "فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد". وأسأل الله أن ينفع به كل طالب للعلم ومستفيد، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وموصلا من سعى فيه إلى جنات النعيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال المصنف رحمه الله تعالى:   1 كان عالما فاضلا بارعا في الحديث والتفسير والفقه, آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر, صادق الاتصال بالله, قتل -رحمه الله- في آخر سنة 1233، وشى به بعض المنافقين إلى إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا بعد دخوله الدرعية واستيلائه عليها, فأحضره إبراهيم، وأظهر بين يديه آلات اللهو والمنكر إغاظة للشيخ, ثم أخرجه إلى المقبرة وأمر العساكر أن يرموه بالرصاص جميعا فمزقوا جسمه -رحمه الله ورضي عنه-. اهـ. (عنوان المجد ج1 ص210) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 "بسم الله الرحمن الرحيم" ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، وعملا بحديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الر حيم فهو أقطع " 1 أخرجه ابن حبان من طريقين. قال ابن الصلاح: " والحديث حسن" 2. ولأبي داود وابن ماجه: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله، أو بالحمد فهو أقطع " 3. ولأحمد: " كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله، فهو أبتر أو أقطع " 4. وللدارقطني عن أبي هريرة مرفوعا: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع " 5. والمصنف قد اقتصر في بعض نسخه على البسملة، لأنها من أبلغ الثناء والذكر للحديث المتقدم. وكان النبي صلي الله عليه وسلم يقتصر عليها في مراسلاته، كما في كتابه لهرقل عظيم الروم6. ووقع لي نسخة بخطه -رحمه الله تعالى- بدأ فيها بالبسملة، وثنى بالحمد والصلاة على النبي صلي الله عليه وسلم وآله. وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقي، وبالحمدلة نسبي إضافي، أي بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءا به. والباء في "بسم الله" متعلقة بمحذوف، واختار كثير من المتأخرين كونه فعلا خاصا متأخرا. أما كونه فعلا؛ فلأن الأصل في العمل للأفعال. وأما كونه خاصا؛ فلأن كل مبتدئ بالبسملة في أمر يضمر ما جعل البسملة مبدأ له. وأما كونه متأخرا، فلدلالته على الاختصاص، وأدخل في التعظيم، وأوفق للوجود; ولأن أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى. وذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- لحذف العامل فوائد، منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه غير ذكر الله. ومنها: أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول وحركة، فكان الحذف أعم. انتهى ملخصا. وباء "بسم الله" للمصاحبة. وقيل: للاستعانة. فيكون التقدير: بسم الله أؤلف حال   1 أبو داود: الأدب (4840) , وابن ماجه: النكاح (1894) . 2 ضعيف جدا: الحديث بهذا اللفظ ليس عند ابن حبان، وإنما الذي عنده بلفظ: "بحمد الله" رقم [ (1) , (2) - الإحسان] وسيأتي تخريجه عند أبي داود وابن ماجة. وإنما أخرجه بهذا اللفظ: الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1210) ومن طريقه السمعاني في أدب الإملاء ص (51) , ورواه السبكي في طبقات الشافعية (1/6) من طريق الرهاوي الذي أخرجه هو أيضا في الأربعين له كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم. وهو حديث ضعيف جدا ضعفه الحافظ كما نقله عنه صاحب الفتوحات الربانية (3/290) . وضعفه السيوطي في الجامع بهذا اللفظ وحسنه بلفظ: "بحمد الله". وقال الألباني في الإرواء رقم (1) "ضعيف جدا ولا تغتر بمن حسنه". اهـ. 3 ضعيف: أبو داود: كتاب الأدب (4840) : باب الهدى في الكلام. وابن ماجة: كتاب النكاح (1894) : باب خطبة النكاح وفي رواية أبي داود: "بالحمد فهو أجذم" وأشار إلى أنه مرسل, ومع ذلك فقد حسنه ابن الصلاح والنووي والعراقي، وأما الحافظ في الفتح (1/8) فأشار إلى أن في إسناده مقالا. وضعفه الألباني في الإرواء برقم (2) . 4 ابن ماجه: النكاح (1894) , وأحمد (2/359) . 5 ضعيف: أحمد (2/359) . والدارقطني (1/229) وأشار إلى أنه مرسل والحديث هو نفسه الرواية التي مرت بتخريج رقم [2] . 6 رواه البخاري في حديث أبي سفيان الطويل الذي رواه عن ابن عباس في كتاب بدء الوحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   كوني مستعينا بذكره، متبركا به. وأما ظهوره في: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} 1 وفي: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} 2؛ فلأن المقام يقتضي ذلك كما لا يخفى. والاسم مشتق من السمو وهو العلو. وقيل: من الوسم وهو العلامة؛ لأن كل ما سمي فقد نوه باسمه ووسم. قوله: "الله" قال الكسائي والفراء: أصله الإله، حذفوا الهمزة، وأدغموا اللام في اللام، فصارتا لاما واحدة مشددة مفخمة. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: الصحيح: أنه مشتق، وأن أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ. وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى. والذين قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى. وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم والقدير، والسميع، والبصير; ونحو ذلك. فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه: أصلا وفرعا، ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة. قال أبو جعفر ابن جرير: "الله" أصله "الإله" أسقطت الهمزة التي هي فاء الاسم فالتقت اللام التي هي عين الاسم واللام الزائدة وهي ساكنة فأدغمت في الأخرى، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة. وأما تأويل "الله" فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس قال: "هو الذي يألهه كل شيء ويعبده كل خلق ". لما وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: " الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ". فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الألوهية هي العبادة وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلا في فعل ويفعل، وذكر بيت رؤبة بن العجاج3:   1 سورة العلق آية: 1. 2 سورة هود آية: 41. 3 كذا في الأصل، والعبارة ناقصة. ونصها: فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في فعل ويفعل أصل كان منه بناء هذا الاسم؟ قيل: أما سماعا من العرب فلا، ولكن استدلالا. فإن قال: وما دل على أن الألوهية هي العبادة وأن الإله هو المعبود, وأن له أصلا في فعل يفعل؟ قيل: لا تمانع العرب في الحكم لقول القائل يصف رجلا بعبادة الله ويطلب مما عند الله: "تأله فلان" بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة. إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 لله در الغانيات المده ... سبحن واسترجعن من تألهي1" يعني من تعبدي وطلبي الله بعملي. ولا شك أن التأله التفعل، من أله يأله، وأن معنى "أله" إذا نطق به: عبد الله. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بفعل يفعل بغير زيادة. وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع وساق السند إلى ابن عباس: "أنه قرأ {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} "3" قال: عبادتك. ويقول: إنه كان يعبد ولا يعبد ". وساق بسند آخر عن ابن عباس: "ويذرك وآلهتك. قال: إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد". وذكر مثله عن مجاهد، ثم قال: فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أن "أله" "عبد" وأن الإلهة مصدره، وساق حديثا عن أبي سعيد مرفوعا: 2 " أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه. فقال له المعلم: اكتب بسم الله. فقال عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة ". قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية، وساقها. ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق صلي الله عليه وسلم: 3 " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد، وكل ثناء وكل مجد، وكل جلال وكل كمال، وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان وجود وفضل وبر فله ومنه؟ فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه. فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات،   1 قال في اللسان: مدهه يمدهه مدها, مثل مدحه, والجمع: المده, أي المستحقات المدح لحسنهن وجمالهن. والتأله: التنسك والتعبد. واسترجعن: قلن إنا لله وإنا إليه راجعون. 2 موضوع: ابن جرير (1/42) . وسيورده المؤلف أيضا مرفوعا بلفظ "إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا, والرحيم رحيم الآخرة" وهو عند ابن جرير أيضا والحديث موضوع. قال ابن عدي كما في الميزان (1/153) : باطل وحكم ابن الجوزي بوضعه في كتابه الموضوعات (1/203 , 204) . وأقره السيوطي في اللآلي (1/172) . وابن عراق في تنزيه الشريعة (1/231) . والشوكاني في الفوائد المجموعة (1374) . 3 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وتستجلب به الحسنات. وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسماوات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه خقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور، وبه الخصام وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد من عرفه وقام بحقه، وبه شقي من جهله وترك حقه; فهو سر الخلق والأمر. وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا، فالخلق به وإليه ولأجله. فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئا منه ومنتهيا إليه. وذلك موجبه ومقتضاه {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1 إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-. قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 2 قال ابن جرير: حدثني السري بن يحيى حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي يقول: "الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين". وساق بسنده عن أبي سعيد - يعني الخدري - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم3 " إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا. والرحيم: رحيم الآخرة " 4. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: 5 " فاسمه "الله" دل على كونه مألوها معبودا. يألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، ومفزعا إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله؛ إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أقواله وأفعاله. فصفات الجلال والجمال أخص باسم "الله"، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع "العطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب"، وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم "الرحمن". وقال -رحمه الله- أيضا: " "الرحمن" دال على الصفة القائمة به سبحانه. "والرحيم" دال   1 سورة آل عمران آية: 191. 2 سورة الفاتحة آية: 1. 3 قطعة من حديث لعائشة رضي الله عنها ص11 لا أحصي ثناء. رواه مسلم: كتاب الصلاة (486) (222) : باب ما يقال في الركوع والسجود. 4 تقدم تخريجه برقم [4] ص 12 وهو موضوع حديث عيسى عليه الصلاة والسلام. 5 في مدارج السالكين (ج1 ص18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 على تعلقها بالمرحوم. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 1 {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2 ولم يجئ قط رحمان بهم". وقال: "" إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت.، فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، فمن حيث هو صفة جرى تابعا لاسم الله ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع; بل ورد الاسم العلم كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3". انتهى ملخصا. الحمد لله، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم4. قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} معناه الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم. فمورده: اللسان والقلب. والشكر يكون باللسان والجنان والأركان. فهو أعم من الحمد متعلقا، وأخص منه سببا; لأنه يكون في مقابلة النعمة، والحمد أعم سببا وأخص متعلقا; لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها. فبينهما عموم وخصوص وجهي، يجتمعان في مادة وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة. قوله: "وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم" أصح ما قيل في معنى صلاة الله على عبده: ما ذكره البخاري -رحمه الله تعالى- عن أبي العالية قال: " صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة ". وقرره ابن القيم -رحمه الله- ونصره في كتابيه: "جلاء الأفهام"، و"بدائع الفوائد". قلت: وقد يراد بها الدعاء، كما في المسند عن علي مرفوعا: " الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له الله ارحمه "5. قوله: "وعلى آله" أي أتباعه على دينه، نص عليه الإمام أحمد هنا وعليه أكثر الأصحاب. وعلى هذا فيشمل الصحابة وغيرهم من المؤمنين 6.   1 سورة الأحزاب آية: 43. 2 سورة التوبة آية: 117. 3 سورة طه آية: 5. 4 هذه الجملة في بعض النسخ دون بعض. 5 صحيح , ص 13 قول علي رضي الله عنه. أحمد (1/144) . وقال الهيثمي في المجمع (2/36) : "وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة لكنه اختلط في آخر عمره" ا. هـ. والحديث صحيح ثابت من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري: كتاب الأذان (659) : باب من جلس ينتظر الصلاة وفضل المساجد. ومسلم: كتاب المساجد (649) (273) : باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة. 6 انظر تفصيل ذلك في كتاب: "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام" للعلامة المحقق ابن القيم -رحمه الله-، فإنه استوفى المذاهب في ذلك, وبين الحق فيها, وأن المراد من الآل أتباعه الذين آمنوا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 باب: كتاب التوحيد ... كتاب التوحيد كتاب: مصدر كتب يكتب كتابا وكتابة وكتبا، ومدار المادة على الجمع. ومنه: تكتب بنو فلان، إذا اجتمعوا. والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف. وسمي الكتاب كتابا: لجمعه ما وضع له. والتوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: " وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد. فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح; كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك. النوع الثاني: ما تضمنته سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2. وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها. وأول سورة المؤمن ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن. بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، شاهدة به داعية إليه. فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري. وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو   1 سورة الكافرون آية: 1. 2 سورة آل عمران آية: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 جزاء توحيده. وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم". انتهى. قال شيخ الإسلام: " التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله، لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله. وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1، وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 3، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4. وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 5، وقال عن المشركين: " {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} 6، {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 7 وهذا في القرآن كثير. وليس المراد بالتوحيد: مجرد توحيد الربوبية. وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف. ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد. وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد، فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، و"الإله" هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة. وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع. فإذا فسر المفسر "الإله" بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله. وجعل   1 سورة البقرة آية: 163. 2 سورة النحل آية: 51. 3 سورة المؤمنون آية: 117. 4 سورة الزخرف آية: 45. 5 سورة الممتحنة آية: 4. 6 سورة الصافات آية: 35. 7 سورة الصافات آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 إثبات هذا هو الغاية في التوحيد - كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه - لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلي الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء. وكانوا مع هذا مشركين. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1. قالت طائفة من السلف: "تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله. وهم مع هذا يعبدون غيره2 ". قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَقُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3، فليس كل من أقر بأن الله تعالي رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه، داعيا له دون ما سواه، راجيا له خائفا منه دون ما سواه، يوالي فيه ويعادي فيه، ويطيع رسله ويأمر بما أمر به، وينهى عما نهى عنه. وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أندادا. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُون قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 6، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 7. ولهذا كان أتباع هؤلاء8 من يسجد   1 سورة يوسف آية: 106. 2 ذكره ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. 3 سورة المؤمنون آية: 84-85-86-87-88-89. 4 سورة الزمر آية: 43-44. 5 سورة يونس آية: 18. 6 سورة الأنعام آية: 94. 7 سورة البقرة آية: 165. 8 أي ممن يزعمون معرفة التوحيد على هذا المعنى, ككثير ممن ينتسبون إلى الإسلام, ويشتغل بالسحر الذي هو عبادة الكواكب والشياطين بأنواع العزائم والبخور، وذبح الحيوان الأسود أو الأحمر وغير ذلك مما سيأتي تفصيله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 للشمس والقمر والكواكب ويدعوها، ويصوم وينسك لها ويتقرأ إليها1. ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي، فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك"". انتهى كلامه. وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 قوله: " وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} " بالجر عطف على التوحيد؛ ويجوز الرفع على الابتداء. قال شيخ الإسلام: " العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل". وقال أيضا: " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة". قال ابن القيم: " ومدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية". وبيان ذلك: أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح. وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح. وقال القرطبي: " أصل العبادة التذلل والخضوع، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى"". ومعنى الآية: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، فهذا هو الحكمة في خلقهم. قلت: وهي الحكمة الشرعية الدينية. قال العماد ابن كثير: " وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور. وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى، المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع". انتهى. وقال أيضا في تفسير هذه الآية: ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له. فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير   1 أي يذبح لها الذبائح, ويصنع الأطعمة, كما يفعل الحاج لبيت الله من المناسك. 2 سورة الذاريات آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 محتاج إليهم، بل هم الفقراء في جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم. وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في الآية: " إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي"?. وقال مجاهد: "إلا لآمرهم وأنهاهم" اختاره الزجاج وشيخ الإسلام. قال: ويدل على هذا قوله: {أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 1. قال الشافعي: "لا يؤمر ولا ينهى". وقال في القرآن في غير موضع: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} ، فقد أمرهم بما خلقوا له وأرسل الرسل بذلك. وهذا المعنى هو الذي قصد بالآية قطعا، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه. قال: وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ} 2. ثم قد يطاع وقد يعصى. وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول: وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم. الثاني: وهو عبادته، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم. انتهى. ويشهد لهذا المعنى: ما تواترت به الأحاديث. فمنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتديا بها؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك - أحسبه قال: ولا أدخلك النار - فأبيت إلا الشرك " 3 فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه: من توحيده وأن لا يشرك به شيئا، فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره. وهذه هي الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم. فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في حق المخلص المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي. فافهم ذلك تنج من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم. وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4. قال: وقوله: " {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} "   1 سورة القيامة آية: 36. 2 سورة النساء آية: 64. 3 رواه الإمام أحمد والبخاري. 4 سورة النحل آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "الطاغوت الشيطان"1. وقال جابر رضي الله عنه: "الطاغوت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين" رواهما ابن أبي حاتم. وقال مالك: "الطاغوت كل ما عبد من دون الله". قلت: وذلك المذكور بعض أفراده، وقد حده العلامة ابن القيم حدا جامعا فقال: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده: من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله. فهذه طواغيت العال، م إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته. وأما معنى الآية: فأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولا بهذه لكلمة: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي أعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 2. وهذا معنى "لا إله إلا الله" فإنها هي العروة الوثقى. قال العماد ابن كثير في هذه الآية: "" كلهم - أي الرسل - يدعو إلى عبادة الله وينهى عن عبادة ما سواه، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلي الله عليه وسلم، الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ   1 ذكره ابن كثير عن حسان بن قائد العبيسي عن عمر قال: "إن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان, وإن الشجاعة والجبن تكون غرائز في الرجال" إلخ. ثم قال الحافظ: ومعنى قوله في الطاغوت "أنه الشيطان" قوي جدا, فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان, والتحاكم إليها, والاستنصار بها. وكذلك رواه ابن جرير. 2 سورة البقرة آية: 256. 3 سورة الأنبياء آية: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} 2 فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسن رسله، وأما مشيئته الكونية - وهي تمكينهم من ذلك قدرا - فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} انتهى. قلت: وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها. وذلك قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} فتدبر. ودلت هذه الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل، دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين وإن اختلفت شريعتهم. كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} 3، وأنه لا بد في الإيمان من عمل القلب والجوارح. قال: قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 4 قال مجاهد: "قضى" يعني وصى. وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم. ولابن جرير عن ابن عباس: "وقضى ربك، يعني أمر". وقوله تعالى: {أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} المعنى، أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معنى "لا إله إلا الله". قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والنفي المحض ليس توحيدا، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات. وهذا هو حقيقة التوحيد. وقوله: " {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} " أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قضى، بعبادته وحده لا شريك له. كما قال تعالى في الآية الأخرى {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً َاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} 5. {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} 6.   1 سورة النحل آية: 36. 2 سورة النحل آية: 35. 3 سورة المائدة آية: 48. 4 سورة الإسراء آية: 23. 5 سورة الإسراء آية: 23-24. 6 سورة لقمان آية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وقوله: " {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} " أي لا تسمعهما قولا سيئا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء {وَلا تَنْهَرْهُمَا} أي لا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء ابن أبي رباح: " لا تنفض يديك عليهما". ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول الحسن فقال: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} أي لينا طيبا بأدب وتوقير. وقوله: {اخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي تواضع لهما {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} أي في كبرهما وعند وفاتهما {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} . وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها: الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: آمين، آمين، آمين. فقالوا: يا رسول الله على ما أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد، رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت آمين " 1. وروى الإمام   1 أخرجه عن أنس: ابن أبي شيبة والبزار في مسنديهما من طريق سلمة بن وردان عنه, وسلمة ضعيف. ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد، وابن حبان في ثقاته وصحيحه, والطبراني في الكبير, والبخاري في بر الوالدين, والبيهقي في شعب الإيمان, والضياء المقدسي في المختارة, كلهم عن كعب بن عجرة, ورجاله ثقات. وأخرجه ابن حبان في الصحيح والثقات والطبراني ورجاله ثقات عن مالك بن الحويرث, ورواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في تهذيبه والدارقطني في الأفراد. وأشار إليه الترمذي وأخرجه النسائي وابن السني في اليوم والليلة، والضياء المقدسي في المختارة, كلهم عن جابر بن عبد الله. وأخرجه البزار والطبراني عن عمار بن ياسر. وأخرجه البزار عن ابن مسعود. وأخرجه الطبراني عن ابن عباس وأبي ذر. وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة وهو عند البيهقي في الدعوات مختصرا. وعند الترمذي وأحمد وقال الترمذي: حسن غريب. وأخرجه الدارقطني في الأفراد، والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة, وأخرجه البزار والطبراني وابن أبي عاصم عن عبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم: " رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه، أحدهما أو كلاهما، لم يدخل الجنة " 1. قال العماد ابن كثير: صحيح من هذا الوجه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر; قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين. وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت " 2 رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " رضى الرب في رضى الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين " 3 رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم. عن أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: " بينا نحن جلوس عند النبي صلي الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما " 5 رواه أبو داود وابن ماجه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا. وقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 6?قال العماد ابن كثير -رحمه الله-   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2551) , وأحمد (2/346) . 2 البخاري: الأدب (5976) , ومسلم: الإيمان (87) , والترمذي: البر والصلة (1901) وتفسير القرآن (3019) , وأحمد (5/36 ,5/38) . 3 البخاري: كتاب الأدب (5976) : باب عقوق الوالدين من الكبائر. ومسلم: كتاب الإيمان (87) (143) : باب بيان الكبائر وأكبرها. الترمذي كتاب البر والصلة (1899) : باب الفضل في رضا الوالدين وابن حبان (2026 - موارد) . والحاكم (4/151 , 152) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي قال الألباني في الصحيحة (2/30) : "وهو كما قالا". وقال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (12/13) : "وسنده صحيح" والحق أن الحديث إسناده ضعيف. فإن في إسناده عطاء العامري وهو مجهول الحال ما روى عنه غير ابنه يعلى كما قال أبو الحسن القطان كما في التهذيب (7/220) . وقال الذهبي في الميزان (3/78) : "لا يعرف إلا بابنه". وفي التقريب (2/23) : "مقبول". ولم يرو له مسلم بل روى له البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي والنسائي. 4 سورة النساء آية: 36. 5 أبو داود: الأدب (5142) , وابن ماجه: الأدب (3664) . 6 قال في قرة العيون: وهذه الآية تبين العبادة التي خلقوا لها أيضا. فإنه تعالى قرن الأمر بالعبادة التي فرضها بالنهي عن الشرك الذي حرمه، وهو الشرك في العبادة فدلت هذه الآية على أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة فلا تصح بدونه أصلا كما قال تعالى: 88: 6 (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) ، وقال تعالى: 39: 65 , 66 (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) فتقديم المعمول يفيد الحصر أي بل الله فاعبده وحده لا غيره، كما في فاتحة الكتاب: (إياك نعبد وإياك نستعين) , وقرر تعالى هذا التوحيد بقوله: 11: 39 (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) , والدين هو العبادة بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه, كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني وتقدم أن أصله وأساسه توحيد العبادة فلا تغفل عما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 في هذه الآية: "" يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه في جميع الحالات، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته"". انتهى. وهذه الآية هي التي تسمى آية الحقوق العشرة، وفي بعض النسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود الآتي لآية الأنعام، ليكون ذكره بعدها أنسب. وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1 الآيات2.   1 سورة الأنعام آية: 151. 2 في قرة العيون: وقد وقع الأكثر من متأخري هذه الأمة في هذا الشرك الذي هو أعظم المحرمات، كما وقع فيه أهل الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم, عبدوا القبور والمشاهد والأشجار والأحجار والطواغيت والجن, كما عبد أولئك اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام والأوثان, واتخذوا هذا الشرك دينا، ونفروا إذا دعوا إلى التوحيد أشد نفرة، واشتد غضبهم لمعبوداتهم كما قال تعالى 39: 45 (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) وقال تعالى: 46: 17 (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) وقال: 35: 37 , 36 (أنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) علموا أن لا إله إلا الله تنفي الشرك الذي وقعوا فيه, وأنكروا التوحيد الذي دلت عليه. فصار أولئك المشركون أعلم بمعنى هذه الكلمة "لا إله إلا الله" من أكثر متأخري هذه الأمة، لا سيما أهل العلم منهم الذين لهم دراية في بعض الأحكام وعلم الكلام، فجهلوا توحيد العبادة فوقعوا في الشرك المنافي له وزينوه, وجهلوا توحيد الأسماء والصفات وأنكروه، فوقعوا في نفيه أيضا وصنفوا فيه الكتب؛ لاعتقادهم أن ذلك حق وهو باطل, وقد اشتدت غربة الإسلام حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا, فنشأ على هذا الصغير, وهرم عليه الكبير. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" وقد قال صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة, وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وهذا الحديث قد صح من طرق كما ذكره العماد ابن كثير وغيره من الحفاظ، وهو في السنن وغيرها. ورواه محمد بن نصر في كتاب الاعتصام, وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد القرون الثلاثة. فلهذا عم الجهل بالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام; فإن أصله أن لا يعبد إلا الله وأن لا يعبد إلا بما شرع, وقد ترك هذا وصارت عبادة الأكثرين مشوبة بالشرك والبدع, ولكن الله تعالى وله الحمد لم يخل الأرض من قائم له بحججه, وداع إليه على بصيرة, لكيلا تبطل حجج الله وبيناته التي أنزلها على أنبيائه ورسله، فله الحمد والشكر على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 قال العماد ابن كثير -رحمه الله-: " يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلي الله عليه وسلم: " قل " لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، " تعالوا " أي هلموا وأقبلوا " أتل " أقص عليكم {ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 1 حقا، لا تخرصا ولا ظنا، بل وحيا منه وأمرا من عنده {ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وكان في الكلام محذوفا دل عليه السياق تقديره: وصاكم ألا تشركوا به شيئا، ولهذا قال في آخر الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} اهـ. قلت: فيكون المعنى: حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به، وفي المغني لابن هشام في قوله تعالى: " ألا تشركوا به شيئا" سبعة أقوال: أحسنها: هذا الذي ذكره ابن كثير، ويليه: بين لكم ذلك لئلا تشركوا، فحذفت الجملة من أحدهما، وهي " وصاكم " وحرف الجر وما قبله من الأخرى. ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم قالوا: يقول: " اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم "2 كما قال أبو سفيان لهرقل3 وهذا هو الذي فهمه أبو سفيان وغيره من قول رسول الله صلي الله عليه وسلم لهم!: " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " 4. وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما، و " إحسانا " نصب على المصدرية، وناصبه فعل من لفظه تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} 5 الإملاق: الفقر،   1 سورة الأنعام آية: 151. 2 البخاري: بدء الوحي (7) . 3 رواه البخاري - في بدء الوحي, في حديث أبي سفيان الطويل. 4 صحيح: - أخرجه ابن خزيمة (1/82) ، والبيهقي (1/76) ، والدارقطني (3/44 , 45) ، والحاكم (2/611 , 612) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال شمس الحق آبادي في التعليق المعنى (3/44) : "رواته كلهم ثقات". وفي الباب: عن مدرك, رواه الطبراني ورجاله ثقات مجمع الزوائد (6/21) وعن شيخ من بني مالك بن كنانة. رواه أحمد (4/63) , (5/371 , 376) وقال الهيثمي (6/22) : "رجاله رجال الصحيح". 5 سورة الأنعام آية: 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكان منهم من يفعل ذلك بالذكور خشية الفقر، ذكره القرطبي. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه: " قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك " 1 ثم تلا رسول الله صلي الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 2. وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 3 قال ابن عطية: " نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي. و "ظهر" و "بطن" حالتان تستوفيان أقسام ما جعلتا له من الأشياء". انتهى. وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} في الصحيحين. عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " 4 وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 5 قال ابن عطية: " ذلكم " إشارة إلى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لعل} للتعليل أي إن الله تعالى وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها، وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولا " تعقلون " ثم " تذكرون " ثم " تتقون "؛ لأنهم إذا عقلوا تذكروا فخافوا واتقوا. وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} 6 قال ابن عطية: هذا نهي عام عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن وهو السعي في نمائه. قال مجاهد: التي هي أحسن: التجارة فيه. وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال مالك وغيره: هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ،   1 البخاري: الأدب (6001) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431) . 2 سورة الفرقان آية: 69-70. 3 سورة الأنعام آية: 151. 4 البخاري: كتاب الديات (6878) : باب قول الله تعالى: (أن النفس بالنفس والعين بالعين) ، ومسلم: كتاب القسامة (1676) (25) : باب ما يباح به دم المسلم. 5 سورة الأنعام آية: 151. 6 سورة الأنعام آية: 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 روي نحو هذا عن زيد بن أسلم والشعبي وربيعة وغيرهم. وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} قال ابن كثير: يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} أي من اجتهاد بأداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرج عليه. وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد. قال الحنفي: العدل في القول في حق الولي والعدو لا يتغير في الرضى والغضب، بل يكون على الحق وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب والقريب {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 1. وقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} قال ابن جرير: وبوصية الله تعالى التي وصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك بأن يطيعوه بما أمرهم به ونهاهم عنه. وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، وذلك هو الوفاء بعهد الله. وكذا قال غيره. وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه. وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 2 قال القرطبي: "" هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم. فإنه نهى وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. و " أن " في موضع نصب. أي أتلو أن هذا صراطي، عن الفراء والكسائي. ويجوز أن يكون خفضا. أي وصاكم به وبأن هذا صراطي. قال: والصراط الطريق الذي هو دين الإسلام. " مستقيما " نصب على الحال ومعناه مستويا قيما لا اعوجاج فيه. فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلي الله عليه وسلم وشرعه، ونهايته الجنة، وتشعبت منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي تميل". انتهى.   1 سورة المائدة آية: 8. 2 سورة الأنعام آية: 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم - وصححه - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " خط رسول الله صلي الله عليه وسلم خطا بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه " 1 ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} الآية. وعن مجاهد: ولا تتبعوا السبل، قال: البدع والشهوات. قال ابن القيم -رحمه الله-: ولنذكر في الصراط المستقيم قولا وجيزا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلا لعبادة الله، وهو إفراده بالعبادة، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحدا في عبادته ولا يشرك برسوله صلي الله عليه وسلم أحدا في طاعته. فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول صلي الله عليه وسلم وهذا كله قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلي الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} 2 الآية. مضمون "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك، أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبه موضع إلا معمورا بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته. فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله. وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيتها3 وقطب رحاها. قال: وقال سهل بن عبد الله: " عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلي الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه وأذلوه وأهانوه " اهـ4.   1 أحمد (1/435) , والدارمي: المقدمة (202) . 2 سورة الأنعام آية: 151- 153. 3 الآخية- بالمد والتشديد- حبيل, أو عويد يعرض في الحائط ويدفن طرفاه فيه ويصير طرفه كالعروة تشد فيها الدابة, وجمعها: الأواخي. 4 حسن: الترمذي: كتاب التفسير (3070) : باب ومن سورة الأنعام. وقال الترمذي: حديث حسن غريب وهو كما قال: والطبراني في الكبير (10060) أيضا. وحسنه الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (2/137) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قوله: "قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلي الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ " {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} - إلى قوله-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الآية". قوله: "ابن مسعود" هو عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - ابن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن، صحابي جليل من السابقين الأولين، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان ومن كبار علماء الصحابة، أمره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه. وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه. وقال بعضهم: معناه من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها فلم تغير ولم تبدل فليقرأ " قل تعالوا " إلى آخر الآيات، شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص. فإن النبي صلي الله عليه وسلم لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال فيما رواه مسلم: " وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله " 1، وقد روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا قوله: " {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 2 حتى فرغ من الثلاث الآيات". ثم قال: " من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه " 3. رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه ومحمد بن نصر في الاعتصام4. قلت: ولأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله تعالى به على لسانه. وفي كتابه الذي أنزله {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 5 وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم.   1 الترمذي: المناقب (3788) , وأحمد (3/14 ,3/17 ,3/26 ,3/59) . 2 سورة الأنعام آية: 151. 3 مسلم: كتاب الحج (1218) (147) : باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر الطويل، والنسائي: البيعة (4161) , وأحمد (5/314) . 4 ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (2/191) ، والحاكم (2/318) في تفسير سورة الأنعام. وصححه ووافقه الذهبي من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة به وسفيان بن حسين قال الحافظ في التقريب (1/310) "ثقة في غير الزهري باتفاقهم". 5 سورة النحل آية: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قوله: " وعن معاذ بن جبل قال: "كنت رديف النبي صلي الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: " يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا " أخرجاه في الصحيحين". هذا الحديث في الصحيحين من طرق. وفي بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف. و"معاذ بن جبل" رضي الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدرا وما بعدها. وكان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن رضي الله عنه. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: " معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة " 1. 2 أي بخطوة، قال في القاموس: "" والرتوة الخطوة وشرف من الأرض، وسويعة من الزمان، والدعوة، والفطرة، ورمية بسهم أو نحو ميل أو مدى البصر. والراتي العالم الرباني". انتهى. وقال في النهاية: إنه يتقدم العلماء برتوة أي برمية سهم. وقيل: بميل. وقيل: مد البصر. وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث. مات معاذ سنة ثماني عشرة بالشام في طاعون عمواس. وقد استخلفه النبي صلي الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم. قوله: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم" فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة معاذ رضي الله عنه. قوله: "على حمار" في رواية: اسمه عفير، قلت: أهداه إليه المقوقس صاحب مصر. وفيه: تواضعه صلي الله عليه وسلم لركوب الحمار والإرداف عليه، خلافا لما عليه أهل الكبر. قوله: "أتدري ما حق الله على العباد" أخرج السؤال بصيغة الاستفهام؛ ليكون أوقع   1 قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من مرسل أبي عون الثقفي، وأورده ابن عساكر في تاريخ دمشق من طرق عن محمد بن الخطاب. 2 صحيح: روي من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا. أخرجه ابن سعد (2/348,590) ، وأبو نعيم في الحلية (1/228) وإسناده ضعيف كما في الصحيحة (3/82) ، ومن مراسيل محمد بن كعب وأبي عون والحسن البصري. وهي عند ابن سعد (2/347) وهي مراسيل صحيحة. كما قال الألباني (3/83) الصحيحة ثم قال: "وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا شك ولا يرتاب في ذلك من له معرفة بهذا العلم الشريف" اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 في النفس وأبلغ في فهم المتعلم. و"حق الله على العباد" هو ما يستحقه عليهم. و " حق العباد على الله " معناه أنه متحقق لا محالة؛ لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} 1. قال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة، كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق، إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا، كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 2 لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب على نفسه الحق، لم يوجبه عليه مخلوق. والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم، والقدرية النافية. قوله: "قلت: الله ورسوله أعلم" فيه حسن الأدب من المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك، بخلاف أكثر المتكلفين. قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" أي يوحدوه بالعبادة. ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال: وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان "ومداره بالأمرأمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان6 "   1 سورة الروم آية: 6. 2 سورة الروم آية: 47. 3 البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وأحمد (5/228 ,5/230) . 4 يعني أن الخصومة إنما وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في تحقيق "لا إله إلا الله" المكونة من جملتين: إحداهما نفي والثانية إثبات. فالأولى تنفي كل الآلهة التي يدعيها الناس. والثانية تثبت الإلهية لله وحده. يعني ينبغي أن يكفر بكل معبود لتخلص العبادة لله. 5 سورة الكافرون آية: 3. 6 في قرة العيون: حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان من غير إشراك به شيئا هما ... سبب النجاة فحبذا السببان لم ينج من غضب الله وناره ... إلا الذي قامت به الأصلان والناس بعد فمشرك بإلهه ... أو ذو ابتداع أو له الوصفان وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. ليس على الله حق واجب بالعقل كما تزعم المعتزلة. لكن هو سبحانه جعل ذلك على نفسه تفضلا وإحسانا على الموحدين المخلصين الذين لم يلتفتوا في إرادتهم ومهماتهم ورغباتهم ورهباتهم إلى أحد سواه, ولم يتقربوا بما يقولونه ويعملونه من الطاعات إلا إليه وحده والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قوله: "ولا يشركوا به شيئا" أي يوحدوه بالعبادة، فلا بد من التجرد من الشرك في العبادة، من لم يتجرد من الشرك لم يكن آتيا بعبادة الله وحده، بل هو مشرك قد جعل لله ندا. وهذا معنى قول المصنف -رحمه الله-: "وفيه أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه، وفي بعض الآثار الإلهية: " إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي ". قوله: " وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا " قال الحافظ: " اقتصر على نفي الإشراك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ من كذب رسول الله صلي الله عليه وسلم فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو مثل قول القائل: ومن توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشروط". اهـ. قوله: "أفلا أبشر الناس" فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره، وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا. قاله المصنف -رحمه الله-. قوله: "لا تبشرهم فيتكلوا" أي يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال. وفي رواية: "فأخبر بها معاذ عند موته تأثما" أي تحرجا من الإثم. قال الوزير أبو المظفر: "لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة، فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا في الطاعة، ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة، فلا وجه لكتمانها عنهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم: الحث على إخلاص العبادة لله، وأنها لا تنقع مع الشرك، بل لا تسمى عبادة. والتنبيه على عظمة حق الوالدين، وتحريم عقوقهما. والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام. وجواز كتمان العلم للمصلحة. قوله: "أخرجاه" أي البخاري ومسلم. و"البخاري" -رحمه الله- هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير صاحب الصحيح والتاريخ والأدب المفرد وغير ذلك من مصنفاته. روى عن الإمام أحمد بن حنبل والحميدي وابن المديني وطبقتهم. وروى عنه مسلم والنسائي والترمذي والفربري راوي الصحيح. ولد سنة أربع وتسعين ومائة، ومات سنة ست وخمسين ومائتين. و"مسلم" -رحمه الله- هو ابن حجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري، صاحب الصحيح والعلل والوجدان وغير ذلك. روى عن أحمد بن حنبل ويحيي بن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وطبقتهم، وروى عن البخاري. وروى عنه الترمذي وإبراهيم بن محمد بن سفيان راوي الصحيح وغيرهما، ولد سنة أربع ومائتين ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور رحمهما الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة. السادسة: أن دين الأنبياء واحد. السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، ففيه معنى قوله: " {مَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1. الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله. التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف وفيها عشر مسائل2. أولها: النهي عن الشرك. العاشرة: الآياث المحكمات في سورة الإسراء وفيها ثمانية عشر مسألة بدأها الله بقوله: " {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} 3 وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} 4 ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} . الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 5. الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلي الله عليه وسلم عند موته. الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا. الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه. الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها6 أكثر الصحابة. السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.   1 سورة البقرة آية: 256. 2 التي هي الوصايا العشر. وأولها وأهمها (ألا تشركوا بالله شيئا) . 3 سورة الإسراء آية: 22. 4 سورة الإسراء آية: 39. 5 سورة النساء آية: 36. 6 لا يعرفها أكثر الصحابة؛ لأن النبي أمر معاذا أن يكتمها عن الناس مخافة أن يتكلوا على سعة رحمة الله ويتركوا العمل، فلم يخبر بها إلا عند موته تأثما. فلذلك لم يعرفها أكثر الصحابة في حياة معاذ. (7) يعني العلم الزائد على القدر المحتاج إليه في إقامة الدين, وإلا لم يجز بدليل وعيد الله الشديد على كتمان العلم في قوله: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله. التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: "الله ورسوله أعلم". العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم1 دون بعض. الحادية والعشرون: تواضعه صلي الله عليه وسلم لركوب الحمار، مع الإرداف عليه. الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل. الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.   البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) . وقوله: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ... باب" فضل التوحيد1 وما يكفر من الذنوب" وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.   قوله: "باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب" "باب" خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا. "قلت" ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره هذا. و"ما" يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي وبيان الذي يكفره من الذنوب، ويجوز أن تكون مصدرية، أي وتكفيره الذنوب، وهذا الثاني أظهر. قوله: "وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ   1 في قرة العيون: والمراد بالتوحيد توحيد العبادة، وهو إفراد الله تعالى بأنواع العبادة الباطنة والظاهرة. كالدعاء والذبح والنذر ونحوه كما قال تعالى: 40: 14 (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) . وقال تعالى: 40: 65 (فادعوه مخلصين له الدين) . 2 سورة الأنعام آية: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ". قال ابن جرير: حدثني المثني - وساق بسنده - عن الربيع بن أنس قال: "الإيمان الإخلاص لله وحده". وقال ابن كثير في الآية: أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده، ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة. وقال زيد بن أسلم وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه. وعن ابن مسعود: "لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1 ". وساقه البخاري بسنده2 فقال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 3 قلنا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، بشرك. أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ?4. ولأحمد بنحوه عن عبد الله قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 5 شق ذلك على أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 6 إنما هو الشرك". وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي: "أولئك لهم الأمن، في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا" 7. قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العباد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي صلي الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: " {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ   1 سورة لقمان آية: 13. 2 في قصة إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء. 3 سورة الأنعام آية: 82. 4 البخاري: كتاب الأنبياء (3636) : باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) . 5 سورة الأنعام آية: 82. 6 سورة لقمان آية: 13. 7 صحيح: رواه أحمد (1/378) وسنده صحيح على شرط الشيخين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} 1. وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 2 وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلي الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله، أينا لم يعمل سوءا؟ فقال: يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به " 3 فبين أن المؤمن الذي إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب. فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق، بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى. وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، وليس مراد النبي صلي الله عليه وسلم بقوله: " إنما هو الشرك " أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف; لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم; من غير عذاب يحصل لهم. بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولا بد لهم من دخول الجنة. وقوله: " إنما هو الشرك " إن أراد الأكبر، فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك، يقال: ظلم العبد نفسه، كبخله لحب المال ببعض الواجب هو شرك أصغر. وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله الشرك أصغر ونحو ذلك. فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار انتهى ملخصا4. وقال ابن القيم -رحمه الله-: قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 5. قال الصحابة: "وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: ذلك الشرك. ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 6 " لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا   1 سورة فاطر آية: 32. 2 سورة الزلزلة آية: 7-8. 3 صحيح: أحمد (1/11) ، وابن حبان (1734, 1735 - موارد) ، والحاكم (4/73) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الأرناؤوط في تخريجه لمسند أبي بكر الصديق لأبي بكر المروزي (111) لشواهده وطرقه. 4 من كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه. 5 سورة الأنعام آية: 82. 6 سورة لقمان آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أن ظلم النفس داخل فيه. وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لم يكن آمنا ولا مهتديا. أجابهم -صلوات الله وسلامه عليه- بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك. وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل؛ فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها. والأمن والهدى المطلق: هما الأمن في الدنيا والآخرة، والهدى إلى الصراط المستقيم. فالظلم المطلق التام رافع للأمن وللاهتداء المطلق التام، ولا يمنع أن يكون الظلم مانعا من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمله. فالمطلق للمطلق، والحصة للحصة. اهـ. ملخصا1. قوله: "عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنّة حقّ والنّار حقّ، أدخله الله الجنّة على ما كان من العمل ". أخرجاه". عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد أحد النقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وله اثنتان وسبعون سنة. وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه.   1 قال في قرة العيون: قال تعالى: 35: 32 (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) فالظالم لنفسه هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فهو تحت مشيئة الله: إن شاء غفر له, وإن شاء أخذه بذنبه, ونجاه بتوحيده من الخلود في النار. وأما المقتصد فهو الذي عمل بما أوجب الله عليه وترك ما حرم عليه فقط, وهذه حال الأبرار. وأما السابق فهو الذي حصل له كمال الإيمان باستفراغه وسعه في طاعة الله علما وعملا، فهذان لهم الأمن التام والاهتداء التام في الدنيا والآخرة. فالكل للكل, والحصة للحصة؛ لأن كمال الإيمان يمنع صاحبه من المعاصي وعقوباتها, فلم يلق ربه بذنب يعاقب به كما قال تعالى: 4: 147 (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) ، وهذا الذي ذكرته في معنى هذه الآية هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وابن القيم -رحمه الله- في معناها, وهو الذي دل عليه القرآن, وهو قول أهل السنة والجماعة خلافا لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة ونحوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 قوله: " من شهد أن لا إله إلا الله " أي من تكلم بها عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها، باطنا وظاهرا، فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها; كما قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} 1، وقوله: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع3.   1 سورة محمد آية: 19. 2 سورة الزخرف آية: 86. 3 قال في قرة العيون: وقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة نفيا وإثباتا, فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله بقولك: (لا إله) ، وأثبتت الإلهية لله بقولك: (إلا الله) قال تعالى: 3: 18 (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) , فكم ضل بسبب الجهل بمعناها من ضل وهم الأكثرون, فقلبوا حقيقة المعنى فأثبتوا الإلهية المنفية لمن نفيت عنه من المخلوقين أرباب القبور والمشاهد والطواغيت والأشجار والأحجار والجن وغير ذلك, واتخذوا ذلك دينا وشبهوا وزخرفوا, واتخذوا التوحيد بدعة وأنكروه على من دعاهم إليه; فلم يعرفوا منها ما عرف أهل الجاهلية من كفار قريش ونحوهم. (*) فإنهم عرفوا معناها وأنكروا ما دلت عليه من الإخلاص كما قال تعالى: 37: 36,35 (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) ، والمشركون من أواخر هذه الأمة أنكروا ما أنكره أولئك على من دعاهم إلى ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله من الموتى والقبور والمشاهد والطواغيت ونحوها، فأولئك عرفوا هذا المعنى وأنكروه، وهؤلاء جهلوا هذا المعنى وأنكروه، فلهذا تجده يقول: لا إله إلا الله, وهو يدعو مع الله غيره. سبب ذلك أن عرب الجاهلية هم أهل لغة القرآن الفصحاء، فلا يجهلون شيئا من معنى التوحيد الذي قرره. وأما هؤلاء الذين فشا فيهم اليوم شرك العبادة فليسوا من أهل ملكة هذه اللغة، وإنما يدينون بالاصطلاحات التي تلقاها بعضهم من بعض من كلامية وعامية. وإذا كان مثل الفخر الرازي من أكبر أئمة متكلميهم وأصولييهم أخطأ في فهم معنى الإله في تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) , فما الظن بمن دونه من علمائهم، دع عامتهم ودهماءهم؟ هل يستغرب منهم الجهل بأن من دعا ميتا أو صالحا حيا فيما لا يدعى فيه إلا الله, أو طاف بقبره ونذر له يكون عابدا له ومتخذا له إلها؟!!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم: " باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان. وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها؛ ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح. وهو باطل قطعا" اهـ. وفي هذا الحديث ما يدل على هذا. وهو قوله: "من شهد" فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق. قال النووي: "هذا حديث عظيم جليل الموقع; وهو أجمع - أو من أجمع - الأحاديث المشتملة على العقائد. فإنه صلي الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها. فاقتصر صلي الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين جميعهم"اهـ. ومعنى "لا إله إلا الله" لا معبود بحق إلا الله. وهو في غير موضع من القرآن، ويأتيك في قول البقاعي صريحا. قوله: " وحده " تأكيد للإثبات {لا شَرِيكَ لَهُ} 1 تأكيد للنفي. قاله الحافظ. كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 2 وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3، وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4، فأجابوه ردا عليه بقولهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 5، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 6. فتضمن ذلك نفي الإلهية عما سوى الله، وهي العبادة. وإثباتها لله وحده لا شريك له، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه. فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغبا ورهبا، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى، كما تقدم في أدلة هذا الباب وما قبله. فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فقد جعله لله ندا، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل. "ذكر كلام العلماء في معنى "لا إله إلا الله ". قد تقدم كلام ابن عباس، وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله: "شهادة أن لا إله   1 سورة الأنعام آية: 163. 2 سورة البقرة آية: 163. 3 سورة الأنبياء آية: 25. 4 سورة الأعراف آية: 65. 5 سورة الأعراف آية: 70. 6 سورة الحج آية: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 إلا الله" يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} 1 قال: واسم "الله" بعد "إلا" من حيث إنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله. وقال ابن القيم في البدائع2 ردا لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المستثنى منه. قال ابن القيم: بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلا في المستثنى; إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: "لا إله إلا الله"؛ لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى، وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها له بوصف الاختصاص، فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا: "الله إله" ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه. وقال أبو عبد الله القرطبي في نفسيره: "لا إله إلا الله": أي لا معبود إلا هو. وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق. وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع؛ فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.   1 سورة محمد آية: 19. 2 بدائع الفوائد للعلامة ابن القيم "ج3 ص56" وهو بحث قيم جدا في الاستثناء والمستثنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقال ابن القيم: "الإله" هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة، وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا. وقال ابن رجب: "الإله" هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح هذا كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول: "لا إله إلا الله" وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك. وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف. وقال الطيبي: "الإله" فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة أي عبد عبادة. قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم. فدلت "لا إله إلا الله" على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنا ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} 1، فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا، واعتقد ذلك وقبله وعمل به. وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب. فقوله في الحديث: "وحده لا شريك له" تأكيد وبيان لمضمون معناها. وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص لا إله إلا الله! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظا ومعنى، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظا وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم، والخوف والرجاء، والتوكل والدعاء، وغير ذلك من أنواع العبادة. بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب،   1 سورة الجن آية: 1-2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجا لهم من الله، بخلاف حال المشركين الأولين; فإنهم كانوا يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1 الآية. فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم2. "وقوله: "وأن محمدا عبده ورسوله" أي وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى "العبد" هنا المملوك العابد، أي أنه مملوك لله تعالى. والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: {ألَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 3 فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، فالنبي صلي الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين. وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى، لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقوله: "عبده ورسوله" أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعا للإفراط والتفريط، فإن كثيرا ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولا وفعلا، وفرط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع اطراحها؛ فإن شهادة أن محمدا رسول الله تقتضي الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، الانتهاء عما عنه نهى وزجر; وأن يعظم أمره ونهيه،   1 سورة العنكبوت آية: 65. 2 في قرة العيون: "قلت" وهؤلاء المتأخرون جهلوا معنى الإله، وقلبوا حقيقة المعنى إلى معنى توحيد الربوبية، وهو القدرة على الاختراع فأثبتوا ما نفته (لا إله إلا الله) من الشرك وأنكروا ما أثبتته من إخلاص العبادة لله جهلا منهم، وقد قال تعالى: 39: 2 فاعبد الله مخلصا له الدين. قال محيي الدين النووي: اعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع من أزمان متطاولة، ولم يبق في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا وهو باب عظيم , به قوام الأمر وملاكه, وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح. وقوله في هذه الأزمان يعني القرن الخامس والسادس, وإذا كان كذلك فما الظن بالقرن العاشر وما بعده وقد استحكمت فيها الغربة. ولشيخنا محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الكلمة كلام بديع واضح لم يسبق إلى مثله فليراجع لمسيس الحاجة إليه. 3 سورة الزمر آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ولا يقدم عليه قول أحد كائنا من كان1. والواقع اليوم وقبله - ممن يتنسب إلى العلم من القضاة والمفتين -. خلاف ذلك، والله المستعان. وروى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه كان يقول: " إنا لنجد صفة رسول الله صلي الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا2 ". قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعبا يقول مثل ما قال ابن سلام3. قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله" أي خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} 4 فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله5 على علم ويقين بأنه مملوك لله،   1 في قرة العيون: وأن لا تعارض بقول أحد؛ لأن غيره -صلى الله عليه وسلم- يجوز عليه الخطأ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد عصمه الله تعالى, وأمرنا بطاعته والتأسي به وتوعدنا على ترك طاعته بقوله تعالى: 33: 36 (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الآية. وقال: 63: 24 (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) . قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك ; لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". وقد وقع التفريط في المتابعة وتركها وتقديم أقوال من يجوز عليهم الخطأ على قوله صلى الله عليه وسلم لا سيما من العلماء كما لا يخفى. 2 صحيح: الدارمي (1/5) في المقدمة: باب صفة النبي في الكتب قبل مبعثه. وأخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص في كتاب البيوع (2125) : باب كراهية السخب في الأسواق ثم أشار إلى رواية ابن سلام هذه. وأخرجه الآجري في الشريعة ص (449) من طريق آخر عن ابن سلام وإسناده صحيح. 3 آخر روايه الدارمي "ج1 ص5" وفي الرواية عن كعب: "نجده مكتوبا في التوراة". 4 سورة المؤمنون آية: 91. 5 في قرة العيون: فيه بيان الحق الذي يجب اعتقاده كما في الآيات المحكمات، وما فيها من الرد على كفار النصارى وهم ثلاث طوائف: طائفة قالوا: إن عيسى هو الله، وطائفة قالوا: ابن الله، وطائفة قالوا: ثالث ثلاثة. يعنون عيسى وأمه. فبين الله تعالى في كتابه الحق وأبطل الباطل فقال: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) والآيات بعدها. وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) في مواضع من سورة المائدة، وأخبر تعالى عما قاله المسيح عليه السلام وهو في المهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1 فليس ربا ولا إلها. سبحان الله عما يشركون. قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاًِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ2} . وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} 3، ويشهد المؤمن أيضا ببطلان قول أعدائه اليهود: إنه ولد بغي، لعنهم الله تعالى. فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعا في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه: أنه عبد الله ورسوله. قوله: "وكلمته" إنما سمي عيسى -عليه السلام- كلمة لوجوده بقوله تعالى: " كن " كما قاله السلف من المفسرين. قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية4: "بالكلمة التي ألقاها إلى   1 سورة آل عمران آية: 59. 2 في قرة العيون: فبين تعالى الصراط المستقيم الذي من سلكه نجا ومن خرج منه هلك. وقال تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين) فبين تعالى الصراط المستقيم بيانا شافيا ووافيا، وأقام حججه على توحيده فأحق الحق وأبطل الباطل ولو كره المشركون. 3 سورة النساء آية: 172. 4 صفحة 20 طبعة عيسى الحلبي وأولاده في باب: ثم إن الجهمي ادعى أمرا فقال: إنا وجدنا آية في كتاب الله تدل على أن القرآن مخلوق. فقلنا: أي آية؟ قال: قول الله: (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) وعيسى مخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مريم حين قال له: "كن" فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو "كن"، ولكن بكن كان، فكن من الله تعالى قول، وليس "كن" مخلوقا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى" انتهى. قوله: "ألقاها إلى مريم" قال ابن كثير: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل، فكان عيسى بإذن الله عز وجل، فهو ناشئ عن الكلمة التي قال له: "كن فكان"، والروح التي أرسل بها: هو جبريل عليه السلام. وقوله: "وروح منه"1. قال أبي بن كعب: "عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله   1 الظاهر أن معنى "وروح منه" أنه كغيره من بني آدم الذي يقول الله فيه: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) كما مثل له في الآية الأخرى بأنه مثل آدم. والله أعلم. وقال في قرة العيون: أي من الأرواح التي استخرجها من صلب آدم -عليه السلام- وأخذ عليها العهد على أنه تعالى ربهم وإلههم كما قال تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) الآية. وروح عيسى من تلك الأرواح التي خلقها الله تعالى. وذكر ابن جرير عن وهب بن منبه قال: "نفخ جبريل في جيب درع مريم حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت عليه". وعن السدي أن النفخة دخلت في صدرها فحملت. وقال ابن جريج: يقولون إنما نفخ في جيب درعها وكمها انتهى مختصرا. فجبريل نفخ والله خلق بقول: "كن" فكان. كما قال تعالى: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) فسبحان من لا يخلق غيره ولا يعبد سواه. وقد أورد بعض النصارى على بعض علماء المسلمين قول الله تعالى: (وروح منه) . فقال في الجواب: هذا ليس خاصا بعيسى عليه السلام بل المخلوقات كذلك كلها. كما قال تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) أي خلقا وإيجادا، وعيسى كذلك خلقه وأوجده كسائر مخلوقاته. وفي هذا الحديث الرد على اليهود أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله؛ فإنهم كانوا هم والنصارى على طرفي نقيض فنسبوه إلى أنه ولد بغي, قاتلهم الله. فأكذبهم الله تعالى في كتابه وأبطل قولهم كما أبطل قول الغلاة من النصارى فيما تقدم من الآيات ونحوها. فالنصارى غلوا في عيسى ابن مريم -عليه السلام- أعظم الغلو والكفر والضلال, واليهود جفوا في حقه غاية الجفاء, وكلاهما قد ضل ضلالا بعيدا, نبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه وبين تعالى الحق والصدق، ورفع قدر المسيح -عليه السلام- وجعله من أولي العزم الخمسة المذكورين في سورة الأحزاب (7: 33 والشورى 13: 42) وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يصبر كما صبروا فقال: (واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) ، فهم أفضل الرسل على التحقيق، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أفضلهم -صلوات الله وسلامه- عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 تعالى واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 1 بعثه الله إلى مريم فدخل فيها". رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم. قال الحافظ: ووصفه بأنه منه، فالمعنى أنه كائن منه، كما في قوله تعالى: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 2 فالمعنى أنه كائن منه؛ كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، أي أنه مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته. قال شيخ الإسلام: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل.. "3 أخرجاه. بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب. وإذا كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل -عليهما السلام- وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى; لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره. لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين: أحدهما: أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها; فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله، وأرض الله. فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله. الوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه; كما خص البيت العتيق لعبادة فيه لا تكون في غيره. وكما يقال في مال الخمس والفيء: هو مال الله ورسوله. ومن هذا الوجه: فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره. فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه دينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه. اهـ ملخصا. قوله: " والجنة حق والنار حق " أي وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق، أي ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة، كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 4. وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 5. وقال تعالى {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ   1 سورة الأعراف آية: 172. 2 سورة الجاثية آية: 13. 3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3435) , ومسلم: الإيمان (28) , والترمذي: الإيمان (2638) , وأحمد (5/313 ,5/318) . 4 سورة الحديد آية: 21. 5 سورة البقرة آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وفي الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافا للمبتدعة1. وفيهما الإيمان بالمعاد. ولهما في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " 2. وقوله: " أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " هذه الجملة جواب الشرط. وفي رواية: "أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء". قال الحافظ: معنى قوله: "على ما كان من العمل" أي من صلاح أو فساد؛ لأن أهل التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة. ويحتمل أن يكون معنى قوله: "على ما كان من العمل" أن يدخل أهل الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات. قال القاضي عياض: ما ورد في حديث عبادة يكون مخصوصا لمن قال ما ذكره صلي الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة. قال: "ولهما في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله "". قوله: "ولهما" أي البخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله. وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان 3.   1 في قرة العيون: ومن لم يؤمن بالجنة والنار فقد كفر بالقرآن والرسل؛ فإن الله تعالى بين الجنة وما أعد فيها من النعيم المقيم, وذكر أنها دار المتقين, وذكر النار وما فيها من العذاب وأنه أعدها لمن كفر به وأشرك. 2 البخاري: الصلاة (425) , ومسلم: الإيمان (33) . 3 في قرة العيون: اختصره المصنف وذكر منه ما يناسب الترجمة وهو قوله: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" وهذا هو حقيقة معناها الذي دلت عليه هذه الكلمة من الإخلاص ونفي الشرك, والصدق والإخلاص متلازمان لا يوجد أحدهما بدون الآخر, فإن لم يكن مخلصا فهو مشرك ومن لم يكن صادقا فهو منافق, والمخلص أن يقولها مخلصا الإلهية لمن لا يستحقها غيره وهو الله تعالى, وهذا التوحيد هو أساس الإسلام الذي قاله الخليل عليه السلام: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) . وقالت بلقيس: (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) . وقال الخليل عليه السلام: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) . والحنيف: هو الذي ترك الشرك رأسا وتبرأ منه وفارق أهله وعاداهم، وأخلص أعماله الباطنة والظاهرة لله وحده, كما قال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) فإسلام الوجه هو إخلاص العبادة المنافي للشرك والنفاق، وهو معنى الآية ونحوها إجماعا. فهذا هو الذي يعنيه قوله: (لا إله إلا الله) ، ولهذا قال تعالى: (فقد استمسك بالعروة الوثقى) ، وهذا بخلاف من يقولها وهو يدعو غير الله ويستغيث به من ميت أو غائب لا ينفع ولا يضر, كما ترى عليه أكثر الخلق, فهؤلاء وإن قالوها فقد تلبسوا بما يناقضها; فلا تنفع قائلها إلا بالعلم بمدلولها نفيا وإثباتا. والجاهل بمعناها وإن قالها لا تنفعه لجهله بما وضعت له الوضع العربي الذي أريد منها من نفي الشرك, وكذلك إذا عرف معناها بغير تيقن له, فإذا انتفى اليقين وقع الشك. ومما قيدت به في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: "غير شاك" فلا تنفع إلا من قالها بعلم ويقين لقوله: "صدقا من قلبه, خالصا من قلبه" وكذلك من قالها غير صادق في قوله. فإنها لا تنفعه لمخالفة القلب اللسان كحال المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وكذلك حال المشرك فلا تقبل من مشرك لمنافاة الشرك للإخلاص, ولما دلت عليه هذه الكلمة مطابقة فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه، والإخلاص لله وحده لا شريك له مطابقة. ومن لم يكن كذلك لم ينفعه قوله: "لا إله إلا الله" كما هو حال كثير من عبدة الأوثان يقولون: "لا إله إلا الله" وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص ويعادون أهله وينصرون الشرك وأهله. وقال الخليل -عليه السلام- لأبيه وقومه 43: 26 , 27 , 28: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه) وهي "لا إله إلا الله" وقد عبر عنها الخليل بمعناها الذي وضعت له ودلت عليه, وهو البراءة من الشرك وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له كما تقدم تقريره, وكذلك من قالها ولم يقبل ما دلت عليه من الإخلاص، كان قوله لهذه الكلمة كذبا منه، بل قد عكس مدلولها فأثبت ما نفته من الشرك ونفى ما أثبتته من الإخلاص. فهذا الذي ذكرناه هو حال الأكثرين من هذه الأمة بعد القرون الثلاثة, وسبب ذلك الجهل بمعناها واتباع الهوى فيصدفه عن اتباع الحق وما بعث الله به رسله من توحيده الذي شرعه لعباده ورضيه لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وعتبان بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة، ابن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري، من بني سالم بن عوف، صحابي مشهور، مات في خلافة معاوية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلي الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: " يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثا - قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا. فأخبر بها معاذ عند موته تأثما " 1 وساق بسند آخر: حدثنا معتمر قال: سمعت أبي، قال: سمعت أنسا قال: ذكر لي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة. قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا، إني أخاف أن يتكلوا ". قلت: فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص. قال شيخ الإسلام وغيره: في هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة بقوله: "خالصا من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين" فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة " 2. وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدا أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه. وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث: "سمعت الناس يقولون شيئا فقلته3 ". وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 4.   1 البخاري: العلم (128) , ومسلم: الإيمان (32) . 2 البخاري: التوحيد (7410) , ومسلم: الإيمان (193) , والترمذي: صفة جهنم (2593) , وابن ماجه: الزهد (4312) , وأحمد (3/116 ,3/173 ,3/276) . 3 في حديث البراء بن عازب الذي رواه أصحاب السنن وغيرهم في سؤال القبر. 4 سورة الزخرف آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث؛ فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله. وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين، لا تترك له ذنبا إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلا، فيغفر له ويحرم على النار. وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة1. فيحرم على النار. ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصرا على ذلك؛ فإنه يستوجب النار. وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن؛ فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرا على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة. وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة، فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر; فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف: قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بالآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك بل يقولونها من غير يقين وصدق ويحيون على ذلك، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة. فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث،   1 سيأتي في صفحة 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله. قال الحسن: " ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. فمن قال خيرا وعمل خيرا قبل منه، ومن قال خيرا وعمل شرا لم يقبل منه " وقال بكر بن عبد الله المزني: " ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه ". فمن قال: لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوبا، وكان صادقا في قولها موقنا بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصرا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق، فإنه إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام؛ لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصا. وقد ذكر هذا كثير من العلماء، كابن القيم وابن رجب وغيرهم. قلت: وبما قرره شيخ الإسلام تجتمع الأحاديث. قال: وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس. وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل، وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصا لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله صلي الله عليه وسلم. "تنبيه" قال القرطبي في تذكرته: قوله في الحديث "من إيمان" أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح. فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله: "أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط" - يريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال. اهـ ملخصا من شرح سنن ابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قال المصنف -رحمه الله-: " وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " قال موسى عليه السلام: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله " رواه ابن حبان والحاكم وصححه" 1. أبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل وأبوه كذلك. استصغر أبو سعيد بأحد، وشهد ما بعدها. مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين. وقيل: سنة أربع وسبعين. قوله: "أذكرك" أي أثني عليك به "وأدعوك" أي أسألك به. قال: قل: يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، قوله: "قل يا موسى لا إله إلا الله"2 فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة، ولا على "هو" كما يفعله غلاة جهال المتصوفة، فإن ذلك بدعة وضلال. قوله: "كل عبادك يقولون هذا" ثبت بخط المصنف بالجمع، والذي في الأصول "يقول" بالإفراد مراعاة للفظة "كل"، وهو في المسند من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ الجمع كما ذكره المصنف على معنى "كل"، ومعنى قوله: "كل عبادك يقولون هذا" أي إنما أريد شيئا تخصني به من بين عموم عبادك، وفي رواية: - بعد قوله: "كل عبادك يقولون هذا – قل: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت يا رب، إنما أريد شيئا تخصني   1 ضعيف: ابن حبان (2324) – موارد، والحاكم (1/528) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (10/82) بعد ما عزاه لأبي يعلى: "ورجاله وثقوا على ضعف فيهم". وضعفه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (5/55) . 2 قال في قرة العيون: فلا نافية للجنس نفيا عاما إلا ما استثني، وخبرها محذوف تقديره لا إله إلا الله. قال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير) , فإلهيته تعالى هي الحق وكل ما سواه من الآلهة فإلهيته باطلة كما في هذه الآية ونظائرها. فهذه كلمة عظيمة هي العروة الوثقى وكلمة التقوى وكلمة الإخلاص, وهي التي قامت بها السماوات والأرض, وشرعت لتكميلها السنة والفرض, ولأجلها جردت سيوف الجهاد, وبها ظهر الفرق بين المطيع والعاصي من العباد. فمن قالها وعمل بها صدقا وإخلاصا وقبولا, ومحبة وانقيادا أدخله الله الجنة على ما كان من العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 به". ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له، كانت من أكثر الأذكار وجودا، وأيسرها حصولا، وأعظمها معنى. والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التي ليست في الكتاب ولا في السنة. قوله: "وعامرهن غيري"1 هو بالنصب عطف على السماوات، أي لو أن السموات   1 قال في قرة العيون: أي كل من في السماوات والأرض. وقوله: "غيري" استثنى ممن في السماوات نفسه؛ لأنه العلي الأعلى تعالى وتقدس كما قال تعالى: 255: 2 (وهو العلي العظيم) , علو القهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى، والأرضين السبع ومن فيهن، وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله. =وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلي الله عليه وسلم: " أن نوحا - عليه السلام - قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله " 1. قوله: "في كفة" هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي كفة الميزان. قوله: "مالت بهن" أي رجحت. وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال. وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها، واستقام على ذلك، فهذه الحسنة لا يوازنها شيء; كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2. ودل الحديث على أن "لا إله الا الله" أفضل الذكر. كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: وعلو القدر وعلو الذات. فالثلاثة كلها صفته ودلت على كماله كما قال تعالى: 5: 20 (الرحمن على العرش استوى) 59: 25 (ثم استوى على العرش الرحمن) الآية. في سبعة مواضع من كتابه (53: 7 و3: 1 و13: 2 و32: 4 و4: 47) كما قال تعالى: 10: 35 (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقال تعالى: 50: 16 (يخافون ربهم من فوقهم) وقال تعالى: 4: 70 (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) 55: 3 (إني متوفيك ورافعك إلي) وأمثال هذه الآيات. فمن سلب علو الله تعالى على خلقه فقد خالف صريح الكتاب والسنة، وألحد في أسمائه وصفاته ومعنى هذه الكلمة: نفي الإلهية عن كل شيء سوى ما استثنى بها وهو الله تعالى. لكن هذه الكلمة العظيمة لا يحصل رجحانها إلا في حق من أتى بقيودها التي قيدت بها في الكتاب والسنة, وقد ذكر الله سبحانه في سورة براءة وغيرها كثيرا ممن يقولها ولم ينفعهم قولها، كحال أهل الكتاب والمنافقين على كثرتهم وتنوعهم في نفاقهم، فلم تنفعهم مع ما قام بهم من ترك تلك القيود. (فمنهم) من يقولها جاهلا بما وضعت له، وبما دلت عليه من نفي الشرك والبراءة منه، والصدق والإخلاص وغيرها. كعدم القبول ممن دعي إليها علما وعملا, وترك الانقياد بالعمل بما تقتضيه كحال أكثر من يقولها قديما وحديثا, ولكن في أواخر هذه الأمة أكثر. (ومنهم) من يمنعه من محبتها والعمل بها ما قام بقلبه من كبر أو هوى أو غير ذلك من الأسباب وهي كثيرة، منها: قوله تعالى: 24: 9 (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) . وأما أهل الإيمان الخالص فهم الذين أتوا بهذه الكلمة، واجتمعت لهم قيودها التي قيدت بها علما ويقينا، وصدقا وإخلاصا ومحبة وقبولا وانقيادا، وعادوا فيه ووالوا فيه وأحبوا فيه وأبغضوا فيه. وقد ذكرهم الله تعالى في مواضع من سورة براءة وغيرها وخصهم بالثناء عليهم والعفو عنهم، وأعد لهم جنته وأنجاهم من النار; كما قال تعالى: 100: 9 (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) ، فهؤلاء ومن اتبعهم هم أهل "لا إله إلا الله", وغير هذه من الآيات في الثناء عليهم وما أعد لهم في الدار الآخرة. فمن تدبر القرآن وعرف تفاوت الخلق في محبة ربهم وتوحيده والعمل بطاعته والهرب من معصيته وإيثار ما يحبه تعالى رغبة وعملا، وترك ما يكرهه خشية ورجاء, واعتبر الناس بأحوالهم وأقوالهم وأعمالهم ونياتهم وما هم فيه من التفاوت البعيد; تبين له خطأ المغرورين؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".   1 صحيح: أحمد (2/169,170,225) . وصححه الحاكم (1/48,49) ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي (4/220) : "ورجال أحمد ثقات" اهـ. وقال الألباني في الصحيحة (1/210) : "وسنده صحيح" اهـ. 2 سورة الأحقاف آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 " خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " 1 رواه أحمد والترمذي، وعنه أيضا مرفوعا: " يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب. فيقال: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وأنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " رواه الترمذي وحسنه. والنسائي وابن حبان والحاكم. وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح 2. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض. قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه". قوله: "رواه ابن حبان والحاكم" ابن حبان اسمه محمد بن حبان - بكسر المهملة وتشديد الموحدة - ابن أحمد بن حبان بن معاذ، أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف: كالصحيح، والتاريخ، والضعفاء، والثقات وغير ذلك. قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال. مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست - بضم الموحدة وسكون المهملة -. رواه ابن حبان والحاكم وصححه. وللترمذي - وحسنه - عن أنس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة " 3. وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري أبو عبد الله الحافظ، ويعرف بابن البيع، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف، كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة.   1 الترمذي: الدعوات (3585) . 2 صحيح: الترمذي: كتاب الإيمان (2639) : باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وقال حسن غريب. وابن ماجة: كتاب الزهد (4300) : باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، وابن حبان (2524 - موارد) ، والحاكم (1/6) , (2/188 , 189) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. قال الألباني في الصحيحة (1/213) : "وهو كما قالا" اهـ. والحديث ليس في سنن النسائي كما عزاه المؤلف وراجع تحفة الأشراف (6/342) . 3 صحيح: الترمذي: كتاب الدعوات (3540) : باب فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. والحديث صحيح لشواهده الكثيرة، وقد شرحه العلامة ابن رجب في جامع العلوم والحكم "الحديث الثاني والأربعين" وقد أفردناه بالشرح والتحقيق وأسميناه أسباب المغفرة فليراجع التخريج هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قال المصنف - رحمه الله -: "وللترمذي; وحسنه، عن أنس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم; إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة1 " ذكر المصنف - رحمه الله - الجملة الأخيرة من الحديث، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال: عن أنس قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم; إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي; يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم إنك لو أتيتني " الحديث. فيه مسائل: الأولى: سعة فضل الله. الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله. الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب. الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام. الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة. الترمذي: اسمه محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - ابن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى، صاحب الجامع وأحد الحفاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق. مات سنة تسع وسبعين ومائتين. وأنس: هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلي الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، وقال له: " اللهم أكثر ماله وولده، وأدخله الجنة " 2 مات سنة اثنتين وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة. والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وهذا لفظه: " ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة 3" ورواه مسلم، وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم قوله: "لو أتيتني بقراب الأرض" بضم القاف: وقيل بكسرها والضم أشهر وهو   1 في قرة العيون: في هذا الحديث ما يبين معنى "لا إله إلا الله" التي رجحت بجميع المخلوقات, وجميع السيئات; وأن ذلك هو ترك الشرك قليله وكثيره, وذلك يقتضي كمال التوحيد فلا يسلم من الشرك إلا من حقق توحيده، وأتى بما تقتضيه كلمة الإخلاص من العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والانقياد، وغير ذلك مما تقتضيه تلك الكلمة العظيمة كما قال تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) . الشعراء 88 و 89. 2 البخاري: الدعوات (6334) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (660) وفضائل الصحابة (2480 ,2481) , والترمذي: المناقب (3827) , وأحمد (3/108 ,3/188) . 3 صحيح: الطبراني في الكبير (12346) والصغير (2/20 , 21) وقال الهيثمي (10/216) : "رواه الطبراني في الثلاثة وفيه إبراهيم بن إسحاق الصيني وقيس بن الربيع وكلاهما مختلف في توثيقه وبقية رجاله رجال الصحيح) اهـ. والحديث صحيح لغيره وذلك لشواهده الكثيرة وراجع تخريج رقم [37] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ملؤها أو ما يقارب ملئها. قوله: "ثم لقيتني لاتشرك بي شيئا" شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك: كثيره وقليله، صغيره وكبيره. ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى، وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 1. السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: " لا إله إلا الله"، وتبين لك خطأ المغرورين 2. قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة - إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وبجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية. فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله: محبة وتعظيما، وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر. اهـ ملخصا. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في معنى الحديث: "ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك. فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة; ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي". اهـ. وفي هذا الحديث: كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته، والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، وهي الفسوق، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار. والصواب قول أهل السنة: أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.   1 سورة الشعراء آية: 88-89. 2 كثير من الناس يخطئون في فهم أحاديث: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" فيظنون بأن التلفظ بها يكفي وحده للنجاة من النار ودخول الجنة، وليس كذلك، فإن من يظن ذلك من المغرورين لم يفهم "لا إله إلا الله" لأنه لم يتدبرها. إذ أن حقيقة معناها: البراءة من كل معبود، والتعهد بتجريد كل أنواع العبادة لله سبحانه وحده، والقيام بها على الوجه الذي يحبه ويرضاه. فمن لم يقم بحقها من العبادة، أو قام ببعض أنواع العبادة، ثم عبد مع الله غيره من دعاة الأولياء والصالحين والنذر لهم ونحو ذلك؛ فإنه يكون هادما لها، فلا تنفعه دعواه ولا تغني عنه شيئا، ولو كان مجرد قولها كافيا لم يقع من المشركين ما وقع من محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاداته. قال الله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) - وقال - (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) , فمن لم يوف بها ويعمل بمقتضاها لا ينفعه التلفظ. وكل من جعل شيئا من أنواع العبادة لغير الله فهو إما جاهل بمعناها، أو كاذب في ادعائه الإيمان، وأولئك هم المغرورون (الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " لما أسري برسول الله صلي الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، فأعطي ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا: المقحمات "1 رواه مسلم. قال ابن كثير في تفسيره: وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أنس   1 مسلم: الإيمان (173) , والترمذي: تفسير القرآن (3276) , والنسائي: الصلاة (451) , وأحمد (1/387) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 بن مالك قال: "قرأ رسول الله صلي الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} 1 وقال: " قال ربكم: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له2". قال المصنف - رحمه الله -: "تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله: "لا إله إلا الله". وتبين لك خطأ المغرورين. وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل "لا إله إلا الله"، والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه. وفيه إثبات الصفات خلافا للمعطلة. وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله في حديث عتبان: " إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " تبين لك أن ترك الشرك ليس قولها باللسان فقط".   1 سورة المدثر آية: 56. 2 أحمد (3/142 , 243) . والترمذي: كتاب التفسير (3328) : باب ومن سورة الحشر، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (1/139) ، وابن ماجة: كتاب الزهد (4299) : باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة. وضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب, وسهيل ليس بالقوي في الحديث" اهـ. وسهيل هو ابن أبي حزم القطيعي ضعيف كما في التقريب (1/338) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 السابعة: التنبيه للشرط في حديث عتبان 1. الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله. التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه. العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات. الحادية عشرة: أن لهن عمارا. الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافا للأشعرية. الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان. الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه. الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله. السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه. السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار. الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل". التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان. العشرون: معرفة ذكر الوجه.   1 هو قوله: "يبتغي بها وجه الله" ومن قالها يبتغي بها وجه الله لابد أن يعمل ويخلص عمله لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 باب" من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب"   قوله: "باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب" أي ولا عذاب. "قلت": تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي 1.   1 في قرة العيون: وتحقيق التوحيد عزيز في الأمة لا يوجد إلا في أهل الإيمان الخلص الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه كما قال تعالى في يوسف - عليه السلام -: 24: 12 (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) بفتح اللام, وفي قراءة (المخلصين) بكسرها, وهم في صدر هذه الأمة كثيرون وفي آخرها هم الغرباء، وقد قلوا، وهم الأعظمون قدرا عند الله. وقال تعالى عن خليله - عليه السلام -: 6: 78 , 79 (قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي للذي فطر السماوات والأرض أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق (حنيفا) أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد. ولهذا قال: (وما أنا من المشركين) , ونظائر هذه الآية في القرآن كثير. كقوله: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) ، وقال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) . قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى في الآية: يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل وانقاد لأوامره واتبع شرعه, ولهذا قال: (وهو محسن) أي في عمله واتباع ما أمر به وترك ما عنه زجر. فدلت هذه الآية العظيمة على أن كمال الإخلاص إنما يوجد بترك الشرك والبراءة منه وممن فعله كما تقدم في الباب قبل هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1 وصف إبراهيم - عليه السلام - بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد: الأولى: أنه كان أمة; أي قدوة وإماما معلما للخير. وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين تنال بهما الإمامة في الدين. الثانية: قوله: "قانتا" قال شيخ الإسلام: "القنوت دوام الطاعة، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت. قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 4 " اهـ ملخصا. الثالثة: أنه كان حنيفا "قلت" قال العلامة ابن القيم: " "الحنيف" المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه". اهـ. الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي لصحة إخلاصه وكمال صدقه، وبعده عن الشرك3.   1 سورة النحل آية: 120. 2 سورة الزمر آية: 9. 3 قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في مفتاح دار السعادة في الوجه 147 من فضل العلم: "إن الله أثنى على إبراهيم خليله بقوله: (إن إبراهيم كان أمة) الآية. فهذه أربعة أنواع من الثناء، افتتحها بأنه "أمة" وهو القدوة الذي يؤتم به. قال ابن مسعود: "الأمة: المعلم للخير" وهي فعلة- بضم الفاء- من الائتمام كالقدوة, وهو الذي يقتدى به. والفرق بين "الأمة" و "الإمام" من وجهين: أحدهما: أن الإمام كل ما يؤتم به, سواء كان بقصده وشعوره أو لا, ومنه سمي الطريق إماما. كقوله تعالى: (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين) أي بطريق واضح لا يخفى على السالك. ولا يسمى الطريق أمة. الثاني: أي "الأمة" فيه زيادة معنى. وهو الذي جمع صفات الكمال في العلم والعمل, وهو الذي بقي فيها فردا وحده, فهو الجامع لخصال تفرقت في غيره, فكأنه باين غيره باجتماعها فيه، وتفرقها أو عدمها في غيره. ولفظ "الأمة" يشعر بهذا المعنى , لما فيه من الميم المضعفة الدالة على الضم بمخرجها وتكريرها, وكذلك ضم أوله. فإن الضمة من الواو ومخرجها، فيضم عند النطق بها. وأتى بالتاء الدالة على الوحدة كالغرفة واللقمة. ومنه الحديث: "إن زيد بن عمرو بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده" فالضم والاجتماع لازم لمعنى الأمة. ومنه سميت الأمة التي هي آحاد الأمم , لأنهم الناس المجتمعون على دين واحد أو في عصر واحد. الثاني: قوله: "قانتا" قال ابن مسعود: "القانت": المطيع. والقنوت يفسر بأشياء كلها ترجع إلى دوام الطاعة. الثالث: قوله: "حنيفا" والحنيف: المقبل على الله. ويلزم من هذا المعنى ميله عما سواه, فالميل لازم معنى الحنيف، لا أنه موضوعه لغة. الرابع: قوله: "شاكرا لأنعمه" والشكر للنعم مبني على ثلاثة أركان: الإقرار بالنعمة، وإضافتها إلى المنعم بها، وصرفها في مرضاته والعمل فيها بما يجب. فلا يكون العبد شاكرا إلا بهذه الثلاثة. والمقصود: أنه سبحانه مدح خليله بأربع صفات كلها ترجع إلى العلم والعمل بموجبه وتعليمه ونشره، فعاد الكمال كله إلى العلم والعمل بموجبه ودعوة الخلق إليه". اهـ. وقال في قرة العيون: قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: يمدح الله تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء: بتبرئته من المشركين ومن اليهودية والنصرانية والمجوسية. و"الأمة" هو الإمام الذي يقتدى به. و"القانت" هو الخاشع المطيع, والحنيف: المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد, ولهذا قال: (ولم يك من المشركين) . وقال مجاهد: كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده, والناس كلهم إذ ذاك كفار. قلت: وكلا القولين حق. فقد كان الخليل - عليه السلام - كذلك. وقول مجاهد - والله أعلم - لما كان الخليل كذلك في ابتداء دعوته ونبوته ورسالته عليه السلام , فمدحه الله تعالى بتبرئته من المشركين; كما قال تعالى: 41: 19 , 42 (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) الآيات (43-50) وقوله 83: 37 , 84 (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم) الآيات 85-113) فهذا - والله أعلم - كان في ابتداء دعوته عليه الصلاة والسلام ولم يكن إذ ذاك على وجه الأرض مسلم غيره. وبذلك جاء الحديث. وقوله: (ولم يك من المشركين) فقد فارق المشركين بالقلب واللسان والأركان, وأنكر ما كانوا عليه من الشرك بالله في عبادته وكسر الأصنام، وصبر على ما أصابه في ذات الله. وهذا هو تحقيق التوحيد وهو أساس الدين ورأسه. كما قال تعالى: 131: 12 (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) وأنت تجد أكثر من يقول "لا إله إلا الله" ويدعي الإسلام يفعل الشرك بالله في عبادته. بدعوة من لا يضر ولا ينفع من الأموات والغائبين والطواغيت والجن وغيرهم، ويحبهم ويواليهم, ويخافهم ويرجوهم, وينكر على من دعا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه, ويزعم أن ذلك بدعة وضلالة, ويعادي من عمل به وأحبه وأنكر الشرك وأبغضه, وبعضهم لا يعد التوحيد علما ولا يلتفت إليه لجهله به وعدم محبته فالله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 قلت: يوضح هذا قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} 1 أي على دينه من إخوانه المرسلين، قاله ابن جرير - رحمه الله تعالى -: {إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 2، وذكر تعالى عن خليله - عليه السلام - أنه قال لأبيه آزر: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} 3 فهذا هو تحقيق التوحيد. وهو البراءة من الشرك وأهله، واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم. فالله المستعان. قال المصنف - رحمه الله - في هذه الآية: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} 4 لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين {قَانِتاً لِلَّهِ} لا للملوك ولا للتجار المترفين {حَنِيفًا} لا يميل يمينا ولا شمالا; كفعل العلماء المفتونين {لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5 خلافا لمن كثر سوادهم وزعم أنه   1 سورة الممتحنة آية: 4. 2 سورة الممتحنة آية: 4. 3 سورة مريم آية: 48-49. 4 سورة النحل آية: 120. 5 سورة النحل آية: 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 من المسلمين". اهـ. وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} 1 على الإسلام. ولم يك في زمانه أحد على الإسلام غيره. قلت: ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم: من أنه كان إماما يقتدى به في الخير. قال: وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 23.   1 سورة النحل آية: 120. 2 سورة المؤمنون آية: 57-58-59. 3 في قرة العيون: قال العماد ابن كثير: أي مع إحسانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله وخائفون وجلون من مكره بهم; كما قال الحسن البصري: "المؤمن من جمع إحسانا وشفقا, والمنافق من جمع إساءة وأمنا". (والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) , أي يؤمنون بآيات الله الكونية والشرعية لقوله تعالى عن مريم: 12: 66 (وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) , أي أيقنت أن ما كان فهو من قدر الله وقضائه, وما شرعه الله إن كان أمرا فهو ما يحبه الله ويرضاه, وإن كان نهيا فهو ما يكرهه ويأباه, وإن كان خبرا فهو حق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التي أعظمها: أنهم بربهم لا يشركون. ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه: من شرك جلي أو خفي، نفى ذلك عنهم، وهذا هو تحقيق التوحيد الذي حسنت بهم أعمالهم وكملت ونفعتهم. قلت: قوله: "حسنت وكملت" هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر، وأما الشرك الأكبر فلا يقال في تركه ذلك، فتدبر. ولو قال الشارح: صحت لكان أقوم. قال ابن كثير: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} أي لا يعبدون مع الله غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له1. قال المصنف: عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال: "أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة " قال قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه. فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم.   1 في قرة العيون: فترك الشرك يتضمن كمال التوحيد ومعرفته على الحقيقة ومحبته وقبوله والدعوة إليه, كما قال تعالى: (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) , وتضمنت هذه الآية كمال التوحيد وتحقيقه وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم. ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة ". هكذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري مختصرا ومطولا، ومسلم واللفظ له، والترمذي والنسائي. عن حصين بن عبد الرحمن قال: "كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قوله: "عن حصين بن عبد الرحمن" هو السلمي، 1 أبو الهذيل الكوفي. ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة. وسعيد بن جبير: هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة. وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين. قوله: "انقض" هو بالقاف والضاد المعجمة أي سقط. "والبارحة" هي أقرب ليلة مضت. قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحة، وكذا قال غيره، وهي مشتقة من برح إذا زال. قوله: "أما إني لم أكن في صلاة" قال في مغنى اللبيب: "أما" بالفتح والتخفيف على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة "ألا" فإذا وقعت "أن" بعدها كسرت. الثاني: أن تكون بمعنى حقا، أو أحق. وقال آخرون: هي كلمتان الهمزة للاستفهام و "ما" اسم بمعنى شيء، أي أذلك الشيء حق، فالمعنى أحق هذا؟ وهو الصواب. و "ما" نصب على الظرفية، وهذه تفتح "أن" بعدها". انتهى. والأنسب هنا هو الوجه الأول، والقائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه   1 في قرة العيون: الحارثي, من تابعي التابعين. عن الشعبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وهو يصلي، فنفى عن نفسه إبهام العبادة، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم عن الرياء والتزين بما ليس فيهم. قوله: "ولكني لدغت" بضم أوله وكسر ثانيه. قال أهل اللغة: يقال لدغته العقرب وذوات السموم، إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها. قوله: "قلت: ارتقيت" لفظ مسلم: "استرقيت" أي طلبت من يرقيني. قوله: "فما حملك على ذلك" فيه طلب الحجة على صحة المذهب. قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة " قال: قد أحسن من انتهى إلى ما قوله: "حديث حدثناه الشعبي" اسمه: عامر بن شراحيل الهمداني، ولد في خلافة عمر، وهو من ثقات التابعين وفقهائهم1 مات سنة ثلاث ومائة. قوله: "عن بريدة" بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة. ابن الحصيب - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن الحارث الأسلمي، صحابي شهير. مات سنة ثلاث وستين. قاله ابن سعد. قوله: " لا رقية إلا من عين أو حمة ". وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعا. ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعا. قال الهيثمي: "رجال أحمد ثقات" 2. والعين: هي إصابة العائن غيره بعينه. والحمة - بضم المهملة وتخفيف الميم - سم العقرب وشبهها. قال الخطابي: ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وقد رقى النبي صلي الله عليه وسلم ورقي. قوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع" أي من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن بخلاف من يعمل بجهل، أولا يعمل بما يعلم؛ فإنه مسيء آثم. وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم 3.   1 روى عن عمر وعلي وابن مسعود ولم يسمع منهم. وعن أبي هريرة وعائشة وجرير وابن عباس وخلق. قال الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء. يعني أنه كان معتنيا بالحفظ. 2 صحيح: أحمد (4/436) . وأبو داود: كتاب الطب (3384) : باب في تعليق التمائم: والترمذي: كتاب الطب (2057) : باب ما جاء في الرخصة في الرقية عن عمران بن حصين وإسناده صحيح كما قال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (12/162) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (7373) وتخريج المشكاة (4557) ورواه مسلم (220) (374) عن بريدة موقوفا. وهو عند ابن ماجة عنه (3513) مرفوعا وفي إسناده أبو جعفر الرازي "سيئ". 3 في قرة العيون: فيه حسن الأدب مع العلم وأهله، وأن من فعل شيئا سئل عن مستنده في فعله هل كان مقتديا أم لا؟ ومن لم يكن معه حجة شرعية فلا عذر له بما فعله, ولهذا ذكر ابن عبد البر الإجماع على أن المقلد ليس من أهل العلم. فتفطن لهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قوله: "ولكن حدثنا ابن عباس" هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم. دعا له فقال: " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " 1 فكان كذلك. مات بالطائف سنة ثمان وستين. قال المصنف - رحمه الله - "وفيه عمق علم السلف لقوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع" ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني". قوله: "عرضت علي الأمم" وفي الترمذي والنسائي من رواية عبثر بن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن "أن ذلك كان ليلة الإسراء" 2. قال الحافظ: فإن كان ذلك محفوظا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضا. "قلت" وفي هذا نظر 3. النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، قوله: "فرأيت النبي ومعه الرهط" والذي في صحيح مسلم "الرهيط" بالتصغير لا غير; وهم الجماعة دون العشرة. قاله النووي. قوله: "والنبي ومعه الرجل والرجلان; والنبي وليس معه أحد" فيه الردعلى من احتج بالكثرة 4.   1 رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه. 2 صحيح: الترمذي: كتاب صفة القيامة (2446) : باب (16) وقال الترمذي: حسن صحيح والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (4/410) . 3 في قرة العيون: فالله أعلم متى عرضت, وعرضها أن الله تبارك وتعالى أراه مثالها إذا جاءت الأنبياء ومن تبعهم. فمن نجا بالإيمان بالله وما بعث به أنبياءه ورسله من دينه الذي شرعه لهم، وهو عبادته وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه, والأخذ بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه كما قال تعالى عن قوم نوح: 71: 2 (قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) فعبادته وتوحيده وطاعته بامتثال ما أمرهم به, وترك ما نهاهم عنه, وطاعة رسوله. هذا هو الدين, أن لا يعبد إلا الله, وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فعلا وتركا, وأن يقدم طاعة رسوله على ما يحبه ويهواه. 4 في قرة العيون: أي يبعث في قومه فلا يتبعه منهم أحد كما قال تعالى: 15: 10 (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) وفيه دليل على أن الناجي من الأمم هم القليل، والأكثرون غلبت عليهم الطبائع البشرية فعصوا الرسل فهلكوا; كما قال تعالى: 6: 16 (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) وقال: 101: 7 (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) وقال: 42: 30 (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير. والناجون- وإن كانوا أقل القليل- فهم السواد الأعظم؛ فإنهم الأعظمون قدرا عند الله وإن قلوا. فليحذر المسلم أن يغتر بالكثرة وقد اغتر بهم كثيرون حتى بعض من يدعي العلم، اعتقدوا في دينهم ما يعتقده الجهال الضلال ولم يلتفتوا إلى ما قاله الله ورسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 قوله: "إذ رفع لي سواد عظيم" المراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد. قوله: "فظننت أنهم أمتي"؛ لأن الأشخاص التي ترى في الأفق لا يدرك منها إلا الصورة. وفي صحيح مسلم: "ولكن انظر إلى الأفق" ولم يذكره المصنف; فلعله سقط في الأصل الذي نقل الحديث منه. والله أعلم. قوله: "فقيل له: هذا موسى وقومه" أي موسى بن عمران كليم الرحمن، وقومه: اتباعه على دينه من بني إسرائيل1. فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون   1 في قرة العيون: فيه فضيلة اتباع موسى من بني إسرائيل ممن آمن منهم بالرسل. والكتب التي أنزلها الله: التوراة, والإنجيل، والزبور، والفرقان وغيرها. وكانت بنو إسرائيل قبل التفرق كثيرين وفيهم الأنبياء, ثم بعد ذلك حدث ما حدث من اليهود, وهذا الحديث يدل على أن التابع لموسى - عليه السلام - كثيرون جدا, وقد قال تعالى: 45: 16 (وفضلناهم على العالمين) , أي في زمانهم. وذلك أن في زمانهم وقبله ممن كفر بالله خلقا لا يحصون، كحزب جالوت وبختنصر وأمثالهم. ففضل الله بني إسرائيل بالإيمان فصاروا أفضل أهل زمانهم، وحدث فيهم ما ذكر الله في سورة البقرة وغيرها من معصيتهم لأنبيائهم واختلافهم في دينهم, وقد ذكره الله تعالى محتجا به على اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فتدبر ما ذكره الله تعالى من أحوالهم بعد الاختلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 قوله: "فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"، أي لتحقيقهم التوحيد، وفي رواية ابن فضيل: "ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفا". وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين: "أنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر". وروى الإمام أحمد والبيهقي في حديث أبي هريرة: "فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا". قال الحافظ: وسنده جيد12. قوله: "ثم نهض" أي قام. قوله: "فخاض الناس في أولئك" خاض بالخاء والضاد المعجمتين. وفي هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه صحبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون، الاستفادة وبيان الحق، وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل. وفيه حرصهم على الخير. ذكره المصنف3. قوله: "فقال: هم الذين لا يسترقون" هكذا ثبت في الصحيحين وهو كذلك في حديث ابن مسعود في مسند أحمد. وفي رواية لمسلم: "ولا يرقون" قال شيخ الإسلام ابن تيمية:   1 صحيح: أحمد (2/359) : وقال الحافظ في الفتح (11/410) : "وسنده جيد" ا. هـ وصححه الألباني في الصحيحة (1486) لشواهده. 2 في قرة العيون: فيه فضيلة هذه الأمة وأنهم أكثر الأمم تابعا لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وقد كثروا في عهد الصحابة - رضي الله عنهم -, وفي وقت الخلفاء الراشدين ومن بعدهم, فملأوا القرى والأمصار والقفار, وكثر فيهم العلم, واجتمعت لهم الفنون في العلوم النافعة, فما زالت هذه الأمة على السنة في القرون الثلاثة المفضلة، وقد قلوا في آخر الزمان. قال شيخنا - رحمه الله تعالى - في مسائله: ((وفيه فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية, فالكمية الكثرة والعدد, والكيفية فضيلتهم في صفاتهم)) . 3 في قرة العيون: وفيه أيضا فضل الصحابة رضي الله عنهم في مذاكرتهم العلم وحرصهم على فهم ما حدثهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم حرصا على العمل به, وفيه جواز الاجتهاد فيما لم يكن فيه دليل؛ لأنهم قالوا ما قالوا باجتهادهم, ولم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم, لكن المجتهد إذا لم يكن معه دليل لا يجوز له أن يجزم بصواب نفسه, بل يقول: لعل الحكم كذا وكذا كقول الصحابة - رضي الله عنهم - في هذا الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلي الله عليه وسلم "ولا يرقون"، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم - وقد سئل عن الرقي -: " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه " 1 وقال: " لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا " 2 قال: وأيضا فقد رقى جبريل النبي صلي الله عليه وسلم ورقى النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه3 قال: والفرق بين الراقي والمسترقي: أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن. قال: وإنما المراد وصف السبعين ألفا بتمام التوكل; فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم. وكذا قال ابن القيم4. قوله: "ولا يكتوون" أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم; استسلاما للقضاء وتلذذا بالبلاء. قلت: والظاهر أن قوله: "لا يكتوون" أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل ذلك باختيارهم. أما الكي في نفسه فجائز كما في الصحيح عن جابر بن عبد الله: " أن النبي صلي الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع له عرقا وكواه "5. وفي صحيح البخاري عن أنس: 6 " أنه كوى من ذات الجنب7 والنبي صلي الله عليه   1 رواه مسلم والإمام أحمد وابن ماجة عن جابر - رضي الله عنه -. 2 رواه مسلم وأبو داود عن عوف بن مالك. 3 رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم من السحر; كما في البخاري من حديث عائشة. وقد ثبت في البخاري وغيره رقى كثيرة من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة وأنس وابن مسعود وغيرهم. 4 في قرة العيون: فتركوا الشرك رأسا, ولم ينزلوا حوائجهم بأحد فيسألونه الرقية فيما فوقها, وتركوا الكي وإن كان يراد للشفاء, والحامل لهم على ذلك قوة توكلهم على الله، وتفويضهم أمورهم إليه, وأن لا تتعلق قلوبهم بشيء سواه في ضمن ما دبره وقضاه. فلا يرغبون إلا إلى ربهم, ولا يرهبون إلا منه, ويعتقدون أن ما أصابهم بقدره واختياره لهم, فلا يفزعون إلا إليه وحده في كشف ضرهم. قال تعالى عن يعقوب عليه السلام: 12: 86 (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) . 5 مسلم: السلام (2207) , وأبو داود: الطب (3864) , وابن ماجه: الطب (3493) , وأحمد (3/315) . 6 مسلم: كتاب السلام (2207) (73) : باب لكل داء دواء واستحباب التداوي. 7 قال في النهاية: ((ذات الجنب: الدمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب وينفجر إلى داخل. وقلما يسلم صاحبها)) اهـ. ولعلها: السل والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وسلم حي " وروى الترمذي وغيره عن أنس أن النبي صلي الله عليه وسلم " كوى أسعد بن زرارة من الشوكة "12. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي " 3. وفي لفظ: " وما أحب أن أكتوي4". قال ابن القيم - رحمه الله -: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع: "أحدها" فعله. "والثاني" عدم محبته. "والثالث" الثناء على من تركه. "والرابع" النهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد الله؛ فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة. قوله: "ولا يتطيرون" أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها. قوله: " وعلى ربهم يتوكلون" ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف: من المحبة والرجاء والخوف، والرضا به ربا وإلها، والرضا بقضائه. واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلا; فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، لا انفكاك لأحد عنه; بل نفس التوكل: مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 5 أي كافيه. وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها; توكلا على الله تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له لكونه سببا مكروها، لا سيما والمريض يتشبث - فيما يظنه سببا لشفائه - بخيط العنكبوت. وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه، فغير قادح في التوكل، فلا   1 قال في النهاية, الشوكة: حمرة تعلو الوجه والجسد. 2 صحيح: الترمذي: كتاب الطب (2050) : باب ما جاء في الرخصة في ذلك. وقال الترمذي: حديث حسن غريب وابن حبان (1404- موارد) . وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/101) : "إسناده ثقات" اهـ. 3 البخاري: الطب (5680) , وابن ماجه: الطب (3491) , وأحمد (1/245) . 4 البخاري: كتاب الطب (5680) , (5681) : باب الشفاء في ثلاث. 5 سورة الطلاق آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 يكون تركه مشروعا، لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله " 1 وعن أسامة بن شريك قال:. " كنت عند النبي صلي الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: نعم. يا عباد الله تداووا; فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد. قالوا: وما هو; قال: الهرم " رواه أحمد 2. وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة. ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا". وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح وتركه أفضل، أو مستحب، أو واجب؟. فالمشهور عن أحمد: الأول؛ لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم: أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف، واختاره الوزير أبو المظفر قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يدانى به الوجوب. قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه؛ فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه. وقال شيخ الإسلام: "ليس بواجب عند جماهير الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد". فقوله: "فقام عكاشة بن محصن" هو بضم العين وتشديد الكاف، ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين، ابن حرثان - بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة -   1 ابن ماجه: الطب (3438) , وأحمد (1/377) . 2 البخاري: كتاب الطب (5678) ; باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء وليس عنده جملة "علمه من علمه وجهله من جهله) . وإنما هي عند أحمد (1/377 , 413 , 453) من طرق وصححها الألباني في الصحيحة (451) . وأما مسلم: فقد رواه من حديث جابر بلفظ: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله) . مسلم: كتاب السلام (2204) (69) : باب لكل داء دواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الأسدي: من بني أسد بن خزيمة. كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال. هاجر وشهد بدرا وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد ابن أبي وقاص، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة. قوله: "فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم" وللبخاري في رواية: "فقال: اللهم اجعله منهم". وفيه: طلب الدعاء من الفاضل1. قوله: "ثم قام رجل آخر" ذكره مبهما ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه2. قوله: "فقال: سبقك بها عكاشة" قال القرطبي: "لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجبه؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل الأمر، فسد الباب بقوله ذلك". اهـ. فيه مسائل: الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد. الثانية: ما معنى تحقيقه. الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.   1 في قرة العيون: فيه أن شفاعة الحي لمن سأله الدعاء إنما كانت بدعائه, وبعد الموت قد تعذر ذلك بأمور لا تخفى على من له بصيرة, فمن سأل ميتا أو غائبا فقد سأله ما لا يقدر عليه إلا الله, وكل من سأل أحدا ما لا يقدر عليه إلا الله فقد جعله ندا لله كما كان المشركون كذلك. وقال تعالى 2: 22 (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) , أنه ربكم وخالقكم ومن قبلكم, وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة فلا ترغبوا عنه إلى غيره, بل أخلصوا له العبادة بجميع أنواعها فيما تطلبونه من قليل أو كثير. وقوله: "أنت منهم" لما كان يعلمه صلى الله عليه وسلم من إيمانه وفضله وجهاده كما في الحديث: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم, فقد غفرت لكم ". 2 في قرة العيون: والظاهر أنه أراد - صلوات الله وسلامه عليه - سد الذريعة؛ لئلا يتتابع الناس بسؤال ذلك فيسأله من ليس أهلا له. وذلك منه صلى الله عليه وسلم تعريض كما لا يخفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك. الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد. السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل. السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل. الثامنة: حرصهم على الخير. التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية. العاشرة: فضيلة أصحاب موسى. الحادية عشرة: عرض الأمم عليه – عليه الصلاة والسلام -. الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها. الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء. الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده. الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القبلة. السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة. السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: " قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن كذا وكذا". فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني. الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه. التاسعة عشرة: قوله: "أنت منهم" علم من أعلام النبوة. العشرون: فضيلة عكاشة. الحادية والعشرون: استعمال المعاريض. الثانية والعشرون: حسن خلقه صلي الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 باب الخوف من الشرك. وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1   قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه صلي الله عليه وسلم". قوله: باب "الخوف من الشرك" وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . قال ابن كثير: "أخبر تعالى أنه {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي من الذنوب لمن يشاء من عباده". انتهى. فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به، وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله؛ لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2، ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما قال صلي الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " 3 رواه مسلم4 ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى، ومشاركة في خصائص الإلهية: من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل، وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، شبيها بمن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، واليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم. فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي   1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة الأنعام آية: 1. 3 مسلم: الإيمان (148) , والترمذي: الفتن (2207) , وأحمد (3/107 ,3/162 ,3/201 ,3/259 ,3/268) . 4 مسلم: كتاب الإيمان (148) (234) : باب ذهاب الإيمان آخر الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء والإنابة; والتوكل والتوبة والاستعانة، وغاية الحب مع غاية الذل. كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن فعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. فلهذه الأمور وغيرها أخبر - سبحانه وتعالى - أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله. وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب. وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار. ولا يجوز أن يحمل قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 على التائب؛ فإن التائب من الشرك مغفور له كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 2 فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به من لم يتب. هذا ملخص قول شيخ الإسلام3. قوله: "وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 4" الصنم   1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة الزمر آية: 53. 3 في قرة العيون: قال النووي - رحمه الله تعالى -: ((أما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها, ولا فرق بين الكتابي اليهودي والنصراني, وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة, ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره, ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع به, لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مصرا عليها ومات على ذلك فهو تحت المشيئة، فإن عفي عنه دخل الجنة أولا وإلا عذب في النار، ثم أخرج منها وأدخل الجنة)) . اهـ. قلت: هذا قول أهل السنة والجماعة، لا اختلاف بينهم في ذلك. وهذه الآية من أعظم ما يوجب الخوف من الشرك؛ لأن الله تعالى قطع المغفرة عن المشرك وأوجب له الخلود في النار وأطلق ولم يقيد, ثم قال: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فخصص وقيد فيما دون الشرك, فهذا الذنب الذي هذا شأنه لا يأمل أن يقع فيه فلا يرجى له معه نجاة, إن لم يتب معه قبل الوفاة. 4 سورة إبراهيم آية: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ما كان منحوتا على صورة، والوثن ما كان موضوعا على غير ذلك. ذكره الطبري عن مجاهد. قلت: وقد يسمى الصنم وثنا كما قال الخليل1 - عليه السلام - {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} 2 الآية ويقال: إن الوثن أعم، وهو قوي، فالأصنام أوثان كما أن القبور أوثان. قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} 3 أي اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها. وقد استجاب الله تعالى دعاءه، وجعل بنيه أنبياء، وجنبهم عبادة الأصنام، وقد بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 4 فإنه هو الواقع في كل زمان. فإذا عرف الإنسان أن كثيرا وقعوا في الشرك الأكبر وضلوا بعبادة الأصنام: أوجب ذلك خوفه من أن يقع فيما وقع فيه الكثير من الشرك الذي لا يغفره الله. قال إبراهيم التيمي: " من يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به وبما يخلصه منه: من العلم بالله، وبما بعث به رسوله من توحيده، والنهي عن الشرك به5.   1 الخلة: أخص من المحبة, ولذلك اختص الله بها الخليلين: إبراهيم ومحمدا عليهما من الله أفضل الصلاة والسلام. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن الله اتخذني خليلا" رواه البخاري. 2 سورة العنكبوت آية: 17. 3 سورة إبراهيم آية: 35. 4 سورة إبراهيم آية: 36. 5 في قرة العيون: فإذا كان الخليل إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة واحدة, وابتلاه بكلمات فأتمهن, وقال: (وإبراهيم الذي وفى) وأمر بذبح ولده فامتثل أمر ربه, وكسر الأصنام واشتد نكيره على أهل الشرك, ومع ذلك يخاف أن يقع في الشرك الذي هو عبادة الأصنام؛ لعلمه أنه لا يصرفه عنه إلا الله بهدايته وتوفيقه, لا بحوله هو وقوته. فهذا أمر لا يؤمن الوقوع فيه. وقد وقع فيه الأذكياء من هذه الأمة بعد القرون المفضلة فاتخذت الأصنام وعبدت, فالذي خافه الخليل - عليه السلام - على نفسه وبنيه وقع فيه أكثر الأمة بعد القرون المفضلة, فبنيت المساجد والمشاهد على القبور، وصرفت لها العبادات بأنواعها, واتخذ ذلك دينا, وهي أوثان وأصنام كأصنام قوم نوح واللات والعزى ومناة وأصنام العرب وغيرهم. فما أشبه ما وقع في آخر هذه الأمة بحال أهل الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم, بل وقع ما هو أعظم من الشرك في الربوبية مما يطول عده (*) فذكر - عليه السلام - السبب الذي أوجب له الخوف عليه وعلى ذريته بقوله (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) , وقد ضلت الأمم بعباة الأصنام في زمن الخليل وقبله وبعده. فمن تدبر القرآن عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه والوعيد على فعله, والثواب على تركه. وقد هلك من هلك بإعراضه عن القرآن, وجهله بما أمر الله به ونهى عنه. نسأل الله الثبات على الإسلام والاستقامة على ذلك إلى أن نلقى الله على التوحيد، إنه ولي ذلك والقادر عليه, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال تعالى عن عيسى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) , رد أمرهم إلى الله كما رده محمد - عليه السلام -, وقد بين الله تعالى فيما أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حكمه في أهل الشرك بأنه لا يغفره لهم فلا معارضة، وقد بين حكمه فيهم في هذا الكتاب العزيز الذي 41: 42 (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) . (*) فإن أكثر الناس يعتقدون أن الأقطاب الأربعة وعلى رأسهم القطب الغوث يتصرفون في الكون بالإحياء والإماتة والرزق والضر والنفع وأن مجلس أوليائهم تعرض عليه شئون العالم. اقرأ كتاب الشعراني, و "الإبريز" للدباغ, وكتب التيجانية وغيرها من كتب أولئك الضالين المضلين، تجد الشرك الذي ما كان يخطر على بال أبي حهل وإخوانه؛ لأنهم لم يكونوا بوقاحة هؤلاء وفجورهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء " 1.   قال المصنف: "وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء" أورد المصنف هذا الحديث مختصرا غير معزو. وقد رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي، وهذا لفظ أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد - يعني ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ " 2. قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبي صلي الله عليه وسلم ولم يصح له منه سماع فيما أرى. وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة، ورجحه ابن عبد البر والحافظ.   1 أحمد (5/428) ، والطبراني في الكبير (4301) . وصححه الألباني في الصحيحة (951) وصحيح الجامع (1551) . 2 مسند أحمد (5/428 ,5/429) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقد رواه الطبراني بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج. مات محمود سنة ست وتسعين، وقيل سنة سبع وتسعين. وله تسع وتسعون سنة. قوله: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" هذا من شفقته صلي الله عليه وسلم بأمته ورحمته ورأفته بهم، فلا خير إلا دلهم عليه وأمرهم به، ولا شر إلا بينه لهم وأخبرهم به ونهاهم عنه; كما قال صلي الله عليه وسلم فيما صح عنه: " ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم - الحديث1". فإذا كان الشرك الأصغر مخوفا على أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم، فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ خصوصا إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله2. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار " 3 رواه البخاري. وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " الشرك أخفى من دبيب النمل. قال أبو بكر: يا رسول الله، وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله؟ قال: ثكلتك أمك، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل " الحديث. وفيه: " أن تقول أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان   1 جزء من حديث رواه مسلم: كتاب الإمارة (1844) (46) : باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء. 2 في قرة العيون: فإذا كان يخافه صلى الله عليه وسلم على أصحابه الذين وحدوا الله بالعبادة، ورغبوا إليه وإلى ما أمرهم به من طاعته، فهاجروا وجاهدوا من كفر به، وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم, وما أنزله الله في كتابه من الإخلاص والبراءة من الشرك، فكيف لا يخاف من لا نسبة له إليهم في علم ولا عمل مما هو أكبر من ذلك؟ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن أمته بوقوع الشرك الأكبر فيهم بقوله في حديث ثوبان الآتي ذكره: "حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين, وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" وقد جرى ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وعمت به البلوى في أكثر الأقطار حتى اتخذوه دينا مع ظهور الآيات المحكمات, والأحاديث الصحيحة في النهي عنه والتخويف منه كما قال تعالى: 72: 5 (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) ، وقال: 30: 22 , 31 (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به) , وهذا هو تحقيق التوحيد كما تقدم في الباب قبله. ثم قال تعالى محذرا عباده من الشرك: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) . ومن لم تخوفه هذه الآيات وتزجره عن الشرك في العبادة إذا تدبرها فلا حيلة فيه. 3 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374 ,1/402 ,1/407 ,1/462 ,1/464) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 قتلني فلان " اهـ من الدر1. قال المصنف: وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار " 2 رواه البخاري 3. قال ابن القيم - رحمه الله -: "الند الشبيه، يقال: فلان ند فلان، وند يده، أي مثله وشبيهه" اهـ. قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 4. ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار " 5. قوله: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا" أي يجعل لله ندا في العبادة، يدعوه ويسأله ويستغيث به دخل النار. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ذا القسم ليس بقابل الغفران وهو اتخاذ الند للرحمن أيا ... كان من حجر ومن إنسان يدعوه، أو يرجوه ثم يخافه ... ويحبه كمحبة الديان واعلم أن اتخاذ الند على قسمين: الأول: أن يجعله لله شريكا في أنواع العبادة أو بعضها كما تقدم، وهو شرك أكبر. والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل: ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت. وكيسير الرياء، فقد ثبت أن النبي صلي الله عليه وسلم لما قال له رجل: " ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 6رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه. وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد.   1 صحيح: أبو يعلى ص (19, 20) مصورة المكتب الإسلامي. وابن المنذر كما في الدر المنثور (4/54) . والحديث صححه الأرناؤوط في تخريج مسند أبي بكر (17) وذلك لشواهده الكثيرة. 2 البخاري: تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/462) . 3 في قرة العيون: وهذا الحديث فيه التحذير من الشرك أيضا والتخويف منه. والند: المثل والشبيه, فمن دعا ميتا أو غائبا وأقبل عليه بوجهه وقلبه رغبة إليه ورهبة منه سواء سأله أو لم يسأله فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله, ولهذا حرم الله تعالى اتخاذ الشفعاء وأنكره على من فعل ذلك أشد الإنكار؛ لكونه ينافي الإخلاص الذي هو إقبال القلب والوجه للشفيع في كل ما يخافه العبد ويرجوه ويتقرب به ويدين به. ومن المعلوم أنه إذا التفت للشفيع يسأله فقد أعرض بوجهه وقلبه عن الله تعالى وذلك ينافي الإخلاص. ويأتي بيان ذلك في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى. 4 سورة البقرة آية: 22. 5 مسلم: الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/344 ,3/374 ,3/391) . 6 حسن: أحمد (1/214 , 224 , 283 , 347) والبخاري في الأدب المفرد (783) والنسائي في عمل اليوم والليلة (995) . وابن ماجة: كتاب الكفارات (2117) : باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت. من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وحسنه الأرناؤوط في تخريج مسند أبي بكر (ص55) . وحسنه الألباني في الصحيحة (139) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وفيه: بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات؛ فإنها ملك لله تعالى وبيده، ليس بيد غيره منها شيء، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لاقى الله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر، كما يأتي تقريره في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى. فيه مسائل: الأولى: الخوف من الشرك. الثانية: أن الرياء من الشرك. الثالثة: أنه من الشرك الأصغر. الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين. الخامسة: قرب الجنة والنار. السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد. السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئا دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار، ولو كان من أعبد الناس. الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ". جابر: هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بمهملتين - الأنصاري ثم السلمي - بفتحتين - صحابي جليل هو وأبوه، ولأبيه مناقب مشهورة - رضي الله عنهما -1 مات بالمدينة بعد السبعين، وقد كف بصره، وله أربع وتسعون سنة. قوله: "من لقي الله لا يشرك به شيئا" قال القرطبي: أي لم يتخذ معه شريكا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة، ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة: أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة. وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد. التاسعة: اعتباره بحال الأكثر لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 2. العاشرة: فيه تفسير " لا إله إلا الله" كما ذكره البخاري. الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك. وقال النووي: أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم   1 كان عبد الله والد جابر من الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم نقيب بني سلمة. ثم حضر بدرا. وقتل يوم أحد, فأخذ يبكي عليه ولده جابر وأخته فاطمة بنت عمرو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبكيه أو لا تبكيه, لا زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه". 2 سورة إبراهيم آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 حكم بكفره بجحده وغير ذلك1. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به. لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا. وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة. فإن عفا الله عنه دخل الجنة أولا، وإلا عذب في النار ثم أخرج من النار وأدخل الجنة. وقال غيره: اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء، واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو كقولك: من توضأ صحت صلاته. أي مع سائر الشروط، فالمراد: من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به إجمالا في الإجمالي وتفصيلا في التفصيلي2 انتهى.   1 يعني أنهم مستوون في الخلود في النار, ولكنهم متفاوتون في دركاتها. ولا يظلم ربك أحدا مثقال ذرة. 2 يعني خالطت حلاوة هذا الإيمان بشاشة قلبه فأثمرت الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة. وإلا فكم من مدع لهذا الإيمان الإجمالي والتفصيلي وهو عري عنه إجمالا وتفصيلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 باب" الدعاء إلى شهادة لا إله إلا الله " وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1.   قوله : "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله" لما ذكر المصنف - رحمه الله - التوحيد وفضله، وما يوجب الخوف من ضده. نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه، بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم. كما قال الحسن البصري لما تلا قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2 فقال: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين. هذا خليفة الله" 3. قال - رحمه الله -: وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4. قال أبو جعفر ابن جرير: "يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم " قل " يا محمد " هذه " الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها، من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص   1 سورة يوسف آية: 108. 2 سورة فصلت آية: 33. 3 ذكره العماد ابن كثير في تفسير الآية (33) من سورة فصلت عن عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري - رحمه الله -. ويعني الحسن بذلك: أن الصدق في حب الله وعبادته وطاعته يستلزم ولا بد الدعوة إلى ذلك والجهاد فيه. لأن من أحب الله أحب كل ما أحبه الله وكل من أحب الله، وكره كل ما كره ومن كره، وأحب أن يكون الناس كلهم معه في حب الله. 4 سورة يوسف آية: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته " سبيلي " طريقتي ودعوتي، "أَدْعُو إِلَى اللَّهِ" تعالى وحده لا شريك له " على بصيرة " بذلك ويقين علم مني به " أنا " ويدعو إليه على بصيرة أيضا من اتبعني وصدقني وآمن بي. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} 1 " يقول له تعالى ذكره: وقل: تنزيها لله تعالى وتعظيما له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه. {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني". انتهى. قال في شرح المنازل: يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهي البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة، وهي أعلى درجات العلماء. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 3 أي أنا وأتباعي على بصيرة. وقيل: "من اتبعني" عطف على المرفوع في "أدعو" أي أنا أدعو إلى الله على بصيرة، ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله تعالى على بصيرة، وعلى القولين: فالآية تدل على أن اتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى، ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة، وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى. قال المصنف - رحمه الله -: "فيه مسائل: منها التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرا ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه. ومنها: أن البصيرة من الفرائض. ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى عن المسبة. ومنها: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى. ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك" اهـ. وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في معنى قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} 4 الآية ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو: فإنه إما أن يكون طالبا للحق محبا له، مؤثرا له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدال. وإما أن يكون مشتغلا بضد الحق. لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب. وإما أن يكون معاندا معارضا، فهذا يجادل بالتي هي أحسن. فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجدال إن أمكن. انتهى. قال: "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما بعث   1 سورة يوسف آية: 108. 2 سورة يوسف آية: 108. 3 سورة يوسف آية: 108. 4 سورة النحل آية: 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 معاذا إلى اليمن قال: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " - وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله - " فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " أخرجاه1. قال الحافظ: كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر، قبل حج النبي صلي الله عليه وسلم، كما ذكره المصنف - يعني البخاري في أواخر المغازي - وقيل: كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه صلي الله عليه وسلم من تبوك. رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك. وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ثم توجه إلى الشام فمات بها. قال شيخ الإسلام: ومن فضائل معاذ رضي الله عنه أنه صلي الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن مبلغا عنه، ومفقها ومعلما وحاكما. قوله: " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب " قال القرطبي: "يعني به اليهود والنصارى، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما نبهه على ذلك ليتهيأ لمناظرتهم. وقال الحافظ: هو كالتوطئة للوصية لجمع همته عليها". قوله: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " 2 "شهادة" رفع على أنه اسم "يكن" مؤخر. و "أول" خبرها مقدم. ويجوز العكس.   1 البخاري: كتاب المغازي (4347) : باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. ومسلم: كتاب الإيمان (19) (29) : باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام. 2 في قرة العيون: وكانوا يقولونها لكنهم جهلوا معناها الذي دلت عليه من إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه, فكان قولهم "لا إله إلا الله " لا ينفعهم لجهلهم بمعنى هذه الكلمة، كحال أكثر المتأخرين من هذه الأمة, فإنهم كانوا يقولونها مع ما كانوا يفعلونه من الشرك بعبادة الأموات والغائبين والطواغيت والمشاهد، فيأتون بما ينافيها فيثبتون ما نفته من الشرك باعتقادهم وقولهم وفعلهم, وينفون ما أثبتته من الإخلاص كذلك, وظنوا أن معناها القدرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قوله: "وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله" هذه الرواية ثابتة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري. وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبيه على معنى "شهادة أن لا إله إلا الله"؛ فإن معناها توحيد الله بالعبادة ونفي عبادة ما سواه. وفي رواية: " "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله" " وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 1 والعروة الوثقى هي "لا إله إلا الله". وفي رواية للبخاري فقال: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ". قلت: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط لا تنفع قائلها إلا باجتماعها: أحدها: العلم المنافي للجهل. الثاني: اليقين المنافي للشك. الثالث: القبول المنافي للرد. الرابع: الانقياد المنافي للترك. الخامس: الإخلاص المنافي للشرك. السادس: الصدق المنافي للكذب. السابع: المحبة المنافية لضدها.   1 سورة البقرة آية: 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب. ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل - عليهم السلام - {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1 وقال نوح: {أَلا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} 2 وفيه معنى "لا إله إلا الله" مطابقة3. قال شيخ الإسلام: "وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلي الله عليه وسلم، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلما، والعدو وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال. ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان، قال: وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطنا وظاهرا، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء" اهـ.   1 سورة المؤمنون آية: 32. 2 سورة هود آية: 2. 3 في قرة العيون: وأما قول المتكلمين ومن تبعهم: إن أول واجب معرفة الله بالنظر والاستدلال، فذلك أمر فطري فطر الله عليه عباده, ولهذا كان مفتتح دعوة الرسل أممهم إلى توحيد العبادة: (أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) أي لا تعبدوا إلا الله. قال تعالى: 21: 25 (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) ، وقال تعالى: 14: 10 (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) . قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: ((هذا يحتمل شيئين: "أحدهما" أفي وجوده شك؟ فإن الفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به, فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة. "والمعنى الثاني" أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك؟ وهو الخالق لجميع الموجودات فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؛ فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تقربهم من الله زلفى)) اهـ. قلت: وهذا الاحتمال الثاني يتضمن الأول. روى أبو جعفر ابن جرير بسنده عن عكرمة ومجاهد وعامر أنهم قالوا: ليس أحد إلا وهو يعلم أن الله خلقه وخلق السماوات والأرض فهذا إيمانهم. وعن عكرمة أيضا تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره. وتقدم أن "لا إله إلا الله " قد قيدت بالكتاب والسنة بقيود ثقال. منها: العلم واليقين والإخلاص والصدق والمحبة والقبول والانقياد, والكفر بما يعبد من دون الله. فإذا اجتمعت هذه القيود لمن قالها نفعته هذه الكلمة، وإن لم تجتمع هذه لم تنفعه، والناس متفاوتون في العلم بها والعمل، فمنهم من ينفعه قولها ومنهم من لاينفعه كما لا يخفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 " فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم.   قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وفيه أن الإنسان قد يكون عالما1 وهو لا يعرف معنى "لا إله إلا الله" أو يعرفه ولا يعمل به". قلت: فما أكثر هؤلاء - لا كثرهم الله تعالى -. قوله: " فإن هم أطاعوك لذلك " أي شهدوا وانقادوا لذلك. " فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات " فيه: أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين. قال النووي ما معناه: أنه يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام. ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة. والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه. وهذا قول الأكثرين. اهـ. قوله: " فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم". 2 فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات، وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي صلي الله عليه وسلم الفقراء؛ لأن حقهم في الزكاة آكد من   1 يعني عالما بعلوم الدنيا; أو عالما حافظا لعلوم الدين ولكنها لا تمس قلبه ولا عقيدته؛ لأنه تعلمها للدنيا وليقال عالم. فهو محترف العلم، وقد يكون بارعا حاذفا في هذه الحرفة ولكنه لا ينتفع في نفسه بعلمه؛ لأن علمه في ناحية وعقيدته ودينه مع تقليد العوام والجمهور في ناحية أخرى، وهذا حال أكثر العلماء الرسميين اليوم أصلحهم الله. 2 في قرة العيون: فيه أن الزكاة لا تنفع إلا من وحد الله وصلى الصلوات بشروطها وأركانها وواجباتها. والزكاة قرينة الصلوات في كتاب الله تعالى، ويدل على هذه الجملة قوله تعالى: 5: 98 (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) . فمن أتى بهذه الأمور أتى ببقية الأركان لقوة الداعي إلى ذلك؛ لأن ذلك يقتضي الإتيان بها لزوما. قال تعالى: 9: 5 (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) . قال أنس في الآية: "توبتهم: خلع الأوثان وعبادتهم ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة". وعن ابن مسعود مرفوعا: "أمرت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, ومن لم يزك فلا صلاة له ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 حق بقية الأصناف الثمانية. وفيه: أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها: إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهرا. وفي الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، كما هو مذهب مالك وأحمد. وفيه: أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافر غير المؤلف، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور؛ عموم الحديث. قلت: والفقير إذا أفرد في اللفظ تناول المسكين وبالعكس، كنظائره. كما قرره شيخ الإسلام. قوله: " إياك وكرائم أموالهم " بنصب "كرائم" على التحذير، وجمع كريمة. قال صاحب المطالع: "هي الجامعة للكمال الممكن في حقها: من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف". ذكره النووي "قلت" وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمنا. وفيه: أنه يحرم على العامل في الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال. بل يخرج الوسط، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز2. قوله: " واتق دعوة المظلوم " 3 أي اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم، وهذان الأمران يقيان من رزقهما من جميع الشرور دنيا وأخرى. وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم.   1 البخاري: الزكاة (1395 ,1458 ,1496) والمغازي (4347) والتوحيد (7372) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجه: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . 2 في قرة العيون: تحذير له من أن يتجاوز ما شرعه الله ورسوله في الزكاة, وهو أخذها من أوساط المال؛ لأن ذلك سبب لإخراجها بطيب نفس ونية صحيحة. وكل ما زاد على المشروع فلا خير فيه. وهذا أصل ينبغي التفطن له. 3 في قرة العيون: يدل على أن العامل إذا زاد على المشروع صار ظالما لمن أخذ ذلك منه، ودعوة المظلوم مقبولة ليس بينها وبين الله حجاب يمنع قبولها. فعلى العامل أن يتحرى العدل فيما استعمل فيه، فلا يظلم بأخذ زيادة على الحق، ولا يحابي بترك شيء منه, فعليه أن يقصد العدل من الطرفين, والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 قوله: "فإنه" أي الشأن " ليس بينها وبين الله حجاب " هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن، أي فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها. وفي الحديث أيضا قبول خبر الواحد العدل، ووجوب العمل به. وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة. وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمرهم بتقوى الله تعالى ويعلمهم، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم سوء عاقبته. والتنبيه على التعليم بالتدريج. قاله المصنف. قلت: ويبدأ بالأهم فالأهم. واعلم أنه لم يذكر في الحديث الصوم والحج، فأشكل ذلك على كثير من العلماء. قال شيخ الإسلام: أجاب بعض الناس: أن بعض الرواة اختصر الحديث وليس كذلك. فإن هذا طعن في الرواة؛ لأن ذلك إنما يقع في الحديث الواحد; مثل حديث وفد عبد القيس 1 حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره، فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيها كذلك، ولكن عن هذا جوابان: أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة. فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج، كعامة الأحاديث، إنما جاء في الأحاديث المتأخرة. الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه. فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها: كالصلاة والزكاة. ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم. فإما أن يكون قبل فرض الحج; وإما أن يكون المخاطب بذلكض   1 روى البخاري ومسلم عن ابن عباس: "أن عبد القيس وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من ربيعة. قال: مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى. فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نأخذ به ونأمر به من وراءنا وندخل به الجنة. فقال: آمركم بأربع: وأنهاكم عن أربع آمركم بالإيمان بالله وحده. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم" - الحديث وكان وفد عبد القيس في سنة تسع. (*) . (*) (وكان وفد عبد القيس في سنة تسع) في هذا نظر والأظهر أنهم وفدوا قبل فتح مكة لقولهم: (إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر) ، ومعلوم أن أهل مكة هم رؤوس كفار مضر وقادتها، وقد أسلموا عام الفتح وذلك سنة ثمان, وقد استنبط الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تاريخه البداية, هذا المعنى من هذا السياق - والله أعلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 لا حج عليه. وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما؛ لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم، فإنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرا، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وهو يذاكر في الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها. فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم، وإن كان واجبا كما في آيتي براءة1 نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس. وكذلك لما بعث معاذا إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصوم؛ لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج؛ لأن وجوبه خاص ليس بعام، ولا يجب في العمر إلا مرة. انتهى بمعناه 2. قوله: "أخرجاه" أي البخاري ومسلم، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. قال: "ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي ابن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع،   1 هما قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) الآية الخامسة. ومثلها الآية الحادية عشرة، وخاتمتها: (فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون) . 2 ولعل الصواب ما أجاب به بعض العلماء من اختصار الراوي للحديث. وليس في ذلك طعن في الرواة؛ لأنهم كانوا يروون الحديث بحسب الظروف والمناسبات. فقد تكون المناسبة مقتضية لبعض الحديث فيقتصر على هذا البعض. وذلك كثير جدا; كما تراه في البخاري وغيره - والله أعلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فأعطاه الراية، قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " 1. "يدوكون" أي يخوضون. قوله: "عن سهل بن سعد" أي ابن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي، أبي العباس صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضا، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة. قوله: "قال يوم خيبر" وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: " كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلي الله عليه وسلم في خيبر، وكان أرمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج علي رضي الله عنه فلحق بالنبي صلي الله عليه وسلم، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها، قال صلي الله عليه وسلم: لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غدا رجل يحبه الله ورسوله، أو قال: يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلي الله عليه وسلم الراية ففتح الله عليه " 2. قوله: "لأعطين الراية" قال الحافظ: في رواية بريدة: "إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله" وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفها، ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: " كانت راية رسول الله صلي الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض "3 ومثله عند الطبراني عن. الناس يدوكون ليلتهم: أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم كلهم بريدة. وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد: "مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله"4. قوله: " يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه، أو يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج. لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، ولكن هذا باطل؛ فإن الله تعالى ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافرا.   1 البخاري: الجهاد والسير (2975) , ومسلم: فضائل الصحابة (2407) , وأحمد (4/51) . 2 البخاري: كتاب فضائل الصحابة (3702) : باب مناقب علي بن أبي طالب. ومسلم: كتاب فضائل الصحابة (3407) (35) : باب من مناقب علي بن أبي طالب. 3 الترمذي: الجهاد (1681) , وابن ماجه: الجهاد (2818) . 4 البخاري: كتاب فضائل الصحابة (3701) : باب مناقب علي بن أبي طالب. ومسلم: كتاب فضائل الصحابة (2406) (34) : باب من فضائل علي بن أبي طالب. وقال: حديث حسن غريب، والطبراني (1161) عن بريدة. وقال في المجمع (5/ 321) : "وفيه حيان بن عبيد الله. قال الذهبي: بيض له ابن أبي حاتم فهو مجهول وبقية رجال أبي يعلى ثقات " اهـ. والحديث حسنه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (10/ 404) وزيادة "مكتوب فيه لا إله إلا الله " عند الطبراني في الأوسط كما قال الهيثمي في المجمع (5/ 321) عن ابن عباس وفيها حيان بن عبيد الله أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وفيه إثبات صفة المحبة خلاقا للجهمية ومن أخذ عنهم 1. قوله: " يفتح الله على يديه " صريح في البشارة بحصول الفتح، فهو علم من أعلام النبوة. قوله: " فبات الناس يدوكون ليلتهم " بنصب "ليلتهم" و "يدوكون" قال المصنف: يخوضون. أي فيمن يدفعها إليه. وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان. قوله: "أيهم" هو برفع "أي" على البناء لإضافتها وحذف صدر صلتها. قوله: " فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ". وفي يرجو أن يعطاها ". فقال: أين علي ابن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال: " ما أحببت الإمارة إلا يومئذ "2. قال شيخ الإسلام: إن في ذلك شهادة النبي صلي الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطنا وظاهرا وإثباتا لموالاته لله تعالى ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي صلي الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو لخلق كثير، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس3 وعبد الله بن سلام4 وإن كان شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر5.   1 في قرة العيون: وفيه فضيلة لعلي رضي الله عنه بما خصه من إعطاء الراية, ودعوته أهل خيبر إلى الإسلام; وقتالهم إذا لم يقبلوا. وفيه مشروعية الدعوة إلى الإسلام. 2 مسلم: كتاب فضائل الصحابة (5 0 24) (33) : باب من فضائل علي بن أبي طالب. 3 قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هو من أهل الجنة" في حديث طويل حين جلس في بيته حزينا عند نزول (لا ترفعوا صوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) وكان ثابت رفيع الصوت, فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي- الحديث رواه الإمام أحمد (ج 3 ص 137) ، ورواه مسلم. في كتاب الإيمان حديث 187. 4 عن سعد بن أبي وقاص قال: "ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام" رواه البخاري في مناقب الأنصار، ورواه مسلم والترمذي وابن ماجة. 5 روى البخاري عن عمر قال: "كان رجل يسمى عبد الله ويلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله وكان يشرب الخمر فيؤتى به فيقيم عليه الحد فلعنه بعض الصحابة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قوله: "فقال أين علي ابن أبي طالب" فيه سؤال الإمام عن رعيته; وتفقد أحوالهم. قوله: " فقيل هو يشتكي عينيه " أي من الرمد، كما في صحيح مسلم عن سعد ابن أبي وقاص فقال: " ادعوا لي عليا فأتي به أرمد " 1. الحديث، وفي نسخة صحيحة بخط المصنف: " فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه " مبني للفاعل، وهو ضمير مستتر في الفعل راجع إلى النبي صلي الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون مبنيا لما لم يسم فاعله. ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: " فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد ". قوله: "فبصق" بفتح الصاد، أي تفل. قوله: " ودعا له فبرأ" هو بفتح الراء والهمزة، أي عوفي في الحال، عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر. وعند الطبراني من حديث علي: " فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلي الله عليه وسلم إلي الراية ". وفيه دليل على الشهادتين2. قوله: "فأعطاه الراية" قال المصنف: "فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع; ومنعها عمن سعى". وفيه: أن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة لا ينافي التوكل. قوله: " وقال: انفذ على رسلك " بضم الفاء. أي امض، و "رسلك" بكسر الراء وسكون السين، أي على رفقك من غير عجلة. و "ساحتهم" فناء أرضهم وهو ما حولها. وفيه: الأدب عند القتال وترك العجلة والطيش، والأصوات التي لا حاجة إليها.   1 مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2404) (32) : باب من فضائل علي بن أبي طالب. 2 حسن. الحديث بهذا اللفظ قال عنه الهيثمي في المجمع (9/122) . "رواه أحمد وأبو يعلى باختصار ورجالهما رجال الصحيح غير أم موسى وحديثها مستقيم " اهـ. أما رواية الطبراني عن علي فهي بنحو هذه الرواية وقال عنها الهيثمي (9/122) أن إسنادها حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وفيه: أمر الإمام عماله بالرفق من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة; كما يشير إليه قوله: " ثم ادعهم الى الإسلام "1 أي الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإن شئت قلت الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الطاعة لرسوله صلي الله عليه وسلم. ومن هنا طابق الحديث الترجمة كما قال تعالى لنبيه ورسوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له والعبودية له. كذا قال أهل اللغة. وقال - رحمه الله تعالى -: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله: هو الاستسلام له وحده، فأصله في القلب. والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه. فمن عبده وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما، ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلما، وفي الأصل: هو من باب العمل، عمل القلب والجوارح. وأما الإيمان فأصله تصديق القلب وإقراره ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب. انتهى. فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك في العبادة وهو دعوة جميع المرسلين، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله; كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 3. وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، وفيه: مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون4. وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة   1 في قرة العيون: هذا هو شاهد الترجمة, وهكذا ينبغي لأهل الإسلام أن يكون قصدهم بجهادهم هداية الخلق إلى الإسلام والدخول فيه, وينبغي لولاة الأمر أن يكون هذا هو معتمدهم ومرادهم ونيتهم. 2 سورة آل عمران آية: 64. 3 سورة نوح آية: 3. 4 الغار: الغافل. وقال البخاري: غزوة بني المصطلق من خزاعة. وهي المريسيع. قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. وقال النعمان بن راشد عن الزهري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون, وأنعامهم تسقى على الماء, فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم. وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث ". وبنو المصطلق بطن شهير من خزاعة. وسبب غزوهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن ضرار سيدهم أبا جويرية يجمع الناس ويستعد لقتاله. ففاجأهم رسول الله وهم غافلون, وأسر منهم أكثرهم وأسلم الحارث بن ضرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وجبت دعوتهم. قوله: " وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه " 12 أي في الإسلام إذا أجابوك   1 البخاري: المناقب (3701) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) . 2 في قرة العيون: فيه مما أمر به وشرعه من حقوق "لا إله إلا الله " وهذا يدل على أن الأعمال من الإيمان خلافا للأشاعرة والمرجئة في قولهم: إنه القول. وزعموا أن الإيمان هو مجرد التصديق, وتركوا ما يدل عليه الكتاب والسنة؛ لأن الدين ما أمر الله به فعلا وما نهى عنه تركا. وفيه الرد على المشركين المستدلين على الشرك بكرامات الأولياء لدلالتها على فضلهم. وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقع له من الكرامات ما لم يقع لغيره. وقد خد الأخاديد وأضرمها بالنار وقذف فيها من غلا فيه أو اعتقد فيه بعض ما كان يعتقده هؤلاء المشركون مع أهل البيت وغيرهم. فصار من أشد الصحابة رضي الله عنه بعدا عن الشرك, وشدة على من أشرك حتى أحرقهم بالنار (*) . وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما أعطي من الكرامات صار من أبعد الصحابة عن الشرك وذرائعه. وهؤلاء أفضل أهل الكرامات فما زادهم ذلك إلا قوة في التوحيد; وشدة على أهل الشرك والتنديد, كما جرى لعمر - رضي الله عنه - في الاستسقاء بالعباس وتعمية قبر دانيال لما وجده الصحابة في بيت مال الهرمزان, كما أن المعجزات إنما زادت الرسل قوة في الدعوة إلى التوحيد وشدة على أهل الشرك والإنكار عليهم وجهادهم, ولكن قد يقع من الأحوال الشيطانية لمن استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر ربه ما قد يلتبس على الجهال الذين تلبسوا بالشرك; ويظنون أن ذلك كرامات, وهي من مكر الشيطان; وإغوائه لمن لم يعرف الحق من الباطل, وقد قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: 43: 43 (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) فكذلك يجب على كل أحد أن يطلب الحق من القرآن بتدبره؛ فإنه الصراط المستقيم ولا يلتفت إلى ما زخرفته الشياطين كما اغتر به من اغتر في هذه الأمة من قبلهم. (*) هو عبد الله بن سبأ اليهودي وشيعته. والقصة في البخاري. وفيه: من أداء الفرائض على الوجه الشرعي والنهي عن تعدي الحدود التي حدها الله بين الحلال والحرام; وذلك من الإيمان. فالحلال ما أحله الله, والحرام ما حرمه الله; والدين ما شرعه الله, فإذا أخذ بالإسلام الذي هو التوحيد والإخلاص, وأحل ما أحله الله تعالى وحرم ما حرم الله تعالى وأمر بذلك وجاهد عليه, فقد قام بما وجب. وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " 1.   إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التي لا بد لهم من فعلها: كالصلاة والزكاة، كما في حديث أبي هريرة: " فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 2 ولما قال عمر لأبي بكر في قتاله مانعي الزكاة: " كيف تقاتل النساء وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. قال أبو بكر: فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها". وفيه: بعث الإمام الدعاة إلى الله تعالى، كما كان النبي صلي الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون، كما في المسند عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته: " ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم. ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم "3. قوله: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " "أن" مصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم، و (أن) والفعل بعدها في تأويل مصدر، رفع على الابتداء والخبر (خير) و (حمر) بضم المهملة وسكون الميم، جمع أحمر، و (النعم) بفتح النون والعين المهملة، أي خير لك من الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب. فيه مسائل: الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلي الله عليه وسلم. الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.   1 البخاري: المناقب (3701) , ومسلم: فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود: العلم (3661) , وأحمد (5/333) . (1 و 2) رواهما البخاري ومسلم وغيرهما. 3 إسناده ضعيف: أحمد (1/41) . وقال الهيثمي في المجمع (5/ 211) : "رواه أحمد في حديث طويل وأبو فراس لم أر من جرحه ولا وثقه, وبقية رجاله ثقات " اهـ. وأبو فراس النهدي قال في الميزان (4/ 561) : لا يعرف وفي التقريب (2/462) مقبول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الثالثة: أن البصيرة من الفرائض. الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: أنه تنزيه الله تعالى عن المسبة. الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله. السادسة: - وهي أهمها - إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم، ولو لم يشرك. السابعة: كون التوحيد أول واجب. الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة. التاسعة: أن معنى " أن يوحدوا الله" لا معنى: شهادة أن لا إله إلا الله. العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها. الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم. الثالثة عشرة: مصرف الزكاة. الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم. الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال. السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم. السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب. مصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم. وأن والفعل بعدها في تأويل مصدر، رفع على الابتداء والخبر "خير". و "حمر" بضم المهملة وسكون الميم، جمع أحمر. و "النعم" بفتح النون والعين المهملة، أي خير لك من الإبل الحمر. وهي أنفس أموال العرب. الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 التاسعة عشرة: قوله: " لأعطين الراية" ألخ علم من أعلام النبوة. العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا. الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه. الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح. الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى. الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: " على رسلك". الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال. السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا. السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة لقوله: " أخبرهم بما يجب ". الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام. التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد. الثلاثون: الحلف على الفتيا قال النووي: "وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام; وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها". وفيه: فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 باب" تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله"   قوله: "باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله". قلت: هذا من عطف الدال على المدلول1.   1 في قرة العيون: لأن التوحيد هو معنى هذه الكلمة العظيمة, وذلك يتبين بما ساقه من الآيات والحديث؛ لما فيها من زيادة البيان وكشف ما أشكل من ذلك, وإقامة الحجة على من غلط في معنى "لا إله إلا الله " من أهل الجهل والإلحاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فإن قيل: قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى "لا إله إلا الله" وما تضمنته من التوحيد كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 1 وسابقها ولاحقها. وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها، فما فائدة هذه الترجمة؟. قيل: هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه: من توحيد العبادة. وفيها: الحجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم؛ لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الآيات، كالآية الأولى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} 2. أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه، والعزير والملائكة، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهي، كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك. وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله ينافي التوحيد، وينافي شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده. وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك، لأن دعوة غير الله تأليه وعبادة له. و"الدعاء مخ العبادة" 3. وفي هذه الآية: أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضرر ولا تحويله من مكان إلى مكان، ولا من صفة إلى صفة، ولو كاز المدعو نبيا أو ملكا. وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله كائنا من كان؛ لأن دعوته تجعل داعيه أحوج ما كان إليها؛ لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره. وهذه الآية تقرر التوحيد ومعنى لا إله إلا الله. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 45 يبين أن هذا   1 سورة الإسراء آية: 23. 2 سورة الإسراء آية: 56. 3 ضعيف: لفظ حديث ضعيف أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات (3371) : باب ما جاء في فضل الدعاء وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وضعفه الألباني في تخريج المشكاة (1 233) وضعيف الجامع (3003) . (*) رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. 4 سورة الإسراء آية: 57. 5 في قرة العيون: أي أولئك الذين يدعوهم أهل الشرك ممن لا يملك كشف الضر ولا تحويله من الملائكة والأنبياء والصالحين كالمسيح وأمه والعزير، فهؤلاء دينهم التوحيد وهو بخلاف من دعاهم من دون الله ووصفهم بقوله: (يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) ، فيطلبون القرب من الله بالإخلاص له وطاعته فيما أمر, وترك ما نهاهم عنه. وأعظم القرب التوحيد الذي بعث الله به أنبياءه ورسله، وأوجب عليهم العمل به والدعوة إليه، وهذا الذي يقربهم إلى الله أي إلى عفوه ورضاه، ووصف ذلك بقوله: (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) ، فلا يرجون أحدا سواه ولا يخافون غيره, وذلك هو توحيده؛ لأن ذلك يمنعهم من الشرك, ويوجب لهم الطمع في رحمة الله والهرب من عقابه, والداعي لهم - والحالة هذه - قد عكس الأمر, وطلب منهم ما كانوا ينكرون من الشرك بالله في دعائهم لمن كانوا يدعونه من دون الله. ففيه معنى قوله: 35: 14 (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) وقوله: 46: 6 (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) . وفيه: الرد على من ادعى أن شرك المشركين إنما هو بعبادة الأصنام، وتبين بهذه الآية أن الله تعالى أنكر على من دعا معه غيره من الأنبياء والصالحين والملائكة ومن دونهم, وأن دعاء الأموات والغائبين لجلب نفع أو دفع ضر هو من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله, وأن ذلك ينافي ما دلت عليه كلمة الإخلاص. فتدبر هذه الآية العظيمة يتبين لك التوحيد, وما ينافيه من الشرك والتنديد، فإنها نزلت فيمن يعبد الملائكة والمسيح وأمه والعزير، فهم المعنيون بقوله: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) . ثم بين تعالى أن هؤلاء المشركين قد خالفوا من كانوا يدعونه في دينه فقال: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) وقدم المعمول لأنه يفيد الحصر, يعني يبتغون إلى ربهم الوسيلة لا إلى غيره. وأعظم الوسائل إلى الله تعالى التوحيد الذي بعث به الله أنبياءه ورسله، وخلق الخلق لأجله. ومن التوسل إليه: التوسل بأسمائه وصفاته, كما قال تعالى: 7: 180 (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) وكما ورد في الأذكار المأثورة من التوسل بها في الدعوات كقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام) ، وقوله: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد) وغير ذلك من الأعمال الصالحة الخالصة التي لم يشبها شرك. فالتوسل إلى الله هو بما يحبه ويرضاه, لا بما يكرهه ويأباه من الشرك الذي نزه نفسه عنه بقوله: (سبحان الله عما يشركون) وقوله: (سبحان الله وما أنا من المشركين) وقوله في الإنكار على من اتخذ الشفعاء 10: 18 (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) . وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير يأمر عباده بإخلاص العبادة له، وينهاهم عن عبادة ما سواه, ويعظم عقوبته كما قد جرى على الأمم المكذبة للرسل فيما جاءوهم به من التوحيد والنهي عن الشرك. فأوقع الله تعالى بهم ما أوقع كقوم نوح وعاد وثمود ونحوهم؛ فإنهم عصوا الرسل فيما أمروهم به من التوحيد وتمسكوا بالشرك، وقالوا لنوح: 11: 27 (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) . وقالوا لهود: 11: 53 (ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين) الآيات. وقالوا لصالح: 11: 62 (قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) . وقالوا لشعيب 11: 87 (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) . فتدبر ما قص الله تعالى في كتابه مما دعت إليه الرسل وما أوقع بمن عصاهم؛ فإن الله تعالى أقام به الحجة على كل مشرك إلى يوم القيامة. وأما ما ورد في معنى الآية عن ابن مسعود قال: "كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم". فإنه لا يخالف ما تقدم؛ لأن هذه الآية حجة على كل من دعا مع الله وليا من الأولين والآخرين, كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذه الآية: "وهذه الأقوال كلها حق؛ فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله سواء كان من الملائكة والجن أو من البشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 1. سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين. قال قتادة: " تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه "   1 سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقرأ ابن زيد {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1. قال العماد ابن كثير: "وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين". وذكره عن عدة من أئمة التفسير. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: في هذه الآية ذكر المقامات الثلاث: الحب، وهو ابتغاء التقرب إليه. والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف. وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبي صلي الله عليه وسلم: "والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعدما حلفت عدد أصابعي هذه أن لا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلوات المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة " وأخرج محمد بن نصر المروزي من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق2 من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " 3 وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}   1 يعني أن جميع الصالحين الذين يدعوهم المشركون ويستغ يثون بهم إما توسلا إلى الله ليقضي حوائجهم, وإما استقلالا, بأن يطلبوا منهم قضاء الحاجة معتقدين بأن الله وهبهم التكوين والتصرف، أولئك الصالحون مشتغلون بأنفسهم يدعون الله لها ويتوسلون إليه بعبادته مخلصين له الدين خائفين عذابه راجين رحمته, وإذا لم يملكوا لأنفسهم نفعا ولا دفع ضر, فكيف يملكون لغيرهم ضرا أو نفعا؟ . 2 الصوى: الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة يستدل بها على الطريق, واحدتها صوة - كقوة- أراد أن للإسلام طرائق وأعلاما يهتدى بها. 3 حسن: أحمد (5/3) "من طريق أبي قزعة الباهلي عن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه وليس عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده كما وهم ابن القيم وإسناده حسن ". أفاده الدوسري في النهج السديد (328) ورواه الحاكم (1/ 21) بمعناه من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني في الصحيحة لطرقه (333) وفي تخريج الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام رقم (3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 (وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 1 أي "لا إله إلا الله". فتدبر كيف عبر الخليل - عليه السلام - عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه ووضعت له2 من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة في الخارج: كالكواكب والهياكل والأصنام التي صورها قوم نوح على صور الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وغيرها من الأوثان والأنداد التي كان يعبدها المشركون بأعيانها. ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره، وهو الله وحده لا شريك له، فهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة. كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 4. فكل عبادة يقصد بها غير الله: من دعاء وغيره فهي باطلة، وهي الشرك الذي لا يغفره الله، قال تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} 5. وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ   1 سورة الزخرف آية: 26-27-28. 2 في قرة العيون: فعبر عن المنفي بها قوله: (إنني براء مما تعبدون) وعبر عما أثبتته بقوله: (إلا الذي فطرني) فقصر العبادة على الله وحده، ونفاها عن كل ما سواه ببراءته من ذلك. فما أحسن التفسير لهذه الكلمة وما أعظمه. قال العماد ابن كثير في قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه) : أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله; جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه (لعلهم يرجعون) أي إليها. قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: (وجعلها كلمة باقية في عقبه) . يعني "لا إله إلا الله" لا يزال في ذريته من يقولها. 3 سورة التوبة آية: 31. 4 سورة الحج آية: 62. 5 سورة غافر آية: 73-74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ابْنَ مَرْيَمَ ْ1} 2 وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلي الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال: " يا رسول الله، لسنا نعبدهم. قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي صلي الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم " 34. فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أربابا، كما هو الواقع في هذه الأمة، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة لا إله إلا الله. فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة، فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 5 فكل من اتخذ ندا لله يدعوه من دون الله، ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته - كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام - فلا بد أن يعظموهم ويحبوهم   1 الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى في الآية: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) فصار ذلك عبادة لهم. وجعلوا أحبارهم ورهبانهم مشرعين في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله; فاتخذوهم بذلك أربابا؛ لأن التشريع من خصائص الربوبية كما أن العبادة من مستحقات الربوبية. وقال تعالى: 3: 80 (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) . 2 في قرة العيون: أي اتخذوه ربا بعبادتهم له من دون الله. وقال تعالى: 5: 117,116 (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتي كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) . فمن تدبر هذه الآيات تبين له معنى "لا إله إلا الله "، وتبين له التوحيد الذي جحده أكثر من يدعي العلم في هذه القرون وما قبلها من متأخري هذه الأمة, وقد عمت البلوى بالجهل بعد القرون الثلاثة لما وقع الغلو في قبور أهل البيت وغيرهم وبنيت عليها المساجد, وبنيت لهم المشاهد، فاتسع الأمر وعظمت الفتنة في الشرك المنافي للتوحيد لما حدث الغلو في الأموات وتعظيمهم بالعبادة. فبهذه الأمور التي وقع فيها الأكثر, وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا, والبدعة سنة والسنة بدعة، نشأ على هذا الصغير, وهرم عليه الكبير، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ, فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" وفي رواية: " يصلحون ما أفسد الناس ". 3 حسن: الترمذي: كتاب التفسير (3095) : باب ومن سورة التوبة. والبيهقي (10/ 116) وعزو الحديث لأحمد وهم كما أفاده الدوسري. والحديث حسنه الألباني في غاية المرام ص (20) . 4 رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير مطولا. 5 سورة البقرة آية: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لذلك؛ فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى1. ويقولون "لا إله إلا الله" ويصلون ويصومون، فقد أشركوا بالله في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره. فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل ولا يصح منه. وهؤلاء وإن قالوا: "لا إله إلا الله" فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة: من العلم بمدلولها؛ لأن المشرك جاهل بمعناها، ومن جهله بمعناها جعل لله شريكا في المحبة وغيرها، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص، ولم يكن صادقا في قولها؛ لأنه لم ينف ما نفته من الشرك، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص، وترك اليقين أيضا؛ لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه، ولم يقبله وهو الحق، ولم يكفر بما يعبد من دون الله؛ كما في الحديث. بل آمن بما يعبد من دون الله باتخاذه الند ومحبته له وعبادته إياه من دون الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 2؛ لأنهم أخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب ويخلصون أعمالهم جميعا لله، ويكفرون بما عبد من دون الله. فبهذا يتبين لمن وفقه الله تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآيات العظيمة على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين. فتدبر.   1 هم في الواقع ما أحبوا الله حقيقة؛ لأن حب الله لا يكون إلاعن معرفة بالله بأسمائه وصفاته. ومن أحب الله على الحقيقة لا يمكن أن يتخذ من دونه ندا. وليس معنى (كحب الله) أي كحبهم لله. ولكن معناها - والله أعلم -: يحبونهم حبا من جنس الحب الذي لا يكون إلا لله. وهو حب العبادة: غاية الحب في غاية الذل والتعظيم. فهذا هو الحب الذي ينشأ عنه الدعاء واللجأ والضراعة وطلب تفريج الكروب ونحوها، مما يجرده المؤمنون لله وحده وهم أشد حبا لله، والمشركون يجردونه لأوليائهم أو يشركونهم مع الله، ولا يرجون لله وقارا. وقال في قرة العيون: الأنداد: الأمثال والنظراء, كما قال العماد ابن كثير وغيره من المفسرين. فكل من صرف من العبادة شيئا لغير الله رغبة إليه أو رهبة منه, فقد اتخذه ندا لله؛ لأنه أشرك مع الله فيما لا يستحقه غيره. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: ((فتوحيد المحبوب ألا يتعدد محبوبه أي مع الله بعبادته له, وتوحيد الحب أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له, فهذا الحب وإن سمي عشقا فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله وسوله أحب إليه مما سواهما, وأن لا تكون محبته لغير الله, فلا يحب إلا الله; كما في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار" ومحبة رسوله هي من محبته، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبته, وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها. ويصدق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه - وهو الكفر- بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد. ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة؛ فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه شيئا, فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر, كان أحب إليه من نفسه. وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق من محبة محبوبيهم, بل لا نظير لهذه المحبة; كما لا مثيل لمن تعلقت به, وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد, وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا, وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان, ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في المحبة الخاصة كان شركا لا يغفره الله كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) . والصحيح أن معنى الآية: أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم; كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا, كما لا يماثل محبوبهم غيره. وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته, وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته. انتهى. 2 سورة البقرة آية: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قال: وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 الآية. يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها، وهو قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 2. قال ابن كثير - رحمه الله -: يقول تعالى: " قل " يا محمد3 للمشركين الذين عبدوا غير الله {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} من الأصنام والأنداد، وارغبوا إليهم؛ فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم، أي بالكلية " ولا تحويلا " أي ولا أن يحولوه إلى غيركم. والمعنى: أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر. قال العوفي عن ابن عباس في الآية: " كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا، وهم الذين يدعون. يعني الملائكة والمسيح وعزيرا ".   1 سورة الإسراء آية: 57. 2 سورة الإسراء آية: 56. 3 يستعمل المفسرون هذا الخطاب كثيرا; تفسيرا لخطاب الله. ولكن يلاحظ أن الله لم يخاطب رسوله ولا مرة واحدة بهذا الخطاب "يا محمد"، بل كل خطاب الله "يا أيها النبي يا أيها الرسول " فينبغي أن يكون ذلك كذلك; والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وروى البخاري في الآية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا. وفي رواية: " كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم "1. وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هي الإسلام، وهو كذلك على كلا القولين. وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2 وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية قال: "عيسى وأمه وعزير". وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية: "هم عيسى وعزير والشمس والقمر". وقال مجاهد: "عيسى وعزير والملائكة". وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 3 لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لا بد له من ذلك: فإما أن يكون خائفا وإما أن يكون راجيا، وإما أن يجتمع فيه الوصفان. قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في هذه الآية، لما ذكر أقوال المفسرين: "وهذه الأقوال كلها حق؛ فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر. والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى الخبز؟ فيريه رغيفا. فيقول: هذا. فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع من شمول الآية. فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن; فقد نهى الله تعالى من دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: {وَلا تَحْوِيلا} فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة، فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله" اهـ. وفي هذه الآية رد على من يدعو صالحا ويقول: أنا لا أشرك بالله شيئا، الشرك عبادة الأصنام. قال: وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي}   1 أما الرواية الأولى فهي في البخاري: كتاب التفسير (4715) : باب (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) . وأما الرواية الثانية: ففي البخاري: كتاب التفسير (4714) : باب "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه". 2 سورة الزخرف آية: 26-27-28. 3 سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الآية. قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1 أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي "لا إله إلا الله"2 جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم - عليه السلام - {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي إليها. قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يعني "لا إله إلا الله" لا يزال في ذريته من يقولها. وروى ابن جرير عن قتادة {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} قال: كانوا يقولون: الله ربنا. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3 فلم يبرأ من ربه. رواه عبد بن حميد. وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 4 قال: " الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده ". قلت: فتبين أن معنى "لا إله إلا الله " توحيد الله بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه. قال المصنف - رحمه الله - "وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة، هي شهادة أن لا إله إلا الله". وفي هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في الكافية الشافية: وإذا تولاه امرؤ دون الورى ... طرا تولاه العظيم الشان" قال: وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5 الآية. الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلي الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، وذلك أنه لما جاء مسلما دخل على رسول الله صلي الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية. قال: فقلت: " إنهم لم يعبدوهم. فقال: بلى. إنهم حرموا عليهم   1 سورة الزخرف آية: 26-27. 2 فإن " لا إله إلا الله " مطابقة لقوله: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) ؛ لأن كلتيهما مركبة من جملتين: نفي, وهي "لاإله" و"إنني براء مما تعبدون" وإثبات: وهي "إلا الله " و"الذي فطرني " فينبغي أن يلاحظ المسلم عند نطقه بكلمة الشهادة ذلك ويحققه علما وعملا. 3 سورة الزخرف آية: 87. 4 سورة الزخرف آية: 28. 5 سورة التوبة آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم " رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق1. قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: {أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2، فإن " الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله ". فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله. وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله الله، وأطاعه في معصية الله، واتبعه فيما لم يأذن به الله، فقد اتخذه ربا ومعبودا وجعله لله شريكا، وذلك ينافي التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"؛ فإن الإله هو المعبود، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم، وسماهم أربابا، كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} 3 أي شركاء لله تعالى في العبادة {يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 4 وهذا هو الشرك. فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذه المطيع المتبع ربا ومعبودا; كما قال تعالى في آية الأنعام: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 5. وهذا هو وجه مطابقة الآية للترجمة، ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 6 والله أعلم. قال شيخ الإسلام في معنى قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} : "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، يكونون على وجهين أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله؛ اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل. فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركا، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله، مشركا مثل هؤلاء. الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله; كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما قد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الطاعة في المعروف " 7.   1 تقدم تخريجه برقم (80) . 2 سورة التوبة آية: 31. 3 سورة آل عمران آية: 80. 4 سورة آل عمران آية: 80. 5 سورة الأنعام آية: 121. 6 سورة الشورى آية: 21. 7 البخاري: كتاب المغازي (4340) : باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي. كتاب أخبار الآحاد (7257) : باب ما جاء في إجازة الخبر الواحد، كتاب الأحكام (7145) : باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية. ومسلم: كتاب الإمارة (1840) (40) : باب وجوب طاعة الأمراء من غير معصية الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسل لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول، فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع ذلك هواه ونصره باليد واللسان، مع علمه أنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال. وإن كان عاجزا عن إظهار الحق الذي يعلمه. فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره. وقد أنزل الله في هؤلاء الآيات من كتابه كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} 1. وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} 2 الآية. وقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 3. وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التقصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله: من الاجتهاد في التقليد، فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما من قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؟ فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما. كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ فإن ذلك لما أحب المال منعه من عبادة الله وطاعته وصار عبدا له، وكذلك هؤلاء فيكون فيهم شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك. وفي الحديث: "إن يسير الرياء شرك" وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب"4. انتهى. وقال أبو جعفر ابن جرير في معنى قول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً} 5 "أي وتجعلون لمن خلق ذلك أندادا وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معاصي الله". انتهى. قلت: كما هوالواقع من كثير من عباد القبور. قال: وقوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 6 الآية.   1 سورة آل عمران آية: 199. 2 سورة المائدة آية: 83. 3 سورة الأعراف آية: 159. 4 صحيح. جزء من حديث طويل رواه ابن ماجة: كتاب الفتن (3989) : باب من ترجى له السلامة من الفتن. وإسناده ضعيف كما في الصحيحة (4/185) . وأخرجه الحاكم (1/4) من طريق آخر وقال: صحيح لا علة له ووافقه الذهبي. وهو كما قالا وراجع النهج السديد ص (329) . 5 سورة فصلت آية: 9. 6 سورة البقرة آية: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 قال العماد ابن كثير - رحمه الله -: "يذكر الله حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا لله أندادا، أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له، ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: " يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 2 ولحبهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك. فقال تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} 3. قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا، أي أن الحكم له وحده لا شريك له، فإن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} 4. كما قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} 5. يقول: لو علموا ما يعانون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لاتنهوا عما هم فيه من الضلال. ثم أخبر عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين. فقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} 6 تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة7: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} 8. ويقولون:   1 تقدم تخريجه برقم (15) . 2 سورة البقرة آية: 165. 3 سورة البقرة آية: 165. 4 سورة البقرة آية: 165. 5 سورة الفجر آية: 25-26. 6 سورة البقرة آية: 166. 7 قال العماد ابن كثير في تفسير سورة القصص: ((وقوله تعالى: (وقال الذين حق عليهم القول) يعني الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) فشهدوا عليهم أنهم أغووهم، ثم تبرأوا من عبادتهم)) اهـ. والدعاة إلى الكفر: هم من بني آدم ممن كانوا رؤساء وشيوخا لأولئك الغاوين كأصحاب الطرق الصوفية، فإنهم الذين زينوا لمريديهم ومتبوعيهم الشرك والكفر بالله ورسوله. فإن أساس طرقهم الشيطانية: أن يعبد المريد شيخه بأنواع التعظيم والخوف واعتقاد أنه جاسوس قلبه يدخل ويخرج والمريد لا يشعر. وأنه قبل أن يذكر الله يستحضر الشيخ في قلبه. ويعظمونهم بأنواع الطاعة العمياء أحياء وأمواتا- كما هو مدون في كتبهم- من شروط المريد وما يسمونه العهد الوثيق. وتجد أكثر هذا الكفر والضلال في كتب الشعراني. وأما آيات سورة الأحقاف فإنها صريحة في أن الذين يكفرون بشرك المشركين: هم من عباد الله الصالحين الذين اتخذهم الناس آلهة بعد موتهم, واتخذوا قبورهم أوثانا، وما كانوا يحبون ذلك ولا يرضون به; من أمثال الحسين وإخوته وأبيه وأبنائهم، والإمام الشافعي في مصر، وأبي حنيفة وعبد القادر في بغداد ونحوهم, فإنهم يتبرأون يوم القيامة من أولئك المشركين. 8 سورة القصص آية: 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 1. والجن أيضا يتبرأون منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2" انتهى كلامه. روى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} 3 مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 4 من الكفار لأوثانهم. قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله. فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما، فلم يدخلوا في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ " اهـ. ففي الآية بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره في المحبة فقد جعله شريكا لله في العبادة واتخذه ندا من دون الله، وأن ذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى في أولئك: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 5. وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} 6 المراد بالظلم هنا الشرك. كقوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 7 كما تقدم. فمن أحب الله وحده، وأحب فيه وله فهو مخلص، ومن أحبه وأحب معه غيره فهو مشرك; كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 8 قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ما معناه: فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة، لزم أن يكون محبا له، ومحبته هي الأصل في ذلك. انتهى. فكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" تنفي كل شرك في أي نوع كان من أنواع العبادة، وتثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى. وقد تقدم بيان أن "الإله هو المألوه الذي تألهه   1 سورة سبأ آية: 41. 2 سورة الأحقاف آية: 5-6. 3 سورة البقرة آية: 165. 4 سورة البقرة آية: 165. 5 سورة البقرة آية: 167. 6 سورة البقرة آية: 165. 7 سورة الأنعام آية: 82. 8 سورة البقرة آية: 21-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 القلوب بالمحبة وغيرها من أنواع العبادة" فلا إله إلا الله، نفت ذلك كله عن غير الله، وأثبتته لله وحده. فهذا هو ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، فلا بد من معرفة معناها واعتقاده وقبوله، والعمل به باطنا وظاهرا والله أعلم. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه أي مع الله تعالى بعبادته له، وتوحيد الحب: أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب - وإن سمي عشقا - فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى، فلا يحب إلا الله، ولا يحب إلا لله، كما في الحديث الصحيح: " ثلاث من كن فيه " 1 الحديث 2. ومحبة رسول الله صلي الله عليه وسلم هي من محبة الله، ومحبة المرء إن كنت لله فهي من محبته، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها، ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى محبوبه - وهو الكفر - بمنزلة كراهيته لإلقائه في النار أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئا، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وبين إلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر، كان أحب إليه من نفسه، وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم، بل لا نظير لهذه المحبة؛ كما لا مثل لمن تعلقت به، وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد. وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا. وهذا لا نظير له في محبة المخلوق، ولو كان المخلوق من كان. ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركا شركا لا يغفره الله؛ كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 3. والصحيح: أن معنى الآية: أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أهل الأنداد لأندادهم. كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا، كما لا يماثل محبوبهم غيره. وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته. وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته. ومن ضرب لمحبته   1 البخاري: الإيمان (16) , ومسلم: الإيمان (43) , والترمذي: الإيمان (2624) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه: الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/176 ,3/206 ,3/230 ,3/248 ,3/251 ,3/272 ,3/275 ,3/278 ,3/288) . 2 رواه البخاري عن أنس بلفظ: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". 3 سورة البقرة آية: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الأمثال التي في محبة المخلوق للمخلوق: كالوصل، والهجر والتجني بلا سبب من المحب، وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علوا كبيرا، فهو مخطئ أقبح الخطأ وأفحشه، وهو حقيق بالإبعاد والمقت". انتهى. وفي الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " قوله في الصحيح: أي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلي الله عليه وسلم فذكره. وأبو مالك: اسمه سعد بن طارق، كوفي ثقة مات في حدود الأربعين ومائة. وأبوه طارق بن أشيم - بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعي، صحابي له أحاديث. قال مسلم: "لم يرو عنه غير ابنه". وفي مسند الإمام أحمد عن أبي مالك قال: وسمعته يقول للقوم: " من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل " ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن أبيه. ورواه أحمد عن عبد الله بن إدريس قال: سمعت أبا مالك قال: قلت لأبي - الحديث. ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسر "لا إله إلا الله". قوله: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله " اعلم أن النبي صلي الله عليه وسلم علق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين: الأول: قول "لا إله إلا الله" عن علم ويقين، كما هو قيد في قولها في غير ما حديث كما تقدم. والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى. بل لا بد من قولها والعمل بها1. قلت: وفيه معنى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 2. قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله؛ فإنه لم يجعل   1 في قرة العيون: فيه دليل أنه لا يحرم ماله ودمه إلا إذا قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله, فإن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله فدمه وماله حلال؛ لكونه لم ينكر الشرك ويكفر به, ولم ينفه كما نفته لا إله إلا الله. فتأمل هذا الموضوع فإنه عظيم النفع. 2 سورة البقرة آية: 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع! " انتهى. قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: "لا إله إلا الله" فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التي ذكرها المصنف - رحمه الله - أصلا. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1. وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2 أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " 3 وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " وهذان الحديثان تفسير الآيتين: آية الأنفال، وآية براءة. وقد أجمع العلماء على أن من قال: "لا إله إلا الله" ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمفتضاها، أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات. قال أبو سليمان الخطابي - رحمه الله - في قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان، دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: "لا إله إلا الله"، ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف". وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: "لا إله إلا الله" تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقول: "لا إله إلا الله"؛ إذ كان بقولها في كفره. انتهى ملخصا. وقال النووي: لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم،   1 سورة الأنفال آية: 39. 2 سورة التوبة آية: 5. 3 البخاري: الجهاد والسير (2946) , ومسلم: الإيمان (21) , والترمذي: الإيمان (2606) , والنسائي: الجهاد (3090 ,3095) وتحريم الدم (3971 ,3972 ,3974 ,3976 ,3977 ,3978) , وأبو داود: الجهاد (2640) , وابن ماجه: المقدمة (71) والفتن (3927 ,3928) , وأحمد (1/11 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 كما جاء في الرواية: " ويؤمنوا بي وبما جئت به ". وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار فقال: "كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم؛ فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه؛ كما قاتل أبو بكر والصحابة - رضي الله عنهم - مانعي الزكاة، وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم. قال: فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد ومنها: قول الخليل - عليه السلام – للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} 1 فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 3 ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، 4 فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام. فكيف بمن أحب الند أكبر5 من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ ولم يحب الله؟ في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. قال: وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام". انتهى. قوله: "وحسابه على الله" أي الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهرا والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه. قلت: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول: "لا إله إلا الله" ولا يكفر بما يعبدون ومنها: قوله صلي الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " 6 وهذا من أعظم ما يبين معنى: " لا إله إلا الله" فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للذم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع!. من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث. قوله: "وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب"7 قلت: وذلك أن ما بعدها   1 سورة الزخرف آية: 26-27. 2 سورة الزخرف آية: 28. 3 سورة البقرة آية: 167. 4 الظاهر أن المعنى: أنهم يحبون أندادهم من جنس حب الله الذي هو حب التعظيم والذل والخضوع؛ لأنه ليس كل حب يكون عبادة حتى يكون فيه تعظيم وخضوع. ولذلك قال: "كحب الله" ولم يقل: كحبهم لله. فهم في الوقت الذي يحبونهم أعظم الحب, يخافونهم أشد الخوف، معتقدين أنهم يخلفون عليهم خيرا مما ينذرونه لهم، ويذبحونه لهم من طيب مالهم ويرجون منهم المساعدة والمعونة على كشف الضر ودفع البأساء, ويحذرون انتقامهم بحرق زرعهم وإهلاك أولادهم وأنفسهم, ويروون عن سدنتهم روايات مكذوبة في تأييد دعاويهم تهويلا عليهم وتمكينا للضلال والشرك من أنفسهم، فهم لا يرجون لله وقارا كما يرجون لهم، ولا يخشون الله كما يخشونهم. فتجرد أنفسهم بسخاء في سبيل التقرب إلى أولئك الموتى من أوليائهم بما لا تجود بعشره في سبيل الله; برا للوالدين أو صلة للأرحام أو إطعاما لجار بائس, أو مسكين من أهل قريته. هذا شأن عباد القبور والموتى اليوم. دقق في أحوالهم وطبقها على آيات المشركين في القرآن تجدهم زادوا على مشركي الجاهلية الأولى. والله المستعان, ولا حول ولا قوة إلا بالله. 5 إن من تحقق محبة مشركي زماننا لآلهتهم التي يسمونها بالأولياء يعلم يقينا أنهم يحبونها أكثر من محبتهم لله؟ ويتصدقون لوجوهها بما لا يقدرون أن يتصدقوا بعشره لوجه الله. 6 مسلم: الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394) . 7 في قرة العيون: فقد ذكر فيها - رحمه الله تعالى - ما يبين التوحيد وما ينافيه, وما يقرب منه, وما يوصل إليه من الوسائل, وبيان ما كان عليه السلف من بعدهم عن الشرك في العبادة وشدة إنكارهم له وجهادهم على ذلك، وقد جمع هذا الكتاب على اختصاره من بيان التوحيد ما لا يعذر أحد عن معرفته وطلبه بإقبال وتدبر. وكذلك الرد على أهل الأهواء جميعهم, فمن حفظه واستحضره وجد ذلك واستغنى به عن غيره في الرد على كل مبتدع, فتدبره تجد ذلك بينا. وسيأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى "لا إله إلا الله". وفيه أيضا: بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر ما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع، مما تركه من مضمون "لا إله إلا الله"، فمن عرف ذلك وتحققه، تبين له معنى "لا إله إلا الله" وما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك، وبضدها تتبين الأشياء، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، وأما الأصغر فإنما ينافي كماله، فمن اجتنبه فهو الموحد حقا، وبمعرفة وسائل الشرك والنهي عنها لتجتنب تعرف الغايات التي نهى عن الوسائل لأجلها، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه. وفيه أيضا من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله، وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده، وأن العبادة لا تصلح إلا له، وهذا هو التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 باب: "من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه" وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 1.   قوله: "باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما، لرفع البلاء أو دفعه" رفعه: إزالته بعد نزوله. دفعه: منعه قل نزوله. قال: "وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} ". قال ابن كثير: أي لا تستطيع شيئا من الأمر {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي الله كافي من توكل عليه {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} كما قال هود - عليه السلام - حين قال قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. قال مقاتل في معنى الآية: فسألهم النبي صلي الله عليه وسلم فسكتوا. أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها3.   1 سورة الزمر آية: 38. 2 سورة هود آية: 54-55-56. 3 في قرة العيون: فإذا كان آلهتهم التي يدعون من دون الله لا قدرة لها على كشف ضر أراده الله بعبده، أو إمساك رحمة أنزلها على عبده، فيلزمهم بذلك أن يكون الله تعالى هو معبودهم وحده لزوما لا محيد لهم عنه. وذكر تعالى مثل هذا السؤال عن خليله إبراهيم لمن حاجه في الله فقال: 2: 258 (أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) . فأقام الله تعالى الحجة على المشركين بما يبطل شركهم بالله وتسويتهم غيره به في العبادة بضرب الأمثال وغير ذلك, وهذا في القرآن كثير كقوله تعالى: 22: 73 (يا أيها الناس ضرب مثلا فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) . وقال تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) . وقال: (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) . ذكر العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى - في هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس مرفوعا: "احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك, تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة, إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك, جفت الصحف ورفعت الأقلام واعمل لله بالشكر في اليقين، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا, وأن النصر مع الصبر, وأن الفرج مع الكرب, وأن مع العسر يسرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 عن عمران بن حصين رضي الله عنه " أن النبي صلي الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟ قال من الواهنة. فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا " 1 رواه أحمد بسند لا بأس به. وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا على أنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده. كما قال تعالى: {إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُون ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 2. قلت: فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وأن ذلك شرك بالله. وفي الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله والرغبة إليه من دون الله. والتوحيد ضد ذلك. وهو أن لا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله. كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم.   1 ابن ماجه: الطب (3531) , وأحمد (4/445) . 2 سورة النحل آية: 53-54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قال: "وعن عمران بن حصين "أن النبي صلي الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال ما هذه؟ قال: من الواهنة. قال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا; فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا " رواه أحمد بسند لا بأس به". قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا المبارك عن الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين "أن النبي صلي الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة – قال: أراها من صفر - فقال: ويحك ما هذه؟ قال: من الواهنة. قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا. انبذها عنك؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا " 1 رواه ابن حبان في صحيحه فقال: " فإنك إن مت وكلت إليها ". والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وأقره الذهبي. وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران. وقوله في الإسناد: "أخبرني عمران" يدل على ذلك2. قوله: "عن عمران بن حصين" أي ابن عبيد بن خلف الخزاعي، أبو نجيد - بنون وجيم – مصغر، صحابي ابن صحابي، أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة. قوله: "رأى رجلا" في رواية الحاكم: " دخلت على رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر، فقال: ما هذه؟ " الحديث. فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث. قوله: "ما هذه" يحتمل أن الاستفهام للاستفسار عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار، وهو أشهر. قوله: "من الواهنة" قال أبو السعادات: 3 الواهنة عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها، فيرقى منها. وقيل: هو مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء4 وإنما نهى عنها؛ لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد5. قوله: " انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا " النزع هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفا. وكذلك كل أمر نهى عنه فإنه لا ينفع غالبا وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه. قوله: " فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا " لأنه شرك. والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة.   1 ابن ماجه: الطب (3531) , وأحمد (4/445) . 2 أحمد (4/ 445) واللفظ له، وابن حبان (1411- موارد) ، والحاكم (4/ 216) وإسناده ضعيف. وابن ماجة (3531) بنحوه وراجع النهج السديد (100) . 3 هو ابن الأثير, ولد سنة 544 وتوفي سنة 606 له عدة تآليف. منها النهاية في غريب الحديث. 4 ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهليون اليوم من إلباس أولادهم خلاخيل الحديد وغيره، يعتقدون أن ذلك يحفظهم من الموت الذي أخذ إخوتهم الذين ماتوا قبلهم. ومنه لبس حلقة الفضة للبركة أو لمنع البواسير, ولبس خواتيم لها فصوص مخصوصة للحفظ من الجن وغيرها. 5 في قرة العيون: وإنما نهاه عنها لكونه أنها تمنع عنه هذا الداء أو ترفعه, فأمره صلى الله عليه وسلم بنزعها لذلك وأخبر أنها لا تزيده إلا وهنا; فإن المشرك يعامل بنقيض قصده؛ لأنه علق قلبه بما لا ينفعه ولا يدفع عنه, فإذا كان هذا بحلقة صفر فما الظن بما هو أطم وأعظم؟ كما وقع من عبادة القبور والمشاهد وغيرها كما لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة. وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك". قوله: "رواه أحمد بسند لا بأس به" هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الإمام العالم أبو عبد الله الذهلي ثم الشيباني المروزي، ثم البغدادي، إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث، وأشدهم ورعا ومتابعة للسنة، وهو الذي يقول فيه بعض أهل السنة: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشبه فنفاها. خرج به من مرو وهو حمل، فولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة في شهر ربيع الأول. وطلب أحمد العلم سنة وفاة مالك، وهي سنة تسع وسبعين، فسمع من هشيم وجرير بن عبد الحميد وسفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي وخلق لا يحصون بمكة والبصرة والكوفة وبغداد واليمن وغيرها من البلاد. روى عنه ابناه صالح وعبد الله، والبخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وأبو زرعة الرازي الدمشقي وعبد الله ابن أبي الدنيا وأبو بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وأبو القاسم البغوي، وهو آخر من حدث عنه، وروى عنه من شيوخه عبد الرحمن بن مهدي والأسود بن عامر، ومن أقرانه علي بن المديني ويحيى بن معين. قال البخاري: مرض أحمد لليلتين خلتا من ربيع الأول ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه. وقال حنبل: مات يوم الجمعة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة. وقال ابنه عبد الله والفضل بن زياد: مات في ثاني عشر ربيع الآخر - رحمه الله تعالى -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " 1 وفي رواية: " من تعلق تميمة فقد أشرك " 2.   قوله: "وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " وفي رواية3: " من تعلق تميمة فقد أشرك " 4. الحديث الأول رواه الإمام أحمد كما قال المصنف، ورواه أيضا أبو يعلى والحاكم، وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي. قوله: "وفي رواية" أي من حديث آخر رواه أحمد فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد ابن أبي منصور عن دجين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟ فقال: إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها، فبايعه وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك " ورواه الحاكم بنحوه. ورواته ثقات. ولابن أبي حاتم عن حذيفة " أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، قوله: "عن عقبة بن عامر" صحابي مشهور فقيه فاضل، ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين، ومات قريبا من الستين. قوله: " من تعلق تميمة "5 أي علقها متعلقا بها قلبه في طلب خير أو دفع شر. قال المنذري: "خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلالة؛ إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى". وقال أبو السعادات: "التمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام". قوله: " فلا أتم الله له " دعاء عليه. قوله: " ومن تعلق ودعة " بفتح الواو وسكون المهملة. قال في مسند الفردوس: "شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين". قوله: " فلا ودع الله له " بتخفيف الدال. أي لا جعله في دعة وسكون. قال أبو السعادات: وهذا دعاء عليه. قوله: "وفي رواية: من تعلق تميمة فقد أشرك" قال أبو السعادات: إنما جعلها شركا؛ لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه.   1 أحمد (4/154) ، والحاكم (4/ 216, ,417) ، وابن حبان (1413- موارد) . وإسناده ضعيف كما أشار إلى ذلك الألباني في الصحيحة (1/ 810) . 2 أحمد (4/156) ، والحاكم (4/219) وقال المنذري في الترغيب (4/307) ، والهيثمي في المجمع (5/103) : "ورواة أحمد ثقات" اهـ. وصححه الألباني في الصحيحة (492) . 3 ضعيف. أحمد (4/ 154) والحاكم (4/ 216, ,417) وابن حبان (1413- موارد) وإسناده ضعيف كما أشار إلى ذلك الألباني في الصحيحة (1/ 810) . 4 في قرة العيون: وهذا الحديث فيه التصريح بأن تعليق التمائم شرك لما يقصده من علقها لدفع ما يضره أو جلب ما ينفعه، وهذا أيضا ينافي كمال الإخلاص الذي هو معنى لا إله إلا الله؛ لأن المخلص لا يلتفت قلبه لطلب نفع أو دفع ضر من سوى الله كما تقدم في قوله: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) . فكمال التوحيد لا يحصل إلا بترك ذلك وإن كان من الشرك الأصغر فهو عظيم, فإذا كان هذا قد خفي على بعض الصحابة - رضي الله عنهم - في عهد النبوة فكيف لا يخفى على من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب بعد ما حدث من البدع والشرك؟ كما في الأحاديث الصحيحة، وتقدمت الإشارة إلى ذلك. وهذا مما يبين معنى لا إله إلا الله أيضا فإنها نفت كل الشرك قليله وكثيره كما قال تعالى: 3: 18. 5 أحمد (4/154) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 قال المصنف - رحمه الله -: "ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه " رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1". قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن أشكاب حدثنا يونس بن محمد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال: " دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرا فقطعه أو انتزعه ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ". وابن أبي حات: م هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2". فيه مسائل: الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك. الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر. الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة. الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر؛ لقوله " لا تزيدك إلا وهنا". الرازي التميمي الحنظلي الحافظ، صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما، مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. وحذيفة: هو ابن اليمان. واسم اليمان: حسيل بمهملتين مصغرا، ويقال: حسل - بكسر ثم سكون - العبسي بالموحدة، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، ويقال له: صاحب السر3 وأبوه أيضا صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين. قوله: "رأى رجلا في يده خيط من الحمى" أي عن الحمى. وكان الجهال يعلقون التمائم   1 سورة يوسف آية: 106. 2 سورة يوسف آية: 106. 3 لأن النبي صلى الله عليه وسلم استصحبه في عودته من غزوة تبوك حين أخذ في طريق العقبة التي كان المنافقون كمنوا عندها؛ لينفروا راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقع عنها فيموت. فأطلعه الله على ما بيتوا وأعلمه بأسمائهم. فأعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بأسمائهم إذ ناداهم بأسمائهم حين حاذاهم. ثم استكتم حذيفة أسماءهم اتقاء الفتنة. ولم يكن عند حذيفة سر في الدين, كما يدعي الضالون من الصوفية. لأن الإسلام علانية لا سر فيه, وإنما الأسرار في النصرانية وكنائسها وقسسها ورهبانيتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 والخيوط ونحوها لدفع الحمى1 وروى وكيع عن حذيفة: " أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك ". وفيه إنكار مثل هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها. وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه. قوله: "وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2" استدل حذيفة رضي الله عنه   1 ولا يزال هذا معتقدا عند أهل الجاهلية الثانية، يتخذون خيوطا يعقدونها بأيدي من اسمه محمد, وبعض ذلك يعملونه يوم الجمعة, وبعض ذلك يعملونه على مقاس باب الكعبة ثم يعقدونه أربعين عقدة ممن أسماؤهم محمد, ويقرأون عند كل عقدة قل هو الله أحد، ويزعمون أن هذا الخيط نافع من العقم، فلا تلبسه عقيم في زعمهم إلا وتحمل. وهذا من أعظم الانحطاط إلى أحط دركات البكم والصمم والعمى, بل إلى البهيمية أن يعتقد في خيوط. ومثله اتخاذ سبع من أنواع الحبوب تعلق في كيس مع سرة الطفل وأشباه ذلك كثير فاش فيمن يتسمون بأسماء إسلامية، وهم من أجهل المشركين الشرك الأكبر. ولا حول ولا قوة إلا بالله. 2 سورة يوسف آية: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك. السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه1. السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك. الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك. التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة. العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك. الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع2 الله له. أي ترك الله له. بالآية على أن هذا شرك3 ففيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزله الله في الشرك الأكبر؛ لشمول الآية له ودخول في مسمى الشرك، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره في كلام شيخ الإسلام وغيره. والله أعلم. وفي هذه الآثار عن الصحابة: ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وما ينافيه أو ينافي كماله.   1 إنما وكله الله إليه؛ لأنه أعرض عن رحمة ربه واستغنى عن الله وتمسك بالسبب الأضعف بل نمسك بلا شيء, فوكله إلى ما تمسك به فلم ينفعه شيئا. 2 ودع: فسره المصنف بترك أي فلا ترك الله له ما يحب. وفسره غيره بأنه دعاء عليه ألا يجعله الله في دعة ولا سكون. 3 في قرة العيون: فإذا كان يقع مثل هذا في تلك القرون المفضلة، فكيف يؤمن أن يقع ما هو أعظم منه؟ لكن لغلبة الجهل به وقع منهم أعظم مما وقع من مشركي العرب وغيرهم في الجاهلية مما قد تقدم التنبيه عليه, حتى إن كثيرا من العلماء في هذه القرون اشتد نكيرهم على من أنكر الشرك الأكبر، فصاروا هم والصحابة - رضي الله عنهم - على طرفي نقيض, فالصحابة ينكرون القليل من الشرك; وهؤلاء ينكرون على من أنكر الشرك الأكبر، ويجعلون النهي عن هذا الشرك بدعة وضلالة، وكذلك كانت حال الأمم مع الأنبياء والرسل جميعهم فيما بعثوا به من توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له وحده, والنهي عن الشرك به, وقد بعث الله تعالى خاتم رسله محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك كما بعث به من قبله, فعكس هؤلاء المتأخرون ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب وغيرهم, فنصر هؤلاء ما نهى عنه من الشرك غاية النصرة، وأنكروا التوحيد الذي بعث به غاية الإنكار؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لقريش: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) عرفوا معناها الذي وضعت له وما أريد منها فقالوا: 38: 5 و 6 و7 (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) الآيات. وقال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) . وفي صحيح البخاري وغيره في سؤال هرقل لأبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (فماذا يأمركم قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا, واتركوا ما يقول آباؤكم, ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 باب: ما جاء في الرقى والتمائم في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه " أنه كان مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلاة من وتر أو قلاة إلا قطعت "1.   قوله: "باب ما جاء في الرقى والتمائم". أي من النهي وما ورد عن السلف في ذلك. قوله: "في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي صلي الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا: "أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت " هذا الحديث في الصحيحين. قوله: "عن أبي بشير" بفتح أوله وكسر المعجمة، قيل: اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد. وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين. ويقال: إنه جاوز المائة. قوله: "في بعض أسفاره" قال الحافط: لم أقف على تعيينه. قوله: "فأرسل رسولا" هو زيد بن حارثة. روى ذلك الحارث ابن أبي أسامة في مسنده قاله الحافظ. قوله: "أن لا يبقين" بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين، و"قلادة" مرفوع على أنه فاعل. و "الوتر" بفتحتين، واحد أوتار القوس. وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره وقلدوا به الدواب؛ اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين3. قوله: " أو قلادة إلا قطعت " معناه: أن الراوي شك هل قال شيخه: قلادة من وتر   1 البخاري: الجهاد والسير (3005) , ومسلم: اللباس والزينة (2115) , وأبو داود: الجهاد (2552) , وأحمد (5/216) , ومالك: الجامع (1745) . 2 أبو داود: الطب (3883) , وابن ماجه: الطب (3530) , وأحمد (1/381) . 3 وأصل معنى القلادة: ما يوضع في العنق من الحلي والزينة للنساء، والحبل يوضع في عنق الدابة لتقاد به. ومثل ذلك ما يعلقه بعض الناس اليوم على السيارات من صورة قرد ونحوه، وما يضعه بعضهم على أبواب البيوت والحوانيت من حدوة حمار أو حصان, وتعليق سنابل من الحنطة أو غير ذلك كله من عمل الجاهلية المنهي عنه أشد النهي، وقد يصل إلى الشرك الأكبر عند بعضهم حين يعتقد فيه أنه هو الذي يدفع حقيقة الضر والسوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيده؟ ويؤيد الأول ما روي عن مالك: أنه سئل عن القلادة؟ فقال: "ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر". ولأبي داود: "ولا قلادة" بغير شك. قال البغوي في شرح السنة: "تأول مالك أمره - عليه الصلاة والسلام - بقطع القلائد على أنه من أجل العين. وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم ويعلقون عليها العوذ، يظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلي الله عليه وسلم عنها وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا". قال أبو عبيد: "كانوا يقلدون الإبل الأوتار; لئلا تصيبها العين، فأمرهم النبي صلي الله عليه وسلم بإزالتها إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا". وكذا قال ابن الجوزي وغيره. قال الحافظ:. "ويؤيده حديث عقبة بن عامر، رفعه: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له " 1 رواه أبو داود. وهي ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك". انتهى. قال المصنف: "وعن ابن مسعود: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " رواه أحمد وأبو داود". وفيه قصة. ولفظ أبي داود: " عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: "إن عبد الله رأى في عنقي خيطا; فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه. قالت: فأخذه ثم قطعه ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك2 سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقى سكنت. فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا كف عنها. إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلي الله عليه   1 تقدم تخريجه برقم (91) . وهو ليس موجودا عند أبي داود كما عزاه المؤلف. 2 من أول الحديث إلى هنا ليس في سنن أبي داود في باب تعليق التمائم. وهو عند ابن ماجة بلفظ: "كانت عجوز تدخل علينا من الحمرة, وكان لنا سرير طويل القوائم، وكان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوت, فدخل يوما, فلما سمعت صوته احتجبت منه، فجاء فجلس إلى جانبي فمسني فوجد مس خيط، فقال: ما هذا؟ فقلت رقي لي فيه من الحمى، فجذبه فقطعه فرمى به, ثم قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وسلم يقول: أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما " ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي1. قوله: "إن الرقى". قال المصنف: "هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم من العين والحمة" يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي التي يستعان فيها بغير الله، وأما إذا لم يذكر فيها إلا بأسماء الله وصفاته وآياته; والمأثور عن النبي صلي الله عليه وسلم فهذا حسن جائز أو مستحب. قوله: "فقد رخص فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم من العين والحمة" كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد. وكذا رخص في الرقى من غيرها; كما في صحيح مسلم عن عوف بن مالك: " كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا " 2 وفي الباب أحاديث كثيرة. قال الخطابي: وكان عليه السلام قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله شرك. قلت: من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم. وبنحو هذا ذكر الخطابي. وقال شيخ الإسلام: " كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناه؛ لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارا فليس من دين الإسلام3".   1 صحيح: أحمد (1/381) وأبو داود: كتاب الطب (3883) : باب في تعليق التمائم وابن ماجة كتاب الطب (3530) : باب في تعليق التمائم، والحاكم (4/418,417) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وابن حبان (1412- موارد) . وصححه الألباني في الصحيحة (331) . 2 مسلم: السلام (2200) , وأبو داود: الطب (3886) . 3 وذلك مثل قول أرباب الطرق الصوفية في أورادهم: "كركدن كرددن دهده, أصباءوات أهيا شراهيا جلجلوت" وأمثالها مما يقولون عنه أنه ذكر الله, فهذا كله ليس من دين الإسلام في شيء؛ لأن الإسلام عربي متين, وهذا وغيره يدل على أن أصل هذه الطرق الصوفية خدعة يهودية هندية فارسية يونانية. كادوا بها للمسلمين ففرقوهم شيعا وأحزابا، وملأوا قلوبهم من الشرك في الإلهية والشرك في الربويية. فوصلوا من ذلك إلى ما يريدون من تقويض الدولة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وقال السيوطي: " قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى". قوله: "والتمائم". قال المصنف: "شيء يعلق على الأولاد من العين". وقال الخلخالي: التمائم جمع تميمة، وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه؛ لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وبأسمائه وصفاته. فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه. و"الرقى": هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، رخص فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم من العين والحمة قال المصنف: "لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه. منهم ابن مسعود". اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص1، وهو ظاهر ما روي عن عائشة. وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية. وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك. وقالت طائفة: لا يجوز ذلك. وبه قال ابن مسعود وابن عباس. وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين، منهم: أصحاب ابن مسعود وأحمد في رواية اختاره كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه2.   1 الرواية بذلك ضعيفة، ولا تدل على هذا ; لأن فيها أن ابن عمرو وكان يحفظه أولاده الكبار. ويكتبه في ألواح ويعلقه في عنق الصغار فالظاهر أنه كان يعلقه في اللوح ليحفظه الصغير لا على أنه تميمة، والتميمة تكتب في ورقة لا في لوح. وبدليل تحفيظه الكبار. وكيفما كان فهو عمل فردي من عبد الله بن عمرو لا يترك به حديث رسول الله، وعمل كبار الصحابة الذين لم يعملوا مثل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. 2 في قرة العيون: والمقصود بيان أن هذه الأمور الشركية وإن خفيت فقد نهى عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، لكمال علمهم بما دلت عليه لا إله إلا الله من نفي الشرك قليله وكثيره؛ لتعلق القلب بغير الله في دفع الضر أو جلب نفع، وقد عمت البلوى بما هو أعظم من ذلك بأضعاف مضاعفة, فمن عرف هذه الأمور الشركية المذكورة في هذين البابين عرف ما وقع مما هو أعظم من ذلك كما تقدم بيانه, وفيه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التحذير من الشرك والتغليظ في إنكاره، وإن كان من الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 قلت: هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تطهر للمتأمل: الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم. والثاني: سد الذريعة؛ فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك. الثالث: و"التولة": شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته. أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك1. وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف -رضي الله تعالى عنهم- يتبين لك بذلك غربة الإسلام، خصوصا إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها، والإقبال إليها بالقلب والوجه، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التي هي حق الله تعالى إليها من دونه، كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 2 ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر. قوله: "التولة". قال المصنف: "هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته". وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث: كما في صحيح ابن حبان   1 ولأن فعل ذلك استهزاء أشد استهزاء بآيات الله، ومناقضة لما جاءت به. (*) ومحادة لله ولرسوله, فإن الله أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وشفاء لما في الصدور ولا يزيد الظالمين إلا خسارا. وإنه لتذكرة للمتقين. وإنه لحسرة على الكافرين. وإنه لحق اليقين. ولم ينزل القرآن ليتخذ حجبا وتمائم، ولا ليتلاعب به المتأكلون به الذين يشترون به ثمنا قليلا، والذين يقرءونه على المقابر وأمثال ذلك مما ذهب بحرمة القرآن، وجرأ الرؤساء على ترك الحكم به. (*) قوله: (ولأن فعل ذلك استهزاء أشد استهزاء بآيات الله, ومناقضة لما جاءت به) إلخ. أقول: هذه فيها نظر, والصواب أن تعليق التمائم ليس من الاستهزاء بالدين بل من الشرك الأصغر, ومن التشبه بالجاهلية, وقد يكون شركا أكبر على حسب ما يقوم بقلب صاحب التعليق من اعتقاد النفع فيها، وأنها تنفع وتضر دون الله عز وجل, وما أشبه هذا الاعتقاد. أما إذا اعتقد أنها سبب للسلامة من العين أو الجن ونحو ذلك فهذا من الشرك الأصغر؛ لأن الله سبحانه لم يجعلها سببا, بل نهى عنها وحذر وبين أنها شرك على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما ذاك إلا لما يقوم بقلب صاحبها من الالتفات إليها والتعلق بها، ولو كان تعليقها استهزاء بآيات الله سبحانه لكان ذلك كفرا وردة عن الإسلام، كما قال الله عز وجل: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) الآية. ولا نعلم أحدا من أهل العلم قال: إن تعليق التمائم استهزاء بآيات الله، ولأن الواقع من المعلقين يخالف ذلك؛ فإنهم إنما يعلقون التمائم من القرآن والسنة رجاء نفعها وبركتها, لا لقصد الاستهزاء بها, وهذا بين واضح لمن تأمل. والله المستعان. 2 سورة يونس آية: 106-107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 والحاكم: " قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها. فما التولة؟ قال: شيء نصنعه للنساء يتحببن به إلى أزواجهن "1 قال الحافظ: " التولة - بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا - شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر2 والله أعلم". وكان من الشرك لما يراد به من دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى. قال المصنف: " وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: " من تعلق شيئا وكل إليه " رواه أحمد والترمذي". ورواه أبو داود والحاكم. وعبد الله بن عكيم هو بضم المهملة مصغرا، ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي. قال البخاري: أدرك زمن النبي صلي الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح. وكذا قال أبو حاتم. قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة، وكان ثقة. وذكر ابن سعد عن غيره أنه مات في ولاية الحجاج. قوله: " من تعلق شيئا وكل إليه " التعلق يكون بالقلب، ويكون بالفعل، ويكون بهما3. وكل إليه أي وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلق بالله وأنزل   1تفسير ابن مسعود راوي الحديث عند ابن حبان (1412-موارد) ، والحاكم (4/418) وصححه ووافقه الذهبي. 2 وإن زعم الذين يصنعونها للنساء أنهم مسلمون ومتدينون, وأن ما يكتبونه من القرآن وأسماء الله؛ فإنهم يفعلون ذلك تضليلا بالقرآن وإلحادا فيه؛ لأنهم يكتبونه على طريقة اليهود حروفا مقطعة وبمداد خاص، ويمزجونه بأدعية جاهلية وبخطوط يزعمونها على صورة خاتم سليمان الذي كان فيه سر ملكه، كما يزعم اليهود الذين يعتقدون كفر سليمان، وأنه كان يسخر الجن بالسحر لا بمعجزة من الله. وعلى هذه العقيدة اليهودية الدجالون الذين يكتبون التمائم والتولات, ويزعمون أن للحروف والأسماء خداما يقومون بما يطلب منهم من الأعمال السحرية، ويتخذون أنواعا من البخور والأدوات المخصوصة التي يوحي بها شياطينهم، وكل ذلك من الكفر العظيم. 3 في قرة العيون: التعلق يكون بالقلب وينشأ عنه القول والفعل، وهو التفات القلب عن الله إلى شيء يعتقد أنه ينفعه أو يدفع عنه كما تقدم بيانه في الأحاديث في هذا الباب والذي قبله، وهو ينافي قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . فإن كان من الشرك الأصغر فهو ينافي كمال التوحيد , وإن كان من الشرك الأكبر كعبادة أرباب القبور والمشاهد والطواغيت ونحو ذلك فهو كفر بالله, وخروج عن دين الإسلام، ولا يصح معه قول ولا عمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 حوائجه به والتجأ إليه، وفوض أمره إليه، كفاه وقرب إليه كل بعيد ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك، وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 1. قال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: " لقيت وهب بن منبه -وهو يطوف بالبيت- فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز. قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجا. أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأى أوديتها هلك ". قال المصنف: وروى الإمام أحمد عن رويفع قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " يا رويفع; لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدا بريء منه " الحديث. رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة. وفيه قصة اختصرها المصنف. وهذا لفظ حسن: حدثنا ابن لهيعة حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال: حدثنا رويفع بن ثابت قال: " كان أحدنا في زمن رسول الله صلي الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما غنم وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح. " ثم قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم - الحديث. ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان حدثني الفضل حدثنا عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني - الحديث2 ابن لهيعة فيه مقال.   1 سورة الطلاق آية: 3. 2 الحديث رواه أبو داود في باب ما ينهى عنه أو يستنجى به: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وفي الإسناد الثاني شيبان القتباني، قيل: فيه مجهول. وبقية رجالهما ثقات. قوله: "فأخبر الناس" دليل على وجوب إخبار الناس، وليس هذا مختصا برويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به، فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية. قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود. قوله: " لعل الحياة ستطول بك " فيه علم من أعلام النبوة؛ فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين فمات ببرقة من أعمال مصر أميرا عليها، وهو من الأنصار، وقيل مات سنة ثلاث وخمسين. قوله: "أن من عقد لحيته" بكسر اللام لا غير، والجمع لحى بالكسر والضم قاله الجوهري. قال الخطابي: أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين: أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها. قال أبو السعادات: تكبرا وعجبا. ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث. وقال أبو زرعة ابن العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة، كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وفيه: "أن من عقد لحيته في الصلاة"1. قوله: "أو تقلد وترا" أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته. وفي رواية محمد بن الربيع: "أو تقلد وترا- يريد تميمة". فإذا كان هذا فيمن تقلد وترا فكيف بمن تعلق بالأموات وسألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، الذي جاء النهي عنه وتغليظه في الآيات المحكمات؟ قوله: "أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه" قال النووي: أي بريء من فعله. وهذا خلاف الظاهر. والنووي كثيرا ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها فيغفر الله تعالى له. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: " لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن " 2 وعليه لا يجزي الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد؛ لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة وعن سعيد بن جبير قال: " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة " رواه وكيع. وله عن إبراهيم قال: " كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن ". فيه مسائل: الأولى: تفسير الرقى والتمائم. الثانية: تفسير التولة. الثالثة: أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء. الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك. الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء هل هي من ذلك أم لا؟. السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك. السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترا. الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان. التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله. " أن النبي صلي الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران "3. قوله: " وعن سعيد بن جبير قال: " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة " رواه وكيع" هذا عند أهل العلم له حكم الرفع؛ لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي ويكون هذا مرسلا؛ لأن سعيدا تابعي4 وفيه فضل قطع التمائم لأنها شرك. ووكيع: هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي، ثقة إمام، صاحب تصانيف منها الجامع وغيره. روى عنه الإمام أحمد وطبقته. مات سنة سبع وتسعين ومائة. قوله: "وله عن إبراهيم قال: " كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن "   1 في قرة العيون: قلت ويشبه هذا ما يفعله كثير من فتل أطراف الشارب فيترك أطرافه لذلك وهي بعضه. وفي حديث زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: صحيح. وفي الصحيح: (خالفوا المشركين احفوا الشوارب واعفوا اللحى) وذلك يدل على الوجوب, وذكر ابن حزم الإجماع على أنه فرض فيتعين النهي عن ذلك. 2 مسلم: كتاب الصلاة (1450) (150) : باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن. 3 إسناده ضعيف: الدارقطني (1/56) وقال: إسناده صحيح، وفي إسناده الحسن بن الفرات منكر الحديث كما قال أبو حاتم وراجع النهج السديد (115) . 4 في قرة العيون: فعلى هذا يجب النهي عن تعليق التمائم والترغيب في قطعها وأن ذلك مما يجب, وفيه مع ما تقدم أنه شرك, وبيان حال السلف -رضي الله عنهم- من تعظيم الشرك قليله وكثيره والنهي عنه, فلما اشتدت غربة الإسلام في أواخر هذه الأمة صار إنكار هذا وما هو أعظم منه أعظم المنكرات حتى عند من ينتسب إلى العلم كما لا يخفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وإبراهيم: هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي، يكنى أبا عمران ثقة من كبار الفقهاء. قال المزي: دخل على عائشة، ولم يثبت له سماع معها. مات سنة ست وتسعين، وله خمسون سنة أو نحوها. قوله: "كانوا يكرهون التمائم" إلى آخره، مراده بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود، كعلقمة، والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد، وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خثيم، وسويد بن غفلة وغيرهم، وهم من سادات التابعين. وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحافظ كالعراقي وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 باب: " من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما" وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} 1.   قوله: "باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما" كبقعة وقبر ونحو ذلك، أي فهو مشرك.   1 سورة النجم آية: 19-20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 قوله: "قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} الآيات". وكانت اللات لثقيف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال. وقال ابن هشام: كانت لهذيل وخزاعة. فأما "اللات" فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح ورويس بتشديد التاء. فعلى الأولى قال الأعمش: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تعالى، فقالوا: اللات مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. قال: وكذا العزى من العزيز. وقال ابن كثير: اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تبعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش. قال ابن هشام: فبعث رسول الله صلي الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. وعلى الثانية قال ابن عباس: " كان رجلا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره " ذكره البخاري. قال ابن عباس: " كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويسلؤه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق "1 وعن مجاهد نحوه وقال: " فلما مات عبدوه". رواه سعيد بن منصور. وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: "أنهم عبدوه" وبنحو هذا قال جماعة من أهل العلم. قلت: لا منافاة بين القولين؛ فإنهم عبدوا الصخرة والقبر تأليها وتعظيما.   1 وفي النهاية: السلاء السمن. وفي فتح الباري (ج8 ص433) : وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس -ولفظه في زيادة- " وكان يلت السويق على الحجر, فلا يشرب منه أحد إلا سمن, فعبدوه". واختلف في اسم هذا الرجل, فعن مجاهد: "كان رجلا في الجاهلية على صخرة بالطائف وعليها له غنم فكان يسلؤ من رسلها. ويأخذ من زبيب الطائف والأقط فيجعل منه حيسا ويطعم من يمر به من الناس. فلما مات عبدوه". وزعم بعض الناس أنه عامر بن الظرب. اهـ مختصرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ولمثل هذا بنيت المشاهد والقباب على القبور واتخذت أوثانا. وفيه بيان أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الصالحين والأصنام. وأما "العزى" فقال ابن جرير: كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة - بين مكة والطائف - كانت قريش يعظمونها. كما قال أبو سفيان يوم أحد: "لنا العزى ولا عزى لكم". فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم " 1. وروى النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: 2. " لما فتح رسول الله صلي الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة - وكانت بها العزى، وكانت على ثلاث سمرات - فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلي الله عليه وسلم فأخبره. فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئا، فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى يا عزى، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعمها بالسيف فقتلها. ثم رجع إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبره. فقال: تلك العزى " قلت: وكل هذا وما هو أعظم منه يقع في هذه الأزمنة عند ضرائح الأموات وفي المشاهد. وأما "مناة" فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج. وأصل اشتقاقها: من اسم الله المنان، وقيل: لكثرة ما يمنى - أي يراق - عندها من الدماء للتبرك بها. قال البخاري -رحمه الله- في حديث عروة عن عائشة "-رضي الله عنها-: "إنها صنم بين مكة والمدينة". قال ابن هشام: " فبعث رسول الله صلي الله عليه وسلم عليا فهدمها عام الفتح ". فمعنى الآية كما قال القرطبي: أن فيها حذفا تقديره: أفرأيتم هذه الآلهة، أنفعت أو ضرت، حتى تكون شركاء لله تعالى؟. وقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} 3 قال ابن كثير: تجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى وتختارون لكم الذكور؟ قوله: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} 4 أي جور وباطلة. فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها فتنزهون أنفسكم عن الإناث وتجعلونهن لله تعالى. وقوله: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} 5 أي من تلقاء أنفسكم {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي من حجة {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} 6 أي ليس لهم مستند إلا   1 البخاري: الشروط (2734) , وأبو داود: الجهاد (2765) . 2 البخاري: كتاب المغازي (4043) : باب غزوة أحد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. 3 سورة النجم آية: 21. 4 سورة النجم آية: 22. 5 سورة النجم آية: 23. 6 سورة النجم آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم1 {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} وإلا حظ أنفسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم عن أبي واقد الليثي قال: " خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات الأقدمين. قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 2 قال ابن كثير: " ولقد أرسل الله تعالى إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له" اهـ. ومطابقة الآيات للترجمة من جهة أن عباد هذه الأوثان إنما كانوا يعتقدون حصول البركة معها بتعظيمها ودعائها والاستعانة بها والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها، ويؤملونه ببركاتها وشفاعتها وغير ذلك، فالتبرك بقبور الصالحين كاللات، وبالأشجار كالعزى ومناة3 من ضمن فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان، فمن فعل مثل ذلك واعتقد في قبر أو حجر أو شجر فقد ضاهى عباد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك، على أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك. فالله المستعان. قوله: " عن أبي واقد الليثي قال: " خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال:   1 الظن هنا: ظن المشركين بأوليائهم أنها تسمع الدعاء وتجيب؛ فإنهم ليس لهم علم بذلك لا من طريق حواسهم, ولا من خبر صادق، وإنما هو مما يشيعه السدنة ترويجا لتجارتهم الخاسرة. ويزيد الجاهلين تعلقا بأوليائهم من دون الله: ما تهوى أنفسهم من قضاء حاجاتهم بغير الأسباب الكونية، فهم يعظمون أولئك الموتى لهوى أنفسهم وقضاء وطرهم لا حبا في الإيمان والمؤمنين. ولذلك تراهم يتنقلون من ميت إلى آخر إذا لم يجدوا مسألتهم قضيت عند الأول. وهكذا ترى السدنة إذا انتقلوا من وظيفة عند هذا الولي الذي كان في نظرهم كبيرا أصبح الولي الذي انتقلوا عند قبره أعظم بركة وأكثر كرامات. والله يقول: إن هؤلاء جميعا لا يتبعون إلا هوى أنفسهم وهم كاذبون أعظم الكذب في دعواهم حب الأولياء والصالحين. 2 سورة النجم آية: 23. 3 ما كانوا يتبركون بالعزى ومناة على أنها أحجار مجردة, وإنما كانوا يعتقدون فيها البركة من العزى التي كانت امرأة يزعمون أنها ولية ودفنت عند هذه الشجيرات. وكذلك مناة. ولذلك سموا الأشجار العزى والحجر مناة; كما يسمي الناس اليوم النحاس الذي يقام على القبر حسينا وزينب وغيرهما من الصالحين, فهم يتبركون بها على هذه العقيدة الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن قلتم، والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه1. أبو واقد: اسمه الحارث بن عوف، وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة قاله الترمذي، وقد رواه أحمد وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه. قوله: "عن أبي واقد" قد تقدم ذكر اسمه في قول الترمذي، وهو صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين وله خمس وثمانون سنة. قوله: "خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى حنين" وفي حديث عمرو بن عوف وهو عند ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني قال: " غزونا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم الفتح، ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف " الحديث. قوله: "ونحن حدثاء عهد بكفر" أي قريب عهدنا بالكفر، ففيه دليل على أن غيرهم ممن تقدم إسلامه من الصحابة لا يجهل هذا، وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة. ذكره المصنف رحمه الله. قوله: "وللمشركين سدرة يعكفون عندها". العكوف هو الإقامة على الشيء في المكان، ومنه قول الخليل -عليه السلام-: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 2، وكان عكوف المشركين عند تلك السدرة تبركا بها وتعظيما لها3. وفي حديث عمرو: "كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله". قوله: "وينوطون بها أسلحتهم" أي يعلقونها عليها للبركة.   1 صحيح: الترمذي: كتاب الفتن (2180) : باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأحمد (5/218) ، وابن جرير (9/31 , 32) ، والطبراني في الكبير (3290) , (3294) . وصححه الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (10/34) . 2 سورة الأنبياء آية: 52. 3 كما يعكف اليوم عباد القبور عندها ويجاورون, معتقدين أن لهم بذلك الزلفى والقربى، ويعتقد الجاهلون لهم ذلك فيعاونونهم بالنذور لتلك القبور والصدقات قربة لأولئك الموتى. وكل ذلك من الشرك الأكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 أنواط. فقال رسول الله:صلي الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن قلتم، والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} قلت: ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها. قوله: " فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط " قال أبو السعادات: سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك. وأنواط: جمع نوط، وهو مصدر سمي بها المنوط. ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله وقصدوا التقرب به، وإلا فهم أجل قدرا من أن يقصدوا مخالفة النبي صلي الله عليه وسلم. قوله: "فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: الله أكبر" وفي رواية: "سبحان الله". والمراد تعظيم الله تعالى وتنزيهه عن هذا الشرك بأي نوع كان، مما لا يجوز أن يطلب أو يقصد به غير الله، وكان النبي صلي الله عليه وسلم يستعمل التكبير والتسبيح في حال التعجب تعظيما لله وتنزيها له إذا سمع من أحد ما لا يليق بالله مما فيه هضم للربوبية أو الإلهية. قوله: "إنها السنن" بضم السين أي الطرق. قوله: " قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل، بجامع أن كلا طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، وإن اختلف اللفظان فالمعنى واحد، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة. ففيه الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يستحسن شيئا يظن أنه يقربه إلى الله، وهو أبعد ما يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور، من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيء وهو الذنب الذي لا يغفره الله. قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بابن أبي شامة في كتاب البدع والحوادث: " ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث1 انتهى. وذكر ابن القيم - رحمه الله - نحو ما ذكره أبو شامة، ثم قال: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر; أي تقل العبادة من دون الله; فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله صلي الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 2. وفي هذه الجملة من الفوائد: أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك، ولا يغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة، فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنا، وطلبوه من النبي صلي الله عليه وسلم حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 3 فكيف لا يخفى على من دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة؟! بل خفي عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربويية، فأكبروا فعله واتخذوه قربة.   1 وفي مصر كذلك من هذه القبور المنامية ونحوها كقبر الحسين وزينب - رضي الله عنهما -، وكثير مما يسمى بالأربعين، بناء على عقيدة أخبث من عقيدة أهل الجاهلية الأولى, وهي عقيدة أن الولي يتشكل في أربعين جسما. وزعم الدباغ مبالغة في الوقاحة والضلال أنه يكون للولي ثلاثمائة وستون جسما، وكم في غير مصر من هذه المواضع الشركية من قبور وأشجار وأحجار، عجل الله بتطهير البلاد منها كما طهر الحجاز بيد جلالة الملك عبد العزيز آل سعود, مد الله في حياته, ووفق أبناءه للقيام بمثل عمله الصالح وأعلى بهم منار الإسلام. 2 البخاري: الفرائض (6764) , ومسلم: الفرائض (1614) , والترمذي: الفرائض (2107) , وأبو داود: الفرائض (2909) , وابن ماجه: الفرائض (2729 ,2730) , وأحمد (5/200 ,5/201 ,5/202 ,5/208 ,5/209) , والدارمي: الفرائض (2998 ,3000 ,3001) . 3 سورة الأعراف آية: 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وفيها: أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء، ولهذا جعل النبي صلي الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط. فالمشرك مشرك وإن سمى شركه ما سماه، كمن يسمي دعاء الأموات والذبح والنذر لهم ونحو ذلك تعظيما ومحبة، فإن ذلك هو الشرك وإن سماه ما سماه. وقس على ذلك. قوله: " لتركبن سنن من كان قبلكم " بضم1 الموحدة وضم السين أي طرقهم   1 أي اليهود والنصارى, وقد وقع كما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمة فركبوا طريق من كان قبلهم ممن ذكرنا كما هو في الأحاديث الصحيحة، كحديث: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقدة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " وهو في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه _. وفي رواية: "ومن الناس إلا أولئك؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ومناهجهم، وقد يجوز فتح السين على الأفراد أي طريقهم. وهذا خبر صحيح. والواقع من كثير من هذه الأمة يشهد له. وفيه علم من أعلام النبوة من حيث إنه وقع كما أخبر به صلي الله عليه وسلم. وفي الحديث: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه، إلا ما دل على أنه من شريعة محمد صلي الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النجم. الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا1. الثالثة: كونهم لم يفعلوا. الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك؛ لظنهم أنه يحبه. الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل. السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم. السابعة: أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يعذرهم في الأمر بل رد عليهم بقوله: " الله أكبر، إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم " فغلظ الأمر بهذه الثلاث. الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل لما قالوا لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} 2. التاسعة: أن نفي هذا من معنى " لا إله إلا الله" مع دقته وخفائه على أولئك. العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة. الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا3. الثانية عشرة: قولهم: " ونحن حدثاء عهد بكفر" فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك. التابعون من ساداتهم في العلم والدين وأهل الأسوة. فلا يجوز أن يقاس على رسول الله صلي الله عليه وسلم أحد من الأمة، وللنبي صلي الله عليه وسلم في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره. الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافا لمن كرهه. الرابعة عشرة: سد الذرائع. الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية. السادسة عشرة: الغضب عند التعليم. السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: " إنها السنن". الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة؛ لكونه وقع كما أخبر. التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا. العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر، أما " من ربك "؟ فواضح. وأما " من نبيك؟ " فمن إخباره بأنباء الغيب. وأما " ما دينك؟ " فمن قولهم: " اجعل لنا" إلى آخره. الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين. الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقولهم: ونحن حدثاء عهد كفر. ومنها: أن في المنع عن ذلك سدا لذريعة الشرك كما لا يخفى.   1 يعني أنهم لم يطلبوا منه أن يجعل لهم إلها يعبدونه من دون الله؛ لأنهم كانوا أجل وأعقل من ذلك, وإنما طلبوا شجرة يأذن لهم النبي فيها فيتبركون بها ويعلقون عليها أسلحتهم دون أن يصلوا أو يتصدقوا لها، فبين لهم أن ما طلبوا من التبرك ولو لم يكن صلاة ولا صياما ولا صدقة هو الشرك بعينه. وفيه إبطال لشبهة مشركي هذا الزمان وزعمهم أن ما يفعلونه تبرك وتعظيم لا بأس به. 2 سورة الأعراف آية: 138. 3 ليس ما طلبوه من الشرك الأصغر، ولو كان منه لما جعله النبي نظير قول نبي إسرائيل (اجعل لنا إلها) وأقسم على ذلك, بل هو من الشرك الأكبر كما أن ما طلبه بنو إسرائيل من الأكبر. وإنما لم يكفروا بطلبهم؛ لأنهم حدثاء عهد بالإسلام; ولأنهم لم يفعلوا ما طلبوه ولم يقدموا عليه بل سألوا النبي فتأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 باب: " ما جاء في الذبح لغير الله"   قال المصنف - رحمه الله -: "وفيه التنبيه على مسائل القبر، أما من ربك؟ فواضح، وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما ما دينك؟ فمن قولهم اجعل لنا إلها إلخ. وفيه: أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة خلافا لمن ادعى خلاف ذلك، وفيه الغضب عند التعليم، وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه قاله لنا لنحذره" قاله المصنف - رحمه الله وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه: منها: أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي صلي الله عليه وسلم، لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -. وقد شهد لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فيمن شهد له بالجنة; وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة، ولا فعله وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 1. قوله "باب ما جاء في الذبح لغير الله" من الوعيد وأنه شرك بالله.   1 سورة الأنعام آية: 162-163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قوله: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي 1 وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} الآية". قال ابن كثير: "يأمره الله تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله وبذبحون له: بأنه أخلص لله صلاته وذبيحته؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى. قال مجاهد: النسك الذبح في الحج والعمرة". وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير: ونسكي ذبحي. وكذا قال الضحاك. وقال غيره: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أي وما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 خالصا لوجهه {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ} الإخلاص {أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} أي من هذه الأمة لأن إسلام كل نبي متقدم. قال ابن كثير: وهو كما قال: فإن جميع الأنبياء قبله كانت دعوتهم إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4 وذكر آيات في هذا المعنى. ووجه مطابقة الآية للترجمة: أن الله تعالى تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات؛ فإن الله تعالى أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع   1 في قرة العيون: يشمل الفرائض والنوافل، والصلوات كلها عبادة، وقد اشتملت على نوعي الدعاء: دعاء المسألة ودعاء العبادة، فما كان فيها من السؤال والطلب فهو دعاء مسألة، وما كان فيها من الحمد والثناء والتسبيح والركوع والسجود وغير ذلك من الأركان والواجبات فهو دعاء عبادة، وهذا هو التحقيق في تسميتها صلاة؛ لأنها اشتملت على نوعي الدعاء الذي هو صلاة لغة وشرعا "*" قرره شيخ الإسلام وابن القيم - رحمهما الله تعالى -. (*) وهي مأخوذة من "الصلة"؛ لأنها الصلة والمنحة التي وصل الله بها حبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - ومنحه إياها في ليلة الوصل الأعظم: ليلة المعراج. وهي أقوى صلة بين العبد وبين ربه؛ لأنه فيها يناجي ربه كما في الأحاديث, ومن ثم كانت قرة عين رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وكانت مفزعه عند كل أمر يهمه. وكانت الفارق بين المسلم والكافر. فمن تركها فلا حظ له في الإيمان بالله وحبه، ولا صلة بينه وبين ربه مهما حاول. 3 سورة الأنعام آية: 162. 4 سورة الأنبياء آية: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 العبادة له دون كل ما سواه، فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة، فقد جعلوا لله شريكا في عبادته، ظاهر في قوله: {لا شَرِيكَ لَهُ} 1 نفى أن يكون الله تعالى شريك في هذه العبادات، وهو بحمد الله واضح2. قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 3 قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنسك، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} - الآية. والنسك: الذبيحة لله تعالى ابتغاء وجهه؛ فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب; لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله تعالى من الكوثر. وأجل العبادات البدنية: الصلاة; وأجل العبادات المالية: النحر. وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص، من قوة اليقين وحسن الظن أمر عجيب، وكان النبي صلي الله عليه وسلم كثير الصلاة، كثير النحر". اهـ. قلت: وقد تضمنت الصلاة من أنواع العبادات كثيرا، فمن ذلك الدعاء والتكبير، والتسبيح والقراءة، والتسميع والثناء، والقيام والركوع، والسجود والاعتدال، وإقامة الوجه لله تعالى، والإقبال عليه بالقلب; وغير ذلك مما هو مشروع في الصلاة، وكل هذه الأمور من أنواع العبادة التي لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، وكذلك النسك يتضمن أمورا من العبادة كما تقدم في كلام شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -. قوله: وعن علي ابن أبي طالب قال: " حدثني رسول الله صلي الله عليه وسلم بأربع   1 سورة الأنعام آية: 163. 2 في قرة العيون: والمقصود أن هذه الآية دلت على أن أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله كائنا من كان، فمن صرف منها شيئا لغير الله فقد وقع فيما نفاه تعالى من الشرك بقوله: (وما أنا من المشركين) . والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد في عبادته وبيانه ونفي الشرك والبراءة منه. 3 سورة الكوثر آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله; ولعن الله من لعن والديه ولعن الله من آوى محدثا; ولعن الله من غير منار الأرض " رواه مسلم من طرق وفيه قصة. ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي طفيل قال: " قلنا لعلي: أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: ما أسر إلي شيئا كتمه الناس; ولكن سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير تخوم الأرض، يعنى المنار " 1. وعلي ابن أبي طالب: هو الإمام أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء; كان من أسبق السابقين الأولين، ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه، قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين. قوله: "لعن الله" اللعن: البعد عن مظان الرحمة ومواطنها. قيل: واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة، أو دعي عليه بها. قال أبو السعادات: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء. قال شيخ الإسلام - رحمه الله - ما معناه: إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 3 وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} 4 وقال: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} 5. والقرآن كلامه تعالى أوحاه إلى جبريل - عليه السلام - وبلغه رسوله محمدا صلي الله عليه وسلم. وجبريل سمعه منه كما سيأتي في الصلاة إن شاء الله تعالى، فالصلاة ثناء الله تعالى كما تقدم. فالله تعالى هو المصلي وهو المثيب، كما دل على ذلك الكتاب والسنة; وعليه سلف الأمة. قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "لم يزل الله متكلما إذا شاء". قوله: "من ذبح لغير الله" قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: " {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 67 ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا. وإذا كان هذا   1 3 سورة الأحزاب آية: 43-44. 4 سورة الأحزاب آية: 64. 5 سورة الأحزاب آية: 61. 6 سورة البقرة آية: 173. 7 وفي سورة المائدة الآية الثالثة. وسورة الأنعام الآية (145) ، وسورة النحل الآية (115) (وما أهل لغير الله به) وأصل الإهلال: رفع الصوت والإعلام. فالمقصود بما أهل به لغير الله: ما أعلن عنه أنه منذور به لغير الله. سواء كان هذا الإهلال والإعلام قبل الذبح كأن يقال: هذه شاة السيدة فلانة والسيد فلان، فيعرف الناس ذلك, وأنها مهل بها لغير الله ولو سمى الذابح باسم الله، فإن هذه التسمية اللفظية لاغية، والعبرة بالإهلال الحقيقي بما انطوى عليه من قصد التقرب، به لغير الله. (وكذلك أيضا ما سمى من الطعام أو الشراب أو غيره نذرا وقربة لغير الله. فكل طعام ليوزع على العاكفين عند هذه القبور والطواغيت) (*) باسمها وعلى بركتها هو مما أهل به لغير الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: باسم المسيح أو نحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أذكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: بسم الله. فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى؛ فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم1 وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك2 وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال. لكن يجتمع في الذبيحة مانعان: الأول: أنه مما أهل به لغير الله. والثاني: أنها ذبيحة مرتد. ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، 3 ولهذا روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن". اهـ4. قال الزمخشري: "كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك". وذكر إبراهيم المروزي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه، أفتى أهل بخارى   1 بل يكون هذا الذبح شركا أكبر. (ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) . 2 وهم الذين يكتبون الحجب والتمائم والتعاويذ ونحوها, فإنهم يتحرون بها يوم السبت في ساعة كذا أو غيره من الأيام والساعات، ويذبحون ويبخرون عند نزول الكوكب الفلاني في منزلة كذا ونحو كذا, وهم في البلاد الإسلامية كثير - لا كثرهم الله -، ويعتقد العامة فيهم الصلاح والتقوى, مع أنهم مشركون مرتدون مفسدون للعقول بدجلهم بهذه التمائم والحجب، ومتخذون آيات الله هزوا, ومتقربون بهذه المناسك لغير الله. فيا لله ما أشد غربة الإسلام! وإنا لله وإنا إليه راجعون. 3 وفي غير مكة باسم الزار وإخراج الجن المتلبس بالإنس. ويدقون لذلك الطبول. (*) قوله: (وكذلك أيضا ما يسمى من الطعام والشراب أو غيره نذرا أو قربة لغير الله, فكل طعام يصنع ليوزع على العاكفين عند هذه القبور والطواغيت) إلخ. أقول: هذا المقام فيه تفصيل: فإن كان المراد من ذلك من أن هذا الشرك لكونه عبادة لغير الله وتقربا إليه فهذا صحيح؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يعبد غير الله بشيء من العبادات لا نبيا ولا غيره, ولا ريب أن تقديم الطعام والشراب والنقود وغير ذلك للأموات من الأنبياء والأولياء أو غيرهم أو للأصنام ونحوها رغبة ورهبة, داخل في عبادة غير الله؛ لأن العبادة لله هي ما أمر الله به ورسوله, أما إن كان مراد الشيخ حامد أن النقود والطعام والشراب والحيوانات الحية التي قدمها ملاكها للأنبياء والأولياء وغيرهم يحرم أخذها والانتفاع بها، فذلك غير صحيح؛ لأنها أموال ينتفع بها قد رغب عنها أهلها، وليست في حكم الميتة فوجب أن تكون مباحة لمن أخذها, كسائر الأموال التي تركها أهلها لمن أرادها, كالذي يتركه الزراع وجذاذ النخل من السنابل والتمر للفقراء, ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الأموال التي في خزائن اللات, وقضى منها دين عروة بن مسعود الثقفي, ولم ير تقديمها للات مانعا من أخذها عند القدرة عليها. ولكن يجب على من رأى من يفعل ذلك من الجهلة والمشركين أن ينكر عليه، ويبين له أن ذلك من الشرك حتى لا يظن أن سكوته عن الإنكار أو أخذه لها إن أخذ منها شيئا دليل على جوازها وإباحة التقرب بها إلى غير الله سبحانه, ولأن الشرك أعظم المنكرات فوجب إنكاره على من فعله، لكن إذا كان الطعام مصنوعا من لحوم ذبائح المشركين أو شحمها أو مرقها فإنه حرام؛ لأن ذبيحتهم في حكم الميتة فتحرم، وينجس بها ما خالطته من الطعام, بخلاف الخبز ونحوه ما لم يخالطه شيء من ذبائح المشركين فإنه حل لمن أخذه, وهكذا النقود ونحوها كما تقدم والله أعلم. 4 موضوع: رواه البيهقي في سننه (9/314) عن أبي هريرة مرفرعا وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وحكم بوضعه الألباني في الضعيفة (240) وقال: "والعمدة في النهي عن هذه الذبائح الأحاديث الصحيحة في النهي عن الطيرة والله أعلم" ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 بتحريمه; لأنه مما أهل به لغير الله. قوله: " لعن الله من لعن والديه " يعني أباه وأمه وإن عليا. وفي الصحيح: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه " 1. قوله: " "لعن الله من آوى محدثا" " أي منعه من أن يؤخذ معه الحق الذي وجب عليه. و"آوى" بفتح الهمزة ممدودة أي ضمه إليه وحماه. قال أبو السعادات: أويت إلى المنزل، وأويت غيري; وآويته. وأنكر بعضهم المقصور المتعدي. وأما "محدثا" فقال أبو السعادات: يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه. وبالفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه; فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم". قوله: "ولعن الله من غير منار الأرض" بفتح الميم علامات حدودها. قال أبو السعادات في النهاية - في مادة "تخم" -: ملعون من غير تخوم الأرض أي معالمها واحدودها، وحدها تخم قيل: أراد حدود الحرم خاصة. وقيل: هو عام في جميع الأرض، وأراد المعالم التي يهتدى بها في الطريق. وقيل: هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلما. قال: ويروى "تخوم" بفتح التاء على الإفراد وجمعه تخم بضم التاء والخاء". اهـ. وتغييرها: أن يقدمها أو يؤخرها، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه النبي صلي الله عليه وسلم: " من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين " 2 ففيه جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين.   1 مسلم: كتاب الإيمان (90) (146) : باب بيان الكبائر وأكبرها من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. 2 رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن عائشة, وعن سعيد بن زيد رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان: أحدهما: أنه جائز. اختاره ابن الجوزي وغيره. والثاني: لا يجوز. اختاره أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام. قوله: "وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا. قالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شي أقرب. قالوا: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا. فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل فضربوا عنقه، فدخل الجنة " رواه أحمد" 1. قال ابن القيم - رحمه الله -: قال الإمام أحمد رحمه الله2 حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال: " دخل رجل الجنة في ذباب " -الحديث. وطارق بن شهاب: هو البجلي الأحمس، أبو عبد الله. رأى النبي صلي الله عليه وسلم وهو رجل. قال البغوي: نزل الكوفة. وقال أبو داود: رأى النبي صلي الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا. قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي صلي الله عليه وسلم فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح; وكانت وفاته - على ما جزم به ابن حبان - سنة ثلاث وثمانين. قوله: " دخل الجنة رجل في ذباب " أي من أجله. قوله: "قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ " كأنهم تقالوا ذلك، وتعجبوا منه. فبين لهم   1 صحيح موقوفا: رواه أحمد في الزهد (15 , 16) , وأبو نعيم في الحلية (1/203) عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي موقوفا بسند صحيح أفاده الدوسري في النهج السديد. 2 الحديث في كتاب الزهد ص15 س18، وفي الحلية ج1 ص203 موقوفا فيهما كليهما على سليمان في الزهد وعلى سلمان في الحلية. وهو خطأ في الحلية؛ لأن الحافظ ابن حجر قال في تعجيل المنفعة: ((سليمان بن ميسرة الأحمسي عن طارق بن شهاب، وعنه الأعمش وحبيب بن أبي ثابت, وثقه ابن معين. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: روى عن طارق بن شهاب وله صحبة، وقال ابن خلفون في الثقات: وثقه العجلي ويحيى والنسائي)) . اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل: فضربوا عنقه فدخل الجنة " رواه أحمد. فيه مسائل: الأولى: تفسير {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} 1. الثانية: تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2. لهم النبي صلي الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار. قوله: " فقال: مر رجلان على قوم لهم صنم " الصنم: ما كان منحوتا على صورة، ويطلق عليه الوثن كما مر 3. قوله: "لا يجاوزه" أي لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب إليه شيئا وإن قل. قوله: " قالوا له: قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله; فدخل النار " في هذا بيان عظمة الشرك، ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار4. كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 5. وفي هذا الحديث: التحذير من الوقوع في الشرك، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري أنه من الشرك الذي يوجب النار. وفيه: أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداء، وإنما فعله تخلصا من شر أهل الصنم. الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله. الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك. الخامسة: لعن من آوى محدثا، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق لله، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك. السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير. السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم. الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب. التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم6. العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر. الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم؛ لأنه لو كان كافرا لم يقل " دخل النار في ذباب". الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك " 7. وفيه: أن ذلك الرجل كان مسلما قبل ذلك، وإلا فلو لم يكن مسلما لم يقل دخل النار في ذباب. وفيه: أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان، ذكره المصنف بمعناه.   1 سورة الأنعام آية: 162. 2 سورة الكوثر آية: 2. 3 قال في النهاية: كل ما عبد من دون الله بل كل ما يشغل عن الله يقال له: صنم. 4 في قرة العيون: لأنه قصد غير الله بقلبه أو انقاد بعمله فوجبت له النار, ففيه معنى حديث مسلم الذي تقدم في باب الخوف من الشرك عن جابر مرفوعا: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة, ومن لقيه يشرك به دخل النار". فإذا كان هذا فيمن قرب للصنم ذبابا فكيف بمن يستسمن الإبل والبقر والغنم ليتقرب بنحرها وذبحها لمن كان يعبده من دون الله, من ميت أو غائب, أو طاغوت أو مشهد أو شجر, أو حجر أو غير ذلك؟ وكان هؤلاء المشركون في أواخر هذه الأمة يعدون ذلك أفضل من الأضحية في وقتها الذي شرعت فيه, وربما اكتفى بعضهم بذلك عن أن يضحي لشدة رغبته وتعظيمه ورجائه لمن كان يعبده من دون الله; وقد عمت البلوى بهذا وما هو أعظم منه. 5 سورة المائدة آية: 72. 6 الظاهر أنه ليس متخلصا وإلا لم يدخل النار; (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) . 7 البخاري: الشهادات (2650) , ومسلم: الهبات (1623) , والنسائي: النحل (3681 ,3682 ,3683) , وأحمد (4/273) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم، حتى عند عبدة الأوثان. قوله: " وقالوا للآخر: قرب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل " ففيه بيان فضيلة التوحيد والإخلاص1.   1 في قرة العيون: ففيه معرفة قدر الشرك في قلوب أهل الإيمان ونفرتهم عنه وصلابتهم في الإخلاص, كما في حديث أنس الذي في البخاري وغيره الآتي - إن شاء الله تعالى -: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" , وفيه: "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". وفيه: تفاوت الناس في الإيمان؛ لأن هذا الرجل الذي قرب الذباب لم يكن له عمل يستحق به دخول النار قبل ما فعله مع هذا الصنم, كما هو ظاهر الحديث والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 قال المصنف - رحمه الله -: "وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 باب: " لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله" وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 1.   قوله: " باب: لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى"2. "لا" نافية ويحتمل انها للنهي وهو أظهر. قوله: "وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 3 الآية" قال المفسرون: إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار، والأمة تبع له في ذلك، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله صلي الله عليه وسلم وجمعا لكلمة المؤمنين، ومعقلا ومنزلا   1 سورة التوبة آية: 108. 2 في قرة العيون: أشار - رحمه الله تعالى - إلى ما كان الناس يفعلونه في نجد وغيرها قبل دعوتهم إلى التوحيد من ذبحهم للجن لطلب الشفاء منهم لمرضاهم، ويتخذون للذبح لهم مكانا مخصوصا في دورهم. فنفى الله سبحانه الشرك بهذه الدعوة الإسلامية. فلله الحمد على زوال الشرك والبدع والفساد بطلعة الداعي إلى توحيد رب العالمين. 3 سورة التوبة آية: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 للإسلام وأهله، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " صلاة في مسجد قباء كعمرة " 1 وفي الصحيح. " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يزور قباء راكبا وماشيا "2. وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وعروة; وعطية، والشعبي، والحسن وغيرهم. قلت: ويؤيده قوله في الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} 3 وقيل: هو مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ لحديث أبي سعيد قال: " تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء. وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: هو مسجدي هذا4 " رواه مسلم، وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم. قال ابن كثير: وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية والحديث؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم بطريق أولى، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 5 فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة. وكان الذين بنوه جاءوا إلى النبي صلي الله عليه وسلم قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية، فقال: " إنا على سفر; ولكن إذا رجعنا - إن شاء الله - فلما قفل - عليه السلام - راجعا إلى المدينة; ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة. "67. وجه مناسبة الآية للترجمة: أن المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله،   1 صحيح: الترمذي: كتاب الصلاة (324) : باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء. وحسنه وابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة (1411) : باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء والحاكم (1/487) من حديث أسيد بن ظهير الأنصاري وصححه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (2/344) لشواهده. 2 البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1193) : باب من أتى مسجد قباء كل سبت. ومسلم: كتاب الحج (1399) (515) : باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. 3 سورة التوبة آية: 108. 4 مسلم: كتاب الحج (1398) (514) : باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. 5 سورة التوبة آية: 107. 6 ضعيف. رواه إسحاق كما في تفسير ابن كثير (2/388) ، وابن جرير (11/17,18) عن جماعة من التابعين مرسلا وفيه عنعنة ابن إسحاق. أفاده الدوسري في النهج السديد (71) . 7 كان أبو عامر الفاسق الخزرجي قد ذهب إلى هرقل بعد غزوة أحد, يستعديه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده هرقل ومناه، فأرسل جماعة من قومه من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغلبه ويرده عما هو فيه, وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم, فبنوا هذا المسجد، والذي هدمه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وحرقه مالك بن الدخشم أخو بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخوه عامر بن عدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 كما أن هذا المسجد لما أعد لمعصية الله صار محل غضب لأجل ذلك، فلا تجوز الصلاة فيه لله. وهذا قياس صحيح يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي. قوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} 1 روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري: " أن النبي صلي الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا " وفي رواية عن جابر وأنس: " هو ذاك فعليكموه " رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم2. قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 3 قال أبو العالية: إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب. وفيه إثبات صفة المحبة، خلافا للأشاعرة ونحوهم. عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: " نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلي الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء قوله: "وعن ثابت بن الضحاك قال: " نذر رجل 4 أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلي الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم " 5 رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما. قوله: "عن ثابت بن الضحاك" أي ابن خليفة الأشهلي، صحابي مشهور، روى عنه أبو قلابة وغيره. مات سنة أربع وستين. قوله: "ببوانة" بضم الباء وقيل بفتحها. قال البغوي: موضع في أسفل مكة دون يلملم. قال أبو السعادات: هضبة من وراء ينبع. قوله: " فهل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " فيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن ولو بعد زواله. قاله المصنف - رحمه الله -. قوله: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ ". قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: 6 "العيد: لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم " رواه أبو داود وإسناده على شرطهما.   1 سورة التوبة آية: 108. 2 حسن: أحمد (3/422) وابن خزيمة (83) ، والطبراني في الكبير (17/140) وفي الصغير (2/23) ، والحاكم (1/155) وصححه ووافقه الذهبي. والرواية الأخرى من حديث جابر وأنس عند ابن ماجة كتاب الطهارة (355) : باب الاستنجاء بالماء. والدارقطني (1/62) ، والحاكم (1/55) , (2/334) وصححها ووافقه الذهبي. والحديث حسن لغيره لكثرة شواهده وطرقه وراجع النهج السديد ص (71: 73) . 3 سورة التوبة آية: 108. 4 روى أبو داود بعد هذا الحديث عن سارة بنت مقسم الثقفي أنها قالت: سمعت ميمونة بنت كردم قالت: "خرجت مع أبي في حجه فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعت الناس يقولون: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلت أبده بصري, فدنا إليه أبي وهو على ناقة, ومعه درة كدرة الكتاب، فسمعت الأعراب والناس يقولون الطبطبية الطبطبية. فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه, قالت فأقر له ووقف فاستمع منه، فقال: يا رسول الله, إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم - قال: لا أعلم إلا أنها قالت خمسين - فقال رسول الله: هل بها من الأوثان شيء؟ قال: لا. قال: فأوف بما نذرت لله - الحديث". 5 صحيح: أبو داود: كتاب الأيمان والنذور (3313) : باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر. وصححه الحافظ في التلخيص (4/180) وصححه الألباني في تخريج المشكاة (3437) وصحيح الجامع (2548) . 6 في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد، إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك1 والمراد به هنا الاجتماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية. فالعيد يجمع أمورا منها يوم عائد، كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا. فالزمان كقول النبي صلي الله عليه وسلم في يوم الجمعة: " إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيدا " 2. والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس: " شهدت العيد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم "3 والمكان كقول النبي صلي الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا " 4. وقد يكون لفظ العيد اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب، كقول النبي صلي الله عليه وسلم " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا " 5 انتهى6.   1 وهي التي يسميها الناس اليوم الموالد والذكرانات التي ملأت البلاد باسم الأولياء، وهي نوع من العبادة لهم (*) وتعظيمهم. ولذلك لا يذكر الناس ويعرفون إلا من أقيمت له هذه الذكرانات ولو كان أجهل خلق الله وأفسقهم. فكلما كسدت سوق طاغوت من هؤلاء قام السدنة بهذا العيد لتحيا في نفوس العامة عبادته وتكثر الهدايا والقرابين باسمه. وقد امتلأت البلاد الإسلامية بهذه الذكرانات, وعمت بها المصيبة وعادت بها الجاهلية إلى بلاد الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولم ينج منها إلا نجد والحجاز فيما نعلم بفضل الله ثم بفضل آل سعود الذين قاموا بحماية دعوة الشيخ محمد عبد الوهاب. 2 ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1098) , ومالك: الطهارة (146) . 3 البخاري: الجمعة (962) , ومسلم: صلاة العيدين (884 ,886) , والنسائي: صلاة العيدين (1569) , وأبو داود: الصلاة (1142) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1273) , وأحمد (1/220 ,1/226 ,1/232 ,1/286 ,1/331 ,1/345 ,1/368) , والدارمي: الصلاة (1603 ,1610) . 4 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (780) , والترمذي: فضائل القرآن (2877) , وأبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 5 البخاري: كتاب العيدين (952) : باب سنة العيدين لأهل الإسلام. ومسلم كتاب صلاة العيدين (892) (16) : باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد من حديث عائشة رضي الله عنها. 6 في قرة العيون: وقد أحدث هؤلاء المشركون أعيادا عند القبور التي تعبد من دون الله ويسمونها عيدا كمولد البدوي بمصر وغيره، بل هي أعظم لما يوجد فيها من الشرك والمعاصي العظيمة. قال المصنف - رحمه الله تعالى -: وفيه استفصال المفتي والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله. قلت: وفيه المنع من اتخاذ آثار المشركين محلا للعبادة؛ لكونها صارت محلا لما حرم الله من الشرك والمعاصي, والحديث وإن كان في النذر فيشمل كل ما كان عبادة لله فلا نفعل في هذه الأماكن الخبيثة التي اتخذت محلا لما يسخط الله تعالى, فبهذا صار الحديث شاهدا للترجمة والمصنف - رحمه الله تعالى - لم يرد التخصيص بالذبح وإنما ذكر الذبح كالمثال. وقد استشكل جعل محل اللات بالطائف مسجدا. والجواب والله أعلم: أنه لو ترك هذا المحل في هذه البلدة لكان يخشى أن تفتتن به قلوب الجهال فيرجع إلى جعله وثنا, كما كان يفعل فيه أولا فجعله مسجدا والحالة هذه ينسى فيها ما كان يفعل فيه ويذهب به أثر الشرك بالكلية، فاختص هذا المحل لهذه العلة وهي قوة المعارض والله أعلم. (*) قوله: (وهي نوع من العبادة لهم) إلخ. أقول: هذا فيه إجمال, والصواب التفصيل بأن يقال: من أقام المولد لقصد التقرب إلى صاحبه ورجاء نفعه وبركته, أو لكي يدفع عن مقيم المولد بعض الضرر ونحو ذلك, فهذا تعتبر إقامته المولد عبادة لصاحبه، فإن دعاه مع ذلك أو استغاث به أو نذر له أو ذبح له أو فعل معه شيئا من بقية أنواع العبادة، صار ذلك شركا إلى شرك, وهذا هو الذي يفعله الكثيرون ممن يقيم الموالد للنبي - صلى الله عليه وسلم -, أو للحسين - رضي الله عنه - أو للبدوي أو غيرهم. أما من أقام المولد لقصد التقرب إلى الله سبحانه ظنا منه أن ذلك من العبادات التي يحبها الله, فهذا لا يكون عابدا لصاحب المولد إذا لم يقع منه شيء من الشرك في احتفال المولد, ولكنه قد أتى بدعة لم يشرعها الله سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -, ولا فعلها السلف الصالح رضي الله عنهم ولو كان قصده حسنا؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز الإتيان بشيء منها إلا بتشريع من الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -, ولقد عظمت المصيبة بهذه الموالد وحصل بها من الشرك والفساد ما لا يحصيه إلا الله عز وجل, فإنا لله وإنا إليه راجعون, ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين ويوفقهم لاتباع السنة وترك البدعة إنه سميع قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 قال المصنف: "وفيه استفصال المفتي والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله". قلت: وفيه سد الذريعة وترك مشابهة المشركين، والمنع مما هو وسيلة إلى ذلك. قوله: "فأوف بنذرك" هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغير الله. أي في محل أعيادهم، معصية؛ لأن قوله: "فأوف بنذرك" تعقيب للوصف بالحكم بالفاء، وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم. فيكون سبب الأمر بالوفاء خلوه عن هذين الوصفين. فلما قالوا: "لا" قال: "أوف بنذرك" وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم، أو بها وثن من أوثانهم: مانع من الذبح بها ولو نذره. قاله شيخ الإسلام. وقوله: " فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله " دليل على أن هذا نذر معصية لو قد وجد في المكان بعض الموانع. وما كان من نذر المعصية فلا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء. واختلفوا هل تجب فيه كفارة يمين؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد. أحدهما: يجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وهو المذهب. وروي عن ابن مسعود وابن عباس. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه; لحديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعا: " لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين " 1 رواه أحمد وأهل السنن2 واحتج به أحمد وإسحاق. والثاني: لا كفارة عليه. وروي ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي؛ لحديث الباب. ولم يذكر فيه كفارة. وجوابه: أنه ذكر الكفارة في الحديث المتقدم. والمطلق يحمل على المقيد. قوله: "ولا فيما لا يملك ابن آدم" قال في شرح المصابيح: يعني إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان ونحو ذلك. فأما إذا التزم في الذمة شيئا; بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق رقبة، وهو في تلك الحال لا يملك ولا قيمتها، فإذا شفي مريضه ثبت ذلك في ذمته. قوله: "رواه أبو داود وإسناده على شرطهما" أي البخاري ومسلم.   1 صحيح: أحمد (6/247) ، وأبو داود (3290,3291) كتاب الأيمان والنذور: باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. والترمذي (1524) : كتاب النذور: باب ما جاء عن رسول الله أن لا نذر في معصية. والنسائي (7/26 , 27) كتاب الأيمان والنذور: باب كفارة النذر, وابن ماجة (2125) كتاب الكفارات: باب النذر في المعصية. وهو حديث صحيح صححه الألباني في الإرواء (2590) . 2 قال الترمذي: هذا حديث لا يصح؛ لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة، وقال غيره: لم يسمعه الزهري من أبي سلمة، وإنما سمعه من سليمان بن أرقم وسليمان متروك. وقال مثل هذا أبو داود بعد إخراجه إياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فيه مسائل: الأولي: تفسير قوله {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 1. الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض. وكذلك الطاعة. الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال. الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك. الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع. السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله. السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله. الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية. التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده. العاشرة: لا نذر في معصية. الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك. وأبو داود: اسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزيد السجستاني صاحب الإمام أحمد، ومصنف السنن والمراسيل وغيرهما، ثقة إمام حافظ من كبار العلماء مات سنة خمس وسبعين ومائتين. رحمه الله تعالى.   1 سورة التوبة آية: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 باب: " من الشرك النذر لغير الله" وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 1. وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 2.   قوله: " باب: من الشرك النذر لغير الله تعالى". أي لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لل،. فيكون النذر لغير الله تعالى شركا في العبادة. وقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 3 فالآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر ومدح من فعل ذلك طاعة لله ووقاء بما تقرب به إليه. وقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} . قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات، من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين ابتغاء وجهه". اهـ. إذا علمت ذلك، فهذه النذور الواقعة من عباد القبور، تقربا بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب. كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 4.   1 سورة الإنسان آية: 7. 2 سورة البقرة آية: 270. 3 سورة الإنسان آية: 7. 4 سورة الأنعام آية: 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات. والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك العاذر للمخلوقات. فإن كلاهما شرك. والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا ويقول ما قال النبي صلي الله عليه وسلم: " من حلف وقال في حلفه: واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " 12. وقال فيمن نذر سمعة أو نحوها دهنا لتنور به ويقول: إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين. وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالا للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة. فإن فيهم شبها من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 3؟ والذين اجتاز بهم موسى - عليه السلام - وقومه، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} 4. فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية. وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد في الهند5 والمجاورين عندها 6.   1 البخاري كتاب الأيمان والنذور (6650) : باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت, ومسلم: كتاب الإيمان (1647) (5) : باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله من حديث عائشة رضي الله عنها. 2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه. 3 سورة الأنبياء آية: 52. 4 سورة الأعراف آية: 138. 5 في القاموس: البد - بضم الباء - الصنم، معرب، بد والجمع بددة –كقردة - وأبداد كخرج وأخراج. وهو اسم لصنم من أصنام الهنود. 6 في قرة العيون: وذلك لأن الناذر لله وحده علق رغبته به وحده لعلمه بأنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فتوحيد القصد هو توحيد العبادة, ولهذا ترتب عليه وجوب الوفاء فيما نذره طاعة لله, والعبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك شركا بالله لالتفاته إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب، فقد جعله شريكا لله في العبادة، فيكون قد أثبت ما نفته (لا إله إلا الله) من إلهية غير الله ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص, وكل هذه الأبواب التي ذكرها المصنف - رحمه الله تعالى - تدل على أن من أشرك مع الله غيره بالقصد والطلب فقد خالف ما نفته "لا إله إلا الله" فعكس مدلولها فأثبت ما نفته ونفى ما أثبتته من التوحيد، وهذا معنى قول شيخنا. وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب. فكل شرك وقع أو قد يقع فهو ينافي كلمة الإخلاص وما تضمنته من التوحيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقال الرافعي في شرح المنهاج: "وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك - وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة - تعظيم البقعة والمشهد، أو الزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد؛ فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء. ويستجلب بها النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون: إنها تقبل النذر كما يقوله البعض يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض; أو قدوم غائب أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة، فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقا. ومن ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل - عليه السلام -، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء؛ فإن الناذر لا يقصد بذلك الإيقاد على القبر إلا تبركا وتعظيما، ظانا أن ذلك قربة، فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور محرم، سواء انتقع به هناك منتفع أم لا. قال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار: النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة; ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع والزيت كذا. فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه، منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق، ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد ذلك كفر - إلى أن قال -: إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها، وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليها فحرام بإجماع المسلمين. وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق، ونقله المرشدي في تذكرته وغيرهما عنه، وزاد: قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ابتلي الناس بهذا لا سيما في مولد البدوي1. وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء: فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان فهو لغير الله، فيكون باطلا. وفي التنزيل {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَه ُ} 3 والنذر لغير الله إشراك مع الله، كالذبح لغيره. قوله: " وفي الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". قوله: "في الصحيح" أي صحيح البخاري. قوله: "عن عائشة" هي أم المؤمنين، زوج النبي صلي الله عليه وسلم وابنة الصديق - رضي الله عنهما- تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم وهي ابنة سبع سنين، ودخل بها وهي ابنة تسع4 وهي أفقه النساء مطلقا، وهي أفضل أزواج النبي صلي الله عليه وسلم إلا خديجة ففيها خلاف5 ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح - رضي الله عنها -.   1 أحمد البدوي بطنطا لا يعرف له تاريخ صحيح, واضطربت الأقوال فيه، والمشهور أنه كان جاسوسا لدولة الملثمين. وكان داهية في المكر والخديعة. وقبره أكبر الأصنام في الديار المصرية; مثل هبل الأكبر أو اللات في الجاهلية. يؤتى عنده من أنواع الشرك الأكبر, وتقدم له النذور ويجعل له الفلاحون النصف والربع في أنعامهم وزروعهم, بل وأولادهم، فيأتي الرجل بنصف مهر ابنته ويضعه في الصندوق قائلا: هذا نصيبك يا بدوي، ويقام له كل عام ثلاثة موالد، يشد الرحال إليها الناس من أقصى القطر المصري، ويجتمع في المولد أكثر من ثلاثمائة ألف حاج إلى هذا الصنم الأكبر. عجل الله بهدمه وحرقه هو وغيره من كل صنم في مصر وغيرها. 2 سورة الأنعام آية: 121. 3 سورة الأنعام آية: 162-163. 4 عقد عليها قبل الهجرة بسنة، وبنى بها بعد الهجرة بسبعة أشهر تقريبا. 5 في قرة العيون: بل لا يقال: خديجة أفضل ولا عائشة أفضل. والتحقيق أن لخديجة من الفضائل في بدء الوحي ما ليس لعائشة من سبقها إلى الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتأييده في تلك الحال التي بدئ بالوحي فيها كما في صحيح البخاري وغيره, فما زالت كذلك حتى توفيت - رضي الله عنها - قبل الهجرة, ولعائشة من العلم والأحاديث والأحكام ما ليس لخديجة لعلمها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن وبيان الحلال والحرام, وكان الصحابة - رضي الله عنهم - بعد وفاته صلى الله عليه وسلم يرجعون إليها فيما أشكل عليهم من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديثه - صلوات الله وسلامه عليه - ورضي عن أصحابه وأزواجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " 1. فيه مسائل: الأولى: وجوب الوفاء بالنذر. الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك. الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به. قوله: " من نذر أن يطيع الله فليطعه " أي فليفعل ما نذره من طاعة الله. وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه، كإن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك وجب عليه، إن حصل له ما علق نذره على حصوله. وحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم الوفاء إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع كالصوم، وأما ما ليس كذلك كالاعتكاف فلا يجب عليه الوفاء به. قوله: " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " زاد الطحاوي: "وليكفر عن يمينه" وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية. قال الحافظ: اتفقوا على تحريم النذر في المعصية، وتنازعوا: هل ينعقد موجبا للكفارة أم لا؟ وتقدم. وقد يستدل بالحديث على صحة النذر في المباح; كما هو مذهب أحمد وغيره، يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأحمد والترمذي عن بريدة: " أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: أوفي بنذرك "2. وأما نذر اللجاج والغضب فهو يمين عند أحمد، فيخير بين فعله وكفارة يمين؛ لحديث عمران بن حصين مرفوعا: " لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين "3 رواه سعيد بن منصور وأحمد والنسائي، فإن نذر مكروها كالطلاق استحب أن يكفر ولا يفعله.   1 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه: الكفارات (2125 ,2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) . 2 صحيح: أبو داود (3312) كتاب الأيمان والنذور: باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر وإسناده حسن, وأحمد (5/353 , 356) والترمذي، (3690) كتاب المناقب: باب في مناقب عمر بن الخطاب وقال: حسن صحيح غريب. وقال الألباني في الإرواء (8/314) : ((إسناده صحيح على شرط مسلم)) . 3 ضعيف: أحمد (4/433,440,443) ، والنسائي (7/28) كتاب الأيمان والنذور: باب كفارة النذر. وضعفه الألباني في الإرواء (2587) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 باب: " من الشرك الاستعاذة بغير الله"   قوله باب "من الشرك الاستعاذة بغير الله". "الاستعاذة" الالتجاء والاعتصام، ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا وملجأ. فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه واعتصم واستجار به والتجأ إليه، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله; والاعتصام به، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه والتذلل له أمر لا تحيط به العبارة. قاله ابن القيم - رحمه الله -. وقال ابن كثير: "الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر. واللياذ لطلب الخير". انتهى. قلت: وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده; كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1. وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 2 و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 3. فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة، فمن صرف شيئا من هذه العبادات لغير الله جعله شريكا لله في عبادته، ونازع الرب في إلهيته، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابدا لغير الله ولا فرق، كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله تعالى. قوله: وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 4.   1 سورة فصلت آية: 36. 2 سورة الفلق آية: 1. 3 سورة الناس آية: 1. 4 في قرة العيون: قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله تعالى - في تفسيره هذه الآية عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية، فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم ذلك إثما. وقال بعضهم: فزاد الإنس والجن باستعاذتهم بالجن باستعاذتهم بعزيزهم جراءة عليهم وازدادوا هم بذلك إثما. وقال مجاهد: فازداد الكفار طغيانا، وقال ابن زيد: وزادهم الجن خوفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 قال ابن كثير: أي كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا، أي إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوءهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا، أي خوفا وإرهابا وذعرا، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم - إلى أن قال - قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم: "رهقا" أي خوفا. وقال العوفي عن ابن عباس: "فزادوهم رهقا" أي إثما، وكذا قال قتادة" اهـ. وذاك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى بواد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد كبير الجن. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله. وقال ملا علي قاري الحنفي: لا يجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك وذكر الآية وقال: قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1 فاستمتاع الإنس بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به وخضوعه له. انتهى ملخصا. قال المصنف: "وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية لا يدل على أنه ليس من الشرك". قوله: "وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك " رواه مسلم. هي خولة بنت حكيم بن أمية السلمية، يقال: لها أم شريك، ويقال: إنها هي الواهبة2   1 سورة الأنعام آية: 128. 2 التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون. قال ابن عبد البر: وكانت صالحة فاضلة. قوله: " أعوذ بكلمات الله التامات " شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلا عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته. قال القرطبي: قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر. وقيل: معناه الشافية الكافية. وقيل: الكلمات هنا هي القرآن؛ فإن الله أخبر عنه بأنه: {هُدىً وَشِفَاءٌ} 1. وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى. ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه; ويحضر ذلك في قلبه; فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق. وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق. قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك". وقال ابن القيم: "ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداما، وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان; لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عباد؛، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به" اهـ. قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 3 قال ابن القيم - رحمه الله -: أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيا كان أو جنيا، أو هامة4 أو دابة، أو ريحا أو صاعقة، أو أي نوع كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة.   1 سورة فصلت آية: 44. 3 سورة الفلق آية: 2. 4 الهامة: ما كان أهل الجاهلية يتوهمونه طائرا أو شبهه تتصور فيه روح المقتول لا تزال تنادي على قبره بالأخذ بثأره. وهي خرافة من خرافاتهم أبطلها الإسلام, وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 و "ما" هاهنا موصولة، وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي. والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله؛ فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه. قوله: " لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك " قال القرطبي: "هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلا وتجربة؛ فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدبة ليلا، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات". فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الجن. الثانية: كونه من الشرك. الثالثة: الاستدلال على ذلك الحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة. قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك. الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره. الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 باب: " من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره"   قوله: "باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره". قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون. وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره. فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة وينفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الدعاء عنها في مادة; فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة. وقوله: "أو يدعو غيره" اعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة; ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما. فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ولهذا أنكر الله على من يدعو أحدا من دونه ممن لا يملك ضرا ولا نفعا; كقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1. وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العباده، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 5. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 6. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} 7. وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر، وهو يتضمن دعاء العبادة؛ لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه، طالب من الله في المعنى، فيكون داعيا عابدا. فتبين بهذا من قول شيخ الإسلام أن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال تعالى عن خليله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} 8 فصار الدعاء من أنواع العبادة، فإن قوله {عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} 9 كقول زكريا:   1 سورة المائدة آية: 76. 2 سورة الأنعام آية: 71. 3 سورة يونس آية: 106. 4 سورة الأعراف آية: 55. 5 سورة الأنعام آية: 40-41. 6 سورة الجن آية: 18. 7 سورة الرعد آية: 14. 8 سورة مريم آية: 48-49. 9 سورة مريم آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} 1. وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 2. وهذا هو دعاء المسألة المتضمن للعبادة; فإن الداعي يرغب إلى المدعو ويخضع له ويتذلل. وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئا لغير الله فهو مشرك مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 3. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى. قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في الرسالة السنية: "فإذا كان على عهد النبي صلي الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام لأسباب منها: الغلو في بعض المشايخ; بل الغلو في علي ابن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني; أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ ليُعبد وحده لا شريك له، ولا يُدعَى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تُنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 5 فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة". اهـ. وقال أيضا: "من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا". نقله عن صاحب الفروع وصاحب الإنصاف وصاحب الإقناع وغيرهم. وذكره شيخ الإسلام ونقلته عنه في الرد على ابن جِرْجيس في مسألة الوسائط.   1 سورة مريم آية: 4. 2 سورة الأعراف آية: 55-56. 3 سورة الزمر آية: 14. 4 سورة الزمر آية: 3. 5 سورة يونس آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وقال ابن القيم - رحمه الله -: ومن أنواعه - يعني الشرك - طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، وسيأتي تتمة كلامه في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى. وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي - رحمه الله - في رده على السبكي في قوله: "إن المبالغة في تعظيمه - أي الرسول - واجبة". إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما، حتى الحج إلى قبره والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع قيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين. وفي الفتاوي البزازية من كتب الحنفية: قال علماؤنا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم: يكفر. وقال الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله - في كتابه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يَدّعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين أن ذلك منهم كرامات وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور، قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي؛ لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة. وفي التنزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1. ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 2 {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 3   1 سورة النساء آية: 115. 2 سورة النمل آية: 60. 3 سورة الأعراف آية: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 1 ونحوها من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا، وإماتة وخلقا. وتمدح الرب - تبارك وتعالى - بانفراده بملكه في آيات من كتابه كقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2 {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 3 وذكر آيات في هذا المعنى. ثم قوله: فقوله في الآيات كلها "من دونه" أي من غيره. فإنه هام يدخل فيه من اعتقدته، من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟ إلى أن قال: إن هذا لقول وخيم، وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة. قال جل ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 4، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} 5، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 6 {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 7 وفي الحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " 8 الحديث9. فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره. فإذا عجز عن حركة نفسه، فكيف يتصرف في غيره؟ فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} 10. قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني. قال: وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 11 {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ   1 سورة آل عمران آية: 189. 2 سورة فاطر آية: 3. 3 سورة فاطر آية: 13-14. 4 سورة الزمر آية: 30. 5 سورة الزمر آية: 42. 6 سورة آل عمران آية: 185. 7 سورة المدثر آية: 38. 8 مسلم: كتاب الوصية (1631) (14) : باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 9 رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. 10 سورة البقرة آية: 140. 11 سورة النمل آية: 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} 1 وذكر آيات في هذا المعنى، ثم قال: فإنه - جل ذكره - قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير. فهو المنفرد بذلك، فإذا تعين هو - جل ذكره - خرج غيره من ملك ونبي وولي. قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال، أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله لا يطلب فيه غيره. قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال، وينادونهم ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات. فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة وغيره على وجه الإمداد منه: أشرك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره. قال: وأما ما قالوا إن منهم أبدالا ونقباء وأوتادا ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة والقطب هو الغوث للناس. فهذا من موضوعات إفكهم. كما ذكره القاضي المحدث في سراج المريدين، وابن الجوزي وابن تيمية. انتهى باختصار. والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى واعتقدها أهل الأهواء، فلو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال الكتاب. والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولا بلا برهان فقوله ظاهر البطلان، مخالف ما عليه أهل الحق والإيمان المتمسكون بمحكم القرآن، المستجيبون لداعي الحق والإيمان. والله المستعان وعليه التكلان.   1 سورة الأنعام آية: 63-64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 قال: وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ َ} 1. قال ابن عطية: معناه قيل لي: "ولا تدع" فهو عطف على "أقم" وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلي الله عليه وسلم. إذا كانت هكذا فأحرى أن يحذر من ذلك غيره. والخطاب خرج مخرج الخصوص وهو عام للأمة. قال أبو جعفر ابن جرير في هذه الآية: يقول - تعالى ذكره -: ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام، يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفا ضرها فإنها لا تنفع ولا تضر. فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله {فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 3 يقول من المشركين بالله الظالم لنفسه4. قلت: وهذه الآية لها نظائر كقوله: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 5. وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 6. ففي هذه الآيات بيان أن كل مدعو يكون إلها، والإلهية حق لله لا يصلح منها شيء لغيره. ولهذا قال: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 7 كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 8 وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه; كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 9. والدين: كل ما يدان الله به من العبادات الظاهرة والباطنة. وفسره ابن جرير في تفسيره بالدعاء، وهو فرد من أفراد العبادة، على عادة السلف في التفسير، يفسرون الآية ببعض أفراد معناها، فمن صرف منها شيئا لقبر أو صنم أو وثن أو غير ذلك، فقد اتخذه معبودا وجعله شريكا لله في   1 سورة يونس آية: 106. 3 سورة يونس آية: 106. 4 فالظلم في هذه الآية هو الشرك كما قال تعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: (31: 13) {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} بل هو أظلم الظلم كما في الحديث عن ابن مسعود: "أظلم الظلم أن تجعل لله ندا وهو خلقك"؛ لأنه اغتصاب حق الربوبية من العبادة والدعاء والنذر ونحوه, وصرفه للعبد الذي لا يستحقه. 5 سورة الشعراء آية: 213. 6 سورة القصص آية: 88. 7 سورة القصص آية: 88. 8 سورة الحج آية: 62. 9 سورة البينة آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الإلهية التي لا يستحقها إلا هو، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1. فتبين بهذه الآية ونحوها أن دعوة غير الله كفر وشرك وضلال. وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 23 فإنه المنفرد بالملك والقهر، والعطاء والمنع، والضر والنفع، دون كل ما سواه. فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده، المعبود وحده; فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك الضر والنفع. ولا يملك ذلك ولا شيئا منه غيره تعالى، فهو المستحق للعبادة وحده، دون من لا يضر ولا ينفع. وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 5. وَقَالَ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 6. فهذا ما أخبر به الله تعالى في كتابه من تفرده بالإلهية والربوبية، ونصب الأدلة على ذلك. فاعتقد عبّاد القبور والمشاهد نقيض ما أخبر به الله تعالى، واتخذوهم   1 سورة المؤمنون آية: 117. 2 سورة يونس آية: 107. 3 في قرة العيون: هذا في حق المستغيث أخبر الله تعالى أنه هو الذي يتفضل على من سأله، ولا يقدر أحد أن يمنعه شيئا من فضل الله عليه. فهو المعطي والمانع, لا مانع لما أعطى, ولا معطي لما منع. وفي هذا المعنى ما في حديث ابن عباس. وفيه: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك". فمن تدبر هذه الآية وما في معناها علم أن ما وقع فيه الأكثر من دعوة غير الله هو الظلم العظيم, والشرك الذي لا يغفر, وأنهم قد أثبتوا ما نفته "لا إله إلا الله" من الشرك في الإلهية; ونفوا ما أثبتته من الإخلاص كما قال تعالى: (39: 2) (فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص) . والدين هو طاعة الله فيما أمر به وشرعه, ونهى عنه وحرمه. وأعظم ما أمر به التوحيد والإخلاص، وأن لا يقصد العبد بشيء من عمله سوى الله تعالى الذي خلقه لعبادته, وأرسل بذلك رسله, وأنزل به كتبه (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وأعظم ما نهى عنه: الشرك به في ربوبيته وإلهيته. 5 سورة الزمر آية: 38. 6 سورة فاطر آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 شركاء لله في استجلاب المنافع ودفع المكاره، بسؤالهم والالتجاء إليهم بالرغبة والرهبة والتضرع، وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها إلا الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله في ربوبيته وإلهيته. وهذا فوق شرك كفار العرب القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2 فإن أولئك يدعونهم ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله، وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وأما هؤلاء المشركون فاعتقدوا في أهل القبور والمشاهد ما هو أعصم من ذلك، فجعلوا لهم نصيبا من التصرف والتدبير، وجعلوهم معاذا لهم وملاذا في الرغبات والرهبات {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3. وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4 أي لمن تاب إليه. قال: "وقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 5". وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 6. يأمر تعالى عباده بابتغاء الرزق منه وحده دون ما سواه ممن لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا، فتقديم الظرف يفيد الاختصاص. وقوله: {وَاعْبُدُوهُ} من عطف العام على الخاص؛ فإن ابتغاء الرزق عنده من العبادة التي أمر الله بها. قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: {فَابْتَغُوا} أي فاطلبوا {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أي لا عند غيره. لأنه المالك له، وغيره لا يملك شيئا من ذلك: {وَاعْبُدُوهُ} أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له {وَاشْكُرُوا لَهُ} أي على ما أنعم عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله. قال: "وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 7". نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره. وأخبر أنه لا يستجيب   1 سورة الزمر آية: 3. 2 سورة يونس آية: 18. 3 سورة الطور آية: 43. 4 سورة يونس آية: 107. 5 سورة العنكبوت آية: 17. 6 سورة الأحقاف آية: 5. 7 سورة الأحقاف آية: 5-6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 له ما طلب منه إلى يوم القيامة. والآية تعم كل ما يدعى من دون الله، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 1. وفي هذه الآية أخبر أنه لا يستجيب وأنه غافل عن داعيه {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2 فتناولت الآية كل داع وكل مدعو من دون الله3. {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 4. قال أبو جعفر ابن جرير في قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} 5 يقول - تعالى ذكره -: وإذا جُمع الناس ليوم القيامة في موقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء؛ لأنهم يتبرءون منهم {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 6 يقول - تعالى ذكره -: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم ولا شعرنا بعبادتهم إيانا. تبرأنا إليك منهم يا ربنا، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} 7.   1 سورة الإسراء آية: 56. 2 سورة الأحقاف آية: 6. 3 في قرة العيون: وأخبر أن المدعو لا يستجيب لما طلب منه من ميت أو غائب, أو ممن لا يقدر على الاستجابة مطلقا من طاغوت ووثن, فليس لمن دعا غير الله إلا الخيبة والخسران. ثم قال تعالى: (وهم عن دعائهم غافلون) كما قال في آية يونس (10: 28 , 29) (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ثم قال: (46: 6) (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) . فلا يحصل للمشرك يوم القيامة إلا نقيض قصده, فيتبرأ منه ومن عبادته وينكر ذلك عليه أشد الإنكار، وقد صار المدعو للداعي عدوا; ثم أخبر تعالى أن ذلك الدعاء عبادة بقوله: {وكانوا بعبادتهم كافرين} فدلت أيضا على أن دعاء غير الله عبادة له وأن الداعي له في غايه الضلال. وقد وقع من هذا الشرك في هذه الأمة ما عم وطم, حتى أظهر الله من يبينه بعد أن كان مجهولا عند الخاصة والعامة إلا من شاء الله تعال، ; وهو في الكتاب والسنة في غاية البيان، لكن القلوب انصرفت إلى ما زين لها الشيطان, كما جرى للأمم مع الأنبياء والمرسلين لما دعوهم إلى توحيد الله جرى لهم من شدة العداوة ما ذكره الله تعالى, كما قال تعالى: (51: 52 , 53) {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول الله إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون} . ويشبه هذه الآية في المعنى (35: 13 , 14) {ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} أخبر تعالى أن ذلك الدعاء شرك بالله وأنه لا يغفره لمن لقيه به، فتدبر هذه الآيات وما في معناها كقوله: (72: 18) {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} (72: 20) (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا) وهو في القرآن أكثر من أن يستقصى. 4 سورة الأحقاف آية: 6. 5 سورة الأحقاف آية: 6. 6 سورة الأحقاف آية: 6. 7 سورة الفرقان آية: 17-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قال ابن جرير: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 من الملائكة والإنس والجن2 وساق بسنده عن مجاهد قال: عيسى وعزير والملائكة. ثم قال: يقال تعالى ذكره3 قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى: تنزيها لك يا ربنا وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4 نواليهم {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} 5 انتهى. قلت: وأكثر ما يستعمل الدعاء في الكتاب والسنة واللغة ولسان الصحابة ومَن بعدهم من العلماء: في السؤال والطلب، كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم: الصلاة لغة الدعاء، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 6 الآيتين وقال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 7، وَقَالَ: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} 8، وَقَالَ: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} 9 وَقَالَ: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} 10 الآية. وقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 11 الآية. وفي حديث أنس مرفوعا: " الدعاء مخ العبادة "12 وفي الحديث الصحيح: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة " 13. وفي آخر: " من لم يسأل الله يغضب عليه "14 وحديث: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " 15 رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه. وقوله: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض" 16 رواه الحاكم وصححه. وقوله: " سلوا الله كل شيء حتى الشِّسع إذا انقطع " 17 الحديث. وقال ابن عباس رضي الله عنه: " أفضل العبادة الدعاء " 18 وقرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 19 الآية. 20 رواه ابن المنذر والحاكم وصححه. وحديث: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان " 21 الحديث. وحديث: 22 " اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر، في الدعاء الذي هو السؤال والطلب، فمن جحد كون السؤال والطلب عبادة فقد صادم النصوص وخالف اللغة واستعمال الأمة سلفا وخلفا.   1 سورة الفرقان آية: 17. 2 سياق ابن جرير هكذا; يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المكذبين بالساعة العابدين الأوثان وما يعبدون من دون الله من الملائكة والإنس والجن. 3 أي عند تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك -إلى قوله- وكانوا قوما بورا) . 4 سورة الفرقان آية: 18. 5 سورة سبأ آية: 41. 6 سورة فاطر آية: 13. 7 سورة الأنعام آية: 63. 8 سورة يونس آية: 12. 9 سورة فصلت آية: 51. 10 سورة فصلت آية: 49. 11 سورة الأنفال آية: 9. 12 تقدم تخريجه برقم [77] . 13 حسن: الترمذي: (3479) : كتاب الدعوات: باب (66) ، والحاكم (1/ 493) من حديث أبي هريرة وحسنه الألباني لشواهده. وراجع الصحيحة (596) وصحيح الجامع (243) . 14 حسن: أحمد (2/ 442 , 443) ، والترمذي (3373) كتاب الدعوات: باب [22] ، وابن ماجة [3827] كتاب الدعاء: باب فضل الدعاء، والحاكم [1/ 491] والبخاري في الأدب المفرد [658] من حديث أبي هريرة وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 85) : إسناده لا بأس به وحسنه الأرناءوط في تخريج جامع الأصول (4/ 166) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2414) . 15 حسن: أحمد (2/ 362) والترمذي (3370) في الدعوات: باب ما جاء في فضل الدعاء وحسنه وابن ماجة [3829] في الدعاء: باب فضل الدعاء وابن حبان (2397) ، والحاكم (1/ 490) وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3268) وحسنه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (د/ 188) . 16 موضوع: الحاكم (1/ 492) ، وأبو يعلى كما في المجمع (10/ 147) وقال الهيتمي: "وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو متروك" اهـ وأشار إلى أنه حديث موضوع الألباني في الضعيفة (179) . 17 موضوع: الحاكم (1/ 492) ، وأبو يعلى كما في المجمع (10/ 147) ، وقال الهيتمي: "وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو متروك" اهـ وأشار إلى أنه حديث موضوع الألباني في الضعيفة (179) . 18 موطأ مالك: كتاب النداء للصلاة (498) وكتاب الحج (963) . 19 سورة غافر آية: 60. 20 حسن: أخرجه الحاكم (1/ 49) من طريقين عن ابن عباس وحسنه الألباني في الصحيحة (1579) . 21 صحيح: جزء من حديث طويل رواه أبو داود (1495) كتاب الدعاء، والنسائي (3/ 52) : كتاب السهو: باب الدعاء بعد الذكر وقد دعا به النبي صلى الله عليه وسلم عقب التشهد، وابن ماجة في الدعاء (3858) : باب اسم الله الأعظم من حديث أنس وصححه ابن حبان (2382- موارد) ، والحاكم (1/ 503 , 504) ووافقه الذهبي وقال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (1/ 36 , 37) وإسناده صحيح. اهـ. 22 صحيح: جزء من حديث طويل لبريدة رضي الله عنه رواه أبو داود: كتاب الصلاة (1493) : باب الدعاء، والنسائي في السهو (3/ 52) : باب الدعاء بعد الذكر والترمذي: كتاب الدعوات (3475) باب جامع الدعوات عن النبي صلى الله عليه وسلم وابن ماجة بنحوه: في الدعاء (3857) : باب اسم الله الأعظم، وأحمد (5/ 360) وصححه ابن حبان (2383- موارد) ، والحاكم (1/ 504) وأقره الذهبي وقال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (1/ 38) "وإسناده صحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وأما ما تقدم من كلام شيخ الإسلام، وتبعه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى من أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة. وما ذكر بينهما من التلازم وتضمن أحدهما للآخر. فذلك باعتبار كون الذاكر والتالي والمصلي والمتقرب بالنسك وغيره طالبا في المعنى. فيدخل في مسمى الدعاء بهذا الاعتبار، وقد شرع الله تعالى في الصلاة الشرعية من دعاء المسألة ما لا تصح الصلاة إلا به; كما في الفاتحة وبين السجدتين وفي التشهد، وذلك عبادة كالركوع والسجود. فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد. ومما يبين هذا المقام ويزيده إيضاحا قول العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ} 1: وهذا الدعاء المشهور أنه دعاء المسألة. قالوا: كان النبي صلي الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول مرة: "يا الله"، ومرة: "يا رحمن"، فظن المشركون أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية. ذكر هذا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وقيل: إن الدعاء هنا بمعنى التسمية، والمعنى: أيّ اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى، إما "الله" وإما "الرحمن" فله الأسماء الحسنى. وهذا من لوازم المعنى في الآية. وليس هو عين المراد. بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطّرد في القرآن. وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء. ثم قال: إذا عرف هذا فقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 2 يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه. قال الحسن: "بين دعاء السر ودون العلانية سبعون ضعفا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولم يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم". وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 3 يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية. قيل: أعطيه إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني; وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعماله في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا. وهذا يأتي في مسألة الصلاة وأنها نقلت عن مسماها في اللغة وصارت حقيقة شرعية، واستعملت في هذه العبادة مجازا للعلاقة بينهما وبين المسمى اللغوي، وهي باقية على الوضع اللغوي، وضم إليها أركان وشرائط. فعلى ما قررناه لا حاجة إلى شيء من ذلك؛ فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء: إما دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع. اهـ مخلصا من البدائع.   1 سورة الإسراء آية: 110. 2 سورة الأعراف آية: 55. 3 سورة البقرة آية: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 قال: "وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1" بين تعالى أن المشركين من العرب ونحوهم، قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلا الله وحده2، فذكر ذلك سبحانه محتجا عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه، ولهذا قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 3 يعني يفعل ذلك. فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وحده. وهذا أصح ما فسرت به الآية كسابقتها من قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 4. ولاحقتها إلى قوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 5. فتأمل هذه الآيات يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به وروى الطبراني بإسناده " أنه كان في زمن النبي صلي الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، قال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي: إنه لا يُستغاث بي، وإنما يستغاث بالله " 6. على ما جحدوه من قَصْر العبادة جميعها عليه، كما في فاتحة الكتاب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 7. قال أبو جعفر ابن جرير: قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} 8 إلى قوله: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} يقول - تعالى ذكره -: "أم ما تشركون بالله خير، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء النازل به عنه؟ وقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} 9 يقول: يستخلف بعد أمواتكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم، وقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} 10 أإله سواه يفعل هذه الأشياء بكم وينعم عليكم هذه النعم؟ وقوله: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 11   1 سورة النمل آية: 62. 2 في قرة العيون: وهذا مما أقر به مشركو العرب وغيرهم في جاهليتهم كما قال تعالى: (30: 65) (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) أخبر تعالى أنهم يخلصون الدعاء له إذا وقعوا في شدة. 3 سورة النمل آية: 60. 4 سورة النمل آية: 60-61. 5 سورة النمل آية: 63-64. 7 سورة الفاتحة آية: 5. 8 سورة النمل آية: 62. 9 سورة النمل آية: 62. 10 سورة النمل آية: 62. (5) سورة النمل آية: 62. (6) ضعيف: رواه الطبراني كما في المجمع (10/159) . وفي إسناده ضعف، فيه ابن لهيعة ضعيف مختلط، وراجع النهج السديد (161) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 يقول تذكرا قليلا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون، وتعتبرون حجج الله عليكم يسيرا. فلذلك أشركوا بالله غيره في عبادته". اهـ. قوله: "وروى الطبراني أنه كان في زمن النبي منافق يؤذي المؤمنين. فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي; وإنما يستغاث بالله". الطبراني: هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها. روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الديري وخلق كثير. مات سنة ستين وثلاثمائة. روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قوله: "أنه كان في زمن النبي صلي الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين" لم أقف على اسم هذا المنافق. قلت: هو عبد الله بن أبيّ كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته. قوله: "فقال بعضهم" أي الصحابة رضي الله عنهم هو أبو بكر رضي الله عنه. فيه مسائل: الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 1. الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر. الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين. الخامسة: تفسير الآية التي بعدها. السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا. السابعة: تفسير الآية الثالثة. 2 الثامنة: إن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه. التاسعة: تفسير الآية الرابعة. العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله. الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه. 3 الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو الداعي وعداوته له. قوله: "قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق"؛ لأنه صلي الله عليه وسلم يقدر على كف أذاه. 4   1 سورة يونس آية: 106. 2 يعني (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) . 3 يعني أن المدعو غافل عن دعاء الداعي بما هو مشغول به في قبره من نعيم، إن كان من المؤمنين الصالحين, كالحسين وأبيه – رضي الله عنهما -, أو من عذاب أليم, كالتجاني المشرك الخبيث، وابن عربي الحاتمي أكبر الدعاة إلى وحدة الوجود، وابن الفارض وأشباههما ممن اتخذه الناس وليا معبودا لعظم ما بني عليه من القبة، أو بالظنون واتباع الأهواء، وهم كثير جدا, بل أكثر أولئك الطواغيت منهم، ومن أرباب الطرق الدجالين. (4) في قرة العيون: فلعله أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك المنافقين أن يفعل بهم ما يستحقونه مخافة أن يفتتن بعض المؤمنين من قبيلة المنافق، وفي السنة ما يدل على ذلك، كما فعل مع ابن أبي وغيره. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدر أن يغيثهم من ذلك المنافق فيكون نهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستغاثة به حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك، كنظائره مما للمستغاث به قدرة عليه مما كان يستعمل لغة وشرعا مخافة أن يقع من أمته استغاثة بمن لا يضر ولا ينفع ولا يسمع ولا يستجيب من الأموات والغائبين، والطواغيت والشياطين والأصنام وغير ذلك. وقد وقع من هذا الشرك العظيم ما عمت به البلوى مما تقدم ذكره حتى أنهم أشركوه مع الله في ربوبيته وتدبير أمر خلقه كما أشركوهم معه في ألوهيته وعبوديته؛ والوسائل لها حكم الغايات في النهي عنها والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو. الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة. الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس. السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة. 1 السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين. الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم حِمى التوحيد والتأدب مع الله. قوله: "إنه لا يستغاث بي; وإنما يستغاث بالله" فيه النص على أنه لا يستغاث بالنبي صلي الله عليه وسلم ولا بمن دونه. كره صلي الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته؛ حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك، وأدبا وتواضعا   1 في سورة (10: 49) (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 لربه، وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال. فإذا كان فيما يقدر عليه صلي الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله عز وجل؟ كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء كالبوصيري1 والبرعي   1 مثل قوله في البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم. ويزعمون أن البوصيري أعظم من مدح النبي صلى الله عليه وسلم ويذكرونه أكثر مما يذكرون حسان بن ثابت وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم -; لأنهم في زعمهم لم يبلغوا من الغلو والإطراء ما بلغ البوصيري. وهذا هو الغلو الذي جر إلى الشرك والكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم كما كفرت النصارى بعيسى بن مريم - عليه السلام - من طريق هذا الغلو. وقد حذرنا الله منه في كتابه الكريم بقوله: (4: 171) (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) . وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فأنا عبد الله ورسوله" صلى الله عليه وسلم. وإنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم وحبه باتباع سنته وإقامة ملته ودفع كل ما يلصقه الجاهلون بها من الخرافات. فقد ترك أكثر الناس هذا وشغلوا بهذا الغلو والإطراء الذي أوقعهم في هذا الشرك العظيم. ونحمد الله أن عافانا بفضله وجعلنا مؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم معظمين له ومحبين بما يحبه الله ورسوله لنا على مثل ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. وقد عظمت المصيبة بهذا الشرك حتى اتخذ أعداء الرسول -الزاعمون جهلا وكذبا حبه- هذه البردة وردا كالقرآن وأعظم من القرآن; وكتبوها مجودة بماء الذهب كما كتبوا القرآن, وربما اشتدت عنايتهم بها أكثر من القرآن. فلا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 1.   وغيرهم، من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء الذي له الخلق والأمر وحده، وله الملك وحده، لا إله غيره ولا رب سواه. قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} 2 في مواضع من القرآن3 {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} 4. فأعرض هؤلاء عن القرآن واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجم الغفير، فاعتقدوا الشرك بالله دينا، والهدى ضلالا، فإنه لله وإنا إليه راجعون. فما أعظمها من مصيبة عمت بها البلوى‍‍ فعاندوا أهل التوحيد وبدعوا أهل التجريد; فالله المستعان. قوله: "باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 5". قوله: {أَيُشْرِكُونَ} أي في العبادة. قال المفسرون: في هذه الآية توبيخ وتعنيف   1 سورة الأعراف آية: 191. 2 سورة الأعراف آية: 188. 3 يعني (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) فبالجمع بين الآيتين يظهر أنه لا يقدر أحد من المدعوين أن يجيب الداعي إلا الله. 4 سورة الجن آية: 21. 5 في قرة العيون: وهذا مما احتج به تعالى على المشركين لما وقع منهم من اتخاذ الشفعاء والشركاء في العبادة؛ لأنهم مخلوقون فلا يصلح أن يكونوا شركاء لمن هم خلقه وعبيده. وأخبر أنهم مع ذلك لا يستطيعون لهم نصرا, أي لمن سألهم النصرة (ولا أنفسهم ينصرون) فإذا كان المدعو لا يقدر على أن ينصر نفسه فلأن لا ينصر غيره من باب الأولى. فبطل تعلق المشرك بغير الله بهذين الدليلين العظيمين, وهو كونهم عبيدا لمن خلقهم لعبادته، والعبد لا يكون معبودا. الدليل الثاني: أنه لا قدرة لهم على نفع أنفسهم فكيف يرجى منهم أن ينفعوا غيرهم. فتدبر هذه الآية وأمثالها في القرآن العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئا وهو مخلوق، والمخلوق لا يكون شريكا للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وبيّن أنهم لا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه؟ وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله، وهذا وصف كل مخلوق، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين. وأشرف الخلق محمد صلي الله عليه وسلم قد كان يستنصر ربه على المشركين ويقول: "اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل "1. وهذا كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 2. وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3. وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} 4. فكفى بهذه الآيات برهانا على بطلان دعوة غير الله كائنا من كان. فإن كان نبيا أو صالحا فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له، والرضاء به ربا ومعبودا، فكيف يجوز أن يجعل العابد معبودا مع توجيه الخطاب إليه بالنهي عن هذا الشرك كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 5. وَقَالَ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} 6. فقد أمر عباده من الأنبياء والصالحين وغيرهم بإخلاص العبادة له وحده، ونهاهم أن يعبدوا معه غيره، وهذا هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده، وهو دين الإسلام، كما روى البخاري عن أبي هريرة في سؤال جبريل - عليه السلام - قال: " يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم ومضان " 7 الحديث. وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ   1 صحيح: أخرجه أبو داود (2623) في الجهاد: باب ما يدعى عند اللقاء، والترمذي (3584) في الدعوات: باب في الدعاء إذا غزا من حديث أنس. وصحح إسناده الألباني في تخريج الكلم الطيب (125) وقال: ولبعضه شاهد من حديث صهيب أخرجه أحمد (6/ 16) بسند صحيح, اهـ. 2 سورة الفرقان آية: 3. 3 سورة الأعراف آية: 188. 4 سورة الجن آية: 21-22-23. 5 سورة القصص آية: 88. 6 سورة يوسف آية: 40. 7 البخاري: كتاب الإيمان (50) : باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أيضا مسلم (9) , (10) كتاب الإيمان: باب الإسلام والإيمان والإحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 1 إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2 يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو وهي الملك، وسماع الدعاء، والقدرة على استجابته، فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته فكيف إذا عُدمت بالكلية؟ فنفى عنهم الملك بقوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 3 قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وعطاء والحسن وقتادة "القطمير: اللفافة التي تكون على نواة التمر". كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} 4. وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 5 ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا} ؛ لأنهم ما بين ميت وغائب عنهم، مشتغل بما خلق له، مسخر بما أمر به كالملائكة، ثم قال: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ؛ لأن ذلك ليس لهم; فإن الله تعالى لم يأذن لأحد من عباده في دعاء أحد منهم، لا استقلالا ولا واسطة، كما تقدم بعض أدلة ذلك. وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} فتبين بهذا أن دعوة غير الله شرك. 6 وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ   1 سورة فاطر آية: 13-14. 2 في قرة العيون: يخبر الخبير أن الملك له وحده، والملوك وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره, ولهذا قال: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) فإن من كانت هذه صفته فلا يجوز أن يرغب في طلب نفع أو دفع ضر إلى أحد سواه تعالى وتقدس، بل يجب إخلاص الدعاء له الذي هو من أعظم أنواع العبادة، وأخبر تعالى أن ما يدعوه أهل الشرك لا يملك شيئا وأنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم. ولو فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لداعيهم وأنهم يوم القيامة يكفرون بشركهم, أي ينكرونه ويتبرءون ممن فعله معهم; ذلك الدعاء شرك به, وأنه لا يغفره لمن لقيه به, فأهل الشرك ما صدقوا الخبير ولا أطاعوه فيما حكم به وشرع, بل قالوا: إن الميت يسمع; ومع سماعه ينفع; فتركوا الإسلام والإيمان رأسا كما ترى عليه الأكثرين من جهلة هذه الأمة. 3 سورة فاطر آية: 13. 4 سورة النحل آية: 73. 5 سورة سبأ آية: 22-23. 6 وتبين أنهم كانوا يدعون عبادا صالحين يتبرءون من الشرك الذي هو دعاء غير الله، ويتبرءون من أولئك المشركين الزاعمين حب أولئك الصالحين وأنهم محسوبون عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 عَلَيْهِمْ ضِدّاً} 1 وقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 2. قال ابن كثير: يتبرأون منكم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 3. قال وقوله: {لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 4 أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى. فإنه أخبر بالواقع لا محالة. قلت: والمشركون لم يسلموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم فقالوا: تملك وتسمع وتستجيب وتشفع لمن دعاها 5، ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به الخبير من أن كل معبود يعادي عابده يوم القيامة ويتبرأ منه، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 6 أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: قال مجاهد: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 7. قال يقول ذلك كل شيء كان يعبد من دون الله. فالكيِّس يستقبل هذه الآيات التي هي الحجة والنور والبرهان بالإيمان والقبول والعمل، فيجرد أعماله لله وحده دون كل ما سواه ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا دفعا، فضلا عن غيره. قوله: "وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: شُجَّ النبي صلي الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته. فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 8".   1 سورة مريم آية: 81-82. 2 سورة فاطر آية: 14. 3 سورة الأحقاف آية: 5-6. 4 سورة فاطر آية: 14. 5 يعني قالوا ذلك بلسان حالهم؛ لأنهم أصروا على دعائهم والاستغاثة بهم بعد أن وبخهم الله بأن الذي يستغاث به ويدعى لا بد أن يكون سميعا بصيرا بيده الخير. والذي يدل على أنهم لم يكونوا يقولون ذلك بصريح القول: ما حكى الله من جواب قوم إبراهيم وأبيه لما سألهم (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) فإنهم أعرضوا عن الجواب الصريح عن السؤال. وقالوا: (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) فجوابهم هذا حيدة عن الجواب المطابق للسؤال. 6 سورة يونس آية: 28-29-30. 7 سورة يونس آية: 29. 8 سورة آل عمران آية: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 قوله: "في الصحيح" أي الصحيحين. علقه البخاري. قال: وقال حميد وثابت عن أنس. ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس. ووصله مسلم عن ثابت عن أنس. وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثنا حميد الطويل عن أنس قال: " كسرت رباعية النبي صلي الله عليه وسلم يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله الآية "1. قوله: "شُجَّ النبي صلي الله عليه وسلم" قال أبو السعادات: الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء، وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة ابن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلي الله عليه وسلم السفلى وجرح شفته العليا2. وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في وجهه، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق يوم أحد وكُسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . المِغْفَر في وجنته3وأن مالك بن سنان مصّ الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدرده. فقال له " لن تمسك النار " قال القرطبي: "والرباعية بفتح الراء وتخفيف الياء - وهي كل سن بعد ثنية - قال النووي رحمه الله: وللإنسان أربع رباعيات". قال الحافظ: "والمراد أنها كسرت، فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها". قال النووي: وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - لينالوا بذلك جزيل الأجر والثواب. ولتعرف الأمم ما أصابهم ويأتسوا بهم". قال القاضي: "وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ   1 رواه البخاري معلقا (7/ 281) في المغازي: غزوة أحد باب قول الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) . حديث حميد فوصله أحمد والترمذي والنسائي من طرق عن حميد كما في الفتح (7/ 365) . أما حديث ثابت فوصله مسلم (1791) في الجهاد والسير, باب غزوة أحد من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه. 2 روى ابن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص قال: "فما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد". 3 في الطبراني من حديث أبي أمامة قال: "رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشج وجهه وكسرت رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: مالك أقمأك الله. فسلط الله عليه تيس جبل, فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 على أجسام البشر ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون. ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم" انتهى. قلت: يعني من الغلو والعبادة. قوله: "يوم أُحد" هو شرقي المدينة. قال صلي الله عليه وسلم: " أُحد جبل يحبنا ونحبه " 12 وهو جبل معروف كانت عنده الواقعة المشهورة. فأضيفت إليه. وفيه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع قي الركعة الأخيرة من الفجر -: " اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول: سمع لله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 3 " الآية. 4 قوله: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" زاد مسلم: " كسروا رباعيته وأدموا وجهه " 5. قوله: "فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 6"7 قال ابن عطية: كأن النبي صلي الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش; فقيل له بسبب ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي عواقب الأمور بيد الله، فامض أنت لشأنك، ودُم على الدعاء لربك. وقال ابن إسحاق: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 8 في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. قوله: "وفيه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: - " اللهم العن فلانا وفلانا " بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 9 وفي رواية. " يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام " فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ".   1 رواه البخاري كتاب الزكاة (1481) : باب خرص الثمر. ومسلم: كتاب الحج (1392) (503) : باب أحد جبل يحبنا ونحبه من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه وللبخاري: كتاب الاعتصام (7333) : باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم، ومسلم: كتاب الحج (1365) (462) : باب فضل المدينة: وكتاب الحج (1393) (504) : باب أحد جبل يحبنا ونحبه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. 2 رواه البخاري في الصحيح عن أنس. 3 سورة آل عمران آية: 128. 4البخاري: كتاب المغازي (4069) : باب قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ومسلم: النذر (1641) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي: السير (2505) . 5 6 سورة آل عمران آية: 128. 7 في قرة العيون: وقد قال تعالى: (قل إن الأمر كله لله) وقال تعالى: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) . والآيات في هذا المعنى كثيرة, والمقصود أن الذي له الأمر كله والملك كله لا يستحق غيره شيئا من العبادة, ولهذا المعنى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) . فالذي ليس له من الأمر شيء وهو خيرة الله من خلقه ما زال يدعو الناس أن يخلصوا العبادة للذي له الأمر كله وهو الله تعالى, فهذا دينه صلى الله عليه وسلم الذي بعث به، وأمر أن يبلغه أمته ويدعوهم إليه كما تقدم في باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله, فإياك أن تتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين الذي شرعه الله ورسوله لهم وخصهم به. 8 سورة آل عمران آية: 128. 9 سورة آل عمران آية: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قوله: "وفيه" أي في صحيح البخاري. ورواه النسائي. قوله: "عن ابن عمر" هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، صحابي جليل، شهد له رسول الله صلي الله عليه وسلم بالصلاح، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو في أول التي تليها. قوله: "أنه سمع رسول الله" هذا القنوت على هؤلاء بعدما شج وكسرت رباعيته يوم أُحد. قوله: "اللهم العن فلانا وفلانا" قال أبو السعادات: أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله. ومن الخلق السب والدعاء. وتقدم كلام شيخ الإسلام - رحمه الله -. قوله: "فلانا وفلانا" يعني صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، كما بينه في الرواية الآتية. وفيه: جواز الدعاء على المشركين بأعيانهم في الصلاة، وأن ذلك لا يضر في الصلاة. قوله: "بعدما يقول: سمع الله لمن حمده" قال أبو السعادات: أي أجاب حمده وتقبله. وقال السهيلي: مفعول "سمع" محذوف؛ لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد، وهو الاستجابة لمن حمده. وقال ابن القيم رحمه الله ما معناه: "سمع الله لمن حمده" باللام المتضمنة معنى استجاب له. ولا حذف وإنما هو مضمن. قوله: "وربنا لك الحمد" في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو. قال ابن دقيق العيد: كأن إثباتها دال على معنى زائد; لأنه يكون التقدير: ربنا استجب ولك الحمد. فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر. قال شيخ الإسلام: والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له. كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وكذا قال ابن القيم: وفرق بينه وبين المدح بأن الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا عن حب وإرادة، أو يكون مقرونا بحبه وإرادته. فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد. فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه. ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح، فإنه خبر مجرد. فالقائل إذا قال: "الحمد لله" أو قال: "ربنا ولك الحمد" تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة، وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه، وهو الحميد المجيد. وفيه: التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الشافعي وأحمد وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة، وقالا: يقتصر على "سمع الله لمن حمده". قوله: "وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام". وذلك لأنهم رءوس المشركين يوم أحد، هم وأبو سفيان ابن حرب، فما استجيب له صلي الله عليه وسلم فيهم بل أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} 2 فتاب عليهم فأسلموا وحسن إسلامهم. وفي كله معنى شهادة أن لا إله إلا الله الذي له الأمر كله، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. وفي هذا من الحجج والبراهين ما يبين بطلان ما يعتقده عبّاد القبور في الأولياء والصالحين. بل في الطواغيت من أنهم ينفعون من دعاهم، ويمنعون من لاذ بحماهم. فسبحان من حال بينهم وبين فهم الكتاب. وذلك عدله سبحانه، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه، وبه الحول والقوة. قوله: وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 3 قال: " قام رسول الله صلي الله عليه وسلم حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فقال: يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم   1 البخاري: المغازي (4070) , والترمذي: تفسير القرآن (3005) , وأحمد (2/118) . 2 سورة آل عمران آية: 128. 3 سورة الشعراء آية: 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا " 1. قوله: "وفيه" أي وفي صحيح البخاري. قوله: "عن أبي هريرة" اختلف في اسمه. وصحح النووي أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال: "كان اسمي في الجاهلية عبد الرحمن". وروى الدولابي بإسناده عن أبي هريرة "أن النبي صلي الله عليه وسلم سماه عبد الله". وهو دَوْسِي من فضلاء الصحابة وحفاظهم، حفظ عن النبي صلي الله عليه وسلم أكثر مما حفظه غيره2 مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة. قوله: "قام رسول الله صلي الله عليه وسلم" في الصحيح من رواية ابن عباس: " صعد رسول الله صلي الله عليه وسلم على الصفا ". قوله: "حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 3" عشيرة الرجل: هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته؛ لأنهم أحق الناس ببرِّك وإحسانك الديني والدنيوي; كما قال قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا. تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 4. وقد أمره الله تعالى أيضا بالنذارة العامة، كما قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} 5. {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} 6.   1 البخاري (4771) في تفسير سورة الشعراء باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) . وفي الوصايا: (2753) باب هل يدخل النساء والأولاد في الأقارب. 2 روى البخاري في أول البيوع عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: "إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة؟ وأن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا, وأحفظ إذا نسوا, وكان يشغل إخواني من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءا مسكينا من مساكين الصفة أعي حين ينسون. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه: أنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول. فبسطت نمرة علي حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء". 3 سورة الشعراء آية: 214. 4 سورة التحريم آية: 6. 5 سورة يس آية: 6. 6 سورة إبراهيم آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قوله: "يا معشر قريش" المعشر الجماعة. قوله: "أو كلمة نحوها" هو بنصب "كلمة" عطف على ما قبله. قوله: "اشتروا أنفسكم" أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له وطاعته فيما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه. فإن ذلك هو الذي ينجي من عذاب الله لا الاعتماد على الأنساب والأحساب؛ فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب. قوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا"1 فيه حجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين، ورغب إليهم ليشفعوا له وينفعوه، أو يدفعوا عنه؛ فإن ذلك هو الشرك الذي حرمه الله تعالى، وأقام نبيه صلي الله عليه وسلم بالإنذار عنه، كما أخبر تعالى عن المشركين في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3. فأبطل الله ذلك ونزه نفسه عن هذا الشرك، وسيأتي تقرير هذا المقام إن شاء الله تعالى. وفي صحيح البخاري: " يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا ". قوله: "يا عباس بن عبد المطلب" بنصب "بن" ويجوز في "عباس" الرفع والنصب. وكذا في قوله: " يا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد ".   1 في قرة العيون: هذا هو معنى ما تقدم من أنه تعالى هو المتصرف فى خلقه بما شاء مما اقتضته حكمته في خلقه وعلمه بهم, والعبد لا يعلم إلا ما علمه الله, ولا ينجو أحد من عذابه وعقابه إلا بإخلاص العبادة له وحده والبراءة من عبادة ما سواه. كما قال تعالى: (5: 72) (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) . والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنذر الأقربين نذارة خاصة، وأخبر أنه لا يغني عنهم من الله شيئا, وبلغهم وأعذر إليهم. فأنذر قريشا ببطونها وقبائل العرب في مواسمها، وأنذر عمه وعمته وابنته وهم أقرب الناس إليه, وأخبر أنه لا يغني عنهم من الله شيئا إذا لم يؤمنوا به ويقبلوا ما جاء به من التوحيد وترك الشرك به، وسائر شرائع الإسلام وعباداته. 2 سورة الزمر آية: 3. 3 سورة يونس آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قوله: "سليني من مالي ما شئت". 1 بيّن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل والصالح. وفيه: أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا. وأما الرحمة والمغفرة والجنة والنجاة من النار ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى; فإن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد، والإخلاص له بما شرعه ورضيه لعباده أن يتقربوا إليه به، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه ولا عمته ولا قرابته إلا ذلك، فغيرهم أولى وأحرى. وفي قصة عمه أبي طالب معتبر. فانظر إلى الواقع الآن من كثير من الناس من الالتجاء إلى الأموات والتوجه إليهم بالرغبات والرهبات، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فضلا عن غيرهم يتبين لك أنهم ليسوا على شيء {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2 أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ولاريب أن محبة الصالحين إنما تحصل فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيتين 3. الثانية: قصة أُحد. الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمّنون في الصلاة. الرابعة: أن المدعو عليهم كفار. الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها شجّهم نبيهم وحرصهم على قتله. ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم. السادسة: أنزل الله عليه في ذلك {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 4. السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} 5 فتاب عليهم فآمنوا. الثامنة: القنوت في النوازل. التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم. العاشرة: لعن المعيّن في القنوت. الحادية عشرة: قصته صلي الله عليه وسلم لما أُنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 6. الثانية عشرة: جده صلي الله عليه وسلم بحيث فعل ما نُسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن. الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: لا أغني عنك من الله شيئا حتى قال: يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا. فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلي الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، تبين له التوحيد وغربة الدين.   1 في قرة العيون: لأن هذا هو الذي يقدر عليه صلى الله عليه وسلم، وما كان أمره إلى الله سبحانه فلا قدرة لأحد عليه كما في هذا الحديث, ولما مات أبو طالب وكان يحوط رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحميه ولم ينكر ملة عبد المطلب من الشرك بالله، وقال صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك "، فأنزل الله تعالى: (9: 113) (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) فأخبر أن أبا طالب من أصحاب النار لما مات على غير شهادة أن لا إله إلا الله, فلم ينفعه حمايته النبي صلى الله عليه وسلم من أن يكون من المشركين، ولا الاعتراف بأن النبي صلى الله عليه وسلم على الحق بدون البراءة من الشرك؛ لأنه لم يبرأ من ملة أبيه، فكل تعلق على غير الله من طلب شفاعة أو غيرها شرك بالله يكون عليه وبالا في الدنيا والآخرة, والشفاعة لا تكون إلا لأهل الإخلاص خاصة, كما قال تعالى: (6: 51) (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) . والآيات في هذا المعنى كثيرة وكذلك الأحاديث والله أعلم. وسيأتي في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى. 2 سورة الأعراف آية: 30. 3 يعني قوله تعالى: (لا يستطيعون لهم نصرا) وقوله: (ما يملكون من قطمير) ؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم لا يغني عن قرابته شيئا. فغيره أولى ان يعجز عن ضر أو نفع لنفسه أو لغيره. 4 سورة آل عمران آية: 128. 5 سورة آل عمران آية: 128. 6 سورة الشعراء آية: 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 بموافقتهم في الدين، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين، لا باتخاذهم أندادا من دون الله يحبونهم كحب الله إشراكا بالله، وعبادة لغير الله، وعداوة لله ورسوله والصالحين من عباده، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في هذه الآية بعد كلام سبق: "ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أُمر به وهو محض التوحيد، فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} . ثم أخبر أن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد الوفاة لا اطلاع له عليهم، وأن الله عز وجل المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ   1 سورة المائدة آية: 116-117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وصف الله سبحانه بأن شهادته فوق كل شهادة وأعم" اهـ. قلت: ففي هذا بيان أن المشركين خالفوا ما أمر الله به رسله من توحيده الذي هو دينهم الذي اتفقوا عليه، ودعوا الناس إليه، وفارقوهم فيه إلا من آمن، فكيف يقال لمن دان بدينهم، وأطاعهم فيما أمروا به من إخلاص العبادة لله وحده: إنه قد تنقّصهم بهذا التوحيد الذي أطاع به ربه، واتبع فيه رسله - عليهم السلام -، ونزه به ربه عن الشرك الذي هو هضم للربوبية، وتنقّص للإلهية وسوء ظن برب العالمين؟ والمشركون هم أعداء الرسل وخصماؤهم في الدنيا والآخرة، وقد شرعوا لأتباعهم أن يتبرءوا من كل مشرك ويكفروا به، ويبغضوه ويعادوه في ربهم ومعبودهم {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 1.   1 سورة الأنعام آية: 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 باب: قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير ُ} 1   قوله: باب "قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2"3. قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 4 أي زال الفزع عنها. قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي والحسن وغيرهم. وقال ابن جرير: قال بعضهم: الذين فزع عن قلوبهم: الملائكة. قالوا: وإنما فزّع   1 سورة سبأ آية: 23. 2 سورة سبأ آية: 23. 3 في قرة العيون: وهذه الآيات تقطع عروق الشرك بأمور أربعة: (الأول) أنهم لا يملكون مثقال ذرة مع الله، والذي لا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض لا ينفع ولا يضر, فالله تعالى هو الذي يملكهم ويدبرهم ويتصرف فيهم وحده. (الثاني) قوله: (وما لهم فيهما من شرك) أي في السموات والأرض, أي وما لهم فيهما من شرك مثقال ذرة من السموات والأرض. (الثالث) قوله: (وما لهم منهم من ظهير) والظهير: المعين، فليس لله معين من خلقه, بل هو الذي يعينهم على ما ينفعهم لكمال غناه عنهم, وضرورتهم إلى ربهم فيما قل وكثر من أمور دنياهم وأخراهم. (الرابع) قوله: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. وأخبر تعالى أن من اتخذ شفيعا من دونه حرم شفاعة الشفعاء, قال تعالى: (10: 18) (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) ؛ لأن اتخاذ الشفعاء شرك لقوله تعالى في حقهم: (سبحانه وتعالى عما يشركون) . والمشرك منفية الشفاعة في حقه كما قال تعالى: (74: 48) (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وقال: (6: 94) (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهرركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) ، وذلك أن متخذ الشفيع لا بد أن يرغب إليه ويدعوه ويرجوه ويخافه ويحبه لما يؤمله منه وهذه من أنواع العبادة التي لا يصرف منها شيء لغير الله، وذلك هو الشرك الذي ينافي الإخلاص. 4 سورة سبأ آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي 1. وقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل عليه الظاهر. كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون لله أبدا; يعني منقادون، حتى إذا فزع عن قلوبهم. والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره. قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه; لصحة الأحاديث فيه والآثار. وقال أبو حيان: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أن قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 2 إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كَجرِّ سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة. قال: وبهذا المعنى - من ذكر الملائكة في صدر الآية - تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: " الذين زعمتم " لم تتصل له هذه الآية بما قبلها 3. قوله: " قالوا ماذا قال ربكم " ولم يقولوا ماذا خلق ربنا؟ ولو كان كلام الله مخلوقا لقالوا: ماذا خلق؟. انتهى من شرح سنن ابن ماجه. ومثله الحديث: " ماذا قال ربنا يا جبريل؟ ". وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير. قوله: {قَالُوا الْحَقَّ} أي قال الله الحق. وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق. قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 4 علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، فله العلو الكامل من جميع الوجوه، كما قال عبد الله بن المبارك لما قيل له: بما نعرف ربنا؟ قال: "بأنه على عرشه   1 ذكره عن ابن مسعود من عدة طرق, وساق بسنده حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري الآتي بعد صفحة. وقد قال البخاري في تفسير سورة الحجر عن علي بن عبد الله. قلت لسفيان: إن إنسانا روى عنك عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة أنه قرأ "فرغ" بضم الفاء والراء المثقلة المهملة وبالغين المعجمة فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو، ويعني ابن دينار. فلا أدري سمعه هكذا أم لا؟ قال الحافظ: وهذه القراءة رويت عن الحسن وقتادة ومجاهد، والقراءة المشهورة بالزين والعين المهملة. وقرأهما ابن عامر مبنيا للفاعل. ومعناه بالزاي والعين المهملة: أدهش الفزع عنهم. ومعنى التي بالراء والغين المعجمة ذهب عن قلوبهم ما حل فيها. 2 سورة سبأ آية: 23. 3 قال أبو حيان: ولهذا اضطرب المفسرون في تفسيرها. 4 سورة سبأ آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 بائن من خلقه" تمسكا منه بالقرآن لقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 في سبعة مواضع من القرآن. قوله: {الْكَبِيرُ} أي الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى. قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، - ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض. " وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا:؟ كذا وكذا. فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء". 3 ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم قوله: "في الصحيح" أي صحيح البخاري 4. قوله: "إذا قضى الله الأمر في السماء" أي إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراده، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود: " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان "5. وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: " لما أوحى الجبار إلى محمد صلي الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي. فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله. فقالوا: الحق. وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا "6. قوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله" أي لقول الله تعالى. قال الحافظ:   1 سورة طه آية: 5. 2 سورة الفرقان آية: 59. 3 البخاري (4800) في تفسير سورة سبأ باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم) (4701) في التفسير: سورة الحجر: باب (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) . 4 رواه في تفسير قوله: (إلا من استرق السمع) من سورة الحجر, وفي تفسير سورة سبأ وغيره هذين الموضعين. حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة. ورواه مسلم وأبو داود نحو هذا. 5 أخرجه البخاري معلقا بنحوه في كتاب الترحيد (13/ 452 , 453) . ووصله أبو داود (4738) في السنة: باب في القرآن. وابن خزيمة في التوحيد (ص 145) . والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 201) . وغيرهم بإسناد صحيح وقد اختلف فيه على وقفه ورفعه كما في الفتح (13/ 456) . 6 البخاري (2210) : كتاب بدء الخلق: باب ذكر الملائكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 خضعانا بفتحتين من الخضوع. وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه. وهو مصدر بمعنى خاضعين. قوله: "كأنه سلسلة على صفوان" أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس. ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع- ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته. قوله: "ينفذهم ذلك" هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة "ذلك" أي القول، والضمير في "ينفذهم" للملائكة، أي ينفذ ذلك القول الملائكة أي يخلص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه. وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس: " فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا ". وعند أبي داود وغيره مرفوعا " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل " الحديث. قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 1 تقدم معناه. قوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} 2 أي قالوا: قال الله الحق، علموا أن الله لا يقول إلا الحق. قوله: "فيسمعها مسترق السمع" أي يسمع الكلمة التي قضاها الله، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضا. وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعا: " إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قُضِيَ في السماء، فتسترق الشياطين السمع; فتوحيه إلى الكهان " 3. قوله: "ومسترق السمع هكذا وصفه سفيان بكفه" أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض. وسفيان: هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ، فقيه إمام حجة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعون سنة. ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يُدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فقال: قوله: "فحرّفها" بحاء مهملة وراء مشددة وفاء. قوله: "وبدّد" أي فرق بين أصابعه.   1 سورة سبأ آية: 23. 2 سورة سبأ آية: 23. 3 صحيح: أبو داود (4738) : كتاب السنة: باب في القرآن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وراجع رقم [145] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قوله: "فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته" أي يسمع الفوقاني الكلمة فيلقيها إلى آخر تحته، ثم يلقيها إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن. قوله: "فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها" الشهاب: هو النجم الذي يرمى به; أي ربما أدرك الشهاب المسترق، وهذا يدل على أن الرمي بالشهب قبل المبعث. لما روى أحمد وغيره - والسياق له في المسند من طريق معمر -: أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال: " كان رسول الله صلي الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق: من الأنصار- قال: فرُمي بنجم عظيم فاستنار، قال: ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ قال: كنا نقول: لعله يولد عظيم أو يموت - قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكن غلظت حين بعث النبي صلي الله عليه وسلم - قال: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن - ربنا تبارك - اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا. ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون; فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون "12 قال عبد الله: قال أبي: قال عبد الرزاق: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء 3"4. وعن النوّاس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، ويخطف الجن ويرمون ". وفي رواية له: " لكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون " 5. قوله: "فيكذب معها مائة كذبة" أي الكاهن أو الساحر. و"كذبة" بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة. قوله: "فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ " هكذا في نسخة بخط   1 صحيح: أحمد في المسند (1/ 218) . ورواه مسلم أيضا في السلام (2229) (124) : باب تحريم الكهنة وإتيان الكهان. والترمذي (3222) في تفسير سورة سبأ وقال: هذا حديث حسن صحيح. 2 قال الحافظ ابن كثير: وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبد الله, أربعتهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن رجل من الأنصار. 3 يعني أن قول الكاهن والساحر والعراف قد يصادف بعض الواقع؛ فيغتر الجاهلون المخرفون بذلك، ويحتجون بهذه المصادفة على تصديق كذبه الذي لا يعد، وهو مبني على افتراء الكذب على الله ودعوى معرفة الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وسيأتي بيانه في باب الكهان. 4 البخاري: تفسير القرآن (4701) , والترمذي: تفسير القرآن (3223) , وابن ماجه: المقدمة (194) . 5 مسلم: السلام (2229) , والترمذي: تفسير القرآن (3224) , وأحمد (1/218) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 المصنف، وكالذي في صحيح البخاري سواء. قال المصنف "وفيه قبول النفوس للباطل; كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة؟ ". وفيه: أن الشيء إذا كان فيه شيء من الحق فلا يدل على أنه حق كله، فكثيرا ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل ليكون أقبل لباطلهم، قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها: إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء بكلام يسمعه الملائكة، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفا وخلفا. خلافا للأشاعرة والجهمية; ونفاة المعتزلة. فإياك أن تلتفت إلى ما زخرفه أهل التعطيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قوله: "وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة- أو قال رعدة- شديدة رجفة- أو قال: رعدة- شديدة خوفا من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعقوا وخرُّوا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل " 23".   1 سورة البقرة آية: 42. 2 ضعيف: ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/ 537) ، ورواه أيضا ابن خزيمة في التوحيد (ص 144) , وابن أبي عاصم في السنة (515) . وضعفه الألباني في تخريجه للسنة (1/ 227) . 3 في قرة العيون: قوله "أن يوحي بالأمر" فيه بيان معنى ما تقدم في الحديث قبله من قوله: "إذا قضى الله الأمر". قوله: "تكلم بالوحي" فيه التصريح بأنه يتكلم بالوحي فيوحيه إلى جبريل - عليه السلام -، ففيه الرد على الأشاعرة في قولهم أن القرآن عبارة عن كلام الله. قوله: "أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله - عز وجل -, في هذه معرفة عظمة الله، ويوجب للعبد شدة الخوف منه تعالى، وفيه إثبات العلو. قوله: (فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا) هيبة وتعظيما لربهم وخشية لما سمعوا من كلامه تعالى وتقدس. قوله: "فيكون أول من يرفع رأسه جبريل"؛ لأنه ملك الوحي عليه السلام. قوله: "فيكلمه الله من وحيه بما أراد" فيه التصريح بأنه تعالى يوحي إلى جبريل بما أراده من أمره كما تقدم في أول الحديث. قوله: "ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها". وهذا ايضا من أدلة علو الرب تعالى وتقدس. قوله: "ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: (قال الحق وهو العلي الكبير) . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل; فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل" وهذا دليل بأنه تعالى قال ويقول, وأهل البدع من الجهمية ومن تلقى عنهم كالأشاعرة جحدوا ما أثبته الله تعالى في كتابه وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من علوه وكلامه وغير ذلك من صفات كماله التي أثبتها له رسوله، والمؤمنون من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل السنة والجماعة على ما يليق بجلال الله وعظمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم بسنده كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره. النواس بن سمعان: بكسر السين، بن خالد الكلابي، ويقال: الأنصاري صحابي. ويقال: إن أباه صحابي أيضا. قوله: "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر" إلى آخره. فيه النص على أن الله تعالى يتكلم بالوحي، وهذا من حجة أهل السنة على النفاة: لم يزل الله متكلما إذا شاء. قوله: "أخذت السماوات منه رجفة" السماوات مفعول مقدم، والفاعل "رجفة" أي أصاب السماوات من كلامه تعالى رجفة، أي ارتجفت. وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة. قال: " إذا قضى الله أمرا تكلم - تبارك وتعالى - رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجدا خوفا من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعقوا وخروا سجدا، قوله: "أو قال: رعدة شديدة" شك من الراوي. هل قال النبي صلي الله عليه وسلم رجفة، أو قال رعدة. والراء مفتوحة فيهما. قوله: "خوفا من الله عز وجل" وهذا ظاهر في أن السماوات تخاف الله، بما يجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 تعالى فيها من الإحساس ومعرفة من خلقها. وقد أخبر تعالى أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 1. وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} 2. وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 3 وقد قرر العلامة ابن القيم - رحمه الله - أن هذه المخلوقات تسبح لله وتخشاه حقيقة، مستدلا بهذه الآيات وما في معناها. وفي البخاري عن ابن مسعود قال: " كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل "4 وفي حديث أبي ذر: " أن النبي صلي الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسُمع لهن تسبيح "5 - الحديث وفي الصحيح: قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلي الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر6. ومثل هذا كثير. قوله: "صُعقوا وخروا لله سجدا" الصعوق هو الغشي، ومعه السجود. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، قوله: "فيكون أول من يرفع رأسه جبريل" بنصب "أول" خبر يكون مقدم على اسمها، ويجوز العكس. ومعنى جبريل: عبد الله; كما روى ابن جبير وغيره عن علي بن الحسين قال: كان اسم جبريل: عبد الله، واسم ميكائيل عُبيد الله; وإسرافيل عبد الرحمن. وكل شيء رجع إلى "ايل" فهو مُعبّد لله عز وجل. وفيه فضيلة جبريل - عليه السلام -. كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} 7. قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم. وقال أبو صالح في الآية8: "جبريل يدخل في سبعين حجابا من نور بغير إذن".   1 سورة الإسراء آية: 44. 2 سورة مريم آية: 90. 3 سورة البقرة آية: 74. 4 جزء من حديث طويل رواه البخاري (3579) : كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام. 5 ضعيف: قال الهيثمي في المجمع (8/ 299) : رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات وفي بعضهم ضعف.. وأشار إلى طريق آخر له عند الطبراني في الأوسط، وضعفه الحافظ في الفتح (6/ 592) . 6 البخاري (3583) , (3584) كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام. من حديث ابن عمر وجابر رضي الله عنهما. 7 سورة التكوير آية: 19-21. 8 أي في قوله: (ذي قوة عند ذي العرش مكين) كما ساق ذلك الحافظ ابن كثير، وقد نقلها الشارح رحمه الله مختصرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ولأحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: " رأى رسول الله صلي الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح; كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم "1. فإذا كان هذا عظم هذه المخلوقات فخالقها أعظم وأجلّ وأكبر. فكيف يسوّى به غيره في العبادة: دعاء وخوفا ورجاء وتوكلا وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره؟ فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى، وقد قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2. فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل. فيه مسائل: الأولى: تفسير الآية. الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصا ما تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب. الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 3. الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك. الخامسة: أن جبرائيل يجيبهم بعد ذلك بقوله: "قال كذا وكذا". السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبرائيل. السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم، لأنهم يسألونه. الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم. التاسعة: ارتجاف السماوات بكلام الله. العاشرة: أن جبرائيل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله. الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين. قوله: "ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض"   1 صحيح: أحمد (1/ 395 , 398 , 407 , 412 , 460) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (3458) وأول الحديث حتى قوله "ستمائة جناح". عند البخاري (3232) في بدء الخلق: باب إذا قال أحدكم آمين.. ومسلم (174) (280) كتاب الإيمان: باب في ذكر سدرة المنتهى. 2 سورة الأنبياء آية: 26-29. 3 سورة سبأ آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وهذا تمام الحديث. والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن الملك العظيم الذي تُصعق الأملاك من كلامه خوفا منه ومهابة، وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته، وعلمه وقدرته وملكه وعزه، وغناه عن جميع خلقه. وافتقارهم جميعا إليه، ونفوذ تصرفه وقدره فيهم لعلمه وحكمته، لا يجوز شرعا ولا عقلا أن يجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم، فكيف يجعل المربوب ربا، والعبد معبودا؟ أين ذهبت عقول المشركين؟ سبحان الله عما يشركون. وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 1 من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله. انتهى من شرح سنن ابن ماجه.   1 سورة مريم آية: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا. الثالثة عشرة: إرسال الشهاب. الرابعة عشره: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أُذن وليه من الإنس قبل أن يدركه. الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدُق بعض الأحيان. السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة. السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء. الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟ التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة، ويحفظونها ويستدلون بها. العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة. الحادية والعشرون: أن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله عز وجل. الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 باب الشفاعة 1 وقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 2. وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 3.   قوله: "باب الشفاعة" أي بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه، وحقيقة ما دل القرآن على إثباته.   1 في قرة العيون: الشفاعة نوعان. شفاعة منفية في القرآن; وهي الشفاعة للكافر والمشرك. قال تعالى: (2: 254) (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) . وقال: (74: 48) (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) . وقال: (2: 48) (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) ونحو هذه الآيات كقوله: (10: 18) (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض) . يخبر تعالى أن من اتخذ هؤلاء شفعاء عند الله أنه لا يعلم أنهم يشفعون له بذلك، وما لا يعلمه لا وجود له، فنفى وقوع الشفاعة وأخبر أنها شرك بقوله: (سبحانه وتعالى عما يشركون) . وقال تعالى: (39: 3) (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) فأبطل شفاعة من اتخذ شفيعا بزعم أنه يقربه إلى الله، وهو يبعده عنه وعن رحمته ومغفرته؛ لأنه جعل الله شريكا يرغب إليه ويرجوه ويتوكل عليه ويحبه كما يحب الله تعالى أو أعظم. "النوع الثاني" الشفاعة التي أثبتها القرآن وهي خالصة لأهل الإخلاص; وقيدها تعالى بأمرين: الأول: إذنه للشافع أن يشفع كما قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) . وإذنه تعالى لا يصدر إلا إذا رحم عبده الموحد المذنب; فإذا رحمه الله تعالى أذن للشافع أن يشفع له. الأمر الثاني: رضاه عمن أذن لشافع أن يشفع فيه. كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) فالإذن بالشفاعة له بعد الرضاء; كما في هذه الآية, وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد. 2 سورة الأنعام آية: 51. 3 سورة الزمر آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 قوله: "وقول الله عز وجل {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} " المخافة والتحذير منها. قوله: "به" قال ابن عباس: "بالقرآن" {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} "وهم المؤمنون" وعن الفضيل بن عياض: "ليس كل خلقه عاتب، إنما عاتب الذين يعقلون; فقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} وهم المؤمنون أصحاب العقول الواعية". قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} قال الزجاج: موضع "ليس" نصب على الحال، كأنه قال: متخلين من كل ولي وشفيع. والعامل فيه "يخافون". قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة 1. وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 23. وقبلها {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} 4. وهذه كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5. فبين تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف وممتنع، وأن اتخاذهم شفعاء شرك; يتنزه الرب تعالى عنه. وقد قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 6. فبين تعالى أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتأليههم، أن ذلك منهم إفك وافتراء.   1 في قرة العيون: وتركوا التعلق على الشفعاء وغيرهم؛ لأنه ينافي الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد عملا بدونه. 2 سورة الزمر آية: 44. 3 في قرة العيون: دلت الآية على أن الشفاعة له سبحانه؛ لأنها لا تقع إلا لأهل التوحيد بإذنه سبحانه وتعالى، كما قال تعالى في الآية السابقة, وقال تعالى: (10: 3) (يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم) . فلا شفاعة إلا لمن هي له سبحانه, ولا تقع إلا ممن أذن له فيها. فتدبر هذه الآيات العظيمة في اتخاذ الشفعاء. 4 سورة الزمر آية: 43. 5 سورة يونس آية: 18. 6 سورة الأحقاف آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 1 أي هو مالكها، فليس لمن تُطلب منه شيء منها، وإنما تطلب ممن يملكها دون كل من سواه؛ لأن ذلك عبادة وتأليه لا يصلح إلا لله. قال البيضاوي: لعله رد لما عسى أن يجيبوا به، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون. وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2 تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه، لأنه مالك الملك، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها4 {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 5. قال ابن جرير: نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا6 هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى. قال الله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 7. قال: "وقوله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} " قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله. وفي هذه الآية بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 8، فبين أنها لا تقع لأحد إلا بشرطين: إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع; ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه، وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه، ولقي العبد به ربه مخلصا غير شاك في ذلك، كما دل على ذلك الحديث الصحيح. 9 وسيأتي ذلك مقررا أيضا في كلام شيخ الإسلام رحمه الله.   1 سورة الزمر آية: 44. 2 سورة البقرة آية: 107. 4 في قرة العيون: فليس لأحد في ملكه مثقال ذرة دونه سبحانه وبحمده, والإسلام هو أن تسلم قلبك وجوارحك لله بالإخلاص كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فبالذي بعثك بالحق له ما بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك، وأن توجه وجهك إلى الله; وأن تصلي الصلاة المكتوبة, وأن تؤدي الزكاة المفروضة) والآيات في بيان الإخلاص كثيرة, وهو أن لا يلتفت القلب ولا الوجه في جميع الأعمال كلها إلا لله وحده. كما قال تعالى: {فادعوا الله مخلصين له الدين} فأمر تعالى بإخلاص الدعاء له وحده، وأخبر أنه الدين الذي تصح معه الأعمال وتقبل. قال شيخ الإسلام: ((الإخلاص محبة الله وإرادة وجهه)) . 5 سورة الأنبياء آية: 28. 6 الأولى "ما نعبد أولياءنا" ولم أجد هذه الجملة كلها في تفسير ابن جرير. 7 سورة الزمر آية: 44. 8 سورة طه آية: 109. 9 وفي ذلك أحاديث كثيرة منها: حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له"، فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله: "لا شيء له". ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه" رواه النسائي في الجهاد (6/ 25) : باب من غزا يلتمس الأجر والذكر. وإسناده حسن كما قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (4/ 328) ، وحسنه الألباني في الصحيحة (52) . وراجع أول كتاب الترغيب والترهيب للمنذري فهناك أحاديث كثيرة جدا بهذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 1. وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 2. وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ". قال ابن كثير - رحمه الله -: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} . كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 3. {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 4. فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين 5، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله; وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله; وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟ قال: "وقوله تعالى" {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} . قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الكلام على هذه الآيات: "وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها. فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان   1 سورة النجم آية: 26. 2 سورة سبأ آية: 22-23. 3 سورة البقرة آية: 255. 4 سورة سبأ آية: 23. 5 في قرة العيون: فإذا كان هذا في حق الملائكة الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (21: 26 – 29) (بل عباد مكرمون) الآيات. فظهر من هذه الآيات المحكمات ما يبين حقيقة الشفاعة المثبتة في القرآن التي هي ملك الله لا يملكها غيره. وقيد حصولها بقيدين كما في هذه الآية وغيرها كما تقدم قريبا: إذنه للشافع أن يشفع كما قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) . والثاني: رضاه عمن أراد رحمته ممن أذنب من الموحدين. فاختصت الشفاعة بأهل الإخلاص خاصة، وأن اتخاذ الشفعاء بلا إذن من دين المشركين قد أنكره الله عليهم فيما تقدم من الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا; متنقلا من الأعلى إلى الأدنى; فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونها في نوع وقوم قد خَلوا من قبل ولم يُعقبوا وارثا، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعمر الله; إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك. ثم قال: ومن أنواعه- أي الشرك- طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم. فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله. وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده؛ فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص; إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم‍! وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جَرّد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده، فجرد حبه لله وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، واستغاثته بالله، وقصده لله، متبعا لأمره متطلبا لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله. فهو لله وبالله ومع الله. انتهى كلامه رحمه الله تعالى". وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى الآية هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 1.   1 سورة النساء آية: 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قال أبو العباس: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره مِلْك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة. فبيّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 1، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم أنه "يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا. ثم يقال له " ارفع رأسك وقُلْ يُسَمعْ وسَلْ تُعْطَ، واشفع تشفع " 2. قوله: "قال أبو العباس" هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني إمام المسلمين رحمه الله. "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه; أو يكون عونا لله. فلم يبق إلا الشفاعة. فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب; كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 3. فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم: " أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا. ثم يقال له: ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع " وقال له أبو هريرة: " من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 4 فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقتها: أن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص " انتهى". وقال أبو هريرة: " من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 5 فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع. وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص". اهـ كلامه. قوله: "وقال أبو هريرة" إلى آخره. هذا الحديث رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة، ورواه أحمد وصححه ابن حبان وفيه: " وشفاعتي لمن قال لا إله إلا الله مخلصا، يصدق قلبه   1 سورة الأنبياء آية: 28. 2جزء من حديث الشفاعة الطويل. رواه البخاري: كتاب الأنبياء (3340) : باب قول الله عز وجل: (ولقدأرسلنا نوحا إلى قومه) وفي التفسير (4712) : باب قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا) ومسلم: كتاب الإيمان (194) (327) باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وراجع نظم المتناثر ص 149. وكتاب الشفاعة للشيخ مقبل بن هادي الوادعي. 3 سورة الأنبياء آية: 28. 4 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . 5 البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لسانه; ولسانه قلبه " 1 وشاهده في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا " 2. وقد ساق المصنف - رحمه الله - كلام شيخ الإسلام هنا، فقام مقام الشرح والتفسير لما في هذا الباب من الآيات، وهو كاف واف بتحقيق مع الإيجاز. والله أعلم. وقد عرّف الإخلاص بتعريف حسن فقال: "الإخلاص محبة الله وحده وإرادة وجهه". اهـ. وقال ابن القيم - رحمه الله - في معنى حديث أبي هريرة: "تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تُنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم، فقلب النبي صلي الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع. ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم، ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه في الشفاعة،   1 البخاري: كتاب العلم (99) : باب الحرص على الحديث, والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (9/ 483) وأحمد (2/ 307 , 518) . وابن حبان (2594) . 2 مسلم: كتاب الإيمان (199) (338) : باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال في الفصل الأول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 1. وفي الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} 2 وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله صلي الله عليه وسلم. فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب مَن عقلها ووعاها". اهـ. وذكر أيضا - رحمه الله تعالى - أن الشفاعة ستة أنواع: "الأول" الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم - عليهم الصلاة والسلام - حتى تنتهي إليه صلي الله عليه وسلم فيقول: " أنا لها"، وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف. وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد 3. "الثاني" شفاعته لأهل الجنة في دخولها. وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه. "الثالث" شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم; فيشفع لهم أن لا يدخلوها. "الرابع" شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم. والأحاديث بها متواترة عن النبي صلي الله عليه وسلم. وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة، وبدّعوا من أنكرها، وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال. "الخامس" شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم، وهذه مما لم ينازع فيها أحد. وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله وليا ولا شفيعا، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 4. فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيات. الثانية: صفة الشفاعة المنفية. الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة. الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود. الخامسة: صفة ما يفعله صلي الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد فإذا أُذن له شَفَع. السادسة: من أسعد الناس بها. السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله. الثامنة: بيان حقيقتها. "السادس" شفاعته في بعض أهله الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه، وهذه خاصة بأبي طالب وحده   1 سورة البقرة آية: 255. 2 سورة الأنبياء آية: 28. 3 جزء من حديث أنس الطويل في الشفاعة العظمى. رواه البخاري: كتاب التوحيد (7510) : باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. ومسلم (193) (326) كتاب الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها. 4 سورة الأنعام آية: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 باب: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1. وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: " لما حضرت أبا طالب الوفاة   قوله: باب "قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ". سبب نزول هذه الآية موت أبي طالب على ملة عبد المطلب، كما سيأتي بيان ذلك في حديث الباب. وإنك لتهدي قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: يقول تعالى لرسوله: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت، أي ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء. وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2. وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 3. قلت: والمنفي هنا هداية التوفيق والقبول فإن أمر ذلك إلى الله، وهو القادر عليه. وأما الهداية المذكورة في قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4 فإنها هداية الدلالة والبيان، فهو المبيِّن عن الله، والدالُّ على دينه وشرعه. وقوله: "في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلي الله عليه وسلم وعنده عبد الله ابن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلي الله عليه وسلم فأعادا. فكان آخرَ ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك. فأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 5. وأنزل الله في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .   1 سورة القصص آية: 56. 2 سورة البقرة آية: 272. 3 سورة يوسف آية: 103. 4 سورة الشورى آية: 52. 5 سورة التوبة آية: 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 جاءه رسول الله صلي الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أمية وأبو جهل. فقال له: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟   قوله: "في الصحيح" أي في الصحيحين. 1 وابن المسيب: هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين. اتفق أهل الحديث على أن مراسيله أصح المراسيل. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه. مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين. وأبوه المسيب صحابي، بقي إلى خلافة عثمان رضي الله عنه وكذلك جده حَزْن، صحابي استشهد باليمامة. قوله: "لما حضر أبا طالب الوفاة" أي علاماتها ومقدماتها. قوله: "جاء رسول الله صلي الله عليه وسلم" يحتمل أن يكون المسيب حضر مع الاثنين. فإنهما من بني مخزوم، وهو أيضا مخزومي، وكان الثلاثة إذ ذاك كفارا، فقتل أبو جهل على كفره وأسلم الآخران. قوله: "يا عم" منادى مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها; حذفت الياء هنا، وبقيت الكسرة دليلا عليها. قوله: "قل لا إله إلا الله" أمره أن يقولها لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده، فإن من قالها عن علم ويقين فقد برئ من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام؛ لأنهم يعلمون ما دلت عليه، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلا مسلم أو كافر. فلا يقولها إلا من ترك الشرك وبرئ منه. ولما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون، والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم وهم يعرفون معناها، لكن لا يعتقدونها، لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن; وفيها اليهود؛ وقد أقرهم رسول الله صلي الله عليه وسلم لما هاجر، ووادعهم بأن لا يخونوه ولا يظاهروا عليه عدوا كما هو مذكور في كتب الحديث والسير.   1 البخاري: كتاب التفسير (4772) : باب إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. ومسلم: كتاب الإيمان (24) (39) : باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 قوله: "كلمة" قال القرطبي: بالنصب على أنه بدل من "لا إله إلا الله"، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. قوله: "أحاج لك بها عند الله" هو بتشديد الجيم من المحاجة، والمراد بها بيان الحجة بها لو قالها في تلك الحال. وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها في تلك الحال معتقدا ما دلت عليه مطابقة من النفي والإثبات لنفعته. قوله: "فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " ذكراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين، كقول فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} 1. وكقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 2. قوله: "فأعاد عليه النبي صلي الله عليه وسلم فأعادا"3 فيه معرفتهما لمعنى "لا إله إلا الله"؛ لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها لبرئ من ملة عبد المطلب. فإن ملة عبد المطلب هي الشرك بالله في إلهيته. وأما الربوبية فقد أقروا بها كما تقدم. وقد قال عبد المطلب لأبرهة: "أنا رب الإبل، والبيت له رب يمنعه منك". وهذه المقالة منهما عند قول النبي صلي الله عليه وسلم لعمه قل "لا إله إلا الله" استكبارا عن العمل بمدلولها. كما قال الله تعالى عنهما وعن أمثالهما من أولئك المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 4 فرد عليهم بقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 5. فبين تعالى أن استكبارهم عن قول "لا إله إلا الله" لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله؛ فإن دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك دلالة تضمن، ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة. ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلي الله عليه وسلم " لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك". فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 6. وأنزل الله ذلك إليه، وهو القادر عليه دون من سواه، فلو كان عند النبي صلي الله عليه وسلم - الذي هو أفضل خلقه - من هداية القلوب وتفريج الكروب; ومغفرة الذنوب، والنجاة من العذاب،   1 سورة طه آية: 51. 2 سورة الزخرف آية: 23. 3 في قرة العيون: فيه مضرة أصحاب السوء والحذر من قربهم والاستماع لهم. ففيه معنى قول الناظم: إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى. 4 سورة الصافات آية: 35-36. 5 سورة الصافات آية: 37. 6 سورة التوبة آية: 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ونحو ذلك شيء; لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه، فسبحان من بهرت حكمته العقول! وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده، وإخلاص العمل له وتجريده. قوله: "فكان آخر ما قال" الأحسن فيه الرفع على أنه اسم "كان" وجملة "هو" وما بعدها الخبر. قوله: "هو على ملة عبد المطلب" الظاهر أن أبا طالب قال: "أنا" فغيره الراوي استقباحا للفظ المذكور، وهو من التصرفات الحسنة; قاله الحافظ. قوله: "وأبى أن يقول لا إله إلا الله" قال الحافظ: "هذا تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب". قال المصنف - رحمه الله - "وفيه الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه، ومضرة أصحاب السوء على الإنسان، ومضرة تعظيم الأسلاف". أي إذا زاد على المشروع بحيث تجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع. قوله: "فقال النبي صلي الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك" قال النووي: وفيه جواز الحلف من غير استحلاف. وكان الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار تطييبا لنفس أبي طالب. وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل. قال ابن فارس: مات أبو طالب ولرسول الله صلي الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما. وتوفيت خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها - بعد موت أبي طالب بثمانية أيام. قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} نزلت في أبي طالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وأنزل الله في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ 1} 2 "3. فيه مسائل: الأولى: تفسير {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 4. الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 5 الآية، أي ما ينبغي لهم ذلك. وهو خبر بمعنى النهي، والظاهر أن هذه الآية نزلت في أبي طالب. فإن الآيتين بالفاء المفيدة للترتيب في قوله: "فأنزل الله" بعد قوله: " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " يفيد ذلك. وقد ذكر العلماء لنزول هذه الآية أسبابا أخر، فلا منافاة؛ لأن أسباب النزول قد تتعدد.   1 الهداية تطلق على خلق الهدى في القلب وتحويله من الضلال والكفر والفسوق إلى الهدى والإيمان والطاعة، وتسديده على صراط الله المستقيم وتثبيته عليه، وهذه مختصة بالله تعالى؛ لأنه هو الذي يقلب القلوب ويصرفها، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء. ومن يهد الله فما له من مضل، ومن يضلل فما له من هاد. وهي المنفية في الآية عن النبي – صلى الله عليه وسلم –وعن غيره من باب أولى. فمن ادعاها من مشايخ الطرق الصوفية ونحوهم، وزعم أنه يدخل قلوب مريديه وتلاميذه ويعلم ما فيها ويصرفها على ما يريد، فهو كاذب ضال مضل. ومن صدق ذلك فهو ضال مكذب لله ولرسوله. وتطلق على العلم والدلالة والإرشاد بالقرائن ونحوه على طريق النجاة والسعادة، وهذه يقدر عليها المخلوق وهي المثبتة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) . وقد أوجب الله على أهل العلم أن يقوموا بها فيرشدوا الناس ويهدوهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى صراط الله المستقيم. وأكثر الناس لا يميز الفرق بين الهدايتين. فبعضهم يعتدي على الحدود وبعضهم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، محتجا بالآية (إنك لا تهدي من أحببت..) إلخ. وهذا وذاك جهل وضلال. 2 سورة القصص آية: 56. 3 البخاري: الجنائز (1360) , ومسلم: الإيمان (24) , والنسائي: الجنائز (2035) , وأحمد (5/433) . 4 سورة القصص آية: 56. 5 سورة التوبة آية: 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 قال الحافظ: "أما نزول الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب. وأما نزول الآية التي قبلها ففيه نظر، ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وحق غيره، ويوضح ذلك ما يأتي في التفسير، 1 الثالثة: هي المسألة الكبيرة، تفسير قوله: " قل: لا إله إلا الله" بخلاف ما عليه من يدعي العلم 2. الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلي الله عليه وسلم إذ قال للرجل: " قل: لا إله إلا الله" فقبح الله مَن أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام. الخامسة: جده صلي الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه. السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه. السابعة: كونه صلي الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك. الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان. التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر. العاشرة: استدلال الجاهلية بذلك. فأنزل الله بعد ذلك {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} 3 الآية. ونزل في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 4 كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام. ويضعف ما ذكره السهيلي أنه روي في بعض كتب المسعودي أنه أسلم؛ لأن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح". انتهى. وفيه تحريم الاستغفار للمشركين وموالاتهم ومحبتهم; لأنه إذا حرم الاستغفار لهم فموالاتهم ومحبتهم أولى.   1 ساق البخاري قصة موت أبي طالب في كتاب الجنائز في الباب الحادي والثمانين. ولم يتكلم عليه الحافظ في الفتح, بل حوله إلى التفسير. وساقه في تفسير سورة براءة فحول الحافظ تفصيل القول فيه إلى سورة القصص. 2 كثير من أدعياء العلم يجهلون "لا إله إلا الله" فيحكمون على كل من تلفظ بها بالإسلام ولو كان مجاهرا بالكفر الصراح, كعبادة القبور والموتى والأوثان, واستحلال المحرمات المعلوم تحريمها من الدين ضرورة، والحكم بغير ما أنزل الله واتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله, ولو كانت لهؤلاء الجهلة قلوب يفقهون بها لعلموا أن معنى "لا إله إلا الله" البراءة من عبادة غير الله; وإعطاء العهد والميثاق بالقيام بأداء حق الله في العبادة, يدل على ذلك قول الله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) . وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم للخوارج بكثرة الصلاة والصيام وقراءة القرآن المشحون بلا إله إلا الله. ومع ذلك فقد حكم عليهم بالكفر وبأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وقال: "لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد" كما في الصحيحين. ولو كان مجرد التلفظ بلا إله إلا الله كافيا، ما وقعت الحرب والعداء بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين الذين كانوا يفهمون (لا إله إلا الله) أكثر مما يفهمها أدعياء العلم في هذا الزمن. ولكن طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون. 3 سورة التوبة آية: 113. 4 سورة القصص آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها لنفعته. الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها. مع مبالغته صلي الله عليه وسلم وتكريره؛ فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين" وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} 1.   قوله: "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين". قوله: "تركهم" بالجر عطفا على المضاف إليه. وأراد المصنف - رحمه الله تعالى - بيان ما يئول إليه الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية الذي هو أعظم ذنب عُصي الله به، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله إلا الله. قوله: "وقول الله عز وجل": {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} 2 الغلو: هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد، أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله. والخطاب - وإن كان لأهل الكتاب - فإنه عام يتناول جميع الأمة، تحذيرا لهم أن يفعلوا بنبيهم صلي الله عليه وسلم فعل النصارى في عيسى، واليهود في العزير3 كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ   1 سورة النساء آية: 171. 2 سورة النساء آية: 171. 3 في قرة العيون: وقد وقع ذلك الشرك في العبادة في هذه الأمة نظما ونثرا كما في كلام البوصيري والبرعي وغيرهما، وفيما فعلوه من الغلو والشرك محادة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم; فأين ما وقع فيه هؤلاء الجهلة من قول من قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا) ، فكره ذلك صلى الله عليه وسلم أشد الكراهة؟ كما سيأتي في الكلام على هذا الحديث - إن شاء الله تعالى -, وقول القائل: "ما شاء الله وشئت"، فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1 ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " 2 ويأتي. فكل من دعا نبيا أو وليا من دون الله فقد اتخذه إلها، وضاهأ النصارى في شركهم، وضاهأ اليهود في تفريطهم. فإن النصارى غلوا في عيسى - عليه السلام -، واليهود عادوه وسبوه وتنقصوه. فالنصارى أفرطوا، واليهود فرطوا. وقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 3. ففي هذه الآية وأمثالها الرد على اليهود والنصارى. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم. قال: وعلي رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدّت لهم عند باب كِندة4 فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم. لكن ابن عباس مذهبه أن يُقتلوا بالسيف من غير تحريق. وهو قول أكثر العلماء. قوله: "في الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 5 فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا; ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت". قوله: "وفي الصحيح" أي صحيح البخاري.   1 سورة الحديد آية: 16. 2 البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3445) : باب قول الله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها.) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 3 سورة المائدة آية: 75. 4 باب من أبواب الكوفة. الغلاة المحرقون: هم عبد الله بن سبأ اليهودي وأتباعه. قالوا: إن عليا إلههم, فنهاهم فلم ينتهوا فحرقهم. وإنما أراد ابن سبأ بذلك إحداث فتنة, وخلق شيع; وفتح ثغرة في صفوف المسلمين. وقد حدث ما أراد هذا اليهودي الملعون. ووجد في الناس كثير ممن أطاعه وأله عليا وأبناءه وكفر بالله ورسوله وعادى عليا والمؤمنين. ولا حول ولا قوة إلا بالله. 5 سورة نوح آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وهذا الأثر اختصره المصنف. ولفظ ما في البخاري: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد. أما "ودّ" فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما "سواع" فكانت لهذيل. وأما "يغوث" فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ. وأما "يعوق" فكانت لهمدان. وأما "نسر" فكات لحمير لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين في قوم نوح - إلى آخره". وروى عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس "أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم. فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة; فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر. فعبدوهم". قوله: "أن انصبوا" هو بكسر الصاد المهملة. قوله: "أنصابا" جمع نُصب، والمراد به هنا الأصنام المصورة على صور أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم، وسموها بأسمائهم. وفي سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن الأصنام تسمى أوثانا. فاسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله، سواء كان ذلك المعبود قبرا أو مشهدا أو صورة أو غير ذلك 1.   1 في قرة العيون: فصارت هذه الأصنام بهذا التصوير على صور الصالحين سلما إلى عبادتها. وكل ما عبد من دون الله, من قبر أو مشهد, أو صنم, أو طاغوت، فالأصل في عبادته هو الغلو. كما لا يخفى على ذوي البصائر. كما جرى لأهل مصر وغيرهم؛ فإن أعظم آلهتهم أحمد البدوي، وهو لا يعرف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة. ومع هذا فصار أعظم آلهتهم مع أنه لا يعرف إلا أنه دخل المسجد يوم الجمعة فبال فيه ثم خرج ولم يصل. ذكره السخاوي عن أبي حيان. فزين لهم الشيطان عبادته فاعتقدوا أنه يتصرف في الكون، ويطفئ الحريق وينجي الغريق, وصرفوا له الإلهية والربوبية وعلم الغيب, وكانوا يعتقدون أنه يسمعهم ويستجيب لهم من الديار البعيدة. وفيهم من يسجد على عتبة حضرته. وكان أهل العراق ومن حولهم كأهل عمان يعتقدون في عبد القادر الجيلاني; كما يعتقد أهل مصر في البدوي. وعبد القادر من متأخري الحنابلة وله كتاب الغنية, وغيره ممن قبله وبعده من الحنابلة أفضل منه في العلم والزهد, لكن فيه زهد وعبادة, وفتنوا به أعظم فتنة. كما جرى من الرافضة مع أهل البيت. وسبب ذلك الغلو دعوى أن له كرامات، وقد جرت الكرامات لمن هو خير منه وأفضل كبعض الصحابة والتابعين, وهكذا حال أهل الشرك مع من فتنوا به. وأعظم من هذا عبادة أهل الشام لابن عربي، وهو إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر أهل الأرض وأكثر من يعتقد فيه هؤلاء لا فضل له ولا دين كأناس بمصر وغيره, وجرى في نجد قبل هذه الدعوة مثل هذا. وفي الحجاز واليمن وغيرها من عبادة الطواغيت والأشجار والأحجار والقبور ما عمت به البلوى, كعبادتهم للجن وطلبهم للشفاعة منهم. والأصل في ذلك الغلو تزيين الشيطان. وذكر أهل السير أن التلبية من عهد إبراهيم - عليه السلام -: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك"، حتى كان عمرو بن لحي الخزاعي فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه فقال: "لبيك لا شريك لك"، فقال الشيخ: "إلا شريكا هو لك". فأنكر ذلك عمرو وقال ما هذا؟ فقال الشيخ: "تملكه وما ملك". فإنه لا بأس بهذا. فقالها عمرو. فدانت بها العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وسموها بأسمائهم. ففعلوا لم تُعْبد. حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت "1 قوله: "حتى إذا هلك أولئك" أي الذين صوروا تلك الأصنام. قوله: "ونُسي العلم". ورواية البخاري: "وينسخ" وللكشميهني: "ونسخ العلم" أي درست آثاره بذهاب العلماء، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظنا منهم أنه ينفعهم عند الله. قوله: "عبدت" لما قال لهم إبليس: إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها، فصار هو معبودهم في الحقيقة. كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌوَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} 2. وهذا يفيد الحذر وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف " لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم". من الغلو ووسائل الشرك، وإن كان القصد بها حسنا. فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم، كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة: أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم؛ ليوقعهم فيما هو أعظم من   1 البخاري: تفسير القرآن (4920) . 2 سورة يس آية: 60-61-62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ذلك من عبادتهم لهم من دون1 الله. وفي رواية: "أنهم قالوا: ما عظّم أوّلنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله" أي يرجون شفاعة أولئك الصالحين الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم وسموها بأسمائهم. ومن هنا يعلم أن اتخاذ الشفعاء ورجاء شفائهم بطلبها منهم: شرك بالله، كما تقدم بيانه في الآيات المحكمات. قوله: "وقال ابن القيم - رحمه الله -: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم". قوله: "وقال ابن القيم رحمه الله" هو الإمام العلامة محمد ابن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية. قال الحافظ السخاوي: العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المجمع عليه بين الموافق والمخالف; صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة. مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. قوله: "وقال غير واحد من السلف" هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير إلا أنه   1 وما جر إلى هذا الغلو الذي أدى إلى عبادتهم من دون الله إلا تعظيم قبورهم، وبناء القباب عليها, وسترها بالأستار, وإيقاد السرج, وقيام السدنة وشياطين الإنس عندها لدعوة الناس إلى عبادتها بأنواع النذور فيعود عليهم من تلك الأموال. وإلا فكم من عباد صالحين من الصحابة وأفاضل العلماء الذين كان لهم قدم صدق في الإسلام مدفونون في مقابر مصر والشام وغيرهما; هم أفضل آلاف المرات من أمثال البدوي والدسوقي; بل نعالهم أشرف وأكرم من هذا البدوي وأضرابه لا يعرفهم أولئك المشركون؛ لأنهم لم ينصب على قبورهم تلك الأنصاب ولم تتخذ عليها تلك الأوثان. ولذلك كان الذي يزعم أنه يزور للموعظة وتذكر الدار الآخرة, تلك القبور التي نصبت عليها هذه الأنصاب والمقاصير من أجهل الناس وأبعدهم عن هدى الإسلام الذي لا يعرف تلك القباب، وإنما يعرف القبور التي لا يبنى عليها ولا يكتب عليها ولا تستر بالأستار الحرير وغيرها؛ فإنه من أمحل المحال الاتعاظ بهذه الأوثان والأنصاب, ومن أعظم الجهل أن تسمى هذه قبورا تسن زيارتها كما تسن زيارة القبور التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها. فنسألك اللهم أن تعجل بهدم هذه الأوثان وتطهير الأرض منها كلها تحقيقا لما أمر به نبيك صلى الله عليه وسلم، وبعث علي بن أبي طالب به إلى اليمن صيانة للتوحيد من قذر الشرك الذي أعظم أسبابه هذه القبور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم. وذلك من وسائل الشرك بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة. فإذا عكفوا على القبور صار عكوفهم تعظيما ومحبة: عبادة لها. قوله: "ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" أي طال عليهم الزمان. وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثانا تعبد من دون الله، كما ترجم به المصنف - رحمه الله تعالى -. فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء. وهذا أول شرك حدث في الأرض. قال القرطبي: "وإنما صوّر أوائلهم الصور ليتأسوا بهم ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم. ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها" اهـ. قال ابن القيم - رحمه الله -: "وما زال الشيطان يوحي إلى عُبّاد القبور ويُلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها، والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته; وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبّل، ويحج إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، اتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلي الله عليه وسلم من تجديد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} 1. وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم   1 سورة الزمر آية: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 بالعظائم ونفّروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} 1" اهـ كلام ابن القيم رحمه الله. وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله 2. ومنها: رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات، ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة، من توحيد الصفات، وإثباتها على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه. ومنها: مضرة التقليد. ومنها: ضرورة الأمة إلى ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم علما وعملا بما يدل عليه الكتاب والسنة فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة. قوله: "وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد; فقولوا: عبد الله ورسوله " 4 أخرجاه. قوله: "عن عمر" هو ابن الخطاب بن نفيل- بنون وفاء مصغرا- العدوي أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق - رضي الله عنهم -. ولي الخلافة عشر سنين ونصفا، فامتلأت الدنيا عدلا، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر. واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه. قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" 5 الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب عليه. قاله أبو السعادات. وقال غيره: أي لا تمدحوني بالباطل، ولا تجاوزوا الحد في مدحي.   1 سورة الأنفال آية: 34. 2 كان الشارح - رحمه الله - قد ذكرها بنقص السادسة والحادية عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة فاكتفينا بنص المصنف - - رحمه الله - لعدم التكرار. 3 حيث إن النبي أخبر -وهو الصادق- أن بعض هذه الأمة يتبع سنن أهل الكتاب في اتباع الهوى والقول على الله بلا علم، وابتداع دين لم يشرعه الله. فقد وقع ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن كثيرا ممن ينتسب إلى الإسلام يطري النبي غاية الإطراء، فيعتقد فيه أنه يعلم الغيب وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وقد نفى الله عنه ذلك في القرآن فقال: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) . (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) . فكفروا به واعتقدوا ما أوحته إليهم الشياطين. وكثير منهم يعتقدون أنه يتصرف في الدنيا بعد موته ويزور من شاء في المشارق والمغارب. وقد بلغت الوقاحة بالدجال أحمد التيجاني أن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر مجلس مكائه وتصديته ومجالس كل من اتبعه في طريقه الضال, فصار هؤلاء الزائفون إذا جلسوا للغط واللغو الذي يسمونه صلاة الفاتح, ويزعمون بوقاحتهم وفجورهم أن المرة الواحدة منها أفضل من القرآن ستة آلاف مرة. وينشرون ثوبا أبيض في وسط حلقتهم ليجلس عليه النبي والخلفاء, وإنما زعم الدجال التيجاني هذا تمويها على أشباه الأنعام العامة ليتبعوه على دجله وباطله، ويريهم أنه أتى بما لم يسبق إليه. وصدق فإنه لم يسبق إلى هذه الوقاحة في الكفر فنعوذ بالله من عمى القلوب, وشرع ما لم يأذن به الله. بل تكاد السموات يتفطرن منه. وبعضهم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يزوره ويشرع له من الدين ما يخالف شرعه الذي أتمه الله وأكمله وارتضاه دينا قبل موته صلى الله عليه وسلم، ادعى ذلك الشعراني في كتاب العهود المحمدية. وزعم أن شيخه الخواص كان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين، وهذا كله كذب وبهتان. فكم وقع بين الصحابة مع الخلافات ما كان أولى أن يجيئهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليرجعهم فيها إلى الصواب الذي يطفئ الفتنة، لو أمكن ظهوره. ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. وبعضهم يعتقد أن السموات والأرض وما بينهما مملوءة بالنبي، ولو كشف عنا الحجاب لرأيناه عيانا; فإذا سمع أهل الغرور هذه الخرافة أفنوا أعمارهم في الخلوات يهمهمون ويزمزمون, وأنفقوا أموالهم كلها على الدجالين المشعوذين الذين أغووهم، كل ذلك طمعا في المحال أن يروا النبي عيانا مالئا السماء والأرض وما بينهما; وقد انجر بنا الكلام إلى ذكر شيء من باطلهم تحذيرا لمن لم يقع في حبائلهم وإنذارا لمن وقع، وهذا نزر يسير مما نعرفه عنهم، وهو مسطور في كتبهم وأساطيرهم المطبوعة المنشورة, وليعلم الناظر في هذا أني كنت على عقيدتهم الخبيثة سنين فأنقذني الله منها على يد بعض المصلحين، فاستيقظت من نوع البدعة الذميمة فلاحت لي أنوار شمس السنة, فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. 4 تقدم تخريجه برقم [160] ولم يروه مسلم. وهذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم وراجع تخريجه والكلام عليه في شرح عشرون حديثا للبخاري ص (169 , 170) . 5 في قرة العيون: كما قال تعالى: (4: 171) (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) . قوله: "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" أمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يتجاوزوا هذا القول. وقد أمر الله عباده بالصلاة والسلام عليه؛ لأن أشرف مقامات الأنبياء; العبودية الخاصة والرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قوله: "إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادّعوا فيه الإلهية. وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني بذلك كما وصفني ربي، فقولوا: عبد الله ورسوله، فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه، وعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم، ووقعوا في المحذور، وجرى منهم من الغلو والشرك شعرا ونثرا ما يطول عده; وصنفوا فيه مصنفات. وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - عن بعض أهل زمانه1 أنه جوّز الاستغاثة بالرسول صلي الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف في ذلك مصنفا رده شيخ الإسلام، وردّه موجود بحمد الله. ويقول: إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وذكر لهم أشياء من هذا النمط. نعوذ بالله من عمى البصيرة. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " 2. ولمسلم وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به" ... سواك عند حدوث الحادث العمم" وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات، وأعظم الاضطرار لغير الله، فناقضوا الرسول صلي الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي صلي الله عليه وسلم وتعظيمه، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقيصه، وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا في تعظيمه بها نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته، فلم يعبئوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له، وإنما يحصل تعظيم الرسول صلي الله عليه وسلم بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء   1 هو علي بن يعقوب بن جبريل البكري المتوفي يوم الاثنين سابع ربيع الآخر سنة 724 هـ والرد عليه اسمه تلخيص كتاب الاستغاثة طبع بالمطبعة السلفية سنة 1346 على نفقة جلالة إمام الموحدين ناصر السنة وقامع البدعة, الملك الصالح الموفق عبد العزيز آل سعود, أيده الله بنصره وأطال حياته المباركة في خدمة الإسلام، ووفق ولي عهده المعظم صاحب السمو الملكي الأمير الأجل سعود إلى مثل ما يقوم به والده العظيم من نشر راية الإسلام وإعلاء كلمته, بطبع الكتب النافعة, وإقامة حدود الله. 2 النسائي: مناسك الحج (3057) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 بهديه، واتباع سنته، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه ونُصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه. فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علما وعملا، وارتبكوا ما نهى عنه ورسوله. فالله المستعان. قوله: "وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ". هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه. وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس. وهذا لفظ رواية أحمد1 عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم غداة جَمْع: " هلم القُطْ لي. فلقطتُ له حصيات هن حصى الخذف. فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء فارموا. وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " 2 قال شيخ الإسلام: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار. ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به؛ فإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك. قوله: "ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا". قال الخطابي: " المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل فيه مسائل: الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب. الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين. الثالثة: أول شيء غُيِّر به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم. الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها. الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أُناس من أهل العلم شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره. السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.   1 ورواه أيضا الإمام أحمد وأبو داود, وإنما اقتصر المصنف على ما هو أرجح وأقوى. 2 صحيح أحمد (1/ 215 , 347) . ابن ماجة (3029) كتاب المناسك: باب قدر حصى الرمي ولم يروه الترمذي. وإنما هو عند النسائي أيضا (5/ 268) في المناسك: باب التقاط الحصى وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء (ص 106) : إسناده صحيح على شرط مسلم. ووافقه الألباني في الصحيحة (1283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم". ومن التنطع: الامتناع من المباح مطلقا، كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز، السابعة: جبلة الآدمي1 في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد. الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر. التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل. العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما تئول إليه. الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح. الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها. الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها. الرابعة عشرة: وهي أعجب، وأعجب قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، فاعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال. الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة. ومن لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب. قال الشيخ تقي الدين: " فهذا جاهل ضال". انتهى. وقال ابن القيم -رحمه الله-: قال الغزالي: " والمتنطعون في البحث والاستقصاء". وقال أبو السعادات: " هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم. مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا".   1 الجبلة بكسرتين فلام مشددة وكخشبة أيضا الخلقة والطبيعة; والمعنى أن الإنسان مجبول على نقصان الحق في قلبه وزيادة الباطل إلا من رحم الله، وأنزل في قلوبهم السكينة؛ فإن إيمانهم لا يزال يزيد ولا ينقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وقال النووي: " فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم". قوله: "قالها ثلاثا" أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات، مبالغة في التعليم والإبلاغ، فقد بلغ البلاغ المبين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك. السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " 1 فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين. الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين. التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نُسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده. العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47) , ومالك: الحدود (1558) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟ " في الصحيح " عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلي الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض   قوله: باب "ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟ ". أي الرجل الصالح؛ فإن عبادته هي الشرك الأكبر. وعبادة الله عنده وسيلة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 عبادته، ووسائل الشرك محرمة; لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر وهو أعظم الذنوب. قوله: "في الصحيح: "عن عائشة -رضي الله عنها- أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلي الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة 1 وما فيها من الصور. فقال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو العبد الصالح-، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله " 2. فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل". قوله: "في الصحيح" أي الصحيحين. قوله: "أن أم سلمة" هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية، تزوجها رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع. وقيل: الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو العبد الصالح-، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "3. ثلاث; وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة4 ماتت سنة اثنتين وستين. قوله: "ذكرت لرسول الله" وفي الصحيحين: " أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم". و"الكنسية" بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى. قوله: "أولئك" بكسر الكاف، خطاب للمرأة. قوله: "إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح" هذا- والله أعلم- شك من بعض رواة الحديث: هل قال النبي صلي الله عليه وسلم هذا أو هذا؟ ففيه التحري في الرواية. وجواز الرواية بالمعنى.   1 لأن دين الحبشة: النصرانية. وقد أسلم النجاشي وجماعة من أهلها لما هاجر إليها جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين: الهجرة الأولى. 2 البخاري: كتاب الصلاة (427) : باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (528 (16) باب النهي عن بناء المساجد على القبور. 3 إنما كانوا شرار الخلق؛ لأنهم ضلوا وأضلوا وسنوا لمن بعدهم الغلو في القبور وأهلها المفضي بالغالين إلى عبادتها، وكل من فعل فعلهم من هذه الأمة التي سبق عليها القول بأن بعضها يتبع سنن المشركين من أهل الكتاب فهو مثلهم, وفي مثل هؤلاء ورد الحديث الذي في الصحيح: "ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". وقال تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) الآية. 4 ثم عادت مع زوجها أبي سلمة إلى مكة, وهاجر أبو سلمة إلى المدينة, وحبسها بنو المغيرة بمكة سنة; ثم لحقت بزوجها في المدينة; وتوفي أبو سلمة رضي الله عنه سنة أربع من الهجرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 قوله: "وصوروا فيه تلك الصور" الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة. قوله: "أولئك شرار الخلق عند الله" وهذا يقتضي تحريم بناء المساجد على القبور، وقد لعن صلي الله عليه وسلم من فعل ذلك كما سيأتي. قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانا لعنهم النبي صلي الله عليه وسلم. قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أعمالهم فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل. الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم; ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. فحذر النبي صلي الله عليه وسلم عن مثل ذلك، سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك 1. قوله: "فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل" هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، ذكره المصنف -رحمه الله- تنبيها على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل؛ فإن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع صلي الله عليه وسلم   1 في قرة العيون: ولم يذكر غير بناء المساجد والتصوير؛ لكونه ذريعة إلى عبادة من بنوا عليه المسجد وصوروا صورته، فبذلك صاروا شرار الخلق. فانظر إلى ما وقع في هذه الأمة من ذرائع الشرك والوقوع فيه مما هو أعظم من هذا, كالبناء على القبور وتعظيمها وعبادتها ومع ذلك يعتقدونه دينا وهو الشرك الذي حرمه الله, وأرسل الرسل وأنزل الكتب بالنهي عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 عن اتخاذ المساجد على القبور؛ لأنها هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك؛ فإن الشرك بقبر الرجل الذي يُعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلي الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون; سدا للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادّة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله؛ فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول صلي الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه صلي الله عليه وسلم لعن من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبي صلي الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه. وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم; إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه" اهـ كلامه رحمه الله تعالى. قوله: "ولهما عنها- أي عن عائشة رضي الله عنها- قالت: " لما نُزل برسول الله صلي الله عليه وسلم طَفِق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال - وهو كذلك -: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا. ولولا ذلك أبرز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا "1 أخرجاه". قوله: "ولهما" أي البخاري ومسلم. وهو يغني عن قوله في آخره "أخرجاه". قوله: "لما نزل" هو بضم النون وكسر الزاي. أي نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام. قوله: "طفق" بكسر الفاء وفتحها، والكسر أفصح. وبه جاء القرآن، ومعناه جعل. قوله: "خميصة" بفتح المعجمة والصاد المهملة. كساء له أعلام. قوله: "فإذا اغتم بها كشفها" أي عن وجهه. قوله: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد 2 يبين أن من فعل مثل ذلك حل عليه من اللعنة ما حل على اليهود والنصارى. قوله: "يحذر ما صنعوا" الظاهر أن هذا من كلام عائشة -رضي الله عنها-؛ لأنها فهمت من قول النبي صلي الله عليه وسلم ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم؛ فإنه من الغلو في الأنبياء، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك. ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم فاعليه- تحذيرا لأمته   1 نزل: بضم النون وكسر الزاي أي نزل به علامات الوفاة، وخاف على أمته أن يتخذوا قبره مسجدا، ويغلوا فيه فيشركون بالله كما فعل الذين لعنهم فحذرهم من ذلك, جزاه الله خير الجزاء. 2 هذا هو الشاهد للترجمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهم على تحري الصلاة عندها، وإن كان المصلي إنما يصلي لله. فمن كان يصلي عند القبور ويتخذها مساجد فهو ملعون؛ لأنه ذريعة إلى عبادتها، فكيف إذا عبد المقبور فيها بأنواع العبادة، وسأله ما لا قدرة له عليه. وهذا هو الغاية التي يكون اتخاذ القبور مساجد ذريعة إليها. وليست اللعنة خاصة باليهود والنصارى لأشخاصهم أو أزمانهم أو أسمائهم, وإنما هي لأعمالهم, وكذلك من فعل فعلهم، فمن فعل ما هو أعظم من فعلهم أولى باللعن, وإنما أراد صلى الله عليه وسلم تحذير أمته أن يتعرضوا لما تعرض له اليهود والنصارى من اللعنة؛ ولذلك قالت عائشة "يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أن يفعلوه معه صلي الله عليه وسلم ومع الصالحين من أمته- قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله. قال القرطبي في معنى الحديث: " وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام". انتهى. إذ لا فرق بين عبادة القبر ومن فيه وعبادة الصنم، وتأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف بن يعقوب حيت قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 1 نكرة في سياق النفي تعم كل شرك. قوله: "ولولا ذلك" أي ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي صلي الله عليه وسلم مسجدا لأبرز قبره، وجعل مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع. قوله: "غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا" روي بفتح الخاء وضمها، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك صلي الله عليه وسلم وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه. وعلى ولمسلم: عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة، قلم يبرزوا قبره، خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلوا وتعظيما بما أبدى وأعاد من النهي والتحذير منه ولعن فاعله. قال القرطبي: " ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلي الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلي الله عليه وسلم ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يمكنوا أحدا من استقبال قبره". 2 انتهى   1 سورة يوسف آية: 38. 2 وكان هذا الوضع قد جعل القبر لاصقا بالجدار الذي فيه باب جبريل، ولكن قد أزيل هذا الوضع وأخلي حول القبر من جهاته الأربع, وأصبح كثير من المصلين يستقبلونه ممن يكون في الموضع الخاص بالأغوات, وفي المكان الخاص بالنساء, وأصبح عرضة لأن يطاف به. وقد رأيت كثيرا من العامة يطوفون به، ويحاولون التمسح به لولا منع الجند الذين خصصتهم الحكومة السعودية لذلك المنع، ومهما حرص الجند على أداء وظيفتهم، فلن يمكنهم ولا أي قوة أن تمنع هذا منعا باتا, اللهم إلا العلم الذي ينير قلوب الجمهور الإسلامي ويعرفهم حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها إنما تكون بإتباع دينه كما كان أصحابه -رضي الله عنهم- يفعلون, وهم أشد الناس حبا لله ولرسوله. وأن يعود الناس إلى الأمر الأول الذي كان عليه السلف الصالح في كل شئونهم, فعند ذلك لا حاجة لجند ولا قوة. والله يهدي الناس إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 قوله: "ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا; كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ". وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، قوله: "عن جندب بن عبد الله" أي ابن سفيان البجلي، وينسب إلى جده، صحابي مشهور، مات بعد الستين. قوله: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل" أي أمتنع عما لا يجوز لي أن أفعله. والخلة فوق المحبة. والخليل هو المحبوب غاية الحب، مشتق من الخلة - بفتح الخاء - وهي تخلل المودة في القلب، كما قال الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا هذا هو الصحيح في معناها. كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم رحمهم الله تعالى. قال القرطبي: " وإنما كان ذلك؛ لأن قلبه صلي الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خلة غيره". قوله: "فإن الله قد اتخذني خليلا" فيه بيان أن الخلة فوق المحبة.   1 وقد ذكر الشارح بعد هذا بعض ما ذكر المصنف من المسائل المستنبطة من حديث الباب حذفناها لعدم التكرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قال ابن القيم رحمه الله: " وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله فمن جهلهم، فإن المحبة عامة، والخلة خاصة وهي نهاية المحبة. وقد أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلا ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها، ولعمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل وغيرهم -رضي الله عنهم-. وأيضا فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين، وخلته خاصة بالخليلين". قوله: "ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" فيه بيان أن الصديق أفضل الصحابة. وفيه الرد على الرافضة وعلى الجهمية وهما شر أهل البدع، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد. قاله المصنف -رحمه الله-، وهو كما قال بلا ريب 1. وفيه إشارة إلى خلافة أبي بكر؛ لأن من كانت محبته لشخص أشد كان أولى به من غيره. وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب صلي الله عليه وسلم لما قيل يصلي بهم عمر2، وذلك في مرضه الذي توفي فيه صلي الله عليه وسلم. واسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلي الله عليه وسلم وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد   1 فإن أول من فعل ذلك العبيديون الذين زعموا كذبا أنهم فاطميون. شيدوا للحسين رضي الله عنه وبرأه الله منهم ومن شيعتهم ومحبيهم- قبرا بالقاهرة، ورفعوا عليه قبة عظيمة وبنوا له المسجد المشهور الذي بالقاهرة, يقام فيه من الأعمال الشركية ما يغضب الله ورسوله وآل بيته وكل من في قلبه حب الله ورسوله والإيمان الصحيح. وقد صنف كثير من العلماء السالفين في بيان كذب أولئك العبيديين وبيان نحلتهم الكافرة الفاجرة، وأنهم كانوا يظهرون الرفض ويبطنون الكفر. وممن كتب في ذلك الإمام أبو بكر الباقلاني في كتاب نفيس سماه كشف الأسرار وهتك الأستار; والإمام ابن الجوزي وغيرهم. انظر في ذلك البداية والنهاية للعماد ابن كثير في حوادث سنة 402 (ج 11 ص 249) . 2 الذي قال ذلك وعرضه: عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح البخاري: قالت: "إن أبا بكر رجل أسيف, لا يملك نفسه إذا صلى. فمر عمر يصلي بالناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكن صواحب يوسف, مروا أبا بكر فليصل بالناس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 بقوله من أهل العلم. مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه. قوله: "ألا" حرف استفتاح "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد - الحديث" قال الخلخالي: وإنكار النبي صلي الله عليه وسلم صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما. الثاني: أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة، نظرا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء. والأول: هو الشرك الجلي. والثاني: الخفي. فلذلك استحقوا اللعن. قوله: "فقد نهى عنه في آخر حياته" أي كما في حديث جندب. وهذا من كلام شيخ الإسلام. وكذا ما بعده. ثم إنه لعن وهو في السياق مَن فعله. والصلاة عندها من ذلك وإن لم يُبن مسجد. قوله: "ثم إنه لعن، وهو في السياق1 مَن فعله" كما في حديث عائشة. قلت: فكيف يسوغ بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها، ويصلى عندها وإليها؟ هذا أعظم مشاقة ومحادّة لله تعالى ولرسوله لو كانوا يعقلون. قوله: "الصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد" أي من اتخاذها مساجد الملعون فاعله. وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة   1 أي في سياق الموت، أصله "سواق" قلبت الواو ياء لكسر السين, كأن روحه تساق لتخرج من البدن, وسياق وسواق مصدران من ساق يسوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 والحمام "1 رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم. قال ابن القيم -رحمه الله-: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول الله صلي الله عليه وسلم مقاصده، جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغته - صيغة "لا تفعلوا"، وصيغة "إني أنهاكم عن ذلك"- ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عُدم من "لا إله إلا الله" فإن هذا وأمثاله من النبي صلي الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه، وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجدا"؛ فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا. وكل موضع قُصد الصلاة فيه فقد اتُّخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال صلي الله عليه وسلم: " جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " 2. أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين. وكلما كنتم لها أشد تعظيما وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ولعمر الله، من هذا الباب دخل الشيطان على عبّاد يعوق ويغوث ونسر; ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة; فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم. قال الشارح -رحمه الله تعالى-: وممن علل بخوف الفتنة بالشرك: الإمام الشافعي، وأبو بكر الأثرم، وأبو محمد المقدسي، وشيخ الإسلام وغيرهم -رحمهم الله-. وهو الحق الذي لا ريب فيه. قوله: "فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا" أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه النهي عنه، ولعن من فعله. قوله: "وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا" أي وإن لم يبن مسجد، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، يعني وإن لم يقصد بذلك، كما إذا عرض لمن أراد أن يصلي فأوقع الصلاة في ذلك الموضع الذي حانت الصلاة عنده من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه، فصار بفعل الصلاة فيه مسجدا.   1 صحيح: أحمد (3/ 83) . أبو داود: كتاب الصلاة (492) : باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، والترمذي: كتاب أبواب الصلاة (317) : باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام. وابن ماجة: كتاب المساجد (745) : باب المواضع التي يكره فيها الصلاة. وابن حبان (338- موارد) . والحاكم (1/ 251) : وصححه الشيخ شاكر في تعليقه على الترمذي. والألباني في أحكام الجنائز (137) . (*) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (ج 19/ 26) : "علة النهي أن ذلك ذريعة إلى الشرك مع أن المقابر تكون أيضا مأوى للشياطين" اهـ. 2 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 قوله: "كما قال صلي الله عليه وسلم: " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " 12" أي فسمى الأرض مسجدا، تجوز الصلاة في كل بقعة منها إلا ما استثنى من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها، كالمقبرة ونحوها. ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا. " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " 3 ورواه أبو حاتم في صحيحه. قال البغوي في شرح السنة: " أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم; فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا، تخفيفا عليهم وتيسيرا، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس". انتهى. قوله: "ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ". ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه" 4. قوله: "إن من شرار الناس" بكسر الشين جمع شرير.   1 البخاري: كتاب الصلاة (438) : باب قول النيي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ومسلم: كتاب المساجد (523) (5) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. 2 رواه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه, وفيه زيادة: "فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته". 3 صحيح. أحمد (1/ 435) . ابن حبان (340) في الصلاة: باب ما جاء في الصلاة في الحمام والمقبرة. وقال ابن تيمية في الاقتضاء (158) : وإسناده جيد وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (3844 , 4143) وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص 19) . 4 في قرة العيون: (قلت) وقد وقع هذا في الأمة كثيرا كما وقع في أهل الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على ذوي البصائر. وقد زاد هؤلاء المتأخرون من هذه الأمة على ما وقع من أهل الجاهلية من هذا الشرك بأمور: (منها) أنهم يخلصون عند الاضطرار لغير الله وينسون الله. (ومنها) أنهم يعتقدون أن آلهتهم من الأموات يتصرفون في الكون دون الله. وجمعوا بين نوعي الشرك في الإلهية والربوبية, وقد سمعنا ذلك منهم مشافهة, ومن ذلك قول ابن كمال من أهل عمان وأمثاله: إن عبد القادر الجيلاني يسمع من دعاه ومع سماعه ينفع, فزعم أنه يعلم الغيب وهو ميت، فلقد ذهب عقل هذا وضل فكفر بما أنزله الله في كتابه كقوله: (35: 14) (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) . فما صدقوا الخبير فيما أخبر به عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله, ولا آمنوا بما أنزله الله في كتابه بل بالغوا وعاندوا في رده وكذبوا وألحدوا، وكابروا المعقول والمنقول فالله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 قوله: "من تدركهم الساعة وهم أحياء" أي مقدماتها، كخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها. وبعد ذلك ينفخ في الصور نفخة الفزع. فيه مسائل: الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل. الثانية: النهي عن التماثيل وغِلظ الأمر في ذلك. قوله: "والذين يتخذون القبور مساجد" معطوف على خبر إن في محل نصب على نية تكرار العامل، أي وإن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد أي بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها، وتقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود والنصارى، وأن النبي صلي الله عليه وسلم لعنهم على ذلك، تحذيرا للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم مثل اليهود والنصارى. فما رفع أكثرهم بذلك رأسا، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة لله تعالى، وهو مما يبعدهم عن الله ويطردهم عن رحمته ومغفرته. والعجب أن أكثر من يدعي العلم ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك، بل ربما استحسنوه ورغّبوا في فعله، فلقد اشتدت غربة الإسلام وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير. قال شيخ الإسلام: " أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث الصحيحة. وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه. قال: ولا ريب في القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك "إلى أن قال" وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو غيره. هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين". وقال ابن القيم -رحمه الله-: " يجب هدم القباب التي بنيت على القبور؛ لأنها أُسست على معصية الرسول صلي الله عليه وسلم، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير الترميني وغيرهما". وقال القاضي ابن كج: " ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب، ولا غير قباب، والوصية بها باطلة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الثالثة: العبرة في مبالغته صلي الله عليه وسلم في ذلك. كيف بيّن لهم هذا أولا، ثم قبل موته بخمس، قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم. الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر. الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم. السادسة: لعنه إياهم على ذلك. السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره. الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره. وقال الأذرعي: " وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه". وقال القرطبي في حديث جابر رضي الله عنه: " نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه " 1: " وبظاهر هذا الحديث قال مالك، وكره البناء والجص على القبور. وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه". وقال ابن رشد: " كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، وهو مما لا اختلاف عليه". وقال الزيلعي في شرح الكنز: " ويكره أن يبنى على القبر. وذكر قاضي خان: أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه؛ لما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص والبناء فوق القبر. والمراد بالكراهة - عند الحنفية رحمهم الله - كراهة التحريم. وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز". وقال الشافعي -رحمه الله-: " أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس". وكلام الشافعي -رحمه الله- يبين أن مراده بالكراهة كراهة التحريم.   1 مسلم: كتاب الجنائز (970) (94) : باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا. العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها وبين من تقوم عليه الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته. الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور وهم أول من بنى عليها المساجد. الثانية عشرة: ما بُلي به صلي الله عليه وسلم من شدة الفزع. الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة. الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة. الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة. السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته. قال الشارح -رحمه الله تعالى-: " وجزم النووي رحمه الله في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقا، وذكر في شرح مسلم نحوه أيضا". وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة إمام الحنابلة صاحب المصنفات الكبار كالمغني، والكافي وغيرهما -رحمه الله تعالى-: " ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود والنصارى "1 الحديث، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات واتخاذ صورهم، والتمسح بها والصلاة عندها". انتهى 2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتيقة، انقلبت تربتها أو لم تنقلب. ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا; لعموم الاسم وعموم العلة؛ ولأن النبي صلي الله عليه وسلم لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس". وبالجملة فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة فهو بعيد عن مقصود النبي صلي الله عليه وسلم، ثم لا يخلو أن يكون القبر قد بني عليه مسجد، فلا يصلي في هذا المسجد سواء صلى خلف القبر أو أمامه بغير خلاف في المذهب؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك "3. وخص قبور الأنبياء لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم; واتخاذها مساجد أشد، وكذلك إن لم يكن عليه بني مسجد، فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة   1 تقدم تخريجه برقم [166] . 2 وقد صرح ابن حجر الهيتمي المكي في كتابه الكبائر: ((أن بناء القباب على القبور من الكبائر المحرمة بالنص الصريح. وأن الواجب على ملوك المسلمين وأمرائهم وولاتهم أن يهدموا هذه القباب ويبدأوا بقبة الإمام الشافعي)) . 3 تقدم تخريجه برقم [167] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من أجلها، فإن كل مكان صلي فيه يسمى مسجدا، كما قال صلي الله عليه وسلم: " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " 1. وإن كان موضع قبر أو قبرين. وقال بعض أصحابنا: لا يمنع الصلاة فيها؛ لأنه لا يتناولها اسم المقبرة، وليس في كلام أحمد ولا بعض أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم يقتضي منع الصلاة عند كل قبر. وقد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال: " لا أصلي في حمام ولا عند قبر ". فعلى هذا ينبغي أن يكون النهي متناولا لحريم القبر وفنائه، ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفا. قال في رواية الأثرم: " إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز، ولا يصلى فيه على غير الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلي الله عليه وسلم: " لا تصلوا على القبور " 2. وقال: إسناده جيد". انتهى. ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق. فتبين بهذا أن العلماء -رحمهم الله- بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع والله المستعان. وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد، وغيّروا بها ما قصده الرسول صلي الله عليه وسلم بالنهي وأراد. فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص المقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها   1 تقدم تخريجه برقم [169] . 2 مسلم: كتاب الجنائز (972) (98) : باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل من وجوه: منها: أنه من القول على الله بلا علم. وهو حرام بنص الكتاب. ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله. ويلزم على ما قاله هؤلاء أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده صلي الله عليه وسلم وبعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعا وعقلا وشرعا؛ لما يلزم عليه من أن الرسول صلي الله عليه وسلم عجز عن البيان أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل؛ فإن النبي صلي الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم. ويقال أيضا: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 باب: "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله" روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1.   قوله: "باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله".   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530) , والنسائي: الجنائز (2047) , وأحمد (2/246) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 "روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد; اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1". هذا الحديث رواه مالك مرسلا عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: الحديث ". ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به، ولم يذكر عطاء. ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: " اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2 قوله: "روى مالك في الموطأ" هو الإمام مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر ابن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين للحديث، حتى قال البخاري: " أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر". مات سنة تسع وسبعين ومائة. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقيل: أربع وتسعين. وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة. قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان ودل الحديث على أن قبر النبي صلي الله عليه وسلم لو عبد لكان وثنا، لكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه. ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها. وقد عظمت الفتنة بالقبور لتعظيمها وعبادتها، كما قال   1 في قرة العيون: وذلك أنه صلى الله عليه وسلم خاف أن يقع في أمته في حقه، كما وقع من اليهود والنصارى في حق أنبيائهم من عبادتهم من دون الله، وسبب ذلك الغلو فيها كما قال تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) . وكذلك رغب صلى الله عليه وسلم إلى ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد, وقد عبدت القبور بأنواع العبادة كما لا يخفى, وتقدم في حديث عائشة -رضي الله عنها- "ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا". وقد استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم وصان قبره، وأحاطه بثلاثة جدران. 2 صحيح. مالك في الموطأ (رقم 85) في قصر الصلاة في السفر: باب جامع الصلاة. عن عطاء بن يسار مرسلا. وابن أبي شيبة (3/ 345) عن زيد بن أسلم مرسلا. ووصله أحمد في المسند (2/ 246) من حديث أبي هريرة ووصله البزار (440- كشف الأستار) من حديث أبي سعيد الخدري. وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص 18 , 19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غُيّرت قيل: غيرت السنة "1 انتهى. ولخوف الفتنة نهى عمر عن تتبع آثار النبي صلي الله عليه وسلم. قال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس يقول: " أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلي الله عليه وسلم "2 3 فقطعها؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها; فخاف عليهم الفتنة". وقال المعرور بن سويد: "صليت مع عمر بن الخطاب بطريق مكة صلاة الصبح. ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي صلي الله عليه وسلم فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها". وفي مغازي ابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار. حدثنا أبو العالية قال: "لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر; فدعا له كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قراه من العرب، قرأته مثل ما أقرأ القرآن. فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد. قلت: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة. فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنُعميّه على الناس لا ينبشونه. قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما كان تغيّر منه شيء؟ قال: لا، إلا شعيرات   1 صحيح. أخرجه الدارمي (1/ 60) . والحاكم (4/ 514) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 188) . وصححه الألباني في صلاة التراويح ص (50) . وقال: وهذا الأثر وإن كان موقوفا فهو في حكم الرفع؛ لأن ما فيه من التحدث عن أمور غيبية لا تقال إلا بالوحي، فهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فقد تحققت كل جملة فيه.. والحديث في مصادره مطول وقد اختصر هنا المصنف. 2 قال الحافظ في الفتح (7/ 448) : "وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة فيصلون عندها فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت" اهـ. 3 كان ذلك في صلح الحديبية. وهي الشجرة التي ذكرها الله تعالى في سورة الفتح: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) ; وذلك حين أشاع الناس أن عثمان بن عفان قتلته قريش حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم سفيرا بينه وبين قريش, فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم, ودعا رسول الله الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان على الموت, وكان المبايعون ألفا وأربعمائة, ثم أتى رسول الله أن الذي كان من أمر عثمان باطل. والقصة رواها البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السير والمغازي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض 1. {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال ابن القيم -رحمه الله-: " ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار -رضي الله عنهم- من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به; ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيف ولعبدوه من دون الله". قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وهو إنكار منهم لذلك; فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب الشارع قصدها- فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله عندها، أو لينسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعا ولا عينا، إلا أن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يزورها ويسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة. وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا هو المنهي عنه. انتهى ملخصا. قوله: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فيه تحريم البناء على   1 ذكرها الطبري (ج 4 ص 220) في حوادث سنة 17 قال: قيل لأبي سبرة هذا جسد دانيال في هذه المدينة. قال: وما لنا بذلك؟ فأقره بأيديهم، ثم ذكر خبر دانيال وسبي بختنصر له من بيت المقدس وموته بالسوس; فكان هنالك يستسقى بجسده, فلما فتحها المسلمون أتوا به فأقروه في أيديهم; حتى إذا ولى أبو سبرة عنهم إلى جندي سابور أقام أبو موسى بالسوس، وكتب إلى عمر فيه. إلخ القصة. وقد ذكرها أبو عبيد في الأموال ص 343 رقم 876 عن قتادة قال: "لما فتحت السوس وعليهم أبو موسى الأشعري وجدوا دانيال في إبرن, وإذا إلى جانبه مال موضوع وكتاب فيه: من شاء أتى فاستقرض منه إلى أجل, فإن أتى به إلى ذلك الأجل وإلا برص. فكتب إليه عمر: كفنه وحنطه وصل عليه ثم ادفنه كما دفنت الأنبياء صلوات الله عليهم. وانظر ماله فاجعله في بيت مال المسلمين. قال: فكفنه في قباطي بيض وصلى عليه ودفنه". وقال البلاذري: ص 371 "ورأى أبو موسى في قبلتهم بيتا وعليه ستر فسأل عنه فقيل: إن فيه جثة دانيال النبي, فإنهم كانوا أقحطوا, فسألوا أهل بابل دفعه إليهم ليستسقوا به ففعلوا. وكان بختنصر سبى دانيال وأتى به إلى بابل فقبض بها. فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر, فكتب إليه عمر أن كفنه وادفنه. فسكر أبو موسى نهرا حتى إذا انقطع دفنه ثم أجرى الماء عليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 القبور، وتحريم الصلاة عندها، وأن ذلك من الكبائر. وفي القِرَى للطبري1 من أصحاب مالك عن مالك أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي صلي الله عليه وسلم، وعلل ذلك بقوله صلي الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 2 الحديث. كره إضافة هذا اللفظ إلى القبر؛ لئلا يقع التشبه بفعل أولئك، سدا للذريعة. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " ومالك قد أدرك التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة، فدل ذلك على أنه لم يكن معروفا عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم - إلى أن قال- وقد ذكروا في أسباب كراهته لأن يقول: "زرت قبر النبي صلي الله عليه وسلم"؛ لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهو قصد الميت لسؤاله ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا. وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة. وكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد، بخلاف الصلاة والسلام عليه؛ فإن ذلك مما أمر الله به. أما لفظ الزيارة في عموم القبور فلا يفهم منها مثل هذا المعنى. ألا ترى إلى قوله: " فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة " 5 مع زيارته لقبر أمه؛ فإن هذا يتناول قبور الكفار، فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع، بخلاف ما إذا كان المزور معظما في الدين كالأنبياء والصالحين؛ فإنه كثيرا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية الشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة". اهـ. وفيه: أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. ذكره المصنف رحمه الله تعالى. "ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: "أفرأيتم اللات والعزى" قال كان يلت لهم السويق، فمات فعكفوا على قبره، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: "كان يلت السويق للحاج".   1 كتاب "القرى لقاصد أم القرى" تأليف المحب الطبري. 2 تقدم تخريجه برقم [176] . 3 سورة النجم آية: 19. 4 السويق: دقيق الحنطة أو الشعير. ولته: بله بالماء أو السمن, والحاج بمعنى الحجاج. 5 الحديث أخرجه مسلم في الجنائز (976) (108) باب استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمه من حديث أبي هريرة وفيه: "فزوروا القبور فإنها تذكر الموت". أما قوله صلى الله عليه وسلم: "فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة" فأخرجه الترمذي (1054) من حديث بريدة وابن ماجة (1571) من حديث ابن مسعود. وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (178 , 179) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 قوله: "ولابن جرير" هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري، صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها. قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير، وكان من المجتهدين لا يقلد أحدا. وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ويأخذون بأقواله. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشرة وثلاثمائة. قوله: "عن سفيان" الظاهر: أنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه إمام عابد كان مجتهدا; وله أتباع يتفقهون على مذهبه. مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة. قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي ثقة ثبت فقيه. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. قوله: "عن مجاهد" هو ابن جبر - بالجيم والموحدة - أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير، أخذ عن ابن عباس وغيره -رضي الله عنهم-، مات سنة أربع ومائة. قاله يحيى القطان. وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه. قوله: "كان يلت السويق لهم فمات فعكفوا على قبره" في رواية: "فيطعم من يمر من الناس. فلما مات عبدوه، وقالوا: هو اللات" رواه سعيد بن منصور. ومناسبته للترجمة: أنهم غلوا فيه لصلاحه حتى عبدوه وصار قبره وثنا من أوثان المشركين. قوله: "وكذا قال أبو الجوزاء" هو أوس بن عبد الله الربعي، بفتح الراء والباء، مات سنة ثلاث وثمانين. قال البخاري: حدثنا مسلم وهو ابن إبراهيم حدثنا أبو الأشهب1 حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: " كان اللات رجلا يلت سويق الحجاج "2.   1 أبو الأشهب هو جعفر بن حيان التيمي السعدي العطاردي الحذاء الأعمى. مات سنة 165. 2 البخاري: كتاب التفسير (4859) : باب "أفرأيتم اللات والعزى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 قال ابن خزيمة: وكذا العزى، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: "لنا العزى ولا عزى لكم". قوله: " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 1. رواه أهل السنن". قلت: وفي الباب حديث أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت. فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه. 2 وحديث حسان أخرجه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال: " لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم زوارات القبور " 3. وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانئ، وقد ضعفه بعضهم ووثقه بعضهم. 4 قال علي بن المديني عن يحيى القطان: "لم أر أحدا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ. وما سمعت أحدا من الناس يقول فيه شيئا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان". قال ابن معين: " ليس به بأس، ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه". انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي.   1 ضعيف بهذا اللفظ. أبو داود: كتاب الجنائز (3236) : باب في زيارة القبور. الترمذي في الصلاة (320) : باب كراهية أن يتخذ القبر مسجدا. والنسائي في الجنائز (4/ 94 , 95) : باب التغليظ في إتخاذ السرج على القبور. وابن ماجة في الجنائز (1575) : باب ما جاء في النهي عن زيارة القبور. بدون قوله: "المتخذين عليها المساجد والسرج". وضعفه الإمام مسلم وغيره بهذه الزيادة. وضعفه الألباني في الضعيفة (225) وتحذير الساجد (43 , 44) بهذا السياق، والحديث صحيح بدون هذه الزيادة كما سيأتي في تخريج رقم [183] . 2 أخرجه الترمذي من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور". وقال: هذا حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. قال الترمذي: وفي الباب عن عائشة وحسان بن ثابت. وحديث حسان بن ثابت رواه الإمام أحمد في مسنده أيضا، وروى ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو حديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عزائها أهل ميت في ميتهم, فقال لها: "لعلك بلغت معهم الكدى؟ قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر. قال: لو بلغت الكدى معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك". 3 صحيح. أما حديث أبي هريرة. فعند أحمد (2/ 337 , 356) . والترمذي (1056) كتاب الجنائز: باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء. وابن ماجة (1576) كتاب الجنائز: باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأما حديث حسان بن ثابت. فعند أحمد (3/ 442 , 443) . وابن ماجة (1574) كتاب الجناثز: باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور. والحاكم (374/ 1) . وقد مر من حديث ابن عباس. والحديث صحيح لغيره دون الزيادة المتقدمة في حديث ابن عباس كما قرره الألباني في تحذير الساجد (43) وصحيح الجامع (4985) والضعيفة (225) . 4 وأبو صالح اسمه باذام, أو باذان. وقد صرح في هذا الحديث بالتحديث عن ابن عباس فانتفت تهمة التدليس; ثم قد حسن الترمذي هذا الحديث، وإن كان الحافظ المنذري قد تعقبه عليه. وقال الحافظ ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود في باب كراهية اتخاذ القبور مساجد. وفي صحيح أبي حاتم عن أبي صالح عن ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". قال أبو حاتم: أبو صالح هذا اسمه مهران ثقة. وليس بصاحب الكلبي، ذاك اسمه باذام. وقال الإشبيلي: هو باذام صاحب الكلبي، وهو عندهم ضعيف جدا، وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يرجح هذا أيضا. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: وقد جاء عن النبي صلي الله عليه وسلم من طريقين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن زوارات القبور " 1 وذكر حديث ابن عباس. ثم قال: ورجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر. وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب. ومثل هذا حجة بلا ريب. وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي؛ فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيه متهم، ولم يكن شاذا، أي مخالفا لما ثبت بنقل الثقات، وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد، فكيف إذا كان رواه عن صاحب وذاك عن آخر؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف. والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت: " لو شهدتك ما زرتك "2. وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال؛ إذ لو كان كذلك لاستحبت زيارته سواء شهدته أم لا. قلت: فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة. وهدا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله ابن أبي مُليكة عنها، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله ابن أبي مليكة أيضا: " أن عائشة -رضي الله عنها- أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين أليس نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها"3. فأجاب شيخ الإسلام -رحمه الله- عن هذا وقال: ولا حجة في حديث عائشة؛ فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة. يبين ذلك قولها: " قد أمر بزيارتها " فهذا يبين أنه أمر بها أمرا يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة. ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال، ولم تقل لأخيها لما زرتك واللعن صريح في التحريم، والخطاب بالإذن في قوله: فزوروها لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخا له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص؟ إذ قد يكون قوله: " لعن الله زوارات القبور " بعد إذنه للرجال في الزيارة. يدل على أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج.   1 الترمذي: الجنائز (1056) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1576) . 2 الترمذي: الجنائز (1055) . 3 صحيح: الحديث بهذا السياق عند الحاكم (1/ 376) ، وعنه البيهقي (4/ 78) وسكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: صحيح. وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (4/ 418) "رواه ابن أبي الدنيا في القبور, والحاكم بإسناد جيد". وراجع أحكام الجنائز ص (181) . أما سياق الترمذي: كتاب الجنائز (1055) : باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور فهو باللفظ الذي تقدم وفيه: "لو شهدتك ما زرتك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنها محكم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وكذلك الآخر. والصحيح: أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه: أحدها: أن قوله صلي الله عليه وسلم فزوروها صيغة تذكير، وإنما يتناول النساء أيضا على سبيل التغليب. لكن هذا فيه قولان، قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل. وقيل: إنه يحتمل على ذلك عند الإطلاق. وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء، ولو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لاستحب لهن الزيارة للقبور. وما علمنا أحدا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان النساء على عهد النبي صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور. ومنها: أن النبي صلي الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك: " يذكر الموت، ويرقق القلب، وتدمع العين "1 هكذا في مسند أحمد. ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة؛ لما فيها من الضعف وقلة الصبر. وإذا كانت زيارة النساء مطنة وسببا للأمور المحرمة؛ فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك; ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها. فيحرم هذا الباب سدا للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك. وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة؛ فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها. ومن العلماء من يقول: التشييع كذلك، ويحتج بقوله صلي الله عليه وسلم: " ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت" 2 وقوله لفاطمة: " أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة " 3 ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز "4 ومعلوم أن قوله صلي الله عليه وسلم: " من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان " 5 هو أدل على العموم من صيغة التذكير؛ فإن لفظ "من" يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي صلي الله عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز، فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى. انتهى ملخصا.   1 حسن. أحمد (3/ 237, 250) . وهو عند الحاكم أيضا (1/ 375 , 376) . وحسنه الألباني في أحكام الجنائز (ص 180) . 2 ضعيف. ابن ماجة (1578) كتاب الجنائز: باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز. والبيهقي (4/ 77) من حديث علي رضي الله عنه. وضعفه النووي في المجموع (5/ 224) والبوصيري في الزوائد وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (873) . 3 ضعيف. أحمد (2/ 168 , 169) . وأبو داود (3123) كتاب الجنائز: باب التعزية. والنسائي: في كتاب الجنائز 4/ , 27 , 28) : باب النعي, وضعفه النووي في المجموع (5/ 224) والمنذري في مختصر السنن (4/ 289) والكدى: هي المقابر كما في اللسان. 4 البخاري: كتاب الجنائز (1278) باب اتباع النساء الجنائز. ومسلم: كتاب الجنائز (938) (34) باب نهي النساء عن اتباع الجنائز من حديث أم عطية رضي الله عنها. 5 الحديث بهذا اللفظ. أخرجه مسلم: كتاب الجنائز (945) (53) : باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. من حديث أبي هريرة. وهو عند البخاري بنحوه كتاب الجنائز (1325) : يا من انتظر حتى تدفن. وعند مسلم (946) (57) من حديث ثوبان أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 قلت: ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصا للرجال، خص بقوله: " لعن الله زوّرات القبور ... الحديث " فيكون من العام المخصوص. وعما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضا. منها: أن ما ذكروه عن عائشة وفاطمة -رضي الله عنهما- معارض بما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ. ومنها: أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع. وأما تعليمه عائشة كيف تقول إذا زارت القبور ونحو ذلك، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور، لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد والله أعلم. قال محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله- في كتابه تطهير الاعتقاد: " فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه: غالب - بل كل - من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم، فيأتي من بعدهم فيجد قبرا قد شيد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضر وبفلان النفع، حتى يغرسوا في جبلته كل باطل، والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن1 من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها. وأحاديث ذلك واسعة معروفة؛ فإن ذلك في نفسه منهي عنه، ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة". انتهى. ومنه تعلم مطابقة الحديث للترجمة والله أعلم. قوله: "والمتخذين عليها المساجد" تقدم شرحه في الباب قبله. قوله: "السُّرُج" قال أبو محمد المقدسي: " لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله؛   1 في تطهير الاعتقاد: ولهذا الأمر ثبت في الأحاديث النبوية اللعن على من أسرج القبور إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 لأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة; وإفراطا في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام". وقال ابن القيم -رحمه الله-: " اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر" 1. قوله: "رواه أهل السنن" يعني أبا داود والترمذي وابن ماجه فقط ولم يروه النسائي 2. الثانية: تفسير العبادة. الثالثة: أنه صلي الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يُخاف وقوعه. الرابعة: قَرْنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد 3. الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله. السادسة: وهي من أهمها، صفة معرفة عبادة اللات التي هي أكبر الأوثان. السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح. الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية. التاسعة: لعنة زوارات القبور. العاشرة: لعنة من أسرجها.   1 وقد عده ابن حجر الهيتمي في الكبائر أيضا. 2 بل رواه النسائي كما تقدم في تخريج رقم [182] . 3 يعني أنه لما قرن بذلك الدعاء اتخاذ القبور مساجد علم أن اتخادها مساجد ذريعة إلى إتخاذها أوثانا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 باب: ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد "وسده كل طريق يوصل إلى الشرك وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ   قوله: باب "ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك". الجناب: هو الجانب. والمراد حمايته عما يقرب منه أو يخالطه من الشرك وأسبابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 قوله: "وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 1". قال ابن كثير -رحمه الله-: يقول الله تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم، كما قال إبراهيم -عليه السلام-: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} 2. وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 3. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 4 أي منكم، كما قال جعفر ابن أبي طالب للنجاشي; والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: " إن الله بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته، ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته " وذكر الحديث. قال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 5 قال: " لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية "6. وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} 7 أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها8، ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت بالحنيفية السمحة "9. وفي الصحيح: " إن هذا الدين يسر "10. وشريعته كلها سمحة سهلة كاملة، يسيرة على من يسرها الله عليه.   1 سورة التوبة آية: 128-129. 2 سورة البقرة آية: 129. 3 سورة آل عمران آية: 164. 4 سورة التوبة آية: 128. 5 سورة التوبة آية: 128. 6 ثم ذكر ابن كثير الحديث: "خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح". وقد وصل هذا من وجه آخر. كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه: الفاصل بين الراوي والواعي: وقد استدل بعض الجاهلين بهذا على إيمان آباء النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من عظيم جهلهم، فليس فيه أي دليل؛ لأن في البخاري من حديث عائشة أنهم كانوا في الجاهلية لهم نكاح هو نكاح الناس اليوم. 7 سورة التوبة آية: 128. 8 في قرة العيون: ووجه الدلالة بالآية أنه صلى الله عليه وسلم يعز عليه كل ما يؤثم الأمة ويشق عليهم، وأعظم ما يؤثم الأمة ويشق عليهم الشرك بالله قليله وكثيره، ووسائله وما يقرب منه من كبائر الذنوب، وقد بالغ صلى الله عليه وسلم في النهي عن الشرك وأسبابه أعظم مبالغة كما لا يخفى, وقد كانت هذه حالة أصحابه -رضي الله عنهم- في قطعهم الخيوط التي يرقى للمريض فيها، ونحو ذلك من تعليق التمائم. 9 حسن. جاء من طرق كثيرة كما قال المصنف: من حديث حبيب بن أبي ثابت مرسلا, ومن حديث أبي أمامة وجابر وعائشة موصولا. والحديث ضعفه الألباني في غاية المرام (8) من حديث جابر ومرسل حبيب فقط. وحسن بهما الحديث في بحث جيد تظهر عليه أمارات التأدب مع العلماء. ص (333: 335) . 10 جزء من حديث أخرجه البخاري: كتاب الإيمان (39) : باب الدين يسر. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم. وعن أبي ذر رضي الله عنه1 قال: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 2. " تركنا رسول الله صلي الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما "3 أخرجه الطبراني. قال4: وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم " 5. وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 6، كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} 7. وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة، وهي قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي عما جئتم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 8. قلت: فاقتضت هذه الأوصاف التي وصف بها رسول الله صلي الله عليه وسلم في حق أمته أن أنذرهم وحذرهم الشرك الذي هو أعظم الذنوب، وبيّن لهم ذرائعه الموصلة إليه، وأبلغ في نهيهم عنها، ومن ذلك تعظيم القبور والغلو فيها، والصلاة عندها وإليها، ونحو ذلك مما يوصل إلى عبادتها كما تقدم، وكما سيأتي في أحاديث الباب. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " 9 رواه أبو داود بإسناد حسن. ورواته ثقات.   1 ساق ابن كثير سند الطبراني إلى أبي ذر. 2 سورة التوبة آية: 128-129. 3 صحيح. الطبراني في الكبير [16471] ، وأخرجه أحمد أيضا (5/153,162) . وصححه الأرناؤوط في تخريج ابن حبان برقم (65) . 4 أي قال أبو ذر: وهو من رواية الطبراني أيضا. وقد ذكر الحافظ ابن كثير بعد هذا الحديث من طريق الإمام أحمد عن ابن عباس حديث الملكين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه. ثم ضربا له ولأمته المثل. وروى عدة أحاديث في هذا المعنى في رحمة النبي صلى الله عليه وسلم. 5 جاء الحديث بنحوه عن ابن مسعود مطولا وفيه: "ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به, ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه.." الحديث. أخرجه الحاكم (2/4) ، وذكره المنذري في الترغيب (3/7) ونسبه للحاكم فقط. وراجع كلام الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الحديث على كتاب الرسالة للشافعي ص (94,95) . 6 سورة التوبة آية: 128. 7 سورة الشعراء آية: 215-216-217. 8 سورة التوبة آية: 129. 9 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 قوله: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " 1 رواه أبو داود بإسناد حسن. ورواته ثقات"2. قوله: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا " قال شيخ الإسلام: أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة. وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا: " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا "3. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعا: " لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه " 4. قوله: " ولا تجعلوا قبري عيدا " قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: " العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائدا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك". وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد. فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة وغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام العيد فيها عيدا. وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية. فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر". قوله: " وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ". قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبُعدكم، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيدا". قوله: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا " تقدم كلام شيخ الإسلام في معنى الحديث قبله اهـ. قوله: "وعن علي بن الحسين رضي الله عنه " أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلي الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ قال: لا تتخذوا قبري عيدا،   1 صحيح. تقدم تخريجه برقم [117] . 2 في قرة العيون: قال الحافظ محمد بن عبد الهادي: هو حديث حسن، جيد الإسناد, وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة. نهاهم صلى الله عليه وسلم أن يهجروا بيوتهم عن الصلاة فيها, كما تهجر القبور عن الصلاة إليها, مخافة الفتنة بها, وما يفضي إلى عبادتها من دون الله؛ لأن النهي عن ذلك قد تقرر عندهم, فنهاهم أن يجعلوا بيوتهم كذلك. 3 البخاري: كتاب الصلاة (432) : باب كراهية الصلاة في المقابر. ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (777) (208) : باب استحباب صلاة النافلة في بيتها وجوازها في المسجد. 4 مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (780) (212) : باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوزها في المسجد. (*) وهو عن أبي هريرة وليس ابن عمر كما ذكر المصنف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم ". رواه في المختارة". هذا الحديث والذي قبله جيدان حسنا الإسنادين. أما الأول فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره، ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع قال فيه أبو حاتم: ليس بالحافظ، تعرف وتنكر. وقال ابن معين: هو ثقة. وقال أبو زرعة: لا بأس به. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " ومثل هذا إذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة". وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي: " " هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة". وأما الحديث الثاني فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي في المختارة. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: " فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلي الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار; لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط". اهـ. وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل ابن أبي سهل قال: " رآني الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب -رضي الله عنهم- عند القبر، فناداني، وهو في بيت فاطمة -رضي الله عنها- يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلي الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ما أنتم وبني بالأندلس إلا سواء " 1.   1 قال في قرة العيون: وهذا أيضا له قرب النسب وقرب الدار، فنهى عن المجيء إلى القبر للدعاء عنده. فالمجيء إلى القبر للسلام عليه وتحري إجابة الدعاء ليس مما شرعه الله ورسوله لهذه الأمة. ولو كان مشروعا لما تركه الخلفاء والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من سادات أهل البيت وأئمة التابعين, ولما أنكروا على من فعله, وقولهم هو الحجة, وهو الذي دلت عليه الأحاديث, كحديث عاثشة وحديث الباب وغيرهما, لعلم السلف بما أراده النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن الغلو، وخوفه مما وقع ممن غلا في الدين, واتبع غير سبيل المؤمنين; كما قال تعالى: (4: 115) (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) . ولما حدث الشرك بأرباب القبور في هذه الأمة وتعظيمها وعبادتها صارت تشد الرحال إليها لقصد دعائها والاستغاثة بها, وبذل نفيس المال تقربا إليها وتعظيم سدنتها. فيا لها من مصيبة ما أعظمها! نسأل الله السلامة من هذا الشرك وما يقرب منه أو يوصل إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وقال سعيد أيضا: حدثنا حبان بن علي حدثنا محمد عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني " 1. قال شيخ الإسلام: فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله. وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يُرْوَ من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تقدم مسندا؟ قوله: "علي بن الحسين" أي ابن علي ابن أبي طالب، المعروف بزين العابدين رضي الله عنه أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم. قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه. مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح. وأبوه الحسين سِبْط رسول الله صلي الله عليه وسلم وريحانته، حفظ عن النبي صلي الله عليه وسلم، واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وله ست وخمسون سنة رضي الله عنه. قوله: "أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة" بضم الفاء وسكون الراء، وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما. قوله: "فيدخل فيها فيدعو فنهاه" هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: ما علمت أحدا رخص فيه؛ لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا، ويدل أيضا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه؛ لأن ذلك لم يشرع، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلي الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، قال: " ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ". وكان الصحابة والتابعون -رضي الله عنهم- يأتون إلى مسجد النبي صلي الله   1 البخاري: المظالم والغصب (2463) , ومسلم: المساقاة (1609) , والترمذي: الأحكام (1353) , وأبو داود: الأقضية (3634) , وابن ماجه: الأحكام (2335) , وأحمد (2/240 ,2/274 ,2/327 ,2/396 ,2/447 ,2/463) , ومالك: الأقضية (1462) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 عليه وسلم فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام؛ لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم; بل نهاهم عنه في قوله: " لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني ". فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد. وكانت الحجرة في زمانهم يُدخَل إليها من الباب، إذ كانت عائشة -رضي الله عنها- فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه، لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم، وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره1 وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلي الله عليه وسلم ليلة المعراج. والمقصود: أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر يفعله. قال عبيد الله بن عمر عن نافع: " كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلي الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر. السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف "2 قال عبيد الله ما نعلم أحدا من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، فكان   1 ومن ذلك الحكاية المفترأة المنسوبة إلى الشيخ أحمد الرفاعي، وأنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم مد يده ليقبلها ففعل, وخرجت اليد فقبلها. فانظر بالله كيف استطاعت شياطين الجن والإنس أن تلعب بعقول أولئك المخبولين, المحرومين من كل علم وعقل ودين! ولا حول ولا قوة إلا بالله. 2 صحيح. أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رقم (20) وصححه الألباني لطرقه وشواهده في تخريج الكتاب المذكور ص (34) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 بدعة محضة". وفي المبسوط: قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلي الله عليه وسلم، ولكن يسلم ويمضي. ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره. وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر. وتنازعوا: هل يستقبله عند السلام عليه أم لا؟ وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلي الله عليه وسلم وإلى غيره من القبور والمشاهد؛ لأن ذلك من اتخاذها أعيادا. بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها. وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام -رحمه الله- أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين- ونقل فيها اختلاف العلماء، فمن مبيح لذلك كالغزالي وأبي محمد المقدسي. ومن مانع لذلك كابن بطة وابن عقيل، وأبي محمد الجويني، والقاضي عياض. وهو قول الجمهور، نص عليه مالك ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب؛ لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى " 1. فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهيا، وإما أن يكون نفيا. وجاء في رواية بصيغة النهي، فتعين أن يكون للنهي، ولهذا فهم منه الصحابة -رضي الله عنهم- المنع - كما في الموطأ والمسند والسنن –. عن بصرة ابن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة - وقد أقبل من الطور -: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى " 2. وروى الإمام أحمد وعمر بن شبّة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال: " أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور. فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى. فدع عنك الطور ولا تأته "3. فابن عمر وبصرة ابن أبي بصرة جعلا الطور مما نهي عن شد الرحال إليه؛ لأن اللفظ الذي ذكراه فيه النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة، فعلم أن المستثنى منه عام في المساجد وغيرها، وأن النهي ليس خاصا بالمساجد، ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث. والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة   1 البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1197) : باب مسجد بيت المقدس. ومسلم: كتاب الحج (827) (415) : باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره. 2 صحيح: مالك (1/108) في الجمعة: باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة. وأحمد (6/7,397) . والنسائي (3/113,115) في الجمعة باب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة. وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (226) . وصحيح الجامع (7248) . 3 رواه أحمد (3/64,93) عن أبي سعيد الخدري وفيه شهر بن حوشب وهو مضطرب الحديث، والحديث ثابت عدا فقرة: "إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة" فهي ضعيفة لتفرد شهر بها. أفاده الدوسري في النهج السديد (237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 البقعة. فإن الله سماه "الوادي المقدس، والبقعة المباركة". وكلّم كليمه موسى -عليه السلام- هناك، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه، فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيبا لابن الأخنائي1 فيما اعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وأخذ به العلماء وقياس الأولى; لأن المفسدة في ذلك ظاهرة. وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها: أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال، ولا مزية تدعو إليه. وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب الصارم المنكي في رده على السبكي، وذكر فيه علل الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم وذكر هو وشيخ الإسلام -رحمهما الله تعالى- أنه لا يصح منها حديث عن النبي صلي الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، مع أنها لا تدل على محل النزاع؛ إذ ليس فيها إلا مطلق الزيارة، وذلك لا ينكره أحد بدون شد الرحال، فيحمل على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة. قوله: "رواه في المختارة" المختارة: كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين. ومؤلفه: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام. قال الذهبي: أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين، فيه مسائل: الأولى: تفسير آية براءة. الثانية: إبعاده أمته عن هذه الحمى غاية البعد. الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته. الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال. الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة. السادسة: حثه على النافلة في البيت. السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة. الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب. التاسعة: كونه صلي الله عليه وسلم في البرزخ تُعرَض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه2. والورع والفضيلة التامة والإتقان. فالله يرحمه ويرضى عنه. وقال شيخ الإسلام: " تصحيحه في مختاراته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب". مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة.   1 قاضي المالكية في عصره, والرد عليه مطبوع بهامش الرد على البكري، على نفقة جلالة الملك الصالح المصلح: الملك عبد العزيز آل سعود. أدام الله تأييده ونصره. 2 يريد المصنف -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرض عليه من أعمالنا إلا الصلاة والسلام عليه فقط, لا كما يظنه المبتدعون أن كل الأعمال تعرض عليه، فإن وجد خيرا حمد الله، وإن وجد غير ذلك استغفر, مستدلين على ذلك بحديث: أوهى من بيت العنكبوت، ومعرضين عن صحاح النصوص من الكتاب والسنة التي رواها البخاري ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 باب: " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان" وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 1.   قوله: باب "ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان". "وقول الله تعالى: { {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} ". "الوثن" يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد وغيرها؛ لقول الخليل -عليه السلام-: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} 2. ومع قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 3. وقوله: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} 4. فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله كما تقدم في الحديث. قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حُيَيّ   1 سورة النساء آية: 51. 2 سورة العنكبوت آية: 17. 3 سورة الشعراء آية: 71. 4 سورة الصافات آية: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد. فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج. ومحمد صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار. فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا. فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 1. وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 2. وفي مسند أحمد عن ابن عباس نحوه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان ". وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم. وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك: " الجبت: الشيطان- زاد ابن عباس-: بالحبشية ". وعن ابن عباس أيضا: "الجبت: الشرك". وعنه: "الجبت: الأصنام". وعنه: "الجبت: حيي بن أخطب". وعن الشعبي: "الجبت: الكاهن". وعن مجاهد: "الجبت: كعب بن الأشرف" قال الجوهري: "الجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر" ونحو ذلك3. قال المصنف -رحمه الله تعالى-: " وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها، مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ ".   1 قال الحافظ ابن كثير: وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف. وقال الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية. قال: أنتم خير. قال: فنزلت فيهم: إن شانئك هو الأبتر) . ونزل (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) الآية. و"الكوماء" الناقة العظيمة السنام لسمنها. و"العناة" جمع "عان" وهو الأسير. و"الصنبور" الأبتر الذي لا عقب له. وأصله سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض, وقيل: هي النخلة المنفردة التي دق أسفلها. أرادوا أنه إذا بلغ انقطع ذكره كما يذهب الصنبور لأنه لا عقب له. 2 سورة المائدة آية: 60. 3 زاد ابن كثير عن الجوهري: وفي الحديث: "الطيرة والعيافة والطرق من الجبت". قال ابن كثير: رواه الإمام أحمد عن قبيصة بن مخارق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 قوله: "وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} ". يقول تعالى لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم: قل يا محمد: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي أبعده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي غضبا لا يرضى بعده أبدا {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} 1. وقد قال الثوري عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المعرور بن سويد أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قوما - أو قال: لم يمسخ قوما - فجعل لهم نسلا ولا عقبا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك ". رواه مسلم2. قال البغوي في تفسيره: {قُلْ} يا محمد " هل أنبئكم " أخبركم {بِشَرٍّ مِنْ {ذلكم} الذي ذكرتم، يعني قولهم: لم نر أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فذكر الجواب بلفظ الابتداء وإن لم يكن الابتداء شرا; لقوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ {ذَلِكُمُ {النَّارُ} 3. وقوله: {مَثُوبَةً} ثوابا وجزاء، نصب على التفسير {عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي هو من لعنه الله {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} يعني اليهود {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} فالقردة أصحاب السبت، والخنازير كفار مائدة عيسى. وعن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة وشيوخهم مسخوا خنازير ". {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، أي أطاع الشيطان فيما سول له، وقرأ ابن مسعود4 "عبدوا الطاغوت"، وقرأ حمزة و "عُبُد" بضم الباء، و "الطاغوت "   1 سورة المائدة آية: 60. 2 رواه مسلم في كتاب القدر في باب بيان أن الآجال والأرزاق لا تزيد ولا تنقص من وجهين: أولهما: عن أبي بكر بن أبي شيبة; وأبي كريب عن مسعر. وهذا هو الذي فيه: "ولا عقبا". والثاني: عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وحجاج بن الشاعر واللفظ لحجاج: وليس فيه "ولا عقبا". 3 سورة الحج آية: 72. 4 في البغوي: وتصدقها قراءة ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 بجر التاء1 أراد العبد. وهما لغتان: عبد بسكون الباء، وعبد بضمها، مثل سبْع وسبُع2 وقرأ الحسن "وعبد الطاغوت " على الواحد3. وفي تفسير الطبرسي: " قرأ حمزة وحده "وعبُد الطاغوتِ" بضم الباء وجر التاء، والباقون "وعبَد الطاغوتَ" بنصب الباء وفتح التاء. وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب "وعُبُدَ الطاغوتِ" بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء، قال: وحجة حمزة في قراءته "وعبُد الطاغوت" أنه يحمله على ما عمل فيه "جعل" كأنه: وجعل منهم عبد الطاغوت. ومعنى "جعل" "خلق". كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 4. وليس "عبد" لفظ جمع؛ لأنه ليس من أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد ومعناه الجمع، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 5. ولأن بناء فعل يراد به المبالغة والكثرة نحو يَقُظَ ودَنُس; وكأن تقديره: أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب. وأما من فتح فقال {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 6 فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة: وهو قوله: {لَعَنَهُ اللَّهُ} ، وأفرد الضمير في "عبد" وإن كان المعنى فيه الكثرة؛ لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه، وفاعله ضمير "من" كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير "من" فأفرد لحمل ذلك جميعا على اللفظ. وأما قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} فهو جمع عبد7. وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 8. وقال أحمد بن يحيى: عُبُد جمع عابد; كبازل وبُزل، وشارف وشُرف، وكذلك عبد جمع عابد. ومثله عباد وعُبّاد". اهـ. وقال شيخ الإسلام في قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 9 الصواب أنه معطوف على ما قبله من الأفعال، أي من لعنه وغضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت. قال: والأفعال المتقدمة الفاعل فيها اسم الله، مظهرا أو مضمرا. وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت. وهو الضمير في "عبد" ولم يعد سبحانه "من" لأنه جعل هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود.   1 فيكون على الإضافة, على أن المعنى: وجعل منهم خدم الطاغوت, أي خدامه وعبيده. 2 في تفسير البغوي وقيل: هو جمع العباد وقرأ الحسن إلخ. 3 آخر النقل عن البغوي. 4 سورة الأنعام آية: 1. 5 سورة إبراهيم آية: 34. 6 سورة المائدة آية: 60. 7 قال ابن كثير: على أنه جمع الجمع. عبد عبيد عبد; مثل ثمار ثمر. 8 سورة الكهف آية: 21. 9 سورة المائدة آية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 قوله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً} مما تظنون بنا {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} 1. قاله العماد ابن كثير في تفسيره، وهو ظاهر. قوله: "وقول الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} ". والمراد أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " 2 أراد تحذير أمته أن يفعلوا كفعلهم. قوله: "عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سَنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 3 أخرجاه". وهذا سياق مسلم. قوله: "سنن" بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم. قال المهلب: الفتح أولى. قوله: "حذو القذة بالقذة" بنصب "حذو" على المصدر. والقذة بضم القاف واحدة القذذ وهو ريش السهم. أي لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه، وتشبهوهم قي ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى. وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة. وقد وقع كما أخبر، وهو عَلَم من أعلام النبوة. قوله: " " حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ". وفي حديث آخر: " حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك " 4. أراد صلي الله عليه وسلم أن أمته لا تدع شيئا مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله لا تترك منه شيئا. ولهذا قال سفيان بن عيينة: " من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبادنا ففيه شبه من النصارى ". اهـ. قلت: فما أكثر الفريقين، لكن من رحمة الله تعالى ونعمته أن جعل هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كما في حديث ثوبان الآتي قريبا.   1 سورة الفرقان آية: 24. 2 تقدم تخريجه برقم [166] . 3 205- ضعيف. هو جزء من حديث أخرجه الترمذي: كتاب الإيمان (2641) باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. وقال الترمذي: حديث غريب. والحاكم (1/128,129) . وضعفه المناوي في فيض القدير (5/347) . 4 الترمذي: الإيمان (2641) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 قوله: " قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " هو برفع "اليهود" خبر مبتدأ محذوف; أي أهُم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: تعني. قوله: "قال: فمن؟ " استفهام إنكاري. أي فمن هم غير أولئك؟ قوله: "ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وأني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا ". ورواه البرقاني في صحيحه وزاد: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتي يأتي أمر الله تبارك وتعالى " 1. هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف. قوله; "عن ثوبان" هو مولى النبي صلي الله عليه وسلم، صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين. قوله: " " زوى لي الأرض " قال التوربشتي: " زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب. وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره". قال الطيبي: " أي جمعها، حتى بصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها". قوله: " " وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها " قال القرطبي: " هذا الخبر وجد مخبره   1 مسلم: الإمارة (1920) , والترمذي: الفتن (2229) , وأبو داود: الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه: المقدمة (10) والفتن (3952) , وأحمد (5/278 ,5/279 ,5/284) , والدارمي: المقدمة (209) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 قوله: " فيستبيح بيضتهم" قال الجوهري: بيضة كل شيء حوزته. وبيضة القوم ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: أن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض وهي جوانبها. وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم، وإن قلوا. قوله: " " حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا ". والظاهر أن "حتى" عاطفة، أو تكون لانتهاء الغاية، أي إن أمر الأمة ينتهي إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضا. وقد سلط بعضهم على بعض كما هو الواقع، وذلك لكثرة اختلافهم وتفرقهم. قوله: " " وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد " قال بعضهم: أي إذا حكمت حكما مبرما نافذا فإنه لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: " ولا راد لما قضيت " 1. قوله: "رواه البرقاني في صحيحه" هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة. قال الخطيب: " كان ثبتا ورعا، لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفا بالفقه كثير التصانيف، صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان. وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة". وهذا الحديث رواه أبو داود بتمامه بسنده إلى أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إن الله - أو قال: إن ربي - زوى لي الأرض فأريت مشارق الأرض ومغاربها، وأن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة2 ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي:   1 جزء من حديث أخرجه الطبراني بسند صحيح كما قال الحافظ في فتح الباري (11/513) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وأصل الحديث في صحيح البخاري بدون هذا الجزء. البخاري: كتاب القدر (6615) : باب لا مانع لما أعطى الله. 2 الذي في سنن أبي داود (ج4 ص15) مع شرح عون المعبود - وهي طبعة هندية مصححة بدقة- "بسنة بعامة". وقال في عون المعبود: وفي رواية مسلم: "بسنة بعامة" في باب الفتن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها - أو قال: بأقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضا، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق- قال ابن عيسى: ظاهرين ثم اتفقا- لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى " 1. وروى أبو داود أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " تدور رَحَى الإسلام لخمس وثلاثين; أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عاما، قال: قلت: أمِمّا بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى " 32. وروى في سننه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " يتقارب الزمان وينقص العلم; وتظهر الفتن، ويلقى الشح; ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله أيّهْ هو؟ قال: القتل القتل " 4. قوله: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " أي الأمراء والعلماء والعباد فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم، 5 كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 6. وكان بعض هؤلاء يقول لأصحابه: من كان له حاجة فيأت إلى قبري فإني أقضيها له، ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب، ونحو هذا. وهذا   1 قال في عون المعبود: إسناده صحيح. 2 صحيح. أبو داود: كتاب الفتن والملاحم (4254) : باب ذكر الفتن ودلائلها. وأحمد أيضا (1/390,393) . وصححه الألباني في الصحيحة (974) وصحيح الجامع (2931) . 3 قال الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي في كتاب الأطراف: وأخرجه البخاري في الصحيح في الأدب وفي الفتن; ومسلم في القدر, وأبو داود في الفتن. 4 صحيح أبو داود: كتاب الفتن والملاحم (4255) : باب ذكر الفتن ودلائلها وهذا تقصير. (*) فالحديث أخرجه البخاري: كتاب الفتن (7061) : باب ظهور الفتن. ومسلم: كتاب العلم (11) (57) : باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان. 5 في قرة العيون: كما قال تعالى: (6: 119) (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) وقال: (71: 37) (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) . وأمثال هذه الآيات كثير, وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا, قال: يهدمه زلة العالم, وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي. 6 سورة الأحزاب آية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 هو الضلال البعيد، يدعو أصحابه إلى أن يعبدوه من دون الله، ويسألوه ما لا يقدر عليه من قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتها. وقد قال تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُيَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} 1. وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 2. وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. وأمثال هذا في القرآن كثير، يبين الله تعالى به الهدى من الضلال. ومن هذا الضرب: مَنْ يدّعي أنه يصل مع الله إلى حال تسقط فيها عنه التكاليف; ويدعي أن الأولياء يُدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة، وأنه يطلع على اللوح المحفوظ، يعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم; ويجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وإيقادها بالسرج ونحو ذلك من الغلو والإفراط والعبادة لغير الله، فما أكثر هذا الهذيان والكفر والمحادة لله ولكتابه ولرسوله! وقوله صلي الله عليه وسلم: " وانما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " أتى بإنما التي قد تأتي للحصر بيانا لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال; وما وقع في خَلَد النبي صلي الله عليه وسلم من ذلك إلا لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع نظير ما في الحديث قبله من قوله: " لتتبعن سنن من كان قبلكم " 4 الحديث. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون " 5. رواه أبو داود الطيالسي. وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " 6 رواه الدارمي. وقد بين الله تعالى في كتابه صراطه المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين. فكل من أحدث حدثا ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم فهو ملعون وحدثه مردود، كما قال صلي الله عليه وسلم: " من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " 7. وقال: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " 8. وقال: " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " 9. وهذه   1 سورة الحج آية: 12-13. 2 سورة الفرقان آية: 3. 3 سورة العنكبوت آية: 17. 4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) . 5 صحيح. الطيالسي (975) . وأحمد (6/441) والطبراني. وفيه راويان لم يسميا كما قال الهيثمي في المجمع (5/239) . والحديث صحيح لشواهده. وراجع مجمع الزوائد (5/239,240) . وصححه الألباني في الصحيحة (1582) وصحيح الجامع (1547) . (*) وعزو الحديث لأبي داود كما فعل المؤلف وهم. 6 صحيح: الدارمي (1/70) , (2/311) . وإسناده صحيح على شرط مسلم كما قال الألباني في الصحيحة (4/110) . والحديث أخرجه أيضا: أحمد (5/278,284) . وأبو داود: كتاب الفتن (4252) : باب ذكر الفتن ودلائلها. وابن ماجة: كتاب الفتن (3952) : باب ما يكون من الفتن وراجع تخريج رقم [206] . 7 البخاري: كتاب فضائل المدينة (1870) : باب حرم المدينة. كتاب الفرائض (6755) : باب إثم من تبرأ من مواليه. ومسلم: كتاب الحج (1370) (467) : باب فضل المدينة. من حديث علي رضي الله عنه. والبخاري: كتاب الاعتصام (7306) : باب إثم من آوى محدثا. ومسلم: كتاب الحج (1366) (463) : باب فضل المدينة من حديث أنس رضي الله عنه. 8 البخاري: كتاب الصلح (2697) : باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود, ومسلم: كتاب الأقضية (1718) . (17) : باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور من حديث عائشة رضي الله عنها. 9 صحيح. وهو جزء من حديث العرباض بن سارية أخرجه أبو داود: كتاب السنة (4607) : باب لزوم السنة. وأحمد في المسند (4/127) وغيرهما وهو حديث صحيح. راجع السنة لابن أبي عاصم (27) . وفي الباب عن ابن مسعود عند ابن ماجة (46) . وعن جابر عند النسائي (3/188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 أحاديث صحيحة. ومدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث ونحوها. وقد بين الله تعالى هذا الأصل في مواضع من كتابه العزيز، كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 2. ونظائرها في القرآن كثير. وعن زياد بن حُدَير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: " وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان. " هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زَلَة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين "3 رواه الدارمي. وقال يزيد بن عمير: " كان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلسا للذكر إلا ويقول: الله حكم قسط: هلك المرتابون وفيه: فاحذروا زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قلت لمعاذ: وما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؟ والمنافق قد يقول كلمة الحق؟ فقال: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقول: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته; فإن على الحق نورا "4. رواه أبو داود وغيره. قوله: " وإذا وقع السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ". وكذلك وقع فإن السيف لما وقع بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرفع; وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن قد يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى5. قوله: " ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين " "الحي" واحد الأحياء وهي القبائل. وفي رواية أبي داود: " حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين " 6. والمعنى: أنهم يكونون معهم ويرتدون. برغبتهم عن أهل الإسلام ويلحقون بأهل الشرك. وقوله: " حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان " "الفئام" بكسر الفاء مهموز: الجماعات   1 سورة الأعراف آية: 3. 2 سورة الجاثية آية: 18. 3 صحيح. الدارمي (1/71) في المقدمة: باب في كراهية أخذ الرأي. وقال الألباني في تخريج المشكاة (1/89) : "وسنده صحيح" اهـ. 4 صحيح. أبو داود: كتاب السنة (4611) : باب لزوم السنة. وإسناده صحيح. 5 قال في قرة العيون: وفيه ما هو حق, كقتال أهل التوحيد لأهل الشرك بالله, وجهادهم على تركهم الشرك, وقد من الله بذلك على من أقامهم في آخر هذا الزمان بالدعوة إلى توحيده, لكن أهل الشرك بدأوهم بالقتال, وأظهرهم الله عليهم كما لا يخفى على من تدبر آيات هذا الدين في هذه الأزمنة. اهـ. 6 ابن ماجه: النكاح (1936) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الكبيرة، قاله أبو السعادات. وفي رواية أبي داود: " وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ". وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الجاحدبن لما يقع منهم من الشرك بالله بعبادتهم الأوثان. وذلك لجهلهم بحقيقة التوحيد وما يناقضه من الشرك والتنديد;1 فالتوحيد هو أعظم مطلوب، والشرك هو أعظم الذنوب. وفي معنى هذا الحديث: ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخَلَصة قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية " 2 وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتا مبنيا مغلقا. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في قصة هدم اللات، لما أسلمت ثقيف: " فيه أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، وكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور والتي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة، أو أعظم شركا عندها وبها. فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم; وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل   1 في قرة العيون: وقد استحكمت الفتنة بعبادة الأوثان حتى إنه لا يعرف أحد في هذه القرون المتأخرة أنكر ما وقع من ذلك حتى أقام الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- الذي أنكره ونهى عنه، ودعا الناس إلى تركه وإلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وأسمائه وصفاته، فرماه الملوك وأتباعهم عن قوس العداوة، فأظهره الله بالحجة, وأعز أنصاره على من ناوأهم. وبلغت دعوته مشارق الأرض ومغاربها; ولكن من الناس منهم من عرف ومنهم من أنكر. وانتفع بدعوته الكثير من أهل نجد والحجاز وعمان وغيرها. فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة جعلنا الله لها شاكرين. قال أبو طاهر -غفر الله لهما-: وإنما أظهره الله بتوفيق آل سعود للانضواء تحت راية التوحيد الذي دعا إليه الشيخ ابن عبد الوهاب. فكان لحديدهم مع بينات الشيخ هذا الأثر في ظهور كلمة التوحي، د وقيام دولة مرهوبة الجانب لأهل التوحيد تصديقا لقول الله تعالى: (57: 25) (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) والله نسأل أن يديم توفيقهم ويوفق ملوك المسلمين لمثل ما وفقهم له. 2 البخاري: كتاب الفتن (7116) : باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان. ومسلم: كتاب الفتن (2906) (51) : باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء; وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس; وظهر الفساد، في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين; ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين". اهـ ملخصا. قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وقبله، فما بعده أعظم فسادا كما هو الواقع. قوله: "وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي " قال القرطبي: وقد جاء عددهم معينا في حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون; منهم أربع نسوة " 1 أخرجه أبو نعيم، وقال: هذا حديث غريب". انتهى. وحديث ثوبان أصح من هذا. قال القاضي عياض: عدّ من تنبأ من زمن رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلالة، فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا2. وقال الحافظ: وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله صلي الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وفي خلافة أبي بكر: طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلي الله عليه وسلم، وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد، وشاركه في قتل مسيلمة يوم اليمامة رجل من الأنصار، وتاب طليحة ومات على الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه. ونقل أن سجاح تابت أيضا. ثم خرج المختار ابن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير، وأظهر محبة أهل البيت   1 حسن. أبو نعيم في الحلية (4/179) وقال: غريب تفرد به معاذ بن هشام عن أبيه موجودا في كتابه اهـ وإسناده حسن. 2 للسيد صديق حسن خان كتاب "الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة". عد فيه أولئك الدجالين إلى زمنه، وعد منهم الدجال الإفرنجي الخبيث غلام أحمد القادياني الهندي قبحه الله وأخزاه, ومن اتبعه على كفره, فإنه ما قام بفتنته وادعى المهدوية ثم النبوة إلا بإيعاز ومساعدة دولة نصرانية, سياستها التفريق لجماعات المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتتبعهم فقتل كثيرا ممن باشر ذلك، وأعان عليه. فأحبه الناس، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل -عليه السلام- يأتيه. ومنهم الحارث الكذاب، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل. وخرج في خلافة بني العباس جماعة. وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا؛ فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم تنشأ دعوته عن جنون أو سوداء. وإنما المراد من قامت له شوكة وبدا له شبهة كمن وصفنا. وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر. قوله: " " وأنا خاتم النبيين ". قال الحسن: الخاتم: الذي ختم به يعني أنه آخر النبيين؛ كما قال تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1. وإنما ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان حاكما بشريعة ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، تبارك وتعالى "2. محمد صلي الله عليه وسلم مصليا إلى قبلته. فهو كأحد أمته، بل هو أفضل هذه الأمة. قال النبي صلي الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية "3. قوله: " ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم " قال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ ". قال ابن المبارك وعلي بن المديني، وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم: "إنهم أهل الحديث". وعن ابن المديني رواية: "هم العرب". واستدل برواية من روى هم أهل الغرب، وفسر الغرب بالدلو العظيمة؛ لأن العرب هم الذين يستقون بها. قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض دون بعض منه. ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولا فأولاً إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله. اهـ ملخصا مع زيادة فيه. قاله الحافظ.   1 سورة الأحزاب آية: 40. 2 البخاري: العلم (71) , ومسلم: الإمارة (1037) , و (1920) ، وأحمد (4/93) ، و (5/279) ، والترمذي: الفتن (2229) . 3 البخاري: كتاب البيوع (2222) : باب قتل الخنزير. ومسلم: كتاب الإيمان (155) (242) : باب نزول عيسى بن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قال القرطبي: " وفيه دليل على أن الإجماع حجة؛ لأن الأمة إذا اجتمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة" 1. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء. الثانية: تفسير آية المائدة. الثالثة: تفسير آية الكهف. الرابعة: - وهي أهمها- ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت، هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين. السادسة: - وهي المقصود بالترجمة- أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعد. السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة. قال المصنف -رحمه الله-: " وفيه الآية العظيمة: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية". قلت: واحتج به الإمام أحمد على أن الاجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة. قوله: " حتى يأتي أمر الله" الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة; ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس، كما روى الحاكم أن عبد الله بن عمر قال: " لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر أهل الجاهلية "2. فقال   1 المراد من الإجماع: إجماع كل من يعتد به من هذه الأمة في جميع أقطار الأرض، ومعرفة ذلك غير متيسرة إلا فيما هو معلوم بالضرورة كالصلوات والصيام ونحوه, ولذلك يروى عن الشافعي وأحمد: أن من ادعى الإجماع بعد الصحابة فقد أخطأ. 2 صحيح. الحاكم (4/456,457) . وصححه ووافقه الذهبي. (*) وهذا تقصير فالحديث عند مسلم: كتاب الإمارة (1924) (176) : باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 عقبة بن عامر لعبد الله: اعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك "1. قال عبد الله: " ويبعث الله ريحا ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته; ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة ". وفي صحيح مسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " 2. وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه: "حتى تأتيهم الساعة" ساعتهم. وهي وقت موتهم بهبوب الريح. ذكره الحافظ. وقد اختلف في محل هذه الطائفة، فقال ابن بطال: إنها تكون في بيت المقدس، كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة: " قيل: يا رسول الله، أين هم؟ قال: ببيت المقدس "3. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "هم بالشام". وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائما، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة. الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه بأنه من هذه الأمة. وأن الرسول حق وأن القرآن حق. وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح. وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة وتبعه فئام كثيرة. التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية، كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة. العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة. الثانية عشرة: ما فيهن من الآيات العظيمة. منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال. وإخباره بأنه أُعطي الكنزين. وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين. وإخباره بأنه منع الثالثة. وإخباره بوقوع السيف وأنه لا يرفع إذا وقع. وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة. وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. قلت: ويشهد له الواقع وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس، فإنهم من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن؛ فإنهم كانوا في زمانهم على الحق يدعون إليه، ويناظرون عليه، ويجاهدون فيه. وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة. والله على كل شيء قدير4.   1 مسلم: الإمارة (1924) . 2 تقدم تخريجه برقم [57] . 3 إسناده ضعيف. الطبراني في الكبير (7643) . وإسناده ضعيف فيه عمرو بن عبد الله الشيباني الحضرمي. قال الذهبي في ديوان الضعفاء (3188) : تابعي مجهول أفاده الدوسري (262) النهج السديد. 4 البخاري: كتاب المناقب (3641) : باب [28] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد، بل هم في غالب الأمصار في الشام منهم الأئمة، وفي الحجاز وفي مصر، وفي العراق واليمن، وكلهم على الحق يناضلون، ويجاهدون أهل البدع، ولهم المصنفات التي صارت أعلاما لأهل السنة; وحجة على كل مبتدع. فعلى هذا، فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تتفرق، وقد تكون في الشام، وقد تكون في غيره، فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ لا يفيد حصرها بالشام، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها. وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ فإن كل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث وقع كما أخبر صلي الله عليه وسلم. وقوله: "تبارك وتعالى" قال ابن القيم -رحمه الله-: البركة نوعان: أحدهما: بركة هي فَعَلة والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة "على" تارة، وبأداة "في" تارة، والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل منها كذلك، فكان مباركا بجعله تعالى. والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل فهو سبحانه المتبارك، وعبده ورسوله المبارك، كما قال المسيح -عليه السلام-: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} 1 فمن يبارك الله فيه وعليه فهو المبارك.   1 سورة مريم آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وأما صفة تبارك فمختصة به، كما أطلقه على نفسه في قوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به، لا تطلق على غيره، وجاءت على بناء السعة والمبالغة، كتعالى وتعاظم ونحوه، فجاء بناء "تبارك" على بناء "تعالى" الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دال على كمال بركته ووعظمته ووسعتها. وهذا معنى قول من قال من السلف: "تبارك" تعاظم. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: " جاء بكل بركة".   1 سورة الأعراف آية: 54. 2 سورة الملك آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 باب " ما جاء في السحر" وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 1.   قوله: "باب ما جاء في السحر" أي والكهانة. السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطُف سببه، ولهذا جاء الحديث: 2 " إن من البيان لسحرا " 3. وسمي السحر سحرا؛ لأنه يقع خفيا آخر الليل. قال أبو محمد المقدسي في الكافي: "" السحر عزائم ورُقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه". قال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 4. وقال سبحانه: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 5. يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن. ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه. وعن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي صلي الله عليه وسلم سُحر حتى إنه ليخيل إليه   1 سورة البقرة آية: 102. 2 جزء من حديث. أخرجه البخاري: كتاب النكاح (5146) : باب الخطبة. من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه مسلم: كتاب الجمعة (869) (47) : باب تخفيف الصلاة والخطبة. 3 رواه مالك وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عمر. 4 سورة البقرة آية: 102. 5 سورة الفلق آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: " أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومِشاطة وفي جَف طلعة ذكر في بئر ذروان " 2 رواه البخاري. قال: "وقول الله تعالى: {عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 3". قال ابن عباس: "من نصيب". قال قتادة: وقد علم أهل الكتاب فيما عهد إليهم: أن الساحر لا خلاق له في الآخرة. وقال الحسن: ليس له دين. فدلت الآية على تحريم السحر، وكذلك هو محرم في جميع أديان الرسل -عليهم السلام-، كما قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 4. وقد نص أصحاب أحمد أنه يكفر بتعلمه وتعليمه. وروى عبد الرزاق 5عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من تعلم شيئا من السحر قليلا كان أو كثيرا كان آخر عهده من الله " 6. وهذا مرسل. واختلفوا: هل يكفر الساحر أو لا؟ فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله-. قال أصحابه: إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر. وقال الشافعي: " إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر; مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته كفر". اهـ. وقد سماه الله كفرا بقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 7. وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} 8. قال ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} : وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر. قال: "وقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 9 " تقدم الكلام عليهما في الباب قبله. وفيه أن السحر من الجبت. قاله المصنف -رحمه الله-.   1 سورة النساء آية: 51. 2 البخاري: بدء الخلق (3268) , ومسلم: السلام (2189) , وابن ماجه: الطب (3545) , وأحمد (6/57) . 3 سورة البقرة آية: 102. 4 سورة طه آية: 69. 5 228- موضوع. عبد الرزاق (10/184) . وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي. قال ابن معين: كذاب رافضي. وقال النسائي والدارقطني وأحمد بن حنبل: متروك. راجع الميزان (1/57: 61) . 6 وأخرجه مسلم أيضا: كتاب السلام (2189) (43) : باب السحر. 7 سورة البقرة آية: 102. 8 سورة البقرة آية: 102. 9 سورة النساء آية: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 قوله: "قال عمر رضي الله عنه: " الجبت: السحر. والطاغوت: الشيطان " هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره. قوله: "وقال جابر: " الطواغيت: كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد ". هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولا عن وهب بن منبه قال: سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها، فقال: إن في جهينة واحدا، وفي أسلم واحدا، وفي هلال واحدا، وفي كل حي واحدا، وهم كهان كانت تنزل عليهم الشياطين "1. قوله: "قال جابر" هو ابن عبد الله بن حرام الأنصاري2. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات. قوله: "الطواغيت كهان" أراد أن الكهان من الطواغيت: فهو من أفراد المعنى. قوله: "كان ينزل عليهم الشيطان" أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس خاصة، بل تنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم بما يسترقون من السمع، فيصدقون مرة ويكذبون مائة. قوله: "في كل حي واحد" الحي واحد الأحياء، وهم القبائل; أي في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب، وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي صلي الله عليه وسلم فأبطل الله ذلك بالإسلام وحرست السماء بكثرة الشهب.   1 الذي يستخلص من كلام السلف -رضي الله عنهم-: أن الطاغوت كل ما صرف العبد وصده عن عبادة الله وإخلاص الدين والطاعة لله ولرسوله، سواء في ذلك الشيطان من الجن والشيطان من الإنس, والأشجار والأحجار وغيرها. ويدخل في ذلك بلا شك: الحكم بالقوانين الأجنبية عن الإسلام وشرائعه وغيرها من كل ما وضعه الإنسان ليحكم به في الدماء والفروج والأموال, وليبطل بها شرائع الله, من إقامة الحدود وتحريم الربا والزنا والخمر ونحو ذلك، مما أخذت هذه القوانين تحللها وتحميها بنفوذها ومنفذيها. والقوانين نفسها طواغيت, وواضعوها ومروجوها طواغيت. وأمثالها من كل كتاب وضعه العقل البشري ليصرف عن الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إما قصدا أو من غير قصد من واضعه، فهو طاغوت. 2 توفي جابر سنة74، وقيل: سنة77, وكان عمره أربعا وتسعين سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 قوله: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق; وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ". كذا أورده المصنف غير معزو. وقد رواه البخاري ومسلم. قوله: "اجتنبوا" أي أبعدوا، وهو أبلغ من قوله: دعوا واتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ، كقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 1. قوله: "الموبقات" بموحدة وقاف. أي المهلكات. وسميت هذه موبقات؛ لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب. وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد والطبري في التفسير، وعبد الرزاق مرفوعا وموقوفا قال: الكبائر تسع- وذكر السبعة المذكورة- وزاد: والإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين" 2. ولابن أبي حاتم عن علي قال: " الكبائر- فذكر السبع- إلا مال اليتيم، وزاد: العقوق، والتعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة ". قال الحافظ: ويحتاج عندي هذا الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع. ويجاب: بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو ضعيف، أو بأنه أعلم أولا بالمذكورات، ثم أعلم بما زاد. فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل. وقد أخرج الطبراني وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: " الكبائر سبع ". قال: "هن أكثر من سبع وسبع". وفي رواية: "هي إلى سبعين أقرب". وفي رواية: "إلى السبعمائة"3. قوله: "قال الشرك بالله" هو أن يجعل لله ندا يدعوه ويرجوه، ويخافه كما يخاف الله، بدأ به؛ لأنه أعظم ذنب عصى الله به، كما في الصحيحين عن ابن مسعود: " سألت النبي صلي الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 4. الحديث.   1 سورة الأنعام آية: 151. 2 حسن. البخاري في الأدب المفرد (8) . وابن جرير في تفسيره (5/26) . عن ابن عمر موقوفا بسند صحيح. وأخرجه البيهقي. عن ابن عمر مرفوعا (409) . وحسنه الألباني في الإرواء (3/156) لشواهده. 3 قد ألف الحافظ عبد الرحمن بن رجب -رحمه الله- كتابا في عد الكبائر. طبع. ولشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: كتاب مسائل الجاهلية, هو كذلك في عد الكبائر. 4 البخاري: تفسير القرآن (4477) , ومسلم: الإيمان (86) , والترمذي: تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي: تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود: الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وأخرج الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال قال: " قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه: لا تقل نبي، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين، فأتيا رسول الله صلي الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا للفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت. فقبلا يديه ورجليه. وقالا: نشهد أنك نبي " 1 الحديث. وقال: حسن صحيح. قوله: "السحر" تقدم معناه. وهذا وجه مناسبة الحديث للترجمة. وقوله: " " وقتل النفس التي حرم الله " أي حرم قتلها. وهي نفس المسلم المعصوم. قوله: " إلا بالحق" أي بأن تفعل ما يوجب قتلها، كالشرك، والنفس بالنفس، والزاني بعد الإحصان، وكذا قتل المعاهد، كما في الحديث: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة " 2. واختلف العلماء فيمن قتل مؤمنا متعمدا، وهل له توبة أم لا؟ فذهب ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما إلى أنه لا توبة له، استدلالا بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} 3وقال ابن عباس: " نزلت هذه الآية وهي آخر ما نزل، وما نسخها شيء". وفي رواية: "لقد نزلت في آخر ما نزل، وما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلي الله عليه وسلم وما نزل وحي" 4 وروي في ذلك آثار تدل لما ذهب إليه هؤلاء، كما عند الإمام أحمد والنسائي وابن المنذر عن معاوية: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ?"5. وذهب جمهور الأمة سلفا وخلفا إلى أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله، فإن تاب وأناب وعمل صالحا بدل الله سيئاته حسنات، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامايُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناًإِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} 6. الآيات. قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} 7 قال أبو هريرة وغيره: " هذا جزاؤه إن جازاه".   1 ضعيف. الترمذي: كتاب الاستئذان (2733) : باب ما جاء في قبلة اليد والرجل وقال: حسن صحيح. كتاب التفسير (3144) باب: ومن تفسير سورة بني إسرائيل. وقال: حسن صحيح. وأشار إلى ضعفه ابن كثير في التفسير (3/67) . 2 البخاري: الجزية (3166) , والنسائي: القسامة (4750) , وابن ماجه: الديات (2686) , وأحمد (2/186) . 3 سورة النساء آية: 93. 4 البخاري: كتاب التفسير (4590) : باب ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ومسلم: كتاب التفسير (3023) (16) . 5 صحيح. أحمد (4/99) . والنسائي (7/81) : كتاب تحريم الدم. وصححه الألباني لشواهده في الصحيحة (511) . 6 سورة الفرقان آية: 68-69-70. 7 سورة النساء آية: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وقد روي عن ابن عباس ما يوافق قول الجمهور، فروى عبد بن حميد والنحاس عن سعيد بن عبادة أن ابن عباس رضي الله عنه كان يقول: "لمن قتل مؤمنا توبة". وكذلك ابن عمر -رضي الله عنهما-. وروى مرفوعا: "أن جزاءه جهنم إن جازاه". قوله: "وأكل الربا" أي تناوله بأي وجه كان، كما قال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} 1 الآيات. قال ابن دقيق العيد: "" وهو مجرب لسوء الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك". قوله: "وأكل مال اليتيم" يعني التعدي فيه. وعبر بالأكل؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 2. قوله: " والتولي يوم الزحف " أي الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال. كما قيد به في الآية3. وعن جندب مرفوعا: " حد الساحر ضربه بالسيف " 4. رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف. قوله: "وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" وهو بفتح الصاد: المحفوظات من الزنا، وبكسرها: الحافظات فروجهن منه، والمراد بالحرائر العفيفات، والمراد رميهن بزنا أو لواط. والغافلات، أي عن الفواحش وما رمين به. فهو كناية عن البريئات; لأن الغافل بريء عما بُهت به. والمؤمنات، أي بالله تعالى احترازا من قذف الكافرات. قوله: "وعن جندب مرفوعا: " حد الساحر ضربه بالسيف ". رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف". قوله: "عن جندب" ظاهر صنيع الطبراني في الكبير أنه جندب بن عبد الله البجلي. لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر؛ فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي صلي الله عليه وسلم. وخالد العبد ضعيف. قال   1 سورة البقرة آية: 275. 2 سورة النساء آية: 10. 3 في سورة الأنفال (8: 15و16) (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله) . 4 ضعيف. الترمذي: كتاب الحدود (1460) : باب ما جاء في حد الساحر. والحديث ضعفه الحافظ في الفتح (10/236) . وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2698) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 الحافظ: والصواب أنه غيره. وقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير: "أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات; وقال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول ... فذكره". وجندب الخير: هو جندب بن كعب، وقيل: جندب بن زهير، وقيل: هما واحد، كما قال ابن حبان: أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي. روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " يضرب ضربة واحدة فيكون أمة واحدة ". قوله: " " حد الساحر ضربه بالسيف ". وروي بالهاء وبالتاء، وكلاهما صحيح. وبهذا الحديث أخذ مالك وأحمد وأبو حنيفة فقالوا: يقتل الساحر. وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وحفصة، وجندب بن عبد الله، وجندب بن كعب، وفي صحيح البخاري عن بَجالة بن عَبْدة قال: " كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر ". وصح عن حفصة -رضي الله عنها- " أنها أمرت بقتل جارية سحرتها، فقتلت ". وكذلك صح عن جندب. وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز. ولم ير الشافعي القتل عليه بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر. وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن أحمد. والأول أولى للحديث ولأثر عمر، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير. قال "وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: " كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر " 1. هذا الأثر رواه البخاري كما قال المصنف -رحمه الله-، لكن لم يذكر قتل السواحر. قوله: "عن بجالة" بفتح الموحدة بعدها جيم، ابن عبدة بفتحتين، التميمي العنبري بصري ثقة. قوله: "كتب إلينا عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة". وظاهره أنه يقتل من غير استتابة. وهو كذلك على المشهور عن أحمد، وبه قال مالك؛ لأن علم السحر لا يزول بالتوبة. وعن أحمد يستتاب; فإن تاب قبلت توبته. وبه قال الشافعي؛ لأن ذنبه لا يزيد عن الشرك، والمشرك يستتاب وتقبل توبته، ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم. قوله: "وصح عن " حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت ". هذا الأثر رواه مالك في الموطأ.   1 237- البخاري: كتاب فرض الخمس (3156) : باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. ولفظه كالآتي: عن بجالة بن عبدة قال: "كنت كاتبا لجزء بن معاوية بن عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس, ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية النساء. الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت. والفرق بينهما. الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن وقد يكون من الإنس. الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي. السادسة: أن الساحر يكفر. وحفصة: هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة، وماتت سنة خمس وأربعين. قوله: "وكذلك صح عن جندب" أشار المصنف بهذا إلى قتله الساحر كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال: "كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنسانا وأبان رأسه فعجبنا، فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله". ورواه البيهقي في الدلائل مطولا. وفيه: "فأمر به الوليد فسجن". فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة. قوله: "قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم". أحمد: هو الإمام ابن محمد بن حنبل1. قوله: "عن ثلاثة" أي صح قتل الساحر عن ثلاثة، أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم يعني عمر، وحفصة، وجندبا. والله أعلم.   1 الإمام الجليل, ناصر السنة وقامع البدعة, الصابر المحتسب في الله ولله على ما لقي في نصر دين الله, العلم الحافظ الحجة. ولد سنة 164، ومات سنة241. قال الشافعي -رحمه الله-: (خرجت من بغداد وما خلفت فيها أفقه ولا أورع ولا أزهد من أحمد بن حنبل) . رحمة الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 السابعة: أنه يُقتل ولا يستتاب. الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 باب: " بيان شيء من أنواع السحر" قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن حيان بن العلاء حدثنا   قوله: باب "بيان شيء من أنواع السحر". قلت: ذكر الشارح -رحمه الله تعالى- هاهنا شيئا من الخوارق وكرامات الأولياء، وذكر ما اغتر به كثير من الناس من الأحوال الشيطانية التي غرت كثيرا من العوام والجهال، وظنوا أنها تدل على ولاية من جرت على يديه ممن هو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، ثم قال: "" ولشيخ الإسلام كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" فراجعه". انتهى. قال -رحمه الله تعالى-: "قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قَطَن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إنّ العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت " قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض، والجبت: قال الحسن: "رنة الشيطان". إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه: المسند منه". قوله: "قال أحمد" هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل. ومحمد بن جعفر هو المشهور بغندر الهذلي البصري، ثقة مشهور، مات سنة ست ومائتين. وعوف هو ابن أبي جميلة - بفتح الجيم - العبدي البصري، المعروف بعوف الأعرابي، ثقة مات سنة ست أو سبع وأربعين، وله ست وثمانون سنة. قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت " 1. قال عوف: "العيافة: زجر الطير. والطرق: الخط يخط بالأرض "2. والجبت: قال الحسن: " رنة الشيطان". إسناد جيد. وحيان بن العلاء هو بالتحتية، ويقال: حيان بن مخارق، أبو العلاء البصري، مقبول. وقطن، بفتحتين أبو سهل البصري صدوق. قوله: "عن أبيه" هو قبيصة - بفتح أوله - ابن مخارق - بضم الميم - أبو عبد الله الهلالي. صحابي، نزل البصرة.   1ضعيف. أحمد (3/477) , (5/60) ، وأبو داود: كتاب الطب (3907) : باب في الخط وزجر الطير, والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (8/275) ، وابن حبان (1426-موارد) . وضعفه الألباني في تخريج رياض الصالحين (1668) . 2 هو ما يسمونه خط الرمل وعلمه, وهو ذائع بين أهل العصر, ولبعضهم فيه تأليف، وقد يتعيش به كثير من المتكهنين يغرون به البله والجهلة; زاعمين أنهم يطلعون على المغيبات وهم كاذبون; فإن هذا العلم بل الجهل لا يقصد به إلا خداع الناس، وأكل أموالهم بالباطل, وقد بحثت في قواعده فوجدته -كما ذكرت لك- رجما بالغيب، وهو من الجبت كما في الحديث. فيجب على المؤمنين بالله الكفر به. ومثله ما يسمونه علم قراءة الكف، وقراءة الفنجان، ومناجاة حب البن ونحوه. كل ذلك دجل وسحر واستمتاع كل من شياطين الجن والإنس ببعضهم. نسأل الله العافية للمسلمين من هذه الأمراض الفتاكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 قوله: " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت ". قال عوف: العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، هو من عادات العرب، وكثير في أشعارهم. يقال: عاف يعيف عيفا، إذا زجر وحدس وظن. قوله: "والطرق: الخط يخط بالأرض" كذا فسره عوف، وهو كذلك. وقال أبو السعادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء. وأما الطيرة فيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى. قوله: "من الجبت" أي السحر. قال القاضي: والجبت في الأصل الفشل الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله، وللساحر والسحر. قوله: "قال الحسن: رنة الشيطان" قلت: ذكر إبراهيم بن محمد بن مفلح أن في تفسير بقي بن مخلد أن إبليس رن أربع رنات: رنة حين لُعن، ورنة حين أُهبط; ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد " 1. رواه أبو داود، وإسناده صحيح. ورنة حين ولد رسول الله صلي الله عليه وسلم، ورنة حين نزلت فاتحة الكتاب. قال سعيد بن جبير: "لما لعن الله تعالى إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورن رنة، فكل رنة منها في الدنيا إلى يوم القيامة ". رواه ابن أبي حاتم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما فتح رسول الله صلي الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده". رواه الحافظ الضياء في المختارة. الرنين: الصوت. وقد رن يرن رنينا، وبهذا يظهر معنى قول الحسن -رحمه الله تعالى-.   1حسن. أبو داود: كتاب الطب (3905) : باب في النجوم، وأحمد (1/277,311) ، وابن ماجة كتاب الأدب (3726) : باب تعلم النجوم. وصححه الألباني في صحيح الجامع (5950) ، وفي الصحيحة (793) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 قوله: "ولأبي داود وابن حبان في صحيحه: المسند منه" ولم يذكر التفسير الذي فسره به عوف. وقد رواه أبو داود بالتفسير المذكور بدون كلام الحسن. قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد ". رواه أبو داود بإسناد صحيح". وكذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجه. قوله: "من اقتبس" قال أبو السعادات: " قبست العلم واقتبسته إذا علمته" اهـ1. قوله: "شعبة" أي طائفة من علم النجوم. والشعبة الطائقة. ومنه الحديث: ? " الحياء شعبة من الإيمان " 2. أي جزء منه. وللنسائي من حديث أبي هريرة: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك. ومن تعلق شيئا وكل إليه " 3. قوله: "فقد اقتبس شعبة من السحر" المحرم تعلمه. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " فقد صرح رسول الله صلي الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر". وقال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 4. قوله: "زاد ما زاد" أي كلما زاد من تعلم علم النجوم زاد في الإثم الحاصل بزيادة الاقتباس5 من شعبه، فإن ما يعتقده في النجوم من التأثير باطل، كما أن تأثير   1 أصله مأخوذ من القبس, وهو القليل من النار ليستدفئ به. قال موسى لأهله: (امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) . 2 البخاري: الإيمان (9) , ومسلم: الإيمان (35) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5006) , وأبو داود: السنة (4676) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/414 ,2/442) . 3 ضعيف. النسائي: كتاب تحريم الدم (7/112) (4079) : باب الحكم في السحرة. وضعفه الذهبي في الميزان (2/378) . وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5714) . 4 سورة طه آية: 69. 5 الوعيد لمن يتعلم منه ما يؤدي إلى الكفر كادعاء علم الغيب، كما في كتيب ينسب إلى أبي معشر، وهو شائع بين السحرة الذين يتسمون بأسماء إسلامية يغرون به النساء وضعفة العقول. وقد تمدن الشياطين وإخوانهم من سحرة هذا الزمان في البلاد المتمدنة، فاخترعوا أسماء للسحر جديدة وصورا كذلك, مثل اسم التنويم المغناطيسي، ومناجاة الأرواح، واستحضارها بأنواع من الحيل والتعازيم المتمدنة أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 السحر باطل1. قوله: "وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر. ومن سحر فقد أشرك. ومن تعلق شيئا وكل إليه " هذا حديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي. وقد رواه النسائي مرفوعا وحسنه ابن مفلح. قوله: "وللنسائي" هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب السنن وغيرها. وروى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة وخلق، وكان إليه المنتهى في العلم بعلل الحديث، مات سنة ثلاث وثلاثمائة، وله ثمان وثمانون سنة رحمه الله تعالى. قوله: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر" اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة، حتى ينعقد ما يريدون من السحر، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 2 يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث هو النفخ مع الريق، وهو دون التفل. والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده المسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقدة نفخا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقارن للريق الممازج لذلك، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه بإذن الله الكوني القدري لا الشرعي، قاله ابن القيم -رحمه الله تعالى-. قوله: " " ومن سحر فقد أشرك " نص في أن الساحر مشرك؛ إذ لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم.   1 علم النجوم علمان: علم يعرف به سيرها ومدارها ومنازلها وأبعادها وأحجامها. وهذا علم الفلك لا بأس بتعلمه والعمل به. وعلم يعرف بالعلم الروحاني, يزعمون أنه معرفة روحانية النجوم والكواكب وتأثيرها في الأرض ومن عليها بالأمراض والحروب والضيق والسعة والموت والحياة، والسعادة والشقاوة بين الزوجين إذا عقد قرانهما عند اقتران كذا من النجوم والكواكب بكذا. ولهم في ذلك ما يسمونه بالطالع, ويعملون جدولا بالحوادث التي ستحدث في العام كله من حوادث عامة وخاصة. وهذا هو الدجل والكذب. وهو نوع من السحر واستخدام الشياطين والقول على الله بلا علم. 2 سورة الفلق آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 قوله: " ومن تعلق شيئا وكل إليه " أي من تعلق قلبه شيئا; بحيث يعتمد عليه ويرجوه، وكله الله إلى ذلك الشيء. 1 فمن تعلق على ربه وإلهه وسيده ومولاه رب كل شيء ومليكه، كفاه ووقاه وحفظه وتولاه، فنعم المولى ونعم النصير. قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 2. ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين، وكله الله إلى من تعلقه فهلك، ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق ونظر بعين البصيرة رأى ذلك عيانا، وهذا من جوامع الكلم. والله أعلم. قال: "وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " ألا هل أنبئكم ما العَضْه؟ هي النميمة: القالة بين الناس ". رواه مسلم". هي النميمة: القالة بين الناس "3 رواه مسلم. ولهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن من البيان لسحرا " 4. قوله: "ألا هل أنبئكم" أخبركم و "العضه" بفتح المهملة وسكون المعجمة; قال أبو السعادات: هكذا يروى في كتب الحديث. والذي في كتب الغريب "ألا أنبئكم ما العِضَه" بكسر العين وفتح الضاد. قال الزمخشري: أصلها "العضهة" فعلة من العضه وهو البهت. فحذفت لامه، كما حذفت من السنة والسفه، وتجمع على "عضين"، ثم فسره بقوله: "هي النميمة: القالة بين الناس"، فأطلق عليها "العضه"؛ لأنها لا تنفك من الكذب والبهتان غالبا. ذكره القرطبي. وذكر ابن عبد البر عن يحيى ابن أبي كثير قال: "يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة". وقال أبو الخطاب في عيون المسائل: ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس. قال في الفروع: ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة، أشبه السحر، وهذا يعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله السحر أو أكثر، فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين. لكن يقال: الساحر إنما يكفر لوصف السحر وهو أمر خاص ودليله خاص، وهذا ليس بساحر. وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة. انتهى ملخصا.   1 ومن قصر تعلق قلبه على الله وحده كفاه كما قال تعالى: (65: 3) (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) . وقال: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) . وهذا التعلق هو روح الإيمان وخلاصة التوحيد, فمن تعلق قلبه بغير الله يرجوه في دفع ضر أو جلب نفع فقد أشرك بالله أعظم الشرك. 2 سورة الزمر آية: 36. 3 مسلم: البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437) . 4 البخاري: النكاح (5146) , والترمذي: البر والصلة (2028) , وأبو داود: الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك: الجامع (1850) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة. وهو يدل على تحريم النميمة، وهو مجمع عليه. قال ابن حزم -رحمه الله-: " اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة". وفيه دليل على أنها من الكبائر. قوله: "القالة بين الناس". قال أبو السعادات: أي كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس. ومنه الحديث: " فشت القالة بين الناس "1. قال: "ولهما عن ابن عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن من البيان لسحرا ". البيان: البلاغة والفصاحة. قال صعصعة فيه مسائل: الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. الثانية: تفسير العيافة والطرق. الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر. الرابعة: العقد مع النفث من ذلك. الخامسة: أن النميمة من ذلك. السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة. بن صوحان: "صدق نبي الله؛ فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق". وقال ابن عبد البر: " تأولته طائفة على الذم؛ لأن السحر مذموم، وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح؛ لأن الله تعالى مدح البيان. قال: وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله. قال: "هذا والله السحر الحلال"". انتهى. والأول أصح، والمراد به البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس، كما قال بعضهم: في زخرف القول تزيين لباطله ... والحق قد يعتريه سوء تعبير مأخوذ من قول الشاعر: تقول هذا مُجاج النحل تمدحه ... وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير قوله: " إن من البيان لسحرا ". هذا من التشبيه البليغ؛ لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق، فيستميل به قلوب الجهال، حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق، ونسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى. وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره، ويبطل الباطل ويبينه، فهذا هو الممدوح، وهكذا حال الرسل وأتباعهم، ولهذا علت مراتبهم في الفضائل وعظمت حسناتهم.   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وبالجملة فالبيان لا يحمد إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، وتغطية الحق، وتحسين الباطل. فإذا خرج إلى هذا فهو مذموم، وعلى هذا تدل الأحاديث كحديث الباب وحديث: " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها " 1. رواه أحمد وأبو داود.   1 حسن. أحمد (2/165,187) . أبو داود: كتاب الأدب (5005) : باب ما جاء في المتشدق في الكلام والترمذي: كتاب الأدب (2853) : باب ما جاء في الفصاحة والبيان وقال: حديث حسن غريب. من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-. وحسنه الألباني في الصحيحة (880) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 باب: " ما جاء في الكهان ونحوهم" روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من   قوله: "باب ما جاء في الكهان ونحوهم". "الكاهن" هو الذي يأخذ عن مسترق السمع، وكانوا قبل المبعث كثيرا. وأما بعد المبعث فإنهم قليل؛ لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنه الجاهل كشفا وكرامة1، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن وليا لله، وهو من أولياء الشيطان، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً   1 والواقع أن ذلك من تآلف روح الشيطان القرين مع روح قرينه الإنسان الخبيث، فيتناجيان ويتكلم الشيطان مع قرينه بما يحب من الأخبار التي يتلقاها الشيطان عن الشيطان الآخر قرين الإنسان الآخر. وهكذا فإن لكل إنسان قرينا من الشيطان كما جاء ذلك في القرآن والسنة. فيخبر شيطان الإنس بما أوحى إليه شيطان الجن من أخبار السائل وأحواله في منزله وخصوصية نفسه مما ألقاه إليه الشيطان القرين, فيظن الجهلة والمغفلون أن ذلك عن صلاح وتقوى وكرامات، وأنه بصلاحه قد كشف الحجاب عنه. وهذا من أضل الضلال ومن أعظم الخذلان، وإن اعتقده وخدع به كثير ممن ينتسب إلى ظاهر العلم والصلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1. قوله: " روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما ". قوله: "عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم" هي حفصة، ذكره أبو مسعود الثقفي؛ لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها. قوله: " من أتى عرافا" سيأتي بيان العراف إن شاء الله تعالى. وظاهر هذا الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله، سواء صدقه أو شك في خبره. فإن في بعض روايات الصحيح: " من أتى عرافا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ". قوله: " لم تقبل له صلاة" إذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسئول؟ قال النووي وغيره: معناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث; فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة. اهـ ملخصا. وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه قال القرطبي: " يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينتسب إلى العلم؛ فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور". وعن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من أتى   1 سورة الأنعام آية: 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم " 1 رواه أبو داود. وللأربعة والحاكم –وقال: صحيح على شرطهما- عن النبي صلي الله عليه وسلم2: " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم "3. قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ". رواه أبو داود"4. وفي رواية أبي داود: " أو أتى امرأة - قال مسدد: امرأته حائضا- أو أتى امرأة. قال مسدد: امرأته في دبرها - فقد برئ مما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ". فناقل هذا الحديث من السنن حذف منه هذه الجملة، واقتصر على ما يناسب الترجمة. قال: "وللأربعة والحاكم- وقال: صحيح على شرطهما- عن النبي صلي الله عليه وسلم: " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ". هكذا بيض المصنف لاسم الراوي. وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا. قوله " من أتى كاهنا" قال بعضهم: لا تعارض بين هذا وبين حديث: " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ". هذا على قول من يقول: هو كفر دون كفر، أما على قول من يقول بظاهر الحديث فيسأل عن وجه الجمع بين الحديثين. وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان. وكان غالب الكهان قبل النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين. قوله: " فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم". قال القرطبي: " المراد بالمنزل الكتاب والسنة". اهـ. وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر، فلا ينقل عن الملة، أم يتوقف فيه فلا يقال: يخرج عن الملة ولا لا يخرج؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى. قال: "ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا": أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف كالمسند وغيره. روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر ابن أبي شيبة وخلق، وكان من الأئمة   1 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/429) , والدارمي: الطهارة (1136) ، وصححه الألباني في الإرواء (2006) . 2 بياض بالأصل. 3 الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/476) , والدارمي: الطهارة (1136) . 4 صحيح: أحمد (2/429) . والبيهقي (8/135) . والحاكم (1/8) . عن أبي هريرة مرفوعا وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قال الألباني في الإرواء (7/69) : "وهو كما قالا" اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 الحفاظ; مات سنة سبع وثلاثمائة. وهذا الأثر رواه البزار أيضا ولفظه: " من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم " 1. وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به، وذلك كفر أيضا2. قال: "وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعا: 3 " ليس منا من تَطير أو تُطيِّر له، أو تَكهن أو تُكهِّن له، أو سَحر أو سُحر له. ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد" (رواه البزار بإسناد جيد) . ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى" إلى آخره. قال البغوي: " العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك". له. ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ". رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى كاهنا " " إلى آخره". قوله: "ليس منا"4 فيه وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وتقدم أن الكهانة والسحر كفر. قوله: "من تطير" أي فعل الطيرة "أو تطير له" أي قبل قول المتطير له وتابعه، كذا معنى "أو تكهن أو تكهن له" كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه، وكذلك من عمل الساحر له السحر. فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطاها فقد برئ منه رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ لكونها إما شركا كالطيرة، أو كفرا كالكهانة والسحر. فمن رضي بذلك وتابع عليه فهو كالفاعل لقبوله الباطل واتباعه. قوله: "رواه البزار" هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، أبو بكر البزار البصري صاحب   1 جيد. البزار (2067- كشف الأستار) . وقال المنذري في الترغيب (4/36) : "رواه البزار وأبو يعلى بإسناد جيد موقوفا) اهـ. وقال الحافظ في الفتح (10/217) : إسناده جيد. 2 وذلك لأن في الكتاب المنزل: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) . وقال في سورة الأنعام: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) . وقال في سورة الجن: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا من ارتضى من رسول) . فمن صدق العراف والكاهن فقد كذب بهذه الآيات, ومن كذبها كفر. 3 حسن. قال المنذري في الترغيب (4/33) : "رواه البزار بإسناد جيد" اهـ. وقال الهيثمي (5/117) : "ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة" اهـ. أما حديث ابن عباس فقال عنه المنذري (4/33) : "إسناده حسن" اهـ. 4 فيه دليل على نفي الإيمان الواجب, وهو لا ينافي ما تقدم من أن الطيرة شرك، وأن الكهانة كفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 المسند الكبير. وروى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين. قوله: "قال البغوي إلى آخره" البغوي - بفتحتين - هو الحسين بن مسعود الفراء الشافعي، صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان، كان ثقة فقيها زاهدا، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى. وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس ابن تيمية: " العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق". قوله: "العرّاف: الذي يدعي معرفة الأمور" ظاهره: أن العراف هو الذي يخبر عن الوقائع كالسرقة وسارقها والضالة ومكانها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: " إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف". وقال أيضا: " والمنجم يدخل في اسم العراف، وعند بعضهم هو معناه". وقال أيضا: " والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكى ذلك عن العرب. وعند آخرين: هو من جنس الكاهن، وأسوأ حالا منه، فيلحق به من جهة المعنى". وقال الإمام أحمد: " العرافة طَرَف من السحر. والساحر أخبث". وقال أبو السعادات: "" العراف المنجم، والحازر الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله تعالى به". وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرافا". والمقصود من هذا: معرفة أن من يدعي معرفة علم الشيء من المغيبات فهو إما داخل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به. وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف. ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية، ونعني بالجاهلية كل من ليس من أتباع الرسل -عليهم السلام-، كالفلاسفة والكهان والمنجمين، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلي الله عليه وسلم؛ فإن هذه علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلي الله عليه وسلم1، وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا أو عرافا أو في معناهما، فمن أتاهم فصدقهم يما يقولون لحقه الوعيد. وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة. ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إن الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن التقي، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها، بخلاف من يدعي أنه ولي ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات; فإن هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسبابا محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم في وصف الكهان: " فيكذبون معها مائة كذبة " 2. فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه؛ لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 3. وليس هذا من شأن الأولياء؛ فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها; وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس ويقولون: اعرفوا أننا أولياء، وأنا نعلم الغيب؟ وفي ضمن   1 ومعنى الجاهلية: الإعراض عن العلم المنزل من الله على رسله هدى ورحمة, والاعتماد على التقاليد والعادات والظنون والتخرصات, وما يوحي به الشياطين, ويحددها قول الله تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وقد عادت الجاهلية إلى الناس اليوم مثل الجاهلية الأولى وشرا منها, ولا يمنع وجود القرآن والحديث؛ لأنهم اتخذوهما مهجورين, فوجودهما حجة عليهم فقط, ولا يغرنك منهم عمائم ولحى وصور فما وراءها إلا جاهلية وعقلية عامية، قد تكون شرا من عقلية من يتبعون أذناب الإبل والبقر، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. 2 جزء من حديث عائشة. أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق (2210) : باب ذكر الملائكة. ومسلم: كتاب السلام (2228) (122) : باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان. 3 سورة النجم آية: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور. وحسبك بحال الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-، وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟ لا والله، بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن، كالصديق رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه وقال ابن عباس - في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم-: " ما أرى مَن فعل ذلك له عند الله من خلاق ". يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلا خوفا من النار، ثم يقوم إلى صلاته. ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور1. فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر، فكيف يكون المدعي لذلك وليا لله؟ ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش القلوب. نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة. قوله: "وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد إلى آخره". هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ضعيف. ولفظه: " رُبّ معلم حروف أبي جاد دارس في   1 قوله تعالى: (13: 19و20) (إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) الآيات إلى 24. وقوله: (13: 30) (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) . وقوله: (57: 22) (إن الذين هم عن خشية ربهم مشفقون) الآيات إلى (61) . وقوله: (63: 25) (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) الآيات إلى (76) . وقوله: (51: 15) (إن المتقين في جنات وعيون) الآيات إلى (19) . وقوله: (17: 52) (إن المتقين في جنات ونعيم) الآيات إلى (28) . هذا وفي القرآن الكريم صفات المؤمنين كثرة جدا; بل أكثر آي القرآن في وصف الإيمان وأهله; وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومن أدل الدلائل على أن الجهل ضرب على القلوب نطاقا كثيفا أن يعتقد الناس هذه الدرجة الرفيعة لعباد الرحمن في قوم يبولون على ثيابهم وهم في غاية القذر والوسخ, ولا يركعون لله ركعة; وقد سلبوا كل نعمة إلا الحيوانية; وربما تكلم الشيطان على ألسنتهم بالكلمة يفتن بها أولئك الجاهلين, ولا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 النجوم ليس له عند الله خلاق فيه مسائل: الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. الثانية: التصريح بأنه كفر. الثالثة: ذكر من تُكُهِّن له. الرابعة: ذكر من تُطير له. الخامسة: ذكر من سُحر له. السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد. السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف. يوم القيامة " 1ورواه أحمد بن زنجويه عنه بلفظ: " رب ناظر في النجوم، ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق ". قوله: "ما رأى" يجوز فتح الهمزة بمعنى: لا أعلم. ويجوز ضمها بمعنى: لا أظن. وكتابة "أبي جاد" وتعلمها لمن يدعي بها علم الغيب هو الذي يسمى علم الحرف2، وهو الذي جاء فيه الوعيد، فأما تعلمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس به. قوله: "وينظرون في النجوم" أي ويعتقدون أن لها تأثيرا كما سيأتي في باب التنجيم. وفيه من الفوائد عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 3.   1 موضوع: الطبراني في الكبير (10980) عن ابن عباس مرفوعا. وقال الهيثمي (5/117) : "وفيه خالد بن زيد العمري وهو كذاب" اهـ. وأما الموقوف عن ابن عباس فرواه عبد الرزاق (11/26) ، والبيهقي (8/139) عن ابن عباس وسنده صحيح. 2 وينسبه الدجالون المشركون إلى جعفر الصادق، ولهم في ذلك كلام كثير في منتهى الكفر، والظاهر أنه من وضع الرافضة الذين استجابوا لسلفهم اليهود فأعملوا في هدم الإسلام كل معول. 3 سورة غافر آية: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 باب: " ما جاء في النُّشْرة" عن جابر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم سئل عن النُّشرة؟ فقال: " هي من عمل الشيطان ?" 1. رواه أحمد بسند جيد. وأبو داود وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.   قوله: "باب ما جاء في النشرة". بضم النون; كما في القاموس. قال أبو السعادات: النشرة ضرب من العلاج والرقية،   1 أحمد (3/294) . وأبو داود: كتاب الطب (3868) : باب في النشرة. وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/73) : "إسناده جيد" اهـ. وحسنه الحافظ في الفتح (10/233) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 يعالج به من يظن أن به مسا من الجن، سميت نشرة؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال. قال الحسن: النشرة من السحر. وقد نشرت عنه تنشيرا، ومنه الحديث: " فلعل طبا أصابه، ثم نشره بقل أعوذ برب الناس " أي رقاه. وقال ابن الجوزي: " النشرة حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر". قال: "عن جابر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلي الله عليه وسلم: " سئل عن النشرة؟ فقال: هي من الشيطان ". رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود وقال: سئل أحمد عنها، فقال: ابن مسعود يكره هذا كله". هذا الحديث رواه أحمد ورواه عنه أبو داود في سننه. والفضل بن زياد في كتاب المسائل عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن جابر فذكره. قال ابن مفلح: إسناد جيد. وحسن الحافظ إسناده. قوله: "سئل عن النشرة" والألف واللام في "النشرة" للعهد، أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها هي من عمل الشيطان. قوله: "وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله" أراد أحمد وفي البخاري عن قتادة: " قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيُحل عنه أو يُنْشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه ". اهـ. وروي عن الحسن أنه قال: " لا يحل السحر إلا ساحر ". -رحمه الله- أن ابن مسعود يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان كما يكره تعليق التمائم مطلقا. قوله: "وللبخاري عن قتادة: قلت لابن المسيب: " رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيُحَل عنه، أو يُنَشّر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه ". قوله: "عن قتادة" هو ابن دعامة- بكسر الدال- الدوسي، ثقة فقيه من أحفظ التابعين. قالوا: إنه ولد أكمه، مات سنة بضع عشرة ومائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 قوله: "رجل به طب" بكسر الطاء أي سحر، يقال: طُبّ الرجل- بالضم- إذا سحر. ويقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا، كما يقال للديغ: سليم. وقال ابن الأنباري: " الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء: طب، والسحر من الداء يقال له: طب". قوله: "يؤخّذ" بفتح الواو مهموزة وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة. أي يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها. والأخذة- بضم الهمزة- الكلام الذي يقوله الساحر. قوله: "أيُحل" بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول. قوله: "أو ينشر" بتشديد المعجمة. قوله: "لا بأس به" يعني أن النشرة لا بأس بها؛ لأنهم يريدون بها الإصلاح، أي إزالة السحر، ولم ينه عما يراد به الإصلاح، وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر. قوله: "وروى الحسن أنه قال: " لا يَحُل السحر إلا ساحر " هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد. والحسن هو ابن أبي الحسن واسمه: يسار- بالتحتية والمهملة- البصري الأنصاري مولاهم، ثقة فقيه، إمام من خيار التابعين. مات سنة عشر ومائة رحمه الله، وقد قارب التسعين. قال ابن القيم: " النشرة حل السحر عن المسحور. وهي نوعان: " أحدهما" حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان. وعليه يُحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. " والثاني" النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة. فهذا جائز". فيه مسائل: الأولى: النهي عن النشرة. الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه عما يزيل الإشكال. قوله: "قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور. وهي نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان إلى آخره". ومما جاء في صفة النشرة الجائزة: ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث ابن أبي سليم قال: "بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور1 الآية التي في سورة يونس: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 2. وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3 إلى آخر الآيات الأربع. وقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 4. وقال ابن بطال: " في كتاب وهب بن منبه: أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به يذهب عنه كل ما به، هو جيد للرجل إذا حبس عن أهله". قلت: قول العلامة ابن القيم: " والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهذا جائز" يشير -رحمه الله- إلى مثل هذا، وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء. والحاصل: أن ما كان منه بالسحر فيحرم، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز. والله أعلم.   1 مثل هذا لا يعمل فه برأي ليث بن أبي سليم، ولا برأي ابن القيم (*) ولا غيرهما; وإنما يعمل بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم شيء مما يقول ابن أبي سليم ولا ابن القيم. وما ينقل عن وهب بن منبه فعلى سنة الإسرائيليين لا على هدى خير المرسلين. ومن باب هذا التساهل دخلت البدع ثم الشرك الأكبر. وعلى المؤمن الناصح لنفسه أن يعض بالنواجذ على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، ويتجنب المحدثات وإن كانت عمن يكون، فكل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (*) قوله: (مثل هذا لا يعمل فيه برأي ليث بن أبي سليم ولا برأي ابن القيم) الخ. أقول: اعتراض الشيخ خامد على ما ذكره الشارح عن ابن أبي سليم ووهب ابن منبه وابن القيم ليس في محله, بل هو غلط من الشيخ حامد؛ لأن التداوي بالقرآن الكريم والسدر ونحوه من الأدوية المباحة ليس من باب البدع، بل هو من باب التداوي, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عباد الله تداووا ولا تتداووا بحرام ". وثبت في سنن أبي داود في كتاب الطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ماء في إناء وصبه على المريض, وبهذا يعلم أن التداوي بالسدر، وبالقراءة في الماء وصبه على المرضى ليس فيه محذور من جهة الشرع, إذا كانت القراءة سليمة وكان الدواء مباحا, والله ولي التوفيق. 2 سورة يونس آية: 81-82. 3 سورة الأعراف آية: 118. 4 سورة طه آية: 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 باب: " ما جاء في التطير"   قوله: "باب ما جاء في التطير". أي من النهي عنه والوعيد فيه، مصدر تَطيّر يتطير، و "الطِّيرة" بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن: اسم مصدر من تطير طيرة، كما يقال تخير خيرة، ولم يجئ في المصادر على هذه الزنة غيرهما، وأصله التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشارع وأبطله، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر. قال المدائني: "سألت رؤبة بن العجاج قلت: ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه. قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره. والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك فهو القاعد والقعيد". ولما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته1 ذكرها المصنف -رحمه الله- في كتاب التوحيد تحذيرا مما ينافي كمال التوحيد الواجب. وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2. وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 3. قوله: "وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} الآية" ذكر تعالى هذه الآية في سياق قوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} الآية. المعنى: أن آل فرعون كانوا إذا أصابتهم الحسنة -أي الخُصْب والسعة والعافية، كما فسره مجاهد وغيره- قالوا: لنا هذه، أي نحن الجديرون والحقيقون به، ونحن أهله. وإن تصبهم سيئة. أي بلاء وقحط تطيروا بموسى ومن معه، فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم. فقال الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} . قال ابن عباس: "طائرهم: ما قضى   1 وذلك بتعلق القلب بها خوفا وطمعا, ومنافاتها للتوكل على الله الذي لا ينفع ولا يضر غيره, واعتقاد النفع والضر في طائر ونحوه لا علم عنده ولا قصد, وإنما تذهب وتجيء في ضرورة معايشها وشئونها. فاعتقاد أن لهذه الحركات ذات اليمين وذات الشمال أثرا في جلب خير أو دفع ضر من سخف العقول وفساد الفطر, وتمكن الخرافات والجهل وعمى القلوب. وهذا اعتقاد المنجمين في النجوم التي سخرها الله تعالى تجري في بروجها ومداراتها المستقر لها, اعتقدوا لها تأثيرا في الكون، وهو اعتقاد الصابئة الذين أرسل الله إليهم إبراهيم عليه السلام. 2 سورة الأعراف آية: 131. 3 سورة يس آية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 عليهم وقدر لهم". وفي رواية: "شؤمهم عند الله ومن قِبَله" أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله. قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1 أي أن أكثرهم جهال لا يدرون. ولو فهموا وعقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى -عليه السلام- إلا الخير والبركة والسعادة والفلاح لمن آمن به واتبعه. قوله: " وقوله تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الآية" المعنى- والله أعلم-: حظكم وما نابكم من شر معكم، بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا. بل ببغيكم وعدوانكم. فطائر الباغي الظالم معه، فما وقع به من الشر فهو سببه الجالب له. وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله; كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 2. ويحتمل أن يكون المعنى: طائركم معكم. أي راجع عليكم، فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم. وهذا من باب القصاص في الكلام. ونظيره قوله -عليه الصلاة والسلام-: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم " 34. ذكره ابن القيم رحمه الله. قوله تعالى: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} 5 أي من أجل أنَّا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله قابلتمونا بهذا الكلام؟ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 6. قال قتادة: " أإن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا؟ " ومناسبة الآيتين للترجمة: أن التطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين. وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم; وقد نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم عن التطير وأخبر أنه شرك. كما سيأتي في أحاديث الباب. قال: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صَفَر " 7. أخرجاه. زاد مسلم: " ولا نوء ولا غول " 8". قال أبو السعادات: "العدوى" اسم من الإعداء. كالدعوى. يقال: أعداه الداء يعديه إعداء: إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء.   1 سورة الأنعام آية: 37. 2 سورة القلم آية: 35-36. 3 البخاري: الاستئذان (6258) , ومسلم: السلام (2163) , وابن ماجه: الأدب (3697) , وأحمد (3/99) . 4 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه. 5 سورة يس آية: 19. 6 سورة الأعراف آية: 81. 7 البخاري: كتاب الطب (5757) : باب لا هامة. دون الزيادة. ومسلم: كتاب السلام (2220) (106) : باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر عن أبي هريرة بزيادة "ولا نوء". ومسلم: كتاب السلام (2222) (107) : باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر بزيادة "ولا غول". 8 مسلم: السلام (2220) , وأبو داود: الطب (3912) , وأحمد (2/397) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وقال غيره: "لا عدوى" هو اسم من الإعداء، وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، والمنفي نفس سراية العلة أو إضافتها إلى العلة. والأول هو الظاهر. وفي رواية لمسلم: أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى، ويحدث عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " لا يُورد مُمرِض على مُصِح " 1. ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث: " لا يورد ممرض على مصح ". وأمسك عن حديث: " لا عدوى "، فراجعوه وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يعترف به. قال أبو مسلمة- الراوي عن أبي هريرة-: فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر؟ وقد روى حديث: " لا عدوى " جماعة من الصحابة: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله; والسائب بن يزيد، وابن عمر وغيرهم، وفي بعض روايات هذا الحديث: " وفِرّ من المجذوم كما تفر من الأسد " 2. وقد اختلف العلماء في ذلك. وأحسن ما قيل فيه: قول البيهقي، وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم: أن قوله: " لا عدوى " على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وإن هذه الأمور تعدي بطبعها. وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سببا لحدوث ذلك، ولهذا قال: " فر من المجذوم كما تفر من الأسد ". وقال: " لا يورد ممرض على مصح ". وقال في الطاعون: " من سمع به في أرض فلا يقدم عليه " 3. وكل ذلك بتقدير الله تعالى. ولأحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعا: " لا يعدي شيء قالها ثلاثا، فقال أعرابي: يا رسول الله إن النُّقْبَة4 من الجَرَب تكون بمِشْفَر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصائبها ورزقها " 5. فأخبر صلي الله عليه وسلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية. فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء وفي النار، مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر، فكذلك اجتنب مقاربة المريض كالمجذوم، والقدوم على بلد الطاعون؛ فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف،   1 مسلم: السلام (2221) , وأحمد (2/434) . 2 أخرجه البخاري تعليقا: كتاب الطب (10/158) : باب الجذام وقد وصله أبو نعيم في المستخرج بسند صحيح وراجع الفتح (10/158) ، النسائي: الخيل (3578) , وأبو داود: الجهاد (2513) , وأحمد (4/148) , والدارمي: الجهاد (2405) . 3 صحيح. أحمد (1/440) , والترمذي: كتاب القدر (2143) : باب ما جاء لا عدوى ولا هامة ولا صفر. وإسناده صحيح كما قال الألباني في الصحيحة (3/143) . (1) النقبة -بضم النون وسكون القاف والباء الموحدة- أول شيء يظهر من الجرب، وجمعها: نقب؛ لأنها تنقب الجلد أي تخرقه. 5 الترمذي: الحدود (1448) , والنسائي: قطع السارق (4971 ,4972 ,4975) , وأبو داود: الحدود (4391) , وابن ماجه: الحدود (2591) , وأحمد (3/380) , والدارمي: الحدود (2310) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فالله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره. وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضاء الله وقدره، فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر، ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك، لا سيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة، وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي. " أن النبي صلي الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، ثم قال: كل بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه" 1. وقد أخذ به الإمام أحمد. وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان -رضي الله عنهم-. ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه أكل السم. ومنه مَشي سعد ابن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني على متن البحر. قال ابن رجب -رحمه الله-. قوله: "ولا طيرة" قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " يحتمل أن يكون نفيا أو نهيا أي لا تطيروا، ولكن قوله في الحديث: " لا عدوى ولا صفر ولا هامة " يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه". وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم: " ومنا أناس يتطيرون. قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم " 2. فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لما رآه وسمعه، فأوضح صلي الله عليه وسلم لأمته الأمر، وبيّن لهم فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السماوات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد، فقطع صلي الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم؛ لئلا يبقى فيها علقة منها، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة. فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استمكانها.   1 ضعيف. أبو داود: كتاب الطب (3925) : باب في الطيرة. الترمذي: كتاب الأطعمة (1818) : باب ما جاء في الأكل مع المجذوم. وابن ماجة: كتاب الطب (3542) : باب الجذام وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4200) . 2 مسلم: كتاب السلام (537) (121) : باب تحريم الكهانة وإيان الكهان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 قال عكرمة: " كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير. فقال له ابن عباس: لا خير ولا شر ". فبادره بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر. وخرج طاوس مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير. فقال طاوس: وأي خير عند هذا؟ لا تصحبني. اهـ ملخصا. وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة، كقوله صلي الله عليه وسلم: " الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار " 1. ونحو هذا. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " إخباره صلي الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله سبحانه، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانا مشئومة على من قاربها وساكنها، وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولدا مشئوما يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية وغيرها، فكذلك الدار والمرأة والفرس. والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له. ويخلق بعضها نحوسا يتنحس بها من قاربها. وكل ذلك بقضائه وقدره، كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة، كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة ولذذ بها من قاربها من الناس. وخلق ضدها وجعلها سببا لألم من قاربها من الناس، والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس، فكذلك في الديار والنساء والخيل. فهذا لون والطيرة الشركية لون". انتهى. قوله: "ولا هامة" بتخفيف الميم على الصحيح. قال الفراء: الهامة طير من طير الليل. كأنه يعني البومة. قال ابن الأعرابي: " كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نَعَتْ إليّ نفسي أو أحدا من أهل داري، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله". قوله: "ولا صفر" بفتح الفاء، روى أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال: " هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب. وعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى". وممن قال بهذا: سفيان بن عيينة والإمام أحمد والبخاري وابن جرير.   1 البخاري: كتاب الجهاد (2858) : باب ما يذكر من شؤم الفرس. مسلم: كتاب السلام (2225) (116) : باب الطيرة والفأل, وما يكون فيه من الشؤم. من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- بنحوه، وأخرجه بهذا اللفظ الترمذي: كتاب الأدب (2824) : باب ما جاء في الشؤم. والنسائي في الخيل (6/220) : باب شؤم الخيل. وابن ماجة: كتاب النكاح (995) : باب ما يكون فيه اليمن والشؤم. وأحمد (2/8,38) . من حديث ابن عمر أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وقال آخرون: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه، وهو قول مالك. وروى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول: أن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر، ويقولون: إنه شهر مشئوم; فأبطل النبي صلي الله عليه وسلم ذلك. قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء، وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة. قوله: "ولا نوء" النوء واحد الأنواء، وسيأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى. قوله: "ولا غول" هو بالضم اسم، وجمعه أغوال وغيلان، وهو المراد هنا. قال أبو السعادات: الغول واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس، تتلون تلونا في صور شتى وتغولهم، أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلي الله عليه وسلم وأبطله. فإن قيل: ما معنى النفي وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: 1 " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان " 2؟ أجيب عنه: بأن ذلك كان في الابتداء، ثم دفعها الله عن عباده. أو يقال: المنفي ليس وجود الغول، بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه، أو يكون المعنى بقوله: "لا غول " أنها لا تستطيع أن تضل أحدا مع ذكر الله والتوكل عليه. ويشهد له الحديث الآخر: " لا غول ولكن السعالي سحرة الجن " أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل. ومنه الحديث: " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان ". أي ادفعوا شرها بذكر الله. وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها أو عدمها. ومنه حديث أبي أيوب: " كان لي تمر في سَهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ". ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة " 3.   1 ضعيف. أخرجه أحمد (3/382,305) من حديث جابر رضي الله عنه. وسنده ضعيف كما أشار إلى ذلك الحافظ في تخريج الأذكار. ورواه الطبراني في الأوسط كما في الجامع الصغير عن أبي هريرة, وضعفه الألباني أيضا في ضعيف الجامع (535) . وقال الهيثمي في المجمع (10/134) : ((فيه عدي بن الفضل متروك)) اهـ. 2 قال السيوطي في الجامع الصغير: ((رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة وهو ضعيف)) . 3 البخاري: الطب (5757) , مسلم: السلام (2224) , والترمذي: السير (1615) ، وأبو داود: الطب (3911) , وأحمد (2/420 ,2/434) ، (3/173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 قوله: ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لاعدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة". قوله: "ويعجبني الفأل" قال أبو السعادات: الفأل، مهموز فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وربما استعملت فيما يسر. يقال: تفاءلت بكذا وتفاولت، على التحقيق والقلب، وقد أولع الناس بترك الهمزة تخفيفا، وإنما أحب الفأل؛ لأن الناس إذا أمّلوا فائدة الله ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله تعالى كان ذلك من الشر. وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله وتوقع البلاء. والتفاؤل: أن يكون رجل مريض فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته. ومنه الحديث: " قيل يا رسول الله ما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة ". قوله: "قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة". بيّن صلي الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه، فدل على أنه ليس من الطيرة المنهي عنها. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم صلي الله عليه وسلم: " أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطي?"1، وكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم. وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفوس وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال. فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفا وطيرة وانكماشا وانقباضا عما قصدت له وعزمت عليه; فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة الشرك. وقال الحليمي: " وإنما كان صلي الله عليه وسلم يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال".   1 صحيح. وذلك من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب, وجعلت قرة عيني في الصلاة ". أخرجه أحمد (3/128,199,285) ، والنسائي (7/61) في عشرة النساء: باب حب النساء. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 قوله: " ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: " ذكرت الطيرة عند رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك ". قوله: "عن عقبة بن عامر" هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه: عن عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما. وهو مكي اختلف في نسبه; فقال أحمد: عن عروة بن عامر القرشي، وقال غيره: الجهني. واختلف في صحبته، فقال الماوردي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال المزي: لا صحبة له تصح. قوله: "فقال: أحسنها الفأل" قد تقدم أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل. وروى الترمذي وصححه عن أنس رضي الله عنه: " أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع: يا نجيح، يا راشد " 1. وروى أبو داود عن بريدة: " أن النبي صلي الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا سأله عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه " 2. وإسناده حسن. وهذا فيه استعمال الفأل. قال ابن القيم: " أخبر صلي الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة وهو خيرها، فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما ومضرة الآخر، ونظير هذا: منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك؛ لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة". قوله: "ولا ترد مسلما" قال الطيبي: " تعريض بأن الكافر بخلافه". قوله: " اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ". أي لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع المكروهات، بل أنت وحدك لا شريك لك الذى تأتي بالحسنات وتدفع السيئات. و "الحسنات" هنا النعم، و "السيئات" المصائب؛ كقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ   1 صحيح الترمذي: كتاب السير (1616) : باب ما جاء في الطيرة. وقال: حسن غريب صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع (4854) . 2 صحيح. أبو داود: كتاب الطب (3920) : باب في الطيرة. وحسنه الحافظ في الفتح (10/215) . (*) وأخرجه أحمد أيضا (5/347-348) . وصححه الألباني في الصحيحة (762) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} 1. ففيه نفي تعليق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وهذا هو التوحيد، وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، ويعد من اعتقدها سفيها مشركا. قوله: "ولا حول ولا قوة إلا بك" استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببا لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها. وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات. و"الحول" التحول والانتقال من حال إلى حال. و "القوة" على ذلك بالله وحده لا شريك له. ففيه التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته. وهذا هو التوحيد في الربوبية، وهو الدليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، وهو توحيد القصد والإرادة، وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله. قوله: "وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: " الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل " 2. رواه أبو داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود". ورواه ابن ماجه وابن حبان. ولفظ أبي داود: " الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك ثلاثا ". وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى. قال ابن حمدان: " تكره الطيرة". وكذا قال غيره من أصحاب أحمد. قال ابن مفلح: " والأولى القطع بتحريمها؛ لأنها شرك، وكيف يكون الشرك مكروها الكراهية الاصطلاحية؟ " قال في شرح السنن: " وإنما جعل الطيرة من الشرك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن يُذْهِبُه بالتوكل "3. رواه أبو داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود. ولأحمد من حديث ابن عمرو: " مَنْ رَدَّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ الطيرة تجلب لهم نفعا أو تدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى". قوله: "وما منا إلا" قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري: " في الحديث إضمار. التقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك". اهـ.   1 سورة النساء آية: 78-88. 2 صحيح: أبو داود: كتاب الطب (3910) : باب في الطيرة. الترمذي: كتاب السير (1614) : باب ما جاء في الطيرة وقال: هذا حديث حسن صحيح. ابن ماجة: كتاب الطب (3538) : باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة. ابن حبان (1427- موارد) . وصححه الألباني في الصحيحة برقم (429) . وزيادة: "وما منا إلا ... " مدرجة كما نص على ذلك البخاري وغيره. راجع الترغيب والترهيب للمنذري (4/64) . 3 الترمذي: السير (1614) , وأبو داود: الطب (3910) , وابن ماجه: الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/440) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وقال الخلخالي: " حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة. وهذا من أدب الكلام". قوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل" أي لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده. قوله: "وجعل آخره من قول ابن مسعود" قال ابن القيم: " وهو من الصواب; فإن الطيرة نوع من الشرك". قال: " ولأحمد من حديث ابن عمرو: مَنَ رَدَّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: " اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك". هذا الحديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي إسناده ابن لهيعة1 وبقية رجاله ثقات. قوله: "من حديث ابن عمرو" وهو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد. وقيل: أبو عبد الرحمن; أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف2. قوله: " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك ". وذلك أن الطيرة هي التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع، فإذا رده شيء من ذلك عن حاجته التي عزم عليها كإرادة السفر ونحوه، فمنعه عما أراده وسعى فيه ما رأى وما سمع تشاؤما، فقد دخل في الشرك. كما تقدم، فلم يخلص توكله على الله بالتفاته إلى ما سواه فيكون للشيطان منه نصيب. قوله: "فما كفارة ذلك؟ " إلى آخره. فإذا قال ذلك وأعرض عما وقع في قلبه، ولم يلتفت   1 هو عبد الله بن لهيعة الحضرمي الغافقي المصري، قاضيها وعالمها ومسندها. قال الإمام أحمد: احترقت كتبه. وهو صحيح الكتاب. ومن كتب عنه قديما فسماعه صحيح. مات سنة 174. 2 واقعة الحرة وفتنة الحرة: الموقعة التي كانت من أهل الشام في أهل المدينة, بعث يزيد بن معاوية أهل الشام لقتال أهل المدينة حين امتنعوا عن بيعته، فغلبوا على أهلها واستباحوها ثلاثا, وقتل خلق كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، وكان ذلك سنة خمس وستين. (*) قوله: (وكان ذلك سنة خمس وستين) أقول: الصواب سنة ثلاث وستين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 إليه، كفّر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداء لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده، والإعراض عما سواه. وتضمن الحديث أن الطيرة لا تضر من كرهها ومضى في طريقه، وأما من لا يخلص توكله على الله واسترسل مع الشيطان في ذلك، فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله، وأن الخير كله بيده، فهو الذي يجلبه لعبده بمشيئته وإرادته، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه، فلا خير إلا منه، وهو الذي يدفع الشر عن عبده، فما أصابه من ذلك فبذنبه، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} 1. قوله: "وله من حديث الفضل بن عباس: " إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ". فيه مسائل: الأولى: التنبيه على قوله: " ألا إنما طائركم عند الله"، مع قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} . الثانية: نفي العدوى. الثالثة: نفي الطيرة. الرابعة: نفي الهامة. الخامسة: نفي الصفر. السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب. السابعة: تفسير الفأل. الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل. التاسعة: ذكر ما يقول من وجده. العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة. هذا الحديث عند الإمام أحمد من حديث الفضل بن عباس قال: " خرجت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم يوما، فبرّح ظبي، فمال في شقه فاحتضنته، فقلت: يا رسول الله تطيرت، فقال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ". وفي إسناده انقطاع، أي بين مسلمة راويه وبين الفضل. وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم. قال ابن معين: قتل يوم اليرموك. وقال غيره: قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. وقال أبو داود: قتل بدمشق. كان عليه درع رسول الله صلي الله عليه وسلم. قوله: " إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ". هذا حد الطيرة المنهي عنها: أنها ما يحمل الإنسان على المضي فيما أراده، ويمنعه من المضي فيه كذلك. وأما الفأل الذي كان يحبه النبي صلي الله   1 سورة النساء آية: 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 عليه وسلم فيه نوع بشارة، فيسر به العبد ولا يعتمد عليه بخلاف ما يمضيه أو يرده، فإن للقلب عليه نوع اعتماد. فافهم الفرق والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 باب: " ما جاء في التنجيم" قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: " خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين،   قوله: "باب ما جاء في التنجيم". قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية". وقال الخطابي: " علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وتغير الأسعار; وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها، يدّعون أن لها تأثيرا في السفليات، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر الله به، ولا يعلم الغيب سواه". قوله: "قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 زينة للسماء، ورجوما للشياطين; وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به". هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه. وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم. وأخرجه الخطيب في كتاب النجوم عن قتادة، ولفظه قال: "إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوما للشياطين. فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه وأضاع نصيبه; وتكلف ما لا علم له به، وإن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا. ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود، والطويل والقصير، والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذا الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء" انتهى1. فتأمل ما أنكره هذا الإمام مما حدث من المنكرات في عصر التابعين. وما زال الشر يزداد في كل عصر بعدهم حتى بلغ الغاية في هذه الأعصار، وعمت به البلوى في جميع الأمصار فمقل ومستكثر، وعز في الناس من ينكره، وعظمت المصيبة به في الدين. فإنا لله وإنا إليه راجعون. قوله: "خلق الله هذه النجوم لثلاث". قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} 2. وقال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 3. وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا، كما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من   1 في قرة العيون: وقول قتادة -رحمه الله تعالى- يدل على أن علم التنجيم هذا قد حدث في عصره، فأوجب له إنكاره على من اعتقده وتعلق به، هذا العلم مما ينافي التحيد ويوقع في الشرك؛ لأنه ينسب الحوادث إلى غير من أحدثها، وهو الله سبحانه بمشيئته وإرادته كما قال تعالى: (3: 35) (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) . وقال: (27: 65) (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون) . 2 سورة الملك آية: 5. 3 سورة النحل آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 دخان، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وزينها بمصابيح، وجعلها رجوما للشياطين، وحفظا من كل شيطان رجيم ". قوله: "وعلامات" أي دلالات على الجهات "يهتدى بها" أي يهتدي بها الناس في ذلك. كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 1 أي لتعرفوا بها جهة قصدكم، وليس المراد أنه يهتدى بها في علم الغيب، كما يعتقده المنجمون، وقد تقدم وجه بطلانه وأنه لا حقيقة له كما قال قتادة: "فمن تأول فيها غير ذلك" أي زعم فيها غير ما ذكر الله في كتابه من هذه الثلاث فقد أخطأ، حيث زعم شيئا ما أنزل الله به من سلطان، وأضاع نصيبه من كل خير؛ لأنه شغل نفسه بما يضره ولا ينفعه. فإن قيل: المنجم قد يصدق؟ قيل: صدقه كصدق الكاهن، ويصدق في كلمة ويكذب في مائة. وصدقه ليس عن علم، بل قد يوافق قدرا، فيكون فتنة في حق من صدقه. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ} 2. فقوله: "علامات" معطوف على ما تقدم مما ذكره في الأرض، ثم استأنف فقال: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 3. ذكره ابن جرير عن ابن عباس بمعناه. وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلي الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم، كقوله: 4 " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد " 5. وعن رجاء بن حيوة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن مما أخاف على أمتي: التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة " رواه عبد بن حميد. وعن أبي مِحجن مرفوعا: " أخاف على أمتي ثلاثا: حيف الأئمة، وإيمانا بالنجوم، وتكذيبا للقدر " 6. رواه ابن عساكر، وحسنه السيوطي. وكره قتادة تعلُّم منازل القمر، ولم يُرَخِّص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق. وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا: " أخاف على أمتي بعدي خصلتين: تكذيبا بالقدر; وإيمانا بالنجوم " 7. رواه أبو يعلي وابن عدي والخطاب في كتاب النجوم، وحسنه السيوطي أيضا. والأحاديث في ذم التنجيم والتحذير منه كثيرة.   1 سورة الأنعام آية: 97. 2 سورة النحل آية: 15-16. 3 سورة النحل آية: 16. 4 تقدم تخريجه برقم [239] . 5 رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس. 6 صحيح، أما حديث رجاء بن حيوة فمرسل. وأما حديث أبي محجن فأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/39) أيضا وإسناده ضعيف كما في الصحيحة (3/119) . والحديث له شواهد كثيرة عن أبي الدرداء وأنس وغيرهما يرتقي بها إلى درجة الصحة كما قال الألباني في الصحيحة (1127) . 7 حسن أبو يعلى في مسنده (1023) ، وابن عدي في الكامل (4/1350) . وإسناده ضعيف فيه يزيد الرقاشي إلا أن للحديث شواهد. وراجع تخريج (272) . فالحديث كما قال المناوي في الفيض (1/204) : "حسن لغيره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 قوله: "وكره قتادة تعلم منازل القمر. ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق". قال الخطابي: " أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال، وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهى عنه. وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئا أكثر من أن الظل ما دام متناقصا فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح إدراكه بالمشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته. وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة؛ فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين، ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة، ويشاهدها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم؛ إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفتهم". انتهى1. وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل منازل القمر. وروي عن إبراهيم أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به. قال ابن رجب: " والمأذون في تعلمه التسيير لا علم التأثير؛ فإنه باطل محرم، قليله وكثيره. وأما علم التسيير فيتعلم ما يحتاج إليه منه للاهتداء، ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور". قوله: "ذكره حرب عنهما" هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني، الفقيه من جلة أصحاب الإمام أحمد. روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وغيرهم. وله كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره، مات سنة ثمانين ومائتين.   1 وحقيقة علم الفلك: معرفة حركات النجوم والكواكب وتنقلاتها ومنازلها. وقد اخترع لمعرفة ذلك آلات حاسبة ومنظارات مقربة; ومراصد كاملة الأسباب والآلات عرفوا بها شيئا كثيرا جدا من العوالم العلوية، حتى أصبحت كأنها على هذه الأرض. وكل ذلك لا يصح أن يختلف فيه مطلقا; لأنه كعلم الحساب. أما أن ينسب إلى هذه النجوم والكواكب شيء من الحوادث على الأرض من موت أو حياة أو حرب أو سلم يكون في المستقبل، فهذا هو الذي لا شك في كذبه وأنه ضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم بن مخلد أبو أيوب الحنظلي النيسابوري، الإمام المعروف بابن راهويه. روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم. قال أحمد: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين. روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وروى هو أيضا عن أحمد. مات سنة تسع وثلاثين ومائتين. قال: "وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر ". رواه أحمد وابن حبان في صحيحه". هذا الحديث رواه أيضا الطبراني والحاكم وقال: صحيح. وأقره الذهبي. وتمامه: " ومن مات وهو يدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة: نهر يجري من فروج المومسات; يؤذي أهل النار ريح فروجهن ". قوله: "وعن أبي موسى" هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضّار - بفتح المهملة وتشديد الضاد- أبي موسى الأشعري. صحابي جليل. مات سنة خمسين. قوله: " ثلاثة لا يدخلون الجنة ". هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف الخمر، ومصدق بالسحر، وقاطع الرحم " 1. رواه أحمد وابن حبان في صحيحه. فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق النجوم. الثانية: الرد على من زعم غير ذلك. الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل. الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل. تأويلها. وقالوا: أمِرُّوها كما جاءت، ومن تأولها فهو على خطر من القول على الله بلا علم. وأحسن ما يقال: إن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج عن ملة الإسلام، فإنه يرجع إلى مشيئة الله، فإن عذّبه فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله وعفوه ورحمته. قوله: "مدمن الخمر" أي المداوم على شربها. قوله: "وقاطع الرحم" يعني القرابة كما قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} 2 الآية. قوله: "ومصدق بالسحر" أي مطلقا. ومنه التنجيم; لما تقدم من الحديث. وهذا وجه مطابقة الحديث للترجمة.   1 ضعيف: أبو داود: الجهاد (2705) ، وأحمد (4/399) ، وابن حبان (1380,1381-موارد) ، والحاكم (4/146) ، وإسناده ضعيف، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2597) . 2 سورة محمد آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 قال الذهبي في الكبائر: " ويدخل فيه تعلم السيميا وعملها، وعقد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة. قال: وكثير من الكبائر- بل عامتها إلا الأقل- يجهل خلق من الأمة تحريمه، وما بلغه الزجر فيه; ولا الوعيد عليه". اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء" وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1.   قوله: "باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء". أي من الوعيد، والمراد: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء. جمع "نوء" وهي منازل القمر. قال أبو السعادات: وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة منزلة منها. ومنه قوله تعالى: {الْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} 2. يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة. وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها، ويقولون: "مطرنا بنوء كذا وكذا". وإنما سمي نوءا؛ لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق، أي نهض وطلع. قال: "وقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} . روى الإمام أحمد والترمذي"- وحسنه- وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} يقول: شكركم {أَنَّكُمْ   1 سورة الواقعة آية: 82. 2 سورة يس آية: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 تُكَذِّبُونَ} تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا: بنجم كذا وكذا " 1. وهذا أولى ما فسرت به الآية. وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم. وهو قول جمهور المفسرين. وبه يظهر وجه استدلال المصنف -رحمه الله- بالآية. قال ابن القيم -رحمه الله-: أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم: التكذيب به، يعني القرآن. قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون. قال: وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب. قوله: "عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب; والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم; والنياحة ". وقال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ". رواه مسلم". أبو مالك: اسمه الحارث بن الحارث الشامي. صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام. وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا. قوله: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن" ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المكروهة المحرمة. والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل المبعث، سموا بذلك لفرط جهلهم. وكل ما يخالف ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم فهو جاهلية، فقد خالفهم رسول الله صلي الله عليه وسلم في كثير من أمورهم أو أكثرها، وذلك يدرك بتدبر القرآن ومعرفة السنة. ولشيخنا -رحمه الله- مصنف لطيف، ذكر فيه ما خالف رسول الله صلي الله عليه وسلم فيه أهل الجاهلية، بلغ مائة وعشرين مسألة2. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين   1 ضعيف. أحمد (1/108,131) والترمذي: كتاب التفسير (3295) : باب ومن سورة الواقعة وقال: حسن غريب صحيح. وابن جرير (27/119) وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (4/299) . وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر الثعلبي ضعيف، وقد جاء موقوفا على ابن عباس رواه سعيد بن منصور في سننه، وإسناده صحيح كما في الفتح (2/522) . 2 كتاب مسائل الجاهلية طبع في المطبعة السلفية، وهو نفيس جدا ككل كتب شيخ الإسلام التي تفيض علما ونورا، رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الإسلام; وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} 1. فإن في ذلك ذما للتبرج وذما لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة. قوله: "الفخر بالأنساب" أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم; وذلك جهل عظيم، إذ لا كرم إلا بالتقوى، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} 3. ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعا: " إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " 4. قوله: "والطعن في الأنساب" أي الوقوع فيها بالعيب والتنقص. ولما عَيّر أبو ذر رضي الله عنه رجلا بأمه5 قال له النبي صلي الله عليه وسلم: 6 " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ". متفق عليه. فدل على أن الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية; وأن المسلم قد يكون فيه شيء من هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه. قاله شيخ الإسلام رحمه الله. قوله: "والاستسقاء بالنجوم" أي نسبة المطر إلى النوء وهو سقوط النجم. كما أخرج الإمام أحمد وابن جرير عن جابر السوائي قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " أخاف على أمتي ثلاثا: استسقاء بالنجوم، وحيف السلطان، وتكذيبا بالقدر " 7. فإذا قال قائلهم: مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا. فلا يخلو إما أن يعتقد أن له تأثيرا في إنزال المطر، فهذا شرك وكفر. وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعا، أو يدفع عنهم ضرا. أو أنه يشفع بدعائهم إياه، فهذا هو الشرك الذي بعث   1 سورة الأحزاب آية: 33. 2 سورة الحجرات آية: 13. 3 سورة سبأ آية: 37. 4 حسن. أبو داود: كتاب الأدب (5116) : باب في التفاخر بالأحساب. وحسنه المنذري في الترغيب (3/614) ، وصححه ابن تيمية في الاقتضاء (ص73) . 5 وإنما عيره بسوادها فقط. فقال له: يا ابن السوداء. فكيف بالناس اليوم وقد أطلقوا لأقلامهم وألسنتهم العنان؟. 6 278- البخاري: كتاب الإيمان (30) ; باب المعاصي من أمر الجاهلية واللفظ له. ومسلم: كتاب الإيمان (1661) (38) : باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس. عن أبي ذر رضي الله عنه، وأبو داود: الأدب (5157) , وأحمد (5/161) . 7 صحيح. أحمد (5/89,90) . وصححه الألباني لشواهده في السنة لابن أبي عاصم رقم (324) وراجع تخريج رقم [272] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الله رسوله صلي الله عليه وسلم بالنهي عنه وقتال من فعله. كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 1. والفتنة الشرك، وإما أن يقول: مطرنا بنوء كذا مثلا، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده. لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، والصحيح: أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز، فقد صرح ابن مفلح في الفروع: بأنه يحرم قول: "مطرنا بنوء كذا". وجزم في الإنصاف بتحريمه ولو على طريق المجاز، ولم يذكر خلافا. وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر لا ينفع ولا يضر، ولا قدرة له على شيء، فيكون ذلك شركا أصغر. والله أعلم. قوله: "والنياحة" أي رفع الصوت بالندب على الميت2؛ لأنها تَسخُّط بقضاء الله، وذلك ينافي الصبر الواجب، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة. وقال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " 3. رواه مسلم. قوله: "والنائحة إذا لم تتب قبل موتها" فيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم، هذا مجمع عليه في الجملة، ويكفر أيضا بالحسنات الماحية والمصائب، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض، وبالشفاعة بإذن الله، وعفو الله عمن شاء ممن لا يشرك به شيئا. وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعا: " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " 4. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان. قوله: "تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" قال القرطبي: السربال واحد السرابيل، وهي الثياب والقُمُص، يعني أنهن يلطخن بالقطران، فيكون لهن كالقمص; حتى يكون اشتعال النار بأجسادهن أعظم، ورائحتهن أنتن، وألمهن بسبب الجرب أشد. وروي عن ابن عباس: إن القطران هو النحاس المذاب5.   1 سورة الأنفال آية: 39. 2 وضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية. 3 مسلم: الجنائز (934) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1581) , وأحمد (5/342 ,5/344) . 4 حسن. أحمد (2/132. 153) والترمذي: كتاب الدعوات (3537) : باب في فضل التوبة والاستغفار. وحسنه. وابن ماجة: كتاب الزهد (4253) : باب ذكر التوبة. وابن حبان (2249-موارد) . وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1899) . 5 ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره عند تفسير قوله تعالى: (14: 49، 50) (وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 قال: "ولهما1 عن زيد بن خالد قال: " صلى لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " 2". زيد بن خالد الجهني صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين، وقيل: غير ذلك، وله خمس وثمانون سنة. قوله: "صلى لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم" أي بنا، فاللام بمعنى الباء. قال الحافظ: وفيه إطلاق ذلك مجازا، وإنما الصلاة لله. قوله: "بالحديبية" بالمهملة المضمومة وتخفيف يائها وتثقل3. قوله: "على إثر سماء كانت من الليل" بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهور: وهو ما يعقب الشيء. قوله: "سماء" أي مطر؛ لأنه ينزل من السحاب، والسماء يطلق على كل ما ارتفع. قوله: "فلما انصرف" أي من صلاته، أي التفت إلى المأمومين، كما يدل عليه قوله: "أقبل على الناس" ويحتمل أنه أراد السلام. قوله: "هل تدرون" لفظ استفهام ومعناه التنبيه. وفي النسائي: " ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ "4. وهذا من الأحاديث القدسية. وفيه إلقاء العالم على أصحابه المسألة ليختبرهم. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قوله: "قالوا الله ورسوله أعلم" فيه حسن الأدب للمسئول عما لا يعلم أن يكل العلم إلى   1 رواه البخاري في الصلاة في باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم; وفي الاستسقاء في باب قول الله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان (71) (125) : باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء. 2 البخاري: الجمعة (1038) , ومسلم: الإيمان (71) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451) . 3 قرية على حدود الحرم، وتسمى الآن الشميسي. وكان فيها صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين سنة ست من الهجرة، وكان هذا الصلح الفتح المبين. 4 صحيح. أحمد (4/116) ، النسائي (3/164,165) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (1326) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 عالمه. وذلك يجب1. قوله: "أصبح من عبادي" الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 2. قوله: "مؤمن بي وكافر" إذا اعتقد أن للنوء تأثيرا في إنزال المطر فهذا كفر؛ لأنه أشرك في الربوبية، والمشرك كافر. وإن لم يعتقد ذلك فهو من الشرك الأصغر؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر فيه، وإنما هو فضل من الله ورحمة يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء. ودل هذا الحديث على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره ولو على سبيل المجاز. وأيضا الباء تحتمل معاني، وكلها لا تصدق بهذا اللفظ، فليست للسببية ولا للاستعانة، لما عرفت من أن هذا باطل. ولا تصدق أيضا على أنها للمصاحبة؛ لأن المطر قد يجيء في هذا الوقت وقد لا يجيء فيه، وإنما يجيء المطر في الوقت الذي أراد الله مجيئه فيه برحمته وحكمته وفضله، فكل معنى تحمل عليه الباء في هذا اللفظ المنهي عنه فاسد. فيظهر على هذا تحريم هذه اللفظة مطلقا لفساد المعنى. 3 وقد تقدم القطع بتحريمه في كلام صاحب الفروع والإنصاف. قال المصنف -رحمه الله-: "وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع" يشير إلى أنه الإخلاص. قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب "4. قوله: "فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته" فالفضل والرحمة صفتان لله، ومذهب أهل السنة والجماعة: أن ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الذات: كالحياة   1 وردهم هذا إنما كان يصح حينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيا حاضر المجلس؛ فإن الواجب رد العلم إلى الله ثم إليه. وأما بعد أن مات وفارق هذه الدنيا, فلا ينبغي رد العلم إلا إلى الله وحده. فمن الخطأ استعمال الناس هذه الجملة الآن وقولهم: "الله ورسوله أعلم". 2 سورة التغابن آية: 2. 3 وكذلك مثلها مما يستعمله الجاهلون, كقولهم: يا ربنا بمحمد وببنته، ونحو ذلك من ألفاظ في توسلاتهم ودعواتهم الجاهلية. 4 البخاري: الأذان (846) والجمعة (1038) , ومسلم: الإيمان (71) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 والعلم، وصفات الأفعال; كالرحمة التي يرحم بها عباده، كلها صفات لله قائمة بذاته ليست قائمة بغيره، فتفطن لهذا فقد غلط فيه طوائف. وفي هذا الحديث: إن نعم الله لا يجوز أن تضاف إلا إليه وحده، وهو الذي يحمد عليها، وهذه حال أهل التوحيد. قوله: "وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا" إلى آخره، تقدم ما يتعلق بذلك. قال المصنف -رحمه الله-: "وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع". يشير إلى أن نسبة النعمة إلى غير الله كفر، ولهذا قطع بعض العلماء بتحريمه، وإن لم يعتقد تأثير النوء بإنزال المطر; فيكون من كفر النعم، لعدم نسبتها إلى الذي أنعم بها، ونسبتها إلى غيره، كما سيأتي في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَ} 1. قال القرطبي في شرح حديث زيد بن خالد: " وكانت العرب إذا طلع نجم من الشرق، وسقط آخر من المغرب فحدث عند ذلك مطر أو ريح، فمنهم من ينسبه إلى الطالع، ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إيجاد واختراع، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث. فنهى الشارع عن إطلاق ذلك؛ لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم". انتهى. قوله: " فمنهم من ينسبه نسبة إيجاد" يدل على أن بعضهم كان لا يعتقد ذلك، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 2. فدل على أن منهم من يعرف ويقر بأن الله هو الذي أوجد المطر، وقد يعتقد هؤلاء أن للنوء فيه شيئا من التأثير، والقرطبي في شرحه لم يصرح أن العرب كلهم يعتقدون ذلك المعتقد الذي ذكره. فلا اعتراض عليه بالآية للاحتمال المذكور. ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: " قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 قوله: "ولهما من حديث ابن عباس بمعناه، وفيه: قال بعضهم: "لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1. وبلفظه عن ابن عباس قال: "مطر الناس على عهد النبي صلي الله عليه وسلم، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا ". فقال: فنزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ". هذا قسم من الله عز وجل يقسم بما يشاء من خلقه على ما شاء. وجواب القسم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . فتكون "لا" صلة لتأكيد النفي; فتقدير الكلام: ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر، أو كهانة، بل هو قرآن كريم. قال ابن جرير: قال بعض أهل العربية: معنى قوله: " {فَلا أُقْسِمُ} فليس الأمر كما تقولون، ثم استؤنف القسم بعد فقيل: أقسم بمواقع النجوم. قال ابن عباس: يعني نجوم القرآن، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا في السنين بعد2، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية. ومواقعها: نزولها شيئا بعد شيء. وقال مجاهد: مواقع النجوم: مطالعها ومشارقها. واختاره ابن جرير. وعلى هذا فتكون المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه- وهو القرآن- من وجوه: أحدها: أن النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الغي والجهل، فتلك هداية في الظلمات الحسية، والقرآن هداية في الظلمات المعنوية، فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة، وفي القرآن من الزينة الباطنة، ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين، وفي القرآن من رجوم شياطين الجن والإنس. والنجوم آياته المشهودة العيانية، والقرآن آياته المتلوة السمعية، مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول. ذكره ابن القيم رحمه الله. وقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 3 قال ابن كثير: أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه.   1 سورة الواقعة آية: 75-76-77-78-79-80-81-82. 2 الآية تدل على أنه ما زال في الكتاب المكنون حتى كان ينزل به جبريل منجما، فكان ينزل مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مفهوم لما قاله بعض المفسرين: إنه نزل إلى السماء الدنيا مرة، ثم كان ينزل بعد ذلك إلى رسول صلى الله عليه وسلم منها. 3 سورة الواقعة آية: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 1 هذا هو المقسم عليه، وهو القرآن، أي إنه وحي الله وتنزيله وكلامه، لا كما يقول الكفار: إنه سحر أو كهانة، أو شعر. بل هو قرآن كريم أي عظيم كثير الخير؛ لأنه كلام الله. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته؛ فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم; وهو من كل شيء أحسنه وأفضله. والله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه، ووصف به عرشه، ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره، ولذلك فسر السلف "الكريم" بالحسن. قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والله تعالى كريم جميل الفعال، وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة". وقوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} 2 أي في كتاب معظم محفوظ موقر. قاله ابن كثير. وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " اختلف المفسرون في هذا; فقيل: هو اللوح المحفوظ، والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} 3. ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} 4 فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه". لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِين أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} 5. قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا يمسه إلا المطهرون. قال: الكتاب الذي في السماء". وفي رواية: "لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة". وقال قتادة: "لا يمسه عند الله إلا المطهرون". فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس". واختار هذا القول كثيرون، منهم ابن القيم -رحمه الله- ورجحه. وقال ابن زيد: زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} 6. قال ابن كثير: هذا قول جيد. وهو لا يخرج عن القول قبله. وقال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في هذه الآية: "لا يجد طعمه إلا من آمن به".   1 سورة الواقعة آية: 77. 2 سورة الواقعة آية: 78. 3 سورة عبس آية: 13-14-15-16. 4 سورة الواقعة آية: 79. 5 سورة الواقعة آية: 75-76-77-78-79-80-81. 6 سورة الشعراء آية: 210-211-212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 قال ابن القيم -رحمه الله-: " هذا من إشارة الآية وتنبيهها، وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقا، وأنزله على رسوله وحيا، لا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه". وقال آخرون: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} أي من الجنابة والحدث. قالوا: ولفظ الآية خبر معناه الطلب. قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحف. واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن محمد ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلي الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: " أن لا يمس القرآن إلا طاهر " 1 2. وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. قال ابن كثير: هذا القرآن منزل من رب العالمين، وليس كما يقولون: إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه; وليس وراءه حق نافع. وفي هذه الآية: أنه كلام الله تكلم به. قال ابن القيم -رحمه الله-: ونظيره: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} 4. وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 5 هو إثبات علو الله تعالى على خلقه؛ فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هو وصول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} 6؛ لأنا نقول: إن الذي أنزلها فوق سماواته. فأنزلها لنا بأمره. قال ابن القيم -رحمه الله-: " وذكر التنزيل مضافا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع   1 صحيح. مالك في الموطأ (1/199) في كتاب القرآن: باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن, مرسلا. وصححه الألباني لطرقه وشواهده في الإرواء (122) . وقال: "والنفس تطمئن لصحة هذا الحديث لا سيما وقد احتج به إمام أهل السنة أحمد بن حنبل .... " اهـ. 2 قال الحافظ ابن كثير: ورواه أبو داود في المراسيل من حديث الزهري. قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الخ. قال: ومثل هذا لا ينبغي الأخذ به. وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص. وفي إسناد كل منهما نظر. وقال الحافظ في التلخيص الحبير: ((وقد ضعف النووي وابن كثير في الإرشاد وابن حزم حديث حكيم بن حزام وحديث عمرو بن حزم جميعا)) . والضمير في الآية يعود على الكتاب المكنون; فهي صريحة في أنهم الملائكة. والمقصود بالآية - ما قال ابن زيد - الرد على قريش زعمها أنه تنزلت به الشياطين، فليس في الآية دليل ولا شبه دليل لمن يقول: إن المصحف لا يمسه إلا طاهر. 3 سورة الواقعة آية: 80. 4 سورة السجدة آية: 13. 5 سورة النحل آية: 102. 6 سورة الزمر آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هَمَلًا، ويخلقهم عبثا. لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟ فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله. واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق، وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس. وذلك إنما تكون لخواص العقلاء". قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} 1. قال مجاهد: " أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم "؟ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 2 3. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الواقعة. الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية. الثالثة: ذكر الكفر في بعضها. الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويعرف به، ويعض عليه بالنواجذ; وتثنى عليه الخناصر; وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوى عنه يمنة ولا يسرة; ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به; ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به; فهو روح الوجود، وحياة العالم; ومدار السعادة; وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر. فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه، ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق، والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا تمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟ ". قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} . تقدم الكلام عليها أول الباب; والله تعالى أعلم.   1 سورة الواقعة آية: 81. 2 سورة الواقعة آية: 82. 3 283- مسلم: كتاب الإيمان (73) (127) : باب بيان كفر من قال مطرنا بنوء كذا. * وحديث ابن عباس هذا ليس عند البخاري كما عزاه المؤلف هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الخامسة: قوله: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " بسبب نزول النعمة. السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع. السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع. الثامنة: التفطن لقوله " لقد صدق نوء كذا وكذا". التاسعة: إخراج العالم للتعليم للمسألة بالاستفهام عنها لقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم"؟ العاشرة: وعيد النائحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 باب: قول الله تعلى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} ... باب "قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 1.   قوله: "باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ". لما كانت محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام الذي يدور عليه قطب رحاه، فبكمالها يكمل، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان، نبه المصنف على ذلك بهذه الترجمة. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} الآية. قال في شرح المنازل: " أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية؛ فإن أحدا من أهل الأرض لا يثبت هذا الند، بخلاف ند المحبة؛ فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 2. وفي تقدير الآية قولان: أحدهما: والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله. وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ؛ مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} من الكفار لأوثانهم. ثم روي عن ابن زيد قال:   1 سورة البقرة آية: 165. 2 سورة البقرة آية: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا بالله، والذين آمنوا أشد حبا لله من حبهم آلهتهم". 1 انتهى. والثاني: والذين آمنوا أشد حبا لله من المشركين بالأنداد لله، فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة. والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2 فإن فيها قولين أيضا: أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله، فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم. والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله، ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرجح القول الأول، ويقول: إنما ذموا بأن شرّكوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى: حكاية عنهم، وهم في النار أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية4، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 5 به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 6. وهذه تسمى آية المحنة. قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها. فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول صلي الله عليه وسلم، وفائدتها وثمرتها: محبة المرسل لكم، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة، ومحبته لكم منتفية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ   1 مدارج السالكين أول الجزء الثالث من طبعة المنار. 2 سورة البقرة آية: 165. 3 سورة الشعراء آية: 97-98. 4 في قرة العيون: وقد وقع الشرك في الربوبية أيضا في كثير من الخاصة والعامة في آخر هذه الأمة، فاعتقدوا أن لهؤلاء الأموات تصرفا في الكون ونحو ذلك. 5 سورة الأنعام آية: 1. 6 سورة آل عمران آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 1 ذكر لها أربع علامات: إحداها: أنهم أذلة على المؤمنين. قيل: معناه أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم، فلما ضمّن "أذلة" هذا المعنى عداه بأداة "على". قال عطاء -رحمه الله-: للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 2. العلامة الثالثة3: الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان. وذلك تحقيق دعوى المحبة. العلامة الرابعة: أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم. وهذه علامة صحة المحبة. فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 4. فذكر المقامات الثلاثة: الحب. وهو ابتغاء القرب إليه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب، ومن المعلوم قطعا أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه، وحب قربه تبع لمحبة ذاته; بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه. وعند الجهمية والمعطلة: ما من ذلك كله شيء فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيء، ولا يقرب من ذاته شيء، ولا يحب، فأنكروا حياة القلوب، ونعيم الأرواح وبهجة النفوس، وقرة العيون وأعلى نعيم الدنيا والآخرة. ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة وضرب دونهم ودون الله حجاب على معرفته ومحبته; فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلا عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم; بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها، وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده والله المستعان. وقال -رحمه الله تعالى- أيضا: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها. وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد.   1 سورة المائدة آية: 54. 2 سورة الفتح آية: 29. 3لم يذكر الثانية. ولعله اكتفى بما في كلام عطاء من الإشارة إليها بقوله: وعلى الكافرين. 4 سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 قال أبو بكر: "جرت مسألة في المحبة بمكة - أعزها الله في أيام الموسم- فتكلم الشيوخ فيها; وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي، فأطرق رأسه ودمعت عيناه; ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه; أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شرابه من كأس مودته، وانكشف له الحياء من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله; وإن سكن فمع الله، فهو لله وبالله ومع الله. فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين". وذكر رحمه الله تعالى: أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة: أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به. الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض. الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا. الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى. الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها. السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة. السابع: - وهو أعجبها- انكسار القلب بين يديه. الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي1، وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة. التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك. وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} 2. العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل. فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب. قوله: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ   1وذلك إذا مضى ثلثا الليل كما في حديث النزول. 2 سورة التوبة آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ". أمر الله نبيه صلي الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثارها، أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك. قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: أي إن كانت هذه الأشياء {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه. روى الإمام أحمد وأبو داود- واللفظ له- من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم " 1. فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه، ويوالي فيه ويعادي فيه، ويتابع رسوله صلي الله عليه وسلم كما تقدم في آية المحنة ونظائرها. عن أنس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " 2 أخرجاه. قوله: "وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ". أخرجاه" أي البخاري ومسلم. قوله: "لا يؤمن أحدكم" أي الإيمان الواجب، والمراد كماله، حتى يكون الرسول أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول أحب إليه من نفسه، كما في الحديث: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر " 3. رواه البخاري. فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويعرض   1 صحيح. أحمد (2/ 28 , 42 , 84) . وأبو داود: كتاب البيوع (3462) : باب في النهي عن العينة. وقال الألباني في الصحيحة (1/ 15) : "وهو حديث صحيح لمجموع طرقه". 2 البخاري: الإيمان (15) , ومسلم: الإيمان (44) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5013) , وابن ماجه: المقدمة (67) , وأحمد (3/177 ,3/275) , والدارمي: الرقاق (2741) . 3 البخاري: الأيمان والنذور (6632) , وأحمد (4/233 ,4/336 ,5/293) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 للعقوبة فقد صدق; وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلي الله عليه وسلم. قاله شيخ الإسلام رحمه الله. فمن ادعى محبة النبي صلي الله عليه وسلم بدون متابعته وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب، كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} 1. فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول صلي الله عليه وسلم، لكن كل مسلم يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق؛ لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين. قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد; ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا؛ إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، فهؤلاء إن عوفوا من المحنة ماتوا ودخلوا الجنة; وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق". انتهى. وفي هذا الحديث: أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المحبة عمل القلب. وفيه: أن محبة الرسول واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها؛ فإنها محبة لله ولأجله، تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن وتنقص بنقصها، وكل من كان محبا لله فإنما يحب في الله ولأجله كما يحب الإيمان والعمل الصالح. وهذه المحبة ليس فيها شيء من شوائب الشرك كالاعتماد عليه ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب منه. وما كان فيها ذلك فمحبته مع الله لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله، فبهذا يحصل التمييز بين المحبة في الله ولأجله، التي هي من كمال التوحيد، وبين المحبة مع الله التي هي محبة الأنداد من دون الله، لما يتعلق في قلوب المشركين من الإلهية التي لا تجوز إلا لله وحده. قوله: "ولهما عنه - أي البخاري ومسلم، عن أنس رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله   1 سورة النور آية: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار "1 وفي رواية: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله " 2 إلخ". قوله: "ثلاث" أي ثلاث خصال. قوله: "من كن فيه" أي وجدت فيه تامة. قوله: "وجد بهن حلاوة الإيمان" الحلاوة هنا هي التي يعبر عنها بالذوق لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم. قال السيوطي -رحمه الله- في التوشيح: "وجد حلاوة الإيمان" فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه". وقال النووي: " معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق، وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول صلي الله عليه وسلم". قال يحيى بن معاذ: " حقيقة الحب في الله: أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء". قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" يعني بالسوي: ما يحبه الإنسان بطبعه، كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها، فتكون "أحب" هنا على بابها. وقال الخطابي: " المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع كذا قال. وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها، فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله". وفي بعض الأحاديث. " أحبوا الله بكل قلوبكم " 3. فمن علامات محبة الله ورسوله: أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ". مرضاته ما استطاع; ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله ويمتثل أمره ويترك نهيه، كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4، فمن آثر أمر غيره على أمره وخالف ما نهى عنه، فذلك عَلَم على عدم محبته لله ورسوله؛ فإن محبة الرسول من لوازم محبة الله، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه. ومن لا فلا; كما في آية المحنة ونظائرها. والله المستعان. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له. فمن أحب شيئا   1 البخاري: الإيمان (16) , ومسلم: الإيمان (43) , والترمذي: الإيمان (2624) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه: الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/176 ,3/206 ,3/230 ,3/248 ,3/251 ,3/272 ,3/275 ,3/278 ,3/288) . 2 البخاري: الأدب (6041) . 3 ضعيف: رواه البيهقي في الدلائل كما في الدر المنثور (3/ 67) . عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلا فهو ضعيف لإرساله. أفاده الدوسري في النهج السديد (356) . 4 سورة النساء آية: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 واشتهاه، إذا حصل له مراده؛ فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريغها، ودفع ضدها. فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهم؛ فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. قلت: ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته؛ فإنه يحب من عبده أن يطيعه. والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد. ومن لوازم محبة الله أيضا: محبة أهل طاعته، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده، فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان، كما في حديث ابن عباس الآتي. قال: وتفريغها. أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، قال: ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار". انتهى. قوله: "أحب إليه مما سواهما" فيه جمع ضمير الله تعالى وضمير رسوله صلي الله عليه وسلم، وفيه قولان: وفي رواية: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى " 1 إلى آخره. أحدهما: أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة؛ فإنها وحدها لاغية. وأمر بالإفراد في حديث الخطيب2 إشعارا بأن كل واحد من   1 البخاري: الأدب (6041) . 2 وذلك ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عدي بن حاتم: "أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى. فقال له صلى الله عليه وسلم: بئس الخطيب أنت. قل: من يعص الله تعالى ورسوله فقد غوى". قال النووي: ((سبب الإنكار عليه أن الخطبة شأنها البسط والإيضاح, واجتناب الإشارات والرموز. قال: ولهذا ثبت أن رسول الله كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه, قال: وإنما ثنى الضمير في قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"؛ لأنه ليس خطبة وعظ، وإنما هو تعليم حكم, فكلما قل لفظه كان أقرب إلى حفظه بخلاف الخطبة)) اهـ. أقول: ولعلها حادثة حال لها ظروفها التي اقتضت أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 العصيانين مستقل باستلزام الغواية؛ إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم. الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا هو الجواز. وجواب ثالث: وهو أن هذا وارد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل فيكون أرجح. قوله: "كما يكره أن يقذف في النار" أي يستوي عنده الأمران. وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقا وإن تاب منه. والصواب: أنه إن لم يتب كان نقصا وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار -رضي الله عنهم- أفضل هذه الأمة، مع كونهم في الأصل كفارا فهداهم الله إلى الإسلام، والإسلام يمحو ما قبله، وكذلك الهجرة. كما صح الحديث بذلك. قوله: "وفي رواية: لا يجد أحد" هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه. ولفظها: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " 1 وقد تقدم أن المحبة هنا عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك. قال الشاعر: أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا ". رواه ابن جرير". وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط. قوله: "من أحب في الله" أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك. قوله: "وأبغض في الله" أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته؛ لأجل ما فعلوه مما يسخط الله وإن كانوا أقرب الناس إليه، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2 الآية. قوله: "ووالى في الله" هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله تعالى، فمن أحب الله تعالى أحب فيه، ووالى أولياءه، وعادى أهل معصيته وأبغضهم، وجاهد أعداءه ونصر أنصاره. وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها; وبكمالها يكمل توحيد العبد، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه، فمقل ومستكثر ومحروم. قوله: "فإنما تنال ولاية الله بذلك" أي توليه لعبده. و "ولاية" بفتح الواو لا غير: أي الأخوة3 والمحبة والنصرة، وبالكسر الإمارة، والمراد هنا الأول. ولأحمد والطبراني عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا ". رواه ابن جرير.   1 مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4/102) . 2 سورة المجادلة آية: 22. 3 لعل كلمة "الأخوة" زائدة أو مبدلة عن كلمة أخرى تناسب المقام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 " لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض لله، فقد استحق الولاية لله " 1. وفي حديث آخر: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله عز وجل " 2. رواه الطبراني. قوله: "ولن يجد عبد طعم الإيمان" إلى آخره. أي لا يحصل له ذوق الإيمان ولذته وسروره، وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، أي حتى يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله; ويوالي فيه. وفي حديث أبي أمامة مرفوعا: " من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " 3. رواه أبو داود. قوله: "وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا. وذلك لا يجدي على أهله شيئا" أي لا ينفعهم بل يضرهم، كما قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ   1 أحمد (3/ 430) . وقال الهيثمي في المجمع (1/ 89) : "وفيه رشدين بن سعد وهو منقطع ضعيف" ا. هـ. 2 حسن. الطبراني في الكبير (10531) , (10537) من حديث ابن مسعود. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 260 , 261) : رواه الطبراني بإسنادين ورجاله أحدهما رجال الصحيح. وحسنه الألباني لشواهده في صحيح الجامع (2536) . وراجع الصحيحة (1728) . 3 صحيح. أبو داود: كتاب السنة (4681) : باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. وصححه الألباني في الصحيحة (380) وصحيح الجامع (5841) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 إِلا الْمُتَّقِينَ} 1. فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا في زمن ابن عباس خير القرون، فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة، حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان. وقد وقع ما أخبر به صلي الله عليه وسلم بقوله: وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 2 قال: المودة". فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: وجوب محبته صلي الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال. الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام. الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها. السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا. " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " 3 4. وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- من المهاجرين والأنصار في عهد نبيهم صلي الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- يؤثر بعضهم بعضا على نفسه محبة في الله وتقربا إليه. كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 5. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " "لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم" ". رواه ابن ماجه. قوله: " وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} قال: "المودة". هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. قوله: "قال: المودة" أي التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وتبرأ بعضهم من بعض; كما قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} 6. قال العلامة ابن القيم في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} 7 الآيتين: فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومنهاجهم، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم، فيتبرءون منهم يوم القيامة؛ فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله، وهذا حال كل من اتخذ من دون الله وأولياء، يوالي لهم، ويعادي لهم، ويرضى لهم، ويغضب لهم؛   1 سورة الزخرف آية: 67. 2 سورة البقرة آية: 166. 3 مسلم: كتاب الإيمان (145) و (146) : باب بيان الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 4 رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة. والترمذي وابن ماجة عن ابن مسعود. وقد شرحه الحافظ ابن رجب شرحا نفيسا سماه " كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة" طبع مرارا. 5 سورة الحشر آية: 9. 6 سورة العنكبوت آية: 25. 7 سورة البقرة آية: 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه؛ إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وانتصاره وإيثاره لله ورسوله، فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله. وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه، وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها: من الحب والبغض، والعطاء والمنع، والموالاة والمعاداة، والتقريب والإبعاد، وتجريد متابعة رسول الله صلي الله عليه وسلم تجريدا محضا بريئا من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلا عن الشرك بينه وبين غيره; فضلا عن تقديم قول غيره عليه. فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه، وهذه هي النسبة التي بين العبد وربه، وهي نسبة العبودية المحضة، وهي آخيته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم، وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم. وقد قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} 1. فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه، يجعلها الله هباء منثورا لا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلا. وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه ضائعا. وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم. انتهى ملخصا. الثامنة: تفسير: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 2. التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا. العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية3 أحب إليه من دينه. الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر.   1 سورة الفرقان آية: 23. 2 سورة البقرة آية: 166. 3 هي الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 باب: قول الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين} ... باب: قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.   قوله: "باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ". الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى. قال الله تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 2. وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 3. وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} 4. وقال تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 5. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 6. وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير. والخوف من حيث هو على ثلاثة أقسام: أحدها: خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو يصيبه بما يكره، كما قال تعالى عن قوم هود -عليه السلام- إنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِ جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظرُونِ} 7. وقال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 8. وهذا هو الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان يخافونها، ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله، وهذا ينافي التوحيد. الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه، خوفا من بعض الناس، فهذا محرم، وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد. وهذا هو سبب نزول هذه الآية. كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا   1 سورة آل عمران آية: 175. 2 سورة الأنبياء آية: 28. 3 سورة النحل آية: 50. 4 سورة الرحمن آية: 46. 5 سورة النحل آية: 51. 6 سورة المائدة آية: 44. 7 سورة هود آية: 54-55. 8 سورة الزمر آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} 1 الآية. وفي الحديث: " إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره؟ فيقول: رب خشية الناس. فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى " 2 3. الثالث: الخوف الطبيعي، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك. فهذا لا يذم، كما قال تعالى في قصة موسى -عليه السلام-: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} 4 الآية. ومعنى قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يخوفكم أولياءه {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} 5. وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين أن يخافوا غيره، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم على الله، فلا يخافون إلا إياه. وهذا هو الإخلاص الذي أمر الله به عباده ورضيه منهم. فإذا أخلصوا له الخوف وجميع العبادة أعطاهم ما يرجون، وأمنهم من مخاوف الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 6 الآية. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " ومن كيد عدو الله: أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه؛ لئلا يجاهدوهم، ولا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر. وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه. ونهانا أن نخافهم. قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفهم بأوليائه. قال قتادة: يعظمهم في صدوركم. فكلما قوي وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 7. إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم. فدلت هذه الآية على أن إخلاص الخوف من كمال شروط الإيمان". قوله: "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} الآية".   1 سورة آل عمران آية: 173-174-175. 2 صحيح. أحمد (3/ 27 , 29 , 77) وابن حبان (1845) وابن ماجة: كتاب الفتن: (4008) ; باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي سعيد الخدري وصححه الألباني في صحيح الجامع (1814) . 3 رواه ابن ماجة عن أبي سعيد بلفظ: "لا يحقر أحدكم نفسه; قالوا: يا رسول الله, كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمرا لله فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا: كذا وكذا؟ فيقول: خشيت الناس. فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى". ذكره ابن كثير عند تفسير قول الله تعالى في سورة المائدة: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم) . الآيات. 4 سورة القصص آية: 21. 5 سورة آل عمران آية: 175. 6 سورة الزمر آية: 36. 7 سورة التوبة آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 أخبر تعالى أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم، وأخلصوا له الخشية دون من سواه، فأثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين؛ لأن عمارة المساجد بالطاعة والعمل الصالح، والمشرك وإن عمل فعمله {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} 1، أو {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} 2. وما كان كذلك فالعدم خير منه، فلا تكون المساجد عامرة إلا بالإيمان الذي معظمه التوحيد مع العمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع، وذلك كله داخل في مسمى الإيمان المطلق عند أهل السنة والجماعة. قوله: {يَخْشَ إِلا اللَّهَ} قال ابن عطية: " يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه". وقال ابن القيم رحمه الله: " الخوف عبودية القلب، فلا يصلح إلا لله، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب". قوله: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} . قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: يقول: " إن أولئك هم المهتدون، وكل " عسى " في القرآن فهي واجبة 3". وفي الحديث: وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 4 الآية. " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان " 5. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر ِ} 6. رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري. قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 7. قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: يقول تعالى مخبرا عن صفات قوم من المكذبين الذين يدّعون الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت في قلوبهم: أنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله".   1 سورة النور آية: 39. 2 سورة إبراهيم آية: 18. 3 قال ابن كثير: قال ابن عباس: "كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) . وهي الشفاعة. وقال محمد بن إسحاق بن يسار: "وعسى" في القرآن من الله حق". 4 سورة العنكبوت آية: 10. 5 ضعيف. أحمد (3/ 68 , 76) ، والترمذي: كتاب التفسير (3093) : باب ومن سورة التوبة, والحاكم (1/ 212 , 213 , (2/ 332) . وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في المشكاة (723) وضعيف الجامع (608) . 6 سورة التوبة آية: 18. 7 سورة العنكبوت آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك. بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه. والفتنة الابتلاء والاختبار، ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا. فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه. فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه وابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم. فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير في الألم الدائم; والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه; وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم. فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لمعاوية رضي الله عنه: " من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا " 1. فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل وأتباعهم. ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به: كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان. فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من   1 رواه الترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي في ص 342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الألم الزائل المفارق عن قرب. وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله، وغُبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق". انتهى. وفي الآية رد على المرجئة والكرامية. ووجهه: أنه لم ينفع هؤلاء قولهم: آمنا بالله. مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل. فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان. وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا، والله سبحانه وتعالى أعلم. وفيه الخوف من مداهنة الخلق في الحق. والمعصوم من عصمه الله. قوله: " عن أبي سعيد مرفوعا. " إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله; إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره " 1". هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي، وأعله بمحمد بن مروان السدي وقال: ضعيف. وفيه أيضا عطية العوفي: ذكره الذهبي في الضعفاء والمتروكين. ومعنى الحديث صحيح، وتمامه: " وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط " 2. قوله: "إن من ضعف اليقين" الضعف بضم ويحرك، ضد القوة، ضعف ككرم ونصر، ضعفا، وضعفة، وضعافية، فهو ضعيف وضعوف وضعفان. والجمع: ضعاف وضعفاء وضعفة وضعفى، أو الضعَف - بالفتح- في الرأي وبالضم في البدن، فهي ضعيفة وضعوف. و "اليقين" كمال الإيمان. قال ابن مسعود: " اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان " رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا: قال: ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق، كما في حديث ابن عباس مرفوعا. 3" فإن   1 ضعيف. أبو نعيم في الحلية (5/ 106) , (10/ 41) ، والبيهقي في الشعب (1/ 151 , 152) . وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2007) . 2 صحيح موقوفا. وعلقه البخاري في صحيحه (1/ 47) كتاب الإيمان. وقال الحافظ في الفتح (1/ 48) : وصله الطبراني بسند صحيح.. "وأخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا ولا يثبت رفعه" ا. هـ. 3 ضعيف. الرواية الأولى جزء من حديث رواه الحاكم (3/ 541) ، وأبو نعيم في الحلية (1/ 314) بإسناد ضعيف. والرواية الثانية أخرجها الآجري في الشريعة ص (198) بسند ضعيف أيضا، والحديث ضعفه ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ". وفي رواية " قلت: يا رسول الله كيف أصنع باليقين؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك " 1. قوله: "أن ترضي الناس بسخط الله" أي تؤثر رضاهم على رضا الله، وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته، ما يمنعه من استجلاب رضا المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه الذي يتصرف في القلوب، ويفرج الكروب ويغفر الذنوب. وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك؛ لأنه آثر رضا المخلوق على رضا الله، وتقرب إليه بما يسخط الله، ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله، ووفقه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله، وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله، ومعرفة توحيده من ربوبيته وإلهيته وبالله التوفيق. قوله: "وأن تحمدهم على رزق الله" أي على ما وصل إليك من أيديهم، بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه. فإن المتفضل في الحقيقة هو الله وحده الذي قدره لك وأوصله إليك، وإذا أراد أمرا قيّض له أسبابا. ولا ينافي هذا حديث: " من لا يشكر الناس لا يشكر الله " 23؛ لأن شكرهم إنما هو بالدعاء لهم لكون الله ساقه على أيديهم فتدعو لهم أو تكافئهم; لحديث: " ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " 4 5. فإضافة الصنيعة إليهم لكونهم صاروا سببا في إيصال المعروف إليك، والذي قدره وساقه هو الله وحده. قوله: "وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله"؛ لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم، فلو قدره لك لساقته المقادير إليك. فمن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده، وأنه هو الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب، ومن حيث لا يحتسب، لم يمدح مخلوقا على رزق ولم يذمه على منع، ويفوض أمره إلى الله، ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه. وقد قرر النبي هذا   1 البخاري: الإيمان (26) , ومسلم: الإيمان (83) , والترمذي: فضائل الجهاد (1658) , والنسائي: مناسك الحج (2624) والجهاد (3130) , وأحمد (2/264) , والدارمي: الجهاد (2393) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2786) , ومسلم: الإمارة (1888) , والترمذي: فضائل الجهاد (1660) , والنسائي: الجهاد (3105) , وأبو داود: الجهاد (2485) , وابن ماجه: الفتن (3978) , وأحمد (3/37) . 3 رواه أبو داود والترمذي - وقال: حسن صحيح -، وابن حبان عن أبي هريرة. 4 صحيح. جزء من حديث ابن عمر أوله: "من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه, ومن صنع ... الحديث". رواه أبو داود: كتاب الزكاة (1673) : باب عطية من سأل بالله. والنسائي: كتاب الزكاة (5/ 82) : باب من سأل بالله عز وجل. وقال الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (11/ 692) وإسناده صحيح ا. هـ. وصححه الألباني في الصحيحة (254) . 5 رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح. كذا في كشف الخفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 المعنى بقوله في الحديث: " إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره ". كما قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا لا بوعده ولا برزقه؛ فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم، فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة. فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مئونتهم. وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقين. وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم. فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدّر كان وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس " 2 رواه ابن حبان في صحيحه. ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك; ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم. ولما قال بعض وفد بني تميم: "أي محمد أعطني؛ فإن حمدي زَيْن وذَمِّي شَين ". قال النبي صلى الله عليه وسلم " ذاك الله " 3. ودل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من مسمى الإيمان". قوله: "وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ". رواه ابن حبان في صحيحه". هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال: "كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة -رضي الله عنها-: أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت عائشة -رضي الله عنها- إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد:   1 سورة فاطر آية: 2. 2 صحيح. ابن حبان (1542- موارد) . والترمذي: كتاب الزهد (2414) باب (64) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (5973) . 3 حسن. أحمد (3/ 488) , (6/ 393 , 394) عن الأقرع بن حابس, والترمذي كتاب التفسير (3267) : باب ومن سورة الحجرات وقال: حديث حسن غريب من حديث البراء, وحسنه الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (2/ 363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من التمس رضا الله بسخط الناس، كفاه الله مئونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس ". والسلام عليك. ورواه أبو نعيم في الحلية. قوله: "من التمس" أي طلب. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: تفسير آية العنكبوت. الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى. قال شيخ الإسلام: " وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته: " من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئا ". هذا لفظ المرفوع. ولفظ الموقوف: "من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما". وهذا من أعظم الفقه في الدين؛ فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاًوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 1. والله يكفيه مئونة الناس بلا ريب. وأما كون الناس كلهم يرضون عنه قد لا يحصل ذلك; لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة. "ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا" كالظالم الذي يعض على يديه. وأما كون حامده ينقلب ذاما، فهذا يقع كثيرا ويحصل في العاقبة. فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم". اهـ. وقد أحسن من قال: إذا صح منك الود يا غاية المنى ... فكل الذي فوق التراب تراب قال ابن رجب -رحمه الله-: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب، فكيف يقدم   1 سورة الطلاق آية: 2-3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟ أم كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب؟ إن هذا لشيء عجاب. وفي الحديث: عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على الله، وأن العقوبة قد تكون في الدين، عياذا بالله من ذلك. كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} 1. الخامسة: علامة ضعفه. ومن ذلك هذه الثلاث. السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض. السابعة: ذكر ثواب من فعله. الثامنة: ذكر عقاب من تركه.   1 سورة التوبة آية: 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 باب: قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.   قوله: "باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ". قال أبو السعادات: " يقال: توكل بالأمر. إذا ضمن القيام به; ووكلت أمري إلى فلان. إذا اعتمدت عليه; ووكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته; أو عجزا عن القيام بأمر نفسه". اهـ. وأراد المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة بالآية بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى; فإن تقديم المعمول يفيد الحصر. أي وعلى الله فتوكلوا لا على غيره، فهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها، لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية، دون كل من سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله تعالى، فهو من أعظم منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2. فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله; كما في هذه الآية، وكما قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 3. وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 4. والآيات في الأمر به كثيرة جدا. قال الإمام أحمد رحمه الله: "التوكل عمل القلب". وقال ابن القيم في معنى الآية المترجم بها: فجعل التوكل على الله شرطا في الإيمان فدل على   1 سورة المائدة آية: 23. 2 سورة الفاتحة آية: 5. 3 سورة يونس آية: 84. 4 سورة المزمل آية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 انتفاء الإيمان عند انتفائه; وفي الآية الأخرى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 1. فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفا كان دليلا على ضعف الإيمان ولا بد. والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية. وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 2. فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: وما رجا أحد مخلوقا ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه؛ فإنه مشرك {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 3. قال الشارح -رحمه الله تعالى-: قلت: لكن التوكل على الله قسمان: أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلاّ الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من نصر، أو حفظ أو رزق أو شفاعة. فهذا شرك أكبر. الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله تعالى عليه من رزق، أو دفع أذى ونحو ذلك، فهو نوع شرك أصغر. والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه، لكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وُكل فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه، وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها، ولا يعتمد عليها بل يعتمد على المسبب الذي أوجد السبب والمسبب. قال: "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآيات". قال ابن عباس في الآية: "المنافقون لا يدخل في قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا،   1 سورة يونس آية: 84. 2 سورة الأنفال آية: 2. 3 سورة الحج آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} ، فأدوا فرائضه" 1. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ووجل القلب من الله يستلزم القيام بفعل ما أمر به وترك ما نهى وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2. عنه. قال السدي: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 3 هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال: يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله، اتّق الله، فيجل قلبه4. رواه ابن أبي شيبة وابن جرير. قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 5. استدل الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون، ومن تبعهم من أهل السنة بهذه الآية ونظائرها على زيادة الإيمان ونقصانه. قال عمير بن حبيب الصحابي: " إن الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه ". رواه ابن سعد. وقال مجاهد: "الإيمان يزيد وينقص وهو قول وعمل". رواه ابن أبي حاتم. وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم رحمهم الله تعالى. قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين إليه أمورهم، فلا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، يعلمون أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده، والمعبود وحده لا شريك له. وفي الآية وصف المؤمنين حقا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان، وهي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده. وهذه المقامات تقتضي كمال الإيمان وحصول أعماله الباطنة والظاهرة. مثال ذلك الصلاة، فمن أقام الصلاة وحافظ عليها وأدى الزكاة كما أمره الله استلزم ذلك العمل بما يقدر عليه من الواجبات وترك جميع المحرمات، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} 6. قال: وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . قال ابن القيم "-   1 تمامه عند ابن جرير: "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا. يقول: تصديقا. وعلى ربهم يتوكلون. يقول: لا يرجون غيره". 2 سورة الأنفال آية: 64. 3 سورة الأنفال آية: 2. 4 عند ابن جرير: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية, أحسبه قال: فينزع عنه. 5 سورة الأنفال آية: 2. 6 سورة العنكبوت آية: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 رحمه الله-: " أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إلى أحد". وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 1. وقيل: المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون. قال ابن القيم -رحمه الله-: " وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه; فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة. قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 2. ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 3. ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله. ونظير هذا قوله سبحانه: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 4. فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} . فجعل الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى: {إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 5. فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى". انتهى. وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة. فإذا كان هو الكافي لعبده وجب ألا يتوكل إلا عليه، ومتى التفت بقلبه إلى سواه وكله الله إلى من التفت إليه، كما في الحديث: " من تعلق شيئا وكل إليه " 6. قال: "وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ". قال ابن القيم -رحمه الله- وغيره: أي كافيه. ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه، كالحر والبرد والجوع والعطش. وأما أن يضره بما يبلغ به مراده منه فلا يكون أبدا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء وفي الحقيقة إحسان وإضرار بنفسه; وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف: " جعل الله   1 سورة الطلاق آية: 3. 2 سورة الأنفال آية: 62. 3 سورة آل عمران آية: 173. 4 سورة التوبة آية: 59. 5 سورة الشرح آية: 8. 6 304- تقدم تخريجه برقم (98) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فلم يقل: فله كذا وكذا من الأجر كما قال في وعن ابن عباس قال: " حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1 " رواه البخاري والنسائي2. الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه. فلو توكل العبد على الله حق توكله، وكادته السموات والأرض ومن فيهن، لجعل الله له مخرجا، وكفاه رزقه ونصره". انتهى. وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال: "قال الله عز وجل في بعض كتبه: بعزتي إنه من اعتصم بي فكادته السماوات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له من ذلك مخرجا، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه، كفى بي لعبدي مآلا. إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي نرفق به منه". وفي الآية دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار؛ لأن الله تعالى علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه؛ لأن الله تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسبا له. وفيها: تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل؛ لأنه تعالى ذكر التقوى ثم ذكر التوكل; كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3. فجعل التوكل مع التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها. فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبا بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا ولا عجزه توكلا، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. ذكره ابن القيم بمعناه. قال: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " حسبنا الله ونعم الوكيل ". قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ   1 سورة آل عمران آية: 173. 2 البخاري: كتاب التفسير (4563) : باب الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، والنسائي في التفسير من الكبرى (كما في تحفة الأشراف (5/ 238) . 3 سورة المائدة آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1 رواه البخاري. قوله "حسبنا الله" أي كافينا، فلا نتوكل إلا عليه. قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 2. قوله: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي نعم الموكول إليه، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 3 ومخصوص "نعم" محذوف تقديره "هو". قال ابن القيم -رحمه الله-: " هو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف، ويجير المستجير، فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه; وانقطع بكليته إليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه. ومن خافه واتقاه، أمنه مما يخاف ويحذر، ويجلب إليه ما يحتاج إليه من المنافع". قوله: "قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار". قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} 4. قوله: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ". وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أُحد "بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا حتى انتهى إلى حمراء الأسد، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، فرجع إلى مكة بمن معه، ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال: فهل أنتم مبلغون محمدا عني رسالة؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان. فقال: حسبنا والله ونعم الوكيل ". ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة العظيمة، وأنها قول الخليلين -عليهما الصلاة والسلام- في الشدائد. وجاء في الحديث: فيه مسائل: الأولى: أن التوكل من الفرائض. الثانية: أنه من شروط الإيمان. الثالثة: تفسير آية الأنفال. الرابعة: تفسير الآية في آخرها. الخامسة: تفسير آية الطلاق. السادسة: عظم شأن هذه الكلمة: أنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد. " إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل " 5.   1 سورة آل عمران آية: 173. 2 سورة الزمر آية: 36. 3 سورة الحج آية: 78. 4 سورة الأنبياء آية: 86-87-88. 5ضعيف. رواه أحمد (1/326) ، وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا كما في الجامع الصغير، وضعفه المناوي في فيض القدير (1/ 455) ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (829) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 باب: قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 1.   قوله: " باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} ". قصد المصنف -رحمه الله- بهذه الآية التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب، وأنه ينافي كمال التوحيد، كما أن القنوط من رحمة الله كذلك، وذلك يرشد إلى أن المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وأرشد إليه سلف الأمة والأئمة. ومعنى الآية: أن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل بيّن أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، كما قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 2 أي الهالكون. وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم، فاستبعدوا أن يكون ذلك مكرا. قال الحسن -رحمه الله-: " من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ". وقال قتادة: " بَغَت القومَ أمر الله، وما أخذ الله قوما قط إلا عند سلوتهم ونعمتهم وغرتهم. فلا تغتروا بالله " 3. وفي الحديث: " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج " 4. رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم. وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} 5. وقال إسماعيل بن رافع: " من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة" " رواه ابن أبي حاتم.   1 سورة الأعراف آية: 99. 2 سورة الأعراف آية: 97-98-99. 3 307- صحيح. أحمد (4/ 145) ، وابن جرير في تفسيره (7/ 115) . وحسنه العراقي في تخريج الإحياء (4/ 132) ، وصححه العلامة الألباني في الصحيحة (413) . 4 البخاري: التوحيد (7423) , وأحمد (2/335 ,2/339) . 5 سورة الحجر آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وهذا هو تفسير المكر في قول بعض السلف: " يستدرجهم الله بالنعم إذا عصوه، ويملي لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر". وهذا هو معنى المكر والخديعة ونحو ذلك، ذكره ابن جرير بمعناه. قال: "وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} ". القنوط: استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم، وتقدم ما فيه لمنافاته لكمال التوحيد. وذكر المصنف -رحمه الله تعالى- هذه الآية مع التي قبلها تنبيها على أنه لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط من رحمته، بل يكون خائفا راجيا، يخاف ذنوبه ويعمل بطاعته، ويرجو رحمته، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 1. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. فالرجاء مع المعصية وترك الطاعة غرور من الشيطان، ليوقع العبد في المخاوف مع ترك الأسباب المنجية من المهالك، بخلاف حال أهل الإيمان الذين أخذوا بأسباب النجاة خوفا من الله تعالى وهربا من عقابه; وطمعا في المغفرة ورجاء لثوابه. والمعنى: أن الله تعالى حكى قول خليله إبراهيم -عليه السلام-، لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} 3؛ لأن العادة أن الرجل إذا كبر سنه وسن زوجته استبعد أن يولد له منها، والله على كل شيء قدير. فقالت الملائكة: " {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} 4 الذي لا ريب فيه؛ فإن الله إذا أراد شيئا إنما يقول له: كن فيكون. {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} 5 أي من الآيسين، فقال -عليه السلام-: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم; لكنه- والله أعلم- قال ذلك على وجه التعجب. قوله: {إِلا الضَّالُّونَ} قال بعضهم: إلا المخطئون طريق الصواب، أو إلا الكافرون. وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: " الشرك بالله واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله ". كقوله: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 6.   1 سورة الزمر آية: 9. 2 سورة البقرة آية: 218. 3 سورة الحجر آية: 54. 4 سورة الحجر آية: 55. 5 سورة الحجر آية: 55. 6 سورة يوسف آية: 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: " الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله " 1". هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس، ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر. فقال ابن معين: ثقة. ولينه أبو حاتم. وقال ابن كثير: في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفا. قوله: "الشرك بالله" هو أكبر الكبائر. قال ابن القيم -رحمه الله-: " الشرك بالله هضم للربوبية وتنقص للإلهية، وسوء ظن برب العالمين". انتهى. ولقد صدق ونصح. قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2 وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3. ولهذا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. قوله: "واليأس من روح الله" أي قطع الرجاء والأمل من الله فيما يخافه ويرجوه، وذلك إساءة ظن بالله، وجهل به وبسعة رحمته وجوده ومغفرته. قوله: "والأمن من مكر الله" أي من استدراجه للعبد وسلبه ما أعطاه من الإيمان، نعوذ بالله من ذلك. وذلك جهل بالله وبقدرته، وثقة بالنفس وعجب بها. واعلم أن هذا الحديث لم يرد به حصر الكبائر في الثلاث، بل الكبائر كثيرة، وهذه الثلاث من أكبر الكبائر المذكورة في الكتاب والسنة، وضابطها ما قاله المحققون من العلماء: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب. زاد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أو نفي الإيمان. قلت: ومن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: " ليس منا من فعل كذا وكذا ". وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: " هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ". وعن ابن مسعود قال: " أكبر الكبائر: الإشراك بالله،   1 حسن. البزار (106- كشف الأستار) ، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/ 485) . وحسنه العراقي في تخريج الإحياء (4/ 17) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4479) . 2 سورة الأنعام آية: 1. 3 سورة لقمان آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله ". رواه عبد الرزاق1. فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الأعراف. الثانية: تفسير آية الحجر. الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله. الرابعة: شدة الوعيد في القنوط. قوله: وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله " رواه عبد الرزاق. ورواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود رضي الله عنه. قوله: "أكبر الكبائر الإشراك بالله" أي في ربوبيته أو عبادته. وهذا بالإجماع. قوله: "والقنوط من رحمة الله" قال أبو السعادات: هو أشد اليأس. وفيه التنبيه على الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس، بل يرجو رحمة الله. وكان السلف يستحبون أن يقوى في الصحة الخوف، وفي المرض الرجاء. وهذه طريقة أبي سليمان الداراني وغيره. قال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء الخوف فسد القلب. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} 2. وقال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} 3. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} 4. وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 5 الآية. قدم الحذر على الرجاء في هذه الآية.   1 صحيح. عبد الرزاق (10/ 459 , 460) ، وابن جرير (5/ 26) . وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 484) : "وهو صحيح إليه بلا شك" ا. هـ. وقال الهيثمي (1/ 104) : "وإسناده صحيح" ا. هـ. 2 سورة الملك آية: 12. 3 سورة النور آية: 37. 4 سورة المؤمنون آية: 60-61. 5 سورة الزمر آية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 باب: " من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله"   قوله: "باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله". قال الإمام أحمد: ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعا من كتابه. وفي الحديث الصحيح: " الصبر ضياء " 1. رواه أحمد ومسلم. وللبخاري ومسلم مرفوعا: " ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر " 2. قال عمر رضي الله عنه: " وجدنا خير عيشنا بالصبر " 3رواه البخاري.   1 جزء من حديث أبي مالك الأشعري مسلم: كتاب الطهارة (223) (1) : باب فضل الوضوء، وأحمد (5/ 343 , 344) . 2 البخاري: الزكاة (1469) , ومسلم: الزكاة (1053) , والترمذي: البر والصلة (2024) , والنسائي: الزكاة (2588) , وأبو داود: الزكاة (1644) , وأحمد (3/93) , ومالك: الجامع (1880) , والدارمي: الزكاة (1646) . 3 البخاري معلقا (11/ 303) كتاب الرقاق. وقال الحافظ في الفتح (11/ 303) : وقد وصله أحمد في كتاب الزهد بسند صحيح عن مجاهد قال: قال عمر ... " ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 قال علي رضي الله عنه: " إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد - ثم رفع صوته- فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له ". واشتقاقه: من صبر إذا حبس ومنع. والصبر: حبس النفس عن الجزع، وحبست اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما. ذكره ابن القيم -رحمه الله-. واعلم أن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على ما أمر الله به، وصبر عما نهى عنه، وصبر على ما قدره من المصائب. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1. قال علقمة: " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم". قوله: "وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ". وأول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} 2 أي بمشيئته وإرادته وحكمته، كما قال في الآية الأخرى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3 وقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 4. قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . قال ابن عباس في قوله: {إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} "إلا بأمر الله" يعني عن قدره ومشيئته. {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} أي من صابته مصيبة فعلم أنها بقدر الله فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه، ويقينا صادقا. وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه. قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 5 تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته، وذلك يوجب الصبر والرضا. قوله: "قال علقمة: " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ". هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وعلقمة: هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي. ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم -رضي الله   1 سورة التغابن آية: 11. 2 سورة التغابن آية: 11. 3 سورة الحديد آية: 22. 4 سورة البقرة آية: 156-157. 5 سورة البقرة آية: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 عنهم-. وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين. قوله: "هو الرجل تصيبه المصيبة" إلخ. هذا الأثر رواه الأعمش عن أبي ظبيان، قال: كنا عند علقمة فقرئ عليه هذه الآية {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} 1 قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. هذا سياق ابن جرير. وفي هذا دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان. قال سعيد بن جبير: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} يعني يسترجع. يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. وفي الآية بيان أن الصبر سبب لهداية القلب، وأنها ثواب الصابرين. قوله: "وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت " 2". أي هما بالناس كفر حيث كانتا من أعمال الجاهلية، وهما قائمتان بالناس ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله تعالى ورزقه علما وإيمانا يستضيء به. لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا كالكفر المطلق، كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا الإيمان المطلق. وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله: " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة " 3 4 وبين كفر منكر في الإثبات. قوله: "الطعن في النسب" أي عيبه، يدخل فيه أن يقال: هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه. هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت "5. ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: " ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية " 6. قوله: "والنياحة على الميت" أي رفع الصوت بالندب وتعداد فضائل الميت، لما فيه من التسخط على القدر المنافي للصبر، كقول النائحة: واعضداه، واناصراه، ونحو ذلك. وفيه دليل على أن الصبر واجب، وأن من الكفر ما لا ينقل عن الملة. قوله: "ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: " ليس منا من ضرب الخدود; وشق   1 سورة التغابن آية: 11. 2 مسلم: كتاب الإيمان (67) (121) : باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة. 3 أخرجه مسلم: كتاب الإيمان (82) (134) : باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، وذلك من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا بلفظ: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". أما الرواية بهذا اللفظ فهي عند ابن ماجة من حديث أنس (1080) . 4 رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله بألفاظ متقاربة. 5 مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/496) . 6 البخاري: الجنائز (1297) , ومسلم: الإيمان (103) , والترمذي: الجنائز (999) , والنسائي: الجنائز (1860 ,1862 ,1864) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1584) , وأحمد (1/386 ,1/432) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية ". هذا من نصوص الوعيد، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهية تأويلها ليكون أوقع في النفوس; وأبلغ في الزجر، وهو يدل على أن ذلك ينافي كمال الإيمان الواجب. قوله: "من ضرب الخدود" وقال الحافظ: " خُص الخد لكونه الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه مثله". قوله: "وشق الجيوب" هو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب، وذلك من عادة أهل الجاهلية حزنا على الميت. قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية" قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: هو ندب الميت. وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور. وقال ابن القيم -رحمه الله-: " الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بعض، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي، فكل هذا من دعوى الجاهلية". وعند ابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي أمامة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور " 1. وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وقد يعفى عن الشيء اليسير من ذلك إذا كان صدقا، وليس على وجه النوح والتسخط. نص عليه أحمد -رحمه الله-؛ لما وقع لأبي بكر وفاطمة -رضي الله عنهما- لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس في هذه الأحاديث ما يدل على النهي عن البكاء، لما في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال: " تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " 2 3 وفي الصحيحين. عن أسامة بن زيد رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى إحدى بناته4 ولها صبي في الموت، فرفع إليه ونفسه تقعقع كأنها شن، ففاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " 5.   1 حسن. ابن ماجة: كتاب الجنائز (1585) : باب ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب وابن حبان (737- موارد) وصححه البوصيري في الزوائد. وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4968) . 2 البخاري: كتاب الجنائز (1303) : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إنا بك لمحزونون مسلم: كتاب الفصائل (2315) (62) : باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال. 3 رواه البخاري وغيره. 4 هي زينب كما في صحيح البخاري. 5 البخاري: كتاب الجنائز (1284) : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه .... مسلم: كتاب الجنائز (923) (11) : باب البكاء على الميت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 قوله: "وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة " 1. هذا الحديث رواه الترمذي والحاكم. وحسنه الترمذي. وأخرجه الطبراني والحاكم عن عبد الله بن مغفل. وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة، والطبراني عن عمار بن ياسر. قوله: " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ". أي يصب عليه البلاء والمصائب لما فرط من الذنوب منه، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم القيامة. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: المصائب نعمة؛ لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها. وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له; والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة. فنفس البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا وهذا من أعظم النعم. فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق، إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فيكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو وجع، حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر الظاهر، وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه، فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة، كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عز وجل ورحمة للخلق، والله تعالى محمود عليها، فمن ابتلي فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه، قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} 2. وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات. فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك. انتهى ملخصا. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، قوله: "وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه" أي أخر عنه العقوبة بذنبه. "حتى يوافي به يوم القيامة" وهو بضم الياء وكسر الفاء منصوبا بحتى مبنيا للفاعل. قال العزيزي:   1 صحيح. الترمذي: كتاب الزهد (2396) : باب ما جاء في الصبر على البلاء. وقال: هذا حديث حسن غريب. والحاكم (1/ 349 , 4/ 376 , 377) . وصححه الألباني لشواهده وطرقه في الصحيحة (1220) . 2 سورة البقرة آية: 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 أي لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها، فيستوفي ما يستحقه من العقاب. وهذه الجملة هي آخر الحديث. فأما قوله: " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء " إلى آخره"، فهو أول حديث آخر، لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد وصحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد. وفيه التنبيه على حسن الرجاء وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك، كما قال تعالى: " {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1. قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط ". حسنه الترمذي". قال الترمذي: حدثنا قتيبة ثنا الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس، فذكر الحديث السابق ثم قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن عظم الجزاء " الحديث. ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ورواه ابن ماجه. وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم. فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط " 2. حسنه الترمذي. وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رفعه: " إذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع " 3 قال المنذري: رواته ثقات. قوله: "إن عظم الجزاء" بكسر العين وفتح الظاء فيها. ويجوز ضمها مع سكون الظاء أي من كان ابتلاؤه أعظم كمية وكيفية. وقد يحتج بهذا الحديث من يقول: إن المصائب يثاب عليها مع تكفير الخطايا. ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط، إلا إذا كانت سببا لعمل صالح، كالصبر والرضا والتوبة والاستغفار، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها، وعلى هذا يقال في معنى الحديث: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا صبر واحتسب. قوله: "وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم" ولهذا ورد في حديث سعد " سئل صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل; يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر   1 سورة البقرة آية: 216. 2 حسن. الترمذي: كتاب الزهد (2396) : باب ما جاء في الصبر على البلاء. وابن ماجة: كتاب الفتن (4031) : باب الصبر على البلاء من حديث أنس. وحسنه الألباني في الصحيحة (146) . وحسنه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (5/ 245) . 3 صحيح. أحمد (5/ 427 , 429) . وقال المنذري في الترغيب (4/ 283) ، والهيثمي في المجمع (2/ 291) ، والحافظ (10/ 108) : "رواته ثقات". وصححه الألباني في صحيح الجامع (282) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الثالثة: الطعن في النسب. الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير. السادسة: إرادة الله به الشر. السابعة: علامة حب الله للعبد. الثامنة: تحريم السخط. التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء. قوله: "فمن رضي فله الرضا" أي من الله تعالى; والرضا قد وصف الله تعالى به نفسه في مواضع من كتابه كقوله تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 2. ومذهب السلف وأتباعهم من أهل السنة: إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل، فإذا رضي الله تعالى عنه حصل له كل خير، وسلم من كل شر. والرضى هو أن يسلم العبد أمره إلى الله، ويحسن الظن به، ويرغب في ثوابه، وقد يجد لذلك راحة وانبساطا محبة لله وثقة به، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: " إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل لهم الحزن في الشك والسخط ". قوله: "ومن سخط" وهو بكسر الخاء، قال أبو السعادات: السخط: الكراهية للشيء وعدم الرضا به. أي من سخط على الله فيما دبره فله السخط، أي من الله، وكفى بذلك عقوبة. وقد يستدل به على وجوب الرضا، وهو اختيار ابن عقيل. واختار القاضي عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم.   1 صحيح. أحمد (1/ 172 , 174 , 180 , 185) والترمذي: كتابه الزهد (2398) : باب ما جاء في الصبر على البلاء وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجة: كتاب الفتن (4023) : باب الصبر على البلاء والدارمي (2/ 320) . ورواه أيضا النسائي في الكبرى [كما في تحفة الأشراف (3/ 318) ] . وصححه الألباني في الصحيحة (143) . وصححه الأرناءوط في تخريج شرح السنة (5/ 245) . 2 سورة البينة آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 قال شيخ الإسلام: ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه. قال: وأما ما يروى: " من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي " 1. فهذا إسرائيلي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام: " وأعلى من ذلك- أي من الرضا- أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها". اهـ والله أعلم.   1 ضعيف. أخرجه البيهقي في الشعب (1/ 149 , 150) من حديث أنس -رضي الله عنه- بإسناد ضعيف, ورواه ابن حبان في المجروحين (1/ 327) ، والطبراني في الكبير (22/ 320) عن أبي هند الداري، وضعفه ابن حبان. وقال العراقي (كما في فيض القدير 4/ 47) : إسناده ضعيف جدا. وراجع النهج السديد (410) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 باب: " ما جاء في الرياء" وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1.   قوله: "باب ما جاء في الرياء". أي من النهي والتحذير. قال الحافظ: " هو مشتق من الرؤية. والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها. والفرق بينه وبين السمعة: أن الرياء لما يُرى من العمل كالصلاة. والسمعة لما يُسمع كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله". قوله: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} " أي ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء، بل ذلك كله لله وحده لا شريك له أوحاه إليّ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي يخافه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .   1 سورة الكهف آية: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 قوله: "أحدا" نكرة في سياق النهي تعم، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة، وقالوا: لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة، وذكر الأدلة على ذلك. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الآية: أي كما أن الله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح: هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة. وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمرسلين وعن أبي هريرة مرفوعا: " قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه " 1. رواه مسلم. قبله، هو إفراده تعالى بأنواع العبادة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام: إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته; ويدعو الناس إلى عبادته، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبارة الأوثان، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها، أو شاك في التوحيد: أهو حق أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته؟ أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله، وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجهلهم وتقليدهم من قبلهم، لما اشتدت غربة الدين ونسي العلم بدين المرسلين. قوله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا " قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ". رواه مسلم. قوله: "من عمل عملا أشرك معي فيه غيري". أي من قصد بعمله غيري من المخلوقين تركته وشركه. ولابن ماجه: " فأنا بريء وهو الذي أشرك "3. قال الطيبي: " الضمير المنصوب في قوله: "تركته" يجوز أن يرجع إلى العمل". قال ابن رجب -رحمه الله-: 4 واعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضا   1 مسلم: الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435) . 2 سورة الأنبياء آية: 25. 3 ابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435) . 4 في شرح حديث إنما الأعمال بالنيات من جامع العلوم والحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 كحال المنافقين. كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً} 1. وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام. وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة. وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه. وذكر أحاديث تدل على ذلك منها: هذا الحديث وحديث شداد بن أوس مرفوعا: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، فمن أشرك بي شيئا فإن جِدّة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به. أنا عنه غني " 2. رواه أحمد. وذكر أحاديث في المعنى ثم قال: فإن خالط نية الجهاد مثلا نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة الخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية. قال ابن رجب: وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: التاجر والمستأجر والمكري أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم، ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره. وقال أيضا فيمن يأخذ جُعل الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس، كأنه خرج لدينه إن أُعطي شيئا أخذه. وروى عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: " إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقا فلا بأس بذلك، وأما إن أحدكم أُعطي دراهم غزا وإن لم يعط لم يغز فلا خير في ذلك ". وروي عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال في حج الجمّال وحج الأجير، وحج التاجر: "هو تام لا ينقص من أجرهم شيء". أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب. قال: وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا فيجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه وعن أبي سعيد مرفوعا: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " 3 رواه أحمد. يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن وغيره. وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من   1 سورة النساء آية: 142. 2 أحمد (4/ 125 , 126) ، والحاكم (4/ 329) . وقال الهيثمي: (10/ 221) : "وفيه شهر بن حوشب وثقه أحمد وغيره, وضعفه غير واحد". 3 ابن ماجه: الزهد (4204) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الخير يحمده الناس عليه، فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن "1. رواه مسلم. انتهى ملخصا. قلت: وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى. قوله: "وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " 2. رواه أحمد". وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، إياكم وشرك السرائر، قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر " 3. قوله: "عن أبي سعيد الخدري" وتقدم. قوله: "الشرك الخفي" سماه خفيا؛ لأن صاحبه يظهر أن عمله لله وقد قصد به غيره، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله. وعن شداد بن أوس قال: " كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الكهف. الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله. الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك وهو كمال الغنى. الرابعة: أن من الأسباب: أنه تعالى خير الشركاء. الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء. السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه. الشرك الأصغر " 4. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير في التهذيب، والطبراني والحاكم وصححه. قال ابن القيم: " وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2642) , وابن ماجه: الزهد (4225) , وأحمد (5/156) . 2 صحيح. أحمد (3/ 30) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 17) وصحيح الجامع (2604) . ورواه أيضا ابن ماجة: كتاب الزهد (240) باب الرياء والسمعة وحسنه البوصيري في الزوائد. 3 صحيح. ابن خزيمة (937) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 17) . 4 حسن. الطبراني (7160) والحاكم (4/ 329) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 18) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده". انتهى. ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذلك المتابعة، كما قال الفضيل بن عياض -رحمه الله- في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1. قال: "أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة". وفي الحديث عن الفوائد: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم، فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره.   1 سورة هود آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 باب: " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا" وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.   قوله: "باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا". فإن قيل: فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟ قلت: بينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس والتصنع لهم والثناء، فهذا رياء كما تقدم بيانه، كحال المنافقين. وهو أيضا إرادة الدنيا بالتصنع عند الناس، وطلب المدحة منهم والإكرام. ويفارق الرياء بكونه عمل عملا صالحا، أراد به عرضا من الدنيا، كمن يجاهد ليأخذ مالا، كما في الحديث. " تعس عبد الدينار " 2. أو يجاهد للمغنم أو غير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من المفسرين في معنى قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} . وأراد المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة، وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال   1 سورة هود آية: 15-16. 2 جزء من حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري: كتاب الجهاد (2887) : باب الحراسة في الغزو في سبيل الله وسيأتي برقم (232) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء، لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرا من هذا وهذا. قال: "وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ". قال ابن عباس رضي الله عنه: "من كان يريد الحياة الدنيا" أي ثوابها. وزينتها: أي مالها. نوف أي نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد. "وهم فيها لا يبخسون" لا ينقصون، ثم نسختها {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} 1 الآيتين. رواه النحاس في ناسخه. قوله: "ثم نسختها" أي قيدتها. فلم تبق الآية على إطلاقها2. وقال قتادة: " من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة " ذكره ابن جرير بسنده، ثم ساق حديث أبي هريرة 3 عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: حدثني الوليد ابن أبي الوليد أبو عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه أن شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه "أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة. قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس. فلما سكت وخلا قلت: أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته. قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله   1 سورة الإسراء آية: 18. 2 من العجيب جدا دعوى النسخ (*) . فإن الآيتين في معنى واحد. وتفسير النسخ بتقييد مطلقها -يعني بالمشيئة- كذلك غير واضح, والظاهر أنها لا تثبت رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (*) قوله: (من العجيب جدا دعوى النسخ) إلخ. أقول: ليس في ذلك ما يتعجب منه؛ لأن معنى النسخ عند السلف أوسع من معناه عند الفقهاء؛ لأن السلف يطلقون النسخ على تقييد المطلق وتخصيص العام؛ لكونهما غيرا المعنى المفهوم من النص المطلق والنص العام, ومعلوم أن آية هود مطلقة ظاهرها أن مريد الدنيا بأعماله يعطى مراده, وآية الأسرى بينت أنه لا يعطى من ذلك إلا ما شاء الله، وإن ذلك أيضا لا يحصل إلا لمن أراده الله, فاتضح من ذلك أن طالب الدنيا بأعماله قد يعطى مراده إذا شاء الله ذلك, وقد يعمل ولا يحصل له ما أراد؛ لأن الله سبحانه لم يشأ ذلك, وهذا واضح جدا, والله أعلم. 3 صحيح. أخرجه الترمذي: كتاب الزهد (2382) : باب ما جاء في الرياء والسمعة. وقال: حديث حسن غريب. وابن حبان (2502- موارد) ، والحاكم (1/ 418 , 419) ، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 13: 15) . وصحيح الجامع (1709) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره، ثم نَشَغ أبو هريرة نَشْغة1 ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه غيري أحد وغيره. ثم نَشَغ أبو هريرة نَشْغة أخرى، ثم مال خارا على وجهه; واشتد به طويلا. ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يوم القيامة نزل إلى القيامة ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية. فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له: فبماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جريء فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعّر بهم النار يوم القيامة " 2.   1 نشغ بفتح النون والشين المعجمة وبعدها غين معجمة; أي شهق حتى كاد يغشى عليه أسفا وخوفا. 2 تمام الحديث عند ابن جرير وغيره: "قال أبو عثمان الوليد: فأخبرني عقبة أن شفيا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا. قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم، أنه كان سيافا لمعاوية قال: فدخل عليه رجل فحدثه بهذا عن أبي هريرة, فقال معاوية: وقد فعل بهؤلاء هذا؟ فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هلك, وقلنا: قد جاء هذا الرجل بشر. ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) . قال المنذري: ورواه ابن خزيمة في صحيحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وقد سئل شيخنا المصنف -رحمه الله- عن هذه الآية فأجاب بما حاصله: ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه. فمن ذلك: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله: من صدقة وصلاة، وصلة وإحسان إلى الناس، وترك ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس. النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها نزلت فيه: وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس، لا طلب ثواب الآخرة. النوع الثالث: أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضا هذا النوع في تفسير هذه الآية، كما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا. النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفّره كفرا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله، أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره. وكان السلف يخافون منها، فقال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 1. ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله، طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالا قاصدا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلّص وأهل النار الخلص، ويسكت عن   1 سورة المائدة آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله اهـ. في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع " 1. قوله: "في الصحيح" أي صحيح البخاري. قوله: "تعس" هو بكسر العين ويجوز الفتح، أي سقط، والمراد هنا هلك. قاله الحافظ. وقال في موضع آخر: وهو ضد سعد أي شقي. قال أبو السعادات: يقال: تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه، وهو دعاء عليه بالهلاك. قوله: "عبد الدينار" هو المعروف من الذهب كالمثقال في الوزن. قوله: "تعس عبد الدرهم" وهو من الفضة، قدره الفقهاء بالشعير وزنا، وعندنا منه درهم من ضرب بني أمية، وهو زنة خمسين حبة شعير وخُمسا حبة، سماه عبدا له؛ لكونه هو المقصود بعمله، فكل من توجه بقصده لغير الله فقد جعله شريكا له في عبوديته كما هو حال الأكثر. قوله: "تعس عبد الخميصة" قال أبو السعادات: هي ثوب خز أو صوف معلم. وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلَّمة، وتجمع على خمائص. والخميلة بفتح الخاء المعجمة. وقال أبو السعادات: ذات الخمل، ثياب لها خَمَل من أي شيء كان. قوله: "تعس وانتكس" قال الحافظ: هو بالمهملة، أي عاوده المرض. وقال أبو السعادات: أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة. قال الطيبي: فيه الترقي بالدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه. وإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط.   1 البخاري: الجهاد والسير (2887) , وابن ماجه: الزهد (4136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 قوله: "وإذا شيك" أي أصابته شوكة "فلا انتقش" أي فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش قاله أبو السعادات. والمراد أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب، ومن كانت هذه حاله فلا بد أن يجد أثر هذه الدعوات في الوقوع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة. وذكر فيه ما هو دعاء بلفظ الخبر، وهو قوله: "تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال. وقد وصف ذلك بأنه "إن أُعطي رضي، وإن مُنِع سخط" كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 1. فرضاؤهم لغير الله، وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا منها برياسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده - إلى أن قال: - وهكذا أيضا طالب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه. وهذه الأمور نوعان: فمنها ما يحتاج إليه العبد، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك; فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه. فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبده فيكون هلوعا. ومنها: ما لا يحتاج إليه العبد، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها، وربما صار مستعبدا ومعتمدا على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار; تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة ". وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها   1 سورة التوبة آية: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 طلبها من الله؛ فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض لله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان. انتهى ملخصا. قوله: "طوبى لعبد" قال أبو السعادات: "طوبى" اسم الجنة، وقيل: هي شجرة فيها. ويؤيد هذا ما روى ابن وهب بسنده عن أبي سعيد قال: "قال رجل: يا رسول الله وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها". ورواه الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى سمعت عبد الله بن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم1 حدثه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن رجلا قال: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك; قال: طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني. قال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " 2. وله شواهد في الصحيحين وغيرهما. وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهنا أثرا غريبا عجيبا. قال وهب -رحمه الله-: "إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: زهرها رياط، وورقها برود3 وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، بينما هم في مجلسهم إذ أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح من حسنها، ووبرها كخز المرعزي من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت، ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه. قال: فيركبونها، قال: فهي أسرع من الطائر، وأوطأ   1 ابن لهيعة وأبو الهيثم ضعيفان. كما صرح بذلك الإمامان أحمد وأبو داود. وقد روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ". 2 صحيح: أحمد (3/ 71) ، وابن حبان (2625- موارد) . وصححه الألباني في الصحيحة (1241) ، وصحيح الجامع (3818) لشواهده وطرقه. 3 الرياط: جمع ريطة -بفتح الراء المهملة- ثوب كالملاءة. قيل: كل ثوب رقيق لين. والبرد: كالعباءة (*) . (*) قوله: (والبرد كالعباءة) فيه نظر, والصواب أن البرد لا يشبه العباءة بل هو نوع آخر, قال في القاموس ما نصه: (البرد بالضم: ثوب مخطط جمعه أبراد وأبرد وبرود, وأكسية يلتحق بها. الواحدة بالهاء) انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 من الفراش. خَبّا من غير مِهنة، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أُذن راحلة منها أُذن صاحبتها، ولا برك راحلة برك صاحبتها، حتى إن الشجرة لتنتحي عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه. قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام. قال: فيقول -تبارك وتعالى- عند ذلك: أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحبا بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري. قال: فيقولون: ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فائذن لنا بالسجود قدامك. قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، بأن لكل رجل منكم أمنيته. فيسألونه، حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: ربي، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها، رب فآتني من كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا. فيقول الله تعالى: لقد قَصّرت بك اليوم أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني وسأتحفك بمنزلتي؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا قِصَر يَدٍ. قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر على بال. قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم1 التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مُقرّنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قبة من ذهب مفزعة، في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما، ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما من دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء، يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى لهما مثل ذلك. ثم يدخل عليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له". وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد: "فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية بالدر والمرجان أبوابها   1 في ابن جرير: "حتى يقضوهم أمانيهم". وفي ابن كثير: "حتى تقصر بهم أمانيهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 من ذهب وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس وإستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها، فلولا أنه مسخر إذا لالتمع الأبصار، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر، مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشُرَفها من قباب من لؤلؤ، وبروجها غرف من المرجان. فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح، تحتها الولدان المخلدون، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت، سرر موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق، فانطلقت بهم تلك البراذين تزف، فينظرون رياض الجنة، فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعودا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم وما سألوا وما تمنوا، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان: جنتان ذواتا أفنان، وجنتان مدهامتان، وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام. فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ} 1. قال: هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا. قال: فبرضائي عنكم أحللتكم داري ونظرتم إلى وجهي، فعند ذلك قالوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} 2. وهذا سياق غريب وأثر عجيب، ولبعضه شواهد في الصحيحين3. وقال خالد بن معدان: "إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى، ضُروع كلها، ترضع صبيان   1 سورة الأعراف آية: 44. 2 سورة فاطر آية: 34-35. 3 قال هذا الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة الرعد: (13: 29) (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب) . وقال فيه ابن كثير: إنه سياق غريب وأثر عجيب اهـ. وظاهر عليه صبغة الإسرائيليات الملفقة. وكم لوهب بن منبه وكعب الأحبار من هذه الخرافات والآثار السخيفة التي تمجها الفطر السليمة، وقد فتن الناس بهذه الإسرائيليات وفسدت بها عقائد كثير منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 أهل الجنة، وإن سَقْط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة" رواه ابن أبي حاتم. قوله: "أخذ بعنان فرسه في سبيل الله" أي في جهاد المشركين. قوله: "أشعث" مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل. و "رأسه" مرفوع على الفاعلية، وهو طائر الشعر، شغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالأدهان وتسريح الشعر. قوله: "مغبرة قدماه" هو بالجر صفة ثانية لعبد. قوله: "إن كان في الحراسة كان في الحراسة" هو بكسر الحاء أي حمى الجيش عن أن يهجم العدو عليهم. قوله: "كان في الحراسة" أي غير مقصر فيها ولا غافل، وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال. قوله: "وإن كان في الساقة كان في الساقة" أي في مؤخرة الجيش، يقلب نفسه في مصالح الجهاد، فكل مقام يقوم فيه إن كان ليلا أو نهارا، رغبة في ثواب الله وطلبا لمرضاته ومحبة لطاعته. فيه مسائل: الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة. الثانية: تفسير آية هود. الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة. الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط. الخامسة: قوله: "تعس وانتكس". السادسة: قوله: "وإذا شيك فلا انتقش". السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات. قال ابن الجوزي -رحمه الله-: " وهو خامل الذكر لا يقصد السمو ". وقال الخلخالي: " المعنى ائتماره بما أمر، وإقامته حيث أقيم، لا يفقد من مقامه، وإنما ذكر الحراسة والساقة؛ لأنهما أشد مشقة". انتهى. وفيه فضل الحراسة في سبيل الله. قوله: "إن استأذن لم يؤذن له" أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يؤذن له؛ لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة؛ لأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله لا يقصد بعمله سواه. قوله: "وإن شفع" بفتح أوله وثانيه "لم يشفّع" بفتح الفاء مشددة. يعني لو ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم. وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا: " رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وروى الإمام أحمد أيضا عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال: قال عثمان "-رضي الله عنه وهو يخطب على منبره-: " إني محدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها " 2. وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك: قال عبد الله بن محمد قاضي نصيبين: حدثني محمد بن إبراهيم ابن أبي سكينة أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وواعده الخروج. وأنشدها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة. قال: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولهم يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رَهَج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الليل في ... أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب قال: فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه فقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم، قال لي: اكتب هذا الحديث، وأملى عليّ الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة: " أن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت، فضل المجاهدين في سبيل الله، أما علمت أن فرس المجاهد لَيْسَتَنُّ في طِوَله فيكتب له بذلك حسنات "؟ 3 4   1 الترمذي: فضائل الجهاد (1667) , وابن ماجه: الجهاد (2766) , وأحمد (1/64) , والدارمي: الجهاد (2424) . وضعّفه الألباني في ضعيف الجامع (2703) . 2 البخاري: كتاب الجهاد (2785) : باب فضل الجهاد والسير من حديث أبي هريرة بنحوه. 3 روى البخاري حديث سؤال الرجل هذا عن أبي هريرة. وفيه: فقال أبو هريرة: "فإن فرس المجاهد ليستن يمرح في طوله فيكتب له حسنات". والطول: الحبل. والاستنان: العدو. وروى مسلم مثله قريبا منه في فضل الجهاد في سبيل الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 باب: " من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله" وقال ابن عباس: " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ ".   قوله: "باب من أطاع من العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله". لقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وتقدم تفسير هذا في أصل المصنف -رحمه الله- عند ذكر حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. قوله: "وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ ". قوله: "يوشك" بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي يقرب ويسرع. وهذا القول من ابن عباس -رضي الله عنهما- جواب لمن قال له: إن أبا بكر وعمر "-رضي الله   1 سورة التوبة آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 عنهما- لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان أن إفراد الحج أفضل أو ما هو معنى هذا، وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول: " إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، فقد حل من عمرته شاء أم أبى "؛ لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، فقال سراقة: " يا رسول الله ألِعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد " 1. والحديث في الصحيحين. وحينئذ فلا عذر لمن استفتى أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام، ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له ملكة يقتدر بها على ذلك. كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2. وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت " 3 4. هذا لفظ البخاري في حديث عائشة -رضي الله عنها-. ولفظه في حديث جابر: " افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم " 5 في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس. وبالجملة فلهذا قال ابن عباس لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-: " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ". الحديث. وقال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: " ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم". وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير. وما زال العلماء -رحمهم الله- يجتهدون في الوقائع، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، كما في الحديث6 7. لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم. وأما إذا لم   1 البخاري: كتاب العمرة (1785) : باب عمرة التنعيم بلفظ: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ فال: "لا بل للأبد" ومسلم: كتاب الحج (1216) (141) : باب بيان وجوه الإحرام.. من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. 2 سورة النساء آية: 59. 3 البخاري: كتاب الحج (1651) : باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، كتاب العمرة (1785) : باب عمرة التنعيم، كتاب التمني (7230) : باب قول -النبي صلى الله عليه وسلم-: لو استقبلت من أمري ما استدبرت. ومسلم: كتاب الحج (1216) (143) : باب بيان وجوه الإحرام، واللفظ له في الرواية التي ذكرها المؤلف من حديث جابر -رضي الله عنه- والبخاري: كتاب التمني (7229) باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لو استقبلت من أمري ما استدبرت. ومسلم: كتاب الحج (1211) (130) ; باب بيان وجوه الإحرام من حديث عائشة -رضي الله عنها-. 4 قال ذلك حين أمرهم في حجة الوداع أن يفسحوا حجهم إلى العمرة, ليكونوا متمتعين. ووجدوا في أنفسهم من ذلك لقرب ذهابهم إلى منى, وقصر المدة التي يقيمونها في مكة متمتعين بنسائهم حتى قالوا: "نذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا". انظر: زاد المعاد في حجة الرسول -صلى الله عليه وسلم -. 5 البخاري: الحج (1568) . 6 وذلك في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطا فله أجر ". أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام (7352) : باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. مسلم: كتاب الأقضية (1716) (15) : باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. 7 "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 يبلغهم الحديث أو لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عندهم في حديث، أو ثبت وله معارض أو مخصص ونحو ذلك، فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد. وفي عصر الأئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى- إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللقى والسماع، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين. ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف ودونوا الأحاديث ورووها بأسانيدها، وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها. والفقهاء صنفوا في كل مذهب، وذكروا حجج المجتهدين، فسهل الأمر على طالب العلم، وكل إمام يذكر الحكم بدليله عنده، وفي كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يدل على أن من يبلغه الدليل فلم يأخذ به- تقليدا لإمامه- فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ لمخالفته الدليل. وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عمر البزاز، حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا أبو عبيدة الحداد عن مالك بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: " ليس منا أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وسلم ". وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائنا من كان، ونصوص الأئمة على هذا، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة، فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد. وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد، وذلك مجمع عليه، كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى. قوله: وقال الإمام أحمد: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1. صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم (فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعلّه إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ". أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". هذا الكلام من الإمام أحمد -رحمه الله- رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب. قال الفضل عن أحمد: "نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاث وثلاثين موضعا، ثم جعل يتلو   1 سورة النور آية: 63. 2 سورة النور آية: 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية. فذكر من قوله: الفتنة الشرك - إلى قوله: - فيهلك". ثم جعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما ً} 1. وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له: "إن قوما يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الكفر. قال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} 2 فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي". ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-. قوله: "عرفوا الإسناد" أي إسناد الحديث وصحته، فإذا صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء. وسفيان: هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب يأخذون عنه، ومذهبه مشهور يذكره العلماء -رحمهم الله- في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة، كالتمهيد لابن عبد البر، والاستذكار له، وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لابن المنذر، والمحلى لابن حزم، والمغني لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي. وغير هؤلاء. فقول الإمام أحمد -رحمه الله-: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته " إلخ إنكار منه لذلك، وأنه يؤول إلى زيغ القلوب الذي يكون به المرء كافرا. وقد عمت البلوى بهذا المنكر خصوصا ممن ينتسب إلى العلم، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة، وصدوا عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم أمره ونهيه، فمن ذلك قولهم: لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد. والاجتهاد قد انقطع3 ويقول: هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن   1 سورة النساء آية: 65. 2 سورة البقرة آية: 217. 3 في قرة العيون: وقد أخطأوا في ذلك. وقد استدل الإمام أحمد -رحمه الله- بقوله –صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " أن الاجتهاد لا ينقطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الهوى، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ، وغيره من الأئمة يخالفه، ويمنع قوله بدليل، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله. فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وفهم معنى ذلك: أن ينتهي إليه ويعمل به، وإن خالفه من خالفه، كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم، وقد حكى أيضا أبو عمر ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك. قلت: ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة، لجهلهم بالكتاب والسنة، ورغبتهم عنهما، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم، واتبعوا غير سبيلهم. كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد، ولكن في كلام أحمد -رحمه الله- إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم، وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفهم لقوم إمام من الأئمة، وذلك إنما ينشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله، والإقبال على كتب من تأخروا والاستغناء بها عن الوحيين، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 3، كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم، فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها، وعرف أقوالهم أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة؛ فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لا بد أن يذكر دليله، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقا إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهنا، وتمييزا للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه، والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر وفي السنة كذلك، كما أخرج أبو داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله تعالى. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال:   1 سورة الأعراف آية: 3. 2 سورة العنكبوت آية: 51. 3 سورة التوبة آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله " 1. وساق بسنده عن الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن - بمعناه". والأئمة -رحمهم الله- لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة، لعلمهم أن من العلم شيئا لم يعلموه، وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء. قال أبو حنيفة -رحمه الله-: " إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة -رضي الله عنهم- فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال". وقال: " إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله". قيل: إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: " اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم". وقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: " اتركوا قولي لقول الصحابة". وقال الربيع: " سمعت الشافعي -رحمه الله- يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا ما قلت". وقال: " إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط". عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وقال مالك: " كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم". وتقدم له مثل ذلك، فلا عذر لمقلد بعد هذا. ولو استقصينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى2. قوله: "لعله إذا رد بعض قوله" أي قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك" نبه -رحمه الله- أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 3.   1 منكر. أبو داود: كتاب الأقضية (3592) , (3593) : باب اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي: الأحكام (1327) , وأحمد (5/236 ,5/242) , والدارمي: المقدمة (168) . وضعفه البخاري والترمذي والعقيلي والدارقطني وابن حزم وابن طاهر وابن الجوزي والذهبي والسبكي وابن حجر وغيرهم. راجع الضعيفة للألباني (881) . 2 في قرة العيون: فعلى من اشتغل بمصنفات أهل مذهبه أن ينظر في أقوال المخالفين وما استدلوا به متبعا للدليل مع من كان معه. وبالله التوفيق. 3 سورة الصف آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في معنى قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} 1: " فإذا كان المخالف لأمره قد حذر من الكفر والشرك، أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضيا إلى الكفر والعذاب الأليم، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الأمر; كما فعل إبليس لعنه الله تعالى"اهـ. وقال أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله تعالى- عن الضحاك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} قال: "يطبع على قلبه فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه". قال أبو جعفر ابن جرير: " أدخلت "عن" لأن معنى الكلام فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون عنه معرضين". قوله: "أو يصيبهم" في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 2 الآية. (وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3. فقلت له: " إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم ". رواه أحمد والترمذي وحسنه4. فقلت: "إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت، بلى، قال: فتلك عبادتهم". رواه أحمد والترمذي وحسنه". هذا الحديث قد روي من طرق; فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي. قوله: "عن عدي بن حاتم" أي الطائي المشهور. وحاتم: هو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج- بفتح الحاء- المشهور بالسخاء والكرم، قدم عدي على النبي صلى الله عليه وسلم   1 سورة النور آية: 63. 2 سورة التوبة آية: 31. 3 سورة التوبة آية: 31. 4 تقدم تخريجه برقم (80) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 في شعبان سنة تسع من الهجرة، فأسلم وعاش مائة وعشرين سنة. وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله، ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ لقوله تعالى في آخر الآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1. وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم، لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المقلد، وهو من هذا الشرك. ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل والحالة هذه يكره، أو يحرم، فعظمت الفتنة. ويقول: هم أعلم منا بالأدلة، ولا يأخذ بالدليل إلا المجتهد، وربما تفوهوا بذم من يعمل بالدليل، ولا ريب أن هذا من غربة الإسلام كما قال شيخنا -رحمه الله- في المسائل: " فتغيرت الأحوال، وآلت إلى هذه الغاية فصارت عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، ويسمونها ولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه. ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين". فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النور. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي. الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان. الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين. وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرعه الله ورسوله فقد عمت بها البلوى قديما وحديثا في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا. وقد قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2. وعن زياد بن حُدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي. جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.   1 سورة الأنعام آية: 121. 2 سورة القصص آية: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 باب: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا به}   باب "قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} 1 الآيات. قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: " والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل; وهو المراد بالطاغوت هاهنا". وتقدم ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله- في حده للطاغوت، وأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به; فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يحكم بهما، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده، وخرج عما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله منزلة لا يستحقها. وكذلك من عبد شيئا دون الله فإنما عبد الطاغوت، فإن كان المعبود صالحا صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ   1 سورة النساء آية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 1. وكقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2. وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه أو كان شجرا أو حجرا أو قبرا أو غير ذلك، مما يتخذه المشركون أصناما على صور الصالحين والملائكة وغير ذلك، فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته، ويتبرءوا منه; ومن عبادة كل معبود سوى الله كائنا من كان، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينه لمن فعله; وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فالتوحيد: هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 3. وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه. قال الإمام مالك -رحمه الله-: "الطاغوت ما عُبد من دون الله". وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب عنه، وجعل لله شريكا في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} 4. وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 5. فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعا لما يهواه ويريده، فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: "يزعمون" من نفي إيمانهم؛ فإن "يزعمون" إنما يقال غالبا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: "وقد أمروا أن يكفروا به"؛ لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحدا،   1 سورة يونس آية: 28-29-30. 2 سورة سبأ آية: 40-41. 3 سورة الممتحنة آية: 4. 4 سورة المائدة آية: 49. 5 سورة النساء آية: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه؛ كما أن ذلك بين في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1 الآية. وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به. وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 2 يبين تعالى في هذه الآية وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} 3. أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه، ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله; وأكده بالمصدر، ووصفه بالبعد، فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى. ففي هذه الآية أربعة أمور: الأول: أنه من إرادة الشيطان. الثاني: أنه ضلال. الثالث: تأكيده بالمصدر. الرابع: وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى. فسبحان الله ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه! وما أدله على أنه كلام رب العالمين، أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلغه عبده الصادق الأمين -صلوات الله وسلامه عليه-. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودا} . بين تعالى أن هذه صفة المنافقين، وأن من فعل ذلك أو طلبه، وإن زعم أنه مؤمن فإنه في غاية البعد عن الإيمان. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " هذا دليل على أنه من دُعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين". قوله: {ويَصُدُّونَ} لازم وهو بمعنى يعرضون؛ لأن مصدره "صدودا" فما أكثر من اتصف بهذا الوصف! خصوصا ممن يدعي العلم؛ فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أقوال من يخطئ كثيرا ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله، ويجعلون   1 سورة البقرة آية: 256. 2 سورة النساء آية: 60. 3 سورة النساء آية: 60-61-62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به. فصار المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم بين أولئك غريبا، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا. وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} 1. فتدبر هذه الآيات وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق، وترك العمل به في أكثر الوقائع. والله المستعان. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} 2. قال أبو العالية في الآية: يعني لا تعصوا في الأرض؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله. وقد أخبر تعالى عن إخوة يوسف -عليه السلام- في قوله تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} 3 - إلى قوله -: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} 4. فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض. ومناسبة الآية للترجمة: أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين، وهو من الفساد في الأرض. وفي الآية: التنبيه على عدم الاغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى. وفيها التحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحته دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه! وهذا من الفساد في الأرض ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة، تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل. نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر إلا من عصمه الله، ومن عليه بقوة داعي الإيمان، وأعطاه عقلا كاملا عند ورود الشهوات، وبصرا نافذا عند ورود الشبهات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 5 وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 6. قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 7 قال أبو بكر ابن عياش في   1 سورة البقرة آية: 11. 2 سورة البقرة آية: 11. 3 سورة يوسف آية: 70. 4 سورة يوسف آية: 73. 5 سورة الأعراف آية: 56. 6 سورة المائدة آية: 50. 7 سورة الأعراف آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 الآية: " إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وهم في فساد، فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض". وقال ابن القيم -رحمه الله-: " قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل، وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله؛ فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره، ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود المطاع، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع ولا طاعة. ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله، والدعوة إلى غير الله ورسوله". اهـ. ووجه مطابقة هذه الآية للترجمة: أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1. قوله: "وقول الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ". قال ابن كثير -رحمه الله-: " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات   1 سورة النساء آية: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 والضلالات كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان، الذي وضع لهم " الياسق"، وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره وهواه. فصارت في بنيه شرعا يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير". 1 قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2 استفهام إنكار، أي لا حكم أحسن من حكمه تعالى. وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك، أي ومن أعدل من الله حكما لمن عقل عن الله شرعه، وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، العليم بمصالح عباده القادر على كل شيء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره؟ وفي الآية، التحذير من حكم الجاهلية واختياره على حكم الله ورسوله، فمن فعل ذلك فقد أعرض عن الأحسن، وهو الحق، إلى ضده من الباطل. قوله: "عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " 3. قال النووي: " حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح". هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نضر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب: "الحجة على تارك المحجة" بإسناد صحيح كما قاله المصنف -رحمه الله- عن النووي. ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم، والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون من صحيح   1 ومثل هذا وشر منه من اتخذ من كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال, ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-. فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله. ولا ينفعه أي اسم تسمى به, ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام ونحوها. 2 سورة المائدة آية: 50. 3 ضعيف. مختصر الحجة على تارك المحجة (رقم 25- بترقيمي) مخطوط بدار الكتب، وأخرجه البغوي في شرح السنة (1/ 213) ، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 12) . وعزاه الألباني في تخريج المشكاة (1/ 59) إلى الحسن بن سفيان في الأربعين (ق 95/ 1) , والقاسم بن عساكر في أربعينه وقال: حديث غريب. وأعله الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (364) بثلاث علل. وضعفه الألباني في تخريج المشكاة (1/ 59) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الأخبار، وشاهده في القرآن قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 1 الآية. وقوله: " {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 2. وقوله: " {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} 3، ونحوه هذه الآيات. قوله: "لا يؤمن أحدكم" أي لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار. وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام. قوله: "حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". "الهوى" بالقصر، أي ما يهواه وتحبه نفسه وتميل إليه، فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج عنه إلى ما يخالفه. فهذه صفة أهل الإيمان المطلق. وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب، كما في حديث أبي هريرة: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "4 5 يعني أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب، وينزل عنه في درجة الإسلام، وينقص إيمانه، فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية أو الفسوق. فيقال: مؤمن عاص، أو يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته; فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به. 6 كما قال تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} 7. والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها -أن الإيمان: قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم-   1 سورة النساء آية: 65. 2 سورة الأحزاب آية: 36. 3 سورة القصص آية: 50. 4 البخاري: كتاب الأشربة (5578) : باب قول الله تعالى: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. ومسلم: كتاب الإيمان (57) (100) : باب نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله. 5 رواه البخاري ومسلم. 6 في قرة العيون: وهذا التوحيد الذي لا يشوبه شرك ولا كفر. وهذا هو الذي يذهب إليه أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة؛ فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلون لا يطلقون عليه الإيمان، ويقولون بتخليده في النار, وكلا الطائفتين ابتدع في الدين وترك ما دل عليه الكتاب والسنة. وقد قال تعالى: (4: 48) (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) . فقيد مغفرة ما دون الشرك بالمشيئة، وتواترت الأحاديث بما يحقق ما ذهب إليه أهل السنة. فقد أخرج البخاري وغيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير, ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير ". 7 سورة النساء آية: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 أكثر من أن تحصر، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 1 أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله " 2. الحديث، وهو في الصحيحين والسنن. والدليل على أن الإيمان يزيد قوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 3 الآية. وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} 4 الآية. خلافا لمن قال: إن الإيمان هو القول، وهم المرجئة، وإن قال: من الإيمان هو التصديق كالأشاعرة. ومن المعلوم عقلا وشرعا أن نية الحق تصديق، والعمل به تصديق، وقول الحق تصديق، وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة ولله الحمد والمنة. قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} - إلى قوله -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} 5. أي فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة. وشاهده في كلام العرب قولهم: حملة صادقة. وقد سمى الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلها، فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 6 قال بعض المفسرين: لا يهوى شيئا إلا ركبه. قال ابن رجب -رحمه الله-: أما معنى الحديث: فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب، حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها. فيحب ما أمر به ويكره ما نهي عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كرهه الله كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 7. فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلا، وأن يكره ما يكرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها كان ذلك فضلا. فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، فيرضى ما يرضى به الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه، دل ذلك على نقص محبته الواجبة،   1 سورة البقرة آية: 143. 2البخاري: كتاب الإيمان (53) : باب أداء الخمس من الإيمان. ومسلم: كتاب الإيمان (17) (24) : باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين وأبو داود: كتاب الأشربة (3692) : باب في الأوعية والترمذي: كتاب الإيمان (2611) : باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان. والنسائي: كتاب الإيمان (8/ 120) : باب آداء الخمس، وأحمد (4/113) . 3 سورة المدثر آية: 31. 4 سورة التوبة آية: 124. 5 سورة البقرة آية: 177. 6 سورة الجاثية آية: 23. 7 سورة محمد آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت، فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله. وقال الشعبي: " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد، -لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة-، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة. فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جُهينة فيتحاكما إليه " 1. فنزلت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} 2 الآية. وقد وصف الله المشركين بأتباع الهوى في مواضع من كتابه، فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 3. وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع. ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص: الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموما; ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله4 فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عموما، وبهذا يكون الدين كله لله. ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب، فتجب التوبة من ذلك. انتهى ملخصا. ومناسبة الحديث للترجمة: بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقوالهم وأفعالهم وإرادتهم. قوله: "وقال الشعبي". هو عامر بن شراحيل الكوفي، عالم أهل زمانه; وقيل: " نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف. ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله". وكان حافظا علامة ذا فنون. كان يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء"5، وأدرك خلقا كثيرا من الصحابة، وعاش بضعا وثمانين سنة. قاله الذهبي.   1 ضعيف بهذا اللفظ. رواه ابن جرير (5/ 97) مرسلا. وأما السبب الذي ذكره المصنف بقوله: "وقيل: نزلت في رجلين ... فموضوع. فقد علقه الواحدي في أسباب النزول ص 107 , 108، والبغوي في تفسيره (1/ 552) . وفي إسناده كذاب. وقد صح في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه الطبراني (12045) وغيره عن ابن عباس قال: "كان أبو بردة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه, فتنافر إليه أناس من المسلمين فأنزل الله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون) الآية. قال الهيثمي (7/ 6) : رجاله رجال الصحيح, وقال الحافظ في الإصابة (4/ 19) : وسنده جيد; وأفاده الدوسري في النهج السديد (449) . 2 سورة النساء آية: 60. 3 سورة القصص آية: 50. 4 لما روى البخاري وغيره: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار". 5 لشدة حفظه واستغنائه به عن الكتابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وفيما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى، ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان. كما هو الواقع في هذه الأزمنة وقبلها من إعانة العدو على المسلمين، وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان، ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديما وحديثا، وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعتهم والقرب منهم، وحضه على جهادهم في مواضع من كتابه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 1 الآية. وقي قصة عمر رضي الله عنه وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق، وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والأذى له، والإظهار لعداوته فانتقض به عهده، وحل به قتله. وروى مسلم في صحيحه عن عمر: سمعت جابرا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله، قال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: ائذن لي فلأقلْ، قال: قل، فأتاه فقال له، وذكر ما بينهما وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنّانا. فلما سمعه قال: وأيضا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد؟ قال: ترهنني نساءكم؟ قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟ قال: ترهنوني أولادكم؟ قال: يُسبُّ ابن أحدنا فيقال: رُهن في وسقين من تمر. ولكن نرهنك اللامة- يعني السلاح- قال: فنعم. وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس ابن جبر وعباد بن بشر. قال: فجاءوا فدعوه ليلا فنزل إليهم. -قال سفيان: قال غير عمرو: - قالت له امرأته: إني أسمع صوتا كأنه صوت دم، قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة2؛ إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب. قال محمد: إني إذا جاء فسوف   1 سورة التوبة آية: 73. 2 قال النووي: هكدا هو في جميع النسخ. قال القاضي -رحمه الله-: قال لنا شيخنا القاضي الشهيد: صوابه أن يقال: إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة. وكذا ذكر أهل السير أن أبا نائلة كان رضيعا لمحمد بن مسلمة. ووقع في صحيح البخاري: "ورضيعي أبو نائلة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل وهو متوشح. فقالوا: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم. فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن من رأسه. ثم قال: دونكم. قال: فقتلوه " 1. وفي قصة عمر: بيان أن المنافق المغموض بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل، كما في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك قتل من أظهر نفاقه منهم تأليفا للناس؛ فإنه قال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " 2. فصلوات الله وسلامه عليه.   1 مسلم كتاب الجهاد والسير (1801) (119) : باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود. من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. وهذا تقصير، فالحديث أخرجه البخاري أيضا: كتاب الرهن (2510) : باب رهن السلاح. 2 البخاري: كتاب المناقب (3518) : باب ما ينهى من دعوى الجاهلية. مسلم: كتاب البر والصلة (2584) (63) : باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما. من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات، وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 1.   قوله: "باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات. وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} . سبب نزول هذه الآية معلوم مذكور في كتب التفسير وغيرها. وهو أن مشركي قريش جحدوا اسم "الرحمن" عنادا. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2. و"الرحمن" اسمه وصفته، دل هذا الاسم على أن الرحمة وصفه سبحانه، وهي من صفات الكمال; فإذا كان المشركون جحدوا اسما من أسمائه تعالى، وهو من الأسماء التي دلت على كماله سبحانه وبحمده، فجحود معنى هذا الاسم ونحوه من الأسماء يكون كذلك، فإن جهم بن صفوان ومن تبعه يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم. فلهذا كفرهم كثيرون من أهل السنة. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عن ... هم بل حكاه قبله الطبراني فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله   1 سورة الرعد آية: 30. 2 سورة الإسراء آية: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل باطل أصّلوه من عند أنفسهم فقالوا: هذه الصفات هي صفات الأجسام. فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسما، هذا منشأ ضلال عقولهم، لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات; فشبهوا أولا وفي صحيح البخاري قال علي: " حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟ " 1. وعطلوا ثانيا، وشبهوه ثالثا بكل ناقص ومعدوم، فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته. وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها؛ فإنهم أثبتوا لله ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه، فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتا لا تشبه الذوات، فأهل السنة يقولون ذلك ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، لا تشبه صفاته صفات خلقه; فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يتناقضوا، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك وتناقضوا. فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل ولله الحمد والمنة، وإجماع أهل السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين. وقد صنف العلماء -رحمهم الله تعالى- في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع، وما فيها من التناقض والتهافت: كالإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في رده المشهور، وكتاب السنة لابنه عبد الله، وصاحب الحيدة عبد العزيز الكتاني في رده على بشر المريسي، وكتاب السنة لأبي عبد الله المروزي، ورد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد. وهو بشر المريسي، وكتاب التوحيد لإمام الأئمة محمد بن خزيمة الشافعي، وكتاب السنة لأبي بكر الخلال، وأبي عثمان الصابوني الشافعي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وأبي عمر بن عبد البر النمري، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم، وأهل الحديث. ومن متأخريهم: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه وغيرهم -رحمهم الله تعالى-. فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء. والله أعلم. قوله: "وفي صحيح البخاري قال علي رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون   1 البخاري: كتاب العلم (127) : باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية لا يفهموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 أن يُكَذَّب الله ورسوله؟ ". "علي": هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي ابن أبي طالب، وأحد الخلفاء الراشدين. وسبب هذا القول - والله أعلم - ما حدث في خلافته من كثرة إقبال الناس على الحديث، وكثرة القصاص وأهل الوعظ. فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف من هذا القبيل1 فربما استنكرها بعض الناس وردها. وقد يكون لبعضها أصل أو معنى صحيح، فيقع بعض المفاسد لذلك، فأرشدهم أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه، من بيان الحلال من الحرام الذي كلفوا به علما وعملا، دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله فيفضي بهم إلى التكذيب، ولا سيما مع اختلاف الناس في وقته، وكثرة خوضهم وجدلهم. وقد كان شيخنا المصنف -رحمه الله- لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم، وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي: كالمنعش، والمرعش، والتبصرة؛ لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده. والمعصوم من عصمه الله. وقد كان أمير المؤمنين معاوية ابن أبي سفيان ينهى القصاص عن القصص; لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك; ويقول: " لا يقص إلا أمير أو مأمور " 2. وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: " أنه   1 وقد كان هؤلاء القصاص لعدم تحريهم الصدق سببا في وضع كثير من الأحاديث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- , ذكرها أئمة الجرح والتعديل, وحذروا الناس منها. ودونوا دواوين الصحاح والسنن والمسانيد. فلا ينبغي لأحد اليوم أن ينسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثا إلا بذكر من خرجه, وخير وأولى أن يشفعه ببيان درجته من الصحة أو الضعف، إذا كان في غير الصحيحين. 2 ثبت هذا مرفوعا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث عوف بن مالك بلفظ: " لا يقص إلا أمير, أو مأمور, أو مختال". أخرجه أبو داود: كتاب العلم (3665) : باب في القصص. وأحمد (6/22، 6/27، 6/29) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (7630) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات - استنكارا لذلك- فقال: ما فَرَقُ هؤلاء؟ يجدون رِقّة عند مُحكمه، ويهلكون عند متشابهه " 1. انتهى. المستقيم علما وعملا ونية وقصدا، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها، والله الموفق للصواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قوله: "وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: " أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك، فقال: ما فَرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه ". قوله: "وروى عبد الرزاق" هو ابن همام الصنعاني المحدث، محدث اليمن صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري، وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيرا. ومعمر- بفتح الميمين وسكون العين- أبو عروة ابن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيرا. قوله: "عن ابن طاوس" هو عبد الله بن طاوس اليماني. قال معمر: " كان من أعلم الناس بالعربية". وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. قوله: "عن أبيه" هو طاوس بن كيسان الجندي -بفتح الجيم والنون- الإمام العلم، قيل: اسمه ذَكوان. قاله ابن الجوزي. قلت: وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في تهذيب الكمال: عن الوليد الموقري عن الزهري قال: " قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة، قال: ومن خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء ابن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء. قال: إنه لينبغي ذلك. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهروان. قال: فمن العرب أم من   1 صحيح. أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (485) . وقال الألباني في تخريج السنة: "إسناده صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم غير ابن ثور واسمه محمد وهو ثقة اتفافا" ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن البصري. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: ويلك، ومن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب. قال: ويلك يا زهري فرجت عني، والله لتسودن الموالي على العرب في هذا البلد حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو دين، مَن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط ". قوله: "عن ابن عباس" قد تقدم، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " 1. وروى عنه أصحابه أئمة التفسير: كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء ابن أبي رباح، وطاوس وغيرهم. قوله: "ما فرق هؤلاء؟ " يستفهم من أصحابه، يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس، فإذا سمعوا شيئا من محكم القرآن ومعناه حصل معهم فَرق أي خوف، فإذا سمعوا شيئا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين له، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله تعالى على عباده المؤمنين2. قال الذهبي: حدث وكيع عن إسرائيل بحديث: "إذا جلس الرب على الكرسي" فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيع وقال: "أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها". أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية. وربما حصل معهم من عدم تلقيه بالقبول ترك ما وجب من الإيمان به، فتشبه حالهم حال من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 3. فلا يسلم من الكفر إلا من عمل بما وجب عليه في ذلك من الإيمان بكتاب الله كله واليقين، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ   1 تقدم تخريجه برقم (44) . 2 قال الشيخ -رحمه الله- في قرة عيون الموحدين: وقد ظهر من البدع في زمن ابن عباس بدعة القدرية كما في صحيح مسلم وغيره، فقتل من دعاتهم غيلان. قتله هشام بن عبد الملك لما أصر على قوله بنفي القدر. ثم بعد ذلك أظهر الجعد بن درهم بدعة الجهمية, فقتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بعد صلاة العيد بمكة. اهـ. 3 سورة البقرة آية: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ} 1. فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس -رضي الله عنهما- تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يعرفوا معناه من القرآن، وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن، وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى الذي أراد الله فيحمله على غير معناه، كما جرى لأهل البدع: كالخوارج والرافضة والقدرية، ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته. وقد وقع منهم الابتداع والخروج عن الصراط المستقيم; فإن الواقع من أهل البدع وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس. وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم، وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها، وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة المراد، والتوفيق بين النصوص، والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضا، ورد المتشابه إلى المحكم. وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه. " ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه" قال في الدر المنثور: أخرج الحاكم – وصححه-2 عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا ". قال: وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} 3 الآية. قال: طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} 4 قال: "منهن قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 5 إلى ثلاث آيات، ومنهن " {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} 6 إلى آخر الآيات". وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرّة عن ابن مسعود وناس من الصحابة -رضي الله عنهم-: "المحكمات الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات".   1 سورة آل عمران آية: 7. 2 352- حسن: الحاكم (1/ 553) . وحسنه الألباني في الصحيحة (587) لطرقه. 3 سورة آل عمران آية: 7. 4 سورة آل عمران آية: 7. 5 سورة الأنعام آية: 151. 6 سورة الإسراء آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر " الرحمن " أنكروا ذلك. فأنزل الله فيهم {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} 2 فقال أبو فاختة: "هن فواتح السور، منها يستخرج القرآن {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} منها استخرجت البقرة، و {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 3 منها استخرجت آل عمران. وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض، والأمر والنهي والحلال والحرام، والحدود وعماد الدين". 4 وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: "المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه. "وأخر متشابهات" في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق". وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان إنما قال: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ؛ لأنه ليس من أهل دين لا يرضى بهن. {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 5 يعني فيما بلغنا "الم" و "المص" و "المر". قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه، وما قال النفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان. قوله: "ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} . روى ابن جرير عن قتادة: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال مشركو قريش: "6 لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك، ولكن أكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله دعنا نقاتلهم. فقال: لا. اكتبوا كما يريدون: إني محمد بن عبد الله. فلما كتب الكاتب "بسم الله فيه مسائل: الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات. الثانية: تفسير آية الرعد. الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع. الرابعة: ذكر العلة أنه يُفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر. الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك وأنه أهلكه.   1 سورة الرعد آية: 30. 2 سورة آل عمران آية: 7. 3 سورة آل عمران آية: 1-2. 4 تمام الأثر عند ابن جرير: "وضرب لذلك مثلا. فقال: أم القرى مكة. وأم خراسان مرو. وأم المسافرين: الذي يجعلون إليه أمرهم. ويعنى بهم في سفرهم. قال: فذاك أمهم". 5 سورة آل عمران آية: 7. 6 الذي كان يقول ذلك هو سهيل بن عمرو الذي ندبته قريش ليتولى عنها عقد هذا الصلح مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الرحمن الر حيم" قالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه. وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم. فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم. قال: لا. ولكن اكتبوا كما يريدون". وروي أيضا عن مجاهد قال: قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 1. قال: "هذا ما كاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا في الحديبية; كتب "بسم الله الرحمن الرحيم" قالوا: لا تكتب الرحمن، لا ندري ما الرحمن؟ لا نكتب إلا باسمك اللهم. قال الله تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن} الآية. وروي أيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجدا: يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2 الآية.   1 سورة الرعد آية: 30. 2 سورة الإسراء آية: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 باب: قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون} ... باب: قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} 1 قول مجاهد ما معناه: " هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي". وقال عون بن عبد الله: " يقولون لولا فلان لم يكن كذا". وقال قتيبة: " يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا".   قوله: "باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} ". ذكر المصنف -رحمه الله- ما ذكر بعض العلماء في معناها. وقال ابن جرير: فإن أهل التأويل اختلفوا في المعني بالنعمة. فذكر عن سفيان عن السدي {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ   1 سورة النحل آية: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 يُنْكِرُونَهَا} . قال: "محمد صلى الله عليه وسلم". وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم. وأخرج عن مجاهد: " "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها". قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، تعرف هذا كفار قريش ثم تنكره، بأن تقول: هذا كان لآبائنا فورثونا إياه". وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم: من رزقكم؟ أقروا بأن الله هو الذي يرزقهم ثم ينكرونه بقولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا. وذكر المصنف مثل هذا عن ابن قتيبة، وهو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر1 النحوي اللغوي، صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة، اشتغل ببغداد وسمع الحديث على إسحاق بن راهويه وطبقته. توفي سنة ست وسبعين ومائتين. وقال أبو العباس -بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " الحديث. وقد تقدم-: " وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقا، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير". وقال آخرون: ما ذكره المصنف "عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي" أبو عبد الله الكوفي الزاهد عن أبيه وعائشة وابن عباس، وعنه قتادة وأبو الزبير والزهري، وثقه أحمد وابن معين. قال البخاري: مات بعد العشرين ومائة {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} 2 قال: "إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا". واختار ابن جرير القول الأول، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكره العلماء في معناها. وهو الصواب والله أعلم. قوله: "قال مجاهد" هو شيخ التفسير: الإمام الرباني، مجاهد بن جبر المكي مولى بني مخزوم. قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهدا يقول: عرضت المصحف على ابن عباس مرات; أقفه عند كل آية وأسأله فيم نزلت؟ وكيف نزلت؟ وكيف معناها؟ توفي سنة اثنتين ومائة. وله ثلاث وثمانون سنة -رحمه الله-.   1 لعله قاضي الدينور; فإنه لم يتول القضاء إلا فيها. 2 سورة النحل آية: 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 قوله: "وقال أبو العباس" هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الإمام الجليل -رحمه الله بعد حديث زيد بن خالد- وقد تقدم في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء. قال: " وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة; والملاح حاذقا. ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير". اهـ. وكلام شيخ الإسلام يدل على أن حكم هذه الآية عام فيمن نسب النعم إلى غير الله الذي أنعم بها، وأسند أسبابها إلى غيره، كما هو مذكور في كلام المفسرين المذكور بعضه هنا. قال شيخنا -رحمه الله-: " وفيه اجتماع الضدين في القلب، وتسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة". فيه مسائل: الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها. الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثير. الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة. الرابعة: اجتماع الضدين في القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.   قوله: "باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ". الند: المثل والنظير. وجعل الند لله: هو صرف أنواع العباده أو شيء منها لغير الله،   1 سورة البقرة آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 كحال عبدة الأوثان الذين يعتقدون فيمن دعوه ورجوه أنه ينفعهم ويدفع عنهم، ويشفع لهم. وهذه الآية في سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. قال العماد ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: قال أبو العالية: لا تجعلوا لله أندادا أي عدلاء شركاء، وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل ابن أبي خالد. وقال ابن عباس: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لا تشركوا بالله شيئا من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه ربكم لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول إليه من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وكذلك قال قتادة. وعن قتادة ومجاهد: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} قال: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله. وقال ابن زيد: الأنداد هي الآلهة التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. وعن ابن عباس {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} أشباها، وقال مجاهد: "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون". قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. وذكر حديثا في معنى هذه الآية الكريمة، وهو ما في مسند أحمد: عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أمر يحيى بن زكريا -عليه السلام- بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطئ بها. فقال له عيسى -عليه السلام-: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن. فقال: يا أخي; إني أخشى إن سبقتني أن أُعذب أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد وقُعد على الشرف. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولاهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق; فجعل يعمل ويؤدي غَلّته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وآمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وآمركم بالصيام; فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك. وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله   1 سورة البقرة آية: 21-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 من ريح المسك. وآمركم بالصدقة; فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وآمركم بذكر الله كثيرا; فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة، والهجرة; والجهاد في سبيل الله؛ فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثى 1 جهنم. قالوا: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ فقال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله" 2. وهذا حديث حسن، والشاهد منه في هذه الآية قوله: "إن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا". وهذه الآية دالة على توحيد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له. وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى. والآيات الدالة على هذا المقام في القرآن كثيرة جدا. وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد: تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين ناظرات ... بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك وقال ابن المعتز: فيا عجبا كيف يعصى الإل ... هـ أم كيف يجحده الجاحد؟ وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في الآية: "الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب   1 الجثا: بضم الميم وفتح الثاء المثلثة مقصورا -جمع جثو بضم الجيم- وهو الشيء المجموع. قال ابن الأثير: وتروى هذه الكلمة "جثي" بضم الجيم وكسر الثاء وتشديد الياء.. جمع جاث: وهو الذي يجلس على ركبتيه. 2 صحيح. أحمد (4/ 130 , 202 , 344) ، وصححه ابن حبان (1550- موارد) ، والحاكم (1/ 421 , 422) ، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1720) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي. وتقول: لولا كليبة هذه لأتانا اللصوص. ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانا. هذا كله به شرك". رواه ابن أبي حاتم" بين ابن عباس -رضي الله عنهما- أن هذا كله من الشرك، وهو الواقع اليوم على ألسن كثير ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك، فتنبه لهذه الأمور؛ فإنها من المنكر العظيم الذي يجب النهي عنه والتغليظ فيه؛ لكونه من أكبر الكبائر. وهذا من ابن عباس -رضي الله عنهما- شبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك " 1. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم. وقال ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا " 2. "وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " 3. رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم". قوله: "فقد كفر أو أشرك" يحتمل لي أن يكون شكا من الراوي، ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك. ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما هو من الشرك الأصغر. وورد مثل هذا عن ابن مسعود بهذا اللفظ.   1 صحيح. الترمذي: كتاب الأيمان والنذور (1535) : باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله. والحاكم (1/ 18) , (4/ 297) وصححه ووافقه الذهبي. من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6080) . والحديث رواه أيضا أبو داود: كتاب الأيمان والنذور (3251) : باب كراهية الحلف بالآباء. 2 صحيح. رواه الطبراني في الكبير (8902) بإسناد صحيح. وقال المنذري في الترغيب (3/ 607) . وكذا الهيثمي في المجمع (4/ 177) : "ورواته رواة الصحيح" ا. هـ. 3 وذلك لأن حقيقة اليمين والقصد منه: إنما هو تأكيد الحالف قوله بالقسم بالمحلوف به الذي يقدر أن ينتقم منه ويعاقبه إن كان كاذبا. ولذلك ترى أكثر العامة يحلفون بالله كذبا غير مبالين. فإذا استحلفوا بمن يعظمونه من الموتى والأولياء، ويعتقدون له السر والتصرف تكعكعوا وصدقوا، وإن كان في ذلك ذهاب بعض ما يحرصون عليه من منفعة, يضحون بها خوفا من عقاب وانتقام وتصرف ذلك الولي فيهم. ويؤكدون اعتقادهم هذا بحكايات مكذوبة يذيعها سدنة هذه المعابد الوثنية لجر النفع المادي باعتقاد العامة في أوليائهم. فيحكون أن رجلا سرق سمكة مملحة، وأكلها فاستحلفه المسروق منه بالله فأقسم بالله ثلاث مرات بأنه لم يأخذها ولم يرها فلم يحصل له شيء. فاستحلفه بأحمد البدوي فما كاد يلفظ الاسم حتى سبقت السمكة من بطنه ولفظها. وذلك منهم اعتقاد أن البدوي أغير وأعز وأقدر من الله. قبحهم الله وأخزاهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 قوله: "وقال ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ". ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذبا كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر، وإن كان أصغر كما تقدم بيان ذلك. فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار؟ كدعوة غير الله والاستغاثة به، والرغبة إليه، وإنزال حوائجه به; كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها: من تعظيم القبور، واتخاذها أوثانا، والبناء عليها، واتخاذها مساجد، وبناء المشاهد باسم الميت لعبادة من بنيت باسمه وتعظيمه، والإقبال عليه بالقلوب والأقوال والأعمال. وقد عظمت البلوى بهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وتركوا ما دل عليه القرآن العظيم من النهي عن هذا الشرك وما يوصل إليه. قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} 1. كفرهم الله تعالى بدعوتهم من كانوا يدعونه من دونه في دار الدنيا. وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 2. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} 3. وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر فخالفوا ما بلغ به الأمة وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وسلم، فعاملوه بما نهاهم عنه من الشرك بالله والتعلق على غير الله حتى قال قائلهم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم   1 سورة الأعراف آية: 37. 2 سورة الجن آية: 18. 3 سورة الجن آية: 20-21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم فانظر إلى هذا الجهل العظيم حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله، وانظر إلى هذا الإطراء العظيم الذي تجاوز الحد في الإطراء الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله ". رواه مالك وغيره1 2. وقد قال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} 3. وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان " 4 رواه أبو داود بسند صحيح. وجاء عن إبراهيم النخعي " أنه يكره أعوذ بالله وبك. ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان". فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة والمحادة لله ورسوله. وهذا الذي يقوله هذا الشاعر5 هو الذي في نفوس كثير خصوصا ممن يدعون العلم والمعرفة. ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك وتعظيمها من القربات فإنا لله وإنا إليه راجعون. قوله: "وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان ". رواه أبو داود بسند صحيح". وذلك لأن المعطوف بالواو يكون مساويا للمعطوف عليه، لكونها إنما وضعت لمطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا. وتسوية المخلوق بالخالق شرك إن كان في الأصغر- مثل هذا- فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، كما قال الله تعالى عنهم في الدار الآخرة: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 6 بخلاف المعطوف بثم؛ فإن المعطوف بها يكون متراخيا عن المعطوف عليه بمهملة، فلا محذور لكونه صار تابعا.   1 تقدم تخريجه برقم (160) . ولم يروه مالك كما قال المؤلف هنا. 2 رواه البخاري عن ابن عباس عن عمر في باب قول الله تعالى: واذكر في الكتاب مريم من كتاب أحاديث الأنبياء، وفي كتاب الحدود في باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت. قال الحافظ في الفتح (ج 6 ص 314) تقول: أطريت فلانا: مدحته فأفرطت في مدحه. 3 سورة الأنعام آية: 50. 4 صحيح: أبو داود: كتاب الأدب (4980) : باب لا يقال خبثت نفسي، وأحمد (5/384 ,5/398) . وصححه الألباني في الصحيحة (137) . 5 هو البوصيري في قصيدته المشهورة بالبردة التي هي عند الناس بمنزلة القرآن، وربما عظمها بعضهم أكثر. فإنه يواظب على قراءتها أكثر مما يواظب على قراءة القرآن. 6 سورة الشعراء آية: 97-98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 قوله: "وعن إبراهيم النخعي "أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك. ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان". وقد تقدم الفرق بين ما يجوز وما لا يجوز من ذلك. هذا إنما هو في الحي فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد. الثانية: أن الصحابة يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر. الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك. الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا فهو أكبر من اليمين الغموس. الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ. الحاضر الذي له قدرة وسبب في الشيء. وهو الذي يجري في حقه مثل ذلك. وأما في حق الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم، ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر، فلا يقال في حقهم شيء من ذلك. فلا يجوز التعلق عليه بشيء ما بوجه من الوجوه، والقرآن يبين ذلك وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سُئلوا شيئا من ذلك، أو رغب إليهم أحد بقوله أو عمله الباطن أو الظاهر، فمن تدبر القرآن ورزق فهمه صار على بصيرة من دينه وبالله التوفيق. والعلم لا يؤخذ قسرا وإنما يؤخذ بأسباب ذكرها بعضهم في قوله: أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وإرشاد أستاذ وطول زمان وأعظم من هذه الستة من رزقه الله تعالى الفهم والحفظ، وأتعب نفسه في تحصيله فهو الموفق لمن شاء من عباده، كما قال تعالى {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} 1. والجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التركيب متفقان نص من القرآن أو من سنة ... وطبيب ذاك العالم الرباني والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني والكل في القرآن والسنن التي ... جاءت عن المبعوث بالقرآن بسواهما إلا من الهذيان والله ما قال امرؤ متحذلق ...   1 سورة النساء آية: 113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 باب: " ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله" عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحلفوا بآبائكم. من حُلف له بالله فليُصَدِّق. ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله " 1. رواه ابن ماجه بسند حسن.   قوله: "باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله" "عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحلفوا بآبائكم من حُلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله ". رواه ابن ماجه بسند حسن". قوله: "لا تحلفوا بآبائكم" تقدم النهي عن الحلف بغير الله عموما. قوله: "من حلف بالله فليصدق" هذا مما أوجبه الله على عباده وحضّهم عليه في كتابه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 2. وقال: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} 3 وقال: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} 4. وهو حال أهل البر، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} - إلى قوله-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 5. وقوله: " من حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله ". أما إذا لم يكن له بحكم   1 صحيح. ابن ماجة: كتاب الكفارات (2101) : باب من حلف له بالله فليرض. وصححه الألباني في الإرواء (2765) وصحيح الجامع (7124) . 2 سورة التوبة آية: 119. 3 سورة الأحزاب آية: 35. 4 سورة محمد آية: 21. 5 سورة البقرة آية: 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 فيه مسائل: الأولى: النهي عن الحلف بالآباء. الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى. الثالثة: وعيد من لم يرض. بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين فأحلفه، فلا ريب أنه يجب عليه الرضا. وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك، فهذا من حق المسلم على المسلم أن يقبل منه إذا حلف له معتذرا أو متبرئا من تهمة، ومن حقه عليه أن يحسن به الظن إذا لم يتبين خلافه، كما في الأثر عن عمر رضي الله عنه: " ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا ". وفيه: من التواضع والألفة والمحبة وغير ذلك من المصالح التي يحبها الله ما لا يخفى على من له فهم. وذلك من أسباب اجتماع القلوب على طاعة الله، ثم إنه يدخل في حسن الخلق الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد، كما في الحديث1، وهو من مكارم الأخلاق. فتأمل أيها الناصح لنفسه ما يصلحك مع الله تعالى: من القيام بحقوقه وحقوق عباده، وإدخال السرور على المسلمين، وترك الانقباض عنهم والترفع عليهم؛ فإن فيه من الضرر ما لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال. وبسط هذه الأمور وذكر ما ورد فيها مذكور في كتب الأدب وغيرها، فمن رزق ذلك والعمل بما ينبغي العمل به منه وترك ما يجب تركه من ذلك، دل على وفور دينه، وكمال عقله. والله الموفق والمعين لعبده الضعيف المسكين. والله أعلم.   1 رواه الترمذي- وقال: حسن صحيح-، وابن حبان عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن, وإن الله ليبغض الفاحش البذيء ". ورواه أبو داود مختصرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 باب: "قول "ما شاء الله وشئت" عن قتيلة " أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون. تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت "1. رواه النسائي وصححه.   قوله: "باب قول ما شاء الله وشئت". "عن قتيلة " أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون.   1 صحيح. النسائي: كتاب الأيمان والنذور (7/ 6) : باب الحلف بالكعبة، وأحمد (6/371) . وصححه الألباني في الصحيحة (136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت ". رواه النسائي وصححه". قوله: "عن قتيلة" بمثناة مصغرة بنت صيفي الأنصارية صحابية مهاجرة، لها حديث في سنن النسائي، وهو المذكور في الباب. ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي. وفيه: قبول الحق ممن جاء به كائنا من كان. وفيه: بيان النهي عن الحلف بالكعبة، مع أنها بيت الله التي حجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة. وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام لا يصلح منه شيء، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه. وأنت ترى ما وقع من الناس اليوم من الحلف بالكعبة وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله. ومن المعلوم أن الكعبة لا تضر ولا تنفع. وإنما شرع الله لعباده الطواف بها والعبادة عندها وجعلها للأمة قبلة، فالطواف بها وله أيضا: عن ابن عباس " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 1. مشروع والحلف بها ودعاؤها ممنوع. فميز أيها المكلف بين ما يشرع وما يمنع، وإن خالفك من خالفك من جهلة الناس الذين هم كالأنعام، بل هم أضل سبيلا. قوله: "إنكم تشركون. تقولون: ما شاء الله وشئت". والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا قدرة له على أن يشاء شيئا إلا إذا كان الله قد شاءه، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2. وقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} 3. وفي هذه الآيات والأحاديث: الرد على القدرية والمعتزلة، نفاة القدر الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله تعالى من العبد وشاءه. وسيأتي ما يبطل قولهم في "باب ما جاء في منكري القدر" إن شاء الله تعالى، وأنهم مجوس هذه الأمة.   1 ابن ماجه: الكفارات (2117) , وأحمد (1/224) . 2 سورة التكوير آية: 28-29. 3 سورة الإنسان آية: 30-31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وأما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتاب والسنة في هذا الباب وغيره. واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى في كل شيء مما يوافق ما شرعه الله وما يخالفه، من أفعال العباد وأقوالهم. فالكل بمشيئة الله وإرادته. فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه من العبد، كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 1 الآية. وفيه: بيان أن الحلف بالكعبة شرك، فإن النبى صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على قوله: "إنكم تشركون". قوله: "وله أيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-2 " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده ". ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: " رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم هذا يقرر ما تقدم من أن هذا شرك، لوجود التسوية في العطف بالواو. وقوله: "أجعلتني لله ندا" 3. فيه بيان أن من سوّى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر، فقد جعله ندا لله شاء أم أبى، خلافا لما يقوله الجاهلون مما يختص بالله تعالى من عباده، وما يجب النهي عنه من الشرك بنوعيه. ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. قوله4 "ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: " رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم   1 سورة الزمر آية: 7. 2 قال ابن كثير: ج 1 ص 104 وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح - عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس- وساقه. رواه ابن مردويه، وأخرجه النسائي وابن ماجة من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح عنه. وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد. والله أعلم. 3 لفظ حديث. أخرجه البخاري: كتاب العلم (71) : باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. ومسلم: كتاب الزكاة (1037) (100) : باب النهي عن المسألة. من حديث معاوية -رضي الله عنه-. 4 قال ابن كثير في التفسير (ج 1 ص 104) : وقال حماد بن سلمة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها - وساقه - ثم قال: هكذا رواه ابن مردويه في تفسير الآية. وأخرجه ابن ماجة من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت به أحدا؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده ". قوله: "عن الطفيل أخي عائشة لأمها" هو الطفيل بن عبد الله بن سَخْبرة أخو عائشة لأمها، صحابي له حديث عند ابن ماجه، وهو ما ذكره المصنف في الباب. وهذه الرؤيا حق أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل بمقتضاها، فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وأمرهم أن يقولوا: "ما شاء الله وحده". وهذا الحديث والذي قبله أمرهم فيه أن يقولوا: "ما شاء الله وحده". ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص وأبعد عن الشرك من أن يقولوا: "ثم شاء فلان"؛ لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد في كل وجه. فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص. قوله: "كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها" ورد في بعض الطرق: "أنه كان يمنعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 الحياء منهم"1 وبعد هذا الحديث الذي حدثه به الطفيل عن رؤياه خطبهم صلى الله عليه وسلم فنهى عن ذلك نهيا بليغا، فما زال صلى الله عليه وسلم يبلغهم حتى أكمل الله له الدين وأتم له به النعمة، وبلّغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده "2. فيه مسائل: الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر. الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى. الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندا " فكيف بمن قال: "ما لي من ألوذ به سواك" والبيتين بعده. الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر لقوله: "يمنعني كذا وكذا". الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي. السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام. وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " 3 4. قلت: وإن كانت رؤيا منام فهي وحي يثبت بها ما يثبت بالوحي أمرا ونهيا. والله أعلم.   1 لعل الذي كان يمنعه -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن الله أوحى إليه فيها شيئا. فلما أوحى إليه بلغه. أما الحياء في تبليغ الأوامر والنواهي (*) فهذا ما لا يليق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم. (*) قوله: (أما الحياء في تبليغ الأوامر والنواهي) إلخ. أقول: هذا كلام جيد, والجواب عن الرواية التي ذكرها الشارح وهي قوله: (ورد في بعض الطرق أنه كان يمنعه الحياء منهم) أن يقال: إن صحت هذه الرواية فمعنى ذلك أنه كان -عليه الصلاة والسلام- يستحي منهم أن ينهاهم عن شيء لم يوح إليه أن ينهى عنه, وإن كان هو يستحسن تركه, فلما جاءه الوحي بالنهي عنه بسبب الرؤيا المذكورة نهاهم عن ذلك, كما أمرهم -صلى الله عليه وسلم- بالتماس ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان لما تواطئت رؤياهم على أنها في السبع الأواخر، وكان ذلك سببا لشرعية مزيد الاجتهاد في السبع المذكورة. 2 صحيح: ابن ماجة: كتاب الكفارات (2118) : باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت. وصححه الألباني في الصحيحة لشواهده (138) . 3 البخاري; كتاب التعبير (6987) : باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. ومسلم: كتاب الرؤيا (2264) (7) . من حديث عبادة بن الصامت. 4 هذا الحديث إنما يخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عما كان يرى قبل النبوة وهو يتحنث في غار حراء من الرؤيا التي كانت تجيء مثل فلق الصبح. وذلك في الدور الذي كان يهيئه الله فيه لتلقي الوحي، وكان ذلك الدور ستة أشهر، وهي بالنسبة إلى مدة النبوة الثلاثة والعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءا منها. والله أعلم. قوله: (هذا الحديث إنما يخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عما كان يرى قبل النبوة) إلخ. يريد الشيخ حامد -رحمه الله- بهذا الكلام أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرؤيا الصالحة: أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة, أنه خبر عما قد وقع ومضى, وليس الأمر كذلك بل الروايات الواردة في هذا الباب تدل على أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- الخبر عن جنس الرؤيا في الماضي والمستقبل، وأنها تفيد وتحصل بها البشرى، وأن فائدتها جزء من أجزاء النبوة المتضمنة الأخبار عن المغيبات, ولهذا اختلفت ألفاظ الروايات في ذلك، ففي بعضها: جزء من خمسة وأربعين جزءا, وفي بعضها: جزء من ستة وأربعين جزءا، وفي بعضها: جزء من سبعين جزءا من النبوة, وفي بعضها غير ذلك. ولو كان المراد ما قاله الشيخ حامد لم تتنوع العبارات عنها, ووجه التنوع -والله أعلم- أن الرؤيا الصالحة في حد ذاتها تختلف بحسب صلاح الرائي وما يكتنف رؤياه من القرائن والشواهد الدالة على صدق الرؤيا, وقد نص العلماء على ما ذكرناه قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم ما نصه: (قال القاضي: أشار الطبري إلى أن هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرائي، فالمرء الصالح تكون رؤياه جزء من ستة وأربعين جزءا، والفاسق جزء من سبعين جزءا, وقيل: المراد أن الخفي منها جزء من سبعين، والجلي جزء من ستة وأربعين) . ثم نقل عن الخطابي عن بعض أهل العلم نحو ما قاله الشيخ حامد, ثم نقل عن المازري ما نصه: (وقيل: المراد أن للمنامات شبها مما حصل له وميز به من النبوة بجزء من ستة وأربعين) . انتهى. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 باب: " من سَبَّ الدهر فقد آذى الله" وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} 1.   قوله: "باب من سب الدهر فقد آذى الله".   1 سورة الجاثية آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} . قال العماد ابن كثير في تفسيره: يخبر تعالى عن دهرية الكفار، ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة. وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البدأة والرجعة. وتقول الفلاسفة الدهرية الدورية، المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} . قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} أي يتوهمون ويتخيلون. فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار " 1. من رواية سفيان ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار " 2. وفي رواية: " لا تسبوا الدهر؛ فإني أنا الدهر " 3. وفي رواية: " لا يقل ابن آدم: يا خيبة الدهر؛ فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما " 4 اهـ 5. قال في شرح السنة: حديث متفق على صحته أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة قال: ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل؛   1 البخاري: التوحيد (7491) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود: الأدب (5274) , وأحمد (2/238) . 2 في ابن كثير: "أقلب ليله ونهاره". 3 مسلم: كتاب الألفاظ من الأدب (2246) (5) : باب النهي عن سب الدهر. من حديث أبي هريرة أيضا، وأحمد (6/158) . 4 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/275 ,2/318) , ومالك: الجامع (1846) . 5 هذه الرواية ليست في نسخ ابن كثير المطبوعة بأيدينا. وهي في تفسير البغوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصنعونها، فنهوا عن سب الدهر. اهـ باختصار. وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا بهذا الطريق1. قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} 2. ويسبون الدهر. فقال الله عز وجل: " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار". وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن سريج بن النعمان عن ابن عيينة مثله. ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار " 3. وأخرجه صاحب الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به. وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: " استقرضت عبدي فلم يعطني، ويسبني عبدي، يقول: وادهراه، وأنا الدهر ". قال الشافعي وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله: " لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر " 4: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى. فكأنما إنما سبوا الله سبحانه؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال. هذا أحسن ما قيل في تفسيره - وهو المراد - والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم "الدهر" من الأسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث. اهـ. وقد بين معناه في الحديث بقوله: "أقلب الليل والنهار". وتقليبه: تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه. وفي رواية: " لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر " 5. فيه مسائل: الأولى: النهي عن سب الدهر. الثانية: تسميته أذى الله. الثالثة: التأمل في قوله: " فإن الله هو الدهر ". الرابعة: أنه قد يكون سابا ولو لم يقصده بقلبه. وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى، وهي قوله: "بيدي الأمر".   1 أي من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية " إلخ. 2 سورة الجاثية آية: 24. 3 الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وابن ماجه: الفتن (4014) . 4 أحمد (1/129) (2/ 300 , 506) . وابن خزيمة (2479) ، والحاكم (1/ 418) وإسناده ضعيف. والفقرة الأخيرة من الحديث بلفظ: "يشتمني ابن آدم يقول وادهراه ... " عند ابن أبي عاصم في السنة (598) . وإسنادها حسن كما قال الألباني. 5 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/395 ,2/491 ,2/499) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 قوله: "وفي رواية: " لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر ". معنى هذه الرواية: هو ما صرح به في الحديث من قوله: " وأنا الدهر; أقلب الليل والنهار ". يعني أن ما يجري فيه من خير وشر بإرادة الله وتدبيره، بعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره. ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين، وحسن الظن به سبحانه وبحمده، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1. وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 2. ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبته كثيرة، كما في أشعار المولدين، كابن المعتز والمتنبي وغيرهما. وليس منه وصف السنين بالشدة ونحو ذلك كقوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} 3 الآية. وقال بعض الشعراء: إن الليالي من الزمان مهولة ... تطوى وتنشر بينها الأعمار فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار وقال أبو تمام: أعوام وصل كاد يُنسى طيبها ... ذكري النوى فكأنها أيام ثم انبرت أيام هجر أعقبت ... نحوي أسى فكأنها أعوام ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام   1 سورة الأعراف آية: 168. 2 سورة الأنبياء آية: 35. 3 سورة يوسف آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 بااب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه ... باب: "التسمي بقاضي القضاة ونحوه" في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله " 1.   قوله: "باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه". ذكر المصنف -رحمه الله- هذه الترجمة إشارة إلى النهي عن التسمي بقاضي القضاة قياسا   1 البخاري: الأدب (6206) , ومسلم: الآداب (2143) , والترمذي: الأدب (2837) , وأبو داود: الأدب (4961) , وأحمد (2/244) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 على ما في حديث الباب؛ لكونه شبهه في المعنى فينهى عنه. قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله " 1. لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله تعالى، فهو ملك الأملاك لا ملك أعظم ولا أكبر منه، مالك الملك ذو الجلال والإكرام. وكل ملك يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو عارية يسرع ردها إلى المعير، وهو الله تعالى، ينزع الملك من ملكه تارة وينزع الملك قال سفيان: " مثل شاهان شاه". منه تارة2 فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه. وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له، بيده القسط يخفضه ويرفعه; ويحفظ على عباده أعمالهم بعلمه سبحانه وتعالى، وما تكتبه الحفظة عليهم، فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. كما ورد في الحديث: " اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله "3.   1 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. قال العزيزي في الشرح الكبير: وفي الباب غيره أيضا. وفي قرة العيون: لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله فهو ملك الأملاك؛ لأنه هو الملك في الحقيقة له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، يتصرف في الملوك وغيرهم بمشيئته وإرادته كما قال تعالى: 3: 26 (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير) الآية. فلا ينبغي أن يعظم المخلوق بما يشبه ما يعظم به الخالق جل وعلا, وما كان مثل ذلك فينهى عنه كالذي ترجم به المصنف; لأنه لا يصدق هذا المعنى إلا على الله, فلا يصلح أن يسمى به المخلوق؛ لأن كل لفظ يقتضي التعظيم والكمال لا يكون إلا له -تعالى وتقدس- دون غيره. 2 قال تعالى: 3: 26 (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) . 3 أحمد (5/395) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 قوله: "قال سفيان" يعني ابن عيينة "مثل شاهنشاه1 " عند العجم عبارة عن   1 قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (ج 12 ص 43) في حوادث سنة 429: وفي رمضان منها لقب جلال الدولة - السلجوقي - شاهنشاه الأعظم، ملك الملوك بأمر الخليفة القائم لله، وخطب له بذلك على المنابر, فنفرت العامة من ذلك, ورموا الخطباء بالآجر, ووقعت فتنة شديدة بسبب ذلك. واستفتوا القضاة والفقهاء في ذلك، فأفتى أبو عبد الله الصيمري -الشافعي- أن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية. وقد قال تعالى: (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) . وقال: (وكان وراءهم ملك) . وإذا كان في الأرض ملوك جاز أن يكون بعضهم فوق بعض وأعظم من بعض، وليس في ذلك ما يوجب النكير. والمماثلة بين الخالق والمخلوقين. وكتب القاضي أبو الطيب الطبري: "أن إطلاق (ملك الملوك) جائز، ويكون معناه: ملك ملوك الأرض. وإذا جاز أن يقال: كافي الكفاة وقاضي القضاة; جاز أن يقال: ملك الملوك, وإذا كان في اللفظ ما يدل على أن المراد به ملك ملوك الأرض زالت الشبهة. ومنه قولهم: اللهم أصلح الملك, فيصرف الكلام إلى المخلوقين". وكتب التميمي الحنبلي نحو ذلك. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 ملك الأملاك. ولهذا مثل به سفيان؛ لأنه عبارة عنه بلغة العجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 .وفي رواية: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه " 1. قوله: " أخنع " يعني أوضع.   1 مسلم: الآداب (2143) , وأحمد (2/315) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 قوله: "وفي رواية " أغيظ رجل على الله وأخبثه ". قوله: "أغيظ" من الغيظ وهو مثل الغضب والبغض، فيكون بغيضا إلى الله مغضوبا عليه1. والله أعلم. قوله: "وأخبثه" وهو يدل أيضا على أن هذا خبيث عند الله، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل، وضعه عند الله يوم القيامة، فصار أخبت الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم؛ لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم، لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله. قوله: "أخنع: يعني أوضع"2 هذا هو معنى "أخنع"، فيفيد ما ذكرنا في معنى "أغيظ" أنه يكون حقيرا بغيضا عند الله. فيه مسائل: الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك. الثانية: إن ما في معناه مثله كما قال سفيان. الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه. الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه. وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم. كما أخرج أبو داود عن أبي مجلز قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير. فقال معاوية لابن عامر: اجلس; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار " 3. وأخرجه الترمذي أيضا، وقال: حسن. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على عصا، فقمنا إليه. فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضا " 4. رواه أبو داود. قوله: "أغيظ رجل" هذا من الصفات التي تمر كما جاءت، وليس شيء مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك، وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى، إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل كما تقدم، والباب كله واحد. وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرق الناجية من الثلاث والسبعين فرقة. وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده، كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم، والله المستعان.   1 ويؤيده "اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك" أخرجه الطبراني. 2 "أخنع" بفتح الهمزة والنون بينهما معجمة ساكنة أي أدخلها في الخنوع، وهو الذل والضعة والهوان, ذكره الزمخشري. وفي رواية: "أخنى" من الخنا بمعنى الفحش في القول، ويحتمل أن يكون من قولهم: أخنى عليه الدهر أي أهلكه. وذكر أبو عبيد أنه ورد بلفظ: "أنخع" بتقديم النون على الخاء المعجمة وهو بمعنى أهلك. قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا يوم القيامة أي أشدهم ذلا وصغارا. وفي قرة العيون: وهذا من الصفات التي تمر كما جاءت من غير تحريف ولا تأويل, ولا تشبيه ولا تمثيل. والله أعلم. 3 صحيح: أبو داود: كتاب الأدب (5229) : باب في قيام الرجل للرجل، والترمذي: كتاب الأدب (2754) : باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل. وصححه الألباني في الصحيحة برقم (357) . 4 ضعيف: أبو داود: كتاب الأدب (5230) : باب في قيام الرجل للرجل. وضعفه الألباني في الضعيفة (346) بقوله: "ضعيف، وفي إسناده اضطراب وضعف وجهالة". اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 باب: " احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك" عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْمُ.   قوله: "باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك". "عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قلت: شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح " 1. رواه أبو داود وغيره". قوله: "عن أبي شريح" قال في خلاصة التذهيب: هو أبو شريح الخزاعي اسمه خويلد بن عمرو2 أسلم يوم الفتح، له عشرون حديثا، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث، وروى عنه أبو سعيد المقبري ونافع بن جبير وطائفة. قال ابن سعد: مات بالمدينة سنة ثمان وستين. وقال الشارح: اسمه هانئ بن يزيد الكندي قاله الحافظ. وقيل: الحارث الضبابي قاله المزي. قوله: "يكنى" الكنية ما صدر بأب أو أم ونحو ذلك واللقب ما ليس كذلك3 كزين العابدين ونحوه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله هو الحكم وإليه الحكم ". فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزل على أنبيائه ورسله، وما من قضية إلا ولله فيها حكم بما أنزل على نبيه من الكتاب والحكمة، وقد يسر الله معرفة أكثر ذلك لأكثر العلماء من هذه الأمة; فإنها لا تجتمع على ضلالة؛ فإن العلماء وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلا بد أن يكون المصيب فيهم واحدا، فمن رزقه الله تعالى قوة الفهم، وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء يسر له ذلك بفضله ومنه عليه وإحسانه إليه، فما أجلها من عطية! فنسأل الله من فضله. قوله: "وإليه الحكم في الدنيا والآخرة" كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 4. وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 5. فالحكم إلى الله هو الحكم إلى كتابه، والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. 6   1 صحيح: أبو داود: كتاب الأدب (4955) ; باب في تغيير الاسم القبيح، والنسائي: كتاب آداب القضاء (8/ 226) : باب إذا حكموا رجلا فقضى بينهم. وصححه الألباني في الإرواء (2615) ، وصحيح الجامع (1841) . 2 وبهامش الخلاصة: وقيل: عمرو بن خويلد. وقيل هانئ بن عمرو. وقيل: خويلد بن شريح بن عمرو. كذا في الكنى من كتاب ابن الملقن وجامع الأصول. 3 في كتب العربية: اللقب: ما أشعر بمدح أو ذم, كزين العابدين ونحوه. 4 سورة الشورى آية: 10. 5 سورة النساء آية: 59. 6 يعني رد الحكم إلى الله: رد الحكم إلى كتابه, ورد الحكم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- رد الحكم إليه في حياته, ثم رده إلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 1 وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله " 2. فمعاذ من أجل علماء الصحابة بالأحكام ومعرفة الحلال من الحرام، ومعرفة أحكام الكتاب والسنة. ولهذا ساغ له الاجتهاد إذا لم يجد للقضية حكما في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما يقع اليوم وقبله من أهل التفريط في الأحكام ممن يجهل حكم الله في كتابه وسنة رسوله، فيظن أن الاجتهاد يسوغ له مع الجهل بأحكام الكتاب والسنة وهيهات. 3 فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قال: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح "4 رواه أبو داود وغيره. وأما يوم القيامة فلا يحكم بين الخلق إلا الله عز وجل إذا نزل لفصل القضاء بين العباد، فيحكم بين خلقه بعلمه، وهو الذي لا يخفى عليه خافية من أعمال خلقه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} 5. والحكم يوم القيامة إنما هو بالحسنات والسيئات، فيؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر ظلامته إن كان له حسنات، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم، فطرح على سيئات الظالم لا يزيد على هذا مثقال ذرة، ولا ينقص هذا عن حقه بمثقال ذرة. قوله: "فإن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فقال: ما أحسن هذا! ". فالمعنى- والله أعلم- أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر للعدل بينهم ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين صار عندهم مرضيا وهذا هو الصلح؛ لأن مداره على الرضى لا على الإلزام. ولا على الكهان وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا على الاستناد إلى أوضاع أهل الجاهلية من أحكام كبرائهم وأسلافهم التي   1 تقدم تخريجه برقم (340) . 2 الترمذي: الأحكام (1327) , وأبو داود: الأقضية (3592) , وأحمد (5/230 ,5/236 ,5/242) , والدارمي: المقدمة (168) . 3 وبخلاف الصنف الآخر: الذين يعنون بأقوال الناس وآرائهم فيحفظونها متونا وشروحا مهما كانت معقدة وطويلة, ثم يقدمونها في العبادات والأحكام بين يدي الله ورسوله, فإنا لله وإنا إليه راجعون. ماذا حرم الناس من خير وهدى وعز وسلطان بهذا العزل لكتاب الله وسنة رسوله عن وظيفتها. 4 النسائي: آداب القضاة (5387) , وأبو داود: الأدب (4955) . 5 سورة النساء آية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 تخالف حكم الكتاب والسنة، كما قد يقع اليوم كثيرا، كحال الطواغيت الذين لا يلتفتون إلى حكم الله ولا إلى حكم رسوله، وإنما المعتمد عندهم ما حكموا به بأهوائهم وآرائهم. 1 فيه مسائل: الأولى: احترام أسماء الله وصفاته، ولو لم يقصد معناه. الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك. الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية. وقد يلتحق بهذا بعض المقلدة لمن لم يسغ تقليده، فيعتمد على قول من قلده ويترك ما هو الصواب الموافق لأصول الكتاب والسنة. والله المستعان. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فما لك من الولد؟ قال: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح ". فيه تقديم الأكبر في الكنية وغيرها غالبا. وجاء هذا المعنى في غير ما حديث والله أعلم.   1 في قرة العيون: وأما ما يحكم به الجهلة من الأعراب, ونحوهم من سوالف آبائهم وأهوائهم فليس من هذا الباب؛ لما فيه من النهي العديد والخروج عن حكم الله ورسوله إلى ما يخالفه, كما قال تعالى: 5: 44 (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) . وهذا كثير, فمن الناس من يحكم بين الخصمين برأيه وهواه, ومنهم من يتبع في ذلك سلفه ويحكم بما كانوا يحكمون به, وهذا كفر إذا استقر وغلب على من تصدى لذلك ممن يرجع الناس إليه إذا اختلفوا. اهـ. والنص الصريح في إبطال حكم السوالف من حكام البدو غير المتدينين هو قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) . وأبو شريح كان من قضاة الجاهلية قبل الإسلام, ولذلك كنوه "بأبي الحكم"، فأنكرها عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرها, ولفظ "الحكم" بفتحتين لا ينهى عنه في الإسلام؛ لقوله تعالى: (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) . وذلك لأنه يحكم بما شرعه الله من صلح وإصلاح, وقد أذن الله للمؤمنين بأن يحكموا بين الناس بالعدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 باب: " من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول" وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 1.   قوله: "باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول" أي فقد كفر.   1 سورة التوبة آية: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 قوله: "وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} . قال العماد ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: قال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: " قال رجل من المنافقين: ما أرى مثل قرائنا هؤلاء؟ أرغبنا بطونا1 وأكذبنا ألسنًا، وأجبننا عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فقال: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} . وإن رجليه ليسفعان2 الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنِسْعَة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم "3. عن ابن عمر ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم وقتادة - دخل حديث بعضهم في بعض - أنه قال رجل في غزوة تبوك: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء. فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ل وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ اتَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، ما يلتفت إليه وما يزيده عليه ". وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: " قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبلغ ذلك رسول الله   1 في تفسير ابن كثير وتفسير ابن جرير: "ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا". 2 سفع الطائر ضريبته- كمنع- لطمها بجناحيه, وسفع فلان فلانا لطمه وضربه, والمعنى أن الحجارة تضرب رجليه من سرعة المسير وأنه مشغول عن ذلك. 3 النسعة- بكسر النون وسكون المهملة سير مضفور يجعل زماما للبعير وغيره (*) . (*) قوله: (النسعة بكسر النون وسكون المهملة سير مضفور يجعل زمانا للبعير وغيره) . أقول في قوله: يجعل زمانا للبعير نظر، والصواب أن النسعة حبل يشد به الرحل ولا يطلق على الزمام. قال في القاموس: (النسع بالكسر سير ينسج عريضا على هيئة أعنة النعال, يشد به الرحال، والقطعة منه نسعة, وسمي نسعا لطوله. انتهى المقصود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقا بحِقْب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1 " 2. وقد رواه الليث عن هشام بن سعد بنحو هذا. وقال ابن إسحاق: "وقد كان جماعة من المنافقين منهم: وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الجبال، إرجافا وترهيبا للمؤمنين. فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يُضْرَب كل رجل منا مائة جلدة; وأنا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بل قلتم: كذا وكذا وكذا، فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت - ورسول الله واقف على راحلته- فجعل يقول وهو آخذ بحقها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عناه أي بقوله تعالى: {نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} 3 في هذه الآية: مخشي ابن حمير فسمي عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يُعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر". وقال عكرمة في تفسير هذه الآية: "كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أعني بها تقشعر منها الجلود، وتجل منها القلوب. اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت. قال: فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره".   1 سورة التوبة آية: 65-66. 2 حسن: رواه ابن جرير (10/ 119) ، وابن أبي حاتم (4/ 64) عن ابن عمر وإسناد ابن أبي حاتم حسن، كما قال الشيخ مقبل في الصحيح المسند ص (71) . قال الدوسري: وأما روايات محمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة فهي مرسلة، وقد أخرجها ابن جرير (10/ 119 , 120) . 3 سورة التوبة آية: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وقوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1 أي بهذه المقالة التي استهزأتم بها {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} أي مخشي بن حمير {نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} أي لا يعفى عن جميعكم، ولا بد من عذاب بعضكم {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 2 أي بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة. انتهى. قال شيخ الإسلام: " وقد أمره الله تعالى أن يقول لهم: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3 وقول من يقول: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم؛ فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم ما زالوا كذلك، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين". وقال -رحمه الله- في موضع آخر: فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له; بل إنما كنا نخوض ونلعب. وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر. ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدرا بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه. كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} 4 - إلى قوله -: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5. فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان". انتهى. وفيه: بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به6 وأشدها خطرا   1 سورة التوبة آية: 66. 2 سورة الدخان آية: 37. 3 سورة التوبة آية: 66. 4 سورة النور آية: 47. 5 سورة النور آية: 51. 6 ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله، وعدم احترامهم لأجله قوله: (ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم لأجله) أقول: هذا القول فيه إجمال, والصواب التفصيل فإن كان الاستهزاء بالعلم الشرعي أو بالعلماء لأجله فلا شك أن ذلك ردة عن الإسلام؛ لأنه تنقص لما عظمه الله واستخفاف به, وفي ضمن ذلك احتقاره والتكذيب به, أما إن كان الاستهزاء بالعلماء يرجع إلى أمر آخر كالملابس أو حرص بعضهم على الدنيا أو اعتيادهم خلاف ما عليه الناس من العوائد التي لا تعلق لها بالشرع، أو لما يشبه ذلك، فهذا وأشباهه لا يكون ردة عن الإسلام؛ لأنه لا يرجع إلى الدين، وإنما يرجع الى أمور أخرى. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 فيه مسائل: الأولى: وهي العظيمة أن من هزل بهذا إنه كافر. الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان. الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله. الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله. الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل. إرادات القلوب. فهي كالبحر الذي لا ساحل له. ويفيد الخوف من النفاق الأكبر؛ فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيمانا قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه " 1. نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.   1 أخرجه البخاري تعليقا (1/ 109) . ووصله ابن أبي خيثمة في تاريخه، وكذا محمد بن نصر المروزي في كتاب الإيمان له، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه كما قال الحافظ في الفتح (1/ 110) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 باب: قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَ ا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} 1. قال مجاهد: " هذا بعملي وأنا محقوق به ". وقال ابن عباس: "يريد من عندي". وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 2. قال قتادة: " على علم مني بوجوه المكاسب ".   قوله: "باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} " الآية. ذكر المصنف -رحمه الله تعالى- عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى هذه الآية، وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي. قوله: "قال مجاهد: " هذا بعملي وأنا محقوق به ". وقال ابن عباس: " يريد من عندي". وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} . قال قتادة: " على علم مني بوجوه المكاسب ". وقال آخرون: " على علم من الله أني له أهل ". وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف". وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي أفراد المعنى. قال العماد ابن كثير -رحمه الله- في معنى قوله تعالى: {إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 3. " يخبر أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله تعالى وينيب إليه   1 سورة فصلت آية: 50. 2 سورة القصص آية: 78. 3 سورة الزمر آية: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ويدعوه، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى و {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي لما يعلم الله من استحقاق له، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا1. قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 2 أي ليس الأمر كما زعم، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 3 أي اختبار {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 4 فلهذا يقولون ما يقولون، ويدعون ما يدعون {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 5 أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم، وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 6 أي فما صح قولهم، ولا نفعهم جمعهم، وما كانوا يكسبون. كما قال تعالى مخبرا عن قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَوَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَقَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} 7. وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 8". اهـ. "وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة ... " 9 الحديث. 10   1 في تفسير ابن كثير زيادة: قال قتادة: "على علم عندي: على خير عندي". 2 سورة الزمر آية: 49. 3 في ابن كثير: "مع علمنا بذلك فهي فتنة". 4 سورة الأنعام آية: 37. 5 سورة الزمر آية: 50. 6 سورة الحجر آية: 84. 7 سورة القصص آية: 76-77-78. 8 سورة سبأ آية: 35. 9 البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3464) : باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في نبي إسرائيل. ومسلم: كتاب الزهد والرقائق (2964) (10) . 10 وقد حذفناه من الشرح منعا للتكرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 "أخرجاه" أي البخاري ومسلم. والناقة العشراء- بضم العين وفتح الشين وبالمد- هي الحامل. قوله: "فأنتج" وفي رواية: "فنتج" معناه تولى نتاجها، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة. فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قذرني الناس به. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر- شك إسحاق- فأعطي ناقة عُشَراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به. فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل. فأعطي بقرة حاملا. قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس. فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم. فأعطي شاة والدا. فأنتج هذان وولد هذا. فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلَّغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص قوله: "ولّد هذا" هو بتشديد اللام، أي تولى ولادتها، وهو بمعنى "أنتج" في الناقة، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد، لكن هذا للحيوان، وذلك لغيره. وقوله: "انقطعت بي الحبال" هو بالحاء المهملة والباء الموحدة: هي الأسباب. قوله: "لا أجهدك" معناه: لا أشق عليك في رد شيء تأخذ، أو تطلب من مالي. ذكره النووي. وهذا الحديث عظيم، وفيه معتبر: فإن الأولين جحدا نعمة الله، فما أقرا لله بنعمة، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أديا حق الله فيها فحل عليهما السخط. وأما الأعمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فاعترف بنعمة الله، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها. وهي الإقرار بالنعمة ونسبتها إلى المنعم وبذلها فيما يجب. يقذرك الناس فقيرا، فأعطاك الله عز وجل المال. فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري. فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتُليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك " أخرجاه. فيه مسائل: قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: 1 " أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له، والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلا بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضا، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها، وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرض به وعنه، لم يشكره أيضا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها، وخضع للمنعم بها، وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها، فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له". قوله: "قذرني الناس" بكراهة رؤيته وقربه منهم.   1 في مدارج السالكين ج 2 ص 135-144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 الأولى: تفسير الآية. الثانية: ما معنى: "ليقولن هذا لي". الثالثة: ما معنى قوله: "إنما أوتيته على علم عندي". الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 باب: "قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.   قوله "باب قول الله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . قال الإمام أحمد -رحمه الله- في معنى هذه الآية: حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميِّه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش. وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره " 2 3. وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به. ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به، وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعا، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ورواه الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعا4.   1 سورة الأعراف آية: 190. 2 ضعيف: أحمد (5/ 11) . والترمذي: كتاب التفسير (3077) باب: ومن سورة الأعراف. والحاكم (2/ 545) . وابن جرير (15513) . وضعفه الحافظ ابن كثير (2/ 274) . وضعفه الألباني في الضعيفة (342) وراجع تعليق الشيخ أحمد شاكر على تفسير الطبري (13/ 309) . 3 الترمذي: تفسير القرآن (3077) , وأحمد (5/11) . 4 قال الحافظ ابن كثير: والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه: أحدها: أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري. وقد وثقه ابن معين. ولكن قال حاتم الرازي: لا يحتج به. ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا. فالله أعلم. الثاني: أنه قد روي من قول سمرة نفسه, وليس مرفوعا. كما قال ابن جرير. الثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا. فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه- ثم ساق ابن كثير الروايات عن الحسن بمثل ما روى ابن جرير عنه، ثم قال: هذه أسانيد صحيحة عن الحسن: أنه فسر الآية بذلك; وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية. ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره, ولا سيما مع تقواه وورعه. فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي, ويحتمل أنه تلقاه عن بعض أهل الكتاب من آمن منهم, مثل كعب أو وهب بن منبه أو غيرهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله, إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع. والله أعلم اهـ. وقال الإمام أبو محمد بن حزم في كتاب الملل والنحل: ((وهذا الذي نسبوه إلى آدم من أنه سمى ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة مكذوبة من تأليف من لا دين له ولا حياء، لم يصح سندها قط، وإنما نزلت الآية في المشركين على ظاهرها)) . اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا سهيل بن يوسف عن عمرو عن الحسن {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 1 قال: " كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن آدم ". وحدثنا بشر بن معاذ قال: حدثني يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: " هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا فهوّدوا ونصّروا ". وهذا إسناد صحيح عن الحسن -رحمه الله-. قال العماد ابن كثير في تفسيره: وأما الآثار: فقال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: " كانت حواء تلد لآدم -عليه السلام- أولادا فتعبدهم لله وتسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: أما إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش، فولدت له رجلا فسماه عبد الحارث، ففيه أنزل الله " {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية. وقال العوفي عن ابن عباس: " فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون، أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل، إنه لغوي مبين; وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويا، ومات كما مات الأول. فسميا ولدهما عبد الحارث، فذلك قوله تعالى: " {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وذكر مثله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ورواه ابن أبي حاتم. وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، ومن الطبقة الثانية: قتادة والسدي وجماعة من الخلف; ومن المفسرين والمتأخرين جماعات لا يحصون كثرة.   1 سورة الأعراف آية: 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 قال العماد ابن كثير: وكأن أصله - والله أعلم - مأخوذ من أهل الكتاب1. قلت: وهذا بعيد جدا. قوله: "قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب". ابن حزم: هو عالم الأندلس، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري. صاحب التصانيف، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة. وله اثنتان وسبعون سنة. وعبد المطلب هذا: هو جد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وما فوق عدنان مختلف فيه. ولا ريب أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل -عليهما السلام-. حكى -رحمه الله- اتفاق العلماء على تحريم كل ما عبد لغير الله؛ لأنه شرك في الربوبية والإلهية; لأن الخلق كلهم ملك لله وعبيد له، استعبدهم لعبادته وحده، وتوحيده في ربوبيته وإلهيته، فمنهم من عبد الله ووحده في ربوبيته وإلهيته، ومنهم من أشرك به في إلهيته وأقر له بربوبيته وأسمائه وصفاته، وأحكامه القدرية جارية عليهم ولا بد، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 2 فهذه هي العبودية العامة. وأما   1 قال ابن كثير: وهذه الآثار يظهر عليها -والله أعلم- أنها من آثار أهل الكتاب, أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا, وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء, وإنما المشركون من ذريته، ولهذا قال: (فتعالى الله عما يشركون) . فائدة: قال شيخنا العلامة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ- أطال الله حياته لنفع المسلمين- ((أما قوله تعالى في آخر الآية: (فتعالى الله عما يشركون) فليس المراد به آدم وحواء؛ لأن الكلام قد تم قبله, وهذا ابتداء كلام مستأنف, وإنما المراد به المشركون، وما ساقه الشارح -رحمه الله- في قوله: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) هو القول المعتمد الذي يدل عليه ظاهر القرآن)) . اهـ. 2 سورة مريم آية: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 العبودية الخاصة فإنها تختص بأهل الإخلاص والطاعة، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 1 ونحوها. قوله: "حاشا عبد المطلب" هذا استثناء من العموم المستفاد من كل، وذلك أن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيها؛ لأن أصله من عبودية الرق، وذلك أن المطلب أخو هاشم قدم المدينة، وكان ابن أخيه شيبة هذا قد نشأ في أخواله بني النجار من الخزرج؛ لأن هاشما تزوج فيهم امرأة، فجاءت منه بهذا الابن، فلما شب في أخواله، وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته2، فقدم به مكة وهو رديفه، فرآه أهل مكة وقد تغير لونه بالسفر، فحسبوه عبدا للمطلب، فقالوا: هذا عبد المطلب، فعلق به هذا الاسم وركبه، فصار لا يذكر ولا يدعى إلا به3 فلم يبق للأصل معنى مقصود. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا ابن عبد المطلب " 4 5. وقد صار معظما في قريش والعرب، فهو سيد قريش وأشرفهم في جاهليته، وهو الذي حفر زمزم وصارت له السقاية وفي ذريته من بعده. وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بني عبد المطلب، وتوفي في حياة أبيه. وعن ابن عباس في الآية قال: " لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس. فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعنني أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن، يخوفهما. سمياه عبد الحارث. فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا. ثم حملت، فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا. ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث. فذلك قوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} ". رواه ابن أبي حاتم. وله بسند صحيح عن قتادة قال: " شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته ". وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لئن آتيتنا صالحا} 6 قال: " أشفقا أن لا يكون إنسانا " وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما. قال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتاب الدرة السنية في مولد خير البرية: " كان سن أبيه عبد الله حين حملت منه آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمانية عشر عاما، ثم ذهب إلى المدينة ليمتار منها تمرا لأهله، فمات بها عند أخواله بني عدي بن النجار، والنبي صلى الله عليه وسلم حملٌ على الصحيح". انتهى. قلت: وصار النبي صلى الله عليه وسلم لما أوضعته أمه في كفالة جده عبد المطلب.   1 سورة الزمر آية: 36. 2 وكانت أمه سلمى قد شرط أبوها عمرو بن زيد الخزرجي النجاري على هاشم أن تلد عنده بالمدينة، فولدت له شيبة. ومات هاشم في الشام فبقي شيبة بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار سبع سنين حتى ذهب عمه المطلب إليه وأحضره إلى مكة. 3 واسمه العلم: شيبة الحمد. 4 البخاري: الجهاد والسير (2864) , ومسلم: الجهاد والسير (1776) , والترمذي: الجهاد (1688) , وأحمد (4/280 ,4/281) . 5 روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب- وسأله رجل من قيس-: أفررتم عن رسول الله يوم حنين؟ فقال: "لكن رسول الله لم يفر. كانت هوزان رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم فاستقبلتنا بالسهام. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأن أبا سفيان آخذ بزمامها يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزل نصرك". وكنا إذا حمي البأس اتقينا برسول الله. وأن الشجاع الذي يحاذي به". 6 سورة الأعراف آية: 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 قال الحافظ الذهبي: وتوفي أبوه عبد الله وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا، وقيل أقل من ذلك، وقيل: وهو حمل. توفي بالمدينة، وكان قد قدمها ليمتار تمرا، وقيل: بل مر بها راجعا من الشام، وعاش خمسة وعشرين سنة. قال الواقدي: " وذلك أثبت الأقاويل في سنه ووفاته. وتوفيت أمه آمنة بالأبواء وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم. وقيل: ابن أربع سنين. فلما ماتت أمه حملته أم أيمن مولاته إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي جده، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبي طالب". اهـ. قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في الآية". قد قدمنا نظيره عن ابن عباس في المعنى. قوله: "وله بسند صحيح عن قتادة قال: " شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته ". قال شيخنا -رحمه الله-: " إن هذا الشرك في مجرد تسمية، لم يقصدا حقيقته التي يريدها إبليس، وهو محمل حسن يبين أن ما وقع من الأبوين من تسميتهما ابنهما عبد الحارث إنما هو مجرد تسمية لم يقصدا تعبيده لغير الله. وهذا معنى قول قتادة: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 فيه مسائل: الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله1. الثانية: تفسير الآية. الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها. الرابعة: إن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم. الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة.   1 كتسمية عبد علي وعبد الحسين وغلام الحسين, وعبد النبي وعبد الرسول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1 الآية.   قوله: "باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} " 2 الآية. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر " 3. أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة. ورواه البخاري عن أبي اليمان عن أبي الزناد عن الأعرج عنه. وأخرجه الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بسنده مثله 4. وزاد بعد قوله: " يحب الوتر-: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن; الرحيم; الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، القهار، الغفار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب،   1 سورة الأعراف آية: 180. 2 في قرة عيون الموحدين: أراد -رحمه الله- بهذه الترجمة الرد على من يتوسل بالأموات، وأن المشروع هو التوسل بالأسماء الحسنى والصفات العليا, والأعمال الصالحة. 3 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3506) , وابن ماجه: الدعاء (3860) , وأحمد (2/258 ,2/314) . 4 البخاري: كتاب التوحيد (7392) : باب إن لله مائة اسم إلا واحدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور " 1. ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة 2، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك. أي أنهم جمعوها من القرآن، كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان وأبي زيد اللغوي والله أعلم. هذا ما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره. ثم قال: ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في تسعة وتسعين. بدليل ما رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك; ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي. إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا. فقيل: يا رسول الله: ألا نتعلمها؟ فقال: بلى. ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها " 3. وقد أخرجه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه.   1 الترمذي: الدعوات (3507) , وابن ماجه: الدعاء (3861) . 2 ضعيف: الترمذي: كتاب الدعوات (3507) : باب رقم (83) . وقال: حديث غريب. وابن حبان (2384- موارد) ، والحاكم (1/ 16) . وأشار إلى ضعفه ابن تيمية في الفتاوى (22/ 482) ، وابن كثير في تفسيره (2/ 269) ، وابن حزم في المحلى (8/ 31) . وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1943) ، والأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (4/ 174 , 175) . 3 صحيح: أحمد (1/ 391) ، وابن حبان (2372- موارد) . وصححه ابن القيم في بدائع الفوائد (1/ 166) ، وفي شفاء العليل (274) , وصححه الألباني في الصحيحة (199) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1. قال: " إلحاد الملحدين: أن دعوا اللات في أسماء الله ". وقال ابن جريج عن مجاهد: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} . قال: " اشتقوا اللات من الله، واشتقوا العزى من العزيز ". وقال قتادة: " يلحدون: يشركون ". وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " الإلحاد التكذيب ". وأصل الإلحاد في كلام العرب: العدول عن القصد، والميل والجور والانحراف. ومنه اللحد في القبر؛ لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإشـ ... ـراك والتعطيل والنكران وأسماء الرب تعالى كلها أسماء وأوصاف تعرف بها تعالى إلى عباده، ودلت على كماله جل وعلا. وقال -رحمه الله-: " فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها، وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات، وإما أن يجعلها أسماء لهذه المخلوقات كإلحاد أهل الاتحاد؛ فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها. حتى قال زعيمهم: هو المسمى بمعنى كل اسم ممدوح عقلا وشرعا وعرفا. وبكل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا". انتهى. قلت: والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، متقدمهم ومتأخرهم: إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2. وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذي حذوه   1 سورة الأعراف آية: 180. 2 سورة الشورى آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 ومثاله، فكما أنه يجب العلم بأن الله ذاتا حقيقة لا تشبه شيئا من ذوات المخلوقين، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئا من صفات المخلوقين، فمن جحد شيئا مما وصف الله نفسه أو وصفه به رسوله، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين. كما قال تعالى: ? {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1. وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- أيضا: "فائدة جليلة" ما يجري صفة أو خبرا على الرب تبارك وتعالى أقسام: أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات، كقولك ذات وموجود. الثاني: ما يرجع إلى صفاته ونعوته، كالعليم والقدير، والسميع والبصير. الثالث: ما يرجع إلى أفعاله، كالخالق والرازق. الرابع: التنزيه المحض، ولا بد من تضمنه ثبوتا; إذ لا كمال في العدم المحض، كالقدوس والسلام. الخامس: - ولم يذكره أكثر الناس- وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة، بل دال على معان، نحو المجيد العظيم الصمد؛ فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة، من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا؛ فإنه موضوع للسعة والزيادة والكثرة، فمنه " استمجد المرخ والعفار" 2، وأمجد الناقة، علفها. ومنه "رب العرش المجيد" صفة للعرش لسعته وعظمته وشرفه. وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنا بطلب الصلاة من الله على رسوله كما علمناه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء، وكثرته ودوامه. فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه; كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، فهو راجع إلى التوسل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه. ومنه الحديث الذي في الترمذي: " ألِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام " 3. ومنه: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام " 4. فهذا سؤال له توسل إليه بحمده، وأنه لا إله إلا هو فيه مسائل: الأولى: إثبات الأسماء. الثانية: كونها حسنى. الثالثة: الأمر بدعائه بها. الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين. الخامسة: تفسير الإلحاد فيها. السادسة: وعيد من ألحد. المنان، فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته. وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعا عند المسئول! وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد. السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر. وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد، الغفور القدير، الحميد المجيد، وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن؛ فإن الغني صفة كمال، والحمد كذلك، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك الغفور القدير، والحميد المجيد، والعزيز الحكيم، فتأمله فإنه أشرف المعارف.   1 سورة النساء آية: 115. 2 المرخ: شجر سريع الوري والاشتعال. والعفار- كسحاب- شجر يتخذ منه الزناد, والمراد: كثرت النار; ويضرب المثل للكثرة. 3 صحيح: الترمذي: كتاب الدعوات (3524 , 3525) باب رقم (92) ، أحمد (1/ 177) ، والنسائي في الكبرى (كما في تحفة الأشراف [3/ 167] ) من حديث أنس رضي الله عنه. وصححه الألباني في الصحيحة (1536) لطرقه وشواهده. 4 صحيح: جزء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ورجل يصلي فقال: اللهم.. أخرجه أحمد (3/ 120 , 158 , 245 , 265) ، وأبوداود: كتاب الصلاة (1495) باب الدعاء، والترمذي: كتاب الدعوات (3544) باب خلق الله مائة رحمة، والنسائي: كتاب السهو (3/ 53) باب الدعاء بعد الذكر، وابن ماجة: كتاب الدعاء (3858) باب اسم الله الأعظم. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي (1/ 503 , 504) ، وابن حبان (2382- موارد) . وصححه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (5/ 36 , 37) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 باب "لا يقال " السلام على الله" في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في   قوله: "باب لا يقال: السلام على الله". قوله: "في الصحيح عن ابن مسعود إلخ". هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " كنا إذا جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده; السلام على فلان وفلان " 1. الحديث وفي آخره ذكر التشهد الأخير. رواه الترمذي من حديث الأسود بن يزيد عن ابن مسعود. وذكر في الحديث سبب النهي عن ذلك بقوله: " فإن الله هو السلام ومنه السلام " 2. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثا ويقول: " اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت   1 البخاري: كتاب صفة الصلاة (835) : باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، ومسلم: كتاب الصلاة (402) (58) : باب التشهد في الصلاة: باب تخيير الدعاء بعد الصلاة على النبي، وابن ماجة: في إقامة الصلاة (899) : باب ما جاء في التشهد من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. 2 الترمذي: في الصلاة (289) : باب ما جاء في التشهد. من حديث الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه النسائي أيضا (2/ 237 , 238) من هذا الطريق أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 يا ذا الجلال والإكرام " 1. الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام " 2. وفي الحديث: " إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى " 3. وفي التنزيل ما يدل على أن الرب -تبارك وتعالى- يسلم عليهم في الجنة 4. كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 5. ومعنى قوله: "إن الله هو السلام" إن الله سالم من كل نقص ومن كل تمثيل، فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص. قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: " السلام اسم مصدر. وهو من ألفاظ الدعاء. يتضمن الإنشاء والإخبار، فجهة الخبر فيه لا تناقض الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية. وفيه قولان مشهوران: الأول: أن السلام هنا هو الله عز وجل. ومعنى الكلام: نزلت بركته عليكم ونحو ذلك. فاختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم "السلام" دون غيره من الأسماء. الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية. ومن حجة أصحاب هذا القول: أنه يأتي منكرا، فيقول المسلم: "سلام عليكم"، ولو كان اسما من أسماء الله لم يستعمل كذلك. ومن حجتهم: أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرا ودعاء". قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: وفصل الخطاب أن يقال: الحق في مجموع القولين. فكل   1 أحمد (6/145) . 2 مسلم: الصلاة (402) , والنسائي: السهو (1298) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/382 ,1/413) , والدارمي: الصلاة (1340) . 3 أخرجه مسلم: كتاب المساجد (591) (135) : باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته. من حديث ثوبان رضي الله عنه. 4 منكر. جزء من حديث طويل رواه ابن أبي الدنيا، وأبو نعيم معضلا. ورفعه منكر كما قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 271) . 5 سورة يس آية: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 باب" قول: " اللهم اغفر لي إن شئت" في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له " 1.   قوله: "باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت". يعني أن ذلك لا يجوز لورود النهي عنه في حديث الباب.   1 البخاري: الدعوات (6339) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي: الدعوات (3497) , وأبو داود: الصلاة (1483) , وأحمد (2/463 ,2/486) , ومالك: النداء للصلاة (494) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت. ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ". بخلاف العبد؛ فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره. فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسئول; مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين؛ فإنه –تعالى- لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، وعطاؤه كلام. وفي الحديث: " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه; وفي يده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه " 1 2. يعطي تعالى لحكمة ويمنع لحكمة وهو الحكيم الخبير. فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة، فإنه لا يعطي عبده شيئا عن كراهة ولا عن عظم مسألة. وقد قال بعض الشعراء فيمن يمدحه: ويعظم في عين الصغير صغارها ... ويصغر في عين العظيم العظائم وهذا بالنسبة إلى ما في نفوس أرباب الدنيا، وإلا فإن العبد يعطي تارة ويمنع أكثر، ويعطي كرها، والبخل عليه أغلب. وبالنسبة إلى حاله هذه فليس عطاؤه بعظيم، وأما ما يعطيه الله تعالى عباده فهو دائم مستمر، يجود بالنوال قبل السؤال من حين وضعت النطفة   1 البخاري: التوحيد (7419) , ومسلم: الزكاة (993) , والترمذي: تفسير القرآن (3045) , وابن ماجه: المقدمة (197) , وأحمد (2/313 ,2/500) . 2 رواه البخاري في عدة مواضع من الجامع، ومسلم عن أبي هريرة وفيه زيادة: "وكان عرشه على الماء" بعد "خلق السماوات والأرض". وفي تفسير سورة هود من البخاري أول الحديث: "أنفق أنفق عليك, وقال: "يد الله ملأى ... الحديث" قال الحافظ في الفتح: " وترد رواية: "يمين الله" على من فسر اليد هنا بالنعمة, وأبعد منه من فسرها بالخزائن ". اهـ. ومعنى: "يغيضها" ينقصها, يقال: غاض الماء إذا نقص. ومعنى: "سحاء" أي دائمة الصب والعطاء الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 في الرحم. فنعمه على الجنين في بطن أمه دارّة، يربيه أحسن تربية، فإذا وضعته أمه عطف عليه والديه ورباه بنعمه حتى يبلغ أشده، يتقلب في نعم الله مدة حياته، فإن كانت حياته على الإيمان والتقوى، ازدادت نعم الله تعالى عليه إذا توفاه أضعاف أضعاف ما كان عليه في الدنيا من النعم التي لا يقدر قدرها إلا الله، مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين. وكل ما يناله العبد في الدنيا من النعم، وإن كان بعضها على يد مخلوق فهو بإذن الله وإرادته وإحسانه إلى عبده، فالله تعالى هو المحمود على النعم كلها، فهو الذي شاءها وقدّرها وأجراها عن كرمه وجوده وفضله، فله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن. قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} 1. وقد يمنع سبحانه عبده إذا سأله لحكمة وعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع، وقد يؤخر ما سأله عبده لوقته المقدر، أو ليعطيه أكثر. فتبارك الله رب العالمين. ولمسلم: " وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه " 2. فيه مسائل: الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء. الثانية: بيان العلة في ذلك. الثالثة: قوله: " ليعزم المسألة". الرابعة: إعظام الرغبة. الخامسة: التعليل لهذا الأمر. وقوله: "ولمسلم: "وليعظم الرغبة" أي في سؤاله ربه حاجته; فإنه يعطي العظائم كرما وجودا وإحسانا. فالله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه، أي ليس شيء عنده بعظيم، وإن عظم في نفس المخلوق؛ لأن سائل المخلوق لا يسأله إلا ما يهون عليه بذله بخلاف رب العالمين، فإن عطاءه كلام {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3. فسبحان من لا يقدر الخلق قدره، لا إله غيره ولا رب سواه.   1 سورة النحل آية: 53. 2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) . 3 سورة يس آية: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 باب " لا يقول عبدي وأَمَتي في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، " لا يقل أحدكم أطعم ربك وضئ ربك، وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي " 1.   قوله: "باب لا يقول: عبدي وأمتي". ذكر الحديث الذي في الصحيح "عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقولن أحدكم: أطعم ربك، وضِّئْ ربك. وليقل: سيدي ومولاي. ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي ". هذه الألفاظ المنهي عنها وإن كانت تطلق لغة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها تحقيقا للتوحيد، وسدا لذرائع الشرك؛ لما فيها من التشريك في اللفظ؛ لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم. فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم، فينهى عنه لذلك. وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى. وإنما المعنى أن هذا مالك له. فيطلق عليه هذا اللفظ بهذا الاعتبار. فالنهي عنه حسما لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقا للتوحيد، وبعدا عن الشرك حتى في اللفظ. وهذا من أحسن مقاصد الشريعة؛ لما فيه من تعظيم الرب تعالى، وبعده عن مشابهة المخلوقين، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ. وهو قوله: "سيدي ومولاي" وكذا قوله: " ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي "؛ لأن العبيد عبيد الله، والإماء إماء الله. قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 2. ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيما لله تعالى وأدبا وبعدا عن الشرك وتحقيقا للتوحيد. وأرشدهم إلى أن يقولوا: "فتاي وفتاتي وغلامي". وهذا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، فقد بلّغ صلى الله عليه وسلم أمته كل ما فيه لهم نفع، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين. فلا خير إلا دلهم عليه، خصوصا في تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه، خصوصا ما يقرب من الشرك لفظا وإن لم يقصد به. وبالله التوفيق.   1 البخاري: كتاب العتق (2552) : باب كراهية التطاول على الرقيق. ومسلم: كتاب الألفاظ من الأدب (2449) (15) باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد. 2 سورة مريم آية: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 فيه مسائل: الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي. الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك. الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي، وفتاتي، وغلامي. الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي. الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 باب " لا يرد من سأل بالله عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل بالله فأعطوه،   قوله: "باب لا يرد من سأل بالله". ظاهر الحديث1 النهي عن رد السائل إذا سأل بالله، لكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيل بحسب ما ورد في الكتاب والسنة، فيجب إذا سأل السائل ما له فيه حق كبيت المال أن يجاب فيعطى منه على قدر حاجته وما يستحقه وجوبا، وكذلك إذا سأل المحتاج من في ماله فضل فيجب أن يعطيه على حسب حاله ومسألته، خصوصا إذا سأل من لا فضل عنده، فيستحب أن يعطيه على قدر حال المسئول ما لا يضر به ولا يضر عائلته، وإن كان مضطرا وجب أن يعطيه ما يدفع ضرورته. ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين، وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم والجود وضدهما من البخل والشح. فالأول محمود في الكتاب والسنة. والثاني مذموم فيهما. وقد حث الله تعالى عباده على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه وكثرة ثوابه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌالشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2. وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} 3. وذلك الإنفاق من خصال البر المذكورة في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ   1 تقدم تخريجه برقم (301) . 2 سورة البقرة آية: 267-268. 3 سورة الحديد آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} 1 الآية. فذكره بعد ذكر أصول الإيمان وقبل ذكر الصلاة. ذلك- والله أعلم- لتعدي نفعه. وذكره –تعالى- في الأعمال التي أمر بها عباده، وتعبدهم بها ووعدهم عليها الأجر العظيم. قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 2. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الصدقة حتى النساء، نصحا للأمة وحثا لهم على ما ينفعهم عاجلا وآجلا. وقد أثنى الله سبحانه على الأنصار -رضي الله عنهم- بالإيثار، فقال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3. والإيثار من أفضل خصال المؤمن كما تفيده هذه الآية الكريمة، وقد قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} 4. والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جدا، ومن كان سعيه للآخرة رغب في هذا ورغّب، وبالله التوفيق. قوله: " من دعاكم فأجيبوه ". هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض: إجابة دعوة المسلم، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين. قوله: " ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه ". ندبهم صلى الله عليه وسلم على المكافأة على المعروف؛ فإن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله ورسوله، كما دل عليه هذا الحديث، ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئام من الناس. وبعض اللئام يكافئ على الإحسان بالإساءة، كما يقع كثيرا من بعضهم. نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، بخلاف حال أهل التقوى والإيمان فإنهم يدفعون السيئة بالحسنة طاعة لله   1 سورة البقرة آية: 177. 2 سورة الأحزاب آية: 35. 3 سورة الحشر آية: 9. 4 سورة الإنسان آية: 8-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ومحبة لما يحبه لهم ويرضاه، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَوَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِوَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 1. وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 2. وهم الذين سبقت لهم من الله تعالى السعادة. لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له، حتى تُروا أنكم قد كافأتموه "3. رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح. فيه مسائل: الأولى: إعاذة من استعاذ بالله. الثانية: إعطاء من سأل الله. الثالثة: إجابة الدعوة. الرابعة: المكافأة على الصنيعة. الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه. السادسة: قوله: حتى تروا أنكم قد كافأتموه. قوله: " فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له ". أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى أن الدعاء في حق من لم يجد المكافأة مكافأة للمعروف، فيدعو له على حسب معروفه. قوله: "تُروا- بضم التاء تظنوا- أنكم قد كافأتموه" ويحتمل أنها مفتوحة بمعنى تعلموا. ويؤيده ما في سنن أبي داود من حديث ابن عمر: "حتى تعلموا" 4. فتعين الثاني للتصريح به. وفيه: "من سألكم بالله فأجيبوه" 5. أي إلى ما سأل. فيكون بمعنى: أعطوه. وعند أبي داود في رواية أبي نُهيك عن ابن عباس: " من سألكم بوجه الله فأعطوه " 6. وفي رواية عبيد الله القواريري لهذا الحديث: "ومن سألكم بالله" 7، كما في حديث ابن عمر.   1 سورة المؤمنون آية: 96-97. 2 سورة فصلت آية: 34-35. 3 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الزكاة (1672) , وأحمد (2/99 ,2/127) . 4 أبو داود: كتاب الأدب (5109) : باب في الرجل يستعيذ من الرجل من حديث ابن عمر. 5 عند أبي داود: "ومن سألكم بالله فأعطوه". 6 أبو داود: كتاب الأدب (5108) : باب في الرجل يستعيذ من الرجل من حديث ابن عباس. ولفظه: "من سألكم بالله فأعطوه". 7 أبو داود: كتاب الأدب (5108) : باب في الرجل يستعيذ من الرجل من حديث ابن عباس. وهو بهذا اللفظ من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 باب: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة " 1. رواه أبو داود.   قوله: "باب لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة". ذكر فيه حديث جابر رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ".   1 ضعيف: أبو داود: كتاب الزكاة (1671) : باب كراهية المسألة بوجه الله عز وجل. وضعفه ابن القطان وغيره كما في فيض القدير (2/ 220) . وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6366) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وهنا سؤال: وهو أنه قد ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من الطائف حين كذبه أهل الطائف ومن في الطائف من أهل مكة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء المأثور: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يك بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي ". وفي آخره: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل عليّ غضبك، أو ينزل بيّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله " 1 2. والحديث المروي في الأذكار: " اللهم أنت أحق من ذُكر وأحق من عُبد " - 3 وفي آخره -: " أعوذ بنور وجهك فيه مسائل: الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب. الثانية: إثبات صفة الوجه. الذي أشرقت له السماوات والأرض ". وفي حديث آخر: " أعوذ بوجه الله الكريم، وباسم الله العظيم، وبكلماته التامة من شر السامة واللامة، ومن شر ما خلقت، أي رب ومن شر هذا اليوم ومن شر ما بعده، ومن شر الدنيا والآخرة " 4. وأمثال ذلك في الأحاديث المرفوعة بالأسانيد الصحيحة أو الحسان. فالجواب: أن ما ورد من ذلك فهو في سؤال ما يقرب إلى الجنة أو ما يمنعه من الأعمال التي تمنعه من الجنة، فيكون قد سأل بوجه الله وبنور وجهه ما يقرب إلى الجنة كما في الحديث الصحيح: " اللهم إني أسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل " 5. بخلاف ما يختص بالدنيا كسؤال المال والرزق والسعة في المعيشة رغبة في الدنيا، مع قطع النظر عن كونه أراد بذلك ما يعينه على عمل الآخرة. فلا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل حوائج دنياه بوجه الله، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث كما لا يخفى. والله أعلم. وحديث الباب من جملة الأدلة المتواترة في الكتاب والسنة على إثبات الوجه لله تعالى؛ فإنه صفة كمال، وسلبه غاية النقص والتشبيه بالناقصات، كسلبهم جميع الصفات أو بعضها. فوقعوا في أعظم مما فروا منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وطريقة أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته على ما يليق بجلال الله وعظمته، فيثبتون له ما أثبته لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم وينفون عنه مشابهة المخلوق، فكما أن ذات الرب لا تشبه الذوات فصفاته كذلك لا تشبه الصفات، فمن نفاها فقد سلبه الكمال.   1 ضعيف: رواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن جعفر, وقال الهيثمي (6/ 35) بعد أن عزاه للطبراني: "وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة وبقية رجاله ثقات". والحديث ضعفه الأرناؤوط في تخريج زاد المعاد (3/ 130) . وضعفه الألباني في تخريح فقه السيرة لمحمد الغزالي ص (135, 136) . 2 رواه ابن إسحاق والطبراني عن عبد الله بن جعفر. 3 ضعيف: أخرجه الطبراني في الكبير (8027) عن أبي أمامة. وقال الهيثمي (10/ 117) : "وفيه فضال بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه" ا. هـ. 4 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (805) , والترمذي: فضائل القرآن (2883) , وأحمد (4/183) . 5 صحيح: جزء من حديث أخرجه أحمد (3/474) ، (6/ 134 , 146 , 147) ، أبو داود: الصلاة (792) ، وابن ماجة: كتاب الدعاء (3846) : باب الجوامع من الدعاء من حديث عائشة -رضي الله عنها-. وصححه ابن حبان (2413- موارد) ، والحاكم (1/ 521 , 522) ، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الصحيحة (1542) وصحيح الجامع (1287) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 باب: ما جاء في "لو" ... باب: " ما جاء في اللّوِّ" وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 1.   قوله: "باب ما جاء في اللو". أي من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة، كالمصائب إذا جرى بها القدر لما فيه من الإشعار بعدم الصبر والأسى على ما فات، مما لا يمكن استدراكه، فالواجب التسليم للقدر، والقيام بالعبودية الواجبة وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره. والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة. وأدخل المصنف -رحمه الله- أداة التعريف على "لو"، وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفا كنظائرها؛ لأن المراد هذا اللفظ كما قال الشاعر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله وقوله: "وقول الله عز وجل: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ". قاله بعض المنافقين يوم أحد؛ لخوفهم وجزعهم وخورهم. قال ابن اسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: " لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف   1 سورة آل عمران آية: 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 علينا أرسل الله علينا وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} 1. النوم. فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب " 2. رواه ابن أبي حاتم. قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} 3 أي هذا قدر مقدّر من الله عز وجل، وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه. وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} الآية. قال العماد ابن كثير: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} : أي لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4 أي إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت، فينبغي لكم أن لا تموتوا، والموت لا بد آت إليكم، ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: "نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه" يعني أنه هو الذي قال ذلك. وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال: " غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل يسقط سيفي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى - المنافقون- ليس لها هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه، وأخذله للحق، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} إنما هم أهل ريب وشك بالله عز وجل ". قوله: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يعني لا يغشاهم النعاس عن القلق والجزع والخوف {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} 5. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبيّ في غزوة أحد قال: فلما انخذل يوم أحد وقال: "يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان؟ " أو كما قال.. انخذل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك. فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام، ولم يكونوا من المؤمنين حقا الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة. وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحنة التي   1 سورة آل عمران آية: 168. 2 حسن: رواه ابن إسحاق كما قال ابن كثير في تفسيره (1/ 418) . وابن جرير (4/ 94) عن الزبير بسند حسن: وانظر النهج السديد (532) . 3 سورة آل عمران آية: 154. 4 سورة آل عمران آية: 168. 5 سورة آل عمران آية: 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيرا، وينافق كثير منهم. ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبا، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة. وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسل باطنا وظاهرا، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم، وهؤلاء من الذين قالوا آمنا، فقيل لهم: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 1 أي الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقا؛ فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى، كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب". انتهى. قوله: وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا ما فيه عبرة. قلت: ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو، من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام، وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره. والله المستعان. قوله: "في الصحيح" أي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص.. الحديث" 2. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان " 3. اختصر المصنف -رحمه الله- هذا الحديث، وتمامه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ". أي في معاشك ومعادك. والمراد الحرص على فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وأخراه مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعينا بالله وحده دون كل ما سواه ليتم له سببه وينفعه، ويكون اعتماده على الله تعالى في ذلك; لأن الله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب، ولا ينفعه سبب إلا إذا نفعه الله به، فيكون اعتماده في فعل السبب على الله تعالى. ففعل السبب سنة، والتوكل على الله توحيد. فإذا جمع بينهما تم له مراده بإذن الله. قوله: "ولا تعجزن" النون نون التأكيد الخفيفة، نهاه صلى الله عليه وسلم عن العجز   1 سورة الحجرات آية: 14. 2 جزء من حديث أبي هريرة الذي أخرجه. مسلم: كتاب القدر (2664) (34) باب في الأمر بالقوة وترك العجز ... 3 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) , وأحمد (2/366 ,2/370) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وذمه، والعجز مذموم شرعا وعقلا، وفي الحديث: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " 1 2. فأرشده صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إذا أصابه ما يكره أن لا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن يقول: قد قَدَّرَ الله وما شاء فعل، أي هذا قدر الله، والواجب التسليم للقدر والرضى به، واحتساب الثواب عليه. قوله: "فإن "لو" تفتح عمل الشيطان" أي لما فيها من التأسف على ما فات والتحسر ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر والرضى، والصبر واجب، والإيمان بالقدر فرض، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} 3. قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ". وقال الإمام أحمد: "ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن". قال شيخ الإسلام رحمه الله- وذكر حديث الباب بتمامه- ثم قال في معناه: لا تعجز عن مأمور، ولا تجزع عن مقدور، ومن الناس من يجمع كلا الشرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على النافع والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب، وإلا فالاستحباب، ونهى عن العجز وقال: " إن الله يلوم على العجز " 4. والعاجر ضد "الذين هم ينتصرون" فالأمر بالصبر والنهي عن العجز مأمور به في مواضع كثيرة; وذلك لأن الإنسان بين أمرين: أمر أُمر بفعله، فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين الله ولا يعجز. وأمرٌ أصيب به من غير فعله. فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه. ولهذا قال بعض العقلاء- ابن المقفع أو غيره-: الأمور أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه.   1 ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 124) والترمذي: كتاب صفة القيامة (2459) : باب رقم (25) . وابن ماجة: كتاب الزهد (4260) : باب ذكر الموت والاستعداد له من حديث شداد بن أوس. وصححه الحاكم على شرط البخاري (1/ 57) وتعقبه الذهبي بقوله: "لا والله وأبو بكر واه" ا. هـ. أي أبو بكر بن أبي مريم, وضعفه الألباني في تخريج رياض الصالحين (67) . 2 رواه أحمد والترمذي- وحسنه-، والحاكم وقال: " صحيح على شرط البخاري "، وتعقبه الذهبي بأن فيه ابن أبي مريم وهو واه. وهذا من حديث شداد بن أوس. وهو عندهم بدون كلمة "الأماني". 3 سورة الحديد آية: 22-23. 4 ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 25) . وأبو داود: كتاب الأقضية (3627) : باب الرجل يحلف على حقه. من حديث عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه-, وضعفه الألباني في تخريج الكلم الطيب (137) ، وضعيف الجامع (1759) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وهذا في جميع الأمور لكن عند المؤمن: الذي فيه حيلة هو ما أمره الله به، وأحبه له؛ فإن الله لم يأمره إلا بما فيه حيلة له، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقد أمره بكل خير له فيه حيلة. وما لا حيلة له فيه هو ما أصيب به من غير فعله. واسم الحسنات والسيئات يتناول قسمين: فالأفعال مثل قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} 1. ومثل قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 2. ومثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 3. ومثل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} 4 إلى آيات كثيرة من هذا الجنس والله أعلم. فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران. الثانية: النهي الصريح عن قول: " لو " إذا أصابك شيء. الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان. الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن. الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع، مع الاستعانة بالله. السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز. والقسم الثاني. ما يجري على العبد بغير فعله من النعم والمصائب. كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} 5. والآية قبلها، فالحسنة في هاتين الآيتين: النعم. والسيئة: المصائب، هذا هو الثاني من القسمين. وأظن شيخ الإسلام -رحمه الله- ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم. ثم قال -رحمه الله-: " فإن الإنسان ليس مأمورا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم، فاصبر عليه وارض وسلم. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} 6. ولهذا قال آدم لموسى: "أتلومني على أمر قَدّره الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى" 7؛ لأن موسى قال له: "لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة" 8. فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنبا. وأما كونه لأجل الذنب- كما يظنه طوائف من الناس- فليس مرادا بالحديث؛ فإن آدم -عليه السلام- كان قد تاب من الذنب. والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس". انتهى.   1 سورة الأنعام آية: 160. 2 سورة الإسراء آية: 7. 3 سورة الشورى آية: 40. 4 سورة البقرة آية: 81. 5 سورة النساء آية: 79. 6 سورة التغابن آية: 11. 7 البخاري: كتاب القدر (6614) : باب تحاج آدم وموسى عند الله. ومسلم: كتاب القدر (2652) باب حجاج آدم وموسى -عليهما السلام-. من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. 8 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 قال العلامة ابن القيم رحمه الله: تضمن هذا الحديث أصولا عظيمة من أصول الإيمان: أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقة. الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي ويحب المؤمن القوي، وهو وتر ويحب الوتر، وجميل يحب الجمال; وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين. ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل، فيحب بعضهم أكثر من بعض. ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده. والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع. فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه أو فعل ما ينفعه من غير حرص؛ فإنه من الكمال بقدر ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع. ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1. فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى. ولا يتم إلا بمعونته فأمره أن يعبده وأن يستعين به. فالحريص على ما ينفعه، المستعين بالله ضد العاجز. فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه. فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان: عجز. وهو مفتاح عمل الشيطان; فيلقيه العجز إلى "لو" ولا فائدة من "لو" هاهنا، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان. فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، قلم يبق له هاهنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المقدور، وإن انتفت امتنع وجوده; ولهذا قال: " فإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل "2. فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول المطلوب، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا، بل هو أشد إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار، والقيام بالعبودية ظاهرا وباطنا في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق.   1 سورة الفاتحة آية: 5. 2 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) , وأحمد (2/366) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 "باب النهي عن سب الريح" عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها، وشر ما أمرت به " 1. صححه الترمذي. فيه مسائل: الأولى: النهي عن سب الريح. الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره. الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة. الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر.   قوله: "باب النهي عن سب الريح". " عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها، وشر ما أمرت به ". صححه الترمذي". لأنها- أي الريح- إنما تهب عن إيجاد الله تعالى وخلقه لها وأمره; لأنه هو الذي أوجدها وأمرها، فمسبتها مسبة للفاعل، وهو الله سبحانه، كما تقدم في النهي عن سب الدهر، وهذا يشبهه. ولا يفعله إلا أهل الجهل بالله ودينه وبما شرعه لعباده، فنهى أهل الإيمان عما يقوله أهل الجهل والجفاء، وأرشدهم إلى ما يجب أن يقال عند هبوب الرياح، فقال: " إذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به " 2. يعني إذا رأيتم ما تكرهون من الريح إذا هبت، فارجعوا إلى ربكم بالتوحيد وقولوا: " اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها، وشر ما أمرت به ". ففي هذا عبودية لله وطاعة له ولرسوله، واستدفاع للشرور به، وتعرض لفضله ونعمته، وهذه حال أهل التوحيد والإيمان، خلافا لحال أهل الفسوق والعصيان الذين حُرموا ذوق طعم التوحيد الذي هو حقيقة الإيمان.   1 صحيح: الترمذي: كتاب الفتن (2252) : باب ما جاء في النهي عن سب الرياح وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأحمد (5/123) . وصححه الألباني لشواهده وطرقه في صحيح الجامع (7192) . 2 الترمذي: الفتن (2252) , وأحمد (5/123) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 باب: قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْ رِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1.   قوله: "باب قول الله تعالى: {ظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} الآية". وهذه الآية ذكرها الله تعالى في سياق قوله تعالى في ذكر وقعة أُحد: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} . يعني أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وينجز له مأموله، ولهذا قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يعني لا يغشاهم النعاس من الجزع والقلق والخوف {يظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} ، كما قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} 2. وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة ظنوا أنها الفيصلة، وأن الإسلام   1 سورة آل عمران آية: 154. 2 سورة الفتح آية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة. عن ابن جريج قال: " قيل لعبد الله بن أبي: قُتل بنو الخزرج اليوم. قال: وهل لنا من الأمور من شيء؟ ". قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الكلام على ما تضمنته وقعة أُحد1: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل وأنه يسلمه للقتل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} 2. قال ابن القيم في الآية الأولى: " فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح. وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق. فمن ظن أنه يُديلُ الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فيه. ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يظهره على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح حيث يقول: " {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 3. وإنما كان هذا هو ظن السوء وظن الجاهلية- وهو المنسوب إلى أهل الجهل- وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون. فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ولا يتم أمره ولا يؤيده، ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يُديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يُذل حزبه وجنده، وأن تكون   1 زاد المعاد (ج 2 ص 103-106) وقد بسط القول في ذلك أيضا في إغاثة اللهفان. 2 سورة الفتح آية: 6. 3 سورة الفتح آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتّشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا   النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به. فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله. وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته. وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمته، وغاية مطلوبه هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها، لا يخرج تقديرها عن الحكمة؛ لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى ولا شاءها عبثا ولا خلقها باطلا. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 1. وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده. فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء. ومن جوّز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي، لا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هَمَلا كالأنعام، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه على امتثال أمره، ويبطله عليه فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران. الثانية: تفسير آية الفتح. بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم   1 سورة ص آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 في أسفل سافلين، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة ولم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي1 أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل; بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان، فقد ظن به ظن السوء؛ فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال: إنه قادر ولم يبين، وعدَل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم، بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد، فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء.   1 يقال: كلمة محجية: مخالفة المعنى للفظ. وهي إما من معنى الناحية, وتقديرها أنها جاءت من غير حجاها, أو من معنى الفطنة وهي الأحجية والأحجوة. قال صاحب المثل السائر: وأما اللغز والأحجية فإنهما شيء واحد, وهو كل معنى يستخرج بالحدس والحزر لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجازا. ولا يفهم منه غرضه. انتهى من هامش الأصل نقلا عن سر الليال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق، فهذا أسوأ الظن بالله. فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية. ومن ظن به أن يكون في مُلكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه، فقد ظن بالله ظن السوء. ومن ظن أنه كان معطلا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادرا عليه بعد أن لم يكن قادرا، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات، ولا عدد السماوات ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئا من الموجودات في الأعيان، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة، ولا كلام يقوم به، وأنه لا يكلم أحدا من الخلق ولا يتكلم أبدا، ولا قال، ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين; وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال: سبحان ربي الأسفل كان كمن قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه. الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر. الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه. ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح، فقد ظن به السوء. ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة، ويحبط بها جميع طاعاته ويخلده في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين، واستنفد ساعات عمره في مساخطة ومعاداة رسله ودينه، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أن له ولدا أو شريكا، أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوصلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم، فيدعونهم ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه. ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقرب إليه، فقد ظن به خلاف حكمته، وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء. ومن ظن به أنه إذا ترك شيئا من أجله لم يعوضه خيرا منه، أو من فعل شيئا لأجله لم يعطه أفضل منه، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم، ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه وسأله واستعان به، وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السوء، وظن به خلاف ما هو أهله. ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه أولياء ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه، فقد ظن به ظن السوء. فأكثر الخلق بل كلهم- إلا من شاء الله- يظنون بالله غير الحق وظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه. ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها، رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا "وتعتبا" على القدر وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم. فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى. فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيرا ... فكيف بظالم جان جهول وقل: يانفس مأوى كل سوء ... أترجو الخير من ميت بخيل وظن بنفسك السوأى ... تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل وما بك من تقى فيها وخير ... فتلك مواهب الرب الجليل وليس لها ولا منها ولكن ... ن الرحمن فاشكر للدليل اهـ. قوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} 1. قال ابن جرير في تفسيره: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يُظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به. وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع. يقول -تعالى ذكره-: على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء. يعني دائرة العذاب تدور عليهم به. واختلف القراء في قراءة ذلك: فقرأته عامة قراء الكوفة {دَائِرَةُ السَّوْءِ} بفتح السين. وقرأ بعض قراء البصرة "دائرة السوء" بالضم. وكان الفراء يقول: الفتح أفشى في السين. وقلّ ما تقول العرب "دائرة السوء" بضم السين. وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} 1 يعني ونالهم الله بغضب منه ولعنهم. يقول: وأبعدهم فأقصاهم من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} 1 يقول: وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة {وَسَاءَتْ مَصِيراً} يقول: وساءت جهنم منزلا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات. وقال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} 1 أي يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية؛ ولهذا قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} . وذكر في معنى الآية الأخرى نحوا مما ذكره ابن جرير -رحمهما الله تعالى-. قوله: " قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-" الذي ذكره المصنف في المتن قدمته لاندراجه في كلامه الذي سقته من أوله إلى آخره.   1 سورة الفتح آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 باب: " ما جاء في منكري القدر" وقال ابن عمر: " والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أُحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر ". ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " 1. رواه مسلم.   قوله: "باب ما جاء في منكري القدر" أي من الوعيد الشديد ونحو ذلك.   1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 أخرج أبو داود عن عبد العزيز ابن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم " 1 2. وعن عمر مولى غُفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة - وهو ابن اليمان- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال " 3 4. قوله: "وقول ابن عمر: والذي نفسي بيده" إلخ. حديث ابن عمر أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن يحيى بن يعمر قال: " كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين، أو معتمرين. فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلا في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفّرون العلم5 يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنف،   1 حسن: أبو داود: كتاب السنة (4691: باب في القدر وحسنه الألباني في السنة لابن أبي عاصم (338, 339) لشواهده وطرقه الكثيرة فليراجع. 2 قال في عون المعبود (ج 4 ص 357) قال الخطابي: إنما جعلهم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذاهب المجوس في قولهم بالأصلين, وهما النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور, والشر من فعل الظلمة. وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله, والشر إلى غيره. اهـ. وقال المنذري: هذا منقطع. أبو حازم- سلمة بن دينار- لم يسمع من ابن عمر. وقد روى هذا الحديث من طرق عن ابن عمر، ليس فيها شيء يثبت- اهـ. 3 حسن: أحمد (5/ 406 , 407) وأبو داود: كتاب السنة (4692) : باب في القدر. وحسنه الألباني في تخريج السنة لابن أبي عاصم (329) . 4 قال المنذري: عمر مولى غفرة- بضم الغين وسكون الفاء- لا يحتج بحديثه. ورجل من الأنصار مجهول، وقد روي من طرق أخرى عن حذيفة. ولا يثبت. 5 يقال: اقتفرت الأثر, أي تتبعته وقفوته. فمعنى يتقفرون العلم أي يتطلبونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: فانطلق. فلبثت ثلاثا. وفي رواية: مليا. ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " 1. ففي هذا الحديث أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد ترك أصلا من أصول الدين وجحده، فيشبه من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 3 الآية. قوله: "وعن عبادة" قد تقدم ذكره في باب فضل التوحيد، وحديثه هذا رواه أبو داود ورواه   1 مسلم: كتاب الإيمان (8) (1) : باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، وأبو داود: كتاب السنة (4695) : باب في القدر، والترمذي: كتاب الإيمان (2610) : باب ما جاء في وصف جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام، والنسائي: كتاب الإيمان (8/ 97) : باب نعت الإسلام وابن ماجة في المقدمة (63) : باب في الايمان. 3 سورة البقرة آية: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الإمام أحمد بكماله1 قال: حدثنا الحسن بن سوار حدثنا ليث عن معاوية عن أيوب بن زياد; حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني. قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ما خلق الله القلم; فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. يا بني، إن مت ولست على ذلك دخلت النار " ورواه الترمذي بسنده المتصل إلى عطاء ابن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه، وقال: حسن صحيح وغريب 2. وفي هذا الحديث ونحوه: بيان شمول علم الله تعالى وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 34.   1 المسند (ج 5 ص 317) وهو عند أبي داود أخصر مما عند أحمد، ومن طريق جعفر بن مسافر الهذلي أخبرنا يحيى بن حسان أخبرنا الوليد بن رباح عن إبراهيم بن أبي جميلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه الحديث. وسكت عنه المنذري. 2 صحيح: أحمد (5/ 317) وأبو داود: كتاب السنة (4700) : باب في القدر. وأما رواية الترمذي فهي عنده في موضعين. كتاب القدر (2155) : باب [17] وقال: حديث غريب. كتاب التفسير (3319) : باب ومن سورة ن وقال: حديث حسن غريب. وفي الباب عن ابن عباس، وصححه الألباني لطرقه وشواهده في السنة لابن أبي عاصم (102 , 103 , 104 , 105) . 3 سورة الطلاق آية: 12. 4 في قرة العيون: والآيات في إثبات القدر كثيرة, وقد استدل العلماء على إثبات القدر بشمول القدرة والعلم, كما في الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله- لما سئل عن القدر قال: "القدر قدرة الرحمن". واستحسن ابن عقيل هذا من أحمد -رحمه الله-. والمعنى: أنه لا يمنع عن قدرة الله شيء، ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 فيه مسائل: الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر. الثانية: بيان كيفية الإيمان. الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به. الرابعة: الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به. الخامسة: ذكر أول ما خلق الله. السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة. السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به. تعالى فضلوا عن سواء السبيل. وقد قال بعض السلف: " ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا". قوله: "وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن الديلمي" وهو أبو بسر - بالسين المهملة، وبالباء المضمومة-. ويقال: أبو بشر- بالشين المعجمة وكسر الباء- وبعضهم صحح الأول. واسمه: عبد الله بن فيروز. ولفظ أبي داود: قال: " لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار " 1. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، قال ثم أتيت زيد بن ثابت، قال: فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك2. وأخرجه ابن ماجه. وقال العماد ابن كثير -رحمه الله-: عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره " 3. وكذا رواه الترمذي عن النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به. ورواه من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة عن ربعي عن علي فذكره. وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. - زاد ابن وهب-: وكان عرشه على الماء " 4. رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وكل هذه الأحاديث وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر، وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم. ومن مذهبهم: تخليد أهل المعاصي في النار، وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي. وفي الحقيقة إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر، فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا. وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر، وعدم تخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار5.   1 مسلم: الجنائز (947) , والترمذي: الجنائز (1029) , والنسائي: الجنائز (1991) , وأحمد (3/266 ,6/32 ,6/40 ,6/97 ,6/231) . 2 قال في عون المعبود (ج 4 ص 362) فيصير الحديث مرفوعا. قال المنذري: وفي إسناده أبو سفيان الشيباني، وثقه ابن معين وغيره، وتكلم فيه أحمد وغيره. 3 صحيح: الترمذي: كتاب القدر (2145) : باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره. وابن ماجة في المقدمة (81) ; باب في القدر والطيالسي (1/ 22) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (7460) . 4 مسلم: كتاب القدر (2653) (16) : باب حجج آدم وموسى عليهما السلام. والترمذي: كتاب القدر (2156) : باب رقم [15] . 5 في قرة العيون: وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم البدع، وكثير منهم وافقوا الجهمية في نفي صفات الرب -تعالى وتقدس-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء. التاسعة: إن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 باب: " ما جاء في المصورين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة " 1. أخرجاه. ولهما عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أشد الناس عذابا يوم القيام الذين يضاهئون بخلق الله " 2. ولهما عن ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل مصور في النار، يُجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم " 3. ولهما عنه مرفوعا: " من صور صورة في الدنيا، كُلِّفَ أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " 4.   قوله: "باب ما جاء في المصورين" أي من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من العلة: وهي المضاهاة بخلق الله؛ لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} 5. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهئا لخلق الله. فصار ما صوره عذابا له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، فكان أشد الناس عذابا; لأن ذنبه من أكبر الذنوب. فإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوّى المخلوق برب العالمين وشبهه بخلقه، وصرف له شيئا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه؟ فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكا له فيما اختص به تعالى وتقدس، هو أعظم ذنب عُصي الله تعالى به. ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك   1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232) . 2 البخاري: كتاب اللباس (5954) : باب ما وطئ من التصوير. ومسلم: كتاب اللباس والزينة (2106) (92) : باب تحريم تصوير صورة الحيوان. 3 أخرجه البخاري بنحوه: كتاب البيوع (2225) : باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح. ومسلم: كتاب اللباس والزينة (2110) (99) : باب تحريم تصوير صورة الحيوان واللفظ له. 4 البخاري: التعبير (7042) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والترمذي: اللباس (1751) , والنسائي: الزينة (5358 ,5359) , وأبو داود: الأدب (5024) , وأحمد (1/216 ,1/241) . 5 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96) . 5 سورة السجدة آية: 7-8-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى. فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جهد التوحيد، واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب! {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 2. قوله: "ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي- حيان بن حصين- قال: قال لي علي رضي الله عنه" هو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: " " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته "3.   1 سورة النساء آية: 48. 2 سورة الحج آية: 31. 3 في قرة العيون: فهذا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من إنكار هذه الأمور وإزالتها 2: 59 (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) . فأكثروا التصوير واستعملوه وأكثروا البناء على القبور وزخرفوها وجعلوها أوثانا، وزعموه دينا، وهو أعظم المنكرات وأكبر السيئات, تعظيما للأموات وغلوا، وعبادة لغير الله بأنواع العبادة التي هي حق الله على عباده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 فيه مسائل: الأولى: التغليظ الشديد في المصورين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 الثانية: التنبيه على العلة وهو ترك الأدب مع الله. لقوله: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي "1. فيه تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا لذلك. أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله. وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله. فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته. ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، وعظمت الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطا لرحال العابدين المعظمين لها. فصرفوا لها جلّ العبادة: من الدعاء والاستعانة والاستغاثة، والتضرع لها، والذبح لها، والنذور، وغير ذلك من كل شرك محظور. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: 2 ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم. رأى أحدهما مضادا للآخر، مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها. ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله. ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعاتهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها. كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي- فذكر حديث الباب- وحديث ثمامة بن شُفَي وهو عند مسلم أيضا قال: " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم بدردس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها "3. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت; ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه.   1 البخاري: اللباس (5953) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259) . 2 في إغاثة اللهفان الجزء الأول. 3 مسلم: الجنائز (968) , والنسائي: الجنائز (2030) , وأبو داود: الجنائز (3219) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم لقوله: " فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة ". الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت. كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يعقد عليه، وأن يبنى عليه " 1. ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود في سننه. عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها " 2. قال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها. كما روى أبو داود عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه " 3. وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار4. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم. والمقصود: أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعيادا، الموقدين عليها السرج; الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر. وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. قال أبو محمد المقدسي: " ولو أُبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة، وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام. قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا " 5. متفق عليه. ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم، والتمسح بها والصلاة عندها". انتهى. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا. ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه القبور بالبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده، من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره. فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها. ومنها: اتخاذها أعيادا. ومنها: السفر إليها. ومنها: مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعُبّادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيِّمها ليلة يطفئ القنديل المعلق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير ذلك. ومنها: الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها. ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها. ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم. فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح -عليه السلام- يكره ما يفعله النصارى عند قبره، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم. ويوم القيامة يتبرءون منهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} 6. قال الله تعالى للمشركين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} 7. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} 8 الآية وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 9. ومنها: 10 إماتة السنن وإحياء البدع. ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فإن عُبّاد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبا منه. ومنها: 11 أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكّر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له; فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت. فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة. فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هُجرا، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولا وفعلا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت " 12 13. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر " 14. رواه أحمد والترمذي وحسنه15. فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس -رحمه الله-: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك. ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا16 ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة. وفي الترمذي وغيره: " الدعاء هو العبادة " 17. فجرد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها، والاستغفار لهم والترحم عليهم. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " 18. وإسناده جيد ورواته ثقات مشيرا إلى قوله: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ". أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم. ثم إن19 في تعظيم القبور واتخاذها أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام. فمن المفاسد: اتخاذها أعيادا والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الدين، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبّلوا الأرض، وكشفوا الرءوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر، ولا أجر من صلى إلى القبلتين!! فتراهم حول القبر رُكّعا وسجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا. فلغير الله- بل للشيطان- ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويُسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين. ثم أخذوا في التقبيل والاستلام. أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحِلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولا بحجك كل عام. هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم; إذ هي فوق ما يخطر بالبال، ويدور في الخيال، وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور، سد الذريعة إلى هذا المحظور. وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يئول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. اهـ كلامه -رحمه الله تعالى-20.   1 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2028) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وأحمد (3/295 ,3/339) . 2 صحيح: أبو داود: كتاب الجنائز (3225) ; باب في البناء على القبر بلفظ: "نهى أن يقعد على القبر وأن يتجصص ويبنى عليه". والترمذي: كتاب الجنائز (1052) . بلفظ: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها أو أن يبنى عليها, وأن توطأ". وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (204) . 3 صحيح: أبو داود: كتاب الجنائز (3225) : باب في البناء على القبر. وصححه الألباني لطرقه في أحكام الجنائز ص (204) . 4 اختصر المؤلف كلام ابن القيم هنا وحذف منه ما يأتي: "ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى القبر بآجر، وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره، وأوصى الأسود بن يزيد أن لا تجعلوا على قبري آجرا. وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة أن لا يضربوا على قبره فسطاطا. وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاطا ". اهـ إغاثة اللهفان "ج 1 ص 103". 5 البخاري: الجنائز (1330) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403) . 6 سورة الفرقان آية: 17-18. 7 سورة الفرقان آية: 19. 8 سورة المائدة آية: 116. 9 سورة سبأ آية: 40-41. 10 اختصر المؤلف من كلام ابن القيم ما يأتي: ومنها: مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها. ومنها: محادة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكبير والإثم العظيم. 11 زاد في الإغاثة: ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد, ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك. ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عمروا المشاهد وخربوا المساجد. 12 جزء من حديث أبي هريرة. أخرجه مسلم: كتاب الجنائز (976) (108) : باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه. وتقدم تخريجه برقم [180] . 13 حذف المؤلف -رحمه الله- من كلام ابن القيم حديث علي عند الإمام أحمد: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروها فإنها تذكر الآخرة". 14 الترمذي: كتاب الجنائز (1053) : باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر. وضعفه الألباني في أحكام الجنائز ص (197) وفي ضعيف الجامع (3371) . والحديث لم يروه الإمام أحمد كما قال المؤلف. 15 حذف المؤلف -رحمه الله- حديث ابن مسعود: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروا القبور؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة". رواه ابن ماجة. وحديث أبي سعيد: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإن فيها عبرة". رواه الإمام أحمد. 16 قال ابن القيم: فقال سلمة بن وردان: "رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو". 17 صحيح: أبو داود: كتاب الصلاة (1479) : باب الدعاء، والترمذي: كتاب الدعوات (3372) : باب في فضل الدعاء، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (9/ 30) ، وابن ماجة: كتاب الدعاء (3828) : باب فضل الدعاء، وأحمد (4/ 267) من حديث النعمان [بن] بشير رضي الله عنه. وصححه الترمذي، وابن حبان (2396) ، والحاكم (1/ 490 , 491) ، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3401) . وصححه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (1384) . 18 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/367 ,2/378 ,2/388) . 19 الذي في نسخ إغاثة اللهفان التي بأيدينا المخطوطة والمطبوعة أن قول المؤلف -رحمه الله-: "ثم إن في تعظيم القبور" إلخ فصل متقدم قبل ما نقله المؤلف هنا. 20 اختصره المؤلف -رحمه الله تعالى-، وتصرف فيه بالتقديم والتأخير على حسب ما بيدنا من نسخ إغاثة اللهفان. والله يرحم الجميع ويغفر لنا ولهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 باب: " ما جاء في كثرة الحلف" وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 1. عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب "2. أخرجاه.   قوله: "باب ما جاء في كثرة الحلف" أي من النهي عنه والوعيد. "وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} ". قال ابن جرير: لا تتركوها بغير تكفير. وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد لا تحلفوا. وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا. والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس، فإن القولين متلازمان، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف، وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه. "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب ". أخرجاه". أي البخاري ومسلم. وأخرجه أبو داود والنسائي. والمعنى: أنه إذا حلف على سلعته أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وقد يظنه المشتري صادقا فيما حلف عليه فيأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كذاب وحلف طمعا في الزيادة، فيكون قد عصى الله تعالى، فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسا. وما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب.   1 سورة المائدة آية: 89. 2 البخاري: البيوع (2087) , ومسلم: المساقاة (1606) , والنسائي: البيوع (4461) , وأبو داود: البيوع (3335) , وأحمد (2/242 ,2/413) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 قوله: "وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشَيْمِط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه " 1. رواه الطبراني بسند صحيح". وسلمان: لعله سلمان الفارسي أبو عبد الله، أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وشهد الخندق، روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " سلمان منا أهل البيت2، إن الله يحب من أصحابي أربعة: عليا، وأبا ذر، وسلمان، والمقداد"?. أخرجه الترمذي وابن ماجه. قال الحسن: كان سلمان أميرا على ثلاثين ألفا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها. وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه قال أبو عبيدة: سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة. ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي. قوله: "ثلاثة لا يكلمهم الله" 3 نفي كلام الرب -تعالى وتقدس- عن هؤلاء ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشَيْمِط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل " الله" بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه ". رواه الطبراني بسند صحيح. العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه. وأن الكلام صفة من صفات كماله. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئا فشيئا، ولم يزل متصفا به. فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4. فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضا. وذلك في القرآن كثير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " فإذا قالوا لنا يعني النفاة: فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به. قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص، والله   1 صحيح: الطبراني في الكبير (6111) وفي الصغير (2/ 21) . وقال الهيثمي في المجمع (4/ 78) : "ورواته محتج بهم في الصحيح" اهـ. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3067) . 2 ضعيف: هذا الحديث هو في الأصل حديثان إلا أن المصنف جعلهما حديثا واحدا. أما الأول: منهما بلفظ: "سلمان منا أهل البيت". أخرجه الطبراني في الكبير (6040) . والحاكم (3/ 598) وإسناده ضعيف جدا، وضعفه العجلوني في كشف الخفا، وضعفه جدا الألباني في ضعيف الجامع (3272) . أما الثاني: بلفظ: "إن الله أمرني بحب أربعة ... الحديث". أخرجه الترمذي: كتاب المناقب (3718) باب (21) ، وابن ماجة في المقدمة (149) وغيرهما، وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1566) . 3 في قرة العيون: هذا وعيد شديد في حقهم؛ لأنه قد تواتر أنه –تعالى- يكلم أهل الإيمان ويكلمونه في عرصات القيامة. والأدلة على ذلك في الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. وفيه الرد على الجهمية والأشاعرة نفاة صفة الكلام. 4 سورة يس آية: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 تعالى منزه عن ذلك، ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك: مما دل عليه الكتاب والسنة. والقول الصحيح: هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون: لم يزل الله متكلما إذا شاء، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة". اهـ. قلت: ومعنى قيام الحوادث به تعالى: قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره. والله أعلم. قوله: " ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم". لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات. قوله: "أشيمط زان" صغره تحقيرا له1؛ وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا: محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من الله. وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه; بخلاف الشاب، فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع على نفسه بالندم، ولومها على المعصية فينتهي ويراجع. وكذا العائل المستكبر ليست له ما يدعوه إلى الكبر؛ لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة. و "العائل" الفقير، لا داعي له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي. قوله: "ورجل جعل الله بضاعته" بنصب الاسم الشريف، أي الحلف به، جعله بضاعته لملازمته له وغلبته عليه. وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدا فتوحيده ضعيف وأعماله ضعيفة، بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها. نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه. قوله: "وفي الصحيح" أي صحيح مسلم. وأخرجه أبو داود والترمذي، ورواه البخاري بلفظ "خيركم" 2.   1 تصغير أشمط; وهو الذي بشعره شمط أي شيب. 2 بل رواه باللفظين, فرواية: "خير أمتي أهل قرني" في فضائل الصحابة. ورواية: "خيركم" في عدة مواضع منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 قوله: "عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- قال عمران؟ فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا؟ - ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمَن " 1. قوله: "خير أمتي قرني" لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيها وكثر أهله، وقلّ الشر فيها وأهله، واعتز فيها الإسلام والإيمان، وكثر فيها العلم والعلماء. "ثم الذين يلونهم" فضّلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم، وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به. وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأُزيل، كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب. قوله: " فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا؟ " هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل، لكثرة البدع فيه، لكن العلماء متوافرون والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين، وكثرة الأهواء. فقال: " "ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون " لاستخفافهم بأمر الشهادة وعدم تحريهم للصدق، وذلك لقلة دينهم وضعف إسلامهم. قوله: "ويخونون ولا يؤتمنون" يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم. "وينذرون ولا يوفون" أي لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم وعدم إيمانهم. قوله: "ويظهر فيهم السمن" لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم   1 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/427 ,4/440) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 عن الدار الآخرة والعمل لها. وفي حديث أنس: " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم "1. قال أنس: سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " 2. وقال إبراهيم: " " كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار" ". والبدع في كثير منهم حتى فيمن ينتسب إلى العلم ويتصدر للتعليم والتصنيف3. قلت: بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظما ونثرا فنعوذ بالله من موجبات غضبه. قوله: " وفيه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " 4". قلت: وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملا وأداء؛ لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك، وهذا هو الغالب على الأكثر. والله المستعان. فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف. فكان الناس على حذر. قوله: "قال إبراهيم -هو النخعي-: " كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار "   1 البخاري: الفتن (7068) , والترمذي: الفتن (2206) , وأحمد (3/132 ,3/177) . 2 البخاري: المناقب (3651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/442) . 3 في قرة العيون: فحدث التفرق والاختلاف في الدين، أو حدث الغلو في أهل البيت من بني بويه في المشرق، لما كان لهم دولة، وبنوا المساجد على القبور وغلوا في أربابها، وظهرت دولة القرامطة وظهر فيهم الكفر والإلحاد في شرائع الدين، ومذهبهم معروف وظهر فيهم من البدع ما يطول عده، وكثر الاختلاف والخوض في أصول الدين, وما زال أهل السنة على الحق، ولكن كثرت البدع والأهواء حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير. 4 في قرة العيون: في هذا الحديث أن خير القرون ثلاثة بلا شك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 وذلك لكثرة علم التابعين، وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة فيه مسائل: الأولى: الوصية بحفظ الأيمان. الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة. الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه. الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي. الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون. السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث. السابعة: أن الذين يشهدون ولا يستشهدون. الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به. وفي هذا رغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم ونهيهم عما يضرهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 باب: "ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} 1.   قوله: "باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} الآية". قال العماد ابن كثير: وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا قال: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} . ولا تعارض بين هذا وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} 2، وبين قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا   1 سورة النحل آية: 91. 2 سورة البقرة آية: 224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 أَيْمَانَكُمْ} 1 أي لا تتركوها بلا تكفير. وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: " إني والله "-إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها - وفي رواية -: وكفرت عن يميني " 2. لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا، وهي {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} ؛ لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في الآية: يعني الحلف أي حلف الجاهلية. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حلف في الإسلام، وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " 3. وكذا رواه مسلم. ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه; فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 4 تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها. قوله: "عن بريدة" هو ابن الحصيب الأسلمي. وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في المفهم. قوله: "قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى " فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم. قال الحربي: السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها. والجيش ما كان أكثر من ذلك. وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته. قلت: وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال-: فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف قوله: "ومن معه من المسلمين خيرا" أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرا: من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم. قوله: "اغزوا باسم الله" هذا أي اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له. قلت: فتكون الباء في "بسم الله" هنا للاستعانة والتوكل على الله. قوله: " قاتلوا من كفر بالله " هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم. وقد   1 سورة المائدة آية: 89. 2 البخاري: كفارات الأيمان (6721) , ومسلم: الأيمان (1649) , وابن ماجه: الكفارات (2107) , وأحمد (4/401) . 3 مسلم: فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود: الفرائض (2925) , وأحمد (4/83) . 4 سورة النحل آية: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلا به: " ولا تقتلوا وليدا ". وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان؛ لأنه لا يكون منهم قتال غالبا. وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا. قلت: وكذلك الذراري والأولاد. قوله: " ولا تغُلُّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ". الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر: نقض العهد. والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به. ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر، وفي كراهية المثلة. قوله: " وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال -أو خصال- ". الرواية بالشك وهو من بعض الرواة. ومعنى الخلال والخصال واحد. قوله: " فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ". قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب "أيتهن" على أن يعمل فيها "أجابوك" لا على إسقاط حرف الجر. و "ما" زائدة. ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم. كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف جر. قلت: فيكون في ناصب "أيتهن" وجهان: ذكرهما الشارح. الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض. عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام" كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم. "ثم ادعهم" بزيادة "ثم" والصواب إسقاطها. كما روي في غير كتاب مسلم، كمصنف أبي داود، وكتاب الأموال لأبي عبيد؛ لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال. وقوله: "ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين" يعني المدينة. وكان في أول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم 1. قوله: "فإن أبوا أن يتحولوا" يعني أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يُعطى من الخمس ولا من الفيء شيئا. وقد أخذ الشافعي -رحمه الله- بالحديث في الأعراب، فلم ير لهم من الفيء شيئا، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده; ومصرف كل مال في أهله. وسوّى مالك -رحمه الله- وأبو حنيفة -رحمه الله- بين المالين، وجوّزا صرفهما للضعيف. قوله: " فإن هم أبوا فاسألهم الجزية ". فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر: عربيا كان أو غيره; كتابيا كان أو غيره. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما. وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس. قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم. وقال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " 2. وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية: فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان. قال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون   1 في قرة العيون: وكذلك إذا ظهرت المعاصي في بلدة. نص عليه الفقهاء في كتبهم اهـ. يعني إذا غلبت المعاصي وأهلها ولم يقدر ولا يجد سبيلا للإنكار عليهم. أما إذا وجد السبيل لإقامة الحجة، فإن بقاءه يكون واجبا لتبليغ الدين خصوصا إذا كان يدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك والبدع، ويجد من يسمع له ويصغي إليه وينتفع بدعوته. والله الموفق. 2 الترمذي: الطلاق (1184) , وأبو داود: الطلاق (2194) , وابن ماجه: الطلاق (2039) . رواه مالك في الموطأ (1/ 278) في الزكاة: باب جزية أهل الكتاب والمجوس. وله شواهد تقويه، وراجع جامع الأصول (2/ 660 , 661) بتحقيق الأرناؤوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 درهما، والوسط أربعة وعشرون درهما. والفقير اثنا عشر درهما. وهو قول أحمد بن حنبل -رحمه الله-. قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله: وقاتل يهودا والنصارى وعصبةالمج ... وس فإن هم سلموا الجزية أصدد على الأدون اثني عشر درهما افرضن ... وأربعة من بعد عشرين زيد لأوسطهم حالا ومن كان موسرا ... ثمانية مع أربعين لتنقد وتسقط عن صبيانهم ونسائهم ... وشيخ لهم فان وأعمى ومقعد وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ... ومن وجبت منهم عليه فيهتدي وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لا ممن نأى بداره، ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم.. قوله: "وإذا حاصرت أهل حصن" الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول: إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد. وهو المعروف من مذهب مالك وغيره. ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكما معينا في المجتهدات، فمن وافقه فهو المصيب ومن لم يوافقه فهو المخطئ. لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ "1. رواه مسلم. فيه مسائل: الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين. الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا. الثالثة: قوله: " اغزوا بسم الله في سبيل الله ". الرابعة: قوله: " قاتلوا من كفر بالله ". الخامسة: قوله: " استعن بالله وقاتلهم ". السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء. قوله: " " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ". الحديث". الذمة العهد، وتخفر تنقض يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرته أجرته، ومعناه أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد، كجملة الأعراب. فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعد معتد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى. والله أعلم. قوله: "وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال2 ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع   1 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2613) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/358) , والدارمي: السير (2439) . 2 ليس في نسخ المتن التي بأيدينا قول نافع هذا فليحرر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال. قال: وهو أن مالكا قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يُدْعَوا، ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تلتمس غرتهم. وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح؛ لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا. أمكن أن يكون ذلك سببا مميلا لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزدادون عتوا وبغضا. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 باب: " ما جاء في الإقسام على الله" عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك " 1. رواه مسلم.   قوله: "باب ما جاء في الإقسام على الله". ذكر المصنف فيه حديث "جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. قال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك ". رواه مسلم".   1 440- مسلم: كتاب البر والصلة (2621) (137) : باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 قوله: "يتألى" أي يحلف. والألية بالتشديد الحلف. وصح من حديث أبي هريرة قال البغوي في شرح السنة- وساق بالسند إلى عكرمة بن عمار- قال: " دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال: يا يمامي، تعال، وما أعرفه; قال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الجنة. قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة، فقلت: إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب، أو لزوجته أو لخادمه، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول مذنب، فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه. قال: فيقول: خلّني وربي، قال: فوجده يوما على ذنب استعظمه فقال: اقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت عليّ رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدا. قال: فبعث الله إليهما ملكا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده; فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ قال: لا يا رب، قال: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ". ورواه أبو داود في سننه، وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: " كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة. فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت عليّ رقيبا؟ قال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة، فقبضت أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما؟ أو كنت على ما في يدي قادرا؟ فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار ". قوله: " وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد" يشير إلى قوله في هذا الحديث: "أحدهما مجتهد في العبادة". وفي هذه الأحاديث بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، كما في حديث معاذ: " قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك   1 حسن: البغوي في شرح السنة (4187) من طريق عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة, وحسن إسناده الأرناؤوط في تخريجه لشرح السنة هناك. وأبو داود كتاب الأدب (4901) : باب في النهي عن البغي وأخرجه أيضا أحمد (2/ 323 , 363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم " 1 2. والله أعلم. فيه مسائل: الأولى: التحذير من التألي على الله. الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شِراك نعله. الثالثة: أن الجنة مثل ذلك. الرابعة: فيه شاهد لقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة" إلخ. الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.   1 صحيح: رواه أحمد (5/ 231 , 237) . والترمذي: كتاب الإيمان (2616) : باب ما جاء في حرمة الصلاة. وابن ماجة: كتاب الفتن (3973) : باب كف اللسان في الفتنة. وصححه الألباني في صحيح الجامع (5012) . 2 رواه أحمد والترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي قرة العيون: وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 باب: لا يستشفع بالله على خلقه عن جُبير بن مطعم رضي الله عنه قال: " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله نُهِكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! سبحان الله! فما زال   قوله: "باب لا يستشفع بالله على خلقه". وذكر الحديت1 وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف -رحمه الله- ولفظه: "عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك، أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، إنه لا يستشفع بالله على   1 يعني أن المصنف ساق حديث جبير بن مطعم ناسبا له إلى أبي داود ولكنه اختصره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، خلافا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته، وصرفها عن المعنى الذي وضعت له، ودلت عليه من إثبات صفات الله –تعالى- التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك فيه مسائل: الأولى: إنكاره على من قال: " نستشفع بالله عليك". الثانية: تغيره تغيرا عُرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة. بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مفتاح دار السعادة - بعد كلام سبق فيما يُعرّف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته- قال بعد ذلك: " والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء; فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين; وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها: من جبر كسير، وإغناء فقير; وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيئته خاشعا لعظمته عانيا لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فيا له من سفر ما أبركه وأروحه! وأعظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: " نستشفع بك على الله". الرابعة: التنبيه على تفسير سبحان الله. الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء. ثمرته وربحه! وأجل منفعته وأحسن عاقبته! سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب". اهـ كلامه رحمه الله. وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصا به صلى الله عليه وسلم، بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: " لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك " 1 2. وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك. وهذا هو الذي يشرع في حق الميت، وأما دعاؤه فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه; كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 3. فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة، أي ينكره ويعادي من فعله، كما في آية الأحقاف: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 4. فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر. والصحابة -رضي الله عنهم-، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، حتى في أوقات الجدب، كما وقع لعمر رضي الله عنه 5 لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يستسقي؛ لأنه حي حاضر يدعو ربه6. فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت؛ لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرا. فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه، وهم كذلك يدعون ربهم، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل. ولو كان دعاء الميت خيرا لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص، وبهم أليق، وبحقه أعلم وأقوم. فمن تمسك بكتاب الله نجا، ومن تركه واعتمد على عقله هلك. وبالله التوفيق.   1 ضعيف: جزء من حديث ابن عمر أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له فقال ... الحديث. أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة (1498) : باب الدعاء، والترمذي: كتاب الدعوات (3562) : باب رقم (121) ، وابن ماجة: كتاب المناسك (2894) : باب فضل دعاء الحاج وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في تخريج المشكاة (2248) ، وضعيف الجامع (6292) . 2 رواه أبو داود وأحمد في المسند (ج 1 ص 29 وج 2 ص 59) عن عبد الله بن عمر "أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة, فأذن له. فقال: يا أخي أشركنا في صالح دعائك; ولا تنسنا". قال عبد الرزاق في حديثه: فقال عمر: "ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس" لقوله: يا أخي. 3 سورة فاطر آية: 13-14. 4 سورة الأحقاف آية: 6. 5 صحيح البخاري: كتاب الاستسقاء (1010) : باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا. من حديث أنس رضي الله عنه. 6 رواه البخاري. وقد حصل ذلك في عام الرمادة سنة ثمان عشرة, ودام القحط تسعة أشهر. قال الحافظ في الفتح (ج 2 ص 339) : وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقعت فيه. فأخرج بإسناده أن العباس لما استسقى به عمر قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب, ولم يكشف إلا بتوبة; وقد توجه القوم إليك بي لمكاني من نبيك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة, فاسقنا الغيث". فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 باب: " ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد، وسدِّه طرق الشرك" عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه1 قال: " انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله -تبارك وتعالى -. قلنا: وأفضلنا   "قوله: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك". حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل   1 قال في أسد الغابة: عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب بن وفدان بن الحريش.. العامري ثم الكعبي ثم من بني الحريش، وهو بطن من بني عامر بن صعصعة، له صحبة. سكن البصرة- ثم ساق بسنده إلى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه قال: "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من بني عامر; فقالوا: يا رسول الله، أنت سيدنا، وأنت والدنا، وأنت أفضلنا علينا فضلا، وأنت أطولنا علينا طولا, وأنت الجفنة الغراء, وأنت وأنت. فقال: قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان". وقولهم: "أنت الجفنة الغراء". كانت العرب تدعو السيد المطعام (جفنة) ؛ لأنه يضعها ويطعم الناس فيها, فسمي باسمها. و (الغراء) البيضاء أي أنها مملوءة بالشحم والدهن. قاله أبو السعادات في النهاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 معها التوحيد أو ينقص1، وكذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله " 2وتقدم. وقوله: " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل " 3ونحو ذلك. ونهى عن التمادح وشدد القول فيه، كقوله لمن مدح إنسانا: " ويلك قطعت عنق صاحبك " 4 الحديث. أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن ابن أبي بكرة عن أبيه: " أن رجلا أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قطعت عنق صاحبك - ثلاثا " 5 وقال: " إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " 6 أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن المقداد بن الأسود. وفي هذا الحديث: "نهى عن أن يقولوا: أنت سيدنا. وقال: السيد الله -تبارك وتعالى-". ونهاهم أن يقولوا: "وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا" وقال: " لا يستجرينكم الشيطان ". وكذلك قوله في حديث أنس: " أن ناسا قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا " إلخ. كره صلى الله عليه وسلم أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مواجهة وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله7، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ". رواه النسائي بسند جيد. فيه مسائل: الأولى: تحذير الناس من الغلو. الثانية:: ما ينبغي أن يقول مَنْ قيل له: أنت سيدنا. المادح للممدوح بمدحه- ولو بما هو فيه- من عمل الشيطان؛ لما تفضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه، وذلك ينافي كمال التوحيد؛ فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه، وذلك غاية الذل في غاية المحبة، وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأن لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها والمعاتبة لها في حق ربه، وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا إذا كان يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإرادات، ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه، والمادح يغره من نفسه فيكون آثما، فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح   1 في قرة العيون: وقد اشتمل هذا الكتاب- على اختصاره- على أكثر ذلك، والنهي عما ينافي التوحيد أو يضعفه، يعرف ذلك من تدبره وعرف ما تضمنه بابا بابا. 2 تقدم تخريجه برقم (160) . 3 447- تقدم تخريجه برقم (135) . 4 البخاري: الشهادات (2662) , ومسلم: الزهد والرقائق (3000) , وأبو داود: الأدب (4805) , وابن ماجه: الأدب (3744) , وأحمد (5/45 ,5/47) . 5 البخاري: الشهادات (2662) والأدب (6061) , ومسلم: الزهد والرقائق (3000) , وأبو داود: الأدب (4805) , وأحمد (5/41) . 6 مسلم: كتاب الزهد (2002) (69) : باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط والترمذي: كتاب الزهد (2393) : باب ما جاء في كراهية المدحة والمداحين. وابن ماجة: كتاب الأدب (3742) : باب المدح. والحديث أخرجه أبو داود أيضا: كتاب الأدب (4804) : باب في كراهية التمادح. 7رواه مسلم من حديث أبي سعد وأبي هريرة, ورواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 رأسا، والنهي عنه صيانة لهذا المقام، فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له خلصت أعماله وصحت، ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد. وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه والإعجاب بها وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة كما في الحديث: " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئا منهما عذبته " 1 2. وفي الحديث:   1 مسلم: البر والصلة والآداب (2620) , وأبو داود: اللباس (4090) , وأحمد (2/442) . 2 رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (*) بإسناد رجاله رجال الصحيح. (*) قوله: (رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص) إلخ. أقول: وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 الثالثة: قوله: " لا يستجرينكم الشيطان "، مع أنهم لم يقولوا إلا الحق. الرابعة: قوله: " ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي ". " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " 1 2. وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببا لها وسلما إليها، والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها، كما يوجد كثيرا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحذر أمته أن يقع منهم، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك، كما تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح، صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده، أو يضعفه من الشرك ووسائله. " {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} 3، ورأوا أن فعل ما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات! وأما تسمية العبد بالسيد فاختلف العلماء في ذلك. قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: " اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر. فمنعه قوم، ونقل عن مالك. واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: "يا سيدنا" قال: " السيد الله تبارك وتعالى " 4. وجوّزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " قوموا إلى سيدكم " 5 6. وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كِندة، ولا يقال: الملك سيد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر؛ فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك، والمولى والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق". انتهى. قلت: فقد صح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في معنى قول الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} 7: "أي إلها وسيدا". وقال في قول الله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} 8: " أنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد ". وقال أبو وائل: " هو السيد الذي انتهى سؤدده ". وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " قوموا إلى سيدكم ". فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدا به، فيكون في هذا المقام تفصيل والله أعلم.   1 مسلم: الإيمان (91) , والترمذي: البر والصلة (1998 ,1999) , وأبو داود: اللباس (4091) , وابن ماجه: المقدمة (59) والزهد (4173) , وأحمد (1/412 ,1/416) . 2 في قرة العيون: فأعلى مراتب العبد هاتان الصفتان: العبودية الخاصة والرسالة. وللنبي صلى الله عليه وسلم أكملهما. وقد أخبر الله تعالى أنه وملائكته يصلون عليه، وأثنى عليه بأحسن ثناء وأبلغه, وشرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره، فلا يذكر في الأذان والتشهد والخطب إلا ذكر معه. صلوات الله وسلامه عليه. 3 سورة البقرة آية: 59. 4 تقدم تخريجه برقم (450) . 5 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71) . 6 قال هذا حين رأى سعد بن معاذ آتيا على حمار قد أسندوه؛ لأنه كان مريضا من جرح أصابه من المشركين في الخندق. وقد دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم في بني قريظة بعد أن حاصرهم، وقبلوا أن ينزلوا على حكم سعد, فكان هذا القول منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مريض ولا يستطيع أن ينزل عن الحمار وحده، فأمرهم أن يقوموا لينزلوه، ولأنه جاء لهذه القضية, فأراد أن يجعل له من التعظيم ما يناسب هذه الواقعة. وكان سعد بن معاذ سيد الأوس ورئيسهم -رضي الله عنهم-. 7 سورة الأنعام آية: 164. 8 سورة الإخلاص آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حَبْر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع،   قوله: "باب قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ   1 سورة الزمر آية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} " أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة. قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: يقول تعالى: ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته. قال مجاهد: نزلت في قريش. وقال السُّدِّي: " ما عظموه حق عظمته ". وقال محمد بن كعب: " لو قدروه حق قدره ما كذبوه ". وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره ". وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية1، الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف ... وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف -رحمه الله- في هذا الباب قال: ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه. والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران، وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه.   1 البخاري: كتاب التفسير (4811) : باب وما قدروا الله حق قدره كتاب التوحيد: (7414 , 7415) : باب قول الله تعالى: لما خلقت بيدي (7451) باب قول الله تعالى: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا (7513) باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. ومسلم: كتاب صفات المنافقين (2786) (69) : كتاب صفة القيامة والجنة والنار. وأحمد (1/ 457) . والترمذي: كتاب التفسير (3238) : باب ومن سورة الزمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع. فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر. ثم قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. وفي رواية لمسلم: " والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا المالك أنا الله " 2. وفي رواية للبخاري: " يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع " 3. أخرجاه. قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية حدثنا الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: " جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم أبَلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع، والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر. قال: وأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 4 الآية. وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به. وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة5 عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: " مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماوات على ذه - وأشار بالسبابة- والأرض على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 6. وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به. وقال: " حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " 7. تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر.   1 البخاري: تفسير القرآن (4811) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/429 ,1/457) . 2 البخاري: التوحيد (7414 ,7415) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , وأحمد (1/378) . 3 البخاري: تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7513) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , وأحمد (1/457) . 4 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , وأحمد (1/378) . 5 اسمه يحيى بن المهلب البجلي الكوفي. قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: صدوق من السابعة روى له الترمذي والنسائي أيضا. 6 الترمذي: تفسير القرآن (3240) , وأحمد (1/251) . 7 البخاري: الرقاق (6519) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787) , وابن ماجه: المقدمة (192) , وأحمد (2/374) , والدارمي: الرقاق (2799) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: " يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " 1. وروي عن ابن عباس قال: " ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن، إلا كخردلة في يد أحدكم ". وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع، وتكون السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك "2 تفرد به أيضا من هذا الوجه. ورواه مسلم من وجه آخر. وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3 ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم. فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرّنّ به " 4 اهـ. قوله: "ولمسلم عن ابن عمر - الحديث" كذا في رواية مسلم. قال الحميدي وهي أتم، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه. وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه " 5. وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم. قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما السماوات السبع في الكرسي، إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرس ". قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض " 6. وعن ابن مسعود قال: " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ". أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله 7. مخلوقاته. وقد تعرف -سبحانه وتعالى- إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته8، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان.   1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وابن ماجه: المقدمة (198) . 2 البخاري: التوحيد (7415) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378) . 3 سورة الزمر آية: 67. 4 صحيح: أحمد (2/ 72) وابن خزيمة في التوحيد ص (71) وابن أبي عاصم في السنة (546) وإسناده صحيح على شرط مسلم كما قال الألباني في تخريج السنة لابن أبي عاصم (546) . 5 أحمد (1/195) . 6 صحيح: رواه ابن أبي شيبة في كتاب العرش (رقم 58- الكويت) ، والذهبي في العلو (150- مختصر الألباني) ، والبيهقي في الأسماء والصفات ص (510) من حديث أبي ذر. وصححه الألباني في الصحيحة (109) ، ومختصر العلو (ص 130) . 7 حسن: رواه ابن خزيمة في التوحيد ص (105 , 106 , 376 , 377) . ورواه الذهبي في العلو (64) ، والبيهقي في الأسماء (ص 401) وإسناده حسن, وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص (100) الذهبي في العلو أيضا. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 86) : " رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ". اهـ. 8 في قرة العيون: وأن العبادة لا تصلح إلا له سبحانه وبحمده، ولا يصلح منها شيء لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ولا لمن دونهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله، وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، وإنها تدل تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان هذا حقا بلّغه أمينه أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة فبلّغ ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى-. قال: وله طرق. البلاغ المبين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين. وتلقى الصحابة -رضي الله عنهم- عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله، فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا، كما قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 1. وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم، والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يجحدوا شيئا من الصفات، ولا قال أحد منهم: إن ظاهرها غير مراد، ولا أنه يلزم من إثباتها التشبيه، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى-: " وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السماوات مستو على عرشه، مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 2. وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 3. وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 4. وقوله تعالى:   1 سورة آل عمران آية: 7. 2 سورة فاطر آية: 10. 3 سورة آل عمران آية: 55. 4 سورة النساء آية: 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 {ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 1 وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 2. وقوله تلى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 3. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 4. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 5. وقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 6 الآية. فذكر التوحيدين في هذه الآية. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 7. وقوله تعالى: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 8. وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 9. وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 10. وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 11. فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته. وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} 12.   1 سورة المعارج آية: 3-4. 2 سورة السجدة آية: 5. 3 سورة النحل آية: 50. 4 سورة البقرة آية: 29. 5 سورة الأعراف آية: 54. 6 سورة يونس آية: 3. 7 سورة الرعد آية: 2. 8 سورة طه آية: 4-5. 9 سورة الفرقان آية: 58-59. 10 سورة السجدة آية: 4-5. 11 سورة الحديد آية: 4. 12 سورة الملك آية: 16-17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1. وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 2. وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} 3". انتهى كلامه -رحمه الله-. قلت: وقد ذكر الأئمة -رحمهم الله تعالى- فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4. قالت: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر ". رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح. قال: وثبت عن سفيان بن عيينة -رحمه الله تعالى- أنه قال: لما سئل ربيعة ابن أبي عبد الرحمن: كيف الاستواء؟ قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ; وعلينا التصديق ". وقال ابن وهب: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: " يا أبا عبد الله "الرحمن على العرش استوى" كيف استوى؟ فأطرق مالك -رحمه الله- وأخذته الرّحضاء وقال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ و"كيف" عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة، أخرجوه". رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب. ورواه عن يحيى بن يحيى أيضا، ولفظه: قال: "" الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير، ونفوا عنه الكيفية، قال البخاري في صحيحه: قال مجاهد "استوى" علا على العرش. وقال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 اي ارتفع. وقال محمد بن جرير الطبري في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي علا وارتفع.   1 سورة فصلت آية: 42. 2 سورة الزمر آية: 1. 3 سورة غافر آية: 36-37. 4 سورة طه آية: 5. 5 سورة طه آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم. فمن ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق، قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: " نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية ". قال الدارمي: حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك: قيل له: " كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه ". وقد تقدم قول الأوزاعي: " كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله -تعالى ذكره- بائن من خلقه، ونؤمن بما وردت به السنة ". وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز. ثم ساق بسنده عن مالك قوله: " الله في السماء وعلمه في كل مكان ". ثم قال في هذا الكتاب: " أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1 ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء". وهذا لفظه في كتابه. وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا ولم يكيفوا، كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب. وقال الحافظ الذهبي: وأول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله فوق عرشه: هو   1 سورة الحديد آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 الجعد بن درهم. وكذلك أنكر جميع الصفات. وقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية، فأظهرها واحتج لها بالشبهات، وكان ذلك في آخر عصر التابعين، فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة، ومالك والليث بن سعد والثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى. فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة: ما أخبرنا عبد الواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن علي الجوهري- ببغداد- حدثنا إبراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي سمعت الأوزاعي يقول: " كنا- والتابعون متوافرون- نقول: إن الله فوق عرشه. ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته ". أخرجه البيهقي في الصفات ورواته أئمة ثقات. وقال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: " لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكِثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم " 1. أخرجه أبو داود وغيره. ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2 ". اهـ من فتح الباري. قوله: "عن العباس بن عبد المطلب" ساقه المصنف -رحمه الله- مختصرا، والذي في سنن أبي داود: عن العباس بن عبد المطلب قال: " كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله   1 ضعيف: أبو داود: كتاب السنة (4723) , (4724) , (4725) : باب في الجهمية والترمذي: كتاب التفسير (3320) : باب ومن سورة الحاقة. وابن ماجة في المقدمة (193) : باب فيما أنكرت الجهمية. وأحمد (1/ 206 , 207) وغيرهم. وضعفه الذهبي في العلو ص (49 , 50) . وضعفه الألباني في تخريج السنة لابن أبي عاصم (577) . 2 سورة الشورى آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 صلى الله عليه وسلم، فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: "ما تسمون هذه؟ " قالوا: السحاب. قال: "والمزن" قالوا: والمزن. قال: و"العنان". قالوا. والعنان- قال أبو داود: لم أتقن العنان جيدا- قال: "هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ " قالوا: لا ندري. قال: "إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء التي فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، ثم الله تعالى فوق ذلك" 1. وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: " حسن غريب ". وقال الحافظ الذهبي: " رواه أبو داود بإسناد حسن" 2. وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه: " ما بين   1 الترمذي: تفسير القرآن (3320) , وأبو داود: السنة (4723) , وابن ماجه: المقدمة (193) . 2 في إسناده الوليد بن أبي ثور لا يحتج بحديثه. وقد ساقه أبو داود من غير طريق الوليد. وقال العلامة ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود: أما رد الحديث بالوليد بن أبي ثور ففاسد؛ فإن الوليد لم ينفرد به بل تابعه عليه إبراهيم بن طهمان كلاهما عن سماك. ومن طريقه رواه أبو داود. ورواه أيضا عمرو بن أبي قيس عن سماك. ومن حديثه رواه الترمذي عن عبد بن حميد أخبرنا عبد الرحمن بن سعد عن عمرو بن أبي قيس. اهـ. ورواه ابن ماجة من حديث الوليد بن أبي ثور عن سماك. وأي ذنب للوليد في هذا; وأي تعلق عليه؟ وإنما ذنبه روايته ما يخالف قول الجهمية وهي علته المؤثرة عند القوم اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 سماء إلى سماء خمسمائة عام ". ولا منافاة بينهما؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد؛ لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يوما باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد. وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه. هذا آخر كلامه 1.   (1) في قرة العيون: قلت: وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما مع ما يدل عليه صريح القرآن، فلا عبرة بقول من ضعفه. وقد ابتدأ المصنف -رحمه الله تعالى- هذا المصنف العظيم ببيان توحيد الإلهية؛ لأن أكثر الأمة ممن تأخر قد جهلوا هذا التوحيد, وأتوا بما ينافيه من الشرك والتنديد, فقام ببيان التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونهوهم عما كانوا عليه من الشرك المنافي لهذا التوحيد. فالدعوة إلى ذلك هي أهم الأمور وأوجبها لمن وفقه الله لفهمه, وأعطاه القدرة على الدعوة إليه, والجهاد لمن خالفه ممن أشرك بالله في عبادته، فقرر هذا التوحيد كما ترى في هذه الأبواب، ثم ختم كتابه بتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن أكثر العامة ليس لهم التفات الى هذا العلم الذي خاض فيه من ينتسب إلى العلم. وأما من ينتسب إلى العلم فهم أخذوا عمن خاض في هذه العلوم, وأحسنوا الظن بأهل الكلام, وظنوا أنهم على شيء, فقبلوا ما وجدوه عنهم, فقرروا مذهب الجهمية, وألحدوا في توحيد الأسماء والصفات، وخالفوا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمة الحديث والتفسير من المتقدمين، وما زال أهل السنة متمسكين بذلك لكنهم قلوا، فهدى الله هذا الإمام إلى معرفة أنواع التوحيد فقررها بأدلتها, فلله الحمد على توفيقه وهدايته إلى الحق حين اشتدت غربة الإسلام، فضل عنه من ضل من أهل القرى والأمصار. وغيرهم. وبالله التوفيق. فقد اجتمع في هذا المصنف أنواع التوحيد الثلاثة التي أشار إليها العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- بقوله:. والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان علم بأوصاف الإله وفعل ... وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني وصلى الله على سيد المرسلين, وإمام المتقين, محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. الثانية: إن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم، لم ينكروها ولم يتأولوها. الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه ونزل القرآن بتقرير ذلك. الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم. الخامسة: التصريح بذكر اليدين وأن السماوات في اليد اليمنى. والأرضين في الأخرى. السادسة: التصريح بتسميتها الشمال. السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك. الثامنة: قوله: " كخردلة في كف أحدكم ". التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء. العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي. الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء. الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء. الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي. الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء. الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء. قلت: فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة، وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما، ولا عبرة بقول مَن ضعّفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها. وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى كمال قدرته، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه. السادسة عشرة: أن الله فوق العرش. السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض. الثامنة عشرة: كثف كل سماء مائة سنة. التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كمل مقابلة وتصحيحا وقراءة على يد شيخنا العلامة المحقق الفهامة، بقية أهل الاستقامة: الشيخ عبد الله بن الشيخ حسن آل الشيخ - متع الله بحياته - سنة 1362. نبذة مختصرة من ترجمة الشيخ عبد الرحمن بن حسن مؤلف فتح المجيد قال الشيخ ابن بشر في كتاب "عنوان المجد" في حوادث سنة 1241: وفيها أقبل من مصر الشيخ العالم النحرير، البحر الزاخر الغزير، مفيد الطالبين، المحفوف بعناية رب العالمين، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية، وارث العلم كابرا عن كابر، الذي صارت الأصاغر بإفادته شيوخا أكابر، قاضي قضاة الإسلام والمسلمين مفتي فِرق الأنام الموحدين، وناصر سنة سيد المرسلين، الموفق للصواب في الجواب; الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدم على الإمام تركي بن عبد الله -قدس الله روحه-، ففرح وأكرمه غاية الإكرام، واغتبط بطلعته خاص المسلمين والعام، فعظموه وقاموا بما يستحقه من الإعظام، وبذل نفسه للطالبين وانتفع بعلمه كثير من المستفيدين - ثم ذكر العلماء الأفاضل من آل الشيخ وغيرهم الذي استفادوا من الشيخ وانتفعوا بعلمه وتخرجوا عليه، وهم جملة كثيرة. ثم قال: فضربت إليه آباط الإبل من أقطار نجد والأحساء، وظهرت آثار البركات من تعليمه وفشا. كيف لا وهو من شجرة مباركة أضاء نور طالعها للمسلمين وفشا، ولاح وميض برقه حين غشى، فكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، يهدي الله لنوره من يشاء. اللهم يا سميع الدعاء، يا إله الأرض والسماء، نسألك بأسمائك الحسنى أن تجزيهم عنا وعن المسلمين أحسن ما جزيت من دعا إلى توحيدك، وأن تجعل العلم النافع فيهم وفي عقبهم باقيا إلى يوم لقائك وشهودك. وقد صنف الشيخ عبد الرحمن بن حسن مصنفات في الأصول والفروع، أكثرها ردا على أهل المقالات، ومن غلط منهم في الصفات، وله مصنف فيما يحل ويحرم من الحرير، فمن طالعه دله على علمه الغزير، ردا على من أباح لبس المحرمة الروغان التي ابتلي الناس بلبسها في هذا الزمان، واختصر شرح التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام الذي سبق ذكره؛ لأنه مات قبل أن يتمه. وكان كثيرا ما يتعهده أهل بلدان نجد بالمراسلات والنصائح، ويعلمهم ما يجب عليهم من أمر دينهم، ويذكرهم نعمة هذا الدين; واجتماع شمل أهل الإسلام عليهم; وما منّ الله به على أهل نجد في آخر هذا الزمان. والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.   1 سورة الزمر آية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518