الكتاب: وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى المؤلف: علي بن عبد الله بن أحمد الحسني الشافعي، نور الدين أبو الحسن السمهودي (المتوفى: 911هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى - 1419 عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى السمهودي الكتاب: وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى المؤلف: علي بن عبد الله بن أحمد الحسني الشافعي، نور الدين أبو الحسن السمهودي (المتوفى: 911هـ) الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى - 1419 عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء الأول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقديم الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد ولد آدم محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين. أمّا بعد. فهذا كتاب في تاريخ المدينة المنوّرة مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو كتاب اختصره مؤلّفه من كتاب آخر له بعنوان «اقتفاء الوفا بأخبار دار المصطفى صلّى الله عليه وسلّم» . اختصره مع توسّط غير مفرط كما يقول في مقدمة الكتاب. وقد رتّبه على ثمانية أبواب مفصّلة في المقدمة. وإذ نعيد- في دار الكتب العلمية- نشر هذا الكتاب، نشير إلى أنّنا لم نثقل حواشيه إلا بما دعت الضرورة إليه، كضبط الغريب وشرحه، وتخريج الآيات الكريمة، وبعض التعاليق الموجزة، ووضع بعض العناوين الفرعية. راجين من الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملنا هذا في سجلّ حسناتنا، وأن ينفع به القرّاء الكرام، إنه على كل شيء قدير. والحمد لله أولا وآخرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ترجمة المصنّف «1» هو الإمام الحجّة نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الحسني الشافعي السمهودي. مؤرخ المدينة المنوّرة ومفتيها. ولد في سمهود (بصعيد مصر) سنة 844 هـ (1440 م) ونشأ في القاهرة، واستوطن المدينة سنة 873 هـ. من مؤلفاته: وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: وهو الكتاب الذي بين أيدينا. خلاصة الوفاء: اختصر به الأول. جواهر العقدين: في فضل العلم والنسب. الفتاوى: وهي مجموع فتاواه. الغماز على اللماز: رسالة في الحديث. درّ السموط: رسالة في شروط الوضوء. الأنوار السنية في أجوبة الأسئلة اليمنية. العقد الفريد في أحكام التقليد. وغيرها. توفي السمهودي في المدينة المنورة سنة 911 هـ (1506 م) .   (1) انظر الأعلام للزركلي 4/ 307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه. خطبة المؤلف أما بعد: حمد الله على آلائه «1» ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف أنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأصفيائه؛ فقد سألني من طاعته غنم، ومخالفته غرم، أن أختصر تأليفي المسمى ب «اقتفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى» - صلّى الله عليه وسلّم! وزاده شرفا وفضلا لديه! - اختصارا مع توسط غير مفرط، هذا مع كونه بعد لم يقدّر إتمامه بتكامل أقسامه؛ لسلوكي فيه طريقة الاستيعاب، وجمع ما افترق من معاني تلك الأبواب، وتلخيص مقاصد جميع تواريخ المدينة التي وقفت عليها، وإضافة ما اقتضى الحال أن يضاف إليها، مع عروض الموانع، وترادف الشواغل والقواطع، فأجبته إلى سؤاله؛ لما رأيت من شغفه «2» بذلك وإقباله، مع ما رأيت في ذلك من الإتحاف بأمور لا توجد في غيره من المختصرات بل ولا المبسوطات، سيما فيما يتعلق بأخبار الحجرة الشريفة، ومعالمها المنيفة، فإني قد استفدته عيانا، وعلمت أخبارها إيقانا، بسبب ما حدث في زماننا من العمارة التي سنشير إليها، ونقف في محلها عليها؛ لاشتمالها على تجديد ما كاد أن يهي «3» في الحجرة الشريفة من الأركان، وإحكام ما أحاط بها من البنيان. وتشرفت بالخدمة في إعادة بنيانها، وتجنبت شهود نقض أركانها، وحظيت بالوقوف على عرصتها، وتمتعت بانتشاق «4» تربتها، ونعمت العين بالاكتحال بأرضها الشريفة، ومحال الأجساد المنيفة، فامتلأ القلب حياء ومهابة، واكتسى من ثياب الذال أثوابه، هذا وقد جبلت القلوب «5» على الشغف بأخبار هذا المحل وأحواله، كما هو دأب كل محب مغرم واله «6» ، ولله درّ القائل:   (1) الآلاء: جمع الألى أي النعم. (2) شغف به: أحبه وأولع به» . (3) يهي: يسقط. (4) انتشق تربتها: شم تربتها. (5) جبل الله الخلق: خلقهم وطبعهم. وفي الأثر: «جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها» . (6) الواله: الذي اشتد حنينه حتى ذهب عقله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أملياني حديث من سكن الجز ... ع ولا تكتباه إلا بدمعي فاتني أن أرى الدّيار بطرفي ... فلعلّي أرى الديار بسمعي ولعمري إن الاعتناء بذاك وضبطه وإفادته من مهمّات الدين، وإن النظر فيه مما يزيد في الإيمان واليقين؛ لما فيه من معرفة معاهد دار الإيمان، ونشر أعلامها المرغمة للشيطان، وتذكر آياتها الواضحة التبيان، والمرجو من الله تعالى أن يكون كتابنا هذا تحفة لمحبّي دار الأبرار، ومن سكن بها من الأخيار، ووفد عليها من الوفّاد، وقد بذلت الجهد في تهذيبه وتقريبه، رجاء دعوة تمحو الأوزار «1» ، وتقيل العثار، ونظرة قبول من المصطفى المختار، صلى الله عليه وسلّم وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار! وسميته «وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى» صلى الله عليه وسلم، وشرف وعظم! ورتّبته على أبواب: أبواب الكتاب الباب الأول: في أسماء هذه البلدة الشريفة. الباب الثاني: في فضائلها، وبدء شأنها، وما يؤول إليه أمرها، وما يتعلق بذلك، وفيه ستة عشر فصلا: الأول: في تفضيلها على غيرها من البلاد، الثاني: في الحث على الإقامة بها، والصبر على لأوائها «2» وشدتها، وكونها تنفي الخبث والذنوب، ووعيد من أرادها وأهلها بسوء أو أحدث بها حدثا أو آوى محدثا، الثالث: في الحديث على حفظ أهلها وإكرامهم، والتحريض على الموت بها، واتخاذ الأصل، الرابع: في بعض دعائه صلّى الله عليه وسلّم لها ولأهلها، وما كان بها من الوباء، ودعائه بنقله، الخامس: في عصمتها من الدجال والطاعون، السادس: في الاستشفاء بترابها وتمرها، السابع: في سرد خصائصها، الثامن: في صحيح ما ورد في تحريمها، التاسع: في بيان عير وثور اللذين وقع تحديد الحرم بهما، العاشر: في أحاديث أخر تقتضي زيادة الحرم على ذلك التحديد وأنه مقدر ببريد، الحادي عشر: في بيان ما في هذه الأحاديث من الألفاظ المتعلقة بالتحديد، ومن ذهب إلى مقتضاها، الثاني عشر: في حكمة تخصيص هذا المقدار المعين بالتحريم، الثالث عشر: في أحكام هذا الحرم الكريم، الرابع عشر: في بدء شأنها، وما يؤول إليه أمرها، الخامس عشر: فيما ذكر من وقوع ما ورد من خروج أهلها وتركهم لها، السادس عشر:   (1) الأوزار: جمع وزر: الذنب. والحمل الثقيل. (2) اللأواء: ضيق المعيشة. وشدة المرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 في ظهور نار الحجاز التي أنذر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم فظهرت من أرضها، وانطفائها عند وصولها إلى حرمها. الباب الثالث: في أخبار سكانها في سالف الزمان، ومقدمه صلّى الله عليه وسلّم إليها، وما كان من أمره بها في سني الهجرة، وفيه اثنا عشر فصلا. الأول: في سكانها بعد الطوفان، وما ذكر في سبب سكنى اليهود بها، وبيان منازلهم، الثاني: في سبب سكنى الأنصار بها، الثالث: في نسبهم، الرابع: في ظهورهم على اليهود، وما اتفق لهم مع تبّع، الخامس: في منازلهم بعد إذلال اليهود، وشيء من آطامهم «1» وحروبهم، السادس: في ما كان بينهم من حرب بغاث، السابع: في مبدأ إكرام الله لهم بهذا النبي الكريم، وذكر العقبة الصغرى، الثامن: في العقبة الكبرى وما أفضت إليه «2» ، التاسع: في مبدأ هجرته صلّى الله عليه وسلم، العاشر: في دخوله صلّى الله عليه وسلّم أرض المدينة وتأسيس مسجد قباء، الحادي عشر: في قدومه باطن المدينة المنيفة، وسكناه بدار أبي أيوب الأنصاري، وخبر هذه الدار، ومؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، الثاني عشر: في ما كان من أمره صلّى الله عليه وسلّم في سنين الهجرة. الباب الرابع: فيما يتعلق بأمور مسجدها الأعظم، والحجرات المنيفات، وما كان مطيفا بها من الدور والبلاط، وسوق المدينة، ومنازل المهاجرين، واتخاذ السور، وفيه سبعة وثلاثون فصلا: الأول: في أخذه صلّى الله عليه وسلّم لموضع مسجده الشريف، وكيفية بنائه، الثاني: في ذرعه وحدوده التي يتميز بها عن سائر مسجده اليوم، الثالث: في مقامه الذي كان يقوم به قبل تحويل القبلة وبعده، وما جاء في تحويلها، الرابع: في خبر الجذع، واتخاذ المنبر، وما اتفق فيه، الخامس: في فضل المسجد الشريف، السادس: في فضل المنبر المنيف والروضة الشريفة، السابع: في الأساطين «3» المنيفة، الثامن: في الصّفّة وأهلها، وتعليق الأقناء «4» لهم بالمسجد، التاسع: في حجره صلّى الله عليه وسلم، وبيان إحاطتها بمسجده إلا من جهة المغرب، العاشر: في حجرة ابنته فاطمة رضي الله عنها، الحادي عشر: في الأمر بسد الأبواب، وبيان ما استثنى من ذلك، الثاني عشر: في زيادة عمر رضي الله عنه في المسجد، الثالث عشر: في البطيحاء التي بناها بناحيته، ومنعه من إنشاد الشعر ورفع الصوت فيه، الرابع عشر: في زيادة عثمان رضي الله عنه،   (1) الآطام جمع الأطم: الحصن. (2) أفضت إليه: النتائج التي ترتبت عليه. (3) الأساطين مفردها الأسطوانة: العمود. والسارية. (4) الأقناء جمع قنو: العذق بما فيه من الرطب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الخامس عشر: في المقصودة التي اتخذها به، السادس عشر: في زيادة الوليد على يد عمر بن عبد العزيز، السابع عشر: فيما اتخذه عمر فيها من المحراب والشرفات والمنارات والحرس، ومنعهم من الصلاة على الجنائز فيه، الثامن عشر: في زيادة المهدي، التاسع عشر: فيما كانت عليه الحجرة المنيفة الحاوية للقبور الشريفة في مبدأ الأمر، العشرون: في عمارتها بعد ذلك، والحائز الذي أدير عليها، الحادي والعشرون: فيما روي في صفة القبور الشريفة بها، وأنه بقي هناك موضع قبر لعيسى عليه الصلاة والسلام، وتنزل الملائكة حافين بالقبر الشريف، وتعظيمه، والاستسقاء به، الثاني والعشرون: فيما ذكر من صفتها وصفة الحائز الدائر عليها، وما شاهدناه مما يخالف ذلك، الثالث والعشرون: في عمارة اتفقت بها بعدما تقدم، على ما نقله بعضهم، وما نقل من الدخول إليها وتأزيرها بالرخام، الرابع والعشرون: في الصندوق الذي في جهة الرأس الكريم والمسمار الفضة المواجه للوجه الشريف، ومقام جبريل عليه السلام، وكسوة الحجرة وتحليتها، الخامس والعشرون: في قناديلها ومعاليقها، السادس والعشرون: في الحريق الأول القديم المستولي على تلك الزخارف المحدثة بها وبالمسجد وسقفها وما أعيد من ذلك، السابع والعشرون: في اتخاذ القبة الزرقاء تمييزا للحجرة الشريفة والمقصورة الدائرة عليها، الثامن والعشرون: في عمارتها المتجدّدة في زماننا، على وجه لم يخطر قط بأذهاننا، وما حصل من إزالة هدم الحريق من ذلك والمحل الشريف، ومشاهد وضعه المنيف، وتصوير ما استقر عليه أمر الحجرة، التاسع والعشرون: في الحريق الحادث في زماننا بعد العمارة السابقة، وما ترتب عليه ألحقته هنا مع إلحاق ما تقدمت الإشارة إليه في الفصول؛ لحدوثه بعد الفراغ من مسوّدة كتابنا هذا، وفي آخره خاتمة فيما نقل من عمل نور الدين الشهيد لخندق مملوء من الرصاص حول الحجرة، الثلاثون: في تحصيب المسجد «1» ، وأمر البزاق فيه، وتخليقه «2» ، وإجماره، وشيء من أحكامه، الحادي والثلاثون: فيما احتوى عليه من الأروقة والأساطين والبلوعات والسقايات والحواصل، وغير ذلك، الثاني والثلاثون: في أبوابه وخوخاته، وما يميّزها من الدور المحاذية لها، الثالث والثلاثون: في خوخة آل عمر رضي الله عنه، الرابع والثلاثون: فيما كان مطيفا به من الدور، الخامس والثلاثون: في البلاط وما حوله من منازل المهاجرين، السادس والثلاثون: في سوق المدينة، السابع والثلاثون: في منازل القبائل من المهاجرين، وما حدث من اتخاذ السور.   (1) حصّب المسجد: فرشه بصغار الحصى. (2) الخلاق: ضرب من الطيب، أعظم أجزائه الزعفران. إجماره: تبخيره بالمجمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الباب الخامس: في مصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأعياد، وغير ذلك من مساجد المدينة التي صلى فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم أو جلس مما علمت عينه أو جهته، وفضل مقابرها، ومن سمي ممن دفن بها، وفضل أحد والشهداء به، وفيه سبعة فصول: الأول: في مصلّى الأعياد، الثاني: في مسجد قباء، وخبر مسجد الضرار، الثالث: في بقية المساجد المعلومة العين في زماننا، الرابع: فيما علمت جهته من ذلك، ولم يعلم عينه، الخامس: في فضل مقابرها، السادس: في تعيين بعض من دفن بالبقيع من الصحابة وأهل البيت رضوان الله عليهم، والمشاهد المعروفة بها، السابع: في فضل أحد والشهداء به. الباب السادس: في آبارها المباركات، والعين والغراس والصدقات، التي هي للنبي صلّى الله عليه وسلّم منسوبات، وما يعزى إليه «1» من المساجد التي صلّى فيها في الأسفار والغزوات، وفيه خمسة فصول: الأول: في الآبار المباركات، وفيه تتمة في العين المنسوبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم والعين الموجودة في زماننا، الثاني: في صدقاته صلّى الله عليه وسلّم وما غرسه بيده الشريفة، الثالث: فيما ينسب إليه من المساجد التي بين مكة والمدينة بالطريق التي كان يسلكها صلّى الله عليه وسلّم الرابع: في بقية المساجد التي بينهما بطريق ركب الحاج في زماننا، وطريق المشيان، وما قرب من ذلك، الخامس: في بقية المساجد المتعلقة بغزواته وعمره صلّى الله عليه وسلّم. الباب السابع: في أوديتها وأحمائها «2» وبقاعها وجبالها وأعمالها ومضافاتها، ومشهور ما في ذلك من المياه والأودية، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك، وفيه ثمانية فصول: الأول: في فضل وادي العقيق وعرصته وحدوده، الثاني: فيما جاء في إقطاعه وابتناء القصور به وطريق أخبارها، الثالث: في العرصة وقصورها، وشيء مما قيل فيها وفي العقيق من الشعر، الرابع: في جماواته، وأرض الشجرة، وثنية الشريد، وغيرها من جهاته، وفيه خاتمة في سرد ما يدفع فيه من الأودية وما به من الغدران، الخامس: في بقية أودية المدينة، السادس: فيما سمي من الأحماء ومن حماها وشرح حال حمى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنقيع، السابع: في شرح بقية الأحماء، وأخبارها، الثامن: في بقاع المدينة وأعراضها وأعمالها ومضافاتها وأنديتها وجبالها وتلاعها «3» ، ومشهور ما في ذلك من الآبار والمياه والأودية، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك وبالمساجد والآطام والغزوات، وشرح حال ما يتعلق بجهات المدينة وأعمالها من ذلك، على ترتيب حروف الهجاء.   (1) يعزى إليه: يسند إليه. (2) الأحماء: مواضع فيها كلأ يحمى من الناس أن يرعى. (3) التلاع: ما ارتفع من الأرض. ومسيل الماء من أعلى إلى أسفل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الباب الثامن: في زيارته صلّى الله عليه وسلّم، وفيه أربعة فصول: الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة نصّا، الثاني: في بقية أدلتها، وبيان تأكد مشروعيتها، وقربها من درجة الوجوب، حتى أطلقه بعضهم عليها، وبيان حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في قبره، وشدّ الرحال إليه، وصحة نذر زيارته، والاستئجار للسلام عليه، الثالث: في توسّل الزائر، وتشفّعه به صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه تعالى، واستقباله له صلّى الله عليه وسلّم في سلامه وتوسّله ودعائه، الرابع: في آداب الزيارة والمجاورة، والتبرك بتلك المساجد والآثار، وهذا الباب وإن كان من حقه التقديم، لكنه لما كان كنتيجة الكتاب، ومقدماته ما تقدمه من الأبواب، ختمت به أقسامه؛ ليكون المسك ختامه، وسر الوجود تمامه، وتفاؤلا بأن يفتح لي به ثمانية أبواب الجنة، ويعظم لي بسببه سوابغ المنة «1» ، وبالله لا سواه أعتصم، وأسأله العصمة مما يصم «2» ، فهو حسبي ونعم الوكيل.   (1) المنة: الإحسان والإنعام. (2) يصمه وصما: يعيبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الباب الأول في أسماء هذه البلدة الشريفة أعلم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، ولم أجد أكثر من أسماء هذه البلدة الشريفة، وقد استقصيتها بحسب القدرة حتى إني زدت على شيخ مشايخنا المجد الشيرازي اللغوي- وهو أعظم الناس في هذا الباب- نحو ثلاثين اسما، فرقمت على ذلك صورة ليتميزوها، وأنا أوردها مرتّبة على حروف المعجم. أثرب الأول: أثرب- كمسجد، بفتح الهمزة وسكون المثلاثة وكسر الراء وباء موحدة- لغة في «يثرب» الآتي، وأحد الأسماء كألملم ويلملم، قيل: سميت بذلك لأنه اسم من سكنها عند تفرّق ذرية نوح عليه السلام في البلاد، وهل هو اسم للناحية التي منها مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو للمدينة نفسها، أو لموضع مخصوص من أرضها؟ أقوال، الأول لأبي عبيدة، والثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومشى عليه الزمخشري، والثالث هو المعني بقول محمد بن الحسن أحد أصحاب مالك ويعرف بابن زبالة: وكانت يثرب أم قرى المدينة، وهي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، وما بين المال الذي يقال له البرني إلى زبالة، وقد نقل ذلك الجمال المطري عنه، وزاد في النقل أنه كان بها ثلاثمائة صائغ من اليهود، وابن زبالة إنما ذكر أن ذلك كان بزهوة، وقد غاير بينها وبين يثرب، وكأن الجمال فهم اتحادهما، وقد قال عقب نقله لذلك عنه: وهو يعني يثرب معروفة اليوم بهذا الاسم، وفيها نخيل كثيرة ملك لأهل المدينة وأوقاف للفقراء وغيرهم، وهي غربي مشهد سيدنا حمزة، وشرقي الموضع المعروف بالبركة مصرف عين الأزرق، ينزلها الحاج الشامي في وروده وصدوره، وتسميها الحجاج عيون حمزة، وهي إلى اليوم معروفة بهذا الاسم، أعني يثرب، وربما قالوا فيها «أثارب» بصيغة الجمع، وبه عبر البرهان ابن فرحون في مناسكه، فلك أن تعده اسما آخر، وهذا الموضع يثرب قال المطري: كان به منازل بني حارثة بطن ضخم من الأوس، قال: وفيهم نزل قوله تعالى في يوم الأحزاب: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب: 13] ورجح به القول الثالث، وذلك أن قريشا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ومن معهم نزلوا يوم الأحزاب ويوم أحد أيضا على ما ذكره المطري برومة وما والاها بالقرب من منازل بني حارثة من الأوس ومنازل بني سلمة من الخزرج، وكان الفريقان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مركز الحرب، ولذلك خافوا على ذراريهم وديارهم العدو يوم أحد؛ فنزل فيها: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [آل عمران: 122] قال عقلاؤهم: ما كرهنا نزولها لتولي الله إيانا، ودفع الله عنهم ببركة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق نياتهم، وقيل: إن القائل لبني حارثة: «يا أهل يثرب لا مقام لكم» هو أوس بن قيظي ومن معه، وقيل: غير ذلك. قلت: ويرجح القول الثالث أيضا قول الحافظ عمر بن شبّة النميري «1» : قال أبو غسان: وكان بالمدينة في الجاهلية سوق بزبالة في الناحية التي تدعى يثرب، انتهى. ولا شك في إطلاق يثرب على المدينة نفسها، كما ثبت في الصحيح، وشواهده أشهر من أن تذكر، وسيأتي في الفصل الرابع عشر من الباب الثاني ما يقتضي أن الله تعالى سماها قبل أن تعمر وتسكن، فإما أن يكون موضوعا لها، أو هو من باب إطلاق اسم البعض على الكل، أو من باب عكسه على الخلاف المتقدم. وروى ابن زبالة وابن شبة نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن تسمية المدينة يثرب، وفي تاريخ البخاري حديث: من قال يثرب مرة فليقل المدينة عشر مرات» ، وروى أحمد وأبو يعلى حديثا: «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، وهي طابة» ورجاله ثقات، وفي رواية «فليستغفر الله ثلاثا» ولهذا قال عيسى بن دينار: من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة، وكره بعض العلماء تسميتها بذلك، وما وقع في القرآن من تسميتها به إنما هو حكاية عن قول المنافقين، ووجه كراهة ذلك إما لأنه مأخوذ من الثّرب- بالتحريك- وهو الفساد، أو لكراهة التثريب وهو المؤاخذة بالذنب، أو لتسميتها باسم كافر، وقد ينازع في الكراهة بما في حديث الهجرة في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فذهب وهلي «2» إلى اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب» وحديث مسلم: «إنه وجهت إلى أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب» وكذا جاء في غيرهما من الأحاديث، وقد يجاب بأن ذلك كان قبل النبي. أرض الله الثاني: «أرض الله» قال الله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء:   (1) عمر بن شبة النميري له ترجمة في تهذيب التهذيب (7/ 460) وفي خلاصة الخزرجي (283 بولاق) وثّقه الدارقطني، مات سنة 262 من الهجرة. (2) ذهب وهلي: ذهب وهمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 97] ذكر مقاتل والثعلبي وغيرهما أن المراد به المدينة، وفي هذه الإضافة من مزيد التعظيم ما لا يخفى. الهجرة الثالث: «أرض الهجرة» كما في حديث «المدينة قبّة الإسلام» . أكالة البلد ان الرابع: «أكالة البلدان» لتسلطها على جميع الأمصار، وارتفاعها على سائر بلدان الأقطار، وافتتاحها منها على أيدي أهلها فغنموها وأكلوها. أكالة القرى الخامس: «أكالة القرى» لحديث الصحيحين «أمرت بقرية تأكل القرى» وقد استدل به مثبتو الاسم قبله، وهو أصرح في هذا؛ للفرق بين البلدة والقرية. الإيمان السادس: «الإيمان» قال الله تعالى مثنيا على الأنصار وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر: 9] وأسند ابن زبالة عن عثمان بن عبد الرحمن وعبد الله بن جعفر قالا: سمّى الله المدينة الدار والإيمان، وأسند ابن شبة عن الثاني فقط. وقال البيضاوي في تفسيره، قيل سمى الله المدينة بالإيمان لأنها مظهره ومصيره. وروى أحمد الدينوري في كتابه المجالسة في قصة طويلة عن أنس بن مالك «أن ملك الإيمان قال: أنا أسكن المدينة، فقال ملك الحياء: وأنا معك» فأجمعت الأمة على أن الإيمان والحياء ببلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي في حديث «الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» «1» . البارة والبرة السابع: «البارة» ، الثامن «البرة» هما من قولك: امرأة بارة وبرة، أي: كثيرة البر، سميت بذلك لكثرة برها إلى أهلها خصوصا وإلى جميع العالم عموما؛ إذ هي منبع الأسرار وإشراق الأنوار، وبها العيشة الهنية، والبركات النبوية. البحرة والبحيرة التاسع: «البحرة» بفتح أوله وسكون المهملة. العاشر: «البحيرة» تصغير ما قبله.   (1) أرز أرزا وأروزا: لجأ. ولاذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الحادي عشر: «البحيرة» بفتح أوله- نقلت ثلاثتها عن منتخب كراع، والأولان عن معظم ياقوت، والاستبحار: السعة، ويقال: هذه بحرتنا، أي: أرضنا أو بلدتنا، سميت بذلك لكونها في متسع من الأرض، وفي الصحيح قول سعد في قصة ابن أبيّ «1» «ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه» رواه ابن شبة بلفظ «أهل هذه البحيرة» وقال عياض في المشارق: البحرة مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويروى البحرة، والبحيرة: بضم الباء مصغرا وبفتحها على غير التصغير، وهي الرواية هنا، ويقال «البحر» أيضا بغير تاء ساكن الحاء، وأصله القرآن وكل قرية بحرة. انتهى. الثاني عشر: «البلاط» بالفتح- نقل عن كتاب ليس لابن خالويه، وهو لغة الحجارة التي تفرش على الأرض، والأرض المفروش بها والمستوية الملساء، فكأنها سميت به لكثرته فيها، أو لاشتمالها على مواضع تعرف به كما سيأتي في الباب الرابع إن شاء الله تعالى. البلد الثالث عشر: «البلد» قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 1] قال الواسطي فيما نقله عن عياض: أي: يحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا وببركتك ميتا، يعني المدينة، وقيل: المراد مكة، ونقل عن ابن عباس، وبه استدل من ذكره في أسمائها، ورجّحه عياض لكون السورة مكية، والبلد لغة صدر القرى. بيت الرسول الرابع عشر: «بيت الرسول» صلّى الله عليه وسلّم قال تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال: 5] ، قال المفسرون: أي: من المدينة لأنها مهاجره ومسكنه فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه، أو المراد بيته بها. ندد وتندر الخامس عشر: «تندد» بالمثناة الفوقية والنون وإهمال الدالين. السادس عشر: «تندر» براء بدل الدال الأخيرة مما قبله، وسيأتي دليلهما في يندد ويندر بالمثناة التحتية، وأن المجد صوّب حذف ما عدا يندر بالتحتية. الجابرة السابع عشر: «الجابرة» لعده في حديث «للمدينة عشرة أسماء» سميت به لأنها تجبر   (1) هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول، أبوه أبيّ، وسلول أمه، وهو رأس المنافقين، وكان أهل المدينة قد أجمعوا قبل هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أن يجعلوه ملكا عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الكسير، وتغني الفقير، وتجبر «1» على الإذعان لمطالعة بركاتها، وشهود آياتها: وجبرت البلاد على الإسلام. جبار الثامن عشر: «جبار» كحذام، رواه ابن شبة بدل الجابرة في الحديث المذكور. الجبارة التاسع عشر: «الجبارة» نقله صاحب كتاب أخبار النواحي مع الجابرة والمجبورة عن التوراة. جزيرة العرب العشرون: «جزيرة العرب» قال ابن زبالة: كان ابن شهاب يقول: جزيرة العرب المدينة، وسيأتي في حديث ابن عباس: «خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة، فالتفت إليها وقال: إن الله برّأ هذه الجزيرة من الشرك» ونقل الهروي عن مالك أن المراد من حديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» المدينة خاصة، والصحيح عن مالك كقولنا أن المراد الحجاز. الجنة الحصينة الحادي والعشرون: «الجنة الحصينة» بضم الجيم، وهي الوقاية؛ لما حكاه بعضهم من قوله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أحد «أنا في جنة حصينة- يعني المدينة- دعوهم يدخلون نقاتلهم» وروى أحمد برجال الصحيح حديث: «رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأولت الدرع الحصينة المدينة» وهذا هو المذكور في كتب السير. الحبيبة الثاني والعشرون: «الحبيبة» لحبه لها صلّى الله عليه وسلّم وقال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» وسيأتي مزيد بيان لذلك في اسمها المحبوبة. الحرم الثالث والعشرون: «الحرم» بالفتح بمعنى الحرام؛ لتحريمها، وفي حديث مسلم «المدينة حرم» وفي رواية «إنها حرم آمن» . حرم رسول الله الرابع والعشرون: «حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» لأنه الذي حرمها، وفي الحديث: «من   (1) تجبر على الإذعان: تكره على الخضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أخاف أهل حرمي أخافه الله» ، وروى ابن زبالة حديث: «حرم إبراهيم مكة وحرمي المدينة» . حسنة الخامس والعشرون: «حسنة» بلفظ مقابل السيئة، قال تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [النحل: 41] قال المفسرون: مباءة حسنة» ، وهي المدينة، وقيل: حسنة اسم المدينة، وقد اشتملت على الحسن الحسي والمعنوي. الخيرة السادس والعشرون: «الخيّرة» بتشديد المثناة التحتية كالنيرة. السابع والعشرون: «الخيرة» كالذي قبله إلا أن الياء مخففة، تقول: رجل خيّر وخير، وامرأة خيّرة وخيرة، بالتشديد والتخفيف، بمعنى، وهو الكثير الخير، وإذا أردت التفضيل قلت: فلان خير الناس، وفي الحديث: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» وسيأتي حديث «المدينة خير من مكة» . الدار الثامن والعشرون: «الدار» لقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الحشر: 9] على ما سبق في الإيمان، سميت به لأمنها والاستقرار بها وجمعها البناء والعرصة. دار الأبرار التاسع والعشرون: «دار الأبرار» . الثلاثون «دار الأخيار» لأنها دار المصطفى المختار، والمهاجرين والأنصار، ولأنها تنفي شرارها ومن أقام بها منهم فليست في الحقيقة له بدار، وربما نقل منها بعد الدفن على ما جاء في بعض الأخبار. دار الإيمان الحادي والثلاثون: «دار الإيمان» كما في حديث «المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان» إذ منها ظهوره وانتشاره، وسيأتي في حديث «الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» . دار السنة ونحوها الثاني والثلاثون: «دار السنة» . الثالث والثلاثون: «دار السلامة» . الرابع والثلاثون: «دار الفتح» . الخامس والثلاثون: «دار الهجرة» ؛ ففي صحيح البخاري قول عبد الرحمن لعمر رضي الله عنهما «حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة» وفي رواية الكشميهني   (1) المباءة: المنزل. وتبوأ المكان: نزله وأقام به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 «والسلامة» وقد فتحت منها مكة وسائر الأمصار، وكانت بها عصابة الأنصار، ومهاجرة النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم والمهاجرين الأبرار، ومنها انتشرت السنة في الأقطار. ذات الحجر السادس والثلاثون: «ذات الحجر» لاشتمالها عليها، قال أبو بكر رضي الله عنه مثنيا على الأنصار: ما وجدت لنا ولهذا الحيّ من الأنصار مثلا إلا ما قال طفيل الغنوي: أبوا أن يملّونا ولو أنّ أمّنا ... تلاقي الّذي يلقون منّا لملّت هم خلطونا بالنّفوس وأولجوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلّت ذات الحرار السابع والثلاثون: «ذات الحرار» لكثرة الحرار بها، وفي قصة خنافر بن التوأم الحميري الكاهن عن رئيه من الجن وقد وصف له دين الإسلام، فقال له خنافر: من أين أبغى هذا الدين؟ قال: من ذات الأحرين، والنفر الميامين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق بيثرب ذات النخل والحرة ذات النعل، قال الأصمعي: أحرون وحرار جمع حرة. ذات النخل الثامن والثلاثون: «ذات النخل» وهو وذات الحجر مما استعمله المتأخرون في أشعارهم، وقد نسجت على منوالهم حيث قلت في مطلع قصيدة: أشجان قلبي بذات النّخل والحجر ... وأختها تلك ذات الحجر والحجر تقسّم القلب بين البلدتين؛ فلا ... أنفك من لهب الأشواق في سعر وفي أحاديث الهجرة «أريت دار هجرتي ذات نخل وحرة» «1» ، وقال عمران بن عامر الكاهن يصف البلاد لقومه: ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل «2» ، فليلحق بالحرة ذات النخل. وروي كما سيأتي بيثرب ذات النخل السلقة التاسع والثلاثون: «السلقة» ذكره أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أمين الإقشهري في أسمائها المنقولة عن التوراة، ولم نضبطه، وهو محتمل لفتح اللام وكسرها، والسّلق بالتحريك: القاع الصفصف «3» ، وسلقت البيض: أغليته بالنار، والمسلاق: الخطيب البليغ،   (1) الحرّة: أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت (ج) حرار. (2) المحل: انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلإ. (3) الصفصف: المستوي من الأرض لا نبات فيه. والأرض المنبسطة بين الجبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وربما قيل للمرأة السليطة: سلقة- بكسر اللام- فتسميتها بذلك لاتساعها وبعدها عن جبالها، أو للأوائها، أو لشدة حرها وما كان بها من الحمى الشديدة، أو لأن الله تعالى سلط أهلها على سائر البلاد فافتتحوها. سيدة البلدان الأربعون: «سيدة البلدان» لما أسنده الديلمي من الحلية لأبي نعيم عن ابن عمر مرفوعا «يا طيبة يا سيدة البلدان» . الشافية الحادي والأربعون: «الشافية» لحديث «ترابها شفاء من كل داء» وذكر الجذام والبرص، ولقد شاهدنا من استشفى بترابها من الجذام فنفعه الله به، والاستشفاء بتربة صعيب من الحمى مشهور، كما سيأتي، ولما صح في الاستشفاء بتمرها، وذكر ابن مسدي الاستشفاء من الحمى بكتابة أسمائها وتعليقها على المحموم، وسيأتي أنها تنفي الذنوب فتشفى من دائها. طابة وطيبة الثاني والأربعون: «طابة» بتخفيف الموحدة. الثالث والأربعون: «طيبة» بسكون المثناة التحتية. الرابع والأربعون: «طيّبة» بتشديدها. الخامس والأربعون: «طائب» ككاتب، وهذه الأربعة مع اسمها المطيبة أخوات لفظا ومعنى، مختلفات صيغة ومبنى، وقد صح حديث «إن الله سمى المدينة طابة» وفي رواية «إن الله أمرني أن أسمي المدينة طابة» وروى ابن شبة وغيره: كانوا يسمون يثرب، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طيبة، وفي حديث «للمدينة عشرة أسماء هي المدينة وطيبة وطابة» ورواه صاحب النواحي بلفظ طابت بدل طيبة، وعن وهب بن منبه: والله إن اسمها في كتاب الله- يعني التوراة- طيبة وطابة، ونقل عن التوراة تسميتها بالمطيبة أيضا، وكذا بطابة والطيبة، وتسميتها بهذه الأسماء إما من الطيب بتشديد المثناة، وهو الطاهر؛ لطهارتها من أدناس الشرك، أو لموافقتها من قوله تعالى: بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: 22] أو لحلول الطيب بها صلّى الله عليه وسلّم أو لكونها كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها، وإما من الطيب- بسكون المثناة- لطيب أمورها كلها، وطيب رائحتها، ووجود ريح الطيب بها، قال ابن بطّال: من سكنها يجد من ترتبها وحيطانها رائحة حسنة، وقال الإشبيلي: لتربة المدينة نفحة، ليس طيبها كما عهد من الطيب، بل هو عجب من الأعاجيب، وقال ياقوت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 من خصائصها طيب ريحها، وللمطر فيها رائحة لا توجد في غيرها، وما أحسن قول أبي عبد الله العطار: بطيب رسول الله طاب نسيمها ... فما المسك ما الكافور ما المندل الرّطب ظباب السادس والأربعون: «ظباب» ذكره ياقوت، ولم يضبطه، وهو إما بكسر المهملة أو بفتح المعجمة؛ فالأول بمعنى القطعة المستطيلة من الأرض، والثاني من ظبب وظبظب إذا حمّ؛ لأنها كانت لا يدخلها أحد إلا حمّ، قاله المجد. العاصمة السابع والأربعون: «العاصمة» لأنها عصمت المهاجرين ووقتهم أذى المشركين، ولما تقدم في «الجنة الحصينة» ويحتمل: أن يكون بمعنى المعصومة لعصمتها قديما بجيوش موسى وداود عليهما السلام المبعوث إلى من كان بها من الجبابرة، وحفظها حديثا نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلّم حتى صارت حرما آمنا، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، ومن أرادها بسوء أذابه الله. العذراء الثامن والأربعون: «العذراء» بإهمال أوله وإعجام ثانيه، منقول عن التوراة، سميت به لحفظها من وطء العدو القاهر في سالف الزمان، إلى أن تسلمها مالكها الحقيقي سيد الأنام، مع صعوبتها وامتناعها على الأعداء، ولذلك سميت البكر بالعذراء. العرّاء التاسع والأربعون: «العرّاء» بإهمال أوله وثانيه وتشديده، بمعنى الذي قبله، قال أئمة اللغة: العراء الجارية العذراء، كأنها شبهت بالناقة العراء التي لا سنام لها وصغر سنامها كصغر نهد العذراء أو عدمه؛ فيجوز أن يكون تسمية المدينة بذلك لعدم ارتفاع أبنيتها في السماء. العروض الخمسون: «العروض» كصبور، وقيل: هو اسم لها ولما حولها؛ لانخفاض مواضع منها ومسايل أودية فيها، وقال الخليل: العروض: طريق في عرض الجبل، وعرض الرجل إذا أتى المدينة؛ فإن المدينة سميت عروضا لأنها من بلاد نجد، ونجد كلها على خط مستقيم طولاني والمدينة معترضة عنها ناحية على أنها نجدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الغرّاء الحادي والخمسون: «الغرّاء» بالغين المعجمة- تأنيث الأغر، وهو ذو الغرة من الخيل: أي: البياض في مقدم وجهه، والغرة أيضا: خيار كل شيء، وغرة الإنسان: وجهه، والأغر: الأبيض من كل شيء، والذي أخذت اللحية جميع وجهه إلا القليل، ومن الأيام الشديد الحر، والرجل الكريم، و الغراء : نبت طيب الرائحة، والسيدة الكبيرة في قبيلتها؛ فسميت المدينة بذلك لشرف معالمها، ووضوح مكارمها، واشتهارها، وسطوع نورها، وبياض نورها، وطيب رائحتها، وكثرة نخلها، وسيادتها على القرى، وكرم أهلها، ورفعة محلها. غلبة الثاني والخمسون: «غلبة» محركة بمعنى الغلب؛ لظهورها واستيلائها على سائر البلاد، وهو اسم قديم جاهلي، قال ابن زبالة: حدثني داود بن مسكين الأنصاري عن مشيخته قالوا: كانت يثرب في الجاهلية تدعى غلبة، نزلت اليهود على العماليق فغلبتهم عليها، ونزلت الأوس والخزرج على اليهود فغلبوهم عليها، ونزل الأعاجم على المهاجرين فغلبوهم عليها، كذا في النسخة التي وقفت عليها من كتاب ابن زبالة، ونقله المجد عن الزبير بن بكار راوي كتاب ابن زبالة، وقال فيه بدل قوله ونزل الأعاجم: ونزل المهاجرون على الأوس والخزرج فغلبوهم عليها. الفاضحة الثالث والخمسون: «الفاضحة» بالفاء والضاد المعجمة والحاء المهملة- نقله بعضهم عن كراع، ومأخذها ما سيأتي في معنى كونها تنفي خبثها من أنها تميزه وتظهره فلا يبطن بها أحد عقيدة فاسدة أو يضمر أمرا إلا ظهر عليه، وافتضح به، بخلاف غيرها من البلاد، وقد شاهدنا ذلك كثيرا بها. القاصمة الرابع والخمسون: «القاصمة» بالقاف والصاد المهملة- نقل عن التوراة سميت به لقصمها كل جبار عناها «1» ، وكسر كل متمرد أتاها، ومن أرادها بسوء أذابه الله. قبة الإسلام الخامس والخمسون: «قبة الإسلام» لحديث «المدينة قبة الإسلام» . قرية الأنصار السادس والخمسون: «قرية الأنصار» قال ابن سيدة: القرية- بفتح القاف وكسرها-   (1) عناها: أرادها. وقصدها بسوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 المصر الجامع، من قريت الماء في الحوض، إذا جمعته، وقال أبو هلال العسكري: العرب تسمي كل مدينة صغرت أو كبرت قرية، قلت: وسيأتي في معنى «المدينة» ما يقتضي أنه يعتبر في مسماها زيادتها على القرية ونقصها على المصر، وقيل: يطلق عليه، والأنصار: واحدهم ناصر، سموا بذلك لنصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإيوائهم له وللمهاجرين، فمدحهم الله بقوله: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا [الأنفال: 72] فسماهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار، وكان يقال لهم قبل ذلك الأوس والخزرج، وفي الحديث عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس بن مالك: أرأيتم اسم الأنصار، كنتم تسمون به أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله. وسيأتي في حديث «إن الله قد طهر هذه القرية من الشرك» فلك أن تعده اسما آخر. قرية رسول الله السابع والخمسون: «قرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» لما سيأتي في عصمتها من الدجال من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ثم يسير حتى يأتي المدينة، ولا يأذن له فيها؛ فيقول: هذه قرية ذاك الرجل» يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم. قلب الإيمان الثامن والخمسون: «قلب الإيمان» أورده ابن الجوزي في الوفاء في حديث «المدينة قبة الإسلام» . المؤمنة التاسع والخمسون: «المؤمنة» إما لتصديقها بالله حقيقة كذوي العقول؛ إذ لا بعد في خلق الله تعالى قوة في الجماد قابلة للتصديق والتكذيب، وقد سمع تسبيح الحصى في كفه صلّى الله عليه وسلّم أو مجازا لاتصاف أهلها بذلك، ولانتشار الإيمان منها، واشتمالها على أوصاف المؤمن من النفع والبركة وعدم الضرر والمسكنة، وإما لإدخالها أهلها في الأمان من الأعداء، وأمنهم من الدجال والطاعون، وروى ابن زبالة في حديث «والذي نفسي بيده إن ترتبها لمؤمنة» وروى «أنها مكتوبة في التوراة مؤمنة» . المباركة الستون: «المباركة» ؛ لأن الله تعالى بارك فيها بدعائه صلّى الله عليه وسلّم لحديث «اللهم اجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» وغيره من الأحاديث الصحيحة الكثيرة، وآثار تلك الدعوات من الأمور الظاهرات. مبوأ الحلال والحرام الحادي والستون: «مبوّأ الحلال والحرام» رواه الطبراني في حديث «المدينة قبة الإسلام» والتبوؤ: التمكن والاستقرار، سميت به لأنها محل تمكن هذين الحكمين واستقرارهما، وفي بعض النسخ «مثوى» بالمثلاثة الساكنة بدل الموحدة، والأول هو الذي رأيته بخط الحافظ أبي الفتح المراغي. مبين الحلال والحرام الثاني والستون: «مبين الحلال والحرام» رواه ابن الجوزي والسيد أبو العباس القرافي في حديث «المدينة قبة الإسلام» بدل الذي قبله، سميت به لأنها المحل الذي ابتدأ فيه ببيان الحلال والحرام. المجبورة الثالث والستون: «المجبورة» بالجيم- ذكره في حديث «للمدينة عشرة أسماء» ونقل عن الكتب المتقدمة، وسميت به لأن الله تعالى جبرها بسكنى نبيه وصفيه صلّى الله عليه وسلّم حيا وضمها لأعضائه الشريفة ميتا بعد نقل حمّاها، وتطييب مغناها، والحث على سكناها، وتنزل البركات بمدها وصاعها؛ فهي بهذا السر الشريف مسرورة، وبهذه المنح العظيمة محبورة، تسحب ذيل الفخار، على سائر الأقطار. المحبه الرابع والستون: «المحبة» بضم الميم وبالحاء المهملة وتشديد الموحدة- نقل عن الكتب المتقدمة. المحبّبة الخامس والستون: « المحببة » بزيادة موحدة على ما قبله. المحبوبة السادس والستون: «المحبوبة» نقل عن الكتب المتقدمة أيضا، وهذه ثلاثة مع ما تقدم من اسمها الحبيبة من مادة واحدة، سميت بذلك لما تقدم من حبه صلّى الله عليه وسلّم لها ودعائه بذلك، وجاء ما يقتضي أنها أحب البقاع إلى الله تعالى، ويؤيده أنه تعالى اختارها لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم حيّا وميتا؛ فهي محبوبة إلى الله تعالى ورسوله وسائر المؤمنين، ولهذا ترتاح النفوس لذكرها، وتهيم القلوب لشهود سرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 المحبورة السابع والستون: «المحبورة» من الحبر، وهو السرور، وكذلك الحبر والحبور والحبرة، لما تقدم في الحبورة، أو هو من الحبرة بمعنى النعمة، والحبرة أيضا المبالغة فيما وصف بجميل، والمحبار من الأرض: السريعة النبات الكثيرة الخيرات. المحرمة الثامن والستون: «المحرمة» لما سيأتي في تحريمها. المحفوفة التاسع والستون: «المحفوفة» لأنها محفوفة بالبركات، وملائكة السموات، محفوظة من المخاوف والأوجال، وعلى أبوابها وأنقابها «1» الملائكة يحرسونها من الطاعون والدجال، وسيأتي حديث « المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون» . المحفوظة السبعون: «المحفوظة» لأن الله تعالى حفظها من الدجال والطاعون وغيرهما، وفي حديث «القرى المحفوظة أربع» وذكر المدينة منها، وفي حديث آخر رويناه في فضائل المدينة للمفضل الجندي «المدينة مشتبكة بالملائكة، على كل نقب منها ملك يحرسها» فلك أن تسميها المحروسة أيضا. المختارة الحادي والسبعون: «المختارة» لأن الله تعالى اختارها للمختار من خلقه في حياته ومماته. مدخل صدق الثاني والسبعون: «مدخل صدق» قال الله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء: 80] ، قال بعض المفسرين: مدخل صدق: المدينة، ومخرج صدق: مكة،   (1) الأنقاب: جمع نقب. الطريق الضيق في الجبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وسلطانا نصيرا: الأنصار، وروي ذلك عن زيد بن أسلم، ويدل له ما رواه الترمذي وصححه في سبب نزول الآية. المدينة الثالث والسبعون: «المدينة» . الرابع والسبعون: «مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم» من مدن بالمكان إذا أقام، أو من دان إذا أطاع، فالميم زائدة؛ لأن السلطان يسكن المدن فتقام له طاعة فيها، أو لأن الله تعالى يطاع فيها، والمدينة: أبيات مجتمعة كثيرة تجاوز حد القرى كثرة وعمارة، ولم تبلغ حد الأمصار، وقيل: يقال لكل مصر. والمدينة وإن أطلق على أماكن كثيرة فهو علم مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهجر كونه علما في غيرها، بحيث إذا أطلق لا يتبادر إلى الفهم غيرها؛ ولا يستعمل فيها إلا معرفة، قيل: لأنه صلّى الله عليه وسلّم سكنها، وله دانت الأمم ولأمته، والنكرة اسم لكل مدينة، وقد نسبوا للكل مديني، وإلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم مدني، للفرق، وتسميتها بذلك متكررة في القرآن العظيم، ونقل عن التوراة. المرحومة الخامس والسبعون: «المرحومة» نقل عن التوراة، سميت به لأنها دار المبعوث رحمة للعالمين، ومحل تنزيل الرحمة من أرحم الراحمين، وأول بلد رحمت بسيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم. المرزوقة السادس والسبعون: «المرزوقة» لأن الله تعالى رزقها أفضل الخلق فسكنها، أو المرزوق أهلها أرزاقا حسية ومعنوية ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه كما جاء في الحديث. مسجد الأقصى السابع والسبعون: «مسجد الأقصى» نقله التادلي في منسكه عن صاحب المطالع. المسكينة الثامن والسبعون: «المسكينة» نقل عن التوراة، وذكر في حديث «للمدينة عشرة أسماء» وروي عن علي يرفعه «إن الله تعالى قال للمدينة: يا طيبة، يا طابة، يا مسكينة، لا تقبلي الكنوز، أرفع أجاجيرك على أجاجير «1» القرى» عن كعب أنه وجد ذلك في التوراة،   (1) الأجاجير: السطوح التي لا سترة عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 والأجاجير: السطوح، وأصل المسكنة الخضوع، فسميت بذلك إما لأن الله تعالى خلق فيها الخضوع والخشوع له، وإما لأنها مسكن المساكين، سكنها كل خاضع وخاشع، وفي الحديث «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكنيا، واحشرني في زمرة المساكين» . المسلمة التاسع والسبعون: «المسلمة» كالمؤمنة، وقد قدمناه، والإسلام يطلق على الانقياد والانقطاع إلى الله تعالى، فسميت بذلك إما لأن الله تعالى خلق فيها الانقياد والانقطاع إليه، وإما لانقياد أهلها بالطاعة والاستسلام، وفتح بلدهم بالقرآن، لا بالسيف والسهام، وانقطاعهم إلى الله ورسوله، وتبتلهم لنصره وتحصيل سوله «1» . مضجع الرسول الثمانون: «مضجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» لما سيأتي في حفظ أهلها وإكرامهم من قوله صلّى الله عليه وسلّم «المدينة مهاجري ومضجعي في الأرض» . المطيبة الحادي والثمانون: «المطيّبة» بضم أوله وفتح ثانيه- تقدم مع أخواته في الطيبة. المقدسة الثاني والثمانون: «المقدسة» لتنزّهها ولطهارتها من الشرك والخبائث، ولأنها يتبرك بها ويتطهر عن أرجاس الذنوب والآثام. المقر الثالث والثمانون: «المقرّ» بالقاف: من القرار كما رأيته في بعض كتب اللغة وسيأتي في دعائه صلّى الله عليه وسلّم لها قوله: «اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقا حسنا» . المكتان الرابع والثمانون: «المكّتان» قال سعد بن أبي سرح في حصار عثمان: أرى الأمر لا يزداد إلّا تفاقما ... وأنصارنا بالمكّتين قليل وقال نصر بن حجاج فيما كتب به إلى عمر رضي الله عنه بعد نفيه إياه من المدينة لما سمع امرأة تترنم به في شعرها لجماله: حقّقت بي الظّنّ الذي ليس بعده ... مقام؛ فما لي بالنّديّ كلام   (1) سوله: سؤاله. وفي التنزيل الكريم: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [سورة طه: الآية 36] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فأصبحت منفيّا على غير ريبة ... وقد كان لي بالمكّتين مقام والظاهر: أن المراد المدينة؛ لأن قصة عثمان ونصر بن حجاج كانتا بها، وأطلق ذلك لانتقال أهل مكة أو غالبهم إليها وانضمامهم إلى أهلها، وقد ذكر البرهان القيراطي المكتين في أسماء مكة، قال التقي الفاسي: ولعله أخذه من قول ورقة بن نوفل: ببطن المكتين على رجائي قال السهيلي: ثنّى مكة- وهي واحدة- لأن لها بطاحا وظواهر «1» ، وإنما مقصد العرب في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة، أو أعلى البلد وأسفلها، فيجعلونها اثنين على هذا المعنى، انتهى. ويحتمل أن تكون التثنية فيما استشهدنا به من قبيل التغليب وأن المراد مكة والمدينة، فيسقط الاستشهاد به. المكينة الخامس والثمانون: «المكينة» لتمكنها في المكانة والمنزلة عند الله تعالى. مهاجر الرسول السادس والثمانون: «مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ؛ لقوله: «المدينة مهاجري» . الموفية السابع والثمانون: «الموفّية» بتشديد الفاء- من التوفية، ويجوز تخفيفها، إذ التوفية والإيفاء بمعنى؛ سميت به لتوفيتها حق الواردين، وإحسانها نزل الوافدين حسّا ومعنى، أو لأن سكانها من الصحابة الموفون بما عاهدوا الله عليه. الناجية الثامن والثمانون: «الناجية» بالجيم من نجا إذا خلص أو أسرع، أو من نجاه وناجاه سارّه، أو من النّجوة للأرض العالية، سميت بذلك لنجاتها من العتاة والطاعون والدجال، ولإسراعها في الخيرات، وسبقها إلى حيازة السبق بأشرف المخلوقات، ولارتفاع شأنها بين الورى، ورفع أجاجيرها على أجاجير القرى. نبلاء التاسع والثمانون: «نبلاء» نقل من كراع، وأظنه بفتح النون وسكون الموحدة ممدودا، من النبل- بالضم والسكون- وهو الفضل والنجابة، ويقال: امرأة نبيلة في الحسن، بينة النبالة، وأنبل النخل: أرطب، والنّبلة- بالضم- الثواب والجزاء والعطية.   (1) البطاح: الباطن. الظواهر: الظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 النحر التسعون: «النحر» بفتح النون وسكون الحاء المهملة- سميت به إما لشدة حرها، كما يقال: نحر الظهيرة، ولذا شاركتها مكة فيه، وإما لإطلاق النحر على الأصل، وهما أساس بلاد الإسلام وأصلها. الهذراء الحادي والتسعون: «الهذراء» ذكره ابن النجار بدل العذراء نقلا عن التوراة، وتبعه جماعة كالمطري؛ فلذلك أثبتناه، وإن كان الصواب إسقاطه كما بيناه في الأصل، وقد رويناه في كلام من أثبته بالذال المعجمة، فالتسمية به لشدة حرها، يقال: يوم هاذر شديد الحر، أو لكثرة مياهها وسوانيها المصوّتة عند سوقها، يقال: هذر في كلامه، إذا أكثره، والهذر- محركا- الكثير الرديء، ويحتمل أن يكون بالمهملة من «هدر الحمام» إذا صوّت، والماء انصب وانهمر، والعشب طال، وأرض هادرة: كثيرة النبات. يثرب الثاني والتسعون: «يثرب» لغة في أثرب، وقد تقدم الكلام عليه فيه، وليست المذكورة في قول الشاعر: وعدت وكان الخلف منك سجيّة ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب «1» لأن المجد قال: أجمعوا فيه على تثنية التاء وفتح الراء، وقال: هي مدينة بحضرموت، قيل: كان بها عرقوب صاحب المواعيد، مع أن المجد صحّح أنه من قدماء يهود مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي مشارق عياض قيل: إن يثرب المذكورة في البيت مثل يثرب المدينة النبوية، وقيل: قرية باليمامة، وقيل: إنما هي يترب بمثناة فوقية وراء مفتوحة اسم تلك القرية، وقيل: اسم قرية من بلاد بني سعد من تميم، كما اختلف في عرقوب هذا؛ فقيل: رجل من الأوس من أهل المدينة، وقيل: من العماليق أهل اليمامة، وقيل: من بني سعد المذكورين اه. وأما قول هند بنت عتبة: لنهبطنّ يثربه ... بغارة منشعبه فالظاهر أن الهاء فيه للسكت، فلس اسما آخر. يندد الثالث والتسعون: «يندد» ذكره كراع هكذا بالمثناة التحتية ودالين، وهو إما من النّدّ   (1) السجيّة: الخلق والطبيعة. (ج) سجايا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وهو الطيب المعروف، وقيل: العنبر، أو من النّد للتل المرتفع، أو من الناد وهو الرزق. يندر الرابع والتسعون: «يندر» بإبدال الدال الأخيرة من الاسم قبله راء، ذكره المجد عند سرد الأسماء، ولم يتكلم عليه بعد، لما سنذكره، وإنباته لوقوعه كذلك في حديث «للمدينة عشرة أسماء» في بعض الكتب، وفي بعضها بمثناة فوقية ودالين، وفي بعضها كذلك مع إبدال الدال الأخيرة راء؛ فتحرر من مجموع ذلك أربعة أسماء: اثنان بالمثناة التحتية، واثنان بالفوقية، وذلك المستند في تقديمها في محلها، وقال المجد: إن ذلك كله تصحيف، وإن الصواب يندد بالمثناة التحتية ودالين، وفيه نظر؛ لأن الزركشي عند ذكر أسماء المدينة جمع بين اثنين من هذه الأربعة وقال: ذكرهما البكري؛ فيحتمل ثبوت الأخيرين، وحديث «للمدينة عشرة أسماء» رواه ابن شبة من طريق عبد العزيز بن عمران، وسردها فيه ثمانية فقط، ثم روى من طريقه أيضا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سمى الله المدينة الدار والإيمان، قال: وجاء في الحديث الأول ثمانية أسماء، وجاء في هذا اسمان، فالله أعلم أهما تمام العشرة أم لا اه. ورواه ابن زبالة كذلك إلا أنه سرد تسعة فزاد اسم الدار، وأسقط العاشر، ونقل ابن زبالة أن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الباب الثاني في فضائلها، وبدء شأنها وما يؤول إليه أمرها، وظهور النار المنذر بها من أرضها، وانطفائها عند الوصول إلى حرمها، وفيه ستة عشر فصلا. الفصل الأول في تفضيلها على غيرها من البلاد مكة أفضل أم المدينة قد انعقد الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة، حتى على الكعبة المنيفة، وأجمعوا بعد على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد، واختلفوا أيهما أفضل؛ فذهب عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ومالك بن أنس وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة، وأحسن بعضهم فقال: محل الخلاف في غير الكعبة الشريفة، فهي أفضل من المدينة ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة إجماعا، وحكاية الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة نقله القاضي عياض، وكذا القاضي أبو الوليد الباجي قبله كما قال الخطيب ابن جملة، وكذا نقله أبو اليمن ابن عساكر وغيرهم، مع التصريح بالتفضيل على الكعبة الشريفة، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أن تلك البقعة أفضل من العرش. وقال التاج الفاكهي: قالوا: لا خلاف أن البقعة التي ضمت الأعضاء الشريفة أفضل بقاع الأرض على الإطلاق حتى موضع الكعبة، ثم قال: وأقول أنا: أفضل بقاع السموات أيضا، ولم أر من تعرض لذلك، والذي أعتقده أن ذلك لو عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه، وقد جاء أن السموات تشرفت بمواطئ قدميه صلّى الله عليه وسلّم بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء شرفها لكون النبي صلّى الله عليه وسلّم حالّا فيها لم يبعد، بل هو عندي الظاهر المتعين. الأرض أفضل أم السماء؟ قلت: وقد صرح بما بحثه من تفضيل الأرض على السماء ابن العماد نقلا عن الشيخ تاج الدين إمام الفاضلية. قال: وقالوا: إن الأكثرين عليه؛ لأن الأنبياء خلقوا من الأرض وعبدوا الله فيها، ودفنوا بها اه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وقال النووي: المختار الذي عليه الجمهور أن السموات أفضل من الأرض، وقيل: إن الأرض أشرف؛ لأنها مستقر «1» الأنبياء ومدفنهم، وهو ضعيف. قلت: وكأن وجه تضعيفه للثاني أن الكلام عن مطلق الأرض، ولا يلزم من تفضيل بعضها لكونها مدفن الأنبياء تفضيل كلها، وضعف ايضا بأن أرواح الأنبياء في السموات والأرواح أفضل من الأجساد، وجوابه ما سنحققه إن شاء الله تعالى من حياة الأنبياء في قبورهم، صلوات الله وسلامه عليهم. وقال شيخنا المحقق ابن إمام الكاملية في تفسير سورة الصف: والحق أن مواضع الأنبياء وأرواحهم أشرف من كل ما سواها من الأرض والسماء، ومحل الخلاف في غير ذلك كما كان يقرره شيخ الإسلام البلقيني. قال الزركشي: وتفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة للمجاورة، ولهذا يحرم للمحدث مس جلد المصحف. عود لتفضيل مكة أو المدينة قال القرافي: ولما خفي هذا المعنى على بعض الفضلاء أنكر حكاية الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة، وقال: التفضيل إنما هو بكثرة الثواب على الأعمال، والعمل على قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محرم، قال: ولم يعلم أن أسباب التفضيل أعم من الثواب، والإجماع منعقد على التفضيل بهذا الوجه لا بكثرة الثواب، ويلزمه ألايكون جلد المصحف- بل ولا المصحف نفسه- أفضل من غيره لتعذر العمل فيه، وهو خرق للإجماع. قلت: وما ذكره من التفضيل بالمجاورة مسلّم، لكن ما اقتضاه من عدم التفضيل لكثرة الثواب في ذلك ممنوع لما سنحققه. كلام للعز بن عبد السلام وأصل الإشكال لابن عبد السلام فإنه قال في أماليه: تفضيل مكة على المدينة أو عكسه معناه أن الله يرتب على العمل في إحداهما من الثواب أكثر مما يرتبه على العمل في الآخرى؛ فيشكل قول القاضي عياض: أجمعت الأمة على أن موضع القبر الشريف أفضل؛ إذ لا يمكن أحد أن يعبد الله فيه.   (1) مستقر الأنبياء: موطن دعوتهم في حياتهم، ومدفنهم بها بعد وفاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 كلام للتقي السبكي قال التقي السبكي: وقد رأيت جماعة يستشكلون نقل هذا الإجماع، وقال لي قاضي القضاة السروجي الحنفي: طالعت في مذهبنا خمسين تصنيفا فلم أجد فيها تعرضا لذلك، قال السبكي: وقد وقفت على ما ذكره ابن عبد السلام من أن الأزمان والأماكن كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما، لا بصفات قائمة بها، ويرجع تفضيلها إلى ما ينيل الله العباد فيهما، وأن التفضيل الذي فيهما أن الله يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما، قال السبكي: وأنا أقول: قد يكون التفضيل لذلك، وقد يكون لأمر آخر فيهما، وإن لم يكن عمل؛ فإن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبة، ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل الأماكن؟ وليس محل عمل لنا، فهذا معنى غير تضعيف الأعمال فيه، وأيضا فباعتبار ما قيل: إن كل أحد يدفن بالموضع الذي خلق منه، وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيها باعتبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حي، وأن أعماله مضاعفة أكثر من كل أحد؛ فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن. قلت: وهذا من النفاسة بمكان، على أني أقول: الرحمات والبركات النازلة بذلك المحل يعم فيضها الأمة، وهي غير متناهية؛ لدوام ترقياته عليه الصلاة والسلام، وما تناله الأمة بسبب نبيها هو الغاية في الفضل، ولذا كانت خير أمة بسبب كون نبيها خير الأنبياء، فكيف لا يكون القبر الشريف أفضل البقاع مع كونه منبع فيض الخيرات؟ ألا ترى أن الكعبة على رأي من منع الصلاة فيها ليست محل عملنا، أفيقول عاقل بتفضيل المسجد حولها عليها لأنه محل العمل مع أن الكعبة هي السبب في إنالة تلك الخيرات؟ وأيضا فاهتمامه صلّى الله عليه وسلّم بأمر أمته معلوم، وإقبال الله عليه دائم، وهو بهذا المحل الشريف، فتكثر شفاعته فيه لأمته وأمداده إياهم، وقد ورد في حديث «وفاتي خير لكم» وجاء بيان ذلك بأن «أعمالكم تعرض عليّ؛ فإن رأيت خيرا حمدت الله، وإن رأيت غير ذلك استغفرت لكم» وفي رواية «استوهبت الله ذنوبكم» وله شواهد تقويه، وسيأتي في الباب الثامن أن المجيء المذكور في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ [النساء: 64] الآية حاصل بالمجيء إلى قبره الشريف أيضا، فزيارته والمجاورة عنده من أفضل القربات، وعنده تجاب الدعوات، وتحصل الطلبات، فقد جعله الله تعالى سببا في ذلك أيضا، فهو روضة من رياض الجنة، بل أفضل رياضها، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لقاب قوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» بل لو تعلق متعلق بما قررناه من كون القبر الشريف منبع جميع الخيرات وهو بالمدينة فتكون هي أفضل لكان له وجه. وقد قال الحكيم الترمذي في نوادره: سمعت الزبير بن بكار يقول: صنّف بعض أهل المدينة في المدينة كتابا، وصنف بعض أهل مكة في مكة كتابا، فلم يزل كل واحد منهما يذكر بقعته بفضيلة، يريد كل واحد منهما أن يبرز على صاحبه بها، حتى برز المدني على المكي في خلّة واحدة عجز عنها المكي، وأن المدني قال: إذ كل نفس إنما خلقت من تربته التي يدفن فيها بعد الموت، وكان نفس الرسول إنما خلقت من تربة المدينة؛ فحينئذ تلك التربة لها فضيلة بارزة على سائر الأرض. يخلق الإنسان من تربة الأرض التي يدفن فيها قلت: ويدل لما ذكر من أن النفس تخلق من تربة الدفن ما رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح وله شواهد صحيحة عن أبي سعيد، قال: «مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم عند قبر، فقال: قبر من هذا؟ فقالوا: فلان الحبشي يا رسول الله، فقال: لا إله إلا الله، سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي منها خلق» ورواه الحكيم الترمذي بنحوه عن أبي هريرة، ورواه البزار عن أبي سعيد بنحوه، وفيه عبد الله والد ابن المديني وهو ضعيف، وروى الطبراني في الأوسط نحوه عن أبي الدرداء، وفيه الأحوص بن حكيم، وثّقه العجلي، وضعفه الجمهور، وروي في الكبير أيضا نحوه عن ابن عمر، وقال الذهبي في بعض رواته: ضعفوه، وأسند ابن الجوزي في الوفاء عن كعب الأحبار: لما أراد الله عز وجل أن يخلق محمدا صلّى الله عليه وسلّم أمر جبريل فأتاه بالقبضة البيضاء التي هي موضع قبره صلّى الله عليه وسلّم فعجنت بماء التسنيم، ثم غمست في أنهار الجنة، وطيف بها في السموات والأرض، فعرفت الملائكة محمدا وفضله قبل أن تعرف آدم عليه السلام، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سرد خصائصها. وقال الحكيم الترمذي في حديث: «إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة": إنما صار أجله هناك لأنه خلق من تلك البقعة، وقد قال الله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: 55] الآية، قال: فإنما يعاد المرء من حيث بدئ منه، قال: وروي أن الأرض عجّت «1» إلى ربها لما أخذت تربة آدم عليه السلام، فقال لها: سأردها إليك، فإذا مات دفن في البقعة التي منها تربته. وعن يزيد الجريري قال: سمعت ابن سيرين يقول: لو حلفت حلفت صادقا بارّا غير شاك ولا مستثن أن الله تعالى ما خلق نبيه صلّى الله عليه وسلّم ولا أبا بكر ولا عمر إلا من طينة واحدة ثم ردهم إلى تلك الطينة.   (1) عجّ، عجا وعجّة: رفع صوته وصاح. ويقال: عجّ إلى الله بالدعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وروى ابن الجوزي في الوفاء عن عائشة قالت: لما قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم اختلفوا في دفنه؛ فقالوا: أين يدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال علي: إنه ليس في الأرض بقعة أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيه صلّى الله عليه وسلّم وروى يحيى أن عليا قال لما اختلفوا: لا يدفن إلا حيث توفاه الله عز وجل، وأنهم رضوا بذلك. قلت: ويؤخذ مما قاله على مستند نقل الإجماع السابق على تفضيل القبر الشريف؛ لسكوتهم عليه، ورجوعهم إلى الدفن به. ولما قال الناس لأبي بكر رضي الله عنه: يا صاحب رسول الله، أين يدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: في المكان الذي قبض الله تعالى روحه فيه؛ فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، رواه الترمذي في شمائله، والنسائي في الكبرى، وإسناده صحيح، ورواه أبو يعلى الموصلي، ولفظه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه» . قلت: وأحبها إليه أحبها إلى ربه؛ لأن حبه تابع لحب ربه إلا أن يكون حبه عن هوى نفس، وما كان أحب إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل، ولهذا أخذت تفضيل المدينة على مكة من قوله صلّى الله عليه وسلّم كما في الصحيح: «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» أي بل أشد، أو وأشد، كما روي به، ومن إجابة دعوته صلّى الله عليه وسلّم كان يحرك دابته إذا رآها من حبها. وقد روى الحاكم في مستدركه حديث: «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي، فأسكنّي في أحب البقاع إليك» وفي بعض طرقه أنه صلّى الله عليه وسلّم قاله حين خرج من مكة، وفي بعضها أنه وقف بالحزورة «1» ، وفي بعضها بالحجون «2» فقاله، وقد ضعفه ابن عبد البر. قيل: ولو سلمت صحته فالمراد أحب البقاع إليك بعد مكة؛ لحديث: «إن مكة خير بلاد الله» وفي رواية: «أحب أرض الله إلى الله» ولأنه قد صح لمسجد مكة من المضاعفة زيادة على ما صح لمسجد المدينة كما سيأتي. قلت: فيما قدمناه من دعائه صلّى الله عليه وسلّم بحبها أشد من حب مكة مع ما أشرنا إليه من إجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم ومن أنه تعالى لا يجعلها أحب إلى نبيه إلا بعد جعلها أحب إليه تعالى غنية عن صحة هذا الحديث، وكون المراد منه ما ذكر خلاف الظاهر، وما ذكر لا يصلح مستندا في   (1) الحزورة: الرابية الصغيرة. (2) الحجون: جبل بمكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الصرف عن الظاهر؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم قصد به الدعاء للدار التي تكون هجرته إليها، فطلب من الله أن يصيرها أحب البقاع إليه تعالى، والحب من الله تعالى إنالة الخير والتعظيم للمحبوب، وهذا يمكن تجدده بعد أن لم يكن، وقوله: «إن مكة خير بلاد الله وأحبها إليه» محمول على أنه صلّى الله عليه وسلّم قاله في بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، فلما طالت إقامته صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وأظهر الله دينه، وتجدد لها ما سيأتي من الفضائل حتى عاد نفعها على مكة، فافتتحها الله وسائر بلاد الإسلام منها؛ فقد أنالها الله تعالى وأنال بها من الخير ما لم ينله غيرها من البلاد، وظهر إجابة الدعوة الكريمة، وأنها صارت خير أرض الله وأحبها إليه بعد ذلك، ولهذا لم يعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة بعد فتحها. فإن قيل: إنما لم يعد إليها لأن الله افترض عليه المقام بدار هجرته. قلنا: لم يكن الله ليفترض عليه المقام بها إلا وهي أفضل؛ لكرامته عنده، وقد حثّ صلّى الله عليه وسلّم على الاقتداء به في سكناها والإقامة بها، وقال: «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» . فإن قيل: قال التقي الفاسي: ظن بعض أهل عصرنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مكة خير بلاد الله» حين خرج من مكة للهجرة، وليس كذلك؛ لأن في بعض طرق الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك وهو على راحلته بالحزورة، وهو لم يكن بهذه الصفة حين هاجر؛ لأن الأخبار تقتضي أنه خرج من مكة مستخفيا، ولو ركب بالموضع المشار إليه- وهو الذي يقول له عوام مكة عزوة- لأشعر ذلك بسفره. قلنا: جاء في رواية لابن زبالة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أمره الله بالخروج قال: «اللهم إنك أخرجتني» الحديث، وقد وقع في رواية لابن حبان في حديث الهجرة «فركبا- يعني هو وأبو بكر- حتى أتيا الغار- وهو ثور- فتواريا فيه» وسيأتي في أحاديث الهجرة ما يقتضي أنهما توجها إلى الغار ليلا بعد أن ذرّ صلّى الله عليه وسلّم ترابا على رؤوس جماعة من الكفار كانوا يرصدونه، وقرأ أوائل يس يستتر بها منهم، فلم يروه، فلا يمتنع أن يكون راكبا في هذا الموضع. وأما أمر مزيد المضاعفة لمسجد مكة، فجوابه أن أسباب التفضيل لا تنحصر في المضاعفة، ألا ترى أن فعل الصلوات الخمسة للمتوجه إلى عرفات وظهر يوم النحر بمنى أفضل من فعلها بمسجد مكة، وإن اشتمل فعلها بالمسجد على المضاعفة إذ في الاتّباع ما يربو عليها، ولهذا قال عمر رضي الله عنه بمزيد المضاعفة لمسجد مكة كما سيأتي مع قوله بتفضيل المدينة، وغايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، ويؤيد ذلك ما سيأتي مع أن المضاعفة تعم الفرض والنفل، وأن النفل بالبيت أفضل، على أنه إن أريد بالمسجد الحرام في حديث المضاعفة الكعبة فقط كما ستأتي الإشارة إليه، فالجواب أن الكلام فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 عداها، مع أن دعاءه صلّى الله عليه وسلّم للمدينة بضعفي ما بمكة من البركة، ومع البركة بركتين شامل للأمور الدينية والدنيوية، وقد يبارك في العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة لأكثرية المدعو به لها من البركة الشاملة. ولا يرد على ما قررناه ما جاء في فضل الكعبة الشريفة؛ إذ الكلام فيما عداها، ولهذا روى مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه قال لعبد الله بن عياش المخزومي: أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول في حرم الله ولا في بيت الله شيئا، ثم قال عمر: أنت القائل لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه، وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول في حرم الله ولا في بيت الله شيئا، ثم انصرف، وفي رواية لرزين: فاشتد على ابن عياش، فانصرف. ولا يرد أيضا ما بمكة من مواضع النسك؛ لتعلق النسك بالكعبة، وأيضا فقد عوّض الله المدينة عن العمرة ما سيأتي في مسجد قباء، وعن الحج ما سيأتي مرفوعا: «من خرج لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة» ، وهذا أعظم؛ لكونه أيسر، ويتكرر في اليوم والليلة مرارا، والحج لا يتكرر، ويؤخذ منه أنه يضاف إلى ما جاء في المضاعفة بمسجدها الحجة لمن أخلص قصده للصلاة. ولا يرد أيضا كونه صلّى الله عليه وسلّم أقام بمكة بعد النبوة أكثر من إقامته بالمدينة، على الخلاف فيه؛ لأن إقامته بالمدينة كان سببا في إعزاز دين الله وإظهاره، وبها تقررت الشرائع، وفرضت غالب الفرائض، وأكمل الله الدين، واستقر بها صلّى الله عليه وسلّم إلى قيام الساعة. وقد ثبت في محبته صلّى الله عليه وسلّم للمدينة ما لم يثبت مثله لمكة، وحثّ على الإقامة والموت بها، والصبر على لأوائها وشدتها، كما ستقف عليه، وسيأتي حديث: «اللهم لا تجعل منايانا بمكة» وحديث: «ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها» يعني المدينة، قالها ثلاث مرات. وقد شرع الله لنا أن نحب ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبه، وأن نعظم ما كان يعظمه، وإذا ثبت تفضيل الموت بالمدينة ثبت تفضيل سكناها، لأنه طريقه هذا، وقد روى الطبراني في الكبير والمفضل الجندي في فضائل المدينة وغيرهما عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أشهد سمعت- وفي رواية «لسمعت» - رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المدينة خير من مكة» ، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن الرداد، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطئ، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وقال أبو زرعة: ليّن، وقال الأزدي: لا يكتب حديثه، وقال ابن عدي: روايته ليست محفوظة، ولهذا قال ابن عبد البر: هو حديث ضعيف، وفيما قدمناه غنية عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وفي الصحيحين حديث: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» ويأرز كمسجد أي: ينقبض ويجتمع وينضم ويلتجئ، وقد رأينا كل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لحبه في النبي صلّى الله عليه وسلّم فيشمل ذلك جميع الأزمنة؛ لأنه في زمنه صلّى الله عليه وسلّم للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين للاقتداء بهم، ومن بعد ذلك لزيارته، وفضل بلده، والتبرك بمشاهدة آثاره، والاتباع له في سكناها. وروينا في فضائل المدينة للجندي حديث: «يوشك الإيمان أن يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» يعني: يرجع إليها الإيمان. وأسند ابن زبالة حديث: «لا تقوم الساعة حتى يحاز الإيمان إلى المدينة كما يحوز السيل الدّمن» . وقد تقدم في الأسماء حديث الصحيحين: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة» قال ابن المنذر: يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها؛ فمعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدما، وهذا أبلغ من تسمية مكة «أم القرى» ؛ لأن الأمومة لا تنمحي معها ما هي له أم، لكن يكون لها حق الأمومة، انتهى. وجزم القاضي عبد الوهاب بهذا الاحتمال. وروى البزار عن علي رضي الله عنه حديث: «إن الشياطين قد يئست أن تعبد ببلدي هذا» يعني: المدينة «وبجزيرة العرب، ولكن التحريش بينهم» وله أصل في صحيح مسلم من حديث جابر. وروى أبو يعلى بسند فيه من اختلف في توثيقه وبقية رجاله ثقات عن العباس رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة فالتفت إليها وقال: «إن الله قد برأ هذه الجزيرة من الشرك» وفي رواية: «إن الله قد طهّر هذه القرية من الشرك، إن لم تضلّهم النجوم، قال: ينزل الله الغيث، فيقولون: مطرنا بنوء «1» كذا وكذا» وقد تقدم في الأسماء تسميتها بالمؤمنة والمسلمة، وأنه لا مانع من إجرائه على ظاهره فهو مقتض للتفضيل، سيما وسببه ما سبق من كونه صلّى الله عليه وسلّم خلق من تربتها. وقد استدل أبو بكر الأبهري من المالكية على تفضيلها على مكة بما سبقت الإشارة إليه من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مخلوق من تراب المدينة، وهو أفضل البشر، فكانت تربته أفضل الترب. قال الحافظ ابن حجر: وكون تربته أفضل الترب لا نزاع فيه، وإنما النزاع هل يلزم من ذلك أن تكون المدينة أفضل من مكة؟ لأن المجاور للشيء لو ثبت له جميع مزاياه   (1) النوء: المطر الشديد. والنجم إذا مال للغروب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 لكان لجار ذلك المجاور نحو ذلك؛ فيلزم أن يكون ما جاور المدينة أفضل من مكة، وليس كذلك اتفاقا، كذا أجاب به بعض المتقدمين، وفيه نظر، انتهى. قلت: لم يبين وجه النظر، ولعل وجهه أن الأفضل لقوة أصالته في الفضل يفيد مجاوره الأفضلية لمزية هذه المجاورة الخاصة، وهي منتفية عن مجاور المجاور، ألا ترى أن جلد المصحف قد ثبت له مزية التعظيم للمجاورة، ولم يلزم من ذلك ثبوت نحوها لمجاوره، وأيضا فالمقتضى لتفضيل المدينة خلقه صلّى الله عليه وسلّم من تربتها، وهذا لا يوجد لمجاورها، والله أعلم. الفصل الثاني وعد من صبر على شدها في الحث على الإقامة بها، والصبر على لأوائها وشدتها، وكونها تنفي الخبث والذنوب، ووعيد من أرادها وأهلها بسوء أو أحدث بها حدثا أو آوى محدثا. روينا في الصحيحين حديث «من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» . وفي صحيح مسلم عن سعيد مولى المهري أنه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال: ويحك! لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يصبر» وفي رواية «لا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» وفي رواية «فقال أبو سعيد: لا تفعل، الزم المدينة» وذكر الحديث بزيادة قصة. وفي مسلم وفي الموطأ والترمذي عن يحنّس مولى مصعب بن الزبير أنه كان جالسا عند ابن عمر في الفتنة، فأتته مولاة له تسلم عليه، فقالت: إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن، اشتد علينا الزمان، فقال لها عبد الله: اقعدي لكاع «1» ، ولفظ الترمذي: اصبري لكاع. فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» . فإن قيل: ما معنى التردد في قوله: «شفيعا أو شهيدا» ؟ وما معنى هذه الشفاعة مع عموم شفاعته صلّى الله عليه وسلّم؟   (1) لكاع: يقال في سبّ المرأة بالحمق: يا لكاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 قلنا: ذكر عياض ما ملخصه أن بعض مشايخه جعل «أو» للشك من الراوي، وأن الظاهر خلافه لكثرة رواته بذلك، بل الظاهر أنه من لفظه صلّى الله عليه وسلّم فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا، وإما أن تكون «أو» للتقسيم، ويكون شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين، أو شهيدا لمن مات في حياته وشفيعا لمن مات بعده، قال: وهذه الشفاعة أو الشهادة زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعاملين في القيامة وعلى شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بذلك مزية وزيادة منزلة وحظوة قال: ويحتمل أن يكون «أو» بمعنى الواو. قلت: ويدل له ما رواه البزار برجال الصحيح عن عمر رضي الله عنه بلفظ: «فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة» وأسنده ابن النجار بلفظ: «كنت له شفيعا وكنت له شهيدا يوم القيامة» وأسنده المفضل الجندي في فضائل المدينة عن أبي هريرة أيضا بلفظ: «لا يصبر أحد على لأواء المدينة» وفي نسخة: «وحرها إلا كنت له شفيعا وشهيدا» قال القاضي: وإذا جعلنا «أو» للشك فإن كانت اللفظة شهيدا فالشهادة أمر زائد على الشفاعة المجردة المدخرة لغيرهم من الأمة، وإن كانت اللفظة شفيعا فهذه شفاعة غير العامة تكون لأهل المدينة بزيادة الدرجات أو تخفيف الحساب أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامات كإيوائهم في ظل العرش أو كونهم في روح «1» وعلى منابر أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات. قلت: ويحتمل: أن يجمع لهم ببركة شفاعته صلّى الله عليه وسلّم أو شهادته الخاصة بين ذلك كله؛ فالجاه عظيم، والكرم واسع، وتأيد الوصية بالجار يؤيد ذلك، ويحتمل أيضا: أن يكون المراد مع ذلك البشرى بموتهم على الإسلام؛ لأن شفاعته وشهادته صلّى الله عليه وسلّم المذكورة خاصة بالمسلمين، وكفى بذلك نعمة ومزية، وسيأتي الإشارة إلى نحو ذلك في أول الباب الثامن. وفي الموطأ والصحيحين حديث: «تفتح اليمن فيأتي قوم يبسّون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» الحديث. وقوله «يبسون» بفتح المثناة التحتية أوله وضم الباء الموحدة وكسرها، ويقال أيضا بضم المثناة وكسر الموحدة- يسوقون بهائمهم سوقا شديدا، وقيل: البسّ: سرعة الذهاب. المدينة تنفي الخبث وفي مسلم حديث «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه أو قريبه: هلم إلى الرخاء، هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج   (1) كونهم في روح: في راحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه، ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد» . وفي الصحيحين: «أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد» وفي رواية لابن زبالة: «إن المدينة تنفي خبث الرجال» وفي رواية: «خبث أهلها كما ينفي الكير خبث الحديد» . وفي صحيح البخاري حديث: «إنها طيبة تنفي الذنوب كما ينفي الكير خبث الفضة» . وفي الصحيحين قصة الأعرابي الذي جاء من الغد محموما فقال: أقلني بيعتي، فأبى صلّى الله عليه وسلّم فخرج الأعرابي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وتنصع طيّبها» . قوله: «أقلني بيعتي» أي: انقض العهد حتى أرجع إلى وطني، وكأنه كان قد بايع على هجرة الإقامة. وقوله: «تنفي خبثها» يحتمل أن يكون بمعنى الطرد والإبعاد لأهل الخبث، وقصة الأعرابي المذكور ظاهرة فيه، وخصه ابن عبد البر بزمنه صلّى الله عليه وسلّم والظاهر كما قال النووي عدم التخصيص؛ ففي الصحيح: «لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها» يعني عند ظهور الدجال، وسيأتي في الفصل الخامس في حديث أحمد وغيره برجال الصحيح قصة خروج من بالمدينة من المنافقين إلى الدجال، ثم قال: «وذلك يوم التخليص، ذلك يوم تنفي المدينة الخبث» وقال عمر بن عبد العزيز مشفقا إذ خرج منها لمن معه: أتخشى أن نكون ممن نفت المدينة؟ وقد طهرها الله تعالى ممن كان بها من أرباب الأديان المخالفين لدين الإسلام، وأهلك من كان بها من المنافقين، وهؤلاء هم أهل الخبث الكامل، ومن عداهم من أهل الخبث والذنوب قد يكون طرده وإبعاده إن استمر على ذلك باخرة الأمر بنقل الملائكة له إلى غيرها من الأرض كما أشار إليه الأقشهري قال: ويكون قوله: «تنفي خبثها، وتنفي الذنوب» أي أهل ذلك، على طريقة حذف المضاف، ويحتمل أن يكون بمعنى طرد أهل الخبث الكامل، وهم أهل الشقاء والكفر، لا أهل السعادة والإسلام؛ لأن القسم الأول ليس قابلا للشفاعة ولا للمغفرة، وقد وعد صلّى الله عليه وسلّم من يموت بها بالشفاعة لهذا وجب انتفاء القسم الأول منها، ويحتمل أن يكون بمعنى تخليص النفوس من شرهها وميلها إلى اللذات بما فيها من اللأواء والشدة، ويؤيده رواية «إنها طيبة تنفي الذنوب» الحديث، ويكون نفيها للذنوب على ظاهره، سيما وقد اشتملت على عظيم المضاعفات، وتنوع المثوبات، وتوالي الرحمات، وقد قال تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] مع ما لأهلها من الشفاعة والشهادة الخاصة، وما بها من تضاعف البركات، ويحتمل أن يكون بمعنى أنه لا يخفى حال من انطوى فيها على خبث، بل تظهر طويته كما هو مشاهد بها، ولم أر الآن من نصّ على هذا الاحتمال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وهو في حفظي قديما، ويؤيده ما في غزوة أحد في الصحيح من أنه صلّى الله عليه وسلّم لما خرج إلى أحد رجع ناس من أصحابه- أي وهم المنافقون- فقال صلّى الله عليه وسلّم: «المدينة كالكير» الحديث، ولهذا سميت بالفاضحة كما قدمته، مع أن الذي ظهر لي من مجموع الأحاديث واستقراء أحوال هذه البلدة الشريفة أنها تنفي خبثها بالمعاني الأربعة. وقوله: «وتنصع» بالفوقانية المفتوحة والنون والمهملتين كتمنع- أي: تخلص، والناصع: الخالص الصافي، و «طيبها» بفتح الطاء والتشديد منصوبا على أنه مفعول هذا هو المشهور فيه، والله أعلم. وعيد من أراد أهلها بسوء وفي صحيح مسلم من حديث جابر في تحريم المدينة مرفوعا: «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء» . قال عياض: قوله «في النار» يدفع إشكال الأحاديث التي لم تذكر فيها هذه الزيادة، ويبين أن هذا حكمه في الآخرة. قال: وقد يكون المراد به أن من أرادها في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم كفي المسلمون أمره، واضمحل كيده كما يضمحل الرصاص في النار. قال: ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالا وطلبا لغرتها فلا يتم له أمر، بخلاف من أتى ذلك جهارا. قال: وقد يكون في اللفظ تقديم وتأخير: أي أذابه الله كذوب الرصاص في النار، ويكون ذلك لمن أرادها في الدنيا فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطانا، بل يذهبه عن قرب، كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أمية مثل مسلم بن عقبة، فأهلك في منصرفه منها. ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله على أثر ذلك، وغيرهما ممن صنع صنيعهما، انتهى. وهذا الاحتمال الأخير هو الأرجح، وليس في الحديث ما يقتضي أنه لا يتم له ما أراد منهم، بل الوعد بإهلاكه، ولم يزل شأن المدينة على هذا حتى في زماننا هذا لما تظاهرت طائفة العياشي بإرادة السوء بالمدينة الشريفة لأمر اقتضى خروجهم منها حتى أهلك الله تعالى عتاتهم مع كثرتهم في مدة يسيرة. وقد يقال: المراد من الأحاديث الجمع بين إذابته بالإهلاك في الدنيا وبين إذابته في النار في الآخرى، والمذكور في هذا الحديث هو الثاني، وفي غيره الأول؛ ففي رواية لأحمد برجال الصحيح من جملة حديث: «من أرادها بسوء» يعني المدينة «أذابه الله كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 يذوب الملح في الماء» وكذا في مسلم أيضا، وفي فضائل المدينة للجندي حديث «أيما جبّار أراد المدينة بسوء أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء» وفي رواية لمسلم «من أراد أهل هذه البلدة بسوء- يعني المدينة- أذابه الله تعالى كما يذوب الملح في الماء» في رواية له أيضا «من أراد أهل هذه البلدة بدهم أو بسوء» ، وروى البزار بإسناد حسن حديث: «اللهم اكفهم من دهمهم ببأس» يعني أهل المدينة «ولا يريدها أحد بسوء إلا أذابه الله كما يذوب الملح في الماء» . وقوله: «دهمهم» محركا أي: غشيهم بسرعة، وقوله في الحديث قبله «بدهم» بفتح أوله وإسكان ثانيه- أي بغائلة وأمر عظيم، ولذا قيل: المراد غازيا مغيرا عليها. وفي البخاري حديث «لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء» وأسند ابن زبالة عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشرف على المدينة فرفع يديه حتى رؤي عفرة إبطيه ثم قال: «اللهم من أرادني وأهل بلدي بسوء فعجّل هلاكه» وروى الطبراني في الأوسط برجال الصحيح حديث: «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل» وفي رواية لغيره: «من أخاف أهل المدينة أخافه الله يوم القيامة، وغضب عليه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا» وروى النسائي حديث: «من أخاف أهل المدينة ظالما لهم أخافه الله، وكانت عليه لعنة الله» الحديث، ولابن حبان نحوه، وروى أحمد برجال الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن أميرا من أمراء الفتنة قدم المدينة، وكان قد ذهب بصر جابر، فيل لجابر: لو تنحيت عنه، فخرج يمشي بين ابنيه، فنكب، فقال: تعس من أخاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! فقال ابناه، أو أحدهما: يا أبت، فكيف أخاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد مات؟ فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي» . بسر بن أرطاة يغزو المدينة قلت: والظاهر أن الأمير المشار إليه هو بسر بن أرطاة. قال القرطبي: ذكر في رواية ابن عبد البر أن معاوية رضي الله عنه بعد تحكيم الحكمين أرسل بسر بن أرطأة في جيش، فقدموا المدينة، وعاملها يومئذ لعلي رضي الله عنه أبو أيوب الأنصاري- رضي الله عنه! - ففر أبو أيوب ولحق بعلي، ودخل بسر المدينة، وقال لأهلها: والله لولا ما عهد إلى أمير المؤمنين ما تركت فيها محتلما إلا قتلته، ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية، وأرسل إلى بني سلمة فقال: ما لكم عندي أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله، فأخبر جابر، فانطلق حتى جاء أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لها: ماذا ترين فإني أخشى أن أقتل، وهذه بيعة ضلال، فقالت: أرى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 تبايع، وقد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع، فأتى جابر بسرا فبايعه، وهدم بسر دورا بالمدينة، ثم انطلق. وفي رواية ستأتي في الفصل الخامس عشر أن أهل المدينة فرّوا يومئذ حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم، والله أعلم. وفي الكبير للطبراني حديث: «من آذى أهل المدينة آذاه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرف ولا عدل» . وروى ابن النجار حديث: «من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وعيد من أحدث بها حدثا وفي الصحيحين في أحاديث تحريم المدينة: «فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» ولفظ البخاري: «لا يقبل منه صرف ولا عدل» قيل: الصرف الفريضة، والعدل التطوع، ونقل عن الجمهور، وقيل: عكسه، وقيل: الصرف التوبة، والعدل الفدية، قيل: والمعنى لا يقبل الله فريضته ونافلته أو توبته قبول رضا، ولا يجد في القيامة فداء يفتدى به من يهودي أو نصراني، بخلاف سائر المذنبين، وقيل غير ذلك، ومعنى هذا اللعن المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله تعالى والطرد عن الجنة أول الأمر لأنه كلعن الكفار. قال القاضي: ومعنى قوله: «من أحدث فيها حدثا إلى آخره» من أتى فيها إثما أو آوى من أتاه وضمه إليه وحماه، وآوى بالمد والقصر، قال: واستدلوا به على أن ذلك من الكبائر؛ لأن اللعنة لا تكون إلا في كبيرة. قلت: فيستفاد منه أن إثم الصغيرة بها كإثم الكبيرة بغيرها؛ لصدق الإثم بها، بل نقل الزركشي عن مالك رحمه الله ما يقتضي شمول الحديث المذكور للمكروه كما بيناه في الأصل، وذلك لأن الإساءة بحضور الملك ليست كالإساءة في أطراف المملكة، وفقنا الله تعالى لحسن الأدب في هذه الحضرة الشريفة بمنّه وكرمه!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الفصل الثالث في الحث على حفظ أهلها، وإكرامهم ، والتحريض على الموت بها واتحاذ الأصل. الوصية بحفظ أهلها روينا في كتاب ابن النجار عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المدينة مهاجري، فيها مضجعي، ومنها مبعثي، حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر، من حفظهم كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال» قيل للمزني: ما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار. قلت: قال بعضهم: المراد بالمزني معقل بن يسار، وتفسير طينة الخبال بذلك رفعه مسلم، والحديث في الكبير للطبراني بسند فيه متروك، ولفظه «المدينة مهاجري ومضجعي في الأرض، حق على أمتي أن يكرموا جيراني ما اجتنبوا الكبائر، فمن لم يفعل ذلك سقاه الله من طينة الخبال» قلنا: يا أبا يسار، وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار. وروى القاضي أبو الحسن علي الهاشمي في فوائده عن خارجة بن زيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المدينة مهاجري وفيها مضجعي، ومنها مخرجي، حق على أمتي حفظ جيراني فيها، من حفظ وصيتي كنت له شهيدا يوم القيامة، ومن ضيّعها أورده الله حوض الخبال، قيل: وما حوض الخبال يا رسول الله؟ قال: حوض من صديد أهل النار» . وروى ابن زبالة عن عطاء بن يسار وغيره حديث: «إن الله جعل المدينة مهاجري، وبها مضجعي، ومنها مبعثي، فحق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر، فمن حفظ فيهم حرمتي كنت له شفيعا يوم القيامة، ومن ضيع فيهم حرمتي أورده الله حوض الخبال» . وفي رواية له: «المدينة مهاجري، وبها وفاتي، ومنها محشري، وحقيق على أمتي أن يحافظوا جيراني ما اجتنبوا الكبيرة، من حفظ فيهم حرمتي كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» . وفي مدارك عياض قال محمد بن مسلمة: سمعت مالكا يقول: دخلت على المهدي فقال: أوصني، فقلت: أوصيك بتقوى الله وحده، والعطف على أهل بلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجيرانه؛ فإنه بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المدينة مهاجري، ومنها مبعثي، وبها قبري، وأهلها جيراني، وحقيق على أمتي حفظ جيراني؛ فمن حفظهم فيّ كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة، ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال» . وروى مالك في الموطأ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان جالسا وقبر يحفر بالمدينة، فاطّلع رجل في القبر فقال: بئس مضجع المؤمن! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بئس ما قلت» قال الرجل: إني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 لم أرد هذا، إنما أردت القتل في سبيل الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا مثل للقتل في سبيل الله، ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها» يعني المدينة، ثلاث مرات. وروى ابن شبة في أخبار مكة عن سعيد بن أبي هند قال: سمعت أبي يذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا دخل مكة قال: اللهم لا تجعل منايانا بمكة حتى نخرج منها» ورواه أحمد في مسنده برجال الصحيح عن ابن عمر مرفوعا، إلا أنه قال: «حتى تخرجنا منها» . وروى مالك والبخاري ورزين العبدري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك، زاد رزين أن ذلك كان من أجلّ «1» دعاء عمر. وسبق ما جاء في أن الإنسان يدفن في التربة التي خلق منها؛ فالنبي صلّى الله عليه وسلّم وأكثر أصحابه وأفضلهم خلقوا من تربة المدينة، وقد ثبت حديث: «من مات بالمدينة كنت له شفيعا يوم القيامة» ورواه البيهقي بلفظ: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت، فمن مات بالمدينة كنت له شفيعا وشهيدا» وفي رواية له: «فإنه من يمت بها أشفع له، أو أشهد له» وقد ذكر هذه الرواية ابن حبان في صحيحه. وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه وابن ماجه والبيهقي وعبد الحق وصححه حديث «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها» ولفظ ابن ماجه «فإني أشهد» بدل «فإني أشفع» ورواه الطبراني في الكبير بسند حسن، ولفظه «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت؛ فإنه من مات بها كنت له شهيدا- أو شفيعا- يوم القيامة» ورواه ابن رزين بنحوه، وزاد «وإني أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون، ثم أنتظر أهل مكة فأحشر بين أهل الحرمين» وفي رواية لابن النجار «فأخرج أنا وأبو بكر وعمر إلى البقيع فيبعثون، ثم يبعث أهل مكة» . وروى الطبراني حديث «أول من أشفع له من أمتي أهل المدينة، ثم أهل مكة، ثم أهل الطائف» وأخرجه الترمذي بالواو بدل ثم، وسيأتي في فضل البقيع زيادة تتعلق بذلك. وبالجملة: فالترغيب في الموت في المدينة لم يثبت مثله لغيرها، والسكنى بها وصلة إليه؛ فيكون ترغيبا في سكناها، وتفضيلا لها على غيرها، واختيار سكناها هو المعروف من حال السلف، ولا شك أن الإقامة بالمدينة في حياته صلّى الله عليه وسلّم أفضل إجماعا، فنستصحب ذلك بعد وفاته حتى يثبت إجماع مثله برفعه.   (1) أجلّ: أعظم وأقوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وأسند ابن شبة في أخبار مكة عن إسماعيل بن سالم قال: سألت عامرا عن فتيا أفتى بها حبيب بن أبي ثابت، فقال: ألا يفتي حبيب نفسه حيث نزل مكة وهي قرية أعرابية، ولأن أنزل دوران أحب إلي من أن أنزل مكة، وهي قرية هاجر منها النبي صلّى الله عليه وسلّم. وعن الشعبي أنه كان يكره المقام بمكة، ويقول: هي دار أعرابية، هاجر منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ألا يفتي حبيب نفسه حيث يجاور بمكة وهي دار أعرابية، وقال عبد الرزاق في مصنفه: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحجون ثم يرجعون، ويعتمرون ثم يرجعون، ولا يجاورون. قلت: ولم أظفر عن السلف بنقل في كراهة المجاورة بالمدينة الشريفة، بخلاف مكة، لكن اقتضى كلام النووي في شرح مسلم حكاية الخلاف فيها، وكأنه قاس المدينة على مكة من حيث إن علة الكراهة وهي خوف الملل وقلة الحرمة للأنس وخوف ملابسة الذنوب لأن الذنب بها أقبح، ونحوه موجود بالمدينة، ولهذا قال: والمختار أن المجاورة بهما جميعا مستحبة إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة. وقال الزركشي عقب نقل كلام النووي: إن الظاهر ضعف الخلاف في المدينة أي: لما قدمناه من الترغيب فيها، ولأن كل من كره المجاورة بمكة استدل بترك الصحابة الجوار بها، بخلاف المدينة فكانوا يحرصون على الإقامة بها، وقد روى الطبراني في الأوسط حديث «من غاب عن المدينة ثلاثة أيام جاءها وقلبه مشرب جفوة» وأسند ابن أبي حثمة حديث «من كان له بالمدينة أصل فليتمسك به، ومن لم يكن له بها أصل فليجعل له بها أصلا ولو قصرة» قال ابن الأثير: القصرة محركة أصل الشجرة، أي ولو نخلة واحدة، والقصرة أيضا: العنق، وقال الخطابي: القصرة النخلة، وقرأ الحسن إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [المرسلات: 32] وفسروه بأعناق النخل، ورواه الطبراني في الكبير بلفظه إلى قوله «فليجعل له بها أصلا» وقال عقبه: «فليأتين على الناس زمان يكون الذي ليس له بها أصل كالخارج منها المجتاز إلى غيرها» ورواه ابن شبة أيضا بنحوه، ثم أسند عن الزهري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تتخذوا الأموال بمكة، واتخذوها الأموال في دار هجرتكم؛ فإن المرء مع ماله» وأسند أيضا عن ابن عمر حديث «لا تتخذوا من وراء الروحاء مالا، ولا تردوا على أعقابكم بعد الهجرة ولا تنكحوا بناتكم طلقاء أهل مكة، وأنكحوهن بأترابهن فأترابهن» أي: مستويات في السن في ثلاث وثلاثين سنة. وهذا كله متضمّن للحث على سكنى المدينة وتفضيله على سكنى مكة، وهي جديرة بذلك؛ لأن الله تعالى اختارها لنبيه صلّى الله عليه وسلّم قرارا، وجعل أهلها شيعة له وأنصارا، وكانت لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أوطانا، ولو لم يكن إلا جواره صلّى الله عليه وسلّم بها وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «ما زال جبريل يوصيني بالجار» الحديث، ولم يخص جارا دون جار، ولا يخرج أحد عن حكم الجار وإن جار، ولهذا اخترت تفضيل سكناها على مكة، مع تسليم مزيد المضاعفة لمكة؛ إذ جهة الفضل غير منحصرة في ذلك؛ فتلك لها مزيد العدد، ولهذه تضاعف البركة والمدد، ولتلك جوار بيت الله، ولهذه جوار حبيب الله وأكرم الخلق على الله، سر الوجود، والبركة الشاملة لكل موجود. قال عياض في المدارك: قال مصعب: لما قدم المهدي المدينة استقبله مالك وغيره من أشرافها على أميال، فلما بصر بمالك انحرف المهدي إليه فعانقه وسلّم عليه وسايره، فالتفت مالك إلى المهدي فقال: يا أمير المؤمنين، إنك تدخل الآن المدينة فتمر بقوم عن يمينك ويسارك، وهم أولاد المهاجرين والأنصار، فسلم عليهم؛ فإنه ما على وجه الأرض قوم خير من أهل المدينة، ولا خير من المدينة، قال: ومن أين قلت ذلك يا أبا عبد الله؟ فقال: إنه لا يعرف قبر محمد صلّى الله عليه وسلّم عندهم فينبغي أن يعرف فضلهم على غيرهم، ففعل المهدي ما أمره به، فأشار مالك- رحمه الله! - إلى أن المقتضى للتفضيل هو وجود قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بها، ومجاورة أهلها له. الفصل الرابع في بعض دعائه صلّى الله عليه وسلّم لها ولأهلها ، وما كان بها من الوباء، ونقله حب النبي صلّى الله عليه وسلّم للمدينة روينا في الصحيحين حديث «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد» ورواه رزين العبدري والجندي بالواو بدل «أو» مع أن أوفى تلك الرواية بمعنى بل، وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلّم في محبة المدينة ما لم يرد مثله لمكة؛ ففي صحيح البخاري وجامع الترمذي حديث «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع راحلته «1» ، وإن كان على دابة حركها من حبها» وفي رواية لابن زبالة «تباشرا بالمدينة» ، وفي رواية له «كان إذا أقبل من مكة فكان بالأثاية طرح رداءه عن منكبيه وقال: هذه أرواح طيبة» وقد تكرر دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم بتحبيب المدينة إليه كما سيأتي، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول، والتكرير لطلب الزيادة، وفي كتاب الدعاء للمحاملي وغيره عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه «كان إذا قدم من سفر من أسفاره فأقبل على المدينة يسير أتم السير، ويقول: اللهم اجعل لنا بها قرارا، ورزقا حسنا» .   (1) أوضع راحلته: حملها على السير السريع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم للمدينة بالبركة وفي الصحيحين حديث «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» . وفي مسلم «اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدّنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» وفيه أيضا «اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين» وفيه أيضا وفي الترمذي حديث «كان الناس إذا رأوا أول الثمرة جاؤوا به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا أخذه قال: اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا» الحديث، وهو يقتضي تكرر هذا الدعاء بتكرر ظهور التمرة والإتيان بأولها، وفي الترمذي- وقال: حسن صحيح- عن علي رضي الله عنه «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كنا بحرة السقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ائتوني بوضوء، فتوضأ ثم قال فاستقبل القبلة فقال: اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك، ودعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثلي ما باركت لأهل مكة، مع البركة بركتين» . ورواه ابن شبة في أخبار مكة بنحوه، إلا أنه قال: «حتى إذا كنا بالحرة بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ائتوني بوضوء، فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ثم قال» الحديث بنحوه، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد، ولفظه: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كنا عند السقيا التي كانت لسعد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا محمد عبدك ورسولك وإني أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم مثل ما باركت لأهل مكة، واجعل مع البركة بركتين» هكذا في النسخة التي وقعت لنا، ولعله «مثلي» كما في الرواية السابقة، ويؤخذ منه الإشارة إلى أن المدعو به ستة أضعاف ما بمكة من البركة، وفي حديث رواه ابن زبالة عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خرج إلى ناحية من المدينة، وخرجت معه، فاستقبل القبلة ورفع يديه حتى إني لأرى بياض ما تحت منكبيه، ثم قال: اللهم إن إبراهيم نبيك وخليلك دعاك لأهل مكة، وأنا نبيك ورسولك أدعوك لأهل المدينة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم، وقليلهم وكثيرهم، ضعفي ما باركت لأهل مكة، اللهم من هاهنا وهاهنا وهاهنا، حتى أشار إلى نواحي الأرض كلها، اللهم من أرادهم بسوء فأذبه كما يذوب الملح في الماء» وفي الأوسط للطبراني ورجاله ثقات عن ابن عمر قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفجر، ثم أقبل على القوم فقال: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وصاعنا» الحديث، وفي الكبير له ورجاله ثقات عن ابن عباس نحوه، وروى أحمد والبزار وإسناده حسن عن جابر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر يوما إلى الشام فقال: اللهم أقبل بقلوبهم، ونظر إلى العراق فقال: اللهم مثل ذلك، ونظر قبل كل أفق ففعل ذلك، وقال: اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض، وبارك لنا في مدنا وصاعنا» وفي الصحيحين حديث «اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم» قال القاضي في الكلام عليه: البركة هنا بمعنى النمو والزيادة، وتكون بمعنى الثبات، فقيل: يحتمل أن تكون هذه البركة دينية، وهي ما تتعلق بهذه المقادير في الزكاة والكفارات؛ فتكون بمعنى الثبات لثبات الحكم بها وبقائه ببقاء الشريعة، ويحتمل أن تكون دنيوية من تكثير الكيل والقدر بهذه الأكيال حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة، أو ترجع البركة إلى كثرة ما يكلا بها من غلاتها وثمراتها، وفي هذا كله ظهر إجابة دعوته صلّى الله عليه وسلّم وقال النووي: الظاهر أن المراد البركة في نفس المكيل في المدينة، بحيث يكفي المد فيها لمن لا يكفيه في غيرها. قلت: هذا هو الظاهر فيما يتعلق بأحاديث الكيل، وأما غيرها فعلى عمومه في سائر الأمور الدينية والدنيوية. وروينا في فضائل المدينة للجندي حديث: «اللهم حبّب إلينا المدينة، كحبنا مكة وأشد، وصححها لنا، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل حماها، واجعلها بالجحفة» وروى أحمد برجال الصحيح عن أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «صلى بأرض سعد بأصل الحرة عند بيوت السقيا، ثم قال: اللهم إن إبراهيم خليلك وعبدك ونبيك دعاك لأهل مكة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثلي ما دعاك به إبراهيم لمكة، أدعوك أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم، الله حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، واجعل ما بها من وباء بخم» الحديث، وقوله «بخم» بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم- مكان قرب الجحفة كما سيأتي في موضعه، وروى ابن زبالة حديث «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وعك فيها أصحابه» وفيه «فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، ثم رفع يده، ثم قال: اللهم انقل عنا الوباء» فلما أصبح قال: أتيت هذه الليلة بالحمى، فإذا بعجوز سوداء ملبّبة في يدي الذي جاء بها، فقال: هذه الحمى، فما ترى فيها؟ فقلت: اجعلوها بخّم» . الدعاء بنقل وبائها وفي مسلم حديث عن عائشة رضي الله عنها: «قدمنا إلى المدينة وهي وبية فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شكوى أصحابه قال: «اللهم حبّب إلينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 المدينة كما حببت مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وحوّل حمّاها إلى الجحفة» . وهو في البخاري بلفظ: «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وعك أبو بكر وبلال- رضي الله عنهما! - وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كلّ امرئ مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا قلع عنه يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنّة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حمّاها إلى الجحفة» قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجري نجلا، تعني ماء آجنا «1» . ورواه في الموطأ بزيادة: «وكان عامر بن فهيرة يقول: قد ذقت طعم الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه» ورواه ابن إسحاق بزيادة أخرى، ولفظه: «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرفه الله عن نبيه صلّى الله عليه وسلّم قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال مولى أبي بكر مع أبي بكر في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، ولهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك، فدنوت من أبي بكر، فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ أي كيف تجد نفسك، فقال: كل امرئ البيت المتقدم، فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقه «2» قالت: فقلت ما يدري عامر ما يقول، وقالت: وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته وقال:   (1) أجن الماء: تغير لونه وطعمه ورائحته، البطحان: واد بالمدينة. (2) الروق: قرن الدابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ألا ليت شعري البيتين. ورواه ابن زبالة بلفظ: «لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وعك أصحابه، فخرج يعود أبا بكر، فوجده يهجر «1» ، فقال: يا رسول الله: لقد لقيت الموت قبل ذوقه البيت المتقدم، فخرج من عنده، فدخل على بلال فوجده يهجر وهو يقول: ألا ليت شعري البيتين المتقدمين، ودخل على أبي أحمد بن جحش فوجده موعوكا، فلما جلس إليه قال: وا حبذا مكّة من وادي ... أرض بها تكثر عوّادي أرض بها تضرب أوتادي ... أرض بها أهلي وأولادي أرض بها أمشي بلا هادي فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا أن ينقل الوباء من المدينة فيجعله بخم. وفي رواية له أنه «أمر عائشة بالذهاب إلى أبي بكر ومولييه، وأنها رجعت وأخبرته بحالهم، فكره ذلك، ثم عمد إلى بقيع الخيل- وهو سوق المدينة «2» - فقام فيه ووجهه إلى القبلة، فرفع يديه إلى الله فقال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لأهل المدينة في سوقهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم، اللهم انقل ما كان بالمدينة من وباء إلى مهيعة» . قوله «رفع عقيرته» أي صوته، وقوله «بواد» روى «بفخ» وهو وادي الزاهر، والجليل- بالجيم- الثمام، ومجنة- بكسر الميم وفتحها- سوق بأسفل مكة، وقال الأصمعي: بمر الظهران، وشامة وطفيل: جبلان يشرفان على مجنة، قاله ابن الأثير، قال: ويقال «شابة» بالباء الموحدة، وهو جبل حجازي، قال المحب الطبري: وروايته بالباء الموحدة بخط شيخنا الصاغاني، وكتب عليها صح، وقال الطبري: والأشهر أنهما جبلان على مراحل من مكة من جهة اليمن، وقال الخطابي: عينان. وقوله «بطوقه» أي بطاقته، وقوله «بروقه» أي بقرنه، و «مهيعة» هي الجحفة أحد المواقيت المشهورة، وخم: بقربها، وإنما دعا صلّى الله عليه وسلّم بنقل الحمى إليها لأنها كانت دار شرك، ولم تزل من يومئذ أكثر بلاد الله حمى، قال بعضهم: وإنه ليتقى شرب الماء من عينها التي يقال لها عين خم، فقلّ من شرب منها إلا حم.   (1) هجر المريض: هذي في مرضه وفي نومه. (2) البقيع: المكان المتسع فيه أشجار مختلفة. ومقبرة أهل البقيع. وهو سوق المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وروى البيهقي حديث عائشة من طريق هشام بن عروة عن أبيه، وفيه «قال هشام: فكان المولود يولد بالجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تضرعه الحمى «1» » . وقال الخطابي: كان أهل الجحفة إذ ذاك يهودا، وقيل: إنه لم يبق أحد من أهلها إلا أخذته الحمى. قال النووي: وهذا علم من أعلام نبوته صلّى الله عليه وسلّم فإن الجحفة من يومئذ وبية، ولا يشرب أحد من مائها إلا حم. وبطحان: من أودية المدينة كما سيأتي، والماء الآجن: المتغير الطعم واللون. الوباء بالمدينة جاهلي قديم واتفق أهل الأخبار أن الوباء بالمدينة كان شديدا، حتى روى ابن إسحاق عن هشام بن عروة قال: كان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها قيل له: انهق، فينهق كما ينهق الحمار. وفي دلائل النبوة من طريق هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وهي أوبأ أرض الله، وواديها بطحان نجل يجري عليه الأثل» قال هشام: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وبيا فأشرف عليه الإنسان قيل له: انهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي، قال الشاعر حين أشرف على المدينة: لعمري لئن عشّرت من خيفة الرّدى ... نهيق الحمار إنني لجزوع قالت عائشة: فاشتكى أبو بكر، الحديث. ثنية الوداع وروى ابن شبة عن عامر بن جابر قال: كان لا يدخل المدينة أحد إلا من طريق واحد، من ثنية الوداع، فإن لم يعشّر بها- أي: ينهق كالحمار عشرة أصوات في طلق واحد- مات قبل أن يخرج منها، فإذا وقف على الثنية قيل: قد ودع، فسميت ثنية الوداع، حتى قدم عروة بن الورد العبسي، فقيل له: عشر بها، فلم يعشر، وأنشأ يقول: لعمري لئن عشّرت من خشية الردى ... نهاق الحمار إنني لجزوع ثم دخل فقال: يا معشر يهود، ما لكم وللتعشير؟ قالوا: إنه لا يدخلها أحد من غير أهلها فلم يعشّر بها إلا مات، ولا يدخلها أحد من غير ثنية الوداع إلا قتله الهزال، فلما ترك عروة التعشير تركه الناس ودخلوا من كل ناحية.   (1) أضرعته الحمّى: أوهنته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 تحويل الوباء من دلائل النبوة وتحويل الوباء من أعظم المعجزات؛ إذ لا يقدر عليه جميع الأطباء، وفي البخاري حديث «رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة» وفي الأوسط للطبراني نحوه، وفي كتاب ابن زبالة «أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما، فجاءه إنسان كأنه قدم من ناحية طريق مكة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل لقيت أحدا؟ قال: لا، إلا امرأة سوداء عريانة ثائرة الشعر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تلك الحمى، ولن تعود بعد اليوم أبدا» وفيه أيضا حديث: «اللهم حبّب إلينا المدينة، وانقل وباءها إلى مهيعة، وما بقي منه فاجعله تحت ذنب مشعط» وحديث: «إن كان الوباء في شيء من المدينة فهو في ظل مشعط» . قال المجد: هو جبل أو موضع بالمدينة. قلت: سيأتي عن ابن زبالة في المنازل أن بني حديلة ابتنوا أطمين أحدهما يقال له «مشعط» كان موضعه في غربي مسجد بني حديلة، وفي موضعه بيت يقال له بيت أتى نبيه، ثم أورد عقبه الحديث المذكور، فأفاد أنه هو المراد، وفيه أيضا حديث: «أصح المدينة من الحمى ما بين حرّة بني قريظة والعريض» وهو يؤذن ببقاء شيء من الحمى بالمدينة، وأن الذي نقل عنها أصلا ورأسا سلطانها وشدتها ووباؤها وكثرتها بحيث لا يعد ما بقي بالنسبة إليه شيئا، ويحتمل أنها رفعت أولا بالكلية، ثم أعيدت خفيفة لئلا يفوت ثوابها كما أشار إليه الحافظ بن حجر، ويدل له ما روى أحمد برجال الصحيح وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن جابر: استأذنت الحمى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: من هذه؟ فقالت: أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء، فلقوا ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فأتوه فشكوا ذلك إليه، فقال: ما شئتم، إن شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم، وإن شئتم تكون لكم طهورا، قالوا: أو تفعل؟ قال: نعم، قالوا: فدعها» ورواه الطبراني بنحوه، وقال فيه: «إن شئتم تركتموها وأسقطت بقية ذنوبكم، قالوا: فدعها يا رسول الله» وروى أحمد ورجاله ثقات حديث: أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون بالشام، فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكفار» والأقرب أن هذا كان في آخر الأمر بعد نقل الحمى بالكلية، لكن قال الحافظ ابن حجر: لما دخل صلّى الله عليه وسلّم المدينة كان في قلة من أصحابه، فاختار الحمى لقلة الموت بها على الطاعون لما فيها من الأجر الجزيل، وقضيتها إضعاف الأجساد، فلما أمر بالجهاد دعا بنقل الحمى إلى الجحفة، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الحمى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة، يعني بعد كثرة المسلمين تمييزا لها على غيرها، انتهى، وهو يقتضي عود شيء من الحمى إليها باخرة الأمر، والمشاهد في زماننا عدم خلوها عنها أصلا، لكنه كما وصف أولا، بخلاف الطاعون، فإنها محفوظة عنه بالكلية كما سيأتي، والأقرب أنه صلّى الله عليه وسلّم لما سأل ربه تعالى لأمته أن لا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعه ذلك فقال في دعائه: «فحمى إذا أو طاعونا» أراد بالدعاء بالحمى للموضع الذي لا يدخله طاعون كما سنشير إليه في الفصل الآتي؛ فيكون ما بالمدينة اليوم ليس هو حمى الوباء، بل حمى رحمة بدعائه صلّى الله عليه وسلّم كما سنوضحه، والله أعلم. الفصل الخامس في عصمتها من الدجال والطاعون حراسة المدينة من الدجال والطاعون روينا في الصحيحين وغيرهما حديث «على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال» وفيهما أيضا حديث «ليس من بلد إلا سيطؤها الدجال، إلا مكة والمدينة، ليس نقب من أنقابها إلا عليه ملائكة صافين يحرسونها، فينزل السبخة، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق» وفي رواية «فيأتي سبخة الجرف، فيخرج إليه كل منافق ومنافقة» وفي البخاري حديث «لا يدخل المدينة رعب المسيح، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان» وفي مسلم حديث «يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة حتى ينزل دبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام، وهناك يهلك» وفي الصحيحين «قصة خروج الرجل الذي هو خير الناس، أو من خير الناس، من المدينة إلى الدجال إذا نزل بعض سباخها فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» الحديث بطوله. قال معمر فيما رواه أبو حاتم: يرون هذا الرجل هو الخضر عليه السلام. وروى أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: «أشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فلق «1» من أفلاق الحرة ونحن معه، فقال: نعم الأرض المدينة، إذا خرج الدجال، على كل نقب من أنقابها ملك لا يدخلها، فإذا كان ذلك رجفت المدينة بأهلها ثلاث رجفات لا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، وأكثرهم- يعني من يخرج إليه- النساء، وذلك يوم التخليص، ذلك يوم تنفي المدينة الخبث كما ينفي   (1) الفلق: الطريق المطمئن بين الربوتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الكير خبث الحديد، يكون معه سبعون ألفا من اليهود، على كل رجل منهم ساج وسيف محلى؛ فيضرب قبته بهذا المضرب الذي بمجتمع السيول» الحديث بطوله، ولفظ الطبراني «يا أهل المدينة، اذكروا يوم الخلاص، قالوا: وما يوم الخلاص؟ قال: يقبل الدجال حتى ينزل بذباب، فلا يبقى في المدينة مشرك ولا مشركة، ولا كافر ولا كافرة، ولا منافق ولا منافقة، ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، ويخلص المؤمنون، فذلك يوم الخلاص» وروى أحمد برجال الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوم الخلاص، وما يوم الخلاص؟ ثلاثا، فقيل له: وما يوم الخلاص؟ قال: يجيء الدجال فيصعد أحدا فيقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة فيجد بكل نقب منها ملكا مصلتا، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق ولا منافقة ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه، فذلك يوم الخلاص» وقال الحافظ ابن حجر: إن أحمد والحاكم أخرجا من رواية محجن بن الأدرع رفعه «يجيء الدجال فيصعد أحدا فيطلع فينظر إلى المدينة فيقول لأصحابه: ألا ترون إلى هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة فيجد في كل نقب من أنقابها ملكا مصلتا سيفه» وبقيته بلفظ الحديث المذكور، إلا أنه قال في آخره: «فتخلص المدينة، فذلك يوم الخلاص» والمراد بالرواق الفسطاط، ولابن ماجه من حديث أبي أمامة «ينزل عند الطريق الأحمر عند منقطع السبخة» ولأحمد من حديث ابن عمر «ينزل الدجال في هذه السبخة بمرقناة» أي: ممرها، وفي عقيق المدينة للزبير بن بكار عن أبي هريرة «ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مجتمع السيول، فقال: ألا أخبركم بمنزل الدجال من المدينة؟ ثم قال: هذا منزله، يريد المدينة، لا يستطيعها، يجدها متمنطقة بالملائكة، على كل نقب من أنقابها ملك شاهر سلاحه، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، فيزلزل بالمدينة وبأصحاب الدجال زلزلة، لا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، وأكثر من يتبعه النساء، فلا يعجز الرجل أن يمسك سفيهته» . قلت: يستفاد منه أن المراد من قوله في الأحاديث المتقدمة: فترجف المدينة يعني بسبب الزلزلة، فلا يشكل بما تقدم من أنه لا يدخل المدينة رعب المسيخ الدجال فيستغنى عما جمع به بعضهم من أن الرعب المنفي هو ألايحصل لمن بها بسبب قربه منها خوف، أو هو عبارة عن غايته، وهو غلبته عليها، والمراد بالرجفة إشاعة مجيئه وأن لا طاقة لأحد به؛ فيتسارع حينئذ عليه من كان يتصف بالنفاق أو الفسق، قاله الحافظ ابن حجر، وما قدمناه أولى. وفي الأوسط للطبراني حديث «ينزل الدجال حذو المدينة، فأول من يتبعه النساء والإماء» وفي حديث رواه أحمد والطبراني واللفظ له ورجاله ثقات في وصف الدجال «ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 يسير حتى يأتي المدينة، ولا يؤذن له فيها، فيقول: هذه قرية ذاك الرجل، ثم يسير حتى يأتي الشام فيهلكه الله عز وجل عند عقبة أفيق» وروى أبو يعلى حديث الجساسة المشهور في الصحيح بإسنادين أحدهما رجاله رجال الصحيح وزاد فيه «هو المسيح تطوى له الأرض في أربعين يوما، إلا ما كان من طيبة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وطيبة المدينة، ما باب من أبوابها إلا وملك مصلت سيفه يمنعه، وبمكة مثل ذلك» وفي البخاري والترمذي حديث «المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى» . وروى أحمد ورجاله ثقات وابن شبة برجال الصحيح حديث «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك لا يدخلها الدجال ولا الطاعون» ، وروى أحمد مرسلا وابنه متصلا وكذا الطبراني ورجاله ثقات حديث «ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل خرج من بعض الأرياف، حتى إذا كان قريبا من المدينة ببعض الطريق أصابه الوباء؛ ففزع الناس؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني لأرجو ألايطلع علينا نقابها» يعني: المدينة؛ ونقابها وأنقابها: طرقها وفجاجها؛ واحدها نقب، بكسر النون. وقوله في الرواية المتقدمة «فلا يقربها الدجال ولا الطاعون» فيقتضي جواز دخول الطاعون المدينة، ويرده الجزم في سائر الأحاديث، والصواب حفظها منه كما هو المشاهد. وقد استشكل قرن الدجال بالطاعون مع أن الطاعون شهادة ورحمة فكيف يتمدح بعدمه؟ والجواب من وجوه: أحدها: أن كونه كذلك ليس لذاته، وإنما المراد ترتب ذلك عليه، وقد ثبت تفسيره من رواية أحمد «بوخز أعدائكم من الجن» ؛ فيكون الإشارة بذلك إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من الطعن، كما أن الدجال ممنوع منها، ألا ترى أن قتل الكافر المسلم شهادة، ولو ثبت لمحل أن الكفار لا تسلط عليه لحاز بذلك غاية الشرف، ثانيها: أن أسباب الرحمة لم تنحصر في الطاعون، وقد عوضهم صلّى الله عليه وسلّم عنه الحمى حيث اختارها عندما عرضا عليه كما تقدم، وهي مطهرة للمؤمن وحظه من النار، والطاعون يأتي في بعض الأعوام، والحمى تتكرر في كل حين، فيتعادلان، وفيه نظر؛ لأن تكثير أسباب الرحمة مطلوب، ولأنه لا يدفع إشكال التمدح بعدمه، ثالثها: أنه وإن اشتمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 على الرحمة والشهادة فقد ورد أن سببه أشياء تقع من الأمة كظهور بعض المعاصي، وقد روى أحمد بأسانيد حسان وصحاح عن شرحبيل بن حسنة وغيره «أنه- يعني الطاعون- رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم» وروى أحمد أيضا تفسير كونه دعوة نبيكم عن أبي قلابة بأنه صلّى الله عليه وسلّم سأل ربه عز وجل ألا يهلك أمته بستة، فأعطيها، وسأله ألا يسلط عليهم عدوّا من غيرهم، فأعطيها، وسأله ألا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، فمنعه، فقال صلّى الله عليه وسلّم في دعائه: فحمى إذا أو طاعونا» كرره ثلاثا؛ فقد تضمن الطاعون نوعا من المؤاخذة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم دعا به ليحصل كفاية إذاقة بعضهم بأس بعض، ويكون هلاكهم حينئذ بسبب لا يعصون به، بل يثابون؛ فحفظ الله تعالى بلد نبيه صلّى الله عليه وسلّم من الطاعون المشتمل على الانتقام إكراما لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وجعل لهم الحمى المضعفة للأبدان عن إذاقة بعضهم بأس بعض والمطهرة لهم؛ فقوله صلّى الله عليه وسلم «فحمى إذا» أي: للموضع الذي لا يدخله الطاعون، بل عصم منه وهو جواره الشريف، وقوله «أو طاعونا» أي للموضع الذي لم يعصم منه، وهو سائر البلاد، هذا ما ظهر لي في فهم هذه الأحاديث، وهو يقتضي شرف الحمى الواقعة بالمدينة وفضلها؛ لأنها دعوة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ورحمة ربنا أيضا؛ لأنها من لازم دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولأنها جعلت في مقابلة الطاعون الذي هو رحمة لغيرهم؛ فتكون الحمى رحمة لهم؛ فهي غير حمى الوباء الذاهبة من المدينة، رابعها- ذكره الحافظ ابن حجر نقلا عن القرطبي- وهو أن المعنى لا يدخل إلى المدينة من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس «1» ، قال الحافظ ابن حجر: وهو يقتضي أن الطاعون يدخلها في الجملة، وليس كذلك؛ فقد جزم ابن قتيبة وتبعه جمع جم من آخرهم النووي بأن الطاعون لا يدخل المدينة أصلا، ولا مكة أيضا، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه دخلها أصلا، ثم ذكر الحافظ ابن حجر الحديث المتقدم المشتمل على ذكر مكة أيضا، ثم قال: وعلى هذا فالذي نقل أنه وجد بمكة ليس كما ظن ناقله كونه طاعونا، بل وباء، وهو أعم من الطاعون، أو يجاب بجواب القرطبي المتقدم، قال: ولعله بنى جوابه على أن الطاعون ما ينشأ عن فساد الهوى فيقع به الموت الكثير، وليس كذلك؛ ففي الصحيح قول أبي الأسود: قدمت المدينة وهم يموتون بها موتا ذريعا؛ فهذا وقع بالمدينة وهو وباء، ولكن الشأن في تسميته طاعونا، قال: والحق أن المراد بالطاعون في هذه الأحاديث الذي ينشأ   (1) عمواس: كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 عن طعن الجن فيهيج به الدم في البدن فيقتل، فهذا لم يدخل المدينة قط. قلت: نقل الزركشي عن القرطبي أنه فسر الطاعون بالموت العام الفاشي، وهو صريح في أنه أراد ما فهمه عنه الحافظ ابن حجر، ويرده قوله في الحديث المتقدم «حتى إذا كان قريبا من المدينة ببعض الطريق أصابه الوباء فأفزع الناس» فإن المراد فيه بالوباء الطاعون المعروف بعلاماته عندهم، وإلا فموت الشخص الواحد لا يفزع ولا يسمى موتا عاما، ويبعد جعل الموت العام بمجرده شهادة، وقد أخبر بعض الأولياء بمشاهدة الجن يقظة يطعنون الناس في بعض سني الطاعون، ورأيته أنا كذلك مناما، ورأيت أن بيني وبينهم حائلا، فحماني الله منه في تلك السنة، على أنه لو سلّم أن المراد ما ذكره القرطبي فالإشكال المتقدم باق؛ إذ يقال: لم لم يكثر بالمدينة وهو رحمة؟ فالحق ما قدمناه، وهذا- كما قال بعضهم- من المعجزات العظيمة المستمرة التي هي من أعلام نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأن الأطباء بأجمعهم قد عجزوا عن دفع الطاعون عن بلد ما في دهر من الدهور. وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة، مع أنه يقع بالحجاز الشريف، ويدخل قرية الينبع وجدة والفرع والصفراء والخيف وغير ذلك من الأماكن القريبة من المدينة، ولا يدخلها هي كما شاهدنا ذلك في طاعون أواخر سنة إحدى وثمانين وثمانمائة مع أوائل التي بعدها؛ فإنه عم أكثر الأماكن القريبة من المدينة، وكثر بجدة، واختلف في دخوله مكة، والذي تحققناه كثرة الموت بها في ذلك الزمان، وكثرت الحمى بالمدينة، لكن لم يكثر بها موت، وبالجملة فهي محفوظة منه أتم الحفظ؛ فلله الحمد والمنة. الفصل السادس في الاستشفاء بترابها، وبتمرها ، وما جاء فيه ما جاء في أن ترابه شفاء روينا في كتاب ابن النجار والوفاء لابن الجوزي حديث «غبار المدينة شفاء من الجذام» وفي جامع الأصول لابن الأثير وبيّضا لمخرجه عن سعد رضي الله عنه قال: «لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تبوك تلقاه رجال من المخلّفين من المؤمنين، فأثاروا غبارا، فخمر- أو فغطى- بعض من كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنفه، فأزال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللثام عن وجهه، وقال: والذي نفسي بيده إن في غبارها شفاء من كل داء» قال: وأراه ذكر «ومن الجذام والبرص» وقد أورده كذلك رزين العبدري في جامعه، وهو مستند ابن الأثير في إيراده، قال الحافظ المنذري: ولم أره في الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الاستشفاء بتراب صعيب وروى ابن رزين أيضا عن ابن عمر نحوه، إلا أنه قال: «فمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده فأماطه عن وجهه، وقال: أما علمت أن عجوة المدينة شفاء من السقم، وغبارها شفاء من الجذام» ورواه ابن زبالة مختصرا عن صيفي بن أبي عامر، ولفظه «والذي نفسي بيده إن تربتها لمؤمنة، وإنها شفاء من الجذام» وروي أيضا عن أبي سلمة: بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «غبار المدينة يطفي الجذام» . قلت: وقد رأينا من استشفى بغبارها من الجذام، وكان قد أضرّ به كثيرا؛ فصار يخرج إلى الكومة البيضاء ببطحان بطريق قباء ويتمرغ بها ويتخذ منها في مرقده، فنفعه ذلك جدّا. وروى ابن زبالة ويحيى بن الحسن بن جعفر العلوي وابن النجار كلاهما من طريقه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى بلحارث، فإذا هم روبى «1» ، فقال: ما لكم يا بني الحارث روبى؟ قالوا: أصابتنا يا رسول الله هذه الحمى، قال: فأين أنتم عن صعيب؟ قالوا: يا رسول الله ما نصنع به؟ قال: تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء، ثم يتفل عليه أحدكم ويقول: بسم الله، تراب أرضنا، بريق بعضنا، شفاء لمريضنا، بإذن ربنا، ففعلوا، فتركتهم الحمى» قال ابن النجار عقبه: قال أبو القاسم طاهر بن يحيى العلوي: صعيب: وادي بطحان دون الماجشونية، وفيه حفرة مما يأخذ الناس منه، وهو اليوم إذا وبأ إنسان أخذ منه. قلت: قد رأيت ذلك في نسخة كتاب يحيى التي رواها ابنه طاهر بن يحيى عنه، والماجشونية هي الحديقة المعروفة اليوم بالمدشونية، وقال ابن النجار عقبه: وقد رأيت أنا هذه الحفرة اليوم، والناس يأخذون منها، وذكروا أنهم قد جربوه فوجدوه صحيحا، قال: وأخذت أنا منه أيضا. قلت: وهذه الحفرة موجودة اليوم، مشهورة سلفا عن خلف، يأخذ الناس منها وينقلونه للتداوي، وقد بعثت منها لبعض الأصحاب أخذا مما ذكروه في أخذ نبات الحرم للتداوي، ثم رأيت الزركشي قد قال: ينبغي أن يستثنى من منع نقل تراب الحرم تربة حمزة رضي الله عنه؛ لإطباق السلف والخلف على نقلها للتداوي من الصداع، فقلت عند الوقوف عليه: أين هو من تراب صعيب لما قدمناه فيه؟ بخلاف ما ذكره إذ لا أصل له، وذكر المجد أن جماعة من العلماء ذكروا أنهم جربوا تراب صعيب للحمى فوجدوه صحيحا، قال: وأنا بنفسي سقيته غلاما لي مريضا من نحو سنة تواظبه الحمى، فانقطعت عنه من يومه، وذكر المجد أيضا في موضع آخر كيفية الاستشفاء به أنه يجعل في الماء ويغتسل به، وكذا ذكره الجمال المطري عند ذكر صعيب فقال: وفيه حفرة يؤخذ من ترابها ويجعل في الماء ويغتسل به من الحمى. قلت: فينبغي أن يجعل في الماء ثم يتفل عليه، وتقال الرقية الواردة، ثم يجمع بين الشرب والغسل منه، ويستأنس للغسل بما رويناه عن جزء وأبي مسعود بن   (1) روبى: (ج) روبان: من فترت نفسه من نعاس ومرض، فاختلط عقله ورأيه من شدة الإعياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الفرات الرازي عن ثابت بن قيس «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عاده وهو مريض فقال: أذهب الباس ربّ الناس «1» ، عن ثابت بن قيس بن شماس، ثم أخذ كفا من بطحاء، فجعله في قدح من ماء، ثم أمر فصب عليه» وفي الصحيحين حديث «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح قال بأصبعه هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها، وقال: بسم الله، تربة أرضنا، بريق بعضنا، يشفي سقيمنا، بإذن ربنا» ورواه أبو داود بنحوه، وفي رواية «يقول بريقه، ثم قال به في التراب: تربة أرضنا» وروى ابن زبالة «أن رجلا أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبرجله قرحة، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرف الحصير، ثم وضع أصبعه التي تلي الإبهام على التراب بعدما مسها بريقه، وقال: بسم الله، ريق بعضنا، بتربة أرضنا، ليشفي سقيمنا، بإذن ربنا، ثم وضع أصبعه على القرحة، فكأنما حل من عقال» وروى أيضا حديث «تراب أرضنا، شفاء لقرحنا، بإذن ربنا» وأن أم سلمة كانت تنعت من القرحة تراب الضبة. ما جاء في أن تمرها شفاء وفي مسلم حديث «من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره شيء حتى يمسي» وفي الصحيحين حديث «من تصبّح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر» ورواه أحمد برجال الصحيح بلفظ «من أكل سبع تمرات عجوة مما بين لابتي المدينة على الريق لم يضره يومه ذلك شيء حتى يمسي» قال فليح: وأظنه قال «وإن أكلها حين يمسي لم يضره شيء حتى يصبح» ورواه ابن زبالة بلفظ «من تصبح بسبع تمرات من العجوة» لا أعلمه إلا قال «من العالية لم يضره يومئذ سم ولا سحر» وفي صحيح مسلم حديث «إن في عجوة العالية شفاء، أو إنها ترياق أول البكرة» وروى أحمد برجال الصحيح حديثا فيه «واعلموا أن الكمأة دواء العين، وأن العجوة من فاكهة الجنة» وروى النسائي وأبو داود الطيالسي والطبراني في الثلاثة بسند جيد حديث «الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة، وهي شفاء من السم» وقد صح في سنن أبي داود عن سعد بن أبي وقاص قال «مرضت مرضا، فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، فقال: إنك رجل مفؤد، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه رجل يتطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة، فليجأهن «2» ثم ليلدّك بهن» ورواه الطبراني لكن عن سعد بن أبي رافع. قوله «فليجأهن» أي فليدقهن، قال عياض: وقال ابن الأثير فليجأهن أي: فليدقهن،   (1) الباس: الشدة، والعذاب الشديد. ويضرب لكل شيء يخاف منه الشر. (2) وجأ التمر: دقّه حتى تلزّج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وبه سميت الوجيئة، وهو تمر يبل بلبن ثم يدق حتى يلتئم «1» ، ومنه الحديث «أنه دعا سعدا فوصف له الوجيئة» وقوله «ثم ليلدك» أي: يسقيك، يقال: لدّه باللّدود، إذا سقاه الدواء في أحد جانبي الفم. وفي كامل ابن عدي حديث «ينفع من الدؤام أن يأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة كل يوم يفعل ذلك سبعة أيام» وفي غريب الحديث للخطابي عن عائشة رضي الله عنهما «أنها كانت تأمر للدؤام والدوار بسبع تمرات عجوة في سبع غدوات على الريق» والدؤام والدوار: ما يأخذ الإنسان في رأسه فيدومه، ومنه تدويم الطائر، وهو: أن يستدير في طيرانه، قال الخطابي: كون العجوة عوذة من السم والسحر إنما هو من طريق التبرك بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا لأن طبعها يفعل شيئا، وقال النووي: في تخصيصها دون غيرها وعدد السبع من الأمور التي علمها الشارع، ولا نعلم نحن حكمتها؛ فيجب الإيمان بها، واعتقاد فضلها، وما ذكره المازري والقاضي في هذا باطل، وقصدت بذلك التحذير من الاغترار به، انتهى. وأشار به لقول القاضي في أثناء تعليل ذلك: إنه لتأثير في الأرض أو الهواء، ولقول المازري: لعل ذلك كان لأهل زمنه صلّى الله عليه وسلّم خاصة، أو لأكثرهم؛ إذ لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زمننا غالبا، وإن وجد ذلك في الأكثر حمل على أنه أراد وصف غالب الحال، انتهى. وقد جعله ابن التين احتمالا، وزاد عليه آخر أعجب منه، فقال: يحتمل أن يكون المراد نخلا خاصّا من المدينة لا يعرف الآن، ويحتمل: أن يكون ذلك خاصّا بزمانه صلّى الله عليه وسلّم انتهى. وهو مردود؛ لأن سوق الأحاديث وإيراد العلماء لها وإطباق الناس على التبرك بعجوة المدينة وتمرها يرد التخصيص بزمنه صلّى الله عليه وسلّم مع أن الأصل عدمه، ولم تزل العجوة معروفة بالمدينة يأثرها الخلف عن السلف، يعلمها كبيرهم وصغيرهم علما لا يقبل التشكيك. وقال الداودي: هي من أوسط التمر كما هو المشاهد اليوم. وقال غيره: هي من أجود تمر المدينة، ومراده أنها ليست من رديه. وقال ابن الأثير: العجوة ضرب من التمر أكبر من الصّيحاني يضرب إلى السواد، وهو مما غرسه النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده بالمدينة. وذكر هذا الأخير البزار أيضا، فلعل الأوداء «2» التي كاتب سلمان الفارسي أهله عليها وغرسها صلّى الله عليه وسلّم بيده الشريفة بالفقير أو غيره من العالية كانت عجوة، والعجوة «3» توجد بالفقير   (1) الوجيئة: تمر يدق حتى يخرج نواه، ثم يبل بلبن أو سمن حتى يلزم بعضه بعضا، ثم يؤكل. (2) الأوداء: صغار الفسيل. (3) العجوة: ضرب من أجود التمر بالمدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 إلى يومنا هذا، ويبعد أن يكون المراد أن هذا النوع إنما حدث بغرسه صلّى الله عليه وسلّم وأن جميع ما يوجد منه من غرسه كما لا يخفى. وروى ابن حبان عن ابن عباس ل «كان أحب التمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العجوة» وفي حديث ضعيف «خير تمركم البرني، يخرج الداء، ولا داء فيه» ورواه ابن شبة بنحوه خطابا لوفد عبد القيس في ثمارهم، وكذا الحاكم في مستدركه، وفي مسلم حديث «يا عائشة بيت لا تمر فيه جياع أهله» قالها مرتين أو ثلاثا، وفيه أيضا حديث «لا يجوع أهل بيت عندهم التمر» وفي الكبير والصغير للطبراني ورجال الصغير رجال الصحيح عن ابن عباس «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بالباكورة من الثمار وضعها على عينيه ثم قال: اللهم كما أطعمتنا أوله فأطعمنا آخره، ثم يأمر به للمولود من أهله» ولفظ الكبير «كان إذا أتى بالباكورة من التمر قبّلها وجعلها على عينيه» الحديث، وفي نوادر الحكيم الترمذي عن أنس بن مالك قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى بالباكورة من كل شيء قبّلها ووضعها على عينه اليمنى ثلاثا، ثم على عينه اليسرى ثلاثا، ثم يقول: اللهم» الحديث بنحوه. وروى البزار بسند فيه ضعيف حديث «يا عائشة إذا جاء الرطب فهنيني» ورويناه في الغيلانيات، وفيها أيضا حديث «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يفطر على الرطب في أيام الرطب، وعلى التمر إذا لم يكن رطب، ويختم بهن، ويجعلهن وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا» وفيها حديث «كلوا التمر على الريق؛ فإنه يقتل الدود» . وأنواع تمر المدينة كثيرة، ذكرنا ما أمكن جمعه منها في الأصل فبلغ مائة وبضعا وثلاثين نوعا: منها النوع المسمى بالصّيحاني، وقد أسند الصدر إبراهيم بن محمد بن مؤيد الحموي في كتابه فضل أهل البيت عن جابر رضي الله عنه قال «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما في بعض حيطان المدينة، ويد علي في يده، قال: فمررنا بنخل، فصاح النخل: هذا محمد سيد الأنبياء، وهذا علي سيد الأولياء أبو الأئمة الطاهرين، ثم مررنا بنخل فصاح النخل: هذا محمد رسول الله، وهذا علي سيف الله، فالتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى علي، فقال له: يا علي سمّه الصيحاني، فسمي من ذلك اليوم الصيحاني» وهو حديث غريب؛ فكان هذا سبب تسمية ذلك النوع بهذا الاسم؛ لأن تلك النخلات كانت منه، ويحتمل أن يكون المراد تسمية ذلك الحائط بهذا الاسم، وبالمدينة اليوم موضع بجفاف يعرف بالصيحاني. وروى بعضهم هذا الحديث عن علي بألفاظ فيها نكارة، وفي آخره «يا علي سمّ نخل المدينة صيحانيا لأنهن صحن بفضلي وفضلك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الفصل السابع في سرد خصائصها وهي كثيرة لا تكاد تنحصر، وها أنا ذاكر ما حضرني منها الآن وإن شاركتها مكة في بعضه، فأقول وبالله التوفيق: الخاصة الأولى: ما تقدمت الإشارة إليه من كونه صلّى الله عليه وسلّم خلق من طينتها، وكذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأكثر الصحابة والسلف ممن دفن بها وروى أن الله تعالى بعث جبريل وميكائيل ليقبضا قبضة من الأرض بقدميه، فصار بعض الأرض بين قدميه وبعض الأرض موضع أقدامه، فخلقت النفس مما مس قدم إبليس؛ فصارت مأوى الشر، ومن التربة التي لم يصل إليها قدم إبليس أصل الأنبياء والأولياء. قال في العوارف: وكانت درة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موضع نظر الله تعالى من قبضة عزرائيل لم يمسها قدم إبليس. وقيل: لما خاطب الله السموات والأرض بقوله: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصلت: 11] الآية أجاب من الأرض موضع الكعبة ومن السماء ما يحاذيها. وعن ابن عباس: أصل طينة النبي صلّى الله عليه وسلّم من سرة الأرض بمكة، يعني الكعبة، وهو مشعر بأن ما أجاب من الأرض درته صلّى الله عليه وسلّم ومن الكعبة دحيت الأرض؛ فصار صلّى الله عليه وسلّم هو الأصل في التكوين. قال في العوارف عقبه: وتربة الشخص مدفنه، فكان مقتضى ذلك أن يكون مدفنه هناك، لكن قيل: لما تموج الماء رمى الزبد إلى النواحي، فوقعت جوهرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ما يحاذي تربته الشريفة بالمدينة، فكان مكيا مدنيا. قلت: فلمكة الفضل بالبداية، وللمدينة بالاستقرار والنهاية. الثانية: اشتمالها على البقعة التي انعقد الإجماع على تفضيلها على سائر البقاع، كما تقدم تحقيقه. الثالثة: دفن أفضل الأمة بها والكثير من الصحابة الذين هم خير القرون. الرابعة: أنها محفوفة بأفضل الشهداء الذين بذلوا نفوسهم في ذات الله بين يدي نبيه صلّى الله عليه وسلّم؛ فكان شهيدا عليهم. ونقل عياض في المدارك وابن الجوزي في منسكه أن مالكا كان يقول في فضل المدينة: هي دار الهجرة والسنة، وهي محفوفة بالشهداء، وبها خيار الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الخامسة: أن الله تعالى اختارها دارا وقرارا لأفضل خلقه وأكرمهم عليه صلّى الله عليه وسلّم. السادسة: أن الله تعالى اختار أهلها للنصرة والإيواء. السابعة: أن سائر البلاد افتتحت بالسيف، وافتتحت هي بالقرآن، كما هو مروي عن مالك، ورفعه ابن زبالة من طريقه. الثامنة: أن الله تعالى افتتح منها سائر بلاد الإسلام، حتى مكة المشرفة، وجعلها مظهر دينه القويم. التاسعة: ما ذكره عياض من الاتفاق على وجوب الهجرة إليها قبل فتح مكة، ووجوب سكناها لنصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومواساته بالأنفس، قال ومن هاجر قبل الفتح فالجمهور على منعه من الإقامة بمكة بعد الفتح، ورخص له في الإقامة ثلاثة أيام بعد قضاء نسكه. العاشرة: أنه يبعث أشراف هذه الأمة يوم القيامة منها، على ما نقله عياض في المدارك عن مالك في ضمن أشياء في فضل المدينة، قال وهذا لا يقوله مالك من عند نفسه. الحادية عشرة: ما تقدم في الأسماء من تسميتها بالمؤمنة والمسلمة، وإن ترتبتها لمؤمنة، وأنه لا مانع من أن الله خلق ذلك فيها. الثانية عشرة: إضافتها إلى الله تعالى في قوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً [النساء 97] على ما تقدم في الأسماء، وقد جاءت الأرض غير مضافة إلى الله تعالى والمراد بها مكة، وذلك في قوله تعالى وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال 26] . الثالثة عشرة: إضافة الله إياها إلى رسوله بلفظ البيت في قوله كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال 5] على ما تقدم في الأسماء. الرابعة عشرة: إقسام الله تعالى بها في قوله لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد 1] على ما سبق في الأسماء، أي نحلف لك بهذا البلد الذي شرفته بك، و «لا» زائدة للتأكيد، ويدل عليه قراءة الحسن والأعمش «لأقسم» . الخامسة عشرة: أن الله بدأ بها في قوله وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء 80] فمدخل صدق هي، ومخرجه مكة كما تقدم، مع أن القياس البداءة بالمخرج لموافقة الواقع. فإن قيل التقديم للاهتمام بأمر المدخل، قلنافي الاهتمام به كفاية. السادسة عشرة: تسميتها في التوراة بالمرحومة ونحوه، ومخاطبة الله إياها كما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 السابعة عشرةدعاؤه صلّى الله عليه وسلّم بحبها كمكمة وأشد، وتسميتها بالحبيبة وغيره مما تقدم، ودعاؤه أن يجعل الله له بها قرارا ورزقا حسنا. الثامنة عشرة: تحريكه صلّى الله عليه وسلّم دابته أو إيضاعها إذا أبصر جدرانها عند قدومها، وأنه كان إذا أقبل من مكة فكان بالأثاية طرح رداءه عن منكبيه وقال «هذه أرواح طيبة» كما تقدم. التاسعة عشرة: اهتمامه صلّى الله عليه وسلّم بأمر الدعاء لها بالبركة وغير ذلك. العشرون: تحريمها على لسان أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه إكراما له، وكونه لا جزاء فيها على القول به دليل عظيم حرمتها حيث لم يشرع فيها جابر. الحادية والعشرون تأسيس مسجدها الشريف على يده صلّى الله عليه وسلّم وعمله فيه بنفسه، ومعه خير الأمة المهاجرون الأولون والأنصار المقدمون. الثانية والعشرون: اختصاصها بالمسجد الذي أنزل الله فيه لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة 108] . الثالثة والعشرون: كون ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة، وفي رواية «ما بين منبري وهذه الحجر» يعني حجره صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي بيان أن ذلك يعم مسجده صلّى الله عليه وسلّم على ما هو المشهور بين الناس في تحديد المسجد الشريف؛ ولهذا قال بعضهم هذا المسجد هو المسجد الذي لا تعرف بقعة في الأرض من الجنة غيره. الرابعة والعشرون: كون منبره الشريف على ترعة من ترع الجنة، وأن قوائمه رواتب في الجنة، وفي رواية «ومنبري على حوضي» . الخامسة والعشرون: ما ورد في مسجده الشريف من المضاعفة الآتي بيانها. السادسة والعشرون: حديث «من صلّى في مسجدي هذا أربعين صلاة كتب له براءة من النار، وبراءة من العذاب، وبرئ من النفاق» رواه الطبراني في الأوسط. السابعة والعشرون: ما سيأتي أن من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة فيه كان بمنزلة حجة، وأن الخارج إليه من حين يخرج من منزله فرجل تكتب حسنة ورجل تحط خطيئة. الثامنة والعشرون: أن إتيان مسجد قباء يعدل عمرة كما سيأتي. التاسعة والعشرون: حديث «صيام شهر رمضان في المدينة كصيام ألف شهر فيما سواها، وصلاة الجمعة في المدينة كألف صلاة فيما سواها» فسائر أفعال البر كذلك كما قيل به في مكة، وبه صرح أبو سليمان داود الشاذلي في الانتصار، ثم رأيته في الإحياء، قال إن الأعمال في المدينة تتضاعف، قال صلّى الله عليه وسلّم «صلاة في مسجدي هذا» الحديث، ثم قال فكذلك كل عمل بالمدينة بألف انتهى، وقال ابن الرفعة في المطلب وقد ذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 بعض العلماء إلى أن الصيام بالمدينة أفضل من الصلاة، والصلاة بمكة أفضل من الصيام، مراعاة لنزول فرضيتهما، انتهى. قلت: ويؤخذ من هذه العلة أن كل عبادة شرعت بالمدينة فهي بها أفضل منها بمكة، ولك أن تعد هذا خاصة مستقلة. الثلاثون: حديث «لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق» . الحادية والثلاثون: تأكد التعلم والتعليم بمسجدها كما سيأتي. الثانية والثلاثون: اختصاصه بمزيد الأدب وخفض الصوت؛ لكونه بحضرة سيد المرسلين، واختصاصه عند بعضهم بمنع أكل الثوم ونحوه من دخوله؛ لاختصاصه بملائكة الوحي. الثالثة والثلاثون: أنه لا يجتهد في محرابه؛ لأنه صواب قطعا؛ فلا مجال للاجتهاد فيه حتى باليمنة واليسرة، بخلاف محاريب المسلمين، والمراد مكان مصلاه صلّى الله عليه وسلّم قال الرافعي وفي معناه سائر البقاع التي صلّى فيها صلّى الله عليه وسلّم إذا ضبط المحراب، قلت وفي ضبطه بغيرها عسر أو تعذر. الرابعة والثلاثون: أن ما بين منبره صلّى الله عليه وسلّم ومسجد المصلى روضة من رياض الجنة، وهذا جانب كبير من هذه البلدة. الخامسة والثلاثون: حديث «أحد على ترعة من ترع الجنة» وحديث «أحد جبل يحبنا ونحبه» . السادسة والثلاثون: حديث «إن بطخان على ترعة من ترع الجنة» . السابعة والثلاثون: وصف العقيق بالوادي المبارك، وأنه صلّى الله عليه وسلّم يحبه، وفي رواية «يحبنا ونحبه» . الثامنة والثلاثون: حثه صلّى الله عليه وسلّم على الإقامة بها. التاسعة والثلاثون: حثه على اتخاذ الأصل بها. الأربعون: حثه على الموت بها، والوعد على ذلك بالشفاعة أو الشهادة أو هما. الحادية والأربعون: حرصه صلّى الله عليه وسلّم على موته بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 الثانية والأربعون: كون أهلها أول من يشفع لهم، واختصاصهم بمزيد الشفاعة والإكرام كما تقدم. الثالثة والأربعون: بعث الميت بها من الآمنين على ما سيأتي. الرابعة والأربعون: أنه يبعث من بقيعها سبعون ألفا على صورة القمر يدخلون الجنة بغير حساب، ومثله في مقبرة بني سلمة، وتوكل ملائكة بمقبرة البقيع كلّما امتلأت أخذوا بأطرافها فكفؤها في الجنة. الخامسة والأربعون: بعث أهلها من قبورهم قبل سائر الناس. السادسة والأربعون: شهادته- أو شفاعته- صلّى الله عليه وسلّم لمن صبر على لأوائها وشدتها. السابعة والأربعون: وجوب شفاعته صلّى الله عليه وسلّم لمن زاره بها. الثامنة والأربعون: استجابة الدعاء بها عند القبر الشريف، ويقال إنه مستجاب عند الأسطوان المخلق، وعند المنبر، وفي زاوية دار عقيل بالبقيع، وبمسجد الفتح بعد صلاة الظهر يوم الأربعاء، واستجابة الدعاء بمسجد الإجابة ومسجد السقيا وبالمصلى عند القدوم، وعند بركة السوق في يوم العيد، وعند أحجار الزيت وبالسوق، لما سيأتي عند ذكر هذه الأماكن من ورود ذلك عنه صلّى الله عليه وسلّم بها. التاسعة والأربعون: كونها تنفي خبثها. الخمسون: كونها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة. الحادية والخمسون: الوعيد الشديد لمن ظلم أهلها أو أخافهم. الثانية والخمسون: من أرادها وأهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء، وفي رواية أذابه الله في النار، ويؤخذ من ترتيب الوعيد على الإرادة مساواة المدينة لحرم مكة في هذا، وفيه قال تعالى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الحج 25] الآية، ويتمسك للمساواة أيضا بقوله صلّى الله عليه وسلّم «كما حرم إباهيم مكة» فقول ابن مسعودما من بلدة يؤاخذ العبد فيها بالهم قبل الفعل إلا مكة وتلا الآية مشكل، وأيضا فالهم العارض الوارد من غير عزم لا مؤاخذة به مطلقا بالاتفاق، وأما الثابت الذي يصحبه التصميم فالعبد مؤاخذ به بمكة وبغيرها، وإنما خصوصية الحرم تعظيم العذاب لمن همّ فيه لجرأته؛ ولذا روى أحمد في معنى الآية بإسناد صحيح مرفوعا «لو أن رجلا همّ فيه بإلحاد وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذابا أليما» . الثالثة والخمسون: الوعيد الشديد لمن أحدث بها حدثا أو آوى محدثا، وتقدم تفسير الحديث بالإثم مطلقا، وأنه دال على أن الصغيرة بها كبيرة؛ وللوعيد الشديد في ذلك؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 لأنها حضرة أشرف المرسلين صلّى الله عليه وسلّم وسوء الأدب على بساط الملك ليس كالإساءة في أطراف المملكة. قال بعض السلف: إياك والمعصية فإن عصيت ولا بد فليكن في مواضع الفجور، لا في مواضع الأجور؛ لئلا يتضاعف عليك الوزر، أو تعجل لك العقوبة. فإن قيل هذا قول بتضعيف السيئات في الحرم، والراجح خلافه؛ لقوله تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام: 160] . قلنا: تحرير النزاع أن القائل بالمضاعفة أراد مضاعفة مقدارها: أي: عظمها، لا العدد، فإن السيئة جزاؤها سيئة، لكن السيئات قد تتفاوت عقوبتها باختلاف الأشخاص والأماكن، كما أن تقدير كل أحد بما يليق به في الزجر، فجزء السيئة مثلها، ومن المماثلة رعاية ما اقترن بها مما دل على جرأة مرتكبها، ولا تكتب إلا واحدة، والله أعلم. الرابعة والخمسون: الوعيد لمن لم يكرم أهلها وأن إكرامهم وحفظهم حق على الأمة، وأنه صلّى الله عليه وسلّم شفيع- أو شهيد- لمن حفظهم فيه. الخامسة والخمسون: حديث «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبيّ» . السادسة والخمسون: حديث «من غاب عن المدينة ثلاثة أيام جائها وقلبه مشرب جفوة» » وإنه «لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله تعالى فيها خيرا منه» كما في حديث مسلم، قال المحب الطبري: فيه إشعار بذم الخروج منها، وذهب بعضهم إلى أنه مخصوص بمدة حياته صلّى الله عليه وسلّم فأما بعد وفاته فقد خرج نفر كثير من كبار الصحابة، وذهب آخرون إلى أنه عام أبدا، قال الطبري: وهو ظاهر اللفظ، نعم هو مخصوص بالمستوطن، لا من نوى الإقامة بها مدة ثم ينقلب إلى وطنه. السابعة والخمسون: إكرام الله لها بنقل وبائها وتحويل حماها. الثامنة والخمسون: الاستشفاء بترابها، وما تقدم في ثمارها. التاسعة والخمسون: عصمتها من الطاعون. الستون: عصمتها من الدجال، وخروج الرجل الذي هو خير الناس- أو من خير الناس- إليه منها، وقوله له: أشهد أنك الدجال، وأنه لا يسلّط عليه باخرة الأمر، وبهذا تتميز على مكة، والسر فيه أن سيد المرسلين- وهو حجة الله على العباد- بالمدينة. الحادية والستون: ما في حديث الطبراني من قوله صلّى الله عليه وسلّم «وحق على كل مسلم زيارتها» . الثانية والستون: سماعه صلّى الله عليه وسلّم سلام من سلّم وصلاة من صلّى عليه عند قبره الشريف، ورده عليه.   (1) مشرب الرجل: ميله وهواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الثالثة والستون: اختصاصها بملك الإيمان والحياء، كما تقدم في الأسماء. الرابعة والستون: كون الإيمان يأزر إليها. الخامسة والستون: اشتباكها بالملائكة وحراستهم لها. السادسة والستون: كونها أول أرض اتخذ بها مسجد لعامة المسلمين في هذه الأمة. السابعة والستون: كون مسجدها آخر مساجد الأنبياء، وآخر المساجد التي تشد إليها الرحال، وكونه أحق المساجد أن يزار كما سيأتي. الثامنة والستون: كثرة المساجد والمشاهد والآثار بها، بل البركة عامة منبثة بها، ولهذا قيل لمالك: أيما أحب إليك المقام هنا يعني المدينة أو بمكة؟ فقال: هاهنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلك عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عليه السلام ينزل عليه من عند رب العالمين في أقل من ساعة؟ التاسعة والستون: ما يوجد بها من رائحة الطيب الزكية، على ما تقدم في الأسماء. السبعون: طيب العيش بها، على ما تقدم هناك أيضا. الحادية والسبعون: استحقاق من عاب تربتها للتعزير؛ فقد أفتى مالك فيمن قال «تربة المدينة رديئة» بأن يضرب ثلاثين درة، وأمر بحبسه، وكان له قدر، وقال: ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم يزعم أنها غير طيبة؟ الثانية والسبعون: الوعيد الشديد لمن حلف يمينا فاجرة عند منبرها. الثالثة والسبعون: استحباب الدخول لها من طريق والرجوع في أخرى، لما سيأتي في مسجد المعرّس «1» . الرابعة والسبعون: استحباب الاغتسال لدخولها. الخامسة والسبعون: استحباب الدعاء والطلب من الله الموت بها. السادسة والسبعون: أنها دار إسلام أبدا؛ لحديث «إن الشياطين قد يئست أن تعبد ببلدي هذا» . السابعة والسبعون: أنها آخر قرى الإسلام خرابا، رواه الترمذي وقال: حسن غريب، ورواه ابن حبان بلفظ «آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة» . الثامنة والسبعون: تخصيص أهلها بأبعد المواقيت وأفضلها؛ تعظيما لأجورهم. التاسعة والسبعون: ذهب بعض السلف إلى تفضيل البداءة بالمدينة قبل مكة، وهي مسألة عزيزة، وممن نص عليها ابن أبي شيبة في مصنفه فروى عن علقمة والأسود وعمرو بن ميمون أنهم بدؤوا بالمدينة قبل مكة، وأن نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا   (1) المعرّس: المكان ينزل فيه المسافر آخر الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 يبدؤون بالمدينة، وفي المناسك الكبير للإمام أحمد رواية ابنه عنه: سئل عمن يبدأ بالمدينة قبل مكة، فذكر بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد وعطاء ومجاهد قالوا: إذا أردت مكة فلا تبدأ بالمدينة وابدأ بمكة، فإذا قضيت حجك فامرر بالمدينة إن شئت، وعن إبراهيم النخعي ومجاهد: إذا أردت مكة للحج والعمرة فاجعل كل شيء لها تبعا، ثم روى أن نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يبدؤون بالمدينة إذا حجوا، يقولون: نبدأ من حيث أحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قلت: وهذا أرجح؛ لتفضيل ميقات المدينة، وإتيان المدينة أولا وصلة إليه، مع ما فيه من البداءة بزيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإيثارها، ولعله السبب عند من بدأ بالمدينة ممن تقدم ذكره من التابعين كما قال السبكي. ونقل الزركشي عن العبدي شارح الرسالة من المالكية أنه قال: المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس، انتهى. والخلاف فيما إذا لم تكن المدينة على طريقه؛ لأن مأخذ من رجّح البداءة بمكة المبادرة إلى قضاء الفرض، ولهذا قال الموفق ابن قدامة: قال أحمد: وإذا حج الذي لم يحج قط- يعني من غير طريق الشام- لا يأخذ على طريق المدينة؛ لأني أخاف أن يحدث به حدث، فينبغي أن يقصد مكة من أقصر الطرق ولا يتشاغل بغيره، قال السبكي: وهو في العمرة متجه؛ لإمكان فعلها متى وصل، وأما الحج فله وقت مخصوص فإذا كان متسعا لم يفت بمروره بالمدينة شيء. قلت: ومع ذلك فهو في الفرض، ولهذا قال في الفصول: نقل صالح وأبو طالب: إذا حج للفرض لم يمر بالمدينة؛ لأنه إن حدث به حدث الموت كان في سبيل الحج، وإن كان تطوعا بدأ بالمدينة، انتهى. وممن نص على المسألة أيضا الإمام أبو حنيفة على ما نقله أبو الليث السمرقندي، وقال: إن الأحسن البداءة بمكة. الثمانون: اختصاص أهلها في قيام رمضان بستّ وثلاثين ركعة، على المشهور عند الشافعية، قال الرافعي والنووي: قال الشافعي: رأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعة، منها ثلاث للوتر، قال أصحابنا: وليس لغير أهل المدينة ذلك؛ لشرفهم بمهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقبره، ثم قال الرافعي: وسبب فعل أهل المدينة ذلك أن الركعات العشرين خمس ترويحات، وكان أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعا، ويصلون ركعتي الطواف أفرادا، وكانوا لا يفعلون ذلك بين الفريضة والتراويح ولا بين التراويح والوتر، فأراد أهل المدينة أن يساووهم في الفضيلة، فجعلوا مكان كل أسبوع- أي: مع كل ركعتيه- ترويحة؛ فحصل أربع ترويحات هي ستة عشر ركعة، انتهى. ونقل الروياني في البحر هذا السبب عن الشافعي. وقال القاضي أبو الطيب الطبري: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 قال الشافعي: لا يجوز لغير أهل المدينة أن يماروا أهل مكة ولا ينافسوهم لأن الله فضّلهم على سائر البلاد، انتهى. وحاصل التوجيه أن الحسد في الخير مطلوب، وهو في الحقيقة غبطة كما حسد المهاجرون- لما لم يكن لهم ما يتصدقون به- الأنصار فقالوا: ذهب أهل الدثور بالأجور «1» ، فأثبت أهل المدينة هذا العدد بضرب من الاجتهاد ليلحقوا بأهل مكة، وقد تشارك البلدان في الفضائل حتى اختلف في تفضيل كل منهما على الآخرى، وجعل لأهل المدينة ما يحصل به ثواب الاعتمار والحج، وامتازت المدينة بالمهاجر والقبر، فجعل لأهلها طريق إلى تحصيل تلك الفضيلة السابقة مع إقامتهم بها، ولعله لو لم يشرع لهم ذلك لحملتهم الرغبة في الخير على الانتقال إلى مكة، وسكنى المدينة مطلوب، وأما غيرهم فليس له شيء من هذا الفضل، فكيف يتأتى له مساواة أهل مكة؟ فلم يشرع لهم ذلك، هذا وإجماع أهل المدينة حجة عند مالك، والقيام بهذا العدد بالمدينة باق إلى اليوم إلا أنهم يقومون بعشرين ركعة عقب العشاء، ثم يأتون آخر الليل فيقومون بستة عشر ركعة، فوقع لهم خلل في أمر الوتر نبّهنا عليه في كتاب «مصابيح القيام، في شهر الصيام» وكنت قد ذكرت لهم ما يحصل به إزالة ذلك، ففعلوه مدة، ثم غلبت الحظوظ النفسية على بعضهم فعاد الأمر كما كان. الحادية والثمانون: زيادة البركة بها، على مكة المشرفة، وقد قدمنا حديثا يشير إلى أن المدعو به لها ستة أضعاف ما بمكة من البركة، والمصرح به في الأحاديث «ضعفي ما جعلت بمكة من البركة» وفي بعضها «مثل ما جعلت بمكة من البركة ومع البركة بركتين» . الثانية والثمانون: نقل عن مالك أن خبر الواحد إذا عارضه إجماع أهل المدينة قدم إجماعهم، ولهذا روي حديث خيار المجلس ثم قال: وليس لهذا عندنا حد معلوم ولا أمر معمول به؛ لما اختص به أهل المدينة من سكناهم مهبط الوحي ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ، فمخالفتهم تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل من ناسخ أو دليل راجح، والمحققون على أن البقاع لا أثر لها في ذلك، وقد بلغ ابن أبي ذئب- وهو من أقران مالك- مخالفته للحديث فأغلظ في ذلك لأن العصمة إنما تثبت في إجماع جميع الأمة، ويؤخذ من كلام مالك اختصاص ذلك بعمل أهل ذلك العصر من أهل المدينة.   (1) أهل الدثور: أصحاب الأموال الكثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الثالثة والثمانون: حديث النسائي والبزار والحاكم واللفظ له «يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدوا عالما أعلم من عالم المدينة» وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد كان ابن عيينة يقول: نرى هذا العالم مالك بن أنس، انتهى. قال الزركشي: وفيما حكاه عن سفيان نظر؛ لما في صحيح ابن حبان أن إسحاق بن موسى قال: بلغني عن ابن جريح أنه كان يقول: نرى أنه مالك بن أنس، فذكرت ذلك لسفيان بن عيينة فقال: إنما العالم من يخشى الله، ولا نعلم أحدا كان أخشى لله من العمري، قال التوربشتي في شرح المصابيح: يعني عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، كان من عباد الله الصالحين المشائين في بلاده وعباده بالنصيحة. بلغنا أنه كان يخرج إلى البادية ليتفقد أهلها شفقة عليهم وأداء الحق النصيحة فيهم، وقد أخرج الترمذي الحديث وحسّنه، وتكلم ابن حزم فيه، ثم قال: ولم يتعين هذا في مالك؛ لأنه كان في عصره جماعة لا يفضل على واحد منهم، وكان بالمدينة من هو أجل منه كسعيد بن المسيب؛ فهذا الحديث أولى به. وقال ابن عيينة: ولو سئل أيّ الناس أعلم؟ لقالوا: سفيان الثوري، قال ابن حزم: وإن صح هذا الحديث فإنما إذا قرب قيام الساعة وأرز الإيمان إلى المدينة وغلب الدجال على الأرض خلا مكة والمدينة، وأما حتى الآن فلم يأت صفة ذلك الحديث؛ لأن الفقه انقطع من المدينة جملة، واستقر في الآفاق، انتهى. ولا يخلو عن نزاع. الرابعة والثمانون: تحريم نقل أحجار حرمها وترابه كما سيأتي بيانه. الخامسة والثمانون: لو نذر تطييب مسجد المدينة وكذا الأقصى ففيه تردد لإمام الحرمين؛ لأنا إن نظرنا إلى التعظيم ألحقناهما بالكعبة، أو إلى امتياز الكعبة بالفضل فلا، وكلام الغزالي في آخر باب النذر يقتضي اختصاصه بالمسجدين كما فرضناه، لا في غيرهما من المساجد، والإمام طرده في الكل، وحيث كان الملحظ ما ذكر فينبغي أن لا يتوقف فيما لو نذر تطييب القبر الشريف. السادسة والثمانون: إذا نذر زيارة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لزمه الوفاء بذلك وجها واحدا، وفي وجوب الوفاء في زيارة قبر غيره وجهان، قاله ابن كجّ، وأقره عليه الرافعي والنووي وغيرهما. السابعة والثمانون: قيام مسجدها مقام المسجد الأقصى كالمسجد الحرام فيما لو نذر الصلاة أو الاعتكاف في الأقصى؛ فإن الأصح لزومه به، وأجزأ مسجد المدينة لزيادة فضله، ولو نذرهما بمسجد المدينة لم يجزه فعل ذلك بالأقصى ويجزيه بالمسجد الحرام. الثامنة والثمانون: الاكتفاء بزيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن نذر إتيان مسجد المدينة، كما قال الشيخ أبو علي تفريعا على القول بلزوم إتيانه كما قاله الشافعي والبويطي وعلى أنه لا بد من ضم قربة إلى الإتيان كما هو الأصح تفريعا على اللزوم، وعلله الشيخ أبو علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 بأن زيارته صلّى الله عليه وسلّم من أعظم القربات، وتوقف في ذلك الإمام من جهة أنها لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه، قال: وقياسه أنه لو تصدق في المسجد أو صام يوما كفاه، وفيه نظر، على أن الصحيح ما نص عليه في المختصر من عدم لزوم الإتيان، وإن كان اللزوم أرجح دليلا، ورجح الرافعي تفريعا على اللزوم ضم صلاة أو اعتكاف، وكذا إذا نذر إتيان الأقصى، فإن نفس المرور لما لم يكن في نفسه مزية انصرف النذر إلى ما يقصد فيه من القرب وبهذا يترجح ما قاله الشيخ أبو علي، لأن إتيان مسجد المدينة يقصد للصلاة والاعتكاف والزيارة بخلاف غيره. التاسعة والثمانون: قال ابن المنذر: إذا نذر أن يمشي إلى مسجد الرسول والمسجد الحرام لزمه الوفاء به لأنه طاعة؛ ومن نذر أن يمشي إلى بيت المقدس كان بالخيار: إن شاء مشى إلى المسجد الأقصى، وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام؛ لحديث أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في مسجد بيت المقدس، قال صلى الله عليه وسلم: «صلّ هنا، ثلاثا» انتهى. ويعلم مما تقرر في إجزاء مسجد المدينة عن الأقصى في الإتيان والصلاة إجزاؤه هنا كالمسجد الحرام، والذي اقتضاه كلام البغوي تصحيح عدم لزوم المشي في مسجد المدينة والأقصى، وهو الذي رجحوه. التسعون: قوله صلّى الله عليه وسلّم في أحاديث تحريمها «ولا يحمل فيها سلاح لقتال» . الحادية والتسعون: قوله فيها أيضا: «ولا تلتقط لقطته إلا لمن أشاد بها» . الثانية والتسعون: إذا قلنا بضمان صيدها وقطع شجرها فالصحيح أنه يسلب الصائد كما يسلب قتيل الكفار، وهذا أبلغ في الزجر من الجزاء. الثالثة والتسعون: جواز نقل ترابها للتداوي. الرابعة والتسعون: ظهور نار الحجاز التي أخبر بها صلّى الله عليه وسلّم مما حولها؛ لأنها للإنذار، فاختصت ببلد النذير، ثم لما بلغت الحرم وكان محرّمه المبعوث بالرحمة خمدت وطفئت، على ما سيأتي. الخامسة والتسعون: دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم بالبركة في سوقها. السادسة والتسعون: ما سيأتي في سوقها من أن الجالب إليه كالمجاهد في سبيل الله. السابعة والتسعون: أن المحتكر فيه كالملحد في كتاب الله. الثامنة والتسعون: ما سيأتي في بئر غرس من أنه صلّى الله عليه وسلّم «رأى أنه أصبح على بئر من آبار الجنة، فأصبح على بئر غرس» ورؤيا الأنبياء حق، عليهم الصلاة والسلام! التاسعة والتسعون: ما سبق في ثمارها من أن العجوة من الجنة؛ فقد اشتملت المدينة على شيء من أرض الجنة ومياهها وثمارها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الفصل الثامن في الأحاديث الواردة في تحريمها، وهي كثيرة روينا في الصحيحين منها حديث عبد الله بن زيد «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها» ، وفي لفظ «ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة» الحديث. وفي البخاري حديث أبي هريرة رضي الله عنه «حرم ما بين لابتي المدينة على لساني» قال: وأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بني حارثة فقال: «أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم، ثم التفت فقال: بل أنتم فيه» وسيأتي بيان منازلهم، وفيه أيضا عنه: لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بين لابتيها حرام» وهو في مسلم بزيادة، ولفظه «جرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بين لابتي المدينة» قال أبو هريرة: فلو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى. وفي مسلم أيضا عن عاصم الأحول: «سألت أنسا أحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة؟ قال: نعم، هي حرام: لا يختلى خلاها «1» ، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» . وفيه أيضا حديث رافع بن خديج رضي الله عنه «إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها» يريد المدينة. وفيه أيضا حديث جابر «إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها: لا تقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها» . وفيه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما، وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها، ألايهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط «2» فيها شجرة إلا لعلف» الحديث. وفيه أيضا من حديث أنس «اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم عليه السلام مكة» . قلت: المراد بجبليها عير وثور، وهما المعبر عنهما في الحديث قبله بمأزميها على ما صوبه النووي، ونسبة تحريم مكة لإبراهيم عليه السلام دليل لما ذهب إليه جماعة من أنها لم تزل حلالا كغيرها إلى زمن إبراهيم عليه السلام، فحرمت، والثاني- وصححه النووي، ونقل عن الأكثرين- أنها لم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض، ثم أظهر الله   (1) اختلى: قطع ونزع. الخلا: الرطب من النبات. (2) خبط الشجرة بالمخبط: ضربها به ليسقط ورقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 تعالى ذلك على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام. قال الزركشي: وفيه جمع بني الأحاديث. قلت: الأحكام قديمة؛ لأنها خطاباته تعالى، والحادث إنما هو تعلقاتها بالمكلفين، فإذا كان ظهور تحريمها على لسان إبراهيم عليه السلام فذلك أول تعلق الحكم التكليفي، فما معنى ما يقوله الثاني من تحريمها يوم خلق الله السموات والأرض مع انتفاء التعلق التكليفي حينئذ؟ ويجوز أن يكون بمعنى أن الله تعالى أظهر ذلك لملائكته يوم خلق السموات والأرض وعرفهم به، وتأخر تعلق التكليف به حتى ظهر على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام وهذا لا يأباه القول الأول، بل يسلمه، وهو حسن، وبه يجتمع معنى الأحاديث، ولا يخفى أن خطاب الله تعالى بتحريم المدينة قديم أيضا، وتأخره من حيث التكليف إلى أن أظهره النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس فيه حط لرتبتها، بل دليل كمالها حيث ادخر الله ذلك حتى جعله على لسان أشرف المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، مع أنهم ذكروا في معنى تحريم إبراهيم لها احتمالين: أحدهما: أنه بأمر الله تعالى له، والثاني: أنه دعا لها فحرمها الله بدعوته، ويقال مثله في تحريمه صلّى الله عليه وسلّم للمدينة. وقوله: «ما بين لابتيها» أي: حرّتيها الشرقية والغربية والمدينة بينهما، ولها أيضا حرة بالقبلة وحرة بالشام، لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية لاتصالهما بهما، ولهذا جمعها صلّى الله عليه وسلّم كلها في اللابتين كما نبه عليه الطبري. قال النووي: وهو حد الحرم من جهة المشرق والمغرب، وما بين جبليها بيان لحده من جهة الجنوب والشمال، قال: ومعنى قوله «ما بين لابتيها» اللابتان وما بينهما، والمراد تحريم المدينة ولابتيها. قلت: ويؤيده أن اللابتين شرقا وغربا في محاذاة أحد الجبلين الآتي بيانهما، وأن منازل بني حارثة في محاذاة اللابة الغربية على ما اقتضاه كلاه المطري فيما قدمناه عنه من الباب الأول في ترجمة أثرب، والذي ترجح عندي أن منازلهم كانت باللابة الشرقية مما يلي العريض وما قارب ذلك؛ لأن الإسماعيلي روى الحديث المتقدم بلفظ: «ثم جاء بني حارثة وهم في سند الحرة» أي: الجانب المرتفع منها، وسيأتي في منازلهم ما يبين أن المراد الحرة الشرقية، وليس الموضع الذي ذكره المطري في سند واحدة من الحرتين، والله أعلم. ويؤيد أيضا ما قاله النووي أن البيهقي روى في المعرفة حديث الصحيفة عن علي بلفظ: «إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين حرتيها وجمامها: لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها» يعني: أنشد «ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 يقطع شجرها إلا أن يعلف رجل بعيرا، ولا يحمل فيها سلاح لقتال» الحديث، ورواه أحمد كذلك أيضا، وهو حديث صحيح، وجمام المدينة ثلاثة كما سيأتي، وهي مما يلي حرتها الغربية من جهة المغرب والحرة بين الجمام والمدينة. وروى مسلم حديث الصحيفة بلفظ: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور» والبخاري بلفظ: «المدينة حرم ما بين عاير إلى كذا» وأبو داود بلفظ: «المدينة حرام ما بين عاير إلى ثور» ثم زاد فيه وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يلقط لقطتها إلا من أشاد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره» ورواه الطبراني برجال موثّقين مختصرا، ولفظه عن أبي جحيفة أنه دخل على علي رضي الله عنه فدعا بسيفه، فأخرج من بطن السيف أدما عربيا، فقال: ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا غير كتاب الله الذي أنزل إليه وقد بلغته غير هذا، فإذا: بسم الله الرحمن الرحيم، محمد رسول الله قال: «لكل نبي حرم وحرمي المدينة» . الفصل التاسع في بيان عير وثور وهما المراد بجبليها كما تقدم. موقع جبل عير أما عير- بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف بلفظ العير مرادف الحمار، ويقال: عاير- فجبل كبير مشهور في قبلة المدينة بقرب ذي الحليفة ميقات المدينة. موقع جبل ثور وأما ثور- بالمثلاثة بلفظ الثور فحل البقر- فجبل صغير خلف أحدكما سنحققه، فإنه خفي على جماعة من فحول العلماء فاستشكلوا الحديث، وقالوا: ليس بالمدينة ثور، إنما هو بمكة، ولهذا في أكثر روايات البخاري من عاير إلى كذا، وفي بعضها من عير إلى كذا، ولم يبين النهاية، فكأنه يرى أن ذكر ثور وهم فأسقطه، وترك بعض الرواة موضع ثور بياضا ليتبين الوهم، وضرب آخرون عليه. الاختلاف في وجود جبل ثور بالمدينة وقال المازري: نقل بعض أهل العلم أن ذكر ثور هنا وهم من الراوي؛ لأن ثورا بمكة، والصحيح «إلى أحد» . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: عير وثور جبلان بالمدينة، وأهل المدينة لا يعرفون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 بها جبلا يقال له ثور، وإنما ثور بمكة، قال: فإذا نرى أن الحديث أصله «ما بين عير إلى أحد» . قلت: وكذا رواه الطبراني برجال ثقات، بلفظ: «ما بين عير وأحد حرام، حرّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» وهو كذلك في رواية لابن زبالة. وقال الحازمي: الرواية الصحيحة «ما بين عير إلى أحد» وقيل: «إلى ثور» وليس له معنى، وتكلف بعضهم فقال: إلى بمعنى مع، كأنه جعل المدينة مضافة إلى مكة في التحريم لأن ثورا بها. وقال الموفق بن قدامة: يحتمل أن المراد تحريم قدر ما بين ثور وعير اللذين بمكة، أو سمى النبي صلّى الله عليه وسلّم الجبلين اللذين بطرفي المدينة عيرا وثورا ارتجالا، انتهى. وهو يقتضي إنكار وجود عير بالمدينة أيضا. وقد قال الزركشي: نقل عياض عن بعضهم أنه ليس بالمدينة ولا ما يقرب منها جبل يعرف بأحد هذين الاسمين، أعني عيرا وثورا. قال ياقوت في معجمه: وهذا وهم، فإن عيرا جبل مشهور بالمدينة، وقال ابن السيد: عير جبل بقرب المدينة، وعبارة عياض في المشارق: عير وعاير المذكوران في حرم المدينة في أكثر الروايات عير، وفي حديث علي عاير، قال الزبير بن بكار: هو جبل بالمدينة، وقال عمه مصعب: لا يعرف بالمدينة عير ولا ثور، انتهى. وقال في المطالع: أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا، والأصل في هذا التوقف قول مصعب الزبيري: ليس بالمدينة عير ولا ثور، وأثبت غيره عيرا، ووافقه على إنكار ثور. قلت: سيأتي في ترجمة عير من فصل البقاع عن مصعب الزبيري ما يقتضي إثباته له، وشهرة عير غير خافية بين العلماء، إنما الغرابة في ثور. وقال النووي عقب نقل الحازمي المتقدم: ويحتمل: أن ثورا كان اسما لجبل هناك: إما أحد، وإما غيره، فخفي اسمه. وقال صاحب البيان والانتصار: قد صحت الرواية بلفظ ثور؛ فلا ينبغي الإقدام على توهيم الرواة بمجرد عدم العرفان، فإن أسماء الأماكن قد تتغير، أو تنسى ولا يعلمها كثير من الناس، قال: وقد سألت بمكة عن وادي محسّر وغيره من أماكن تتعلق بالنسك، فلم أخبر عنها مع تكرر مجيء الناس إليها، فما ظنك بغيرها؟ وأيضا فقد يكون للشيء اسمان فيعرف أحدهما دون الآخر. وقال المجد: لا أدري كيف وقعت المسارعة من هؤلاء الأعلام إلى إثبات وهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الحديث المتفق على صحته، بمجرد ادعاء أن أهل المدينة لا يعرفون جبلا يسمى ثورا، وذكر احتمال طرق التغيير في الأسماء والنسيان لبعضها، قال: حتى إني سألت جماعة من فقهاء المدينة وأمرائها وغيرهم من الأشراف عن فدك ومكانها فكلهم أجابوا بعدم معرفة موضع يسمى بذلك في بلادهم، مع أن هذه القرية لم تبرح في أيدي الأشراف والخلفاء يتداولونها إلى أواخر الدولة العباسية، فكيف بجبل صغير لا يتعلق به كبير أمر، مع أنه معروف بين أهل العلم بالمدينة، ونقل بعض الحفاظ وصفه بذلك خلفا عن سلف؟ اه. قلت: قد حكى البيهقي في المعرفة قول أبي عبيد: أهل المدينة لا يعرفون جبلا يقال له ثور، ثم قال البيهقي: وبلغني عن أبي عبيدة أنه قال في كتاب الجبال: بلغني أن بالمدينة جبلا يقال له ثور، انتهى. ونقل المجد في ترجمة عير عن نصر أنه قال: عير جبل يقابل الثنية المعروفة بشعب الجوز، وثور جبل عند أحد، انتهى. فدل على أن ما اشتهر في زماننا وقبله من وجود ثور بالمدينة له أصل في الزمن القديم، وإن خفي على بعضهم، وقد أخبرني بوجوده جماعة كثيرة من الخواص، وأروني إياه خلف أحد، ونقل جماعة عن المحدث أبي محمد عفيف الدين عبد السلام بن مزروع البصري نزيل المدينة المشرفة أنه رآه غير مرة، وأنه لما خرج رسولا من صاحب المدينة إلى العراق كان معه دليل يذكر له الأماكن والأجبل، فلما وصلا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير، فسأله: ما اسم هذا الجبل؟ فقال له: يسمى ثورا، وقد حكى عنه نحو هذا القطب الحلبي في شرح البخاري، وقال المحب الطبري: أخبرني الثقة الصدوق الحافظ العالم المجاور بحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال، فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور، قال الطبري: فعلمنا بذلك أن ما تضمنه الحديث صحيح، وعدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه، انتهى. وقد رد الجمال المطري في تاريخه على من أنكر وجود ثور، وقال: إنه خلف أحد من شماليه، صغير مدور، يعرفه أهل المدينة خلف عن سلف. وقال الأقشهري: وقد استقصينا من أهل المدينة تحقيق خبر جبل يقال له ثور عندهم، فوجدنا ذلك اسم جبل صغير خلف جبل أحد يعرفه القدماء دون المحدثين من أهل المدينة، والذي يعلم حجة على من لا يعلم، اه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقال العلامة أبو العباس بن تيمية: عير جبل عند الميقات يشبه العير، وهو الحمار، وثور جبل في ناحية أحد، وهو غير جبل ثور الذي بمكة. وروى بعض شراح المصابيح أن الله تعالى لما كلم موسى عليه السلام على الجبل تقطع ست قطع، فصارت ثلاث بمكة: حراء، وثبير، وثور، وثلاث بالمدينة: عير، وثور، ورضوى، وكأن ثورا سمي باسم فحل البقر لشبهه به، وهو إلى الحمرة أقرب، وقد صح بما قدمناه أن أحدا من الحرم؛ لأن ثورا حده من جهة الشام كما أن عيرا حده من جهة القبلة، ويقوم ذلك على الرواية التي فيها ذكر أحد بدل ثور، لما في ذلك من الزيادة عليها، وأنها من باب ذكر فرد مما شمله ذلك العموم بحكم العموم فلا تخصص، مع إفادتها لإدخال ما حاذى أطراف أحد شرقا وغربا، وما وقع في الشرحين والروضة وغيرهما من التحديد بما بين اللابتين وبما بين عير وأحد مبني على ما تقدم من أن الرواية الصحيحة «أحد» لعدم وجود ثور؛ فقد اتضح الحال، ولله الحمد. الفصل العاشر في أحاديث تقتضي زيادة الحرم على ذلك التحديد، وأنه مقدر ببريد أعلم أن قوله في حديث مسلم «وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» ظاهر في التحريم لذلك القدر؛ إذ حول المدينة إنما هو حرمها، وحمى النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي ليس بحرم لم يكن حول المدينة على ما سيأتي بيانه، ولأن التقي السبكي قال: إن في سنن أبي داود تحديد حرم المدينة ببريد من كل ناحية، قال: وإسناده ليس بالقوي، والذي رأيته في أبي داود عن عدي بن يزيد «حمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل ناحية من المدينة بريدا بريدا، لا يخبط شجره، ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل» رواه البزار بنحوه، ورواه ابن زبالة بلفظ «حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شجر المدينة بريدا في بريد منها، وأذن في المسد «1» والمنجدة ومتاع الناضح أن يقطع منه» والمنجدة: عصا الناضح «2» . وروى المفضل الجندي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: في قصة العبد الذي وجده يعضد- أو يخبط- عضاها بالعقيق: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من وجد من يعضد أو يخبط «3» شيئا من عضاه المدينة بريدا في في بريد فله سلبه، فلم أكن لأرد شيئا أعطانيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» .   (1) المسد: الحبل المضفور المحكم الفتل. والمحور من الحديد تدور عليه البكرة. (2) المنجدة: (ج) مناجد: عود ينفش به الصوف أو القطن. وعصا تحث بها الدّابة. (3) عضد: جزّ وقطع. العضاة: كل شجر له شوك صغر أو كبر. الواحدة: عضاهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وروى البزار عن جابر قال: «حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة بريدا من نواحيها» . وفي الأوسط للطبراني- وفيه ضعيف- عن كعب بن مالك قال: «حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشجر بالمدينة بريدا في بريد، وأرسلني فأعلمت على الحرم: على شرف ذات الحبيش، وعلى شريب، وعلى أشراف مخيض» . ورواه ابن النجار بلفظ: «حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة بريدا في بريد، وأرسلني فأعلمت على الحرم: على شرف ذات الجليس، وعلى مشيرب، وعلى أشراف المجتهر، وعلى تيم» ورواه ابن زبالة بهذا اللفظ، إلا أنه أسقط أشراف المجتهر، وأبدل تيم بثيب، وزاد «وعلى الحفياء وعلى ذي العشيرة» . وروي أيضا عن كعب بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «حمى الشجر ما بين المدينة إلى وعيرة، وإلى ثنية المحدث، وإلى أشراف مخيض، وإلى ثنية الحفياء، وإلى مضرب القبة، وإلى ذات الجيش: من الشجر أن يقطع، وأذن لهم في متاع الناضح أن يقطع من حمى المدينة» . وروي أيضا عن سلمان بن كعب الديناري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «نزل بمضرب القبة وقال: ما بيني وبين المدينة حمى لا يعضد، فقالوا: إلا المسد، فأذن لهم في المسد» . وروي أيضا من طريق مالك بن أنس عن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في الحمى: «إلى مضرب القبة» قال مالك: وذلك نحو من بريد. وروي أيضا عن جابر مرفوعا «كل دافعة دفعت علينا من هذه الشعاب فهي حرام أن تعضد- أو تخبط، أو تقطع- إلا لعصفور قتب أو مسد محالة أو عصا حديدة» «1» . وفي الأوسط للطبراني بإسناد حسن عن الحسن بن رافع أنه سأل جابر بن عبد الله فقال: لنا غنم وغلمان، ونحن وهم بثرير، فهم يخبطون على غنمهم هذه الثمرة، يعني الحبلة- قال خارجة: وهي ثمر السّمر- قال جابر: لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن هشوا هشا، ثم قال جابر: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليمنع أن يقطع المسد، قال خارجة: والمسد مرود البكرة. وروى ابن زبالة عن أبي سعيد الخدري قال: بعثتني عمتي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تستأذنه في مسد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ عمتك السلام، وقل لها: لو أذنت لكم في مسد طلبتم ميزابا، ولو أذنت لكم في ميزاب طلبتم خشبة، ثم قال: حماي من حيث استاقت بنو فزارة لقاحي» .   (1) القتب: الرحل الصغير على قدر سنام البعير. المسد: الحبل المضفور المحكم الفتل. والمحور من الحديد تدور عليه البكرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الفصل الحادي عشر في بيان ما في هذه الأحاديث من الألفاظ المتعلقة بالتحديد ، ومن ذهب إلى مقتضاها. ذات الجيش قوله: «شرف ذات الجيش» قال ابن زبالة: ذات الجيش: لقب ثنية الحفيرة من طريق مكة والمدينة، وقال المطري: هي وسط البيداء، والبيداء هي التي إذا رحل الحجاج من ذي الحليفة استقبلوها مصعدين إلى جهة الغرب، وهي على جادة الطريق. قلت: ويؤيده قول ياقوت: ذات الجيش موضع بعقيق المدينة، أراد بقربه، أو لأن سيلها يدفع فيه كما سيأتي، وقد رأيته يطلق ذلك على ما يدفع في العقيق وإن بعد عنه. وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأسدي في وصف الطريق بين مكة والمدينة: إن من ذي الحليفة إلى الحفيرة ستة أميال، قال: وهي متعشا، وبها بئر طيبة وحوض، وعمر بن عبد العزيز هو الذي حفر البئر، وبها أبيات ومسجد، اه. ومقتضاه أن يكون ثنية الحفيرة بعد البئر، فلعلها ثنية الجبل المسمى اليوم بمفرح، وهناك واد قبل وادي تربان يسمونه سهمان ينطبق عليه الوصف المذكور، وهو موافق لقول من قال: ذات الجيش واد بين ذي الحليفة وتربان. فأطلق اسمها على الوادي التي هي فيه، ولقول عياض: ذات الجيش على بريد من المدينة، وهو ظاهر رواية الطبراني المتقدمة، لكنه مخالف لما سيأتي في معنى التحديد بالبريد، وهناك حبس النبي صلّى الله عليه وسلّم في ابتغاء عقد عائشة رضي الله عنها، ونزلت آية التيمم، والترديد في حديث عائشة: «حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش» كأن سببه قرب الموضعين، وهو ظاهر في المغايرة بينهما. وقال أبو علي الهجري: ذات الجيش: شعبة على يمين الخارج إلى مكة بحذاء الحفيرة، قال: وصدر الحفيرة وما قبل من الصلصلين يدفع في بئر أبي عاصية، ثم يدفع في ذات الجيش، وما دبر منها يدفع في البطحاء، ثم تدفع البطحاء من بين الجبلين في وادي العقيق، وذات الجيش تدفع في وادي أبي كبير، وهو فوق مسجد الحرم والمعرس، وطرف أعظم الغربي يدفع في ذات الجيش، وطرفه الثاني يدفع في البطحاء. قلت: وأعظم- ويقال عظم كما سيأتي- جبل معروف اليوم على جادة مكة، قال المطري: وهو في شامي ذات الجيش، ويشهد له ما سبق عن الهجري. شريب قوله «شريب» الظاهر أنه مشيرب تصغير مشرب كما في الرواية الآخرى، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ما بين جبال في شامي ذات الجيش، بينها وبين خلائق الضبوعة، والضبوعة منزل عند يليل «1» . أشراف مخيض قوله: «أشراف مخيض» بلفظ المخيض من اللبن- هي جبال مخيض من طريق الشام، قاله ابن زبالة، وقال الهجري: مخيض واد يصب في أضم على طريق الشام من المدينة، انتهى؛ فكأنه يطلق على الجبال وواديها، وقال المطري: جبل مخيض هو الذي على يمين القادم من طريق الشام، حين يفضي من الجبال إلى البركة التي هي مورد الحجاج من الشام، ويسمونها عيون حمزة. أشراف المجتهر قوله: «أشراف المجتهر» كذا رواه ابن النجار، وتبعه المطري، ولم يبيناه، وقال المجد: هكذا وقع بالجيم والهاء المفتوحة، فإن صح فهو اسم موضع بالمدينة، وإلا فيحتمل أن يكون تصحيف «المحيصر» بالحاء والصاد المهملتين تصغير «المحصر» موضع قريب من المدينة. قلت: الأقرب أنه تصحيف المخيض؛ لمجيئه بدله في بقية الروايات. الحفياء قوله «الحفياء» قال ابن زبالة: هي بالغابة في شامي المدينة، وقال الهجري: وراء الغابة بقليل، وسيأتي في ترجمتها أن بينها وبين المدينة نحو ستة أميال. ذو العشيرة قوله: «ذي العشيرة» تصغير عشرة من العدد، قال ابن زبالة: شرقي الحفياء، وقال المطري: نقب في الحفياء. ثيب قوله: «ثيب» بفتح المثلاثة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم موحدة- كذا في النسخة التي وقعت عليها من ابن زبالة، وقال: إنه جبل في شرقي المدينة، وكذا هو في العقيق للزبير بن بكار، وكذا رأيته مضبوطا بالقلم في أصل معتمد من تهذيب ابن هشام؛ فإنه قال في غزوة السويق: فخرج أبو سفيان حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له ثيب من المدينة على بريد أو نحوه، وكذا هو في العقيق لأبي علي الهجري، إلا أنه قال عقبه: ثيئب كتيعب، فاقتضى أن الياء الساكنة بعدها همزة، ويشهد لذلك ما سيأتي في أسماء البقاع في   (1) يليل: موضع قرب وادي الصفراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ترجمة الشظاة من شعر عباس بن مرداس، وفي كتاب ابن شبة في حديث سلمة الآتي أول الباب السابع: فقلت يا رسول الله، تباعد الصيد، فأنا أصيد بصدور قناة نحو تيب، كذا رأيته مضبوطا بالقلم من غير همزة، لكنه بالمثناة من فوق، ووقع في كتاب ابن النجار وتبعه المطري تيم بفتح المثناة الفوقية والتحتية وبالميم. قلت: وفي شرقي المدينة جبل يعرف اليوم بهذا الاسم، وقال المجد: إنه تصحيف، والصواب يتيب، بلفظ مضارع تاب إذا رجع، فهو بالتاء المثناة من فوق، ولذا ذكره في مادتها من القاموس، وقال في مادتها أيضا تيأب كفعلل موضع، ولم يتعرض لذلك في الثاء المثلاثة. وعيرة قوله: «وعيرة» - بفتح أوله من الوعورة، وهو خشونة الأرض- جبل شرقي ثور، وهو أكبر من ثور وأصغر من أحد. ثنية المحدث وقوله: «ثنية المحدث» لم أر من تكلم عليه من مؤرخي المدينة وغيرهم، والعجب من المجد كيف أهمله مع إيراده الحديث في كتابه. مضرب القبة قوله: «مضرب القبة» قال المجد كالمطري: ليس اليوم معروفا، ولا تعلم جهته، قال: والذي يظهر أنه ما بين ذات الجيش من غربي المدينة إلى مخيض. قلت: قال أبو علي الهجري: مضرب القبة بين أعظم وبين الشام نحو ستة أميال، أي من المدينة، وقد تقدم قول مالك عقب التحديد به: وذلك نحو من بريد، ولعله يريد مجموع الحرم. ثرير قوله: «بثرير» لم أر من تكلم عليه حتى المجد. غزوة ذي قرد قوله: «من حيث استاقت بنو فزارة لقاحي» كانت لقاحه صلّى الله عليه وسلّم ترعى بالغابة وما حولها، فأغار عليها عيينة بن حصن الفزاري يوم ذي قرد، واتفق لسلمة بن الأكوع ما اتفق من استنقاذ اللقاح ووصول الفرسان إليه وهو يقاتلهم ويرميهم بالنبل، وسميت غزوة ذي قرد بالموضع الذي كان فيه القتال. والتحديد بهذه الأماكن مؤيد لكون مجموع الحرم بريدا، ولذلك قال ابن زبالة عقب ما تقدم عنه: وذلك كله يشبه أن يكون بريدا في بريد، انتهى. ويحمل عليه قول أبي هريرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 في حديث مسلم: «وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» لأن ذلك هو البريد أي: ستة أميال من جهة قبلتها، وستة أميال من جهة شاميها، وكذلك في المشرق والمغرب، ومثله حديث «حمى كل ناحية من المدينة بريدا» أي من القبلة إلى الشمال بريدا، ومن المشرق إلى المغرب بريدا، وقد أخذ بذلك مالك رحمه الله، لكن فرّق بين حرم الشجر وحرم الصيد، وجعل البريد حرم الشجر، وما بين اللابتين حرم الصيد. قال عياض في الإكمال: قال ابن حبيب: تحريم ما بين اللابتين مخصوص بالصيد، قال: وأما قطع الشجر فبريد في دور المدينة كلها، بذلك أخبرني مطرف عن مالك، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن وهب، انتهى. وحكى الباجي في المنتقى مثله عن ابن نافع، ونقل ابن زبالة عن مالك أنه قال: الحرم حرمان؛ فحرم الطير والوحش من حرة واقم- أي: وهي الحرة الشرقية- إلى حرة العقيق- أي وهي الغربية- وحرم الشجر بريد في بريد، وقال البرهان بن فرحون: حرم الصيد ما بين حرارها الأربع، وسماهما أربعا لوجود الحرتين المذكورتين في الجهات الأربع؛ لانعطاف بعض الشرقية والغربية من جهة الشمال والقبلة، ولم يعول أصحابنا في تحديد الحرم على البريد مع ما فيه من الزيادة؛ لأن أدلته ليست بالقوية، فعولوا على ما اشتملت عليه الأحاديث الصحيحة من الجبلين واللابتين، على أن إطلاق أحاديث التحريم مقتض لعدم الفرق بين حرم الشجر وحرم الصيد، سواء كان الحرم بريدا أو دونه، غير أن في أحاديث البريد ما يشعر بأنه للشجر، مع أن ابن زبالة- ومحله من الضعف معلوم- روي عن ابن بشير المازني أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرّم ما بين لابتيها- يعني: المدينة- من الصيد، وعن أبي هريرة وغيره نحوه، وفي رواية له «من الطير أن يصاد بها» وقد يقال: هو من باب إفراد فرد مما حرم بالذكر. فإن قيل: قوله في حديث مسلم: «حرم ما بين لابتيها، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى» دال على الفرق المذكور. قلنا: ممنوع؛ لأن غايته أن يراد بالحمى الحرم، فكأنه قال: وجعل اثني عشر ميلا حولها حرما؛ إذ ليس فيه أنه جعله حمى الشجر. مقدار البريد والفرسخ والميل تتمة: البريد أربع فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع بذراع اليد على الأصح، كما صححه ابن عبد البر وغيره، وهو الموافق لاختيار ما ذكره من المسافات في الحرم المكي وغيره، وذراع اليد- على ما ذكره المحب الطبراني والنووي وغيرهما- أربعة وعشرون أصبعا، كل أصبع ست شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض، وغلط النووي القلعي في قوله «ثلاث شعيرات» ومقدار الذراع المذكور من ذراع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الحديد المستعمل في القماش بمصر الآن ذراع إلا ثمن ذراع، كما اعتبرته أنا وغيري، ومشى عليه التقي الفاسي في تاريخ مكة المشرفة، وليكن ذلك على ذكر منك إذا مررت بشيء مما ضبطناه في المسافات في كتابنا هذا، وقيل: الميل ستة آلاف ذراع، ومشى عليه النووي، وهو بعيد، ولعل قائله هو الذي يجعل الإصبع في الذراع ثلاث شعيرات فقط، وقيل: الميل ألفا ذراع، والصواب ما قدمناه، والله أعلم. الفصل الثاني عشر في حكمة تخصيص هذا المقدار المعين بالتحريم حكمة التخصيص اعلم أن المفهوم من تحريم ذلك تشريف المدينة الشريفة وتعظيمها به لحلول أشرف المخلوقين صلوات الله وسلامه عليه، وانتشار أنواره وبركاته بأرضها، وكما أن الله تعالى جعل لبيته حرما تعظيما له جعل لحبيبه وأكرم الخلق عليه ما أحاط بمحله حرما تلتزم أحكامه، وتنال بركاته، ويوجد فيه من الخير والبركة والأنوار المنتشرة والسلامة العاجلة والآجلة ما لا يوجد في غيره، ولهذا حث النبي صلّى الله عليه وسلّم بني حارثة على الكون به، كما أشار إليه بقوله: «أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم» ثم التفت فقال: «بل أنتم فيه» وذلك لخصوصية الكون فيه على الكون خارجه، وتخصيص ذلك المقدار إما أن يكون لما شاهده صلّى الله عليه وسلّم فيه من أمر رباني، وسر روحاني بثه الله فيه إلى تلك الحدود المتقدمة، وقد ذكر أهل الشهود أنهم يشاهدون الأنوار منبثة في الحرم وأهله إلى حدوده، ولها منابع تفيض عنها، وذلك في الحرمين جميعا، فترتبت الأحكام الظاهرة على تلك الحقائق الباطنة، ولهذا لما بلغت النار الآتي ذكرها طرف هذا الحرم الشريف طفئت كما سيأتي، وإما أن يكون بمقتضى أمر إلهي، ووحي رباني لا ندركه نحن؛ إذ العقول البشرية قاصرة عن إدراك معاني الأحكام المتلقاة عن النبوة، وإنما يظهر لها لايحه من شوارق مطالعها عند التأييد والتسديد، هدانا الله لإدراكها بمنه وكرمه. وجوه تذكر في حكمة التحديد وقد قيل في حكمة تحديد الحرم المكي أشياء يمكن مثلها هنا؛ فقيل: لما أهبط آدم إلى الأرض أرسل الله ملائكة حفوا بمكة من كل جانب ووقفوا في موضع أنصاب الحرم يحرسون آدم عليه السلام، فصار ذلك حرما. وقيل: لما وضع الخليل عليه السلام الحجر الأسود في الكعبة حين بناها- وهو من أحجار الجنة- أضاء الحجر من الجهات الأربع، فحرم الله تعالى الحرم من حيث انتهى النور. وقيل: إن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أن ينزل بياقوتة من الجنة، فنزل بها، فمسح بها رأس آدم، فتناثر الشعر منه، فحيث بلغ نورها صار حرما، وهو من جنس ما قبله. وقيل غير ذلك؛ وحينئذ فيحتمل: أن تكون الملائكة الموكلة بحراسته صلّى الله عليه وسلّم وحراسة بلده الشريف قائمة بتلك الحدود، فانتهى الحرم إليها، ويحتمل: أن درته الشريفة التي خلق منها لما كان مأخذها موضع قبره الشريف، وهو أعظم رياض الجنة، واشتمل مسجده أيضا على روضة من رياض الجنة، انبثت الأنوار من ذلك إلى ما لا يعلم غايته إلا الله، ولكن أبصار الناظرين لها غايات؛ فقد يكون انتهاؤها إلى تلك الحدود فانتهى الحرم إليها، ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم يوم قدومه إلى المدينة انتشرت الإضاءة، وشوهد وصولها إلى تلك الحدود، وسيأتي قول أنس بن مالك في وصف يوم قدومه صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت مثل ذلك اليوم قط، والله لقد أضاء منها كل شيء، يعني: المدينة، والله أعلم. الفصل الثالث عشر في أحكام هذا الحرم الشريف، وفيه مسائل الأولى: القول في تحريم الصيد وقطع الشجر اتفق الشافعي ومالك وأحمد على تحريم صيد حرم المدينة، واصطياده، وقطع شجره. وقال أبو حنيفة: لا يحرم شيء من ذلك، والأحاديث الصحيحة الصريحة حجة عليه، وقد قدمنا جملة منها، ولو لم يكن إلا قوله صلّى الله عليه وسلّم «كما حرم إبراهيم مكة» لكان كفاية؛ فإنه يتمسك به في كل ما لم يقم دليل على افتراق الحرمين فيه. وروى أبو داود- وسكت عليه، قال النووي: وهو صحيح أو حسن، أي: كما هو قاعدته فيما يسكت عليه- أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلبه ثيابه، فجاء مواليه فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حرم هذا الحرم، وقال: من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه» وسيأتي عنه نحوه في قطع الشجر، وفي الموطأ عن أبي أيوب الأنصاري أنه وجد غلمانا قد ألجؤوا ثعلبا إلى زاوية، فطردهم عنه، قال مالك: لا أعلم إلا أنه قال: أفي حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصنع هذا؟ وروى الطبراني برجال الصحيح مثله عن زيد بن ثابت بدل أبي أيوب، وفي الموطأ أيضا أن رجلا قال: دخل علي زيد بن ثابت وأنا بالأسواف «1» ، وقد اصطدت نهسا «2» فأخذه من يدي، فأرسله. ورواه   (1) الأسواف: موضع بين الحرتين، ببعض أطراف المدينة. (2) النهس: طائر من الفصيلة الصردية لونه كستنائي وهو أكبر من العصفور، ضخم الرأس والمنقار، شرس الطباع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الطبراني أيضا مع تسمية المبهم، ولفظه: عن شر حبيل بن سعيد قال: أخذت نهسا- يعني طائرا- بالأسواف، فأخذه مني زيد بن ثابت فأرسله، وقال: أما علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرم ما بين لابتيها. وفي رواية له «أتانا زيد بن ثابت ونحن في حائط لنا، ومعنا فخاخ ننصب بها، فصاح وطردنا، وقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرم صيدها. ورواه أحمد أيضا- وكذا الشافعي في حرملة- عن شرحبيل بن سعد، وقد وثّقه ابن حبان وضعفه غيره، ولفظه: دخل علينا زيد بن ثابت حائطا ونحن غلمان ننصب فخاخا للطير، فطردنا وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرم صيدها» . ورواه ابن زبالة بلفظ: كنت مع بني زيد بن ثابت بالأسواف، فأخذوا نهسا، فاستفتح زيد بن ثابت وهو في أيديهم، فدفعوه في يدي وفروا، فدخل زيد، فأخذه من يدي فأرسله، ثم لطم في قفاي وقال: لا أم لك، ألم تعلم، وذكر الحديث المتقدم. وروى الطبراني عن حاجب مولى زيد بن ثابت قال: دخل علي زيد بن ثابت وأنا بالأسواف قد اصطدت نهسا، فأخذ بأذني من قفاي وقال: تصيد هاهنا وقد حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بين لابتيها؟ والنّهس، كصرد: طائر يشبهه وليس بالصرد، وقيل: إنه اليمام. وفي الكبير للطبراني برجال ثقات عن عبد الله بن عباد الزرقي- قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه- قال: كنت أصيد العصافير في بئر أهاب، وكانت لهم، قال: فرآني عبادة بن الصامت وقد أخذت العصفور، فينزعه مني فيرسله، ويقول: أي بني، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرم ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم مكة. وروى ابن زبالة ومن طريقه البزار عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: اصطدت طيرا بالقنبلة «1» ، فلقيني أبي عبد الرحمن، فعرك أذني، ثم أخذه مني فأرسله، وقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرم صيد ما بين لابتيها. وفي أبي داود عن مولى لسعد، أن سعدا وجد عبيدا من عبيد المدينة يقطعون شجرا من شجر المدينة، قال: فأخذ متاعهم، وقال يعني لمواليهم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ينهى أن يقطع من شجر المدينة شيء، وقال: من قطع شيئا فلمن أخذه سلبه» ورواه مسلم عن إسماعيل بن محمد بن عامر بن سعد، ولفظه: أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا، أو يخبطه، فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم- أو عليهم- ما أخذ من غلامهم، فقال: «معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ورواه المفضل الجندي عنه، ولفظه: أن سعدا ركب إلى قصر له بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرة، فأخذ سلبه، وذكره بنحوه. ورواه ايضا عن عبد الله بن عمر، ولفظه: أن   (1) القنبلة: مصيدة يصاد بها أبو براقش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 سعدا وجد إنسانا يعضد، أو يخبط، عضاها بالعقيق، فأخذ فأسه ونطعه وشيئا سوى ذلك، فاطلع العبد إلى ساداته فأخبرهم الخبر، فركبوا إلى سعد فقالوا: الغلام غلامنا، فاردد إليه ما أخذت منه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر ما قدمناه عنه في الفصل العاشر، وقال في آخره: «فلم أكن لأرد شيئا أعطانيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ورواه ابن زبالة من طرق بنحوه. وفي بعضها أن سعد بن أبي وقاص وجد جارية لعاصية السلمية تقطع الحمى فضربها وسلبها شملة لها وفأسا كانت معها، فدخلت عاصية السلمية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستعدت على سعد، فقال: اردد إليها يا أبا إسحاق شملتها وفأسها، فقال: «لا، والله لا أرد إليها غنيمة غنمنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمعته يقول: من وجدتموه يقطع الحمى فاضربوه واسلبوه» واتخذ من فأسها مسحاة فما زال يعمل بها حتى لقي الله. وفي بعضها: أخذ سعد بن أبي وقاص جارية لعاصية السلمية تقطع شجرا بالعقيق، فنزع سلبها، وذكر نحوه. وروى أيضا عن سعد قال: غنّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من وجدناه يقطع من شجر حرم المدينة الرطب منه. وعن زيد بن أسلم نحوه. وروى الجندي عن عبد الكريم بن أبي المخارق قال: أتى عمر بن الخطاب ناحية من المدينة فوجد غلاما لبعضهم في حائط، فقال: هل يأتيك هاهنا أحد يحتطب؟ قال: نعم، فقال له عمر: إن رأيت منهم أحدا فخذ فأسه وحبله، قال: وثوبه؟ قال: فأبى، وفس نسخة فأفتى، وفي رواية عنه: أن عمر قال لغلام قدامة بن مظعون: أنت على هؤلاء الحطابين، فمن وجدته احتطب فيما بين لابتي المدينة فلك فأسه وحبله، قال: وثوباه؟ قال عمر: ذلك كثير. وقد اختلف القائلون بالتحريم في حرم المدينة بالنسبة إلى الضمان بالجزاء، فعن أحمد روايتان، وللشافعي أيضا قولان كالروايتين: الجديد منهما عدم الضمان وهو قول مالك؛ لأنه ليس بمحل نسك، فأشبه مواضع الحمى ووج الطائف «1» ، والقديم الضمان، وهو المختار كما قاله النووي وغيره، لحديث سعد المتقدم، والجواب عنه مسكل، وعلى هذا فالأصح أنه يسلب الصائد وقاطع الشجر والكلأ كما يسلب القتيل من الكفار حتى يؤخذ فرسه وسلاحه، وقيل: الثياب فقط، ويكون ذلك للسالب على الأصح، وقيل: لفقراء المدينة كما أن جزاء صيد مكة لفقرائها، وقيل: يوضع في بيت المال وسبيله سبيل السهم المرصد للمصالح. قال الشيخ أبو محمد: ويعطى المسلوب إزارا يستر به عورته، فإذا قدر على ما يستر به عورته أخذه منه، واختار الروياني أنه يترك له، وصوبه النووي. قال الرافعي: والذي يسبق إلى الفهم من الحديث وكلام الأئمة أنه يسلب إذا اصطاد، ولا يشترط الإتلاف، ولفظ الغزالي في الوسيط: لا يسلب حتى يصطاد أو يرسل الكلب،   (1) الوجّ: واد بين الطائف ومكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ويحتمل التأخير إلى الإتلاف، انتهى. ولا فرق في هذا بين صيد وصيد، ولا بين شجرة وشجرة، وكأن السلب في معنى العقوبة لمتعاطي ذلك. قال السراج البلقيني: ولو كان الصائد أو قاطع الشجر في حرم المدينة عبدا هل يسلب ثيابه كما اتفق لسعد بن أبي وقاص؟ قال: والذي يقتضيه النظر أنه لا يسلب العبد؛ فإنه لا ملك له، وكذلك لو كان على الصائد ثوب مستأجر أو مستعار فإنه لا يسلب، ولم أر من تعرض له، انتهى. قلت: التحقيق التفصيل بين ما إذا أمره السيد أو من في معناه بذلك وبين ما إذا لم يأمره، ويحمل ما اتفق لسعد على الأول، ولو كان على الصائد والمحتطب ثياب مغصوبة لم تسلب بلا خلاف، كما نقله في شرح المهذب، ونقله في المطلب عن البحر، ثم قال: وينبغي أن تكون المستعارة كذلك، ولو لم يشاهده أحد يصطاد فالظاهر أنه يجب عليه حمل السلب إلى نائب الإمام، ولو تحدث بحضرة أحد فسمعه فهل يجوز له أن يسلبه؟ الظاهر عندي لا، انتهى. ولو أدخل إلى حرم المدينة صيدا لم يلزمه إرساله، وله ذبحه به اتفاقا، وكذا حرم مكة عندنا. وقد روى البيهقي أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقدمون مكة فيرون بها في الأقفاص القماري «1» واليعاقيب، وهذا محمل حديث «يا أبا عمير، ما فعل النغير «2» » أو أنه كان قبل تحريم المدينة؛ لأنه في أول الهجرة، وتحريم المدينة كان بعد رجوعه صلّى الله عليه وسلّم من خيبر، كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر. وقد تمسك أبو حنيفة بقصة أبي عمير فيما ذهب إليه من عدم تحريم صيد المدينة؛ لذهابه في حرم مكة إلى وجوب الإرسال على من أدخل إليه صيدا من خارجه، قال: فلو حرم النبي صلّى الله عليه وسلّم صيد المدينة لما أقر النغير في يد أبي عمير. وجوابه ما تقدم، قال البيهقي: والذاهب إلى عدم تحريم الصيد وغيره بالمدينة زعم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما أراد بقاء رينة المدينة وبهجتها لتستوطن كما منع من هدم آطام المدينة لذلك، قال أبو هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هدم آطام المدينة، وقال: إنها زينة المدينة، أي فالنهي للتنزيه. قال البيهقي: والنهي عندنا على التحريم حتى تقوم دلالة على التنزيه، قال: واستدل المخالف بحديث سلمة «أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيّعتك إذا ذهبت وتلقيتك إذا جئت، فإني أحب العقيق» قال البيهقي: وهو حديث ضعيف، ومن يدعي العلم بالآثار لا ينبغي له أن يعارض الأحاديث الثابتة في حرم المدينة لهذا الحديث الضعيف، وقد يجوز أن يكون الموضع الذي كان سلمة يصيد فيه خارجا من حرم المدينة، والموضع الذي رأى فيه سعد بن أبي وقاص غلاما يقطع شجرا من حرم المدينة داخله، حتى لا يتنافيان، ولو اختلفا كان الحكم لرواية   (1) القماري: واحدها القمريّ: ضرب من الحمام مطوّق حسن الصوت. (2) النّغير مصغر النّغر (ج) نغران: فرخ العصفور. والبلبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 سعد لصحة حديثه وثقة رجاله، دون حديث سلمة. قلت: مع أن الذي في الصحيح من حديث سعد لا تعرض فيه لأن القطع كان بالعقيق، وركوبه إلى قصره بالعقيق لا يقتضي أن القطع كان به، بل يقتضي أن القطع في موضع من الحرم خارج، على أن ما يلي ذا الحليفة من العقيق ليس من الحرم عندنا لخروجه عما بين اللابتين، والمالكية وإن اعتبروا البريد فحرم الصيد عندهم ما بين اللابتين كما تقدم، مع امتداد العقيق إلى النقيع «1» ؛ فبعضه خارج عن الحرم بكل حال، فصح ما قاله البيهقي، وقصر سعد مع قصور العقيق في الطرف الداخل منه في الحرم عندنا؛ لكونه بالحرة الغربية. هذا، مع احتمال حديث سلمة لكونه كان قبل تحريم المدينة، والله أعلم. الثانية: ما يستثنى مما يحرم استثنى المطري تبعا لابن النجار جواز أخذ ما تدعو الحاجة إليه للرحل- بالحاء المهملة- والوسائد، من شجر حرم المدينة، وما تدعو الحاجة إليه من حشيشه للعلف، بخلاف مكة، هكذا قالاه، وسبقهما إليه ابن الجوزي من الحنابلة فقال في منسكه: إن المدينة تفارق مكة في أنه يجوز أن يؤخذ من شجر المدينة ما تدعو الضرورة إليه للرحل وشبهه، انتهى، ومأخذهم في ذلك ما تقدم في الفصل العاشر في بعض تلك الأحاديث المشتملة على الترخيص في ذلك ونحوه، مع ما رواه ابن زبالة من حديث: يا رسول الله، إنا أصحاب عمل ونضح، وإنا لا نستطيع أن ننتاب أرضا، فرخص لهم في القائمتين والوسادة والعارضة والأسنان، فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط، والكلام أولا في توجه الاستدلال بذلك من حيث الإسناد، مع أنا قدمنا في غضون تلك الأحاديث ما يقتضي المنع، سيما حديث الطبراني بإسناد حسن إذ فيه قول جابر: لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن هشوا هشا، ثم قال جابر: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليمنع أن يقطع المسد. قال خارجة: والمسد مرود البكرة، ومن تأمل كلام أصحابنا الشافعية لا يفهم منه سوى استواء الحرمين في ذلك؛ لقولهم: إنه يجوز أخذ حشيش حرم مكة لعلف الدواب على الأصح. وقد قال النووي في الكلام على قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث مسلم المتقدم «ولا يخبط شجره إلا لعلف» : إن فيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف، بخلاف خبط الأغصان وقطعها فإنه حرام، انتهى. وقد قال هو وغيره في شجر مكة: إنه يجوز أخذ أوراقها لكنها لا تهش حذرا من أن يصيب لحاها. وفي شرح المهذب: يجوز أخذ ورقها والأغصان الصغيرة للسواك ونحوه، انتهى؛ فقد استوى الحرمان في ذلك. وقد قال   (1) النقيع: البئر الكثيرة الماء. وهو موضع قريب من المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الغزالي في البسيط والوسيط في حرم مكة: إنه لو قطع منه للحاجة التي يقطع لها الإذخر «1» كتسقيف البيوت ونحوه ففيه الخلاف في قطعه للدواء: أي: والأصح جوازه، وتبعه على ذلك صاحب الحاوي الصغير؛ فجوز القطع للحاجة مطلقا، ولم يخص الدواء، وقل من تعرض للمسألة، ومنه يؤخذ جواز ما استثناه المطري، لكن مع استواء الحرمين في ذلك. وقال القاضي عياض: قال المهلب: قطع النبي صلّى الله عليه وسلّم النخل من المدينة حين بنى مسجده، وذلك يدل على أن النهي لا يتوجه لقطع شجرها للعمارة وجهة الإصلاح، وأن يقطع شجرها ليتخذ موضعه جنانا وعمارة، وأن توجه النهي إنما هو لقطع الإفساد واستبقاء بهجة المدينة وخضرتها في عين الوارد إليها، انتهى. ونحوه ما روى ابن زبالة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لبني حارثة في طرف من الحمى «أعطيكم على أنه من قطع شجرة غرس مكانها نخلة» ومحل ابن زبالة من الضعف معروف، والنبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قطع النخل وهو شجر يستنبته الآدميون، وفيه خلاف؛ فالذي ذهب إليه المالكية والحنفية جواز قطعه في حرم مكة فضلا عن المدينة، وهو أحد القولين عندنا، لكن الأصح إلحاقه بالذي ينبت بنفسه، والجواب عنه باحتمال كونه قبل تحريم المدينة، أو أنه قطعه لحاجة العمارة؛ فإن المتجه جوازه كما تقدم عن الغزالي، ولم يزل أهل المدينة يسقفون بيوتهم بما يقطعون من نخلها. وقد نقل الواقدي في الحرم المكي عن ابن الزبير الترخيص في قطع شجر الحرم المكي للعمارة لكن مع الفداء، على أن الماوردي قال فيما يستنبته الآدميون: محل الخلاف فيما أنبت في موات الحرم، فإن أنبته في أملاكه لم يحرم بلا خلاف، انتهى. وأما ما يستنبت من غير الشجر كالحنطة والخضروات فيجوز قطعه بلا خلاف، وكذا ما يتغذى به مما ينبت بنفسه كالرجلة المسماة بالبقلة الحمقاء ونحو ذلك؛ لأنه في معنى الزرع، صرح باستثنائه المحب الطبري في شرح التنبيه، وهو ظاهر؛ لأنه إذا جاز الأخذ لإطعام البهائم فالآدمي أولى. الثالثة: ما ذكروه في الأخذ للدواء ونحوه يتناول تحصيله وادخاره لذلك الغرض، وإن لم يكن السبب قائما، إلا أن عبارة الروضة: ولو احتيج إلى شيء من نبات الحرم للدواء. وفي شرح المهذب أنه يجوز أخذ النبات للعلف، ولو أخذه ليبيعه ممن يعلف به لم يجز، ومقتضاه أن الدواء كذلك، وظاهر إطلاق الماوردي الجواز مطلقا، وهو ظاهر استناد بعضهم إلى نقل السنا المكي من غير نكير. الرابعة: دية القتل الخطأ في المدينة مغلظة تغلّظ الدية في الخطأ على القاتل في حرم المدينة كمكة في وجه الصحيح خلافه، ومأخذه عموم قوله «كما حرم إبراهيم مكة» .   (1) الإذخر: حشيشة تسقف بها البيوت فوق الخشب ولها رائحة طيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وقد اختار السراج البلقيني هذا الوجه، قال: لأن الخلاف في ذلك مبني على الخلاف في ضمان صيدها، والمختار عند النووي ضمان صيدها بسلب الصائد. قلت: وما قاله متجّه؛ لعموم قوله «كما حرم إبراهيم مكة» وإنما اختصت مكة بمنع الكافر من دخولها مطلقا، بخلاف المدينة فيجوز أن يدخلها بإذن الإمام أو نائبه للمصلحة؛ لأن المشركين أخرجوا منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعاقبهم الله بالمنع من دخولها بكل حال تعظيما لرسوله صلّى الله عليه وسلّم واستحسن الروياني في البحر التسوية بين مكة والمدينة في أن من مات من الكفار بهما يخرج ويدفن خارجهما، وعلى القول باختصاصه بمكة موجبه ما قدمناه. الخامسة: حكم لقطة حرم المدينة سوّى صاحب الانتصار من أصحابنا بين حرم مكة والمدينة في أن لقطتهما لا تحل للتملك، بل للحفظ أبدا، وقال الدارمي: لا تلحق لقطة حرم المدينة بحرم مكة في ذلك. قلت: والذي يقتضيه الدليل ترجيح الأول؛ للنص على ذلك في الأحاديث المتقدمة في الفصل الثامن، وإن كان الأصحاب خصوا مكة بالذكر. السادسة: حكم المقاتلة في حرم المدينة مقتضى قوله صلّى الله عليه وسلّم في الأحاديث المتقدمة أيضا «ولا يحمل فيها سلاح لقتال» أن يأتي فيها ما نقل من الخلاف في حرم مكة من أن المقاتلة الجائزة في غيره تحرم فيه كقتال البغاة به «1» ، بل يضيق عليهم إلى أن يخرجوا أو يفيئوا «2» كما ذهب إليه جماعة. وقال الجمهور: يقاتلون؛ لأن هذا القتال من حقوق الله، وحفظها في الحرم أولى، والحرم لا يعيذ عاصيا. وذهب الحسن البصري إلى أنه لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة؛ للنهي عن القتال فيه، فلا يحمل ما هو من أسبابه، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة» رواه مسلم. السابعة: حكم الاستنجاء بحجارة الحرم حكى الماوردي وجهين في جواز الاستنجاء بحجارة الحرم، قال ظاهر المذهب سقوط الفرض بذلك مع تأثيمه. قلت: ينبغي حمله على من نقله من الحرم ليستنجي به في الحل مثلا، وإلا فهو مشكل؛ إذ لا خلاف في إباحة البول في الحرم، فالاستنجاء بالحجارة كذلك، وعبارة شرح المهذب في النقل عن الماوردي بعد حكاية الوجهين في سقوط فرض الاستنجاء بالذهب والديباج: وطردهما الماوردي في الاستنجاء   (1) البغاة: جمع باغي: الخارج عن القانون. (2) الفيئة: التوبة الحسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 بحجارة الحرم، انتهى. وهي محتملة لما قررناه، وقد نقل النووي عدم جواز الأكل في الأواني المعمولة من تراب الحرم، على ما قاله الدميري، ولا شك أنه إنما عنى به المنع منه لمن أخرجها من الحرم كما لا يخفى. الثامنة: حكم نقل تراب الحرم المدني جزم النووي بتحريم نقل تراب الحرم المدني وأحجاره، اكتفاء بما ذكره من الخلاف في الحرم المكي، وصحح فيه التحريم، والرافعي الكراهة، ونقلها النووي عن كثيرين أو الأكثرين، ونقلها القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي في القديم، ونقل التحريم عن نصه في الجامع الكبير؛ وقال في الأم في حجارة الحرم وترابه: لا خير في أن يخرج منها شيء إلى الحل، لأن له حرمة باين بها ما سواها من البلدان، فلا أرى- والله أعلم- أن جائزا لأحد أن يزيله من الموضع الذي باين به البلدان؛ إذ يصير كغيره. وروى الشافعي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما كراهة ذلك. قال الشافعي: وقال غير واحد من أهل العلم: لا ينبغي أن يخرج من الحرم شيء إلى غيره. وحكى الشافعي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أبا حنيفة عن ذلك فقال: لا بأس به. قال أبو يوسف: وحدثنا شيخ عن رزين مولى علي بن عبد الله بن عباس أن عليا كتب إليه أن يبعث إليه بقطعة من المروة «1» فيتخذه مصلى يسجد عليه، ونقل القاضي أبو الطيب عن الشافعي أنه قال: رخص بعض الناس في ذلك، واحتج بشراء البرام من مكة، وهو غلط؛ فإن البرام ليست من حجارة الحرم، بل تحمل من مسيرة يومين وثلاثة من الحرم، وحكى في شرح المهذب اتفاق الأصحاب على أن الأولى ألايحمل تراب الحل وأحجاره إلى الحرم؛ لئلا يحدث لها حرمة لم تكن، قال: ولا يقال «إنه مكروه» مع إطلاقه في الروضة والمناسك كراهته، فكأنه أراد بها معنى خلاف الأولى. وقول صاحب البيان «قال الشيخ أبو إسحاق: لا يجوز إدخال شيء من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم» محمول على نفي الإباحة بمعنى استواء الطرفين، كما وقع مثله في مواضع، وبناء آدم البيت من أجبل ليست من الحرم كلبنان وطور سيناء: إما لأن تحريم الحرم إنما تعلق حكمه وظهر على لسان إبراهيم عليه السلام، وإما لأن شرعه اقتضى ذلك، مع أن الظاهر استثناء نقل حجارة الحل لمصلحة يقتضيها الحال، وما نقله أهل السير من أنهم كانوا يأخذون من تراب قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرت عائشة رضي الله عنها بجدار فضرب عليهم، لا متمسك فيه؛ إذ لم يعرف الفاعل، بل الظاهر أنه ممن لا يحتج بفعله، وأمر عائشة بضرب الجدار يقتضي المنع من   (1) المرو: حجارة بيض رقاق برّاقة تقدح منها النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ذلك، على أنه ليس فيه أنه كان يؤخذ للنقل من الحرم، وقد نقل أبو المعلى السبتي- وكذا خليل والتادلي المالكيون- كلام النووي في المنع من نقل تراب الحرم وأقروه؛ فالظاهر أنه جار على قواعدهم؛ إذ منها سد الذرائع. وقد قيل في سبب عبادة الأصنام: إن بعضهم كان يصحب معه الحجر من الحرم ليتبرك به، واستشكله البرهان بن فرحون بأمور: منها ما تقدمت الإشارة إلى جوابه، ومنها الإجماع على نقل ماء زمزم واستهداء النبي صلّى الله عليه وسلّم له من سهيل بن عمرو فبعث إليه منه، وجوابه أن ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم، مع أنه يخلف؛ فأشبه الحشيش الذي يخلف، ولهذا قال الشافعي: فأما ماء زمزم فلا أكره الخروج به، والماء ليس بشيء يزول ولا يعود، انتهى. مع أن المحذور المتقدم في الأحجار لا يتوقع مثله في الماء؛ إذ المقصود من نقله شربه وهو ظاهر، بخلاف الحجر وشبهه؛ فإن القصد التبرك به، وهو شيء لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولذا أقول: إن من نقل من فخار الحرم كالكراريز «1» لحاجة استعمالها جاز له، ويحمل كلام من أطلق المنع على ما يراد للتبرك أو مع عدم الحاجة إليه، وإذا جاز أخذ حشيش الحرم للتداوي فهذا أولى، وإذا كان الاحتياج إلى آنية الذهب والفضة يجوّز استعمالها فهذا أولى، فإن أريد نقل ذلك لحاجة متوقعة في المستقبل فينبغي تخريجه على ما تقدم في أخذ نبات الحرم للدواء ونحوه، وقد قدمنا فيما جاء في ترابه استثناء تربة صعيب لما جاء فيها من التداوي، وأن الزركشي استثنى تربة حمزة رضي الله عنه لإطباق الناس على نقلها للتداوي بها من الصداع، وحكى البرهان ابن فرحون عن الإمام العالم أبي محمد عبد السلام بن إبراهيم بن ومصال الحاحاني، قال: نقلت من كتاب الشيخ العالم أبي محمد صالح الهزميري قال: قال صالح بن عبد الحليم: سمعت أبا محمد عبد السلام بن يزيد الصنهاجي يقول: سألت أحمد بن يكوت عن تراب المقابر الذي كان الناس يحملونه للتبرك هل يجوز أو يمنع؟ فقال: هو جائز، وما زال الناس يتبركون بقبور العلماء والشهداء والصالحين، وكان الناس يحملون تراب قبر سيدنا حمزة بن عبد المطلب في القديم من الزمان. قال ابن فرحون عقبه: والناس اليوم يأخذون من تربة قريبة من مشهد سيدنا حمزة، ويعملون منها خرزا يشبه السبح، واستدل ابن فرحون بذلك على جواز نقل تراب المدينة، وقد علمت مما تقدم أن نقل تربة حمزة رضي الله عنه إنما هو للتداوي؛ ولهذا لا يأخذونها من نفس القبر، بل من المسيل الذي عنده المسجد «2» ، ولئن صح مشروعية التبرك بتراب قبور   (1) الكراريز: أكواز ضيقة الرأس. واحدها: كراز. (2) المسيل الذي من جهة أحد، لا من القبلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الصالحين فهو أمر خاص بها لا دلالة فيه على جواز نقل مطلق تراب الحرم، وهو أمر لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم والخير كله في الاتباع، وقد قالت الحنابلة أيضا: يكره نقل حصى الحرم وترابه إلى غيره، ولا يدخل غيره إليه، ونقلوا عن أحمد أنه قال: الإخراج أشد، انتهى. ويجب على من أخرج شيئا من تراب الحرم أو حجره أن يرده إليه، ولا ضمان عليه في ترك الرد، قال الكمال الدميري: وإذا نقل تراب أحد الحرمين إلى الآخر هل يزول التحريم- أي فينقطع وجوب الرد- أو يفرق بين نقله للأشرف وعكسه؟ فيه نظر، والله أعلم. الفصل الرابع عشر في ذكر بدء شأنها، وما يؤول إليه أمرها روى ابن لهيعة بسنده إلى عائشة مرفوعا: «إن مكة بلد عظّمه الله، وعظّم حرمته، خلق مكة وحفها بالملائكة قبل أن يخلق شيئا من الأرض كلها بألف عام، ووصلها بالمدينة، ووصل المدينة ببيت المقدس، ثم خلق الأرض كلها بعد ألف عام خلقا واحدا» قال العلامة المقدسي في بعض تأليفاته: هذا حديث غريب جدّا، بل منكر. وعن سليمان عن أبي عمرو الشيباني عن علي رضي الله عنه: كانت الأرض ماء، فبعث الله ريحا فمسحت الأرض مسحا، فظهرت على الأرض زبدة، فقسمها أربع قطع، خلق من قطعة مكة، والثانية المدينة، والثالثة بيت المقدس، والرابعة الكوفة. وهو أثر واه. وروينا في الكبير للطبراني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله عز وجل اطلع إلى أهل المدينة وهي بطحاء قبل أن تعمر ليس فيها مدر ولا بشر، فقال: يا أهل يثرب، إني مشترط عليكم ثلاثا وسائق إليكم من كل الثمرات: لا تعصي، ولا تعلي، ولا تكبّري، فإن فعلت شيئا من ذلك تركتك كالجزور لا يمنع من أكله. وأخرج النسائي من رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس في حديث الإسراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل» الحديث، وفيه: «فركبت ومعي جبريل، فسرت فقال: انزل فصلّ، ففعلت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجر» يعني بفتح الجيم. ووقع في حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني أنه قال: «أول ما أسري به صلّى الله عليه وسلّم مر بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل فصل، فنزل فصلى، فقال: صليت بيثرب» الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وروى رزين عن أنس يرفعه «لما تجلى الله لجبل طور سيناء تشظى ستة أشظاظ «1» » وفي رواية غير رزين «شظايا، فنزلت بمكة ثلاثة: حراء، وثبير، وثور، وفي المدينة: أحد، وعير، وورقان» وفي رواية «ورضوى» بدل عير، ولا يشكل ذلك بكون رضوى بينبع؛ لأن الينبع من توابع المدينة ومضافاتها كما سيأتي، ورواه بعض شراح المصابيح بلفظ «عير، وثور، ورضوى» ومنه يؤخذ حكمة أخرى في تحديد الحرم بعير وثور، وسيأتي بيان أول من سكنها بعد الطوفان في أخبار سكانها. وروينا في الأمام للشافعي حديث «أسكنت أقل الأرض مطرا، وهي بين عيني السماء عين الشام وعين اليمن» ورواه ابن زبالة بزيادة «فاتخذوا الغنم على خمس ليال من المدينة» . وروى أيضا حديث «يا معشر المهاجرين إنكم بأقل الأرض مطرا، فأقلوا من الماشية، وعليكم بالزرع، وأكثروا فيه من الجماجم» . وروى الشافعي أيضا حديث «توشك المدينة أن تمطر مطرا لا يكن أهلها «2» البيوت، ولا يكنهم إلا مظال الشعر» . وروى أيضا: «توشك المدينة أن يصيبها مطر أربعين ليلة لا يكن أهلها بيت من مدر» . وروى ابن زبالة حديث «كيف بك يا عائشة إذا رجع الناس بالمدينة وكانت كالرمانة المحشوة؟ قالت: فمن أين يأكلون يا نبي الله؟ قال: يطعمهم الله من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومن جنات عدن» . وأورد المرجاني في كتابه أخبار المدينة عن جابر مرفوعا «ليعودن هذا الأمر إلى المدينة كما بدأ منها، حتى لا يكون إيمان إلا بها» الحديث. وروى أحمد برجال ثقات «يوشك أن يرجع الناس إلى المدينة حتى يصير مسالحهم بسلاح» ومسالحهم: جمع مسلح، وهم القوم الذين يحفظون الثغور، وسلاح- كقطام- موضع بقرب خيبر. وفي مسلم حديث: «تبلغ المساكن أهاب أو يهاب» بكسر المثناة التحتية. وروى أحمد في حديث طويل أنه صلّى الله عليه وسلّم «خرج حتى أتى بئر الأهاب، قال: يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان» وبئر أهاب: سيأتي أنها بالحرة الغربية. وروى أبو يعلى عن زيد بن وهب قال: حدثني أبو ذر رضي الله عنه قال: قال لي   (1) الأشظاظ: شظايا مفردها شظية: الفلقة تتناثر من جسم صلب. ورؤوس الأضلاع السفلى وهي شبيهة بالغضاريف. (2) كنّ الشيء: ستره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا بلغ البناء- أي: بالمدينة- سلعا فارتحل إلى الشام» فلما بلغ البناء سلعا قدمت الشام. وروى ابن زبالة حديث «ليوشكن الدين أن ينزوي إلى هذين المسجدين، ويوشكن أن يتشاحوا على موضع الوتد بالحمى كشح أحدكم أن ينقص من داره إلى جانب المسجد، وليوشكن أن يبلغ بنيانهم يهيقا» قالوا: يا رسول الله، فمن أين يأكلون؟ قال: «من هنا وهاهنا» يشير إلى السماء والأرض. ويهيقا أوله آخر الحروف: موضع بقرب المدينة على ما سيأتي عن المجد آخر الباب السابع. وذكر ابن زبالة الشجرة التي يضاف إليها مسجد ذي الحليفة، ثم روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لا تقوم الساعة حتى يبلغ البناء الشجرة» . وروي أيضا عنه: «أريتك شرف السيالة وشرف الروحاء؛ فإنه منازل أهل الأردن إذا أجيز الناس إلى المدينة» . وفي الكبير للطبراني في حديث: «سيبلغ البناء سلعا، ثم يأتي على المدينة زمان يمر السفر على بعض أقطارها فيقول: قد كانت هذه مدة عامرة من طول الزمان وعفو الأثر» . وروى النسائي عن أبي هريرة حديث: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة» ورواه الترمذي بنحوه، وقال: حسن غريب، ورواه ابن حبان بلفظ: «آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة» . وروى أبو داود عن معاذ مرفوعا: «عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية وخروج الدجال» وروى أبو داود أيضا مرفوعا «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر» . وفي ابن شبة عن أبي هريرة: «ليخرجن أهل المدينة من المدينة خير ما كانت، نصفا زهوا، ونصفا رطبا، قيل: من يخرجهم منها يا أبا هريرة؟ قال: أمراء السوء» . وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا نحوه، وأن عبد الله بن عمر كان يردّ عليه، فقال له أبو هريرة: لم تردّ علي؟ فوالله لقد كنت أنا وأنت في بيت حين قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يخرج منها أهلها خير ما كانت» فقال ابن عمر: أجل، قد كنت أنا وأنت في بيت، ولكن لم يقله، إنما قال: «أعمر ما كانت» ولو قال: «خير ما كانت» لكان ذلك وهو حي وأصحابه، فقال أبو هريرة: صدقت والذي نفسي بيده، وفيه عنه أيضا: «ليجيئن الثعلب حتى يقيل في ظل المنبر، ثم يروح لا ينهنهه أحد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وفي رواية عنه: «لا تقوم الساعة حتى يجيء الثعلب فيربض على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا ينهنهه أحد» وفيه أيضا عن شريح بن عبيد أنه قرأ كتابا لكعب: «ليغشين أهل المدينة أمر يفزعهم حتى يتركوها وهي مذللة «1» ، وحتى يبول السنانير على قطايف الخز ما يروعها شيء، وحتى يخرق الثعالب في أسواقها ما يروعها شيء» . وفي الصحيحين حديث «لتتركون المدينة» ولفظ مسلم: «لتتركن المدينة على خير ما كانت مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي» يريد عوافي الطير والسباع «وآخر من يحشر منها راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدانها وحوشا» ولفظ مسلم «حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرّا على وجوههما» وهو في الموطأ بلفظ: «لتتركن المدينة على أحسن ما كانت حتى يدخل الكلب أو الذئب فيغذى على بعض سواري المسجد» . ورواه ابن شبة ولفظة: «فيغذى على سواري المسجد أو المنبر» . ويغدي- بالغين والذال المعجمتين- أي يبول عليها دفعة دفعة، يقال: غذت المرأة ولدها بالتشديد، إذا أبالته، وبالتخفيف إذا أطعمته. وفي ابن زبالة- وتبعه ابن النجار- حديث «لا تقوم الساعة حتى يغلب على مسجدي هذا الكلاب والذئاب والضباع فيمر الرجل ببابه فيريد أن يصلى فيه فما يقدر عليه» . وفي ابن شبة بسند صحيح حديث: «أما والله لتدعنها مذللة أربعين عاما للعوافي، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع» ورواه ابن زبالة بنحوه. وروى أحمد برجال الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صعد أحدا، فأقبل على المدينة وقال: ويل أمها قرية، يدعها أهلها كأينع ما تكون» الحديث، وفي رواية له: «ويل أمك قرية، يدعك أهلك وأنت خير ما تكونين» . وروي أيضا بإسناد حسن حديث للبشير بن راكب في حب وادي المدينة: «فليقولن لقد كان في هذه مرة حاضرة من المؤمنين» . وروى أيضا برجال ثقات حديث: «المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة، قالوا: فمن يأكلها؟ قال: السباع والعائف» . الفصل الخامس عشر فيما ذكر من وقوع ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم من خروج أهلها وتركها، وذكر كائنة الحرة المقتضية لذلك قد اختلف الناس: متى يكون هذا الترك؟ فقال القاضي عياض: إن هذا جرى في   (1) مذللة: مسهّلة وممهدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 العصر الأول، وإنه من المعجزات، فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة إلى الشام والعراق، وذلك أحسن ما كانت من حيث الدين والدنيا: أما الدين فلكثرة العلماء بها، وأما الدنيا فلعمارتها واتساع حال أهلها، قال: وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس، وبقيت ثمارها للعوافي «1» ، وخلت مدة، ثم تراجع الناس إليها. وحكى البدر ابن فرحون في شرح الموطأ، ومن خطه نقلت، عن القاضي أيضا أنه قال: وقد حكى قوم كثيرون أنهم رأوا ما أنذر به النبي صلّى الله عليه وسلّم من تغذية الكلاب على سواري مسجدها، انتهى. وقال النووي: الظاهر المختار أن الترك للمدينة يكون آخر الزمان عند قيام الساعة، ويوضحه قصة الراعيين من مزينة، فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة، ولفظ مسلم واضح في ذلك؛ فإنه قال «ثم يحشر راعيان» ويؤيده كونها آخر قرى الإسلام خرابا. قلت: ويؤيده رواية ابن شبة المتقدمة «ليدعنها مذللة أربعين عاما للعوافي» وهذا لم يقع اتفاقا، على أنه ورد ما يقتضي أن الترك للمدينة يكون متعددا، فلعل ما ذكره القاضي هو المرة الأولى، وبقي الترك الذي يكون آخر الزمان؛ لأن ابن شبة روى حديث «ليخرجن أهل المدينة من المدينة، ثم ليعودن إليها، ثم ليخرجن منها، ثم لا يعودون إليهما، وليدعنها وهي خير ما يكون مونعة «2» » . وروي أيضا عن عمر مرفوعا «يخرج أهل المدينة منها ثم يعودون إلها فيعمرونها حتى تمتلئ وتبني، ثم يخرجون منها فلا يعودون إليها أبدا» . وروى ابن شبة عن أبي هريرة قال: «آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة وآخر من مزينة فيقولان: أين الناس؟ فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس» . وروي أيضا عن حذيفة بن أسيد قال: «آخر الناس محضرا رجلان من مزينة يفقدان الناس، فيقول أحدهما لصاحبه: قد فقدنا الناس منذ حين، انطلق بنا إلى شخص من بني فلان، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا، ثم يقول: انطلق بنا إلى المدينة، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا، ثم يقول: انطلق بنا إلى منزل قريش ببقيع الغرقد، فينطلقان فلا يريان إلا السباع والثعالب، فيوجهان نحو البيت الحرام» .   (1) العواف: ما يظفر به الإنسان والحيوان ليلا من صيد ونحوه. (2) المونعة: الثمرة الناضجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 قلت: وكأنهما إذا توجها نحو البيت الحرام ينزل إليهما الملكان قبل ذهابهما؛ فلا يخالف ما تقدم، فالظاهر أن ما ذكره القاضي هو الترك الأول، وسببه فيما يظهر كائنة الحرة، وقد تقدم من حديث أبي هريرة أنه قيل له: من يخرجهم منها يا أبا هريرة؟ قال: أمراء السوء، وروى الشيخان- واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة مرفوعا «يهلك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم» . وروى مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: «قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه» الحديث، وفي رواية عنه: أخبرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما هو كائن إلى أن تقوم القيامة، فما من شيء إلا قد سألته، إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة، وروى الترمذي حديثا «إذا مشت أمتي المطيطا «1» ، وخدمتهم بنات فارس والروم، رد الله بأسهم بينهم، وسلط شرارهم على خيارهم» . وروى ابن شبة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «والذي نفسي بيده ليكونن بالمدينة ملحمة يقال لها الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، فاخرجوا من المدينة ولو على قدر بريد» . وروى ابن أبي شيبة عنه أنه قال: اللهم لا تدركني سنة ستين، ولا إمرة الصبيان، يشير إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك، كما قاله الحافظ ابن حجر، فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها، فأشار إلى دولة يزيد وفيها كانت وقعت الحرة، وتسمى حرة واقم، وحرة زهرة. وروى الواقدي في كتاب الحرة عن أيوب بن بشير المعادي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «خرج سفرا من أسفاره، فلما مر بحرة زهرة وقف واسترجع، فسيء بذلك من معه، فظنوا أن ذلك من أمر بسفرهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما الذي رأيت؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أما إن ذلك ليس من سفركم هذا، قالوا: فما هو يا رسول الله قال؟ يقتل في هذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي» . وروي أيضا عن سفيان بن أبي أحمد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أشرف على بني عبد الأشهل أشار بيده، فقال: «يقتل بهذه الحرة خيار أمتي» وروي أيضا عن كعب قال: نجد في التوراة أن في حرة شرقي المدينة مقتلة تضيء وجوههم يوم القيامة صنعا» وروى أيضا أنه ذكر عند ابن عباس قتلى الحرة، فقال ابن عباس: يرحمهم الله، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقتل بحرة زهرة خيار أمتي» .   (1) المطيطاء: التبختر في المشي ومد اليدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وروى البيهقي في الدلائل خبر أيوب بن بشير المتقدم، ثم قال: هذا مرسل وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها [الأحزاب: 14] قال: لأعطوها، يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة. ورواه بالسند إلى ابن عباس وقال: إنه مؤكد لمرسل ابن بشير، وسيأتي في حرة واقم ما رواه ابن زبالة من أن السماء مطرت على عهد عمر رضي الله عنه، فخرج مع أصحابه حتى أتوا حرة واقم وشراجها تطرد، فقال كعب: أما والله يا أمير المؤمنين لتسيلن هذه الشراج بدماء الناس كما تسيل بهذا الماء، فدنا منه ابن الزبير فقال: يا أبا إسحاق ومتى ذلك؟ فقال: إياك أن تكون على رجلك أو يدك! وروى ابن زبالة عن كعب أيضا: إنا نجد في كتاب الله: حرة شرقي المدينة يقتل بها مقتله تضيء وجوههم يوم القيامة كما يضيء القمر ليلة البدر. وقعة الحرة قلت: وسياق كلام القرطبي يقتضي أنها هي السبب في خروج أهل المدينة المذكور في كلام عياض؛ فإنه ذكر نحو كلام عياض، وقال: فلما انتهى حالها- يعني المدينة- كمالا وحسنا تناقص أمرها إلى أن أقفرت جهاتها، وتوالت الفتن فيها؛ فخاف أهلها، فارتحلوا عنها، ووجّه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش عظيم من أهل الشام، فنزل بالمدينة، فقاتل أهلها، فهزمهم وقتلهم بحرة المدينة قتلا ذريعا، واستباح المدينة ثلاثة أيام، فسميت وقعة الحرة لذلك، ويقال لها: حرة زهرة، وكانت الوقعة بموضع يعرف بواقم على ميل من المسجد النبوي، فقتل بقايا المهاجرين والأنصار وخيار التابعين، وهم ألف وسبعمائة، وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان، وقتل بها من حملة القرآن سبعمائة رجل، ومن قريش سبعة وتسعون قتلوا ظلما في الحرب صبرا، قال: وقال الإمام الحافظ ابن حزم في المرتبة الرابعة: وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبالت، وراثت بين القبر والمنبر أدام الله تشريفها وأكرهوا الناس أن يبايعوا ليزيد على أنهم عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق، وذكر له يزيد بن عبد الله بن زمعة البيعة على حكم القرآن والسنة، فأمر بقتله، فضربت عنقه صبرا، وذكر الأخباريون أنها خلت من أهلها، وبقيت ثمارها للعوافي كما قال صلّى الله عليه وسلّم وفي حال خلائها غذت الكلاب على سواري المسجد، انتهى كلام القرطبي. سبب نقمة يزيد بن معاوية على أهل المدينة وروى الطبراني في خبر طويل عن عروة بن الزبير قال: لما مات معاوية رضي الله عنه تثاقل عبد الله بن الزبير عن طاعة ابنه يزيد، وأظهر شتمه، فبلغ ذلك يزيد، فأقسم لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 يؤتى به إلا مغلولا، وإلا أرسل إليه، فقيل لابن الزبير: ألا نصنع لك أغلالا من فضة تلبس عليها الثوب وتبر قسمه فالصلح أجمل بك؟ قال: فلا أبرّ الله قسمه، ثم قال: ولا ألين لغير الحق أسأله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر ثم دعا إلى نفسه، فوجه إليه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري في جيش أهل الشام، وأمرهم بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ من ذلك صار إلى مكة، قال: فدخل مسلم بن عقبة المدينة، وهرب منه يومئذ بقايا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاث فيها، وأسرف في القتل، ثم خرج منها، فلما كان في بعض الطريق مات واستخلف حصين بن نمير الكندي، ثم ذكر حصاره ابن الزبير، ورميه بالمنجنيق، واحتراق الكعبة، قال: وبلغ حصين بن نمير موت يزيد بن معاوية فهرب. قلت: وسبب أمر يزيد بقتال أهل المدينة ما ذكره الإمام ابن الجوزي قال: لما دخلت سنة اثنين وستين ولّى يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان المدينة، فبعث إلى يزيد وفدا من المدينة، فلما رجع الوفد أظهروا شتم يزيد، وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويلعب بالكلاب؛ وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه. وقال المنذر: أما واله لقد أجازني مائة ألف درهم، ولا يمنعني ما صنع أن أصدقكم عنه؛ والله إنه يشرب الخمر، وإنه ليسكر حتى يدع الصلاة؛ ثم بايعوا لعبد الله بن حنظلة الغسيل؛ وأخرجوا عثمان بن محمد عامل يزيد؛ وكان ابن حنظلة يقول: يا قوم؛ ما خرجنا على يزيد حتى خفت أن نرمى بالحجارة من السماء؛ والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسنا؛ وكانت قصة الحرة سنة ثلاث وستين؛ وفي هذه السنة أخرج أهل المدينة عامل يزيد المتقدم ذكره. قلت: وفي كتاب الحرة للواقدي ما ملخصه: أن أول ما هاج أمر الحرة أن ابن ميناء كان عاملا على صوافي «1» المدينة- وبها يومئذ صواف كثيرة- حتى كان معاوية يجد بالمدينة وأعراضها مائة ألف وسق وخمسين ألف وسق، ويحصد مائة ألف وسق حنطة، واستعمل يزيد على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان؛ وأن ابن ميناء أقبل بشرج له من الحرة يريد الأموال التي كانت لمعاوية؛ فلم يزل يسوقه ولا يصده عنه أحد حتى انتهى إلى بلحارث بن الخزرج، فنقب النقيب فيهم، فقالوا: ليس ذلك لك، هذا حدث وضرر علينا، فأعلم الأمير عثمان بن محمد بذلك، فأرسل إلى ثلاثة من بلحارث، فأجابوه إلى أن يمر به، فأعلم ابن ميناء فغدا بأصحابه فذبّوهم «2» ، فرجع إلى الأمير فقال: اجمع لهم   (1) الصوافي: الأملاك، والأرض مات أهلها ولا وارث لها. والضياع كان يستخلصها السلطان لخاصته. (2) ذبّ عنه: دفع عنه ومنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 من قدرت، وبعث معه بعض جند، وقال: مر به ولو على بطونهم، فغدا ابن ميناء متطاولا عليهم، وعدا من يذبهم من الأنصار، ورفدتهم قريش «1» فذبوهم حتى تفاقم الأمر؛ فرجع ولم يعمل شيئا. وكتب عثمان بن محمد إلى يزيد يخبره بذلك، ويحرضه على أهل المدينة جميعا؛ فاستشاط غضبا؛ وقال: والله لأبعثن إليهم الجيوش، ولأوطئنها الخيل. انتهى. وقال ابن الجوزي: قال أبو الحسن المدايني- وكان من الثقات-: أتى أهل المدينة المنبر فخلعوا يزيد، فقال عبد الله بن أبي عمرو بن حفص المخزومي: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي، ونزعها عن رأسه، إني لأقول هذا وقد وصلني وأحسن جائزتي، ولكن عدو الله سكر. وقال آخر: قد خلعته كما خلعت نعلي؛ حتى كثرت العمائم والنعال. ثم ولوا على قريش عبد الله بن مطيع؛ وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة. ثم حاصر القوم من كان بالمدينة من بني أمية في دار مروان. فكتب مروان ومن معه إلى يزيد: إنا قد حصرنا ومنعنا العذب، فيا غوثاه. فوصل الكتاب إليه. فبعث إلى مسلم بن عقبة- وهو شيخ كبير- فجاء حتى دخل عليه، وقال له: اخرج وسر بالناس، فخرج مناديه، فنادى: أن تسيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته. فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل. وكتب يزيد إلى ابن مرجانة أن اغز ابن الزبير، فقال: لا والله لا أجمعها للفاسق أبدا قتل ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإغزاء البيت وقال يزيد لمسلم: إن حدث بك حادث فاستخلف حصين بن نمير السكوني. وقال له: ادع القوم ثلاثا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا بما فيها من مال أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عنهم، وانظر علي بن الحسين فاستوص به، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه، فلما بلغ أهل المدينة إقبال الحصين وثبوا على من كان محصورا من بني أمية، وقالوا: لا نكف عنكم حتى نضرب أعناقكم أو تعطونا عهد الله وميثاقه ألا تبغوا غائلة» ، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدوا، فاعطوهم العهد على ذلك، فأخرجوهم من المدينة، فخرجوا حتى لقوا مسلم بن عقبة، وأرسل إليه مروان ابنه عبد الملك فأشار عليه أن يأتيهم من ناحية الحرة، وأن ينتظرهم ثلاثا ففعل، فلما مضت الثلاث قال: يا أهل المدينة، ما تصنعون؟ قالوا:   (1) رفدتهم قريش: أعانتهم وساعدتهم على طردهم. (2) الغائلة (ج) غوائل: الفساد والشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 نحارب، قال: لا تفعلوا وادخلوا في الطاعة، قالوا: لا نفعل، وكانوا قد اتخذوا خندقا، فنزل منهم جماعة، وحمل ابن الغسل على الخيل حتى كشفها، وقاتلوا قتالا شديدا، وجعل مسلم يحرض أصحابه، وكان به مرض؛ فنصب له سرير بين الصفين وقال: قاتلوا عن أميركم؛ وأباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال، ورفعوا على النساء؛ وقاتل عبد الله بن مطيع حتى قتل هو وبنون له سبعة؛ وبعث برأسه إلى يزيد؛ فأفزع ما جرى من بالمدينة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ونقل الواقدي أن القوم لما قربوا تشاور أهل المدينة في الخندق خندق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وشكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية؛ وعملوا في الخندق خمسة عشر يوما، وكان لقريش ما بين راتج إلى مسجد الأحزاب، والأنصار ما بين مسجد الأحزاب إلى بني سلمة، وللموالي ما بين راتج إلى بني عبد الأشهل، فلما وصل القوم عسكروا بالجرف، وبعثوا رجالا من رجالهم، فأحدقوا بالمدينة من كل ناحية، فما يجدون مدخلا، والناس متلبسون السلاح قد قاموا على أفواه الخنادق يرمون بالنبل والحجارة، وجلس مسلم بناحية واقم، فرأى أمرا هائلا، فاستعان بمروان وكان وعده بوجه في ذلك لما لقيه بوادي القرى؛ فخرج مروان حتى جاء بني حارثة، فكلم رجلا منهم ورغبه في الصنيعة «1» ، وقال: تفتح لنا طريقا فاكتب بذلك إلى يزيد فيصل أرحامكم، ففتح لهم طريقا من قبلهم حتى أدخل له الرجال من بني حارثة إلى بني عبد الأشهل، وجاء الخبر عبد الله بن حنظلة وكان بناحية الصورين في أصحابه، وأقبل عبد الله بن مطيع وكان من ناحية ذباب، وأقبل ابن هريرة في الموالي يطوف بهم على الخنادق، وأقبل ابن ربيعة وكان من ناحية بطحان، فاجتمعوا جميعا من حيث يدخل أهل الشام، قال محمود بن لبيد: قد حضرت يومئذ، فإنما أتينا من قومنا بني حارثة، وكان مروان حين أخرج عمل به عمل قبيح، فكلم رجلا فأدخله ومعه فارس ثم جعلت الخيل تتحدر على أثره، وقد وقفنا بني عبد الأشهل فقاتلنا ما وجدنا حتى عاينا الموت وكثرت القوم وتفرق الناس فقتلوا في كل وجه. وروى الواقدي أيضا أن قصر بني حارثة كان أمانا لمن أراد أهل الشام أن يؤمنوه، وكانت بنو حارثة آمنين، وأول دار انتهبت والحرب بعد لم ينقطع دار بني عبد الله الأشهل، انتهى. وأخرج ابن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ أهل   (1) الصنيعة: كل ما عمل من خير أو إحسان. (ج) صنائع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 المدينة يتحدثون أن معاوية رضي الله عنه لما احتضر دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته، فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة، فأكرمهم وأجازهم، فرجع فحرض الناس على يزيد، وعابه، ودعاهم إلى خلع يزيد، فأجابوه، فبلغ ذلك يزيد، فجهز إليهم مسلم بن عقبة، فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة، فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير؛ وذلك أن بني حارثة أدخلوا قوما من الشاميين من جانب المدينة، فترك أهل المدينة القتال، ودخلوا المدينة خوفا على أهليهم، فكانت الهزيمة، وقتل من قتل، وبايع مسلم الناس على أنهم خول «1» ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم بما شاء، انتهى. وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند صحيح عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها [الأحزاب: 14] يعني إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة في وقعة الحرة، قال يعقوب: وكانت وقعة الحرة سنة ثلاث وستين، اه. قالوا: وكلمات امرأة مسلم بن عقبة في ولدها، وقالت: أنا مولاتك، وابني في الأسر؛ فقال: عجلوه لها؛ فضربت عنقه وقال: أعطوها رأسه، أما ترضين ألاتقتلي حتى تكلمي في ابنك؟! قلت: وسموه مسرفا لإسرافه في القتل. ونقل الواقدي في كتاب الحرة أن يزيد دخل على مسرف وكان قد جعله في علية لمرضه؛ فقال له: لولا مرضك لكنت أنت صاحب هذا الأمر، لما أعرف نصيحتك، قال مسرف: أنشدك الله يا أمير المؤمنين ألا تولي أمرهم غيري؛ فإني والله أنا صاحبهم، رأيت في النوم شجرة غرقد تصيح بأغصانها: يا ثارات عثمان، فأقبلت وجعلت الشجرة تقول: على يدي مسلم بن عقبة، حتى جئتها فأخذتها، فعبرت ذلك أني أكون القائم بأمر عثمان؛ فهم قتلته، قال يزيد: فسر إليهم على بركة الله، فأنت صاحبهم، وانظر إذا قدمت المدينة، فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حربا فالسيف السيف، لا تبق فيهم، وأنهبها ثلاثا، وأجهز على جريحهم، واقتل مدبرهم، وإياك أن تبقي عليهم، وإن لم يعرضوا لك فامض إلى ابن الزبير. وروى ابن الجوزي من طريق المدايني عن جويرية أن مسلما نظر إلى قتلى الحرة فقال: لئن دخلت النار بعدها إني لشقي، وأسر أسرى فحبسهم ثلاثة أيام لم يطعموا،   (1) الخول: عطيّة الله من النعم والعبيد والإماء وغيرهم من الأتباع والحشم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وجاؤوا بسعيد بن المسيب فقالوا: بايع، فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فأمر بضرب عنقه، فشهد رجل أنه مجنون، فخلى عنه. عدد القتلى في وقعة الحرة وعن المدايني أيضا عن شيخ من أهل المدينة قال: سألت الزهري: كم كانت القتلى يوم الحرة؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس قريش والأنصار والمهاجرين، ومن وجوه الموالي وممن لا يعرف من عبد وحر وامرأة عشرة آلاف، وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين. وفي كتاب الحرة للواقدي قال: حدثني عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري: كم قتل من الناس يومئذ؟ قال: أما من وجوه الناس فأكثر من سبعمائة من قريش والأنصار ووجوه الموالي، ثم عدّد علي من قتل حتى ما كنت أرى أنه بقي أحد إلا قتل يومئذ، ثم قال الزهري: ولقد قتل ممن لا يعرف من الموالي والعبيد والصبيان والنساء أكثر من عشرة آلاف، ودخلوها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين. قلت: وقال القرطبي لليلتين بقيتا من ذي الحجة، وعن الأقشهري عن أبي معشر والواقدي أنها يوم الأربع لليلتين خلتا من ذي الحجة، قلت: ولم أره في كتاب الواقدي، ولعله سبق قلم، والله أعلم. وذكر المجد أنهم سبوا الذرية، واستباحوا الفروج، وأنه كان يقال لأولئك الأولاد من النساء اللاتي حملن: أولاد الحرة، قال: ثم أحضر الأعيان لمبايعة يزيد، فلم يرض إلا أن يبايعوه على أنهم عبيد يزيد، فمن تلكأ أمر بضرب عنقه، وجاؤوا بعلي بن عبد الله بن عباس، فقال الحصين بن نمير: يا معشر اليمن عليكم ابن أختكم، فقام معه أربعة آلاف رجل، فقال لهم مسلم: أخلعتم أيديكم من الطاعة؟ فقالوا: أما فيه فنعم، فبايعه على أن ابن عم يزيد، انتهى. وعن المدايني أيضا عن محمد بن عمر قال: قال ذكوان مولى مروان: شرب مسلم بن عقبة دواء بعدما أنهب المدينة، ودعا بالغداء، فقال له الطبيب: لا تعجل فإني أخاف عليك إن أكلت قبل أن تكمل الدواء، قال: ويحك! إنما كنت أحب البقاء حتى أشفي نفسي من قتلة عثمان، فقد أدركت ما أردت، فليس شيء أحب إلي من الموت على طهارتي؛ فإني لا أشك أن الله قد طهّرني من ذنوبي بقتل هؤلاء الأرجاس. قلت: هذا من عظيم حمقه، قاتله الله وأشقاه! فإن هذا مما يزيد في عظيم جرمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 من قتل من الصحابة يوم الحرة وممن قتل صبرا يومئذ من الصحابة: عبد الله بن حنظلة الغسيل- قال ابن حزم: قتل مع ثمانية من بنيه- وعبد الله بن زيد حاكي وضوء النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعقل بن سنان الأشجعي- وكان شهد فتح مكة، وكان معه راية قومه يومئذ- وفيه يقول الشاعر: ألا تلكم الأنصار تبكي سراتها ... وأشجع تبكي معقل بن سنان ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وقد ذكر ابن جرير الطبري الإمام أن عبد الله بن الغسيل كان يقول: بعدا لمن رام الفساد وطغى ... وجانب القصد وأسباب الهدى لا يبعد الرحمن إلا من عصى ثم تقدم فقاتل حتى قتل، وقتل معه أخوه لأمه محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وأبوه كان خطيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين ورد وفد تميم، وجعل مسلم بن عقبة يطوف على القتلى ومعه مروان بن الحكم، حتى مر على عبد الله بن الغسيل وهو ماد أصبعه السبابة، فقال مروان: أما والله لئن نصبتها ميتا لطالما نصبتها حيا. وروى عن محمد بن كعب القرظي قال: قال مروان لعبد الله بن حنظلة الغسيل وقد رآه مشيرا بأصبعه وقد يبست: لئن أشرت بها ميتا لطالما دعوت وتضرعت بها إلى الله تعالى، فقال رجل من أهل الشام: إن كان هو كما تقول فما دعوتنا إلا لقتل أهل الجنة، فقال مروان: خالفوا ونكثوا. وفي الذيل على ابن النجار للعراقي: ذكر محمد بن سعد في الطبقات أن مروان بن الحكم كان يحرض مسلم بن عقبة على أهل المدينة، وجاء معه معينا له حتى ظفر بهم، وانتهبت المدينة، فلما قدم مروان على يزيد شكر له ذلك وأدناه. وروى ابن الجوزي بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: ما أصلي لله تعالى صلاة إلا دعوت على بني مروان. وبسنده أيضا إليه قال: لقد رابني ليالي الحرة ما في المسجد أحد من خلق الله غيري، وإن أهل الشام ليدخلون زمرا يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون، ولا يأتي وقت صلاة إلا سمعت أذانا من القبر، ثم أقيمت الصلاة فتقدمت فصليت وما في المسجد أحد غيري. وبسنده أيضا إلى المدايني عن أبي قرة قال: قال هشام بن حسان: ولدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وعن المدايني أيضا عن أبي عبد الرحمن القرشي عن خالد الكندي عن عمته أم الهيثم بنة يزيد قالت: رأيت امرأة من قريش تطوف، فعرض لها أسود فعانقته وقبلته، فقلت: يا أمة الله، أتفعلين هذا بهذا الأسود؟ فقالت: هو ابني، وقع علي أبوه يوم الحرة. ونقل العراقي في ذيله عن شيخه أبي المظفر السمعاني أنه روي بسنده إلى أبي غزية الأنصاري قال: كان قوم من أهل المدينة يجتمعون في مجلس لهم بالليل يسهرون فيه، فلما قتل الناس قتلوا ونجا منهم رجل فجاء إلى مجلسه فلم يحس منهم أحدا، ثم جاء الليلة الثانية فكذلك، ثم جاء الثالثة فكذلك، فتمثل بهذا البيت: ألا ذهب الكماة وخلّفوني ... كفى حزنا بذكرى للكماة قال: فنودي من المجلس: فدع عنك الكماة فقد تولّت ... ونفسك فابكها قبل الممات فكلّ جماعة لا بدّ يوما ... يفرّق بينها شعب الشّتات وروى الطبراني عن أبي هارون العبدي قال: رأيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه ممعط اللحية «1» ، فقلت: تعبث بلحيتك؟ قال: لا، هذا ما لقيت من ظلمة أهل الشام، دخلوا زمن الحرة، فأخذوا ما كان في البيت من متاع أو خرثي «2» ، ثم دخلت طائفة أخرى فلم يجدوا في البيت شيئا فأسفوا أن يخرجوا بغير شيء، فقالوا: أضجعوا الشيخ، فجعل كل يأخذ من لحيتي خصلة. حرق مسلم بن عقبة والخلاف فيه وروي أيضا عن محمد بن سعيد خبرا قال فيه: فلما جاء يزيد خلاف ابن الزبير ودعاؤه إلى نفسه دعا مسلم بن عقبة المري وقد أصابه الفالج وقال: إن أمير المؤمنين- يعني أباه- عهد إلي في مرضه إن رابني من أهل الحجاز ريب أن أوجهك إليهم، وقد رابني، فقال: إني كما ظن أمير المؤمنين، اعقد لي وعبّ الجيوش، قال: فورد المدينة فأباحها ثلاثا، ثم دعا إلى بيعة يزيد على أنهم أعبد له قن في طاعة الله ومعصيته، فأجابوه إلى ذلك، إلا رجلا واحدا من قريش أمه أم ولد، فقال له: بايع ليزيد على أنك عبد في طاعة الله ومعصيته، قال: بل في طاعة الله، فأبى أن يقبل ذلك منه، فقتله، فأقسمت أمه قسما لئن أمكنها من مسلم حيا أو ميتا أن تحرقه بالنار، فلما خرج مسلم بن عقبة من المدينة اشتدت علته فمات، فخرجت أم القرشي بأعبد لها إلى قبر مسلم، فأمرت به أن ينبش من عند رأسه فلما وصلوا إليه إذا بثعبان قد التوى على عنقه قابضا بأرنبة أنفه   (1) ممعط اللحية: تساقط شعرها من داء ونحو ذلك. (2) الخرثى: أثاث البيت، أو أردأ المتاع والغنائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 يمصها، قال: فكاع «1» القوم عنه، وقالوا: يا مولاتنا انصرفي فقد كفاك الله شره، وأخبروها، فقالت: لأوفين الله بما وعدته، ثم قالت: انبشوه من عند الرجلين، فنبشوا، فإذا بالثعبان لاو ذنبه برجليه، قال: فتنحت وصلت ركعتين، ثم قالت: اللهم إنك تعلم أني إنما غضبت على مسلم بن عقبة اليوم لك فخل بيني وبينه، ثم تناولت عودا فمضت إلى ذنب الثعبان فانسل من مؤخر رأسه فخرج من القبر، ثم أمرت به؛ فأخرج من القبر ثم أحرق بالنار. قلت: وفي كتاب الحرة للواقدي أن الثابت بالبلد عندنا أن مسرفا لما دفن بثنية المشلل «2» وكانت أم ولد ليزيد بن عبد الله بن ربيعة تسير وراء العسكر بيومين أو ثلاثة حتى جاءها الخبر بذلك، فانتهت إليه، فنبشته ثم صلبته على المشلل، قال الضحاك: فحدثني من رآه مصلوبا يرمى كما يرمى قبر أبي رغال. وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث قال: والله ما خلصت إليه، ولقد نبشت عنه ولكنها لما انتهت إلى لحده وجدت أسود من الأساود منطويا على رقبته فاتحا فاه، فانصرفت عنه. وقال ابن الجوزي: لما دخلت سنة أربع وستين- وقد فرغ مسلم من قتال أهل المدينة- سار متوجها إلى مكة، واستخلف على المدينة روح بن زنباع، وسار إلى ابن الزبير؛ فمات في الطريق. قلت: وذلك مصداق ما جاء في من يقصد أهل المدينة بسوء؛ فأهلكه الله سريعا. قال القرطبي: أهلكه الله منصرفه عن المدينة، ابتلاه الله بالماء الأصفر في بطنه؛ فمات بقديد بعد الوقعة بثلاث ليال. وقال الطبري: مات بهرشى بعد الوقعة بثلاث ليال، وكان لحماقته الموفرة يقول عند موته: اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة ألاإله إلا الله أحب إلي من قتال أهل المدينة، ولئن دخلت النار بعدها إني لشقي، ثم دعا حصين بن نمير السكوني وقال له: أمير المؤمنين ولاك بعدي. فأسرع السير، ولا تؤخر ابن الزبير، وأمره أن ينصب المجانيق على مكة، وقال: إن تعوذوا بالبيت فارمه، وحاصر مكة أربعة وستين يوما جرى فيها قتال   (1) كاعوا عنه: ابتعدوا عنه. (2) المشلل: جبل يهبط منه إلى قديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 شديد، وقذفت الكعبة بالمجانيق يوم السبت ثالث ربيع الأول، وأخذ رجل قبسا في رأس رمح فطارت به الريح فاحترق البيت، فجاءهم نعي يزيد بن معاوية إهلال ربيع الآخر، وكان بين الحرة وبين موته ثلاثة أشهر، وقال القرطبي: دون ثلاثة أشهر؛ لأنه توفي بالذبحة وذات الجنب في نصف ربيع الأول، فلقد ذاب ذوب الرصاص، واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام، فذلوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلا أخذ بلجام دابته فنكس عنها، فقال لهم بنو أمية: لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام، ففعلوا، ومضى ذلك الجيش حتى دخلوا الشام. وكانت وقعة الحرة، وقتل الحسين، ورمي الكعبة بالمنجنيق من أشنع شيء جرى في أيام يزيد. وقال عبد الرحمن بن سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنهم: فإن تقتلونا يوم حرّة واقم ... فنحن على الإسلام أول من قتل ونحن قتلناكم ببدر أذلة ... وأبنا بأسلاب لنا منكم نفل فإن ينج منها عائذ البيت سالما ... فكلّ الذي قد نابنا منكم جلل «1» يعني بعائذ البيت عبد الله بن الزبير. وهذه الكائنة غير الإغزاء المذكور في حديث البيداء؛ ولهذا روى ابن شبة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يجيء جيش من قبل الشام حتى يدخل المدينة، فيقتلون المقاتلة، ويبقرون بطون النساء، ويقولون: الحبلى في البطن: اقتلوا صبابة الشر، فإذا علوا البيداء من ذي الحليفة خسف بهم فلا يدرك أسفلهم أعلاهم ولا أعلاهم أسفلهم، قال أبو المهزم: فلما جاء جيش ابن ذبحة قلنا: هم، فلم يكونوا هم. قلت: وقد جاء في بعض الأخبار بيان أن ذلك الجيش جيش السفياني، يبعثه لقتال المهدي. وقال يحيى بن سعيد: لم تترك الصلاة في هذا المسجد منذ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا ثلاثة أيام: يوم قتل عثمان، ويوم الحرة، قال مالك: ونسيت الثالث، وفي العتبية عن مالك أنه بلغه ذلك عن سعيد بن المسيب بمعناه، قال ابن رشد: واليوم الثالث الذي ذكر مالك أنه نسيه، قال محمد بن عبد الحكم: هو يوم خرج به أبو حمزة الخارجي، وكان خروجه- فيما ذكروا- في دولة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفاء بني أمية.   (1) الجلل: هيّن يسير. والشيء الكبير العظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 مسير أبي حمزة إلى المدينة قال خليفة بن خياط: سار أبو حمزة في أول سنة ثلاثين ومائة، يريد المدينة، واستخلف على مكة إبراهيم بن الصباح الحميري، وجعل على مقدمته فلح بن عقبة السعدي، وخرج أهل المدينة والتقوا بقديد يوم الخميس لتسع خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة، وفلح في ثلاثين ألف فارس، فقال لهم: خلوا طريقنا فنأتي هؤلاء الذين بغوا علينا وجاروا في الحكم فإنا لا نريد قتالكم، فأبوا؛ فقاتلوهم فانهزم أهل المدينة، وجاءهم أبو حمزة فقال له علي بن الحصين: اتبع هؤلاء القوم، وأثخن على جريحهم، فإن لكل زمان حكما، والإثخان في مثل هؤلاء أمثل، قال: ما أرى ذلك، ومضى أبو حمزة إلى المدينة فدخلها يوم الإثنين لثلاث عشر خلت من صفر، ففي يوم دخوله إياها- والله أعلم- خلي مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم من أن يجمع فيه، وأصيب من قريش يومئذ ثلثمائة رجل، ومن آل الزبير اثنا عشر رجلا، فما سمع الناس بواكي أوجع للقلوب من بواكي قديد، ما بقي بالمدينة أهل بيت إلا فيهم بكاء، وقالت نائحة تبكيهم: ما للزمان وما ليه ... أفنى قديد رجاليه فلأبكينّ سريرة ... ولأبكين علانيه قلت: وذكر الذهبي عن خليفة بن خياط في خبر أبي حمزة هذا ما ملخصه: أن عبد الله بن يحيى الأعور الكندي المسمى طالب الحق- بعد أن ملك حضرموت وصنعاء- بعث إلى مكة أبا حمزة الخارجي الأباضي المذكور، فخاف عبد الواحد بن سلميان بن عبد الملك- وكان واليا على مكة والمدينة- وخذله أهل مكة، ففارقها في النفر الأول، وقصد المدينة، فغلب أبو حمزة على مكة، ثم سار منها بعد أن استخلف عليها، فلقي بقديد الجيش الذي أرسله عبد الواحد بن سليمان لقتاله، فظفر أبو حمزة، وسار إلى المدينة فدخلها، وقتل فيها جماعة منهم أربعون رجلا من بني عبد العزى، وجهز إليه مروان عسكرا، فلقي بوادي القرى فلحا، وهو على مقدمة أبي حمزة، فاقتتلوا، فقتل فلح وعامة أصحابه، ثم أدركوا أبا حمزة بمكة، فقتلوه في خلق من أصحابه، ثم ساروا لطالب الحق فقتلوه، انتهى ملخصا. قلت: ولا يحتمل أن ما نقل عن الأخباريين في الخروج من المدينة إنما كان في هذه الكائنة أو قبل ذلك كله في كائنة بسر بن أرطأة، فإن القرطبي قال: وذكر أبو عمرو الشيباني قال: لما وجه معاوية رضي الله عنه بسر بن أرطأة لقتل شيعة علي رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 سار إلى أن أتى المدينة، فقتل ابني عبيد الله بن العباس رضي الله عنهما، وفر أهل المدينة حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم، ولكنه بعيد، والأقرب ما قدمناه، والله أعلم. الفصل السادس عشر في ظهور نار الحجاز التي أنذر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم فظهرت بأرض المدينة وأطفأها الله تعالى عند وصولها إلى حرمها، كما سنوضحه. الأحاديث الواردة في هذه النار روينا في مسند أحمد برجال ثقات عن أبي ذر قال: أقبلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأينا ذا الحليفة، فتعجل رجال إلى المدينة، وبات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبتنا معه، فلما أصبح سأل عنهم، فقيل: تعجلوا إلى المدينة، فقال: «تعجلوا إلى المدينة والنساء، أما إنهم سيدعونها أحسن ما كانت» ثم قال: «ليت شعري متى تخرج نار بأرض اليمن من جبل الوراق تضيء منها أعناق الإبل ببصرى بروكا كضوء النهار» ورواه ابن شبة من غير ذكر «بأرض اليمن» ولفظه «ليتركنها أحسن ما كانت، ليت شعري متى تخرج نار من جبل الوراق تضيء لها أعناق الإبل ببصرى بروكا كضوء النهار» . وأخرج الطبراني في آخر حديث لحذيفة بن أسد: وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من رومان- أو ركوبة- تضيء منها أعناق الإبل ببصرى» . قلت: وركوبة كما سيأتي: ثنية قريبة من ورقان، ولعله المراد بجبل الوراق، قال الحافظ ابن حجر: ورومان لم يذكره البكري. ولعل المراد رومة البئر المعروفة بالمدينة، ثم نقل عن البكري أن ركوبة بني المدينة والشام، وسيأتي رده. وهذه النار مذكورة في الصحيحين في حديث «لا تقوم الساعة حتى تظهر نار بالحجاز» ، ولفظ البخاري: «تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» . وروى الطبراني بسند فيه ضعيف عن عاصم بن عدي الأنصاري قال: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدثنا ما قدم، فقال: «أين حبس سيل؟» قلنا: لا ندري، فمر بي رجل من بني سليم، فقلت: من أين جئت؟ فقال: من حبس سيل، فدعوت بنعلي، فانحدرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، سألتنا عن حبس سيل، فقلنا: لا علم لنا به، وإنه مر بي هذا الرجل فسألته فزعم أن به أهله، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أين أهلك؟» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فقال: بحبس سيل، فقال: «أخرج أهلك منها؛ فإنه يوشك أن تخرج منه نار تضيء أعناق الإبل ببصرى» . وحديث: «يوشك نار تخرج من حبس سيل تسير سير بطيئة الإبل، تسير النهار وتقيم الليل» الحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى من رواية رافع بن بشير السلمي عن أبيه. قال الحافظ الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير رافع، وهو ثقة، انتهى. وفي مسند الفردوس عن عمر حديث: «لا تقوم الساعة حتى يسيل واد من أودية الحجاز بالنار يضيء له أعناق الإبل ببصرى» وأخرجه ابن عدي في كامله من طريق عمر بن سعيد التنوخي عن ابن شهاب عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رفعه، وعمر بن سعيد ذكره ابن حبان في الثقات، وكتبه ابن عدي والدارقطني. بيان أن المدينة يمانية كما أنها حجازية وقد ظهرت هذه النار بالمدينة الشريفة كما سنبينه، ولا إشكال في كون المدينة حجازية، وأما كونها يمانية فقد نص عليه الشافعي. قال البيهقي في المعرفة: قال الشافعي: ومكة والمدينة يمانيتان. قلت: وقد ذكر الشافعي في الأم حديث: «أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا» الحديث، ثم روى «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقف على ثنية تبوك فقال: ما هاهنا شام، وأشار بيده إلى جهة الشام، وما هاهنا يمن، وأشار بيده إلى جهة المدينة» هكذا نقلته من الأم بهذا اللفظ، وهو في مسند الشافعي بلفظ «ما هاهنا شام، وأشار بيده إلى الشام، ومن هاهنا يمن، وأشار بيده إلى جهة المدينة» قال ابن الأثير في شرحه: الغرض منه بيان حد الشام واليمن، وقد جعل المدينة من اليمن، اه. والعجب أن النووي قال في فتاويه: مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليست يمانية ولا شامية، بل هي حجازية، قال: وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وكأنه لم يقف على هذا. وأما حبس سيل فقد قيل: إن حبس- بالضم ثم السكون- بين حرة بني سليم والسوارقية، وقد كان إقبال هذه النار من المشرق في جهة طريق السوارقية كما سيأتي، وقال نصر: حبس سيل- بالفتح- إحدى حرتي بني سليم. قلت: وأهل المدينة اليوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 يسمون السد الآتي وصفه فيما أحدثته هذه النار بالحبس. وفي كلام ياقوت ما يقتضي أنه كان يسمى بالسد قبل هذه النار؛ فإنه لم يدركها، ومع ذلك قال: إن أعلى وادي قناة عند السد يسمى بالشظاة، اه. وظهور النار المذكورة بالمدينة الشريفة قد اشتهر اشتهارا بلغ حد التواتر عند أهل الأخبار، وكان ظهورها لإنذار العباد بما حدث بعدها؛ فلهذا ظهرت على قرب مرحلة من بلد النذير صلوات الله وسلامه عليه، وتقدمها زلازل مهولة، وقد قال تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء: 59] وقال تعالى: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الإسراء: 16] ولما ظهرت النار العظيمة الآتي وصفها، وأشفق منها أهل المدينة غاية الإشفاق، والتجؤوا إلى نبيهم المبعوث بالرحمة، صرفت عنهم ذات الشمال، وزاحت عنهم الأوجال، وظهرت بركة تربته صلّى الله عليه وسلّم في أمته، ولعل الحكمة في تخصيصها بهذا المحل- مع ما قدمناه من كونه حضرة النذير- الرحمة لهذه الأمة فإنها لو ظهرت بغيره وسلطان القهر والعظمة التي هي من آثاره قائم لربما استولت على ذلك القطر ولم تجد صارفا؛ فيعظم ضررها على الأمة، فظهرت بهذا المحل الشريف لحكمة الإنذار، فإذا تمت قابلتها الرحمة فجعلتها بردا وسلاما، إلى غير ذلك من الأسرار. ابتداء الزلزلة التي حدثت بالمدينة وكان ابتداء الزلزلة بالمدينة الشريفة مستهلّ جمادى الآخرة أو آخر جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وستمائة، لكنها كانت خفيفة لم يدركها بعضهم مع تكررها بعد ذلك، واشتدت في يوم الثلاثاء على ما حكاه القطب القسطلاني، وظهرت ظهورا عظيما اشترك في إدراكه العام والخاص، ثم لما كان ليلة الأربعاء ثالث الشهر أو رابعه في الثلث الأخير من الليل حدث بالمدينة زلزلة عظيمة أشفق الناس منها، وانزعجت القلوب لهيبتها، واستمرت تزلزل بقية الليل، واستمرت إلى يوم الجمعة ولها دوي أعظم من الرعد، فتموج الأرض، وتتحرك الجدارات، حتى وقع في يوم واحد دون ليله ثمانية عشر حركة على ما حكاه القسطلاني. وقال القرطبي: قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت، وظهرت بقريظة بطرف الحرة، ترى في صفة البلد العظيم، عليها سور محيط عليه شراريف وأبراج وموادن، وترى رجال يقودونها، لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر أحمر وأزرق له دوي كدوي الرعد، يأخذ الصخور بين يديه، وينتهي إلى محط الركب العراقي، واجتمع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ذلك ردم صار كالجبل العظيم، فانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد، وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر، وقال لي بعض أصحابنا: رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام، وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جبال بصرى، اه. وقال النووي: تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام. ونقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة الشريفة وغيره أن في ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة حدث بالمدينة في الثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها وباتت في تلك الليلة تزلزل، ثم استمرت تزلزل كل يوم وليلة مقدار عشر مرات- وفي كتاب بعضهم أربع عشرة مرة- قال: والله لقد زلزلت مرة ونحن حول الحجرة فاضطرب لها المنبر إلى أن سمعنا منه صوتا للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، زاد القاشاني: ثم في اليوم الثالث- وهو يوم الجمعة- زلزلت الأرض زلزلة عظيمة، إلى أن اضطربت منام المسجد، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم، قال القطب: فلما كان يوم الجمعة نصف النهار ظهرت تلك النار، فثار من محل ظهورها في الجو دخان متراكم غشى الأفق سواده، فلما تراكمت الظلمات وأقبل الليل سطع شعاع النار، فظهرت مثل المدينة العظيمة في جهة المشرق، والحكمة في ظهورها في يوم الجمعة غير خافية، ففي الحديث «من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ» الحديث، وفي الحديث أيضا: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفهي أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه» رواه أبو داود، وهو اليوم الذي ادخره الله لهذه الأمة، وأكمل فيه دينهم؛ فأراد الله أن يخوف عباده فيه بذلك ليردهم إليه، فتلك النار نعمة في صورة نقمة، ولهذا وجلت «1» منها القلوب وأشفقت، وأيقن الناس أن العذاب قد أحاط بهم. قال القاضي سنان: وطلعت إلى الأمير- وكان عز الدين منيف بن شيحة- وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله، فأعتق كل مماليكه، ورد على الناس مظالمهم- زاد القاشاني: وأبطل المكس- ثم هبط الأمير للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبات في المسجد ليلة الجمعة وليلة السبت، ومعه جميع أهل المدينة حتى النساء والصغار، ولم يبق أحد في النخل إلا جاء إلى الحرم الشريف، وبات الناس يتضرعون   (1) وجلت منها القلوب: خافت وفزعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ويبكون، وأحاطوا بالحجرة الشريفة كاشفين رؤوسهم مقرّين بذنوبهم مبتهلين مستجيرين بنبيهم صلّى الله عليه وسلّم. قال القطب: ولما عاين أمير المدينة ذلك أقلع عن المخالفة، واعتبر، ورجع عما كان عليه من المظالم وانزجر، وأظهر التوبة والإنابة، وأعتق جميع مماليكه، وشرع في رد المظالم، وعزم أهل المدينة على الإقلاع عن الإصرار وارتكاب الأوزار، وفزعوا إلى التضرع والاستغفار، وهبط أميرهم من القلعة مع قاضيهم الشريف سنان وأعيان البلد، والتجؤوا إلى الحجرة الشريفة، وباتوا بالمسجد الشريف بأجمعهم حتى النساء والأطفال؛ فصرف الله تعالى عنهم تلك النار العظيمة ذات الشمال، ونجوا من الأوجال، فسارت تلك النار من مخرجها وسالت ببحر عظيم من النار، وأخذت في وادي أحيليين وأهل المدينة يشاهدونها من دورهم كأنها عندهم، ومالت من مخرجها إلى جهة الشمال واستمرت مدة ثلاثة أشهر على ما ذكره المؤرخون. مدة النار وذكر القطب القسطلاني في كتاب أفرده لهذه النار، وهو ممن أدركها، لكنه كان بمكة فلم يشاهدها: أن ابتداءها يوم الجمعة السادس من شهر جمادى الآخرة، وأنها دامت إلى يوم الأحد السابع والعشرين من رجب، ثم خمدت، فجملة ما أقامت اثنان وخمسون يوما، لكنه ذكر بعد ذلك أنها أقامت منطفية أياما، ثم ظهرت، قال: وهي كذلك تسكن مرة وتظهر أخرى؛ فهي لا يؤمن عودها، وإن طفئ وقودها، انتهى؛ فكأن ما ذكره المؤرخون من المدة باعتبار انقطاعها بالكلية، وطالت مدتها ليشتهر أمرها فينزجر بها عامة الخلق ويشهدوا من عظمها عنوان النار التي أنذرهم بها حبيب الحق. قوة النار وذكر القسطلاني عمن يثق به أن أمير المدينة أرسل عدة من الفرسان إلى هذه النار للإتيان بخبرها، فلم تجسر الخيل على القرب منها، فترجل أصحابها وقربوا منها، فذكروا أنها ترمي بشرر كالقصر، ولم يظفروا بجلية أمرها، فجرد عزمه للإحاطة بخبرها، فذكر أنه وصل منها إلى قدر غلوتين بالحجر ولم يستطع أن يجاوز موقفه من حرارة الأرض وأحجار كالمسامير تحتها نار سارية ومقابله ما يتصاعد من اللهب، فعاين نارا كالجبال الراسيات، والتلال المجتمعة السائرات، تقذف بزبد الأحجار كالبحار المتلاطمة الأمواج، وعقد لهيبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 في الأفق قتاما حتى ظن الظان أن الشمس والقمر كسفا إذ سلبا بهجة الإشراق في الآفاق، ولولا كفاية الله كفتها لأكلت ما تقدم عليه من الحيوان والنبات والحجر، انتهى. وذكر الجمال المطري ما يخالف بعض هذا؛ فإنه قال: أخبرني علم الدين سنجر العزي من عتقاء الأمير عز الدين منيف بن شيحة صاحب المدينة قال: أرسلني مولاي الأمير عز الدين بعد ظهور النار بأيام، ومعي شخص من العرب، وقال لنا ونحن فارسان: اقربا من هذه النار، وانظرا هل يقدر أحد على القرب منها، فإن الناس يهابونها لعظمها، فخرجت أنا وصاحبي إلى أن قربنا منها؛ فلم نجد لها حرا، فنزلت عن فرسي، وسرت إلى أن وصلت إليها، وهي تأكل الصخر والحجر، فأخذت سهما من كنانتي، ومددت به يدي إلى أن وصل النصل إليها فلم أجد لذلك ألما ولا حرا، فعرق النصل ولم يحترق العود، فأدرت السهم وأدخلت فيها الريش فاحترق الريش ولم يؤثر في العود. وذكر المطري قبل ذلك أنها كانت تأكل كل ما مرت عليه من جبل وحجر، ولا تأكل الشجر، قال: وظهر لي في معنى ذلك أنه لتحريم النبي صلّى الله عليه وسلّم شجر المدينة؛ فمنعت من أكل شجرها لوجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم على كل مخلوق. قلت: وذكر القسطلاني أن هذه النار لم تزل مارة على سبيلها حتى اتصلت بالحرة ووادي الشظاة، وهي تسحق ما والاها، وتذيب ما لاقاها من الشجر الأخضر والحصى من قوة اللظى، وأن طرفها الشرقي أخذ بين الجبال فحالت دونه ثم وقفت، وأن طرفها الشامي- وهو الذي يلي الحرم- اتصل بجبل يقال له وعيرة على قرب من شرقي جبل أحد، ومضت في الشظاة الذي في طرفه وادي حمزة رضي الله عنه، ثم استمرت حتى استقرت تجاه حرم النبي صلّى الله عليه وسلّم فطفئت، قال: وأخبرني شخص أعتمد عليه أنه عاين حجرا ضخما من حجارة الحرة كان بعضه خارجا عن حد الحرم، فعلقت بما خرج منه، فلما وصلت إلى ما دخل منه في الحرم طفئت وخمدت، انتهى. وهذا أولى بالاعتماد من كلام المطري؛ لأن المطري لم يدرك هذه النار وإن أدرك من أدركها، بخلاف القطب فإنه أدركها، واعتنى بجمع أخبارها، وأفردها بالتصنيف، ولم يقف عليه المطري، وهذا أبلغ في الإعجاز، حيث لم تدخل هذه النار حرمه الشريف؛ إذ هي للإنذار والتخويف وهو نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلّم. ضوء النار وقد نقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب القاضي سنان الحسيني أن سيل النار انحدر مع وادي الشظاة حتى حاذى جبل أحد، وكادت النار تقارب حرة العريض وخاف الناس منها خوفا عظيما، ثم سكن قتيرها الذي يلي المدينة، وطفئت مما يلي العريض بقدرة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 تعالى، فرجعت تسير في الشرق، وهو مؤيد لما ذكره القطب، ومشاهدة آثارها اليوم تقضي بذلك. قال المطري: وأخبرني بعض من أدركها من النساء أنهن كن يغزلن على ضوئها بالليل على أسطحة البيوت بالمدينة الشريفة. وقال القسطلاني: إن ضوءها استوى على ما بطن من القيعان «1» ، وظهر من القلاع، حتى كأن الحرم النبوي عليه الشمس مشرقة، وجملة أماكن المدينة بأنوارها محدقة، ودام على ذلك لهبها حتى تأثر له النيران، وصار نور الشمس على الأرض تعتريه صفرة، ولونها من تصاعد الالتهاب يعتريه حمرة، والقمر كأنه قد كسف من اضمحلال نوره، قال: وأخبرني جمع ممن توجه للزيارة على طريق المشيان أنهم شاهدوا ضوءها على ثلاثة مراحل للمجدّ، وآخرون أنهم شاهدوها من جبال ساية. قلت: نقل أبو شامة عن مشاهدة كتاب الشريف سنان قاضي المدينة أن هذه النار رئيت من مكة ومن الفلاة جميعها، ورآها أهل ينبع. قال أبو شامة: وأخبرني بعض من أثق به ممن شاهدها بالمدينة أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب. وقال المجد: والشمس والقمر في المدة التي ظهرت بها ما يطلعان إلا كاسفين. قال أبو شامة: وظهر عندنا بدمشق أثر ذلك الكسوف من ضعف النور على الحيطان، وكنا حيارى من سبب ذلك، إلى أن بلغنا الخبر عن هذه النار، وكل من ذكر هذه النار يقول في آخر كلامه: وعجائب هذه النار وعظمتها يكلّ «2» عن وصفها البنان والأقلام، وتجل عن أن يحيط بشرحها البيان والكلام؛ فظهر بظهورها معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لوقوع ما أخبر به وهي هذه النار؛ إذ لم تظهر من زمنه صلّى الله عليه وسلّم قبلها ولا بعدها نار مثلها. هل رؤيت النار ببصرى وقال القسطلاني: إن جاء من أخبر برؤيتها ببصرى فلا كلام، وإلا فيحتمل أن يكون ذكر ذلك في الحديث على وجه المبالغة في ظهورها، وأنها بحيث ترى، وقد جاء من أخبر أنه أبصرها بتيماء، وبصرى منها مثل ما هي من المدينة في البعد. قلت: قد تقدم عن القرطبي أنه بلغه أنها رئيت من جبال بصرى، وصرح الشيخ عماد الدين بن كثير بما يقتضي أنه أضاءت من هذه النار أعناق الإبل ببصرى، فقال: أخبرني قاضي القضاة صدر الدين الحنفي قال: أخبرني والدي الشيخ صفي الدين مدرس مدرسة   (1) القيعان: (ج) قاع، أرض سهلة مستوية مطمئنة عما يحيط بها من الجبال والآكام، تنصبّ إليها مياه الأمطار فتمسكها ثم تنبت العشب. (2) كلّ: كلولا وكلالة: ضعف وعجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 بصرى أنه أخبره غير واحد من الأعراب صبيحة الليلة التي ظهرت فيها هذه النار ممن كان يحاضره ببلد بصرى أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء تلك النار، فقد تحقق بذلك أنها الموعود بها، والحكمة في إنارتها بالأماكن البعيدة من هذا المظهر الشريف حصول الإنذار، ليتم به الانزجار، كما اتفق لأهل المدينة، وفي هذا المعنى يقول قائلهم: يا كاشف الضّرّ صفحا عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساء نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها ... حملا ونحن بها حقا أحقّاء «1» زلازلا تخشع الصّمّ الصّلاب لها ... وكيف تقوى على الزلزال شمّاء «2» أقام سبعا يرجّ الأرض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء بحر من النار تجري فوقه سفن ... من الهضاب لها في الأرض إرساء ترمي لها شررا كالقصر طائشة ... كأنها ديمة تنصبّ هطلاء تنشقّ منها بيوت الصخر إن زفرت ... رعبا، وترعد مثل السعف أضواء منها تكاثف في الجو الدخان إلى ... أن عادت الشمس منه وهي دهماء قد أثرت سعفة في البدر لفحتها ... فليلة التم بعد النور عمياء تحدت النيرات السبع ألسنها ... بما تلاقي بها تحت الثرى الماء وقد أحاط لظاها بالبروج إلى ... أن صار يلفحها بالأرض أهواء فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت ... منا الذنوب وساء القلب أسواء فاسمح وهب وتفضل بالرضى كرما ... وارحم فكلّ لفرط الجهل خطّاء فقوم يونس لما آمنوا كشف الت ... عذيب عنهم وعمّ القوم نعماء ونحن أمة هذا المصطفى، ولنا ... منه إلى عفوك المرجو دعّاء هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت ... محجة في سبيل الله بيضاء فارحم وصلّ على المختار ما خطبت ... على علا منبر الأوراق ورقاء مبدأ ظهور النار قال المؤرخون: وكان ظهور هذه النار من صدر واد يقال له وادي الأحيليين وقال البدر بن فرحون: إنها سالت في وادي أحيليين، وموضعها شرقي المدينة على طريق السوارقية مسيرة من الصبح إلى الظهر. قال القطب القسطلاني: ظهرت في جهة المشرق على مرحلة متوسطة من المدينة في   (1) الحقيق: الحريص. (2) الشماء: المراد بها الجبال أو المكان المرتفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 موضع يقال له قارع الهيلاء على قرب من مساكن قريظة شرقي قباء، فهي بين قريظة وموضع يقال له أحيليين، فثارت من هذا القاع، ثم امتدت فيه آخذة في الشرق إلى قريب من أحيليين، ثم عرجت واستقبلت الشام سائلة إلى أن وصلت إلى موضع يقال له قرين الأرنب بقرب من أحد، فوقفت وانطفت وانصرفت، انتهى. من فوائد هذه النار قال المؤرخون: واستمرت هذه النار مدة ظهورها تأكل الأحجار والجبال، وتسيل سيلا ذريعا في واد يكون طوله مقدار أربعة فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الأرض والصخر يذوب حتى يبقى مثل الآنك «1» ، فإذا خمد اسودّ بعد أن كان أحمر، ولم يزل يجتمع من هذه الحجارة المذابة في آخر الوادي عند منتهى الحرة حتى قطعت في وسط وادي الشظاة إلى جهة جبل وعيرة، فسدت الوادي المذكور بسد عظيم من الحجر المسبوك بالنار ولا كسد ذي القرنين، يعجز عن وصفه الواصف، ولا مسلك لإنسان فيه ولا دابة. قلت: وهذا من فوائد إرسال هذه النار؛ فإن تلك الجهة كثيرا ما يطرق منها المفسدون لكثرة الأعراب بها؛ فصار السلوك إلى المدينة متعسّرا عليهم جدّا. قال القسطلاني: أخبرني جمع ممن أركن إلى قولهم إن النار تركت على الأرض من الحجر ارتفاع رمح طويل على الأرض الأصلية. قال المؤرّخون: وانقطع وادي الشظاة بسبب ذلك، وصار السيل إذا سال ينحبس خلف السد المذكور حتى يصير بحرا مد البصر عرضا وطولا، فانخرق من تحته في سنة تسعين وستمائة لتكاثر الماء من خلفه، فجرى في الوادي المذكور سنتين كاملتين، أما السنة الأولى فكان قد ملأ ما بين جانبي الوادي، وأما الثانية فدون ذلك، ثم انخرق مرة أخرى في العشر الأول بعد السبعمائة فجرى سنة كاملة أو أزيد، ثم انخرق في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وكان ذلك بعد تواتر أمطار عظيمة في الحجاز، فكثر الماء وعلا من جانبي السد ومن دونه مما يلي جبل وعيرة وتلك النواحي، فجاء سيل طام لا يوصف، ولو زاد مقدار ذراع في الارتفاع وصل إلى المدينة، وكان أهل المدينة يقفون خارج باب البقيع على التل الذي هناك فيشاهدونه ويسمعون خريرا توجل القلوب دونه، فسبحان القادر على ما يشاء!   (1) الآنك: الرصاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 النذر الحادثة في عام النار والذي يليه ومن العجائب أن في السنة التي ظهرت فيها هذه النار احترق المسجد الشريف النبوي بعد انطفائها كما سيأتي، وزادت دجلة زيادة عظيمة فغرق أكثر بغداد وتهدمت دار الوزير، وكان ذلك إنذارا لهم، وليتهم اتعظوا. ثم في أول السنة التي تلي هذه السنة وقعت الطامة الكبرى، وهي أخذ التتار لبغداد وقتل الخليفة المستعصم وبعده المسلمون، وبذل السيف ببغداد نيفا وثلاثين يوما، وأخرجت الكتب فألقيت تحت أرجل الدواب، وشوهد بالمدرسة المستنصرية معالف الدواب مبنية بالكتب موضع اللبن «1» ، وخلت بغداد من أهلها، واستولى عليها الحريق على ما ذكره سعيد الذهلي، واحترقت دار الخلافة، وعم الحريق أكثر الأماكن حتى القصور البرانية وترب الرصافة مدفن ولاة الخلافة، وشوهد على بعض حيطان منها مكتوب: إن ترد عبرة فهذا بنو ... العباس دارت عليهم الدائرات استبيح الحريم إذ قتل الأحي ... اء منهم وأحرق الأموات ثم كثر الموت والفناء ببغداد، وطوى بساط الخلافة منها من ذلك الزمان، فلله الخلق والأمر! وقد نظم بعضهم خروج هذه النار وغرق بغداد، وأصلحه أبو شامة منبها على أن الأمرين في سنة بقوله: سبحان من أصبحت مشيئته ... جارية في الورى بمقدار في سنة أغرق العراق، وقد ... أحرق أرض الحجاز بالنار بعض ما يناسب هذه النار قال المجد: ومما يناسب هذه النار ويضاهيها ما حكاه ابن جبير أنه رأى من أخبره أن في بحر رومية جزيرتين يخرج منهما النار دائما، قال: وأبصرنا الدخان صاعدا منهما، وتظهر بالليل نار حمراء ذات ألسن تصعد في الجو، قال: وأعلمنا أن خروجها من جبلين يصعد منهما نفس ناري شديد، وربما قذف فيها الحجر فتلقى به مسودا إلى الهواء بقوة ذلك النفس، وتمنعه من الانتهاء إلى القعر، قال: وأما الجبل الشامخ الذي بالجزيرة المعروف بجبل النار فشأنه أيضا عجيب، وذلك أن نارا تخرج منه في بعض السنين كالسيل   (1) اللّبن: المضروب من الطين النيئ يا بنى به دون أن يطبخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 العرم؛ فلا تمر بشيء إلا أحرقته، حتى تنتهي إلى البحر فتركب ثبجه «1» طائرة على صفحته حتى تغوص فيه. شأن خالد بن سنان العبسي قلت: وأقرب من ذلك في مناسبة هذه النار ما ذكره ابن شبة في أخبار المدينة- عند ذكر خالد بن سنان العبسي الذي قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لما جاءته بنته «هذه ابنة نبي ضيعه قومه» - فروى ابن شبة في خبره من طرق ما ملخصه أنه كان بأرض الحجاز نار يقال لها نار الحدثان (حرة بأرض بني عبس) تعشى الإبل «2» بضوئها من مسيرة ثماني ليال، وربما خرج منها العنق فذهب في الأرض فلا يبقي شيئا إلا أكله، ثم يرجع حتى يعود إلى مكانه، وإن الله تعالى أرسل إليها خالد بن سنان، فقال لقومه: يا قوم، إن الله أمرني أن أطفئ هذه النار التي قد أضرت بكم فليقم معي من كل بطن رجل، فخرج بهم حتى انتهى إلى النار فخط عليهم خطا ثم قال: إياكم أن يخرج أحد منكم من هذا الخط فيحترق، ولا ينوهن باسمي فأهلك، وجعل يضرب النار ويقول: بدا بدا «3» كل هدي لله مودا، حتى عادت من حيث جاءت، وخرج يتبعها حتى ألجأها في بئر في وسط الحرة منها تخرج النار، فانحدر فيها خالد. وفي درة الغواص: فإذا هو بكلاب تحتها فرضهن بالحجارة، وضرب النار حتى أطفأها الله على يده، ومعهم ابن عم له، فجعل يقول: هلك خالد، فخرج وعليه بردان ينطفان «4» من العرق وهو يقول: كذب ابن رايعة المعزى لآخرجنّ منها وثيابي تندى، فسموا بني ذلك الرجل «بني راعية المعزى» إلى اليوم، وفي رواية أن قومه سالت عليهم نار من حرة النار في ناحية خبير، والناس في وسطها، وهي تأتي من ناحيتين جميعا، فخافها الناس خوفا شديدا. وفي رواية: وهي تخرج من شق جبل من حرة يقال لها حرة أشجع، فقال لهم خالد بن سنان: ابعثوا معي إنسانا حتى أطفئها من أصلها، فخرج معه راعي غنم، وهو ابن راعية، حتى جاء غارا تخرج منه النار. وفي رواية: أنها كانت تخرج من بئر، ثم قال خالد للراعي: أمسك ثوبي، ثم دخل في الغار، وفي رواية: أنه انطلق في ناس من قومه حتى أتوها، وقال لهم: إن أبطأت عنكم فلا تدعوني باسمي، فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضا، فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاه ويقول: هديا هديا، كل نهب مودى، زعم ابن راعية المعزى، أني لا أخرج منها وثيابي تندى،   (1) ثبج البحر: وسطه (ج) أثباج وثبوج. (2) عشا بصره: ساء بصره ليلا. (3) بدا بدا: تبدّدي وتفرّقي. (4) نطف- نطفانا: جهد حتى نطف عرقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 حتى دخل معها الشعب، فأبطأ عليهم، فقال بعضهم: لو كان حيّا لخرج إليكم، فقالوا: إنه قد نهاها أن ندعوه باسمه، قال: ادعوه باسمه، فو الله لو كان حيّا لخرج إليكم بعد، فدعوه باسمه، فخرج وهو آخذ برأسه؛ فقال: ألم أنهكم أن تدعوني باسمي؟ قد والله قتلتموني، احملوني وادفنوني، فإذا مرت بكم حمر معها حمار أبتر، وفي رواية فإذا دفنتموني وأتى عليّ ثلاثة أيام فأتوا قبري، فإذا عرضت لكم عانة «1» من حمر وحش وبين يديها عير فانبشوني فإني أقوم فأخبركم ما هو كائن إلى يوم القيامة، فأتوا القبر بعد ثلاث وسنحت لهم الحمر، فأرادوا نبشه، فمنعهم قوم من أهل بيته، وقالوا: لا ندعكم تنبشون صاحبنا فنعير بذلك، وفي رواية: فيكون سبة علينا، فتركوه. وفي رواية لابن القعقاع بن خليد العبسي عن أبيه عن جده، قال: بعث الله خالد بن سنان نبيا إلى بني عبس، فدعاهم فكذبوه، فقال قيس بن زهير: إن دعوت فأسيل علينا هذه الحرة نارا اتبعناك؛ فإنك تخوفنا بالنار، وإن لم تسل نارا كذبناك، قال: فذلك بيني وبينكم؟ قالوا: نعم، قال: فتوضأ ثم قال: اللهم إن قومي كذّبوني ولم يؤمنوا برسالتي إلا أن تسيل عليهم هذه الحرة نارا، فأسلها عليهم نارا، قال: فطلع مثل رأس الحريش «2» ، ثم عظمت حتى عرضت أكثر من ميل، فسالت عليهم، فقالوا: يا خالد ارددها فإنا مؤمنون بك، فتناول عصا ثم استقبلها بعد ثلاث ليال فدخل فيها فضربها بالعصا، فلم يزل يضربها حتى رجعت، قال: فرأيتنا نعشى الإبل على ضوء نارها ضلعا الربذة وبين ذلك ثلاث ليال. قف على كرامة لتميم الداري وروى له ابن شبة أخبارا أخرى مع قومه، وروى البيهقي في دلائل النبوة في باب «ما جاء في الكرامة التي ظهرت على تميم الداري شرفا للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم وتنويها باسم من آمن به، عن معاوية بن حرمل، وذكر خبرا في قدومه المدينة، وقول عمر له: اذهب إلى خير المؤمنين فانزل عليه، ثم قال: فبينا نحن ذات يوم إذ خرجت نار بالحرة، فجاء عمر رضي الله عنه إلى تميم الداري رضي الله عنه، فقال: قم إلى هذه النار، فقال: يا أمير المؤمنين ومن أنا؟ قال: فلم يزل به حتى قام معه، قال: وتبعتهما فانطلقا إلى النار، فجعل تميم يحوشها «3» بيده حتى دخلت الشعب، ودخل تميم خلفها، فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم ير، قالها ثلاثا، والله أعلم.   (1) العانة: القطيع من حمر الوحش. العير: الحمار. (2) الحريش: جنس حيوانات من كثيرات الأرجل الشفوية. (3) حاش- الدواب- حوشا: ساقها وجمعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الباب الثالث في أخبار سكانها في سالف الزمان، ومقدمه صلّى الله عليه وسلّم إليها، وما كان من أمره بها في سنين الهجرة، وفيه اثنا عشر فصلا الفصل الأول في سكانها بعد الطوفان، وما ذكر في سبب نزول اليهود بها، وبيان منازلهم نزول عبيل بيثرب أسند الكلبي عن ابن عباس أن مخرج الناس من السفينة نزلوا طرف بابل، وكانوا ثمانين نفسا، فسمى الموضع سوق الثمانين، قال: وطول بابل مسيرة عشرة أيام واثني عشر فرسخا، فمكثوا بها حتى كثروا، وصار ملكهم نمروذ بن كنعان بن حام، فلما كفروا بلبلوا، فتفرقت ألسنتهم على اثنين وسبعين لسانا، ففهّم الله العربية منهم عمليق وطسم ابني لوذا بن سام، وعادا وعبيل ابني عوص بن أرم بن سام، وثمود وجديس ابني جاثق بن أرم بن سام، وقنطور بن عابر بن شالخ بن أرفحشذ بن سام، فنزلت عبيل يثرب، ويثرب اسم ابن عبيل، ثم أخرجوا منها فنزلوا الجحفة، فجاءهم سيل أجحفهم فيه، فلهذا سميت جحفة، فرثاهم رجل منهم فقال: عين جودي على عبيل وهل ير ... جع من فات بيضها بالسحام؟ عمروا يثربا وليس بها شف ... ر ولا صارخ ولا ذو سنام غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام أول من سكن يثرب وقال أبو القاسم الزجاجي: أول من سكن المدينة عند التفرق يثرب بن قاينة ابن مهلائيل بن أرم بن عبيل بن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام، وبه سميت يثرب، وروي عن ابن عباس ما يدل له. سكنى العماليق المدينة وقال ياقوت: كان أول من زرع بالمدينة، واتخذ بها النخل، وعمر بها الدور والآطام، واتخذ بها الضياع، العماليق، وهم بنو عملاق بن أرفخشذ بن سام بن نوح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وكانت العماليق ممن انبسط في البلاد، فأخذوا ما بين البحرين وعمان والحجاز كله إلى الشام ومصر، وجبابرة الشام وفراعنة مصر منهم، وكان منهم بالبحرين وعمان أمة يسمون جاسم، وكان ساكن المدينة منهم بنو هف وبنو مطرويل، وكان ملكهم بالحجاز الأرقم بن أبي الأرقم. وأسند ابن زبالة عن زيد بن أسلم أن ضبعا رؤيت وأولادها رابضة في حجاج عين رجل من العماليق- والحجاج، بكسر أوله وفتحه: العظم الذي ينبت عليه الحاجب- قال زيد بن أسلم: وكان تمضي أربعمائة سنة وما يسمع بجنازة. قوم من اليهود ينزلون المدينة وأسند رزين عن أبي المنذر الشرقي قال: سمعت حديث تأسيس المدينة من سليمان بن عبيد الله بن حنظلة الغسيل، قال: وسمعت أيضا بعض ذلك من رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن عمار بن ياسر، قال: فجمعت حديثهما لكثرة اتفاقه وقلة اختلافه، قالا: بلغنا أنه لما حج موسى صلوات الله عليه حج معه أناس من بني إسرائيل، فلما كان في انصرافهم أتوا على المدينة، فرأوا موضعها صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيّين، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به، فنزلوا في موضع بني قينقاع، ثم تألفت إليهم أناس من العرب فرجعوا على دينهم، فكانوا أول من سكن موضع المدينة. وذكر بعض أهل التواريخ أن قوما من العمالقة سكنوه قبلهم، قلت: وهو الأرجح. داود النبي يغزو سكان المدينة وأسند ابن زبالة مصدّرا به كتابة في بدء من سكنها عن مشيخة من أهل المدينة قالوا: كان ساكن المدينة في سالف الزمان صعل وفالج، فغزاهم داود النبي عليه الصلاة والسلام، وأخذ منهم مائة ألف عذراء، قالوا: وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا، فقبورهم هذه التي في السهل والجبل، وهي التي بناحية الجرف، وبقيت امرأة منهم تعرف بزهرة، وكانت تسكن بها، فاكترت من رجل وأرادت الخروج إلى بعض تلك البلاد، فلما دنت لتركب غشيها الدود، فقيل لها: إنا لنرى دودا يغشاك، فقالت: بهذا هلك قومي، ثم قالت: ربّ جسد مصون، ومال مدفون، بين زهرة ورانون، قالوا: وقتلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 قلت: وداود بعد موسى عليهما السلام، وكان يدعو إلى شريعته. وقد عبّر ابن النجار عما سبق بقوله: فال أهل السير: أول من نزل المدينة بعد غرق قوم نوح قوم يقال لهم صعل وفالج، وذكر قصة داود ملخصة، ثم قال: قالوا: وكان قوم من الأمم يقال لهم: بنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق فيما بين مخيض إلى غراب الضائلة إلى القصاصين إلى طرف أحد؛ فتلك آثارهم هنالك. وروى ابن زبالة عند ذكر جماء أم خالد بوادي العقيق عن عثمان بن عبد الرحمن قال: وجد قبر في الجماء عليه حجر مكتوب فيه فهبط بالحجر فقرأه رجل من أهل اليمن، فإذا فيه: أنا عبد الله رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سليمان بن داود إلى أهل يثرب، وأنا يومئذ على الشمال. وروى أيضا عن عمر بن سليم الزرقي قال: رقينا الجماء فوجدنا قبرا إرميا على رأسها عنده حجران مكتوبان لا تقرأ كتابتهما، فحملناهما، فثقل علينا أحدهما فرميناه في الجماء، وأخذت الآخر، فكان عندي، فعرضته على أهل التوراة من يهود فلم يعرفوه، ثم عرضته على أهل الإنجيل من النصارى فلم يعرفوه، فأقام عندي حتى دخل المدينة رجلان من أهل ماه، فسألتهما: هل كان لكم كتاب؟ قالا: نعم، فأخرجت إليهما الحجر، فقرآه فإذا فيه: أنا عبد الله الأسود رسول رسول الله عيسى بن مريم إلى أهل قرى عرينة، وقالا: نحن كنا أهل هذه القرية في أس «1» الدهر، وسيأتي بقية ما جاء في ذلك في رابع فصول الباب السابع. مهلك العماليق بالحجاز وأسند ابن زبالة أيضا عن عروة بن الزبير قال: كانت العماليق قد انتشروا في البلاد، فسكنوا مكة والمدينة والحجاز كله، وعتوا عتوّا كبيرا، فلما أظهر الله موسى عليه السلام على فرعون وطئ الشام وأهلك من بها، يعني من الكنعانيين وقيل: بعث إليهم بعثا، فأهلك من كان بها منهم، ثم بعث بعثا آخر إلى الحجاز للعماليق، وأمرهم ألايستبقوا أحدا منهم بلغ الحلم، فقدموا عليهم، فأظهرهم الله فقتلوهم، حتى انتهوا إلى ملكهم الأرقم بن أبي الأرقم فقتلوه، وأصابوا إبنا له- وكان شابا من أحسن الناس- فضنوا به عن القتل، وقالوا: نستحييه حتى نقدم به على نبي الله موسى عليه السلام فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم، فقبض الله موسى قبل قدوم الجيش، فلما سمع بهم الناس تلقوهم فسألوهم فأخبروهم بالفتح، وقالوا: لم نستبق منهم إلا هذا الفتى، فإنا لم نر شابا أحسن   (1) الأس: الأساس. ومن الدهر: قدمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 منه، فتركناه حتى نقدم به على نبي الله موسى عليه السلام فيرى فيه رأيه، فقالت لهم بنو إسرائيل: إن هذه لمعصية منكم لما خالفتم أمر نبيكم، لا والله لا تدخلون علينا بلادنا أبدا، فقال الجيش: ما بلد إذ منعتم بلادكم بخير من البلد الذي خرجتم منه، وكان الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله وأظهره ماء، قال: وكان هذا أول سكنى اليهود الحجاز بعد العماليق. سبب نزول اليهود المدينة وفي الروض الأنف عن أبي الفرج الأصبهاني أن السبب في كون اليهود بالمدينة- وهي وسط أرض العرب- أن بني إسرائيل كانت تغير عليهم العماليق من أرض الحجاز، وكانت منازلهم يثرب والجحفة إلى مكة، فشكت بنو إسرائيل ذلك إلى موسى، فوجه إليهم جيشا، وذكر نحو ما تقدم، ثم قال: وأصح من هذا ما ذكره الطبري أن نزول بني إسرائيل بالحجاز كان حين وطئ بختنصر بلادهم بالشام وخرب بيت المقدس، انتهى. وحكى ابن النجار عن بعض العلماء أن سببه أن علماءهم كانوا يجدون صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، وأنه يهاجر إلى بلد فيه نخل بين حرتين، فأقبلوا من الشام يطلبون الصفة، فلما رأوا تيماء وفيها النخل نزلها طائفة منهم، وظن طائفة أنها خيبر فنزلوها، ومضى أشرفهم وأكثرهم فلما رأوا يثرب سبخة وحرة وفيها النخل قالوا: هذه البلد التي تكون مهاجر النبي العربي عليه الصلاة والسلام، فنزل النضير بطحان، ثم حكى ما سيأتي من نزول قريظة والنضير بمذينيب ومهزور. وحكى ياقوت عن بعض علماء الحجاز من يهود أن سبب نزولهم الحجاز أن ملك الروم حين ظهر على بني إسرائيل وملك الشام خطب إلى بني هرون، وفي دينهم أن لا يزوجوا النصارى، فخافوه وأنعموا له، وسألوه أن يشرفهم بإتيانه إليهم، فأتاهم، ففتكوا به وبمن معه، ثم هربوا حتى لحقوا بالحجاز فأقاموا بها، وزعم بنو قريظة أن الروم لما غلبوا على الشام خرج قريظة والنضير وهدل هاربين من الشام يريدون من كان بالحجاز من بني إسرائيل، فوجه ملك الروم في طلبهم؛ فأعجزوا رسله، وانتهى الرسل إلى ثمد «1» بين الحجاز والشام فماتوا عنده عطشا، فسمي الموضع «ثمد الروم» وهو معروف بذلك، والله أعلم أي ذلك كان. وروى بعض أهل السير عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بحنتصر عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا، وكانوا يجدون   (1) الثمد: الماء القليل الذي ليس له مدد. والمكان يجتمع فيه الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 محمدا صلّى الله عليه وسلّم منعوتا في كتابهم، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل، ولما خرجوا من أرض الشام كانوا يعبرون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن يجدون نعتها نعت يثرب، فينزل بها طائفة منهم، ويرجون أن يلقوا محمدا فيتبعونه، حتى نزل من بني هرون ممن حمل التوراة بيثرب منهم طائفة، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أنه جاء، ويحثون أبناءهم على اتباعه إذا جاء، فأدركه من أبنائهم فكفروا به وهم يعرفونه: أي حسدا للأنصار حيث سبقوهم إليه. وقال ابن زبالة عقب ما قدمناه عنه من عود الجيش من بني إسرائيل إلى الحجاز وسكناهم المدينة: فركحوا منها حيث شاؤوا- أي: تفسحوا وتبوؤوا- فكان جميعهم بزهرة، وكانت لهم الأموال بالسافلة، وزهرة ثبرة- أي أرض سهلة بين الحرة والسافلة مما يلي القف- ونزل جمهورهم بمكان يقال له يثرب بمجتمع السيول مما يلي زغابة، قالوا: وكانت يثرب سقيفة طويلة فيها بغايا يضرب إليهن من البلدان، وكانوا يروحون في قرية يثرب ثمانين جملا جونا «1» سوى سائر الألوان. ثم أسند عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: وخرجت قريظة وإخوانهم بنو هدل وعمرو أبناء الخزرج بن الصريح بن السبط بن اليسع بن سعد بن لاوى بن جبر بن النحام بن عازر بن عيرز بن هرون بن عمران عليه السلام والنضير بن النحام بن الخزرج بن الصريح بعد هؤلاء، فتبعوا آثارهم، فنزلوا بالعالية على واديين يقال لهما مذينيب ومهزور، فنزلت بنو النضير على مذينيب واتخذوا عليه الأموال فكانوا أول من احتفر بها- أي بالعالية- الآبار وغرس الأموال، قال: ونزل عليهم بعض قبائل العرب فكانوا معهم، فاتخذوا الأموال، وابتنوا الآطام والمنازل. وأسند هو وابن شبة أيضا عن جابر مرفوعا: أقبل موسى وهارون حاجّين فمرا بالمدينة، فخافا من يهود، فخرجا مستخفيين، فنزلا أحدا، فغشى هارون الموت، فقام موسى فحفر له ولحد، ثم قال: يا أخي إنك تموت، فقام هارون فدخل في لحده، فقبض «2» عليه موسى التراب.   (1) الجون: الأسود تخالطه الحمرة. (2) حثا عليه التراب: أهال عليه التراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قلت: وإسناد ابن شبة لا بأس به، غير أن فيه رجلا لم يسمّ، وسماه ابن زبالة، وذلك المسمى لا بأس به أيضا، لكن ابن زبالة لا يعتمد عليه في ذلك، وهو دال على أن اليهود نزلوا المدينة في زمن موسى عليه السلام، وطالت مدتهم بها في حياته، حتى وقع منهم ما يقتضي خوفه منهم عند مروره، وهو إنما يتأتى على ما قدمناه من أنه لما حج ومعه ناس من بني إسرائيل فرأوا موضع المدينة صفة بلد خاتم النبيين، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به، ويكون ما اتفق لموسى وهارون عليهما السلام في حجة أخرى بعد ذلك، وسيأتي في مسجد عرق الظبية بالروحاء حديث «ولقد مر به موسى بن عمران حاجّا ومعتمرا في سبعين ألفا من بني إسرائيل» ومن الغريب ما نقل الحافظ ابن حجر عن كتاب الأنواء لعبد الملك بن يوسف قال: إن قريظة كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله عليه السلام، وإن ذلك محتمل؛ فإن شعيبا كان من بني جذام القبيلة المشهورة- قال الحافظ ابن حجر: وهو بعيد جدّا- ونقل ابن زبالة ما حاصله: أن ممن كان من العرب مع يهود قبل الأنصار بنو أنيف حي من بلي، ويقال: إنهم بقية من العماليق، وبنو مريد حي من بلى، وبنو معاوية بن الحارث بن بهثة بن سليم، وبنو الجذماء حي من اليمن، وكانت الآطام عزّ أهل المدينة ومنعتهم التي كانوا يتحصنون فيها من عدوهم، وروى حديث النهي عن هدم آطام المدينة، قال: وكان لبني أنيف بقباء: الأجش عند البئر التي يقال لها لاوة، وأطمان فيما بين المال الذي يقال لها الماثة والمال الذي يقال له القائم، وآطام عند بئر عذق وغيرها، قال شاعرهم فيها: ولو نطقت يوما قباء لخبرت ... بأنّا نزلنا قبل عاد وتبّع وآطامنا عاديّة مشمخرّة ... تلوح فتنكى من نعادي وتمنع بقايا اليهود بالمدينة وكان ممن بقي من اليهود- حين نزلت عليهم الأوس والخزرج- جماعات منها بنو القصيص وبنو ناغصة كانوا مع بني أنيف بقباء، وكان بقباء رجل من اليهود يقال «إنه من بني النضير» كان له أطم يقال له «عاصم» كان في دار ثوبة بن حسين بن السائب بن أبي لبابة، وفيه البئر الذي يقال لها قباء، وقيل: إن بني ناغصة حي من اليمن كانت منازلهم في شعب بني حرام حتى نقلهم عمر بن الخطاب إلى مسجد الفتح، ومنها بنو قريظة في دارهم المعروفة بهم اليوم، وكان لهم بها آطام: من ذلك أطم الزبير بن باطا القرظي، كان موضعه في موضع مسجد بني قريظة، وأطم كعب بن أسد يقال له بلحان بالمال الذي يقال له الشجر، وله يقول الشاعر: من سره رطب وماء بارد ... فليأت أهل المجد من بلحان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وكان مع قريظة في دارهم إخوتهم بنو هدل وبنو عمرو المقدم ذكرهم، وإنما سمي هدلا بهدل كان في شفته، ومن ولده ثعلبة وأسد ابنا سعيّة وأسد بن عبيد ورفاعة بن سموأل وسخيت ومنبه ابنا هدل، ومنها بنو النضير في النواعم، ومنهم كعب بن الأشرف، وكان لهم عامة أطم في المال الذي يقال له فاضجة، وأطم في زقاق الحارث دبر قصر ابن هشام دون بني أمية بن زيد كان لعمر بن جحاش، وأطم البويلة، وغير ذلك، هذا ما ذكره ابن زبالة. ونقل ابن عساكر عن الواقدي أنه قال: كانت منازل بني النضير بناحية الغرس. قلت: والظاهر أنهم كانوا بالنواعم، وتمتد منازلهم وأموالهم إلى ناحية الغرس وإلى ناحية الصافية وما معها من صدقات النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعض منازلهم كانت بجفاف؛ لأن فاضجة به، ورأيت بالحرة في شرقي النواعم آثار حصون وقرية بقرب مذينيب يظهر أنها من جملة منازلهم، وأن ما في قبلة ذلك في شرقي العهن من منازل بني أمية بن زيد كما سيأتي، ومنها بنو مريد في بني خطمة وناعمة إبراهيم بن هشام، وكان لهم أطم يعرف بهم فيه بئر، ومنها بنو معاوية في بني أمية بن زيد، ومنها بنو ماسكة بقرب صدقة مروان بن الحكم مما يلي صدقة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان لهم الأطمان اللذان في القف في القرية، ومنها بنو محمم في المكان الذي يقال له بنو محمم، وكان لهم المال الذي يقال له خناقة، معروف اليوم، وكان رجل منهم قطع يد رجل في الجاهلية فقال المقطوع: أعطني خناقة عقلا بيدي، فأبى، وحفر للذي قطعه كوة في خناقة، ثم أخرج يده منها من وراء الحائط وقال: اقطع، فقطع يده، فقال حين قطع يده: الآن قد طابت ذرى خنافة ... طابت فلا جوع ولا مخافة ومنها بنو زعورا عند مشربة أم إبراهيم بن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولهم الأطم الذي عندها، وكان الأطم الذي في مال جحاف لبعض من كان هناك من اليهود، ومنها بنو زيد اللات، قال ابن زبالة: وهم رهط عبد الله بن سلام، كانوا قريبا من بني غصينة، ومنها بنو قينقاع عند منتهى جسر بطحان مما يلي العالية، وكان هناك سوق من أسواق المدينة، وكان لهم الأطمان اللذان عند منقطع الجسر على يمينك وأنت ذاهب من المدينة إلى العالية إذا سلكت الجسر، وغير ذلك، وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن بني قينقاع هم رهط عبد الله بن سلام، خلاف ما تقدم عن ابن زبالة، قال الحافظ ابن حجر: وهم من ذرية يوسف الصديق عليه السلام، ومنها بنو حجر عند المشربة التي عند الجسر، ولهم أطم يعرف بهم، ومنها بنو ثعلبة وأهل زهرة بزهرة، وهم رهط الفطيون، وهو ملكهم الذي كان يفتض نساء أهل المدينة قبل أن يدخلن على أزواجهن، وكان لهم الأطمان اللذان على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 طريق العريض حين يهبط من الحرة، وكانت بزهرة جماع من اليهود وكانت من أعظم قرى المدينة، وقد بادوا، ومنها ناس كانوا بالجوانية- بفتح الجيم وتشديد الواو والياء المثناة من تحت: موضع بقرب أحد في شمالي المدينة كما سيأتي- ولهم أطمان صارا لبني حارثة بن الحارث وهما صرار والريان، ولذلك يقول نهيك بن سياف: لعل صرارا أن تعيش بياره ... ويسمع بالريان تبنى مشاربه وكانت بنو الحذماء المتقدم ذكرهم- وهم حي من اليمين- ما بين مقبرة بني عبد الأشهل وبين قصر ابن عراك، ثم انتقلوا إلى راتج، ومنها بنو عكوة في يماني بني حارثة، ومنها بنو مرابة في شامي بني حارثة، ولهم الأطم الذي يقال له الشبعان في ثمغ صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنها ناس براتج، وهو أطم سميت به الناحية، وهو الذي يقول له قيس بن الخطيم: ألا إن بين الشرعبيّ وراتج ... ضرابا كتخديم السبال المعضد ومنها ناس بالشوط والعنابس والوالج وزبالة إلى عين فاطمة حيث كان يطبخ الآجر لمسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكان لأهل الشوط الأطم الذي يقال له الشرعبي، وهو الأطم الذي دون ذباب، وقد صار لبني جشم بن الحارث بن الخزرج أي الأصغر يعني إخوة بني عبد الأشهل، وكان لأهل الوالج أطم بطرفه مما يلي قناة، وكان لبعض من هناك من اليهود الأطمان اللذان يقال لهما الشيخان بمفضاهما المسجد الذي صلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سار إلى أحد، وكان لأهل زبالة الأطمان عند كومة أبي الحمراء الرابض والذي دونهما، ومنها أهل يثرب، وكانوا جماعا من اليهود بها وقد بادوا فلم يبق منهم أحد. قلت: ونقل رزين عن الشرقي أن يهود كانوا نيفا وعشرين قبيلة، وقال ابن النجار: إن آطامهم كانت تسعة خمسين أطما، وللعرب النازلين عليهم قبل الأنصار ثلاثة عشر أطما، وقد ذكر ابن زبالة أسماء كثير منها حذفناه لعدم معرفته في زماننا. فهذا علم من سكن المدينة بعد الطوفان إلى قدوم الأوس والخزرج. الفصل الثاني في سبب سكنى الأنصار بها قصة مأرب وسيل العرم غسان نقل ابن زبالة وغيره أن اليهود لم تزل هي الغالبة بالمدينة، الظاهرة عليها، حتى كان من أمر سيل العرم ما كان وما قص الله من قصته في مائه يعني قصة أهل مأرب، ومأرب مهموز: أرض سبأ المعنية بقوله تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ [سبأ: 15] عن ابن عباس أنها كانت أخصب البلاد وأطيبها، تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها أي بمغزلها وتسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 بين ذلك الشجر، فيمتلئ مما يتساقط فيه من الثمر، فطغوا، وقيل: بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيّا يدعونهم إلى الله، ويذكرونهم نعمة الله عليهم، فكذبوهم، وقالوا: ما نعرف لله نعمة، قال المسعودي: وكان طول بلدهم أكثر من شهرين للراكب المجد، وكذلك عرضها، وكان أهلها في غاية الكثرة مع اجتماع الكلمة والقوة، وكانوا كما قص الله من خبرهم بقوله: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني: قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً [سبأ: 18] يعني متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها، فكانوا آمنين في بلادهم، تخرج المرأة لا تتزود شيئا، تبيت في قرية، وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام، فقالوا: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سبأ: 19] لأنهم بطروا النعمة وملوها، وقالوا: لو كان جني جناتنا أبعد كان أجدر أن نشتهيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد، فجعل الله لهم الإجابة كما قال: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ: 19] وعن الضحاك أنهم كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فسلط عليهم سيل العرم، قيل: العرم: المطر الشديد، وقيل: جرذ أعمى فنقب عليهم السد، وكان فرسخا في فرسخ بناه لقمان الأكبر العادي، وكان بناه للدهر على زعمه، وكان يجتمع إليه مياه اليمن ثم تتفرق في مجاري على قدر حاجة جنانهم، وقيل: بناه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وساق إليه سبعين واديا، ومات قبل أن يكمله فأكمله بعده ملوك حمير، وكان أولاد حمير بن سبأ وأولاد كهلان بن سبأ سادة اليمن في ذلك الزمان، وكان كبيرهم وسيدهم جد الأنصار عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، ويقال: الأسد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ذكر نسبه كذلك ابن هشام وابن حزم وابن الكلبي فيما نقله عنه ابن عبد البر، ونقل غيره عنه أنه جعل ثعلبة بين حارثة وبين امرئ القيس، وكانت الأنصار تقول: سمى عمرو مزيقياء لأنه كان يلبس في كل يوم حلتين ثم يمزقهما لئلا يلبسهما أحد بعده، وقيل لأبيه «ماء السماء» لجوده وقيامه عند الجدب مقام الغيث، وكان لعمرو مزيقياء أخ كاهن لم يعقب يسمى عمران، وكانت زوجة عمرو مزيقياء يقال لها طريفة من حمير، وكانت كاهنة، فولدت له ثلاثة عشر رجلا، ولدت ثعلبة وهو الذي أخرج جرهم من مكة هو وأخواته، ومن انخرع معه من الأزد على ما نقله رزين، ونقل أن والد ثعلبة- وهو عمرو بن عامر- توفي قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 غلبة ثعلبة لجرهم، وثعلبة أبو الأوس والخزرج، وولدت له أيضا حارثة والد خزاعة على ما سيأتي، وقيل: غير ذلك، وولدت له أيضا جفنة والد غسان ، سموا باسم ماء نزلوا عليه يقال له: غسان، والأشهر أنهم بنو مازن بن الأزد بن الغوث، وولدت له أيضا وداعة، وأبا حارثة، والحارث، وعوفا، وكعبا، ومالكا، وعمران، هؤلاء أعقبوا كلهم، والثلاثة الباقون لم يعقبوا. غسان وقال ابن حزم: إن غسان هم بنو الحارث وجفنة ومالك وكعب بني عمرو مزيقياء، شربوا كلهم من ماء غسان، بخلاف بقية ولد عمرو مزيقياء فلم يشربوا من ذلك الماء، فليسوا غسان، وكان لعمرو بن عامر بمأرب من القصور والأموال ما لم يكن لأحد. أول خبر سيل العرم ونقل رزين أنه كان أول شيء وقع بمأرب من أمر سيل العرم أن عمران بن عامر رأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم، وأن بلادهم ستخرب، فذكر ذلك لأخيه عمرو بن عامر؛ فكان بين التصديق والتكذيب، فبينا طريفة امرأته ذات يوم نائمة إذ رأت فيما يرى النائم أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت، فذعرت ذعرا شديدا، فسكّنوها، فقالت: يا عمرو بن عامر، الذي رأيت في الغيم، أذهب عني النوم، رأيت غيما أرعد وأبرق، طويلا ثم أصعق، فما وقع على شيء إلا احترق؛ فما بعده إلا الفرق «1» ، فلما رأوا ما بها خفضوها «2» حتى سكنت، ثم إن عمرو بن عامر دخل حديقة ومعه جاريتان له، فبلغ ذلك طريفة خرجت نحوه، فلما خرجت من بيتها عارضها ثلاث مناجذ- وهي دواب تشبه اليرابيع- منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن، فلما رأتهن طريفة وضعت يدها على عينها وقعدت على الأرض، فلما ذهبت المناجذ خرجت مسرعة، فلما عارضها خليج الحديقة التي فيها عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت في الطريق على ظهرها، وجعلت تروم «3» الانقلاب وتستعين بيدها فلا تستطيع، فتحذف التراب على نفسها، وتقذف بالبول من تحتها، فلما رأت طريفة ذلك جلست على الأرض حتى عادت السلحفاة إلى الماء، ثم مضت طريفة حتى دخلت الحديقة التي فيها عمرو بن عامر حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها، وإذا الشجرة من غير ريح تتكفأ،   (1) الفرق: الجزع وشدة الخوف. (2) خفضوها: سكّنوا قلبها وهدّؤوا روعها. (3) رام الشيء- روما ومراما: طلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فمرت حتى دخلت على عمرو، فلما رآها قال: هلمي يا طريفة، فقالت: والنور والظلماء، والأرض والسماء، إن الماء لغائر، وإن الشجر لهالك، فقال عمرو: ومن أخبرك بذلك؟ قالت: أخبرتني المناجذ، بسنين شدائد، يقطع فيها الولد الوالد، وسلحفاة تحذف بالتراب حذفا، وتقذف بالبول قذفا، ورأيت الشجر من غير ريح ولا مطر تكفأ، قال: وما ترين ذلك؟ قالت: داهية وكيمة «1» ، وأمور جسيمة، قال: أما إن كان ذلك فلك الويل. قالت: أجل وما لعمرو فيها من نيل، مما يجيء به السيل، فألقى بنفسه على الفراش وقال: ما هذا الذي تقولين إلا أمر جليل، وخلف قليل، وأخذ القليل خير من تركه، قال عمرو: وما علامة ما تذكرين؟ قالت: إذا رأيت جرذا يكثر في السد الحفر، ويقلب منه بيديه الصخر، فاعلم أن قد وقع الأمر. فانطلق عمرو إلى السد ينظر فإذا جرذ يقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلها خمسون رجلا من أسد، فرجع إلى طريفة فأخبرها. ثم رأى عمرو رؤيا أنه لا بد من سيل العرم، وقيل: إن آية ذلك أن ترى الحصى قد ظهر في شرب النخل، فذهب فرأى ذلك، فعرف أن ذلك واقع، وأن بلادهم ستخرب، فكتم ذلك وأخفاه، وأجمع على أن يبيع كل شيء له بأرض سبأ ويخرج منها هو وولده، فخشي أن يستنكر الناس ذلك، فاحتال في الأمر، فأمر بإبل فنحرت، وبغنم فذبحت، وصنع طعاما واسعا، وبعث إلى أهل مأرب بأجمعهم، وكان فيمن دعا يتيم كان رباه وأنكحه، وقال له فيما بينه وبينه: إذا أنا جلست أطعم الناس فاجلس بجنبي ثم نازعني الحديث واردد عليّ مثل ما أقول لك، وافعل بي مثل ما أفعل بك، فكلمه عمرو في شيء، فرد عليه، فضرب عمرو وجهه وشتمه، ففعل اليتيم به مثله، فصاح عمرو: وا ذلاه، اليوم ذهب فخر عمرو ومجده، فحلف ليقتلنه، فلم يزالوا به حتى تركه، وقال: والله لا أقيم ببلدة صنع بي هذا فيه أبدا، ولأبيعن أموالي كلها وأرحل عنكم، فاغتنم الناس غضبه واشتروا منه أمواله، فباع جميع عقاره، وتبعه ناس من الأزد فباعوا أموالهم، ولما كثر البيع استنكر الناس ذلك، فأمسكوا، فلما اجتمع عند عمرو بن عامر أثمان أمواله أخبر الناس بأمر سيل العرم، فخرج من مأرب ناس كثير، وأقام بها من قضي عليه بالهلاك، هذا ما نقله رزين في تاريخه وقد اقتفيت أثره في ذلك في كتابي. وذكر ابن هشام في سيرته نحوه، وقال: إن الأسد- يعني الأزد- قالوا: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، وقيل: كانت طريفة زوجة ثعلبة، وإنه صاحب القصة والمحتال في بيع ماله.   (1) وكيمة داهية: مصيبة محزنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وقال ياقوت: إن عمرو بن عامر مات قبل سيل العرم، وصارت الرئاسة إلى أخيه عمران بن عامر الكاهن، وكان عاقرا لا يولد له، وإنه صاحب القصة مع طريفة الكاهنة، وإنها أقبلت عليه يوما وقالت: والظلمة والضياء، والأرض والسماء، ليقبلن إليكم الماء، كالبحر إذا طما، فيدع أرضكم فلا يسفى عليها الصبا، وذكر القصة، وأنه احتال لبيع أمواله بأن قال لحارثة أحد أولاد أخيه عمرو بن عامر إذا اجتمع الناس إليّ فإني سامرك بأمر فأظهر فيه العصيان فإذا ضربت رأسك بالعصا فقم إليّ والطمني، فقال: وكيف يلطم الرجل عمه؟ فقال: افعل يا بني فإن في ذلك صلاحك وصلاح قومك، وذكر القصة، قال: فجاء بعد رحيلهم بمديدة السيل وقد خرب الجرذ السد فلم يجد مانعا، فغرق البلاد حتى لم يبق من جميع الأرضين والكروم إلا ما كان في رؤوس الجبال والأمكنة البعيدة مثل ذمار «1» وحضرموت وعدن، وذهبت الضياع والحدائق والجنان، وجاء السيل بالرمل وطمّها، فمضى على ذلك إلى اليوم، وباعد الله بين أسفارهم كما سألوا. عمرو بن عامر يصف البلاد لقومه ونقل رزين أن عمرو بن عامر الكاهن قال لهم عند خروجهم: سأصف لكم البلاد، فقال: من كان منكم ذا همّ بعيد، وجمل شديد، ومراد حديد، فليلحق بقصر عمان المشيد؛ فسكنها أزدعمان. قال: ومن كان منكم ذا هم غير بعيد، وجمل غير شديد، ومراد غير حديد؛ فليلحق بالشعب من كرود- وهي من أرض همدان- فكان الذين سكنوه وداعة بن عمرو بن عامر فانتسبوا في همدان. قال: ومن كان منكم ذا هم مدن، وجمل معن، فليلحق بالثنى من شن، وهو بالسراة، فسكنه أزدشنوءة. قال: ومن كان منكم ذا جلد وبصر، وله صبر على أزمات الدهر، فليلحق ببطن مر، فسكنته خزاعة. قال: ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بالحرة ذات النخل؛ فكان الذين سكنوها الأوس والخزرج. قال: ومن كان يريد الخمر والخمير، والديباج والحرير، والأمر والتأمير، فليلحق ببصرى وسدير- وهما من أرض الشام- فكان الذين سكنوه آل جفنة بن غسان. قال: ومن كان يريد الثياب الرقاق، والخيول العتاق، والكنوز من الأرزاق، فليلحق بالعراق؛ فكان الذين لحقوا بالعراق جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة من غسان. قلت: وقيل: إن الذي سجع لهم بذلك طريفة الكاهنة، وإنها قالت: ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل.   (1) ذمار: قرية بالقرب من صنعاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وروى ابن زبالة سجع عمرو بن عامر في المدينة بلفظ: من كان يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، المدركات بالذحل «1» ، فليلحق بيثرب ذات النخل؛ فلما سمعوا ذلك القول خرج عمرو بن عامر بجميع ولده ومن معه من الأزد يريد أرضا يقيمون بها، ففارقهم وداعة بن عامر فسكن همدان، ثم سار عمرو حتى إذا كان بين السراة ومكة أقام هنالك ناس من الأزد، وأقام معهم عمران بن عمرو بن عامر، ثم سار عمرو في باقي ولده وفي ناس من بني مازن من الأزد حتى نزلوا ماء يقال له غسان، وغلب عليهم اسمه حتى قال شاعرهم: إمّا سألت فإنّا معشر نجب ... الأزد نسبتها والماء غسان نزول خزاعة في مكة قال أبو المنذر الشرقي: ومن ماء غسان انخزع لحيّ- واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن حارثة- فأتى مكة فتزوج بنت عامر الجرهمي ملك جرهم، فولدت له عمرو بن لحي الذي غيّر دين إبراهيم، فسمى ولده خزاعة لأن أباهم انخزع من غسان. وقال غيره ما يخالف ذلك؛ فروى الأزرقي أن عمرو بن عامر سار هو وقومه لا يطؤون بلدا إلا غلبوا عليه، فلما انتهوا إلى مكة- وأهلها جرهم قد قهروا الناس وحازوا ولاية البيت على بني إسماعيل وغيرهم- أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر يقول: يا قوم إنا خرجنا من بلادنا، فلم ننزل بلدا إلا فسح أهله لنا فنقيم معهم حتى نرسل روّادنا إلى الشام والمشرق، فحيث ما قيل لنا إنه أمثل لحقنا به، فأبت جرهم ذلك، فأرسل إليهم ثعلبة: إنه لا بد لي من المقام، فإن تركتموني نزلت وحمدتكم وواسيتكم في الماء والمرعى، وإن أبيتم أقمت على كرهكم ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا ولا تشربوا إلا رنقا- يعنى الكدر- فإن قاتلتموني قاتلتكم، ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء وقتلت الرجال، ولم أترك أحدا منكم ينزل الحرم أبدا، فأبت جرهم، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثم انهزمت جرهم، فلم ينفلت منهم إلا الشريد، وأقام ثعلبة بمكة وما حولها بعساكره حولا، فأصابتهم الحمى، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى، فدعوا طريفة الكاهنة فشكوا إليها الذي أصابهم، فقالت: قد أصابني الذي تشكون، ثم ذكر الأزرقي سجعها في أمر الدلالة على البلاد في هذا المحل وهو غى سجع عمران بن عامر عند تفرقهم من سبأ، ثم ذكر لحوق كل فرقة منهم ببلدها على النحو الذي قدمناه، وأن الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر- وهم الأنصار- نزلوا بالمدينة، ثم قال: وانخزعت خزاعة بمكة،   (1) الذحل: الحقد والثأر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحيّ، فولي أمر مكة، فهذا يقتضي أنهم إنما افترقوا من مكة، ولا شك أن منها افترق الذين وصلوا إليها. نزول ثعلبة بن عمرو في المدينة وقال ياقوت: إنهم لما ساروا من اليمن عطف ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السما بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن الراد بن الغوث نحو الحجاز، فأقام ما بين الثعلبية إلى ذي قار، وباسمه سميت الثعلبية، فنزلها بأهله وولده ومن تبعه، فأقام هناك يتبع مواقع القطر، فلما كثر ولده وقوي ركنه سار بهم نحو المدينة وبها يهود فاستوطنوها؛ فأقاموا بها بين قريظة والنضير وخيبر وتيماء ووادي القرى، ونزل أكثرهم بالمدينة. الفصل الثالث في نسبهم قد قدمنا انتسابهم إلى عمرو مزيقياء، وانتساب عمرو إلى قحطان. نسب قحطان وقال ابن رزين نقلا عن الشرقي: أصل الأنصار الأوس والخزرج وهما من ولد ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان، وكأنه سقط من النسخة بعد الغوث «بن نبت» فإنه بين مالك والغوث كما قدمناه، وجماع قبائل اليمن تنتهي إلى قحطان، وقحطان اختلف في نسبه، فالأكثرون قالوا: إنه عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وقيل: هو من ولد هود نفسه، وقيل: ابن أخيه، ويقال: قحطان أول من تكلم بالعربية ، وهو والد العرب المتعربة، وأما إسماعيل فهو والد العرب المستعربة، وأما العرب العاربة فكانوا قبل ذلك كعاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وغيرهم، وقيل: إن قحطان أول من قيل له: أبيت اللّعن» ، وعم صباحا. وذهب الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام، وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل عليه السلام، ويدل له تبويب البخاري بأن نسبة اليمن إلى إسماعيل، وأورد فيه الحديث المتضمن لمخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بني أسلم بأنهم من بني إسماعيل، وأسلم هو ابن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس صاحب النسب المتقدم، فدل على أن اليمن بني قحطان من بني   (1) أبيت اللّعن: أن تأتي ما تلعن به وعليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 إسماعيل، وهو ظاهر قول أبي هريرة في الصحيحين في قصة هاجر «فتلك أمكم يا بني ماء السماء» يخاطب الأنصار؛ لأن جدهم عامرا والد عمرو كان يلقب بذلك، كما تقدم، أو أراد أبو هريرة رضي الله عنه العرب كلهم؛ لكثرة ملازمتهم الفلوات التي بها مواقع القطر، وهذا متمسّك من ذهب إلى أن جميع العرب من ولد إسماعيل عليه السلام. قال ابن حبان في صحيحه: كل من كان من ولد إسماعيل يقال له «ابن ماء السماء» لأن إسماعيل ولد هاجر، وقد ربي بماء زمزم وهي من ماء السماء، ورجح عياض أن مراد أبي هريرة الأنصار خاصة، ونسبتهم إلى جدهم المعروف بماء السماء، انتهى. ودلالته على أن قبائل اليمن كلها من ولد إسماعيل ظاهرة. قال الحافظ ابن حجر: وهو الذي يترجح في نقدي، وقد ذكر ابن عبد البر من طريق القعقاع بن أبي حدرد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «مرّ بناس من أسلم وخزاعة وهم يتناضلون فقال: ارموا بني إسماعيل» وأسلم وخزاعة قد تقدم نسبهما في قبائل اليمن التي جماع نسبتها قحطان، ومما يؤيد ذلك قول المنذر بن عمرو جد حسان بن ثابت الأنصاري: ورثنا من البهلول عمرو بن عامر ... وحارثة الغطريف مجدا مؤثّلا ماثر من آل ابن نبت بن مالك ... ونبت بن إسماعيل ما إن تحوّلا وأول ذلك كله المخالفون بتأويلات بعيدة، بل الذي أميل إليه أن العرب كلهم من ولد إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه، وإن لم يتم ذلك فالعرب الذين لهم الشرف بالتقديم في الكفاءة وغيرها شرعا هم بنو إسماعيل، ويدل له قول بعض أصحابنا في الإمامة: إذا لم يوجد قرشي مستجمع للشروط نصب كناني، فإن لم يكن فرجل من ولد إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه، فإن تعذر انتقلنا إلى العجم، ولم يقولوا انتقلنا إلى بقية العرب، لكن في التتمة للمتولي: فإن لم يوجد من ولد إسماعيل عليه السلام يولّى جرهمي، وجرهم أصل العرب، فإن لم يوجد فرجل من ولد إسحاق عليه السلام، اه. وهو مخالف لقول البغوي في التهذيب: فإن لم يوجد ولد إسماعيل فمن العجم، وأيضا فالمتولي جعل جرهما متأخرين عن ولد إسماعيل، وجعل لهم فضلا في الجملة على العجم، كذا قدم بعض العجم على بعض، وإسماعيل أبو العرب الذين شرف نسبهم بمشاركة نسبة أشرف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم، وهو الأسّ في ذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وعربي اللسان لا عبرة به، على أن في مستدرك الحاكم من حديث ابن عباس «أول من نطق بالعربية إسماعيل» لكن في الصحيح أن إسماعيل تعلم العربية من جرهم الذين نزلوا مع أمه. أول من تكلم بالعربية قال ابن إسحاق: وكان جرهم وأخوه قطورا ابنا قحطان أول من تكلم بالعربية عند تبلبل الألسن. قلت: وهو جار على رأي من يقول: إن العرب كلها ليست من ولد إسماعيل. وروى الزبير بن بكار في النسب من حديث علي بإسناد حسن قال: أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل؛ فبهذا القيد يجمع بين الخبر المتقدم وبين ما في الصحيح، فيكون أوليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان، لا الأولية المطلقة، فيكون بعد تعلم أصل العربية من جرهم ألهمه الله العربية الفصيحة المبينة؛ فعلى تقدير تسليم أن العرب كلهم ليسوا من ولد إسماعيل فالمستحق للشرف إنما هو عربية إسماعيل، فيمتاز بنوه بما تقدم. وقال ابن دريد في الوشاح: أول من نطق بالعربية يعرب بن قحطان، ثم إسماعيل، ونقل ابن هشام عن الشرقي أن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم، وكله جار على خلاف ما قدمناه من أن العرب كلها من ولد إسماعيل، والله أعلم. أم الأنصار ونسبها وأم الأنصار في قول الكلبي: قيلة بنت عمرو بن جفنة، وقال ابن حزم: هي بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة بن عمرو مزيقياء، ويقال: بنت كاهل بن عذرة من قضاعة، وقضاعة من حمير عند الأكثر، واشتهرت الأنصار ببني قيلة ولهم يقول القائل: بهاليل من أولاد قيلة، لم يجد ... عليهم خليط من مخالطة عتبا مطاعيم في المقري، مطاعين في الوغى ... يرون عليهم فعل آبائهم نحبا «1» وذكر رزين عن الشرقي عقب ما قدمناه عنه من أن الأنصار أصلهم الأوس والخزرج وهما من ولد ثعلبة بن عمرو، فقال: فولد لثعلبة بن عمرو بن حارثة الأوس والخزرج، وأمهما قيلة؛ فولد الأوس مالكا، ومن مالك قبائل الأوس كلها، فولد لمالك عمرو وعوف ومرة، ويقال لهم أوس الله، وهم الجعادرة، سموا بذلك لقصر فيهم.   (1) المقري: الذي يقري الضيف. نحبا: نذرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قلت: وسيأتي ما يخالف هذا مع بيان قبائل الأوس المنتشرة من هؤلاء. وروى الخرائطي أنه لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو الوفاة اجتمع عليه قومه، فقالوا: قد حضر من أمر الله ما ترى، وقد كنا نأمرك في شبابك أن تتزوج فتاة، وهذا أخوك الخزرج له خمسة بنين وليس لك ولد غير مالك، فقال: لن يهلك هالك، ترك مثل مالك، إن الذي يخرج النار من الرينة قادر أن يجعل لمالك نسلا، ورجالا بسلا، وكل إلى موت، ثم أقبل على مالك فقال: أي بني، المنية ولا الدنية، وذكر حكما سجع بها، قال: ثم أنشأ يقول: شهدت السبايا يوم آل محرّق ... وأدرك عمري صيحة الله في الحجر فلم أر ذا ملك من الناس واحدا ... ولا شوقه إلا إلى الموت والقبر فعلّ الذي أردى ثمودا وجرهما ... سيعقب لي نسلا على آخر الدهر تقربهم من آل عمرو بن عامر ... عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر فإن تكن الأيام أبلين جدّتي ... وشيبن رأسي والمشيب مع العمر فإنّ لنا ربّا علا فوق عرشه ... عليما بما يأتي من الخير والشر ألم يأت قومي أنّ لله دعوة ... يفوز بها أهل السعادة والبرّ إذا بعث المبعوث من آل غالب ... بمكة فيما بين زمزم والحجر هنالك فابغوا نصره ببلادكم ... بني عامر؛ إن السعادة في النصر «1» ثم قضى من ساعته. وقال ابن حزم: إن بني عامر بن عمرو بن مالك بن الأوس كانوا كلهم بعمان لم يكن منهم بالمدينة أحد؛ فليسوا من الأنصار. قال الشرقي: وولد الخزرج بن حارثة أخو الأوس أيضا خمس بنين. وتفرقوا بطونا كثيرة. قلت: وهم عمرو، وعوف، وجشم، وكعب، والحارث، وسيأتي بيان ما انتشر من قبائلهم. وقال ابن حزم: إن عقب السائب بن قطن بن عوف بن الخزرج لم يكن منهم أحد بالمدينة، كانوا بعمان؛ فليسوا من الأنصار، وذكر نحو ذلك في بعض بني الحارث بن الخزرج الأكبر كما سيأتي، وذكر أيضا أن بعض بني جفنة بن عمرو مزيقياء كانوا بالمدينة في عداد الأنصار، والله أعلم.   (1) ابغوا: أعينوه على طلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الفصل الرابع في تمكنهم بالمدينة، وظهورهم على يهود، وما اتفق لهم مع تبع قال الشرقي: لما قدمت الأوس والخزرج المدينة تفرقوا في عاليتها وسافلتها، ومنهم من نزل مع قوم من بني إسرائيل في قراهم، ومنهم من نزل وحده لا مع بني إسرائيل ولا مع العرب الذين كانوا قد تألفوا إلى بني إسرائيل، وكانت الثروة في بني إسرائيل، كانوا نيفا على عشرين قبيلة، ولهم قرى أعدّوا بها الآطام، فنزلت الأوس والخزرج بينهم وحواليهم. إقامة الأوس والخزرج مع اليهود وقال ابن زبالة عن مشيخة من أهل المدينة قالوا: أقامت الأوس والخزرج بالمدينة، ووجدوا الأموال والآطام والنخيل في أيدي اليهود، ووجدوا العدد والقوة معهم، فمكثت الأوس والخزرج ما شاء الله، ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض، ويمتنعون به ممن سواهم، فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا، فلم يزالوا على ذلك زمانا طويلا، وأمرت «1» الأوس والخزرج وصار لهم مال وعدد، فلما رأت قريظة والنضير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم، وكانت قريظة والنضير أعدّ وأكثر، وكان يقال لهما الكاهنان، وبنو الصريح، وفي ذلك يقول قيس بن الخطيم مثنيا عليهم: كنا إذا رامنا قوم بمظلمة ... شدت لنا الكاهنان الخيل واعتزموا نسوا الرهون وآسونا بأنفسهم ... بنو الصّريح فقد عفّوا وقد كرموا قصة الفطيون ملك اليهود الطاغية فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، حتى نجم «2» منهم مالك بن العجلان أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج وسوّده «3» الحيان الأوس والخزرج، وكان الفطيون- أي بالفاء المكسورة، وقال ياقوت: الفيطوان- ملك اليهود بزهرة، وكانت لا تهدى عروس بيثرب من الحيين الأوس والخزرج حتى تدخل عليه فيكون هو الذي يفتضها قبل زوجها، فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلا من قومها، فبينا مالك في   (1) أمرت: كثر مالها. (2) نجم: ظهر ونبغ. (3) سوّد فلان: جعله سيدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 نادي قومه إذ خرجت أخته فضلا، فنظر إليها أهل المجلس، فشق ذلك على مالك، ودخل فعنّفها وأنبها، فقالت: ما يصنع بي غدا أعظم من ذلك، أهدى إلى غير زوجي، فلما أمسى مالك اشتمل على السيف ودخل على الفطيون متنكرا مع النساء، فلما خف من عنده عدا عليه فقتله وانصرف إلى دار قومه، ثم بعث هو وجماعة من قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم بحالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود، وكان رسولهم الرمق بن زيد بن امرئ القيس أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج، وكان قبيحا دميما شاعرا بليغا، فمضى حتى قدم على أبي جبيلة أحد بني جشم بن الخزرج الذين ساروا من يثرب إلى الشام، وقال بعضهم: كان أبو جبيلة من ولد جفنة بن عمرو بن عامر قد أصاب ملكا بالشام وشرفا. قلت: قد تقدم أن أبناء جفنة من غسان، وكانوا بالشام ملوكا. ولما ذكر ابن حزم بني جشم بن الخزرج قال: فولد جشم غضب، فولد غضب مالك، فولد مالك عبد حارثة، فولد عبد حارثة حبيب، فولد حبيب عبد الله، فولد عبد الله أبا جبيلة الملك الغساني الذي جلبه مالك بن العجلان لقتل اليهود، انتهى. وفيه نظر؛ إذ ليس من بطون الخزرج غساني كما يؤخذ مما قدمناه عن ابن حزم أيضا، والمشهور ما قدمناه، قالوا: فشكا إليه حالهم وغلبة اليهود عليهم، وما يتخوفون منهم، وأنهم يخشون أن يخرجوهم، وأنشده من شعره. فتعجب من شعره وبلاغته وقبحه ودمامته، وقال: عسل طيب في وعاء خبيث. فقال الرمق: أيها الملك، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه وقلبه. فقال: صدقت؛ وأقبل أبو جبيلة في جمع كثير لنصرة الأوس والخزرج. كذا قاله ابن زبالة. وقد نقل رزين عن الشرقي ما يقتضي أن مالك بن العجلان هو الذي توجّه بنفسه، وأن ما ذكر من سيرة الفطيون في افتضاض الأبكار إنما كانت في غير الأوس والخزرج، وأنه أراد أن يسير فيهم بذلك، فقتله مالك بن العجلان، فإنه قال: إن الفطيون كان قد شرط ألاتدخل امرأة على زوجها حتى تدخل عليه، فلما سكن الأوس والخزرج المدينة أراد أن يسير فيهم بتلك السيرة؛ فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلا من بني سليم، فأرسل الفطيون رسولا في ذلك وكان مالك أخوها غائبا، فخرجت تطلبه، فمرت بقوم أخوها فيهم، فنادته، فقال أخوها: لقد جئت بسبّة يا هنتاه، تناديني ولا تستحيي؟ فقالت: الذي يراد بي أكبر، فأخبرته، فقال لها: أكفيك ذلك، فقالت: وكيف؟ فقال: أتزيا بزي النساء وأدخل معك عليه بالسيف فأقتله، ففعل، ثم خرج حتى قدم الشام فنزل على أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 جبيلة، وكان نزلها حين نزلوا هم المدينة، فجيّش جيشا عظيما، وأقبل كأنه يريد اليمن واختفى معهم مالك بن العجلان، فجاء فنزل بذي حرض، وأرسل إلى أهل المدينة من الأوس والخزرج فأتوا إليه فوصلهم وأعطاهم، ثم أرسل إلى بني إسرائيل- يعني اليهود- وقال: من أراد الحباء «1» من الملك فليخرج إليه، وإنما فعل ذلك خيفة أن يتحصنوا في الحصون فلا يقدر عليهم، فخرج إليه أشراف بني إسرائيل كلهم، فأمر لهم بطعام حتى اجتمعوا، فقتلهم من عند آخرهم، فلما فعل ذلك صار الأوس والخزرج أعز أهل المدينة؛ ففي ذلك يقول البلوي يمدح مالكا فيما فعل: فليشهدنّ بما أقول عصابة ... بلويّة وعصابة من سالم هل كان للفطيون عقر نساكم ... حكم النصيب وليس حكم الحاكم حتى حباه مالك عن عرسه ... حمراء تضحك عن نجيع قاتم ثم ذكر أبياتا نسبها إلى أبي يزيد بن سالم أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج مدح بها أبا جبيلة ونسبها ابن زبالة للرمق فإنه قال: إن الأوس والخزرج قالوا لأبي جبيلة لما قدم لنصرهم: إن علم القوم ما تريد تحصنوا في آطامهم فلم تقدر عليهم، ولكن ادعهم للقائك وتلطفهم حتى يأمنوك ويطمئنوا فتستمكن منهم، فصنع لهم طعاما وأرسل إلى وجوههم ورؤسائهم، فلم يبق من وجوههم أحد إلا أتاه، وجعل الرجل منهم يأتي بحامته وحشمه «2» رجاء أن يحبوهم، وكان قد بنى لهم حيّزا وجعل فيه قوما فأمرهم أن يقتلوا من دخل عليهم منهم، ففعلوا حتى أتوا على وجوههم ورؤسائهم، فعزت الأوس والخزرج بالمدينة، واتخذوا الديار والأموال والآطام، فقال الرمق يثني على أبي جبيلة: لم تقض دينك من حسان ... وقد عنيت وقد عنينا قضيت همك في الحسان ... فقد عنيت وقد عنينا وفي رواية رزين: الراشقات المرشقا ... ت الجازيات بما جزينا أمثال غزلان الصّرا ... ثم يأتزرن ويرتدينا الرّيط والدّيباج والحلي ... المفصل والبرينا «3» وأبو جبيلة خير من ... يمشي، وأوفاه يمينا   (1) الحباء: ما يحبو به الرجل صاحبه ويكرمه به. (2) حامته وحشمه: خاصته من أهله وخدمه. (3) البرة: كل حلقة من سوار وقرط وخلخال وما أشبه ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وأبرّهم برا وأع ... لمهم بهدي الصالحينا القائد الخيل الصوا ... نع بالكماة المعلمينا أبقت لنا الأيام والحر ... ب الملمة تعترينا كبشا له در يغل متو ... نها الذكر السمينا ومعاقلا شمّا وأسيا ... فا يقمن وينحنينا ومحلة زوراء تج ... حف بالرجال الظالمينا وفي بعض الروايات أن مالك بن العجلان لما قتل الفطيون قصد اليمن إلى تبّع الأصغر؛ فشكا إليه ما كان الفطيون يسير فيهم، فعاهد ألايقرب امرأة ولا يمس طيبا ولا يشرب خمرا حتى يسير إلى المدينة ويذل من بها من اليهود؛ ففعل ذلك. وذكر ابن قتيبة في معارفه تبّع بن حسان، قال: وهو تبع الأصغر آخر التبابعة، وذكر أنه صار إلى الشام وملوكها غسان فأطاعته، قال: وصار إلى ابن أخيه الحارث وهو بالمستقر من ناحية هجر فأتاه قوم كانوا وقعوا إلى يثرب ممن خرج مع عمرو مزيقياء وحالفوا اليهود بيثرب- أي وهم الأنصار- فشكوا اليهود، وذكروا سوء مجاورتهم، ونقضهم الشرط الذي شرطوه لهم عند نزولهم، ومتّوا «1» إليه بالرحم، فأحفظه ذلك «2» ، فصار إلى يثرب ونزل في سفح أحد، وبعث إلى اليهود، فقتل منهم ثلاث مائة وخمسين رجلا صبرا، وأراد خرابها، فقام إليه رجل من اليهود قد أتت عليه مائتان وخمسون سنة فقال: أيها الملك، مثلك لا يقتل على الغضب، وأمرك أعظم من أن يطير بك برق أو يسرع بك لجاج، فإنك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية، قال: ولم؟ قال: لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل يخرج من عند هذه البنية، يعني البيت الحرام، فكف تبع ومضى ومعه هذا اليهودي ورجل آخر من اليهود عالم، وهما الحبران، فأتى مكة، وكسا البيت ثم رجع إلى اليمن ومعه الحبران وقد دان بدينهما وآمن بموسى صلّى الله عليه وسلّم اه. فلعل مالك بن العجلان كان قد توجه إلى جهة ملك غسان وبها تبّع المذكور فوقع من كل منهما نصره، فأضافه قوم إلى تبع، وقوم إلى أبي جبيلة الغساني. قالوا: ولعنت اليهود مالك بن العجلان في كنائسهم وبيوت عباداتهم، فبلغه ذلك، فقال: تحامى اليهود بتلعانها ... تحامي الحمير بأبوالها «3»   (1) متّوا: تقربوا. (2) أحفظه ذلك: أغضبه ذلك. (3) تلعن القوم: التعنوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وماذا عليّ بأن يلعنوا ... وتأتي المنايا بإذلالها وقالت سارة القرظية ترثي من قتل من قومها: بأهلي رمّة لم تغن شيئا ... بذي حرض تعفّيها الرياح كهول من قريظة أتلفتهم ... سيوف الخزرجية والرماح ولو أذنوا بأمرهم لحالت ... هنالك دونهم حرب رداح «1» قال أهل السير: ثم انصرف أبو جبيلة راجعا إلى الشام، وقد ذلّل الحجاز والمدينة، ومهّدها للأوس والخزرج. ونقل المجد عن ياقوت أن تبّعا كان بالمدينة، فإنه قال: وعكس ياقوت قصة افتضاض الأبكار؛ فجعل أنها كانت باليمامة، وأن أهل المدينة مع تبّع هم الذين أزالوا هذه الفضيحة من اليمامة، ثم أورد كلام ياقوت، وليس مضمونه ما ذكره؛ بل مضمونه أن من كان يفعل فيهم هذه الفضيحة باليمامة احتالوا في دفعها وقتلوا من كان يفعل بهم ذلك وغلبوا عليهم، فهرب منهم شخص ولحق بتبع فنصره تبع مع أهل المدينة، وهو خبر ممتنع فلنورده تبعا للمجد، قال ياقوت: إن طسما وجديسا من ولد لاوذ بن إرم بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام أقاموا باليمامة، وكثروا بها، حتى ملكوا عليهم عمليق الطّسمي- وكان جبارا غشوما، وكان قد قضى بقضاء جائر بين امرأة وزوجها من جديس، فأنشدت المرأة أبياتا بلغته، فأمر ألا تزوج بكر من جديس حتى تدخل عليه فيكون هو الذي يفترعها «2» - ولقوا منه ذلا، حتى زوجت منهم أخت الأسود بن غفار سيد جديس، وكان جلدا، فلما كانت ليلة الإهداء خرجت والقيان «3» حولها لتحمل إلى عمليق وهن يضربن بمعازفهن ويقلن: أبدى بعمليق وقومي فاركبي ... وبادري الصبح بأمر معجب فسوق تلقين الذي لم تطلبي ... وما لبكر دونه من مهرب ثم أدخلت على عمليق فافترعها، وقيل: كانت أيدة «4» ، فامتنعت عليه، فخاف العار فوجأها «5» بحديدة في قبلها فأدماها، فخرجت وقد تقاصرت إليها نفسها فشقّت ثوبها من خلفها ودماؤها تسيل، فمرت بأخيها في جمع من قومه وهي تبكي وتقول:   (1) حرب رداح. وكتيبة رداح: كثيرة جرارة. (2) افترع البكر: افتض بكارتها. (3) القيان: الإماء والجواري. وغلب على المغنيات. (4) الأيدة: القوية الشديدة. (5) وجأها: دفعها ووخزها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 لا أحد أذلّ من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس في أبيات، فأغضب ذلك أخاها، ووقفها على نادي قومه، وهي تقول: أيجمل أن يؤتى إلى فتياتكم ... وأنتم رجال فيكم عدد الرمل أيجمل تمشي في الدما فتياتكم ... صبيحة زفّت في العشاء إلى بعل فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تغب من الكحل ودونكم ثوب العروس فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللغسل فلو أننا كنا رجالا وكنتم ... نساء لكنا لا نقر على الذل فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم ... وكونوا كنار شب بالحطب الجزل وإلا فخلوا بطنه وتحمّلوا ... إلى بلد قفر وهزل من الهزل فللموت خير من مقام على أذى ... وللفقر خير من مقام على ثكل فدبّوا إليه بالصّوارم والقنا ... وكل حسام محدث العهد بالصّقل ولا تجزعوا للحرب قومي فإنما ... يقوم رجال للرجال على رجل فيهلك فيها كل وغل مواكل ... ويسلم فيها ذو الجلادة والفضل فامتلأت جديس غيظا، ونكسوا رؤوسهم حياء، وتشاوروا في الأمر، فقال الأسود: أطيعوني فإنه عز الدهر، وقد رأيت أن أصنع للملك طعاما ثم أدعوه وقومه، فإذا جاؤونا قتلت الملك، وقام كل منكم إلى رئيس منهم فقتله، فلا يبقى للباقين قوة، فنهتهم أخت الأسود عن الغدر، وقالت: ناجزوهم فلعل الله أن ينصركم عليهم لظلمهم؛ فعصوها فقالت: لا تغدرنّ فإنّ الغدر منقصة ... وكل عيب يرى عيبا وإن صغرا إني أخاف عليكم مثل تلك غدا ... وفي الأمور تدابير لمن نظرا حشّوا سعيرا لهم فيها مناجزة ... فكلكم باسل أرجو له الظفرا فأجابها أخوها: شتان باغ علينا غير متئد ... يغشى الظلامة لا يبقى ولن يذرا إنا لعمرك لا نبدي مناجزة ... نخاف منها صروف الدهر من ظفرا إني زعيم بطسم حين تحضرنا ... عند الطعام بضرب يهتك الفقرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وصنع الأسود الطعام، ودفن كل منهم سيفه تحته في الرمل مجردا، فلما جلس الملك وقومه للأكل وثبت عليهم جديس حتى أبادوهم، ثم قتلوا باقيهم، فهرب رجل من طسم حتى لحق بتبّع تبان أسعد بن كلكيكرب، وقيل: بحسان بن تبّع الحميري وكان بالمدينة، فاستغاثه، وذكر أبياتا فيها غدر جديس بهم، فوعده بنصره، ثم رأى منه تباطؤا فقال: إني طلبت لأوتاري ومظلمتي ... بال حسّان آل العز والكرم المنعمين إذا ما نعمة ذكرت ... والواصلين بلا قربى ولا رحم قصة زرقاء اليمامة في أبيات أخرى، فسار تبع من المدينة في جيوشه، حتى إذا كان عند جبل على ليلة من اليمامة قال له الطسمي: توقف أيها الملك فإن لي أختا متزوجة في جديس يقال لها يمامة أبصر خلق الله على بعد، وإني أخاف أن ترانا فتنذرهم بنا، فأقام تبع، وأمر رجلا فصعد الجبل ليرى ما هناك، فدخل في رجله شوكة بالجبل، فأكب يستخرجها، فأبصرته اليمامة، وكانت زرقاء العين، فقالت لهم: إني أرى على الجبل الفلاني رجلا وما أظنه إلا عينا، فقالوا: ما يصنع؟ فقالت: إما يخصف «1» نعلا أو ينهش كتفا، فكذبوها، ثم قال الطسمي لتبع: إن بصرها بالليل أنفذ فمر أصحابك ليقطعوا من الشجر أغصانا ليستتروا بها فيشبهوا «2» عليها الأمر، ففعلوا، حتى إذا دنوا من اليمامة ليلا؛ فنظرت اليمامة فقالت: يا جديس سارت إليكم الشجر، أو جاءتكم أوائل خيل حمير، فكذبوها، فصبّحتهم حمير، فهرب الأسود في نفر من قومه لجبلي طيىء وفتح أهل المدينة حصون اليمامة، وامتنع عليهم حصن زرقاء اليمامة؛ فصابره تبع حتى افتتحه، وقبض عليها، وسألها: كيف أبصرتهم؟ فأخبرته بخبر الذي صعد الجبل، فسأله تبع، فقال: صعدت فانقطع شراك نعلي وأصابتني شوكة؛ فعالجت إصلاحها وإصلاح قبالي بفمي، فقال لها: أنّى لك هذا؟ قالت: كنت آخذ حجرا أسود فأدقه وأكتحل به: فكان يقوي بصري، فيقال: إنها أول من اكتحل بالإثمد، فأمر تبع بقلع عينيها ليرى ما فيهما، فوجد عروقها كلها محشوة بالإثمد، وخربت اليمامة يومئذ؛ لأن تبعا قتل أهلها، ولم يخلف بها أحدا، ورجع إلى المدينة. هذا ما ذكره المجد عن ياقوت باختصار، وليس فيه عكس القضية؛ فيجوز أن يقع بكل من اليمامة والمدينة مثل هذا، والظاهر أن قصة اليمامة كانت بعد قصة المدينة.   (1) يخصف نعلا: يصلح نعلا. (2) اشتبه عليها الأمر: اختلط عليها الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ونقل رزين عن الشرقي أن أبا جبيلة لما فرغ من نصر أهل المدينة رجع إلى الشام؛ فأقبل تبع الأخير- وهو كرب بن حسان بن أسعد الحميري، والتبابعة كلهم من حمير- يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل؛ فمر بالمدينة، فخلف فيها ابنا له ومضى حتى قدم الشام، ثم سار حتى قدم العراق، فلما كان بالعراق قتل ابنه بالمدينة غيلة «1» فأقبل راجعا يريد تخريب المدينة، فنزل بسفح أحد، فاحتفر بئرا ثم أرسل إلى أشراف المدينة، فلما جاءهم الرسول قال بعضهم: إنما أراد أن يملكنا على قومنا، وقال أحيحة: والله ما دعاكم لخير، وكان لأحيحة رئيّ من الجن فخرجوا وخرج أحيحة معه بقينة وخمر وخباء، فضرب الخباء وجعل فيه القينة والخمر، ثم دخل على تبع أول الناس. فتحدث معه، ففطن بالشر، ثم قال: إن أصحابي يصلونك إلى الظهر، فاستأذن في الخروج إلى الخيمة، فأذن له، فشرب وجعلت القينة تغنيه بأبيات صنعها لها تقول: لتبكني قينة ومزهرها ... وتبكني قهوة وشاربها وتبكني عصبة إذا اجتمعت ... لا يعلم الناس ما عواقبها وهو يقلّ من الشراب، وجاء أصحابه قريبا من الليل، فأمر لهم تبع بضيافة، فلما كان في جوف الليل أرسل إليهم ليقتلهم، ففطن أحيحة، فقال للقينة: أنا سائر إلى أهلي، فإذا طلبني الملك فقولي: هو نائم، فإذا ألحوا فقولي: يقول لك: أما أحيحة فقد ذهب فاغدر بقينته أو دع، وانطلق فتحصن في حصنه، فحاصروه ثلاثا يقاتلهم بالنهار، وإذا كان بالليل يرمي إليهم بتمر ويقول: هذا ضيافتكم. فأخبروا تبعا أنه في حصن حصين، فأمرهم أن يحرقوا نخله، واشتعلت الحرب بين تبع وأهل المدينة من اليهود والأوس والخزرج، وتحصنوا في الآطام، فخرج رجل من أصحاب تبع حتى جاء بني عدي بن النجار، فدخل لهم حديقة، فرقي على عذق منها. فأخذ يجده «2» ، فنزل إليه صاحب العذق «3» فقتله وجره إلى بئر وألقاه فيها، وهو يقول: جانا يجدّ نخيلنا ... وكان الجداد لمن قد أبر «4» فزاد ذلك تبعا حنقا «5» ، وجرد إلى بني النجار خيلا، فقاتلهم بنو النجار ورئيسهم يومئذ عمرو بن طلحة أخو بني معاوية بن مالك بن النجار، ورمى عسكر تبع حصون   (1) الغيلة: الغدر. (2) جدّ الشيء: قطعه. (3) العذق: كل غصن له شعب. (4) أبّر النخل: أصلحه. (5) حنق عليه: اشتد غيظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الأنصار بالنبل، فلقد جاء الإسلام والنبل فيها، وجزع في القتال فرس تبع فحلف لا يبرح حتى يخربها بزعمه، فسمع بذلك أحبار من اليهود فنزلوا إليه وقالوا: أيها الملك إن هذه البلدة محفوظة، فإنا نجد اسمها في الكتاب طيبة، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل من الحرم، وهي تكون قراره فلن تسلط عليها، فأعجب تبع بقولهم، فصرف تبع نبته عنها، وأمر أهل المدينة فتبايعوا مع العسكر، وكان تبع قد استوبأ بئره «1» التي حفر، فمرض، فجاءته امرأة من بني زريق اسمها فاكهة براوية «2» من بئر رومة فأعجبه فاستلذه، فلما كان رحيله قال لها: يا فاكهة ما نترك في موضعنا من شيء إذا رحلنا فهو لك، فأخذت ذلك، فاستغنت منه، وخرج تبع يريد اليمن ومعه من الأحبار الذين نهوه عن خراب المدينة رجلان أو ثلاثة، فقال لهم: تسيرون معي أياما آنس بحديثكم، فكانوا يحدثونه عن الكتاب وعن قصة النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يتركهم حتى وصلوا معه إلى اليمن؛ فهم كانوا أول يهودي دخل اليمن، واتفق في مسيرة قصة إكسائه الكعبة. وقد قدمنا في بعض الروايات أن مالك بن العجلان لما قتل ملك اليهود قصد اليمن إلى تبع الأصغر، وأنه الذي نصرهم على يهود، ولعل هذا مراد ياقوت لقوله «إن يهود كانوا أهل المدينة حتى أتاهم تبع فأنزل معهم بني عمرو بن عوف» لكن نقل المجد وغيره عن المبتدأ لابن إسحاق أنه قال في بيت أبي أيوب الذي نزله النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدمه المدينة: إن تبعا الأول بناه لما مر بالمدينة، قال في المبتدأ: واسمه تبان أسعد بن كلكيكرب، وكان معه أربعمائة عالم، فتعاقدوا على ألايخرجوا منها، فسألهم تبع عن سر ذلك، فقالوا: إنا نجد في كتبنا أن نبيا اسمه محمد هذه دار مهاجره؛ فنحن نقيم لعل أن نلقاه، فأراد تبع الإقامة معهم، ثم بنى لكل واحد من أولئك دارا واشترى له جارية وزوجها منه وأعطاه مالا جزيلا، وكتب كتابا فيه إسلامه، ومنه: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النّسم «3» فلو مدّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم وختمه بالذهب ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إن أدركه، وإلا فمن أدركه من ولده أو ولد ولده، وبنى للنبي صلّى الله عليه وسلّم دارا لينزلها إذا قدم المدينة، فتداول   (1) استوبأ البئر: استوخمها. ووجدها وبيئة. (2) الراوية: المزادة فيها الماء. (ج) روايا. (3) النسم: الخلق والناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب وهو من ولد ذلك العالم، وأهل المدينة الذين نصروه كلهم من أولاد أولئك العلماء، انتهى. زاد غير المجد: ويقال: إن الكتاب الذي فيه الشعر كان عند أبي أيوب حين نزل عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فدفعه له، وهو غريب، وكتب التواريخ متظاهرة «1» على ما قدمناه في أمر الأنصار ونسبهم. وقد ذكر السهيلي إيمان تبّع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر البيتين، وروى حديث «لا تسبوا تبّعا فإنه كان مؤمنا» . وروى عبد الرزاق عن وهب بن منبه قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن سب أسعد وهو تبّع. قال وهب: وكان على دين إبراهيم. وروى أحمد من حديث سهل بن سعيد رفعه «لا تسبوا تبّعا فإنه كان قد أسلم» وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس مثله، وإسناده أصلح من إسناد سهل، وأما ما رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة مرفوعا «لا أدري تبع كان لعينا أم لا» فمحمول على أنه صلّى الله عليه وسلّم قاله قبل أن يعلم بحاله. وقال المرجاني: إن أبا كرب بن أسعد الحميري آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقال: «شهدت على أحمد- البيتين المقدمين» وإن أباه أسعد هو تبّع الذي كسا الكعبة، ونقله عن حكاية ابن قتيبة، والذي رأيته في المعارف لابن قتيبة أن أسعد أبا كرب الحميري هو الموصوف بما ذكره. وروى ابن زبالة أن تبعا لما قدم المدينة وأراد إخراجها جاءه حبران من قريظة يقال لهما سحيت ومنبه فقالا: أيها الملك انصرف عن هذه البلدة فإنها محفوظة، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد يخرج في آخر الزمان، فأعجبه ما سمع منهما، فصدقهما وكفّ «2» عن أهل المدينة. الفصل الخامس في منازل قبائل الأنصار بعد إذلال اليهود، وشيء من آطامهم، وما دخل بينهم من الحروب، وهو نافع في معرفة جهات المساجد التي لا تعرف اليوم، وغير ذلك. اعلم أن ابن زبالة نقل ما حاصله أن الأوس والخزرج بعد انصراف أبي جبيلة ونصره   (1) متظاهرة: متوافقة. (2) كفّ عنهم: انصرف وامتنع عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 لهم تفرقوا في عالية المدينة وسافلتها، واتخذوا الأموال والآطام، فنزل بنو عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر وبنو حارثة بن الحارث بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة فكلاهما من الأوس دار بني عبد الأشهل قبلي دار بني ظفر مع طرف الحرة الشرقية، قاله المطري، والذي يظهر لي أن منازلهم كانت قريبة من منازل بني ظفر في شاميها وتمتد إلى الحرة المعروفة اليوم بدشم وما حولها، بل سيأتي في ترجمة الخندق ما يقتضي أن منازلهم كانت بالقرب من الشيخين. وابتنى بنو عبد الأشهل أطما يقال له «واقم» وبه سميت الناحية واقما، وكان لحضير بن سماك، وله يقول شاعرهم: نحن بنينا واقما بالحره ... بلازب الطين وبالأصره وله يقول خفاف بن ندبة: لو أنّ المنايا جزن عن ذي مهابة ... لهبن حضيرا يوم أغلق واقما «1» يطيف به حتى إذا الليل جنّه ... تبوّأ منه مضجعا متناغما وأطما يقال له: «الرعل» بالمال الذي يقال له واسط لصخرة أم بني عبد الأشهل، وله يقول شاعرهم يوم بعاث: نحن بنو صخرة أرباب الرعل وآطاما غير ذلك، وابتنى بنو حارثة أطما اسمه «المسيّر» صار لبني عبد الأشهل بعد خروج بني حارثة من دارهم؛ فإن بني حارثة تحولوا من دارهم هذه إلى غربي مشهد سيدنا حمزة رضي الله عنه في الموضع المعروف اليوم بيثرب؛ فكانت بها منازلهم على ما قدمناه عن المطري في الباب الأول. والذي تحرر لي من مجموع كلام الواقدي وابن زبالة وغيرهما أن منازلهم التي استقروا بها وجاء الإسلام وهم فيها كانت في شامي بني عبد الأشهل بالحرة الشرقية. ويؤيد ذلك ما سيأتي في ترجمة الخندق من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطه من أجمة الشيخين طرف بني حارثة كما رواه الطبراني. وقد قال المطري كما سيأتي عنه: الشيخان: موضع بين المدينة وبين جبل أحد، على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد. ويؤيده أيضا أن المطري قد ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم غدا إلى أحد يوم وقعته على الطريق الشرقية المذكورة، وسيأتي أنه بات بالشيخين.   (1) جزن تجاوزن. ذو المهابة: ذو الهيبة. هاب. خاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وفي المعارف لابن قتيبة عن ابن إسحاق: فلما سارت قريش لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى نزلوا بيوت بني حارثة، فأقاموا بقية يومهم وليلتهم. ثم خرج في غد، وذكر انخزال «1» عبد الله بن أبيّ؛ فتحرر أن بيوت بني حارثة عند الشيخين وفي ناحيتهما. وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاز ذلك اليوم في حائط لمربع بن قيظ، واتفق له معه ما سيأتي ذكره: ومربع هذا من بني حارثة وأيضا فقد قدمنا في الفصل الرابع في تحريمها قول أبي هريرة في رواية الإسماعيلي: ثم جاء- يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم- بني حارثة وهم في سند الحرة. اه. وليس الموضع الذي ذكره المطري في سند الحرة، بخلاف الموضع الذي قدمناه، مع أنه يحتمل أن بعض منازل بني حارثة كانت بالموضع الذي ذكره المطري أيضا. قال ابن زبالة: وابتنوا بها- أي بدارهم الثانية- أطما يقال له «الريان» عند مسجد بني حارثة كان لبني مجذعة بن حارثة، وسبب خروج بني حارثة من دار بني عبد الأشهل حرب كانت بينهم وبين عبد الأشهل، ووالى بنو ظفر بني عبد الأشهل، ثم هزمهم بنو حارثة وقتلوا سماك بن رافع وكان باغيا، قتله مسعود أبو محيصة الحارثي، وظفرت بهم بنو حارثة فأجلوهم أولا؛ فلحقوا بأرض بني سليم، فسار حضير بن سماك ببني سليم حتى قاتل بني حارثة، فقتل منهم، واشتد عليهم الحصار بأطمهم المسير المتقدم ذكره في دار بني عبد الأشهل، فسارت بنو عمرو بن عوف وبنو خطمة إليهم، وقالوا: إما أن تخلّوا سبيلهم، وإما أن تأخذوا عقل «2» صاحبكم، وإما أن تصالحوهم، فاختاروا أن يجلوهم، فخرج بنو حارثة إلى خيبر فكانوا بها قريبا من سنة، ثم رق لهم حضير وطلب صلحهم، فخرجت السفراء في ذلك حتى اصطلحوا، وأبت بنو حارثة أن ينزلوا دارهم مع بني عبد الأشهل، ونزلوا الدار المعروفة بهم اليوم، اه. ونزل بنو ظفر وهو كعب بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس دارهم شرقي البقيع عند مسجدهم: أي المعروف بمسجد البغلة بجوار بني عبد الأشهل. وذكر ابن حزم في الجمهرة أن بطون بني عمرو بن مالك بن الأوس [وهم]   (1) انخزل: ارتد وضعف. (2) عاقلة الرجل: ديته. وودّاه فعقل ديته بالعقل في فناء ورثته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 النبيت: منهم ظفر، وحارثة، وبنو عبد الأشهل، وبنو زعورا بن جشم بن الحارث أخي عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. ولم يذكر ابن زبالة بني زعورا في هذه البطون، بل ولا في بطون الأنصار كلها. وذكر ابن حزم أن منهم مالك بن التيهان وبني أوس بن عتيك وغيرهم، وقال في موضع آخر: فولد جشم عبد الأشهل، بطن ضخم، وزعورا بطن، وهم أهل راتج. ونزل بنو عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس قباء؛ فابتنوا أطما يقال له «الشّنيف» عند دار أبي سفيان بن الحارث بين أحجار المراء وبين مجلس بني الموالي، كان لبني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف، وأطما في دار عبد الله بن أبي أحمد، كان لكلثوم بن الهدم من بني عبيد بن زيد بن أظلم أخي بني عبيد بن زيد بن مالك، وأطما يقال له واقم كان بقباء لأحيحة بن الجلاح الجحجبي ثم صار لبني عبد المنذر بن رفاعة في دية جدهم رفاعة بن زر بن زيد بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف، وله يقول كعب بن مالك: فلا تتهدّد بالوعيد سفاهة ... وأوعد شنيفا إن عصيت وواقما وكان في رحبة بني زيد بن مالك بن عوف أربعة عشر أطما يقال لها: الصّياصي، وكان لهم أطم بالمسكبة شرقي مسجد قباء، وأطم يقال له «المستظل» كان موضعه عند بئر غرس، كان لأحيحة ثم صار لبني عبد المنذر في دية جدهم رفاعة، ثم خرجت بنو جحجبا بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف من قباء حين قتلوا رفاعة بن زر وغنما أخا بني عمرو بن عوف فسكنوا العصبة، وهي غربي مسجد قباء، قال سعد بن عمرو الجحجبي لبشر بن السائب: تدري لم سكنا العصبة؟ قال: لا، قال: لأنا قتلنا قتيلا منكم في الجاهلية، فقال بشر: والأمانة لوددت أنكم قتلتم منا آخر وأنكم وراء عير، يعني الجبل الذي غربي العصبة. وابتنى أحيحة بن الجلاح بالعصبة أطما يقال له «الضحيان» وهو الأطم الأسود الذي بالعصبة، وكان عرضه قريبا من طوله، بناه أولا من بثرة بيضاء» فسقط، يعني من حجارة الحرار البيض. وكان يرى من المكان البعيد، وفيه يقول أحيحة: وقد أعددت للحدثان حصنا ... لو أنّ المرء تنفعه العقول طويل الرأس أبيض مشمخرّ ... يلوح كأنه سيف صقيل وابتنوا هم وبنو مجدعة أطما يقال له «الهجيم» عند المسجد الذي صلّى فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد تقدم أن بني أنيف كانوا مع اليهود بقباء، وأنهم حي من بلى؛ فلذلك لم يذكر ابن   (1) البثرة (ج) بثور: حجارة صغيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 زبالة منازلهم هنا، وسيأتي في المساجد عن المطري وتبعه المجد أن بني أنيف بطن من الأوس، وأن منازلهم كانت بين بني عمرو بن عوف وبين العصبة، ومأخذ المطري في نسبتهم إلى الأوس قول أهل السير في المغازي: شهد من الأوس كذا وكذا رجلا، ثم يذكرون فيهم بعض بني أنيف؛ وذلك لأنهم حلفاء الأوس، لا لأنهم منهم، نبه عليه ابن إسحاق حيث قال: شهد بدرا من الأوس بضع وستون رجلا، فذكر من بني جحجبا جماعة، ثم قال: ومن حلفائهم من بني أنيف أبو عقيل، ثم نسبه إلى بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، لكن استفدنا من كلام المطري أن منازلهم بين العصبة وقباء، ويستفاد مما قدمناه عن ابن زبالة أن من منازلهم بئر عذق وما حولها والمال الذي يقال له القائم، وذلك معروف بقباء. وخرجت بنو معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف فسكنوا دارهم التي وراء بقيع الغرقد المعروفة بهم، ولا يشكل عليه ما سيأتي في دور بني النجار من الخزرج من أن حديلة لقب لمعاوية بن عمرو بن مالك بن النجار للاشتراك في الاسم، ولكن الشهرة ببني معاوية لهؤلاء، وأولئك يعرفون ببني حديلة، وقد اشتبه ذلك على المطري فقال في مسجد بني معاوية- وهو مسجد الإجابة- ما لفظه: هو مسجد بني معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، ثم قال في دور بني النجار: إن بني حديلة هم بنو معاويةبن عمرو بن مالك بن النجار، ودارهم عند بئر حاء، ثم قال: ودار بني دينار بين دار بني معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أهل مسجد الإجابة، ودار بني حديلة، فذكر أولا أنهم هم، ثم غاير بينهما، والصواب المغايرة، وأن بني حديلة من الخزرج، وبني معاوية من الأوس، وقد صرح بتغايرهما أهل السير، ونسبوهما كما ذكرنا، ومسجد الإجابة لبني معاوية من الأوص، والذي أوقع المطري في هذا ما سيأتي عن عياض في بني حديلة إن شاء الله تعالى. ومن بني معاوية هؤلاء حاطب بن قيس، وفيه كانت حرب حاطب كما ذكره ابن حزم. وخرجت بنو السميعة- وهم بنو لوذان بن عمرو بن عوف- فسكنوا عند زقاق ركيح، وابتنوا أطما يقال له «السعدان» وموضعه في الربع (حائط هناك) ذكره ابن زبالة، ولعل الربع هو الحديقة المعروفة اليوم بالربعي، وكان بنو السميعة يدعون في الجاهلية بنو الصماء، فسماهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بني السميعة. ونزل بنو واقف والسلم ابنا امرئ القيس بن مالك بن الأوس عند مسجد الفضيخ، فكانا هنالك وولدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وابتنى بنو واقف أطما يقال له «الزيدان» وله يقول قيس بن رفاعة: وكيف أرجو لذيذ العيش بعدهم ... وبعد من قد مضى من أهل زيدان كان لهم عامة موضعه في قبلة مسجد الفضيخ، وأطما كان موضعه عند بئر عائشة الواقفي، وغير ذلك، ثم كان بين السّلم وواقف كلام، فلطم واقف وهو الأكبر عين السلم- وكان شرسا- فحلف لا يساكنه، فنزل السلم على بني عمرو بن عوف، فلم يزل ولده فيهم، (ومن بقيتهم سعد بن خيثمة بن الحارث) ثم انقرضوا سنة تسع وتسعين ومائة. وكان لبني السلم حصن شرقي مسجد قباء، ذكره ابن زبالة، وقد ذكر ابن حزم انقراض جميع بني السلم، قال: وكان قد بلغ عددهم في الجاهلية ألف مقاتل. قلت: وفي قبلة مسجد الفضيخ عند الحديقة المعروفة بالأشرفية والسابور آثار آطام وقرية وحصن عظيم، فهي منازل بني واقف. ونزل بنو وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس في دارهم المعروفة بهم، وابتنوا أطما يقال له: «الموجا» كان موضعه في مسجد بني وائل. ونزل بنو أمية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس في دارهم المعروفة بهم التي بها الكبا يمر فيها سيل مذينيب بين بيوتهم ثم يلتقي هو وسيل بني قريظة بفضاء بني خطمة، ويؤخذ مما ذكره ابن زبالة في منازل بني النضير بالنواعم قربه منزل بني أمية بن زيد منهم. وفي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، نتناوب النزول على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن زبالة: وابتنوا أطما يقال له: «أطم العذق» كان عند الكبا المواجهة مسجد بني أمية، وأطما كان في دار آل رويفع التي في شرقي مسجد بني أمية. ونزل بنو عطية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس بصفنة فوق بني الحبلى، وصفنة- كجفنة- بإهمال أوله سميت بذلك لارتفاعها عن السيول فلم تشرب بشيء منها، وابتنوا فيها أطما اسمه «شاس» كان لشاس بن قيس أخي بني عطية بن زيد، وهو الذي على يسارك في رحبة مسجد قباء مستقبل القبلة، ووائل وأمية وعطية بنو زيد هم الجعادرة، سموا به لأنهم كانوا إذا أجاروا جارا قالوا له: جعدر حيث شئت أي: اذهب حيث شئت، فلا بأس عليك، فقال الرمق بن زيد: وإن لنا بين الجواري وليدة ... مقابلة بين الجعادر والكسر متى تدع في الزيدين زيد بن مالك ... وزيد بن قيس تأتها عزة النصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 قالوا: والكسر أمية وعبيد وضبيعة بنو زيد بن مالك بن عوف، كان يقال لهم كسر الذهب وذلك أراد الرمق بقوله «والكسر» كذا قاله ابن زبالة، ونقل رزين أن الجعادرة الأوس كلهم فإنه قال فيما نقل عن الشرقي: فولد الأوس مالكا ومن مالك قبائل الأوس كلها، فولد لمالك عمرو وعوف ومرة، ويقال لهم: أوس الله، وهم الجعادرة، سموا بذلك لقصر فيهم، اه. قلت: وسيأتي عن ابن إسحاق في آخر الفصل السابع ما يقتضي أن أوس الله هم بنو أمية بن زيد ووائل وواقف وخطمة، والله أعلم. ونزل بنو خطمة- وخطمة هو عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس- دارهم المعروفة بهم، وابتنوا بها الآطام، وغرسوا النخيل، فابتنوا بها أطما يقال له «صع ذرع» ليس فيه بيوت، جعلوه كالحصن الذي يتحصنون فيه للقتال، وكان لخطمة كلها، وكان موضعه عند مهراس بني خطمة، وإنما سمي «صع ذرع» لأنه كان عند بئر بني خطمة التي يقال لها ذرع، وابتنى أمية بن عامر بن خطمة أطما كان موضعه في مال الماجشون الذي يلي صدقة أبان بن أبي حدير. قلت: والظاهر أنه المسمى اليوم «بالمجشونية» فإن اسمه الأصلي «الماجشونية» على ما تقدم في تربة صعيب. وقال المطري: منازل بني خطمة لا يعرف مكانها اليوم، إلا أن الأظهر أنهم كانوا بالعوالي شرقي مسجد الشمس؛ لأن تلك النواحي كلها ديار الأوس، وما سفل من ذلك إلى المدينة ديار الخزرج، اه. وفي قوله: «وما سفل إلخ» نظر، والذي يظهر أن أول منازل الخزرج في هذه الجهة منازل بني الحارث كما سيأتي، وفوقها بنو خطمة، وسيأتي في وادي بطحان ووادي مهزور ما يؤيد ذلك. وكان بنو خطمة متفرقين في آطامهم، لم يكن في قصبة دارهم منهم أحد، فلما جاء الإسلام اتخذوا مسجدهم، وابتنى رجل منهم عند المسجد بيتا سكنه، فكانوا يسألون عنه كل غداة مخافة أن يكون السبع عدا عليه، ثم كثروا في الدار حتى كان يقال لهم غزة، تشبيها بغزة الشام من كثرة أهلها. وقد انتهى الكلام في منازل الأوس وهذه منازل الخزرج. قال ابن زبالة: ونزل بنو الحارث بن الخزرج الأكبر بن حارثة وهم بلحارث دارهم المعروفة بهم بالعوالي: أي: شرقي وادي بطحان وتربة صعيب، يعرف اليوم بالحارث بإسقاط بني، وابتنوا أطما كان لبني امرئ القيس بن مالك وخرج جشم وزيد ابنا الحارث بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الخزرج وهما التوأمان فسكنا السنح، وهذا هو المراد بقول ابن حزم: كان سكنى بني الحارث بالسّنح على ميل من مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم انتهى. قال ابن زبالة: وابتنوا أطما يقال له «السّنح» وبه سميت الناحية، ويقال بل اسمه «الريان» انتهى. وبالسّنح كان منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه بزوجته بنت خارجة بن زيد، قاله عياض، قال: وهو منازل بني الحارث بن الخزرج بعوالي المدينة، وبينه وبين منزل النبي صلّى الله عليه وسلّم ميل، انتهى. فكأن السنح- وهو كما قال عياض وغيره بالسين المهملة ثم النون- بالقرب من منازل بني الحارث بالعوالي. وخرج عتبة بن عمر بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج فسكن الشوط وكوم الكومة يقال لها «كومة أبي الحمراء» ثم رجع في السنح. وخرجت بنو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج حتى سكنوا الدار التي يقال لها «جرار سعد» مما يلي سوق المدينة، وخرجت بنو الأبجر وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج وهم بنو خدرة أخوة بني خدارة فسكنوا دارهم المعروفة ببني خدرة، وابتنوا أطما يقال له «الأجرد» وهو الأطم الذي يقال لبئره البصة، كان لمالك بن سنان جد أبي سعيد الخدري، وذكر ابن حزم للحارث بن الخزرج الأكبر ابنا اسمه الخزرج ابن الحارث، وقال فيه: فولد الخزرج كعبا، فسار بعض بنيه إلى الشام مع غسان، فليس من الأنصار، ثم سمى من بقي منهم الأنصار. ونزل سالم وغنم ابنا عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأكبر الدار التي يقال لها «دار بني سالم» على طرف الحرة الغربية غربي الوادي الذي به مسجد الجمعة ببطن رانونا، وابتنوا آطاما: منها «المزدلف» أطم عتبان بن مالك، قاله المطري، وقال: المزدلف هو الأطم الذي بناه عتبان بن مالك، كان لمالك بن العجلان السالمي، وله يقول مالك «إنّي بنيت للحروب المزدلف» ومنها «الشماخ» كان خارجا عن بيوت بني سالم من جهة القبلة، ومنها أطم «القواقل» وهو الذي في طرف بيوت بني سالم مما يلي ناحية العصبة، كان لبني سالم بن عوف، وتسميته بذلك يرجح ما ذكره ابن سيد الناس من أن القواقل «1» بنو غنم وبنو سالم ابني عوف، سموا بذلك لأنهم كانوا إذا أجاروا جارا قال له: قوقل حيث شئت، وأفهم سياق بعضهم أن القواقل بعض بني سالم بن غنم، وهم بنو الحبلى، وما   (1) قوقل: ارتقى في الجبل وصعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 قدمناه هو الظاهر؛ لما سيأتي في خروجه صلّى الله عليه وسلّم من قباء إلى المدينة. وقال ابن حزم: ولد عوف بن عمر وسالم بطن، وغنم بطن، وعنز بطن، وهو قوقل، وذكر من ولده عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن قوقل بن عوف بن عمرو. ونزل بنو غصينة حي من بلى حلفاء لبني سالم عند مسجد بني غصينة. ونزل بنو الحبلى- بلفظ المرأة الجبلى- واسمه مالك بن سالم بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأكبر الدار المعروفة بهم بين قباء وبين دار ابني الحارث بن الخزرج التي شرقي وادي بطحان وصعيب، كذا قاله المطري، وأظن مستنده ما تقدم في منازل الأوس من قول ابن زبالة: ونزل بنو عطية بن زيد بن قيس بصفنة فوق بني الحبلى إلى آخره، وقال ابن حزم: كانت دار بني الحبلى بين دار بني النجار وبين بني ساعدة. قلت: وسيأتي في خروجه صلّى الله عليه وسلّم من قباء إلى المدينة ما يؤيده، وكذلك مروره صلّى الله عليه وسلّم بعبد الله بن أبي في ذهابه لعيادة سعد بن عبادة، وما ذكره من أن الحبلى اسمه مالك بن سالم ذكره ابن زبالة، وقال ابن هشام: الحبلى سام بن غنم بن عوف، وإنما سمي الحبلى لعظم بطنه، انتهى. وذكر ابن حزم نحوه، والظاهر أن الحبلى كان يطلق على سالم والد مالك المذكور، ثم اشتهر به ابنه هذا من بني بنيه، وحينئذ فيحمل ما تقدم عن ابن زبالة في نزول بني عطية بن زيد بصفنة فوق بني الحبلى، على أن المراد دار سالم بن غنم في دار بني سالم؛ لكونه ذكر في آطام بني الحبلى هؤلاء ما يوافق كلام ابن حزم في نزولهم قرب دار بني ساعدة، فقال: وابتنوا آطاما منها «مزاحم» بين ظهران بيوت بني الحبلى، وهو لعبد الله بن أبي بن سلول. ومنها أطم كان بين مال عمارة بن نعيم البياضي وبين مال ابن زمانة. ومنها أطم كان في جوف بيوتهم. انتهى. وسيأتي في منازل بني ساعدة ذكر الحماضة، وهي مذكورة في منازل بني بياضة، وقد صرح ابن حزم وغيره من أهل السير وعلماء النسب بأن عبد الله بن أبي من بني الحبلى من الخزرج؛ فالظاهر أن ما وقع للحافظ ابن حجر في حديث زوجة ثابت بن قيس بن شماس في الخلع من أن عبد الله بن أبي من بني مغالة من بني النجار وهم. نعم داره غربي المسجد قريبة من دار بني مغالة فيما يظهر. والله أعلم. ونزل بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن شاردة بن تزيد (بالمثناة من فوق) بن جشم بن الخزرج الأكبر ما بين مسجد القبلتين إلى المذاد أطم بني حرام في سند تلك الحرة، وكانت دارهم هذه تسمى خربى. قال ابن زبالة: فسماها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «طلحة» كذا هو في نسخة ابن زبالة بالطاء، ونقله عنه الزين المراغي أيضا كذلك كما رأيته بخطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ولعل الصواب ما ذكره المجد في تاريخه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سماها «صلحة» بضم الصاد المهملة وسكون اللام، وقال في قاموسه: خربا كحبلى: منزلة كانت لبني سلمة غيّرها صلّى الله عليه وسلّم وسماها صالحة. ونزل بنو سواد بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد القبلتين إلى أرض ابن عبيد الديناري، ولهم مسجد القبلتين، قاله ابن زبالة، وهو يرد ما سيأتي عن المطري وغيره من أن المسجد لبني حرام، وابتنوا أطما يقال له «الأغلب» كان على المهد الذي عليه الأحجار التي يستريح عليها السقاؤون حين يفيضون من زقاق رومة إلى بطحان، وأطمأ يقال له «خيط» في شرقي مسجد القبلتين على شرف الحرة وعند منقطع السهل من أرض بني سلمة، وأطما يقال له «منيع» في يماني مسجد القبلتين على ظهر الحرة يمين الحزن الذي في أرض ابن أبان أو دون ذلك قليلا. ونزل بنو عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد الخربة إلى الجبل الذي يقال له الدويخل جبل بني عبيد، ولهم مسجد الخربة، وابتنوا «الأشنق» وهو المواجه لمسجد الخربة، كان للبراء بن معرور صخر بن حسان بن سنان بن عبيد، وابتنوا «الأطول» عند قبلة مسجد الخربة أو عن يسارها. ونزل بنو حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد بني حرام الصغير الذي بالقاع بين الأرض التي كانت لجابر بن عتيك والأرض التي كانت لمعبد بن مالك، وكانوا بين مقبرة بني سلمة إلى المذاد، والمذاد: هو الذي يقول له كعب بن مالك: فليأت مأسدة تسن سيوفها ... بين المذاد وبين جزع الخندق وهو أطم لهم سميت به الناحية، وابتنوا أطما يقال له «جاعس» كان في السهل بين الأرض التي كانت لجابر بن عتيك وبين العين التي عملها معاوية بن أبي سفيان، كان لعمرو بن الجموح جد جابر بن عبد الله بن عمرو. قلت: وهذه العين لعلها التي ذكر ابن النجار أنها تأتي إلى النخل الذي بأسفل المدينة حوالي مسجد الفتح، يعني في غربيه، ويعرف ذلك الموضع بالسّيح- بالسين المهملة والمثناة التحتية- كما قال المطري، والله أعلم. وابتنى بنو مر بن كعب بن سلمة- وهم حلفاء بني حرام- أطما يقال له «أخنس» وهو الأسود القائم في بني سلمة في غربي الحائط الذي كان لجابر بن عتيك مما يلي جبل بني عبيد، ذكره ابن زبالة. وقوله «عند مسجد بني حرام الصغير» يفهم أن لهم مسجدا آخر كبيرا، وهو الآتي في منزلهم الثاني بشعب سلع، وسيأتي في المساجد وصف مسجد بني حرام الذي صلّى فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه بالقاع، وأنه لم يصل في مسجدهم الأكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وكل هؤلاء بنو سلمة، وكانوا بهذه الدور، وكلمتهم واحدة، وملكوا عليهم أمّة بن حرام، فلبث فيهم زمانا حتى هلك رجل من بني عبيد ذو أموال كثيرة، له ولد واحد اسمه صخر، فأراد أمة أن ينزع طائفة من أمواله فيقسمها في بني سلمة، فعظم ذلك على صخر، وشكا ذلك على بني عبيد وبني سواد، وقال: إن فعل أمة ذلك لأضربنه بالسيف، وسألهم أن يمنعوه إن هو فعل، فأطاعوا له، فلما فعل أمة ذلك ضربه صخر فقطع حبل عاتقه، وقامت دونه بنو عبيد وبنو سواد، فنذر أمة ألايؤويه ظل بيت ما عاش حتى يقتل بنو سلمة صخرا أو يأتوه به فيرى فيه رأيه، وجلس أمة عند الضرب الذي فوق مسجد الفتح مما يلي الجرف في الشمس، فمرت به وليدة حطابة فقالت: مالك يا سيدي هنا في الشمس؟ فقال: إن قومي أجمعوا لي أمرهم ... ثم نادوا لي صخرا فضرب إنني آليت لا يسترني ... سقف بيت من حرور ولهب أبدا ما دام صخر آمنا ... بينهم يمشي ولا يخشى العطب فذهبت الجارية، فأخبرتهم، فربطوا صخرا ثم أتوه به، فعفا عنهم وأخذ الذي كان يريد أن يأخذ من أمواله؛ فهذا خبر ما دخل بين بني سلمة. وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله أن بني سلمة قالوا: يا رسول الله، نبيع دورنا ونتحول إليك، فإن بيننا وبينك واديا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اثبتوا فإنكم أوتادها، وما من عبد يخطو إلى الصلاة خطوة إلا كتب الله له أجرا» . وروى أيضا عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة قال: شكا أصحابنا- يعني بني سلمة وبني حرام- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن السيل يحول بينهم وبين الجمعة، وكانت دورهم مما يلي نخيلهم ومزارعهم في مسجد القبلتين ومسجد الخربة، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما عليكم لو تحولتم إلى سفح الجبل» يعني سلعا، فتحولوا؛ فدخلت حرام الشّعب، وصارت سواد وعبيد إلى السفح. قلت: وشعب بني حرام معروف بسلع، وهناك آثار منازلهم وآثار مسجدهم في غربي جبل سلع على يمين السالك إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية، وعلى يسار السالك إلى المدينة وعلى مقربة من محاذاته في جهة المغرب حصن خل. وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن جابر بن عبد الله قال: كان السيل يحول بين بني حرام وبين مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنقلهم عمر بن الخطاب إلى الشعب، وكلهم قوما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 كانوا فيه من أهل اليمن يقال لهم بنو ناغضة، فانتقلوا إلى الشعب الذي تحت مسجد الفتح، فاثارهم هناك، واشترت بنو حرام غلاما روميّا من أعطياتهم، وكان ينقل الحجارة من الحرة وينقشها، فبنوا مسجدهم الذي في الشعب وسقفوه بخشب وجريد، وكان عمر بن عبد العزيز زاد فيه مدماكين من أعلاه، وطابق سقفه، وجعل فيه ذيت مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قلت: وآثار خرز أساطينه وما تكسر منها موجود اليوم فيه، يعرف محله بالشعب المذكور. وقد روى المجد في فضل المساجد الخبر المتقدم، إلا أنه قال: وجعل فيه ذيت مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: والذيت الساج الذي يظهر على الحائط، انتهى. ولم يضبطه غير أنه بالذال في كتابه، والذي في كتاب ابن زبالة ويحيى ما قدمناه، والله أعلم. ونزل بنو بياضة وزريق ابنا عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الأكبر، وبنو حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب، وبنو عذارة وهم بنو كعب بن مالك بن غضب، وبنو الليل وهم بنو عامر بن مالك بن غضب، وبنو أجدع وهم بنو معاوية بن مالك بن غضب دار بني بياضة. قال المطري: فيما بين دار بني سالم بن عوف بن الخزرج التي عند مسجد الجمعة إلى وادي بطحان قبلي دار بني مازن بن النجار. قلت: الذي يترجح عندي أن دارهم كانت في شامي دار بني سالم بن عوف وقبلي دار بني مازن، ممتدة في الحرة الغربية، حتى إن في كلام ابن زبالة ما يقتضي أن بعض منازلهم تمتد إلى منازل بني ساعدة لما سنذكره. وابتنوا بدارهم الآطام، وروى ابن زبالة أنه كان بدارهم تسعة عشر أطما، وأن الذي أحصاه لبني أمية بن عامر بن بياضة خاصة ثلاثة عشر أطما: منها أطم أسود في يماني أرض فراس بن ميسرة، كان في الحرة، ومنها «عقرب» كان في شامي المزرعة المسماة بالرحابة في الحرة على الفقارة، ومنها «سويد» كان في شامي الحائط الذي يقال له الحماضة، ولصاحبه كانت الحماضة، وسيأتي ذكر الحماضة في منازل بني ساعدة، لكن يبعد أن يكون هي المراد هنا، ومنها «اللواء» كان موضعه في حد السرارة بينه وبين زاوية الجدار الشامي الذي يحيط على الحماضة عشرون ذراعا، ومنها أطم كان في السرارة، والسرارة: ما بين أرض ابن أبي قليع إلى منتهى الحماضة، وما بين الأطم الذي يقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 اللواء إلى الجدار الذي يقال له بيوت بني بياضة، والجدار الذي بناه زياد بن عبيد الله لبركة السوق وسط السرارة، قاله ابن زبالة، وهو يقتضي أن السرارة قرب سوق المدينة، ويؤيده ذكر الحماضة في منازل بني ساعدة، لكن الظاهر أن المراد ببركة السوق هنا بركة كانت مما يلي سيل بطحان ورانونا؛ لأن ابن شبة قال في سيل رانونا: إنه يقترن بذي صلب، يعني موضع مسجد الجمعة، ثم يستبطن السرارة حتى يمر على قعر البركة، ثم يفترق فرقتين، إلى آخر ما سيأتي عنه. ونقل رزين أن السرارة بين بني بياضة والحماضة. ثم ذكر ابن زبالة بقية آطامهم، وذكر ما يقتضي أن ما حول السرارة هو أقصى بيوت بني بياضة. ثم قال: وابتنى بنو حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الأطم الذي في أدنى بيوت بني بياضة الذي دونه الجسر الذي عند ذي ريش. ثم قال: فلبث بنو غضب بن جشم بن الخزرج- أي الفرق المذكورين كلهم- في دار بني بياضة، وأمرهم جميع، ثم إن زريق بن عامر هلك فأوصى ببنيه إلى عمه حبيب بن عبد حارثة، فكان حبيب يكلفهم النّضح بأيديهم، فلما اشتد عليهم عدوا عليه فقتلوه، فحالف بنو حبيب بني بياضة على نصرهم على بني زريق، فخافت بنو زريق أن يكثروهم. وكانت بنو بياضة حينئذ أثرى من بني زريق، فخرجوا من دار بني بياضة حتى حلوا دارهم المعروفة بهم قبليّ المصلى وسور المدينة الموجود اليوم وداخله بالموضع المعروف بذروان وما والاه، وابتنوا آطاما منها أطم في زاوية دار كبير بن الصلت بالمصلى، وأطما يقال له «الريان» عند سقيفة آل سراقة التي يقال لها «سقيفة الريان» وأقام بنو عمرو بن عامر بن زريق مع بني بياضة، ولهم الأطم الذي في شامي أرض فراس بن ميسرة في أدنى بيوت بني بياضة مما يلي السبخة، فلبثوا هناك حتى انتقل رافع بن مالك هو وولده قبيل الإسلام فسكنوا طرف السبخة ما بين الأساس إلى طرف السبخة إلى الدار التي فيها يسكن إسحاق بن عبيد بن رفاعة، وكان يقال لرافع بن مالك «الكامل» لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون لمن كان كاتبا شاعرا «الكامل» وانتقل سائر بني عمرو بن عامر بعد ذلك، فاشتروا من بني عوف بن زريق بعض دورهم وحقوقهم، وخرجت بنو عوف بن زريق قبيل الإسلام إلى الشام؛ فيزعمون أن هنالك ناسا منهم، ولبث بنو بياضة وبنو حبيب زمانا لا يقاتلون بني زريق، والرسل تجري بينهم، وبنو زريق يدعونهم إلى الصلح والدية، وعرضوا على بني حبيب أن يقطعوا لهم طائفة من ديارهم، فقبلوا ذلك، ووضعوا الحرب، وسمي الزقاق الذي دفعوه لهم «زقاق الدية» وانتقل بنو مالك بن زيد بن حبيب بن عبد حارثة من بني بياضة، ونزلوا الناحية التي ودت بنو زريق، وابتنوا أطما كان لبني المعلى بن لوذان، وتخلف بنو الصمة بن حارثة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الحارث بن زيد بن حبيب في بني بياضة، فلبثت بنو المعلى بن لوذان في بني زريق ما شاء الله. ثم إن عبيد بن المعلى قتل حصن بن خالد الزرقي، فأراد بنو زريق أن يقتلوه، ثم بدا لهم أن يدوا حصن بن خالد من أموالهم عن عبيد على أن يحالفهم بنو المعلى، ويقطعون حلفهم مع بني بياضة، ففعلوا، وكان عامر بن زريق بن عبد حارثة والد زريق وبياضة لما حضرته الوفاة أوصى ابنه بياضة بالصبر في الحروب وشدة البأس، وأوصاه بأخيه زريق وكان أصغرهما، فقال بعض شعرائهم في ذلك: بالصّبر أوصى عامر بياضه ويقال للأوس والخزرج: أبطأهم فرة وأرعهم كرة بنو بياضة وبنو زريق وبنو ظفر، وإن الأوس والخزرج لم يلتقوا في موطن قط إلا كان لهذه القبائل فضل بيّن على غيرهم من بطون الأوس والخزرج. وأما بنو عذارة بن مالك بن غضب بن جشم فكانوا أقل بطون بني مالك بن غضب عددا، وكانوا قوما ذوي شراسة وشدة أنفس، فقتلوا قتيلا من بعض بطون بني مالك بن غضب إما من بني اللين أو بني أجدع، وأبى أهل القتيل الدية، وذهبوا إلى بني بياضة ليعينوهم على بني عذارة حتى يعطوهم القاتل، فكلمات بنو بياضة بني عذارة في ذلك، فأبوا أن يخلوا بينهم وبينه، فأرادت بنو بياضة أن يأخذوه عنوة «1» ، فخرجوا من دار بني بياضة حتى نزلوا قباء على بني عمرو بن عوف فحالفوهم وصاهروهم، وامتنعوا من بني بياضة، ثم إنه دخل بين بني عذارة وبين بني عمرو بن عوف قبيل الإسلام أمر، فأجمعوا أن ينتقلوا من عندهم إلى بني زريق، وكرهوا أن يرجعوا إلى بني بياضة، فجاؤوهم وذكروا لهم ذلك، فلقوهم بما يحبون، وسددوا رأيهم «2» ، وأتوا أبا عبيدة سعيد بن عثمان الزرقي فذكروا له ذلك، فرحب بهم وذكر شرفهم وفضلهم، ثم قال: إني أشير عليكم أن ترجعوا إلى أخوالكم- يعني: بني عمرو بن عوف- ولا تنتقلوا إلى بني زريق، فإن في أخلاقكم شراسة وفي أخلاق بني زريق مثلها، فتفرقوا عن رأيه، فلم يزالوا كذلك إلى أن فرض المهدي للأنصار سنة ستين ومائة، فانتقلوا بديوانهم إلى بني بياضة، وكان بطنان من بطون بني مالك بن غضب ممن كان بدار بني بياضة- لا ندري أهم من الليلن أم من أجدع- كان   (1) عنوة: قسرا. (2) سدد رأيه: أصاب في قوله وفعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 بينهم ميراث في الجاهلية، فاشتجروا فيه، فلما رأوا أنهم لا يستقيمون فيه على أمر تداعوا إلى أن يدخلوا حديقة كانت في بني بياضة فيقتتلوا فيها، فدخلوا جميعا ثم أغلقوها، فاقتتلوا حتى لم يبق منهم عين تطرف، فسميت تلك الحديقة «حديقة الموت» وكان بنو مالك بن غضب سوى بني زريق ألف مقاتل في الجاهلية، وأما بنو أجدع فلم يبق منهم أحد، وأما بنو اللين فكان بقي منهم رجلان ثم انقرضا لا عقب لهما. وذكر ابن حزم: أن زيد بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب المتقدم ذكر بنيه كان له أخ، وهو عبد الله بن حبيب، وأن عبد الله بن حبيب هذا ولد أبى جبيلة الغساني الذي جلبه مالك بن العجلان لقتل اليهود بالمدينة كما قدمنا الإشارة إليه، والله أعلم. ونزل بنو ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر مفترقين في أربع منازل: فنزل بنو عمرو وبنو ثعلبة ابنا الخزرج بن ساعدة دار بني ساعدة التي بين السوق- أي سوق المدينة- وبين بني ضمرة؛ فهي في شرقي سوق المدينة مما يلي الشام. وقال المطري: قرية بني ساعدة عند بئر بضاعة، والبئر وسط بيوتهم. قال ابن زبالة: فابتنوا أطما يقال له «معرض» في الدار المواجهة مسجد بني ساعدة، وهو آخر أطم بني بالمدينة، وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وهم يبنونه، فاستأذنوه في إتمامه، فأذن لهم فيه، وله يقول شاعرهم: ونحن حمينا عن بضاعة كلّها ... ونحن بنينا معرضا فهو مشرف فأصبح معمورا طويلا فدى له ... وتخرب آطام بها وتصفصف وأطما في دار أبي دجانة الصغرى التي عند بضاعة، ونزلت بنو قشبة- واسم قشبة عامر بن الخزرج بن ساعدة- قريبا من بني حديلة، وابتنوا أطما عند خوخة عمرو بن أمية الضّمري. قلت: فمنزلهم في شرقي بني ضمرة، والمنزل المذكور قبل، والله أعلم. ونزلت بنو أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة- وهم رهط سعد بن عبادة الدار التي يقال لها جرار سعد وهي جرار كان يسقي الناس فيها الماء بعد موت أمه. قال ابن زبالة: عرض سوق المدينة ما بين المصلى إلى جرار سعد بن عبادة. قلت: فهي مما يلي السوق، فإما أن يكون من جهة المشرق والمصلى حده من جهة المغرب، فيشهد ذلك لأنها الموضع المعروف اليوم بين أهل درب السويقة بسقيفة بني ساعدة، ويكون إطلاق السقيفة على ذلك المحل صحيحا، لا كما قال المطري: إنها بقرية ببني ساعدة عند بئر بضاعة؛ لأن سعد بن عبادة لم يكن هناك، وإنما كان مع رهطه في منزلهم، والسقيفة كانت عند منزله، وإما أن يكون جرار سعد مما يلي السوق من جهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الشام، ويكون المصلى حده القبلي، وهذا هو الأرجح؛ لأن الجهة التي بالمشرق مما تقدم إنما هي من منازل بني زريق، والله أعلم. قال ابن زبالة: فابتنوا أطما يقال له واسط، وقد تقدم أن بني خدارة نزلوا بجرار سعد أيضا، فكأنها كانت منزلها، وبنو خدارة من بني الحارث بن الخزرج كما تقدم، فدارهم المرادة في حديث عيادة سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، لا دار بني الحارث المعروفة بهم لبعدها جدا عن منازل بني ساعدة، وليسوا قوم سعد إلا من حيث إن الكل من الخزرج. وفي حديث عائشة في الصحيح بعد قول عروة لها: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيران من الأنصار كانت لهم منايح، الحديث. قال الحافظ ابن حجر في بيان ذلك: جيرانه صلّى الله عليه وسلّم من الأنصار سعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو بن حزم وأبو أيوب وسعد بن زرارة؛ فيبعد كون سعد بن عبادة في دار بني الحارث لعده في الجيران، ومأخذ الحافظ ابن حجر في ذلك ما رواه ابن سعد عن أم سلمة قالت: كان الأنصار يكثرون إلطاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وعمارة بن حزم، وأبو أيوب، وذلك لقرب جوارهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى، والله أعلم. ونزلت بنو وقش وبنو عنان ابنا ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة الدار التي يقال لها «بنو ساعدة» ويقال لها أيضا «بنو طريف» وهي بين الحماضة وجرار سعد، وسيأتي في ترجمة الشوط ما يقتضي أن لبني ساعدة منزلا في شامي مسجد الراية، والظاهر أنه هذا المنزل، والله أعلم. ونزل بنو مالك بن النجار دارهم المعروفة بهم، فابتنى بنو غنم بن مالك أطما يقال له «فويرع» وفي موضعه دار حسن بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه! قلت: وهي الدار المقابلة لدار جعفر الصادق التي في قبلة المدرسة الشهابية، كما سيأتي نقله عن ابن شبة. وابتنى بنو مغالة- وهم بنو عدي بن عمرو بن مالك، ومغالة أم عدي- أطما يقال له «فارع» وهو الأطم الذي واجه دور بني طلحة بن عبيد الله، ودخل في دار [جعفر] بن يحيى بن خالد بن برمك، وله يقول حسان بن ثابت: أرقت لتوماض البروق اللوامع ... ونحن نشاوى بين سلع وفارع قاله ابن زبالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقال الزين المراغي: إن هذا الأطم كان لثابت والد حسان بن ثابت، وإنه دخل في الدار المواجهة لباب الرحمة التي كانت دار عاتكة، ومأخذه في ذلك أن دار عاتكة من جملة دار جعفر بن يحيى، لكن سيأتي من كلام ابن زبالة ويحيى عند ذكر أبواب المسجد أن دار جعفر بن يحيى، لكن سيأتي من كلام ابن زبالة ويحيى عند ذكر أبواب المسجد أن دار جعفر بن يحيى دخل فيها بيت عاتكة وفارع أطم حسان بن ثابت، وبيّنا محله هناك في شامي الدار المذكورة، أعني دار عاتكة، وفارع هذا هو الأطم الذي كانت به صفية عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق وعندها حسان. وفي مسلم في حديث ابن صياد «فوجده عند أطم بني مغالة» . قال عياض: بنو مغالة كل ما كان على يمينك إذا وقفت آخر البلاط مستقبل المسجد النبوي. وابتنى بنو حديلة (بضم الحاء المهملة) وهو- كما قال ابن زبالة وغيره- لقب معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أطما يقال له «مشعط» كان في غربي مسجدهم الذي يقال له «مسجد أبي» يعني أبي بن كعب، وفي موضعه بيت يقال له «بيت أبي نبيه» وقد أسند ابن زبالة عقب ذكره الحديث المتقدم «إن كان الوباء في شيء فهو في ظل مشعط» وذكر ابن شبة قصر بني حديلة، وقال: بناه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ليكون حصنا، قال: وله بابان: باب شارع على خط بني حديلة، وباب في الزاوية الشرقية اليمانية عند دار محمد بن طلحة التّيمي، وفي وسطه بئر حاء، انتهى. وقال عياض في المشارق: بئر حاء: موضع يعرف بقصر بني حديلة، وقد قال ابن إسحاق: بنو عمرو بن مالك بن النجار هم بنو حديلة، أي لأن حديلة بطن منهم؛ لما قدمناه من أنه لقب أبيهم معاوية بن عمرو بن مالك. قلت: فليس بنو حديلة هؤلاء بني معاوية من الأوس أهل مسجد الإجابة كما قدمناه ولكن الاشتراك في الاسم أوجب الوهم، فقد وقع للقاضي عياض في المشارق ما يخالف كلام عامة الناس، فقال: قال الزبير: كل ما كان من المدينة عن يمينك إذا وقفت آخر البلاط مستقبل مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بنو مغالة، والجهة الآخرى أي التي على يسارك بنو حديلة، وهم بنو معاوية وهم من الأوس. قال الجوهري: هي قرية من قرى الأنصار، قال القاضي: هم بطن من الأنصار سميت جهتهم بهم، وهم أيضا بنو حديلة (بحاء ودال مهملتين) وحديلة أمهم، انتهى. والذي نقله غيره عن الزبير أن بني حديلة من بني النجار من الخزرج، وبنو معاوية من الأوس غيرهم، وقد قدمناه عن ابن زبالة شيخ الزبير، وقد ذكر ابن حزم في الجمهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 معاوية من الأوس، وذكر بني حديلة من الخزرج، فقال وولد مالك بن النجار معاوية وأمه حديلة فنسب إليها، والظاهر أن قول القاضي «وهم من الأوس» ليس من كلام الزبير في هذا الموضع، ولكن القاضي لما رأى قوله «وهم بنو معاوية» ظن أنهم بنو معاوية من الأوس، وهذا موجب ما وقع للمطري من الخبط في هذا المحل، حيث غاير بينهما مرة وجعلهما متحدين أخرى، ولا يصح الجمع بما ذكره المراغي من احتمال أن يكون بنو معاوية بطنا أو فخذا من بني حديلة؛ لما قدمناه. وابتنى بنو مبذول- واسمه عامر بن مالك بن النجار- أطما يقال له «السلج» وأطما كان في دار آل حييّ بن أخطب كان لبني مالك بن مبذول، وأطما كان في دار سرجس مولى الزبير التي إلى بقيع الزبير كان لآل عبيد بن النعمان أخي النعمان بن عمرو بن مبذول، وبقيع الزبير ذكر في أماكن يؤخذ منها أنه كان في شرقي الدور التي تلي قبة المسجد النبوي إلى بني زريق، وإلى بني غنم، وإلى البقال «1» كما سيأتي. ونزل بنو عدي بن النجار دارهم المعروفة بهم غربي المسجد النبوي، على ما قاله المطري، وكان بها الأطم الذي في قبلة مسجدهم، وابتنوا أطما يقال له «أطم الزاهريرة» امرأة سكنته كان في دار النابغة عند المسجد الذي في الدار. ونزل بنو مازن بن النجار دارهم المعروفة بهم قبلى بئر البصة، وتسمى الناحية اليوم أبو مازن، غيّرها أهل المدينة. قال المطري: وابتنوا بها أطمين أحدهما يقال له «واسط» قلت: والذي يؤخذ من كلام ابن شبة الآتي في منازل القبائل أن منازل بني مازن كانت في قبلة المدينة شرقي منازل بني زريق قريبة منها، والله أعلم. ونزل بنو دينار بن النجار دارهم التي خلف بطحان المعروفة بهم، وابتنوا أطما يقال له «المنيف» عند مسجدهم الذي يقال له مسجد بني دينار، قاله ابن زبالة، وقال المطري في بيان هذا المسجد: ودار بني دينار بن النجار بين دار بني حديلة ودار بني معاوية أهل مسجد الإجابة، ودار بني حديلة عند بئر حاء، اه. ولا أدري من أين أخذ هذا، وما ذكره ابن زبالة أقرب وأولى بالاعتماد لأمور سنذكرها في بيان مسجدهم. قال ابن زبالة: وزعم بنو دينار أنهم نزلوا أولا دار أبي جهم بن حذيفة العدوي، وكانت امرأة منهم هنالك، وكان لها سبعة إخوة، فوقفت على بئر لهم بدار أبي جهم ومعها مدرى لها من فضة فسقط منها في البئر، فصرخت بإخوتها، فدخل أولهم يخرجه   (1) البقال: اسم موضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فأسر، فاستغاث ببعض إخوته حتى دخلوا جميعا فماتوا في تلك البئر، فهذه منازل بني النجار. قال المطري وتبعه من بعده: إن دار النابغة المتقدمة في بني عدي كانت غربي مسجد الرسول، وهي دار بني عدي بن النجار، ومسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما يليه من جهة الشرق دار بني غانم بن مالك بن النجار، ودور بني النجار بالمدينة وما حولها من الشمال إلى مسجد الإجابة، والنجار: هو تيم الله بن ثعلبة، وسمي بذلك لأنه ضرب رجلا فنجره، فقيل له: النجار، وفي دور بنيه هؤلاء قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل» وهم من الأوس كما سبق. وفي رواية أخرى: «ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى، قال: بنو عبد الأشهل، وهم رهط سعد بن معاذ، قالوا: ثم من يا رسول الله قال: ثم بنو النجار» وراويهما واحد، وقد صحتا، فاختلف عليه، وتقديم بني النجار روى عن أنس من غير اختلاف عليه، ولها مؤيدات أخرى، وهم أخوال عبد المطلب جد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك نزل عليهم صلّى الله عليه وسلّم كما سيأتي، ثم ذكر في الرواية المذكورة بعد بني عبد الأشهل بني الحارث بن الخزرج أي الأكبر «ثم بنو ساعدة» وقال في هذه الرواية أيضا «وفي كل دور الأنصار خير» وكأن المفاضلة وقعت بحسب السبق إلى الإسلام، وبحسب مساعيهم في إعلام كلمة الله. قال ابن زبالة عقب ذكر جميع منازل الأنصار المتقدمة: ونزل بنو الشطبة حين قدموا من الشام ميطان، فلم يوافقهم، فتحولوا قريبا من جذمان، ثم تحولوا فنزلوا براتج، فهم أحد قبائل راتج الثلاث، وقد ذكر راتج في منازل يهود فقال: وكان براتج ناس من اليهود، وكان راتج أطما سميت به تلك الناحية، ثم صار لبني الجذماء، ثم صار بعد لأهل راتج الذين كانوا حلفاء بني عبد الأشهل، وهو الذي يقول له قيس بن الخطيم: ألا إن بين الشّرعبى وراتج البيت. وقد قدمنا عن ابن حزم أن أهل راتج هم بنو زعورا بن جشم أخي عبد الأشهل بن جشم، وذكر أيضا أن من أهل راتج بني سعد بن مرة بن مالك بن الأوس. وقال المطري: راتج جبيل صغير غربي وادي بطحان، وبجنبه جبيل آخر صغير يقال له: جبل بني عبيد، انتهى. وسيأتي ما ينازع فيه مع بيان أن راتجا في ناحية مسجد الراية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الفصل السادس فيما كان بينهم من حرب بعاث نقل رزين عن الشرقي أن الأوس والخزرج لبثوا بالمدينة ما شاء الله وكلمتهم واحدة، ثم وقعت بين الأوس والخزرج حروب كثيرة حتى لم يسمع قط في قوم أكثر منها ولا أطول. الحروب قبل بعاث أولها: حرب سمير، وسببه رجل من بني ثعلبة كان حليفا لمالك بن العجلان، قتله رجل من الأوس يقال له سمير بالمهملة مصغرا. ثم حرب كعب بن عمرو، ثم يوم السرارة، وهو موضع بين بني بياضة والحماضة، ثم يوم الديك، وهو موضع أيضا، ثم حرب بعاث، وهو كان آخرها، قتل فيه سراة الأوس والخزرج ورؤسائهم. قلت: في كلام بعضهم أنه كان بين الأوس والخزرج وقائع من أشهرها يوم السرارة، ويوم فارع، ويوم الفجار الأول والثاني، وحرب حضير بن الأسلت، وحرب حاطب بن قيس، إلى أن كان آخر ذلك يوم بعاث، فقول الخطابي «يوم بعاث يوم مشهور كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين سنة إلى الإسلام على ما ذكره ابن إسحاق وغيره» مؤول بأن حروب الأوس والخزرج كلها قبل بعاث وبعده مكثت هذه المدة، وإلا فهو مردود، وسيأتي تعيين تاريخ يوم بعاث. سبب حرب بعاث وكان سببه أن الحروب المتقدمة كلها كان الظفر في أكثرها للخزرج على الأوس، حتى ذهبت الأوس لتحالف قريظة، فأرسلت إليهم الخزرج: لئن فعلتم فأذنوا بحرب، فتفرقوا وأرسلوا إلى الخزرج: إنا لا نحالفهم، ولا ندخل بينكم، فقالت الخزرج لليهود: فأعطونا رهائن، وإلا فلا نأمنكم، فاعطوهم أربعين غلاما من بينهم، ففرقهم الخزرج في دورهم، فلما أيست الأوس من نصرة اليهود حالفت بطونا من الخزرج منهم بنو عمرو بن عوف، وقال سائرهم: والله لا نصالح حتى ندرك ثأرنا، فتقاتلوا، وكثر القتل في الأوس لما خذلهم قومهم، وخرج سعد بن معاذ الأشهلي، فأجاره عمرو بن الجموح الحرامي، فلما رأت الأوس أن أمرهم إلى قل عزموا على أن يكونوا حلفا للخزرج في المدينة، ثم اشتوروا في أن يحالفوا قريشا، فأظهروا أنهم يريدون العمرة، وكان بينهم أن من أراد حجا أو عمرة لم يعرض له، فأجار أموالهم بعدهم البراء بن معرور، فأتوا مكة فحالفوا قريشا، ثم جاء أبو جهل- وكان غائبا- فنقض حلف قريش بحيلة احتالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 قلت: روى ابن شبة عن أفلح بن سعيد ما يخالفه في نسبة ذلك لأبي جهل مع بيان الحيلة، فقال: خرجت الأوس جالية من الخزرج حتى نزلت على قريش بمكة فحالفتها، فلما حالفتهم قال الوليد بن المغيرة: والله ما نزل قوم قط على قوم إلا أخذوا شرفهم وورثوا ديارهم، فاقطعوا حلف الأوس، فقالوا: بأي شيء؟ قال: إن في القوم حمية، قولوا لهم: إنا نسينا شيئا لم نذكره لكم، إنا قوم إذا كان النساء بالبيت فرأى الرجل امرأة تعجبه قتلها ولمسها بيده، فلما قالوا ذلك للأوس نفرت وقالوا: اقطعوا الحلف بيننا وبينكم، فقطعوه، انتهى. فلما لم يتم لهم الحلف ذهبت النبيت إلى خيبر- قلت: أراد بالنبيت بعضهم، وهم بنو حارثة؛ لما قدمناه من أن النبيت يطلق عليهم وعلى بني عبد الأشهل وبني ظفر وبني زعورا، والذي انتقل من هؤلاء إلى خيبر هم بنو حارثة فقط كما سبق، إلا أن يريد غيره- فأقاموا بها سنة، وماتت منهم عجوز فقالوا «أهون حادث موت عجوز في سنة» فذهب مثلا، فلما رأت الخزرج أن قد ظفرت بالأوس افتخروا عليهم في أشعارهم، وقال عمرو بن النعمان البياضي: يا قوم إن بياضة بن عمرو أنزلكم منزل سوء، والله لا يمس رأسي غسلا حتى أنزلكم منازل بني قريظة والنضير وأقتل رهنهم، وكان لهم غزار المياه وكرام النخل، وقال رجل منهم أيضا شعرا يتغنى به يذكر جلاء النبيت إلى خيبر وأخذهم الرهن من اليهود: هلمّ إلى الأحلاف إذ رقّ عظمهم ... وإذ أصلحوا ما لا لجذمان ضائعا إذا ما امرؤ منهم أساء عمارة ... بعثنا عليهم من بني العير جادعا فأما الصّريح منهم فتحمّلوا ... وأما اليهود فاتخذنا بضائعا وذاك بأنا حين نلقى عدوّنا ... نصول بضرب يترك العز خاشعا فبلغ قولهم قريظة والنضير وهم المعينون بالصريح لأنهم من بني الكاهن بن هارون، وبلغ ذلك أيضا من كان في المدينة من الأوس، فمشوا إلى كعب بن أسد القرظي، فدعوه إلى المحالفة على الخزرج، ففعل، ثم تحالفوا مع قريظة والنضير، ثم أرسلوا بذلك إلى النبيت فقدموا فأخذت الخزرج في قتل الرهن، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: إنما هي ليلة ثم تسعة أشهر وقد جاء الخلف، وأرسلوا إلى الأوس وقالوا لههم: انهضوا إلينا، فنأتيهم بأجمعنا، فجاءت الخزرج إلى عبد الله بن أبي فقالوا: مالك لا تقتل الرهن؟ فقال: لا أغدرهم أبدا، وأنتم البغاة، وقد بلغني أن الأوس تقول: منعونا الحياة فيمنعونا الموت، ووالله ما يموتون أو تهلكون عامتكم، فقال له عمرو بن النعمان: انتفخ والله سحرك، فقال: إني لا أحضركم، ولكأني أنظر إليك قتيلا يحملك أربعة في كساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فاجتمع الخزرج ورأسوا عليهم عمرو بن النعمان قلت: الذي ذكره ابن حزم أن رئيس الخزرج يومئذ هو والد النعمان، وهو رحيلة بن ثعلبة البياضي، والله أعلم. فاقتتلوا في بعاث، وهو موضع عند أعلى قوري، وكانت الدّبرة على الخزرج، وقتل عمرو بن النعمان، وجيء به تحمله أربعة كما قال له ابن أبي، وحلفت اليهود لتهدمن حصن عبد الله بن أبي، وكان أبو عمرو الراهب مع الأوس، وكانت تحته جميلة بنت أبي، وهي أم حنظلة الغسيل، فلما أحاطوا بالحصن قال لهم عبد الله: أما أنا فلم أحضر معهم، وهؤلاء أولادكم الذين عندي فإنني لم أقتل منهم أحدا، ونهبت الخزرج فعصوني، وكان جل من عنده من الرهن من أولاد بني النضير، ففرحوا حين سمعوا بذلك، فأجاروه من الأوس ومن قريظة، فأطلق أولادهم وحالفهم، ولم يزل حتى ردهم حلفاء الخزرج بحيل تحيّل بها، وكان رئيس الأوس في هذه الحرب حضير الذي قال له «حضير الكتائب» والد أيد بن حضير، وبها قتل، وقال خفاف بن ندبة يرثي حضيرا: أتاني حديث فكذّبته ... وقالوا: خليلك في المرمس فيا عين بكى حضير الندى ... حضير الكتائب والمجلس وكان رئيس الخزرج عمرو بن النعمان البياضي كما تقدم أيضا، قال بعضهم: وكان النصر فيها أولا للخزرج، ثم ثبّت حضير الأوس فرجعوا وانتصروا. وذكر أبو الفرج الأصبهاني أن سبب ذلك أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف، فقتل رجل من الأوس حليفا للخزرج، فأرادوا أن يقيدوه فامتنعوا، فوقعت بينهم الحرب لأجل ذلك. وكان يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين على الأصح، وقيل: بأربعين سنة، وقيل: بأكثر، وهو اليوم الذي تقول فيه عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح «كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في دخولهم في الإسلام، فقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم» يعني الأوس والخزرج، ومعناه أنه قتل فيه من أكابرهم من كان لا يؤمن أن يتكبر ويأنف أن يدخل في الإسلام لتصلبه في أمر الجاهلية ولشدة شكيمته حتى لا يكون تحت حكم غيره، وقد كان بقي منهم من هذا النمط عبد الله بن أبيّ بن سلول، وقصته في ذلك مشهورة، وكذلك أبو عامر الراهب الذي سماه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالفاسق، قال أهل السير: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول، كان من الخزرج ثم من بني عوف بن الخزرج ثم من بني الحبلى، لا يختلف في شرفه في قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين حتى جاء الإسلام غيره، ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع أبو عامر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد، وهو أبو حنظلة الغسيل، وكان قد ترهب ولبس المسوح، فشقيا بشرفهما: أما عبد الله بن أبي فلما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استلبه ملكا، فلما راى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن، فكان رأس المنافقين، وإليه يجتمعون، وهو القائل في غزوة بني المصطلق لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقين: 8] وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام. وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة فقال: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال: جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال: فأنا عليها، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنك لست عليها، قال: إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها، قال: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أجل، فمن كذب ففعل الله ذلك به، فكان هو ذاك عدو الله: خرج إلى مكة مفارقا الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقولوا الراهب، ولكن قولوا الفاسق» فلما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، فمات بها طريدا غريبا وحيدا. وروى بعضهم أنه لم يكن في الأوس والخزرج رجل أوصف لمحمد صلّى الله عليه وسلّم من أبي عامر المذكور، وكان يألف اليهود ويسائلهم فيخبرونه بصفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم خرج إلى يهود تيماء وإلى الشام، فسأل النصارى فأخبروه بذلك، فرجع وهو يقول: أنا على دين الحنيفية، وترهب ولبس المسوح، وزعم أنه ينتظر خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما ظهر بمكة لم يخرج إليه، فلما قدم المدينة حسد وبغى، وذكر إتيانه النبي صلّى الله عليه وسلّم بنحو ما سبق، إلا أنه قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الكاذب أماته الله وحيدا طريدا» قال: آمين، ثم ذكر خروجه إلى مكة، وزاد: فكان مع قريش يتبع دينهم وترك ما كان عليه؛ فهذا مصداق ما ذكرت عائشة رضي الله عنها. الفصل السابع في مبدأ إكرام الله لهم بهذا النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر العقبة الصغرى اعلم أن تلك الحروب المتقدمة لم تزل بين الأوس والخزرج حتى أكرمهم الله باتباعه صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض نفسه في كل موسم من مواسم العرب على قبائلهم، ويقول: ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي، فيأبونه ويقولون: قوم الرجل أعلم به. وذكر ابن إسحاق عرضه عليه الصلاة والسلام نفسه على كندة وعلى كلب وعلى بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 حنيفة، قال: ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم، وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان في تلك السنين- أي التي قبل الهجرة- يعرض نفسه على القبائل، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي، فلا يقبله أحد. وذكر الواقدي دعاءه صلّى الله عليه وسلّم بني عبس إلى الإسلام، وأنه أتى غسان في منازلهم بعكاظ وبني محارب كذلك، ولم يزل صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى دين الله، ويأمر به كل من لقيه ورآه من العرب، إلى أن قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف من الأوس، وكان يسمى «الكامل» لجلده وشعره، وهو القائل: فرشني بخير طالما قد بريتي ... فخير الموالي من يريش ولا يبري فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فلم يبعد ولم يجب، ثم انصرف إلى يثرب، فلم يلبث أن قتل يوم بعاث. قال ابن إسحاق: فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا نراه قد قتل وهو مسلم، وقدم مكة أبو الحيسر أنس بن رافع وهو في فتية من قومه بني عبد الأشهل يطالبون الحلف، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، فقال رجل منهم اسمه إياس بن معاذ وكان شابا: هذا والله خير مما قدمنا، فضربه أبو الحيسر وانتهره، فسكت، ثم لم يتم لهم الحلف، فانصرفوا إلى بلادهم، ومات إياس بن معاذ فقيل: إنه مات مسلما. وقال رزين في ذكر هذه القصة: ثم جاءت الأوس تطلب أن تحالف قريشا، فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعرض نفسه عليهم، وقال: اسمعوا مني، هل لكم في خير مما جئتم له؟ وتلا عليهم القرآن، ثم قال: بايعوني واتبعوني، فإلكم ستجمعون بي، فقال عمرو بن الجموح: هذا أي قوم والله خير لكم مما جئتم له، فانتهروه، وقالوا: ما جئنا لهذا، ولم يقبلوا عليه، ثم انصرفوا، فكانت وقعة بعاث. وقال ابن زبالة: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعرض نفسه على القبائل فيأبونه، حتى سمع بنفر من الأوس قدموا في المنافرة التي كانت بينهم، فأتاهم في رحالهم، فقالوا: من أنت؟ فانتسب لهم، وأخبرهم خبره، وقرأ عليهم القرآن، وذكر أنهم أخواله، وسألهم أن يؤووه ويمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: والله هذا صادق، وإنه للنبي الذي يذكر أهل الكتاب ويستفتحون به عليكم، فاغتنموه وآمنوا به، فقالوا: أنت رسول الله، قد عرفناك وآمنا بك وصدقناك، فمرنا بأمرك فإنا لن نعصيك، فسر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعل يختلف إليهم، ويزدادون فيه بصيرة، ثم أمرهم صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوا قومهم إلى دينهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فسألوه أن يرتحل معهم، فقال: حتى يأذن لي ربي، فلحقوا بأهلهم المدينة، ثم شخصوا إليه في الموسم فكان من أمر العقبة ما كان، وهو مخالف لما تقدم من أن النفر من الأوس لم يقبلوا. وقد أخرج الحاكم وغيره بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب وخرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر وكان نسابة، فقال: من القوم؟ قالوا: ربيعة، فذكر حديثا طويلا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرا عن الإجابة، ثم قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، وهم الذين سماهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار، لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن إسحاق في ذكر العقبة الأولى: لما أراد الله عز وجل إظهار دينه خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج، قال: أمن موالي «1» يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وكان مما صنع الله لهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل علم وكتاب، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم في بلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوث قد أظل زمانه نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: تعلموا إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، وقالوا له: إنا تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم ليدعوا قومهم، فلما جاؤوهم لم يبق دار من دور قومهم إلا وفيها ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: وهم- يعني أصحاب العقبة الأولى- فيما ذكر لي ستة نفر من الخزرج، وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، كلاهما من بني غنم بن مالك بن النجار، ورافع بن مالك بن العجلان الزرقي، وقطبة بن عامر بن حديدة، وجابر بن عبد الله بن رئاب، وعقبة بن عامر بن نابي، وهؤلاء الثلاثة من بني سلمة. وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبي الأسود عن عروة: هم أسعد بن زرارة، ومعاذ بن عفراء وهي أمه، وهو ابن عمرو بن الجموح من بني غنم بن مالك بن النجار أيضا، ورافع بن مالك، ويزيد بن ثعلبة البلوي، ثم من بني غصينة حليفهم، وأبو الهيثم   (1) الموالي: المناصرين (ج) مولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 مالك بن التيهان الأوسي، ثم من بني جشم أخي عبد الأشهل بن جشم، وعويم بن ساعدة الأوسي، ثم من بني أمية بن زيد، ويقال: كان فيهم عبادة بن الصامت الخزرجي ثم من بني غنم أخي سالم بن عوف، وذكوان الزرقي، فيكونون ثمانية، ومنهم من عدهم سبعة فأسقط جابر بن عبد الله أو عبد الله بن زيد، وقيل: إنما أسلم في العام الأول اثنان فقط، هما أسعد بن زرارة وذكوان. قال ابن إسحاق في ذكر العقبة- يعني: الثانية لما قدمه، وبعضهم يسميها الأولى-: فلما كان الموسم- يعني: من العام المقبل- وافاه منهم اثنا عشر رجلا، فذكر الستة الذين قدمهم غير جابر بن عبد الله، وزاد: ذكوان الزرقي، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، والعباس بن عبادة بن نضلة الغنمي السالمي الخزرجي، ومعاذ بن عفراء، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة، قال: فبايعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند العقبة على بيعة النساء: أي على وفق بيعة النساء التي نزلت بعد الفتح، عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة: 12] إلى آخر الآية، ولم يكن أمر بالقتال بعد، بل كان جميع ذلك قبل نزول الفرائض ما عدا التوحيد والصلاة، وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم مصعب بن عمير ليفقههم في الدين ويعلمهم الإسلام، فكان يصلي بهم، وقيل: بعثه إليهم بعد ذلك بطلبهم ليعلمهم ويقرئهم القرآن، فكان يسمى «المقرئ» وهو أول من سمي به، فنزل على أسعد بن زرارة، وقيل: بعث إليهم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم؛ فكان مصعب بن عمير يؤمهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض، فجمّع بهم أول جمعة في الإسلام، وفي الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى مصعب بن عمير أن يجمّع بهم فجمّع بهم وكانوا اثني عشر. قال الزهري: وعند ابن إسحاق أول من جمّع بهم أبو أمامة أسعد بن زرارة، وفي أبي داود من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته، فقال: كان أول من جمّع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات. قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون. قال البيهقي: ولا يخالف هذا ما روي عن الزهري من تجميع مصعب بن عمير بهم وأنهم كانوا اثني عشر؛ إذ مراد الزهري أنه أقام الجمعة بمعونة النفر الإثني عشر الذين بايعوا في العقبة وبعثه صلّى الله عليه وسلّم في صحبتهم أو على أثرهم حين كثر المسلمون، ومنهم أسعد بن زرارة، فالزهري أضاف التجمع إلى مصعب لكونه الإمام، وكعب أضافه إلى أسعد لنزول مصعب أولا عليه ونصره له وخروجه به إلى دور الأنصار يدعوهم إلى الإسلام، وأراد الزهري بالاثني عشر عدد الذين خرجوا به، وكانوا له ظهرا، ومراد كعب جميع من صلّى معه، هذا وقول كعب متصل، وقول الزهري منقطع، اه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وروى الطبراني مرسلا في خبر طويل قال فيه عن عروة: ثم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يدعو الناس بكتاب الله؛ فإنه أدنى أن يتبع «1» ؛ فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة، فجعل يدعو الناس، ويفشو الإسلام، وهم في ذلك مستخفون بدعائهم، ثم إن أسعد بن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا مرقا أو قريبا منها، فجلسا هنالك، وبعثا إلى رهط من أهل الأرض، فأتوهم مستخفين، فبينا مصعب بن عمير يحدثهم ويقص عليهم القرآن أخبر بهم سعد بن معاذ، فأتاهم في لأمته «2» ومعه الرمح حتى وقف عليه فقال: غلام يأتينا في دارنا، هذا الوحيد الفريد الطريد الغريب ليسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم، لا أراكما بعد هذا بشيء من جوارنا، فرجعوا، ثم إنهم عادوا الثانية ببئر مرق أو قريبا منها فأخبر بهم سعد بن معاذ الثانية، فتوعدهم بوعيد دون الأول، فلما رأى أسعد منه اللين قال: يا ابن خالة، اسمع من قوله، فإن سمعت منكرا فاردده بأهدى منه، وإن سمعت خيرا فأجب إليه، فقال: ماذا يقول؟ فقرأ عليه مصعب: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 1- 3] فقال سعد: وما أسمع إلا ما أعرف، فرجع وقد هداه الله، ولم يظهر أمر الإسلام حتى رجع إلى قومه، فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر إسلامه، وقال: من شك فيه من صغير أو كبير فليأتنا بأهدى منه، فو الله لقد جاء أمر لتحزّنّ فيه الرقاب، فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلامه ودعائه إلا من لا يذكر فكانت أول دار من دور الأنصار أسلمت بأسرها، ثم إن بني النجار اشتدوا على أسعد بن زرارة، وأخرجوا مصعب بن عمير، فانتقل إلى سعد بن معاذ، فلم يزل يدعو ويهدي على يديه، حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس، وأسلم أشرافهم، وأسلم عمرو بن الجموح، وكسرت أصنامهم، فكان المسلمون أمر أهلها، ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اه. وقد روى هذه القصة ابن إسحاق عمن سمى من شيوخه بزيادة ونقص، فقال: إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر على بئر يقال لها بئر مرق، فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فلما سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير- وهما يومئذ سيدا قومهما بني عبد الأشهل- وكلاهما مشرك، قال سعد لأسيد: لا أبالك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا؛ فإنه لولا أن أسعد   (1) أدنى أن يتبع: أولى أن يتبع. (2) اللامة: أداة الحرب كلها. وتشمل جميع أنواع السلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ابن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال: فوقف عليهما متشتما، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع؛ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر، وتطهر ثيابك ثم تتشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام ففعل ذلك، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ، ثم انصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمات الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا للذي ذكر له، فأخذ الحربة من يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما ثم قال: يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره، وقد قال أسعد لمصعب بن عمير أي مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم؟ فذكرا له ما تقدم، ففعله، ثم أقبل عامر إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، أفضلنا رأيا، وأيماننا نقبية «1» ، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام علي حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا   (1) فلان ميمون النقيبة: مبارك السجية والطبيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مسلما أو مسلمة، ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس ابن صيفي بن الأسلت، وكان شاعرا لهم قائدا يسمعون منه ويطيعون، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومضى بدر وأحد والخندق، ثم أسلموا كلهم. وفي التأريخ الأوسط للبخاري أن أهل مكة سمعوا هاتفا يهتف قبل إسلام سعد بن معاذ: فإن يسلم السّعدان يصبح محمد ... بمكّة لا يخشى خلاف المخالف فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدي وتمنّيا ... على الله في الفردوس منية عارف في أبيات أخرى. وذكر لها رزين سببا آخر كما سيأتي، وهذا أصح، ولم يذكر ابن إسحاق في الخبر المتقدم إسلام عمرو بن الجموح، بل ذكره بعد ذكر العقبة الآتية كما سنذكره، نعم ابنه معاذ شهد العقبة. الفصل الثامن في العقبة الكبرى وبعضهم يسميها العقبة الثانية، ومقتضى ما قدمناه أن تسمى الثالثة. قال ابن إسحاق: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين للقائهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ومبايعته في الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم ما أراد: من كرامته، والنصر لنبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله. وروى ابن إسحاق وصححه ابن حبان من طريقه عن كعب بن مالك قال: خرجنا حجاجا مع مشركي قومنا، وقد صلينا وفقهنا «1» ، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فكذر شأن صلاته إلى الكعبة، قال: فلما وصلنا إلى مكة ولم نكن رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك، فسألنا عنه، فقيل: هو مع العباس في المسجد، فدخلنا فجلسنا إليه، فسأله البراء عن القبلة، ثم خرجنا إلى الحج وواعدناه العقبة، فلما كانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها. وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا ومعنا عبد الله بن عمرو والد   (1) فقه الأمر: أحسن إدراكه وفهمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 جابر. ولم يكن أسلم قبل، فعرفناه أمر الإسلام، فأسلم حينئذ وصار من النقباء «1» ، قال: فنمنا تلك الليلة في قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسلل القطا مستخفين، فاجتمعنا في الشعب عند العقبة ثلاثة وسبعين رجلا، ومعنا امرأتان: أم عمارة بنت كعب إحدى نساء بني مازن، وأسماء بنت عمر بن عدي إحدى نساء بني سلمة، قال: فجاء ومعه العباس، فتكلم فقال: إن محمدا منا من حيث علمتم، وقد منعناه، وهو في عز، وقد أبى إلا الانحياز إليكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وذاك، وإلا فمن الآن، قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلم، فدعا إلى الله، وقرا القرآن، ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، فقال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أصحاب الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر، فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال- يعني اليهود- حبالا ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، قال: فتبسم النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم «2» ، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس: فمن الخزرج أسعد بن زرارة نقيب بني النجار، وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة نقيبا بني الحارث بن الخزرج ورافع بن مالك بن العجلان نقيب بني زريق، والبراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام نقيبا بني سلمة، وعبادة بن الصامت نقيب القبائل وفي الطبراني أنه نقيب بني عدي من الخزرج، فكأنه نقيب الجميع، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو نقيبا بني ساعدة- ومن الأوس أسيد بن حضير نقيب بني عبد الأشهل، وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر نقيبا بني عمرو بن عوف. قال ابن إسحاق: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان، ولا يعدون رفاعة. قلت: فيكون أبو الهيثم نقيبا ثانيا لبني عبد الأشهل فإنه منهم، وقد صرحوا به.   (1) النقيب: كبير القوم المعنيّ بشؤونهم. (ج) نقباء. (2) دم هدم: دم مهدور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وجعل صلّى الله عليه وسلّم النقباء على عدة الأسباط، وروى أنه نقب على النقباء أسعد بن زرارة، فتوفي بعد والمسجد النبوي يا بنى، قيل: فاجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسألوه أن يجعل منهم شخصا بدله نقيبا عليهم، فقال لهم: أنتم أخوالي، وأنا فيكم، وأنا نقيبكم، وكره صلّى الله عليه وسلّم أن يخص بها بعضهم دون بعض، فكان ذلك من فضل بني النجار الذي يعدون. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للنقباء: أنتم كفلاء على قومكم كفالة الحواريين لعيسى بن مريم، قالوا: نعم. وحدث عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نضلة أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت «1» أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على ما ذكرت لكم فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على ما قلت، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه. قال عاصم: ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد في أعناقهم، وقال غيره: أراد التأخير تلك الليلة رجاء أن يحضر عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى للأمر. أول من بايع قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان، وفي حديث كعب المتقدم أنه البراء ابن معرور، ثم بايع القوم. وفي المستدرك عن ابن عباس: كان البراء بن معرور أول من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة العقبة، وعند أحمد عن جابر وعند الحاكم في الإكليل عن كعب بن مالك: قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزل إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة: 111] الآية. وفي حديث كعب المتقدم بعد ذكر صراخ الشيطان أن العباس بن نضلة قال للنبي   (1) نهكت أموالكم مصيبة: أذهبت أموالكم مصيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 صلّى الله عليه وسلّم: والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: لم أومر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم، فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تشب الحرب بيننا وبينهم منكم، فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه، ولقد صدقوا لم يعلموه. وفي حديث غير كعب أنهم أتوا عبد الله بن أبي، فقال لهم: إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا علي بمثل هذا، وما علمته كان، وروي أن مشركي الأنصار الذين حجوا في ذلك العام كانوا خمسمائة نفر، وأن أهل العقبة كانوا سبعين نفرا. عدة أهل البيعة وفي لفظ عن ابن إسحاق: من الأوس أحد عشر رجلا: ومن القبائل أربعة نفر حلفاء الخزرج، وكان من بني الحارث بن الخزرج اثنان وستون رجلا، فكأنه أدخل في الخزرج حلفاءهم الأربعة، وإلا فتزيد العدة على ثلاثة وسبعين أربعة. وروى رزين أن أهل العقبة كانوا سبعين رجلا وامرأتان؛ فإنه روى حديث العقبة هذه عن عبادة بن الصامت بنحو حديث كعب المتقدم، فقال: قال عبادة بن الصامت: فلما كان العام المقبل أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن سبعون رجلا وامرأتان من قومنا، فواعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند مسجد شعب العقبة، عن يسارك وأنت ذاهب إلى منى، فلما توافينا عنده جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه عمه العباس، وقال: يا معشر الخزرج، وهذا الاسم يغلب على الأوس والخزرج جميعا إذ ذاك، إن محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه كما بلغكم، فإن كنتم تعلمون أنكم تقدرون على منعه، وإلا فذروه فهو مع قومه في عز ومنعة، فقام البراء بن معرور فقال: قد سمعنا ما قلت، وإنا ما ضربنا إليه أكباد الإبل إلا وقد علمنا أنه نبي، فبايعنا يا رسول الله، واشترط لنفسك ولربك ما شئت، فحمد الله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا إلى الله، ورغّب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، فأخذ البراء بيده، وقال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، ونحن أهل الحلقة والحصون والحروب، فقام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن نصرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل الدم الدم والهدم الهدم، المحيا محياكم، والممات مماتكم، وأحارب من حاربكم، وأسالم من سالمكم، أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونوا نقباء على الناس، فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الأوس، فبينما هم في ذلك إذ صرخ الشيطان يقول: يا أهل الجباجب، وهي المنازل، هل لكم في الصبأة «1» قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا أزب العقبة لأفرغن لك أي عدو الله، ارجعوا إلى رحالكم، نصركم الله، فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق نبيا لئن شئت لنميلن بأسيافنا غدا علي مني، فقال له: لم أومر بذلك، ثم ذكر قصة كلام قريش في ذلك وحلف مشركي قومهم لهم عن ذلك، قال: ثم إنهم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتخرج معنا؟ قال: ما أمرت به. قال رزين: وقد قيل إنه وقع بين قريش والأنصار كلام في سبب خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم، ثم ألقي الرعب في قلوب قريش فقالوا: ليس يخرج معكم إلا في بعض أشهر السنة، ولا يتحدث العرب بأنكم غلبتمونا، فقالت الأنصار: الأمر في ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن سامعون لأمره، فأنزل الله على رسوله وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال: 62] أي: إن كان كفار قريش يريدون المكر بك فسيمكر الله بهم، فانصرفت الأنصار إلى المدينة. وقيل: إن قريشا بدا لهم فخرجوا في آثارهم، فأدركوا منهم رجلين كانا تخلفا في أمر، فردوهما إلى مكة: المنذر، وعباس بن عبادة، فأدركهما جبير بن مطعم والحارث بن أمية، فخلصاهما ولحقا أصحابهما. قلت: والذي ذكره غيره أن الرجلين هما المنذر وسعد بن عبادة، فأما المنذر فأعجز القوم ونجا، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير، ثم خلصه منهم جبير بن مطعم والحارث بن أمية؛ لأنه كان يجير لهما تجارهما ويمنعهم أن يظلموا ببلده. إسلام عمرو بن الجموح وذكر رزين عقب ما تقدم عنه إسلام عمرو بن الجموح كما ذكره أهل السير عقب ذلك أيضا، وكان عمرو شيخا كيرا من سادات بني سلمة، وشهد معاذ ابنه العقبة، وكان لعمرو في داره صنم من خشب يعبده يدعى مناة، فكان معاذ ابنه ومعاذ بن جبل وفتيان بني سلمة يدلجون بالليل على صنم عمرو فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح قال عمرو: من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ ثم يغدو يلتمسه، حتى إذ وجده غسله وطيبه ثم يقول: والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزيته، فتكرر ذلك، فطهره يوما وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال: إني والله لا أعلم من يصنع بك   (1) الصبأة: الخارجون عن دينهم. مفردها: صابئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك، فلما نام أخذوا السيف وقرنوا كلبا ميتا بالصنم بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر، فلم يجده عمرو في مكانه، فخرج حتى وجده كذلك، فلما أبصر ما به وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه، وقال في ذلك: والله لو كنت إلاها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن أفّ لملقاك إلاها مستدن ... الآن فتّشناك عن سوء الغبن الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزاق ديّان الدين هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن الفصل التاسع في هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم دار هجرته روينا في الصحيحين حديث «رأيت أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب» ووقع للبيهقي من حديث صهيب «أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرّتين، فإما أن يكون هجر أو يثرب» ولم يذكر اليمامة، وللترمذي من حديث جرير «أوحى إلي: أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك، المدينة أو البحرين أو قنسرين» واستغربه، وفيه نظر؛ لمخالفته لما في الصحيح من ذكر اليمامة، وأما هجر فيصح التعبير بها عنها لكونها من بلاد البحرين، وأما قنسرين فهي من أرض الشام، ويحتمل أن يكون أري ما في الصحيح وأوحى إليه بالتخيير قبل أو بعد، فاختار المدينة. وقال ابن التين: أري النبي صلّى الله عليه وسلّم أولا دار هجرته بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت. إذن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه في الهجرة ثم أذن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه في الهجرة إلى المدينة، وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج، فتوجه بين العقبتين جماعة منهم ابن أم مكتوم، ويقال: إن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة عبد الأسد المخزومي زوج أم سلمة، وذلك أنه أوذي لما رجع من الحبشة، فعزم على الرجوع إليهما، ثم بلغة قصة الاثني عشر من الأنصار فتوجه إلى المدينة، فقدمها بكرة، وقدم بعده عامر بن ربيعة عشية، ثم توجه مصعب بن عمير ليفقه من أسلم من الأنصار كما تقدم، ثم توالى خروجهم بعد العقبة الأخيرة، فخرجوا أرسالا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 منهم عمر بن الخطاب، وأخوه زيد، وطلحة بن عبيد الله، وصهيب، وحمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وعثمان بن عفان، وغيرهم، حتى لم يبق معه صلّى الله عليه وسلّم بمكة إلا علي بن أبي طالب والصديق رضي الله عنهما، كذا قاله ابن إسحاق وغيره، والظاهر أن المراد لم يبق من أعيانهم؛ لما روي من أن من كان بمكة ممن يطيق الخروج من المسلمين خرجوا بعد خروجه صلّى الله عليه وسلّم من مكة، فطلبهم أبو سفيان وغيره من المشركين، فردوهم وسجنوهم، فافتتن منهم ناس؛ ففي هذا دلالة على بقاء جماعة غير الصديق وعلي رضي الله عنهما مع النبي صلّى الله عليه وسلّم حينئذ، فلما رأت قريش ذلك علموا أن أصحابه قد أصابوا منعة، ونزلوا دارا، فحذروا «1» خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، فاجتمعوا بدار الندوة ليأتمروا في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفيهم أبو جهل، وزعم ابن دريد في الوشاح أنهم كانوا أنهم كانوا خمسة عشر رجلا، وفي المولد لابن دحية كانوا مائة رجل، وجاءهم إبليس في صورة شيخ نجدي فقال: أدخلوني معكم، فلن تعدموا مني رأيا، فأدخلوه، فقال بعضهم: نخرجه من بين أظهرنا، وقال آخرون: بل نحبسه ولا يطعم حتى يموت، فقال أبو جهل: قد رأيت أصلح من رأيكم: أن يعطى خمس رجال من خمس قبائل سيفا سيفا فيضربونه ضربة رجل، فيتفرق دمه في هذه البطون، فلا يقدر لكم بنو هاشم على شيء، فقال النجدي: لا أرى غير هذا، فأخبر جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله على نبيه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال: 30] فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي: نم على فراشي وتسجّ ببردي فلن يخلص إليك منهم أمر، فترد هذه الودائع إلى أهلها، لأن كفار قريش كانت تودع عنده لأمانته، وكان اسمه عندهم الأمين الصادق، وأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر الصديق فأعلمه، وقال: قد أذن لي، فقال: الصحبة يا رسول الله، وكان إنما حبس نفسه عليه لما ثبت في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر لأصحابه رؤياه المتقدمة هاجر من هاجر منهم قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم، فحبس نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصحبه، وكان عمر قد تقدم إلى المدينة، وعلف أبو بكر راحلتين كانت عنده الخبط «2» أربعة أشهر، فعرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم إحداهما، فقال: بالثمن، وفي رواية ابن إسحاق قال: لا أركب بعيرا ليس هو لي، فقال: فهو لك، قال: لا ولكن بالثمن الذي ابتعتها به، قال: أخذتها   (1) حذروا: قدّروا واعتقدوا. (2) الخبط: ما سقط من ورق الشجر بالخبط والنفض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بكذا وكذا، قال: قد أخذتها بذلك، قال: هي لك، والحكمة فيه- كما أفاده بعضهم- أنه صلّى الله عليه وسلّم أحب ألاتكون هجرته إلا من مال نفسه، وذكر ابن إسحاق أن الناقة التي أخذها هي الجدعاء، وأنها كانت من إبل بني الحريش، وكذا في رواية أخرجها ابن حبان، وأنها الجدعاء، وأفاد الواقدي أن الثمن كان ثمان مائة درهم، وأن المأخوذة هي القصوى، وأنها كانت من نعم بني قشير، وأنها عاشت حتى ماتت في خلافة الصديق، وكانت مرسلة ترعى في النقيع، وفي طبقات ابن سعد أن ثمنها ثمان مائة درهم، اشتراها أبو بكر من نعم بني قشير، وأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم منه القصوى بثمنها، وسيأتي من رواية يحيى الحسيني أيضا أنها القصوى، وجاء عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أذن له في الهجرة إلى المدينة بقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً [الإسراء: 80] أخرجه الترمذي وصححه هو والحاكم، فذهب أبو بكر إلى عبد الله بن أريقط قاله ابن عقبة. وفي تهذيب ابن هشام «عبد الله بن أرقد» وفي رواية الأموي عن ابن إسحاق «ابن أريقد» وفي الغنية عن مالك اسمه «رقيط من بني الديل من كنانة» فاستأجره، وكان هاديا خرّيتا «1» : أي ماهرا بالهداية، وكان على دين الكفار. قال النووي: لا نعلم له إسلاما، فأمره أن يأتيهما بعد ثلاث في غار ثور، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى منزله، فجاءه علي رضي الله عنه، واجتمعت قريش على باب الدار ليقتلوه بزعمهم، فقال لهم أبو جهل: لا تقتلوه حتى يجتمعوا، يعني الخمسة من القبائل الخمس، وجعل يقول لهم: هذا محمد كان يزعم لكم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوك العرب والعجم، ويكون لكم في الآخرة جنات تأكلون منها، وإن لم تتابعوه يكون له فيكم ذبح في الدنيا، ويوم القيامة نار تحرقون فيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم والله كذا أقول، وكذا يكون، وأنت أحدهم، ثم أخذ حفنة من تراب فرماها في وجوههم، فأخذ على أبصارهم ولم على أصمختهم فجعل على رأس كل رجل منهم ترابا وهو يقرأ أول سورة يس يستتر بها منهم إلى «فهم لا يبصرون» وتلا: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: 45] ثم أتى منزل أبي بكر، فخرجا من خوخة كانت له، وأتيا غار ثور، وأقام المشركون ساعة، فجعلوا يتحدثون، فجاءهم رجل كان إذ ذاك بعيدا منهم فقال لهم: وما تنتظرون؟ فقالوا: أن نصبح فنقتل محمدا، قال: قبحكم الله وخيبكم، أو ليس قد خرج عليكم وجعل على رؤوسكم التراب، قال أبو جهل: أو ليس هو ذاك مسجى ببرده؟ الآن كلمنا، فلما أصبحوا قام علي من الفراش، فقال أبو جهل: صدقنا ذلك المخبر، فاجتمعت قريش،   (1) الخرّيت: الدليل الحاذق بالدلالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وأخذت الطرق، وجعلت الجعائل «1» لمن جاء به، فانصرفت أعينهم ولم يجدوا شيئا، فجاء الديلي بعد ثلاث بالراحلتين، ولا ينافي هذا ما وقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبان حيث قال: فركبا حتى أتيا الغار فتواريا؛ لاحتمال أنهما ركبا غير هاتين الراحلتين، أو هما ثم ذهب بهما عامر بن فهيرة إلى الديلي. وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب في الحديث المتقدم أن عليا رقد على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوري عنه، وباتت قريش تحلف وتأتمر، أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا بعلي، فسألوه فقال: لا علم لي، فعلموا أنه فر منهم. وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية فذكر تشاور قريش ثم قال: فبات علي على فراشه صلّى الله عليه وسلّم وخرج هو حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه، فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصّوا أثره «2» ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال، وذكر نحوه موسى بن عقبة عن الزهري، وكله مقتض لأن الخروج إلى الغار كان في بقية تلك الليلة، وكان ذلك بعد العقبة شهرين وليال، وقال الحاكم: بثلاثة أشهر أو قريبا منهم، ويرجح الأول ما جزم به ابن إسحاق من أنه خرج أول يوم من ربيع الأول؛ فيكون بعد العقبة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم به الأموي، فقال: خرج لهلال ربيع الأول، وقدم المدينة لاثني عشر خلت منه، وعلى هذا كان خروجه يوم الخميس، وهو الذي ذكره محمد بن موسى، لكن قال الحاكم: تواترت الأخبار بأن الخروج كان يوم الإثنين، وجمع الحافظ ابن حجر بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس: أي في أثناء ليلته لما قدمناه، وخروجه من الغار- يعني غار ثور- ليلة الإثنين؛ لأنه أقام فيه ثلاث ليال، ومن روى ليلتين لعله لم يحسب أول ليلة، وأما حديث الحاكم «لبثت مع صاحبي» يعني: أبا بكر «في الغار بضعة عشر يوما، ما لنا طعام إلا ثمر البرير» أي الأراك، فقال الحاكم: معناه مكثنا مختفين من الكفار في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما، وقال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أنها قصة أخرى، لما في الصحيح من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، وكذا قصة نزولهما بخيمة أم معبد، وغير ذلك، وكان مدة مقامه صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد النبوة بضع عشر سنة. وقال عروة:   (1) الجعائل: ما جعل على العمل من أجر أو رشوة. مفردها: الجعالة. (2) اقتصوا أثره: تتبعوا أثره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 عشرا، وقال ابن عباس: خمس عشر سنة، وفي رواية عنه: ثلاث عشرة، ولم يعلم بخروجه إلا علي وآل أبي بكر، وكان من قصة نسج العنكبوت وغيره من أمر الغار ما كان، وانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر، ومعهما عامر بن فهيرة يخدمهما يردفه أبو بكر ويعقبه، والدليل، فأخذ بهم في أسفل مكة حتى أتى بهما طريق السواحل أسفل من عسفان، ثم عارض الطريق على أمج «1» ، ثم نزل من قديد خيام أم معبد الخزاعية من بني كعب، وبقية المنازل إلى قباء ذكرها ابن زبالة، وقد أوضحناه في الأصل، واتفق في مسيرهم قصة سراقة عارضهم يوم الثلاثاء بقديد على ما ذكره ابن سعد وغيرها من القصص المشتملة على الآيات البينات. قال رزين: وأقامت قريش أياما لا يدرون أين أخذ محمد صلّى الله عليه وسلّم فسمعوا صوتا على أبي قبيس وهو يقول: فإن يسلم السّعدان يصبح محمد ... من الأمن لا يخشى خلاف المخالف فقالت قريش: لو علمنا من السعدان، فقال: أيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتبوّآ ... من الله في الفردوس زلفة عارف فعلموا إذ ذاك أنه أخذ طريق المدينة. قلت: والأقرب ما تقدم من إنشاد هذه الأبيات قبل ذلك؛ لأن السعدين كانا قد أسلما قبل، ثم سمعوا قائلا بأسفل مكة لا يرى يقول: جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا: خيمتي أم معبد قصة أم معبد قلت: وروى هذا مع الأبيات الآتية مما سمع حينئذ، وقيل: سمعوا هاتفا على أبي قبيس يقول: جزى الله خيرا والجزاء بكفه ... رفيقين قالا خيمتي أمّ معبد هما رحلا بالحقّ وانتزلا به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبرّ وأوفى ذمة من محمد وأكسى لبرد الخال قبل ابتذله ... وأعطى لرأس السانح المتجدد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد مرّ بأم معبد، فاستسقاها لبنا، فقالت: ما عندنا من لبن،   (1) أمج: موضع بين المدينة ومكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ونحن في سنة «1» ، فنظر إلى شاة قد نحلت عجفاء من الهزال، فقال: قرّبي لي هذه الشاة، فقربتها، فمسح ضرعها بيده المباركة وسمّى ودعا، ثم قال: هات قدحا، فجاءت بقدح، فحلب فيه حتى امتلأ، فأمر أبا بكر أن يشرب، فقال: بل أنت فاشرب يا رسول الله، قال: ساقي القوم آخرهم شربا، فشرب أبو بكر، ثم حلب فشرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم حلب فشربت أم معبد، ثم حلب فقال: ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك، ثم ركبوا وساروا، فلما أتى أبو معبد أخبرته بما رأت، وسقته اللبن، فعلم أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فركب راحلته وخرج في أثره يطلب أن يسلم، فقيل: إنه قال في طريقه: جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد هما نزلاها بالهدى فاهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد فيا لقصيّ ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسودد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشّاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلّبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد وقال الشرقي: بلغني أن أبا معبد أدركهما ببطن ريم، فبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانصرف. قلت: وذكر غير رزين هذه الأبيات كلها فيما سمع بأسفل مكة من القائل الذي لا يدرون، فلما سمع حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك جعل يجاوب الهاتف ويقول: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدّس من يسري إليهم ويغتدي ترحّل عن قوم فضلت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مجدّد هداهم به بعد الضلالة ربّهم ... وأرشدهم؛ من يتبع الحق يرشد وهل يستوي ضلّال قوم تسكعوا ... عمى وهداة يهتدون بمهتد «2» لقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى رحلّت عليهم بأسعد نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مسجد وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى غد ليهن أبا بكر سعادة جدّه ... بصحبته؛ من يسعد الله يسعد   (1) السنة: القحط والجدب. (2) تسكع: لم يهتد لوجهته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 خروج أبي بريدة لاستقبال الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال أبو سليمان الخطابي: لما شارف النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة لقيه بريدة الأسلمي في سبعين من قومه بني أسلم، فقال: من أنت؟ قال: بريدة فقال لأبي بكر: برد أمرنا وصلح، ثم قال: ممن؟ قال: من أسلم، قال: سلمنا، ثم قال: ممن؟ قال: من بني سهم، قال: خرج سهمنا «1» . وقد روى ابن الجوزي في شرف المصطفى من طريق البيهقي موصولا إلى بريدة قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتطير، وكان يتفاءل، وكانت قريش جعلت مائة من الإبل لمن يأخذ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فيرده إليهم حين توجه إلى المدينة، فركب بريدة في سبعين راكبا من أهل بيته من بني سهم، فلقي نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: من أنت؟ قال: أنا بريدة، فالتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، برد أمرنا وصلح، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: ممن أنت؟ قال: من أسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: سلمنا، ثم قال: ممن؟ قال: من بني سهم، قال: خرج سهمك، فقال بريدة للنبي صلّى الله عليه وسلّم: من أنت؟ قال: أنا محمد بن عبد الله رسول الله، فقال بريدة: أشهد ألاإله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعا، فلما أصبح قال بريدة للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحل عمامته ثم شدّها في رمح ثم مشى بين يديه صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله تنزل على من؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن ناقتي هذه مأمورة، قال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو سهم طائعين. وفي الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر ثياب بياض. وروى أن طلحة كان قدم من الشام ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام، فلما لقيه أعطاه، فلبس منها النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر. قال الحافظ ابن حجر: فيحتمل: أن كلا من طلحة والزبير أهدى لهما، والذي في السّير هو طلحة؛ فالأولى الجمع، وعند ابن أبي شيبة ما يؤيده، وإلا فما في الصحيح أصح.   (1) خرج سهمنا: أي فزنا وظفرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الفصل العاشر في دخوله صلّى الله عليه وسلّم أرض المدينة، وتأسيس مسجد قباء كان المسلمون بالمدينة قد سمعوا بمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة أول النهار فينتظرونه، فما يردهم إلا حرّ الشمس، فبعد أن رجعوا يوما أو في رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مبيضين، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا بني قيلة- يعني الأنصار- وفي رواية: يا معشر العرب، هذا جدكم، يعني حظكم- وفي رواية: صاحبكم الذي تنتظرونه- فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف بقباء على كلثوم بن الهدم، قيل: وكان يومئذ مشركا، وبه جزم ابن زبالة، وقال رزين: نزل في ظل نخلة، ثم انتقل منها إلى دار كلثوم أخي بني عمرو بن عوف، وفي «أخبار المدينة» ليحيى الحسيني جد أمراء المدينة اليوم في النسخة التي رواها ابنه طاهر بن يحيى عنه من طريق محمد بن معاذ، قال: حدثنا مجمّع بن يعقوب عن أبيه وعن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش عن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة قالا: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر حرّتنا، ثم ركب فأناخ إلى عذق عند بئر غرس قبل أن تبزغ الشمس وما يعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أبي بكر، عليهما ثياب متشابهة، فجعل الناس يقفون عليهم حتى بزغت الشمس من ناحية أطمهم الذي يقال له «شنيف» فأمهل أبو بكر ساعة حتى خيل إليه أنه يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحر الشمس، فقام فستر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بردائه، فعرف القوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا يأتون فيسلمون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت لمجمّع بن يعقوب: إن الناس يرون أنه جاء بعدما ارتفع النهار وأحرقتهم الشمس، قال مجمع: هكذا أخبرني أبي وسعيد بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن يزيد قال: ما بزغت الشمس إلا وهو جالس في منزله صلّى الله عليه وسلّم. قلت: ولم أر هذا الخبر في النسخة التي رواها ولد ابن يحيى عن جده، وقوله «عند بئر غرس» الظاهر أنه تصحيف، ولعله «بئر عذق» لبعد بئر غرس من منزله صلّى الله عليه وسلّم بقباء، بخلاف بئر عذق، وإلا فهو قادح فيما يعرفه الناس اليوم من أن بئر غرس هي هي المعروفة بمحلها الآتي بيانه. وفي كتاب يحيى أيضا عن محمد بن إسماعيل بن مجمّع قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على كلثوم بن الهدم هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة قال: يا نجيح، لمولى له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتفت إلى أبي بكر: أنجحت، أو أنجحنا، فقال: أطعمنا رطبا، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فأتوا بقنو من أم جرذان فيه رطب منصف وفيه زهو «1» ، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا؟ قال: عذق أم جرذان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم بارك في أم جرذان، وقد أخرجه أبو سعيد في شرف المصطفى من طريق الحاكم، وقال قوم بمنزله صلّى الله عليه وسلّم على سعد بن خيثمة. وقد رواه يحيى أيضا، قال رزين: والأول أصح اه. اختلاف العلماء في تاريخ مقدمة المدينة وقال الحاكم: إنه الأرجح، قال: وقد قاله ابن شهاب وهو أعرف بذلك من غيره، وقال بعضهم: كان سعد عزبا، فكان صلّى الله عليه وسلّم يجلس مع أصحابه في بيته، فلذلك قيل: إنه نزل عنده، ويشهد له ما نقله ابن الجوزي عن ابن حبيب الهاشمي قال: نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم على كلثوم، وكان يتحدث في منزل سعد بن خيثمة، ويسمى «منزل العزاب» وفي الصحيح: فتلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بظهر الحرة، فعدل بهم «2» ذات اليمين حتى ينزل بهم في بني عمرو بن عوف، وفي رواية له: علو المدينة وقباء معدودة من العالية، وكأن حكمته التفاؤل له ولدينه بالعلو، وذلك يوم الإثنين نهارا عند الأكثر، قال الحافظ ابن حجر: وهو المعتمد، وشذ من قال يوم الجمعة. قلت: لعل مراد هذا القائل القدوم الآتي للمدينة نفسها بعد الخروج من قباء، وقيل: ليلة الإثنين؛ لقوله في مسلم «ليلا» قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل، فدخل نهارا. قلت: وفيه نظر، وكان ذلك أول ربيع الأول على ما رواه موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وقيل: لثمان خلون منه. وفي الإكليل عن الحاكم: تواترت الأخبار بذلك، وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عن أبي معشر، ولكن قال: ليلة الإثنين، ومثله عن ابن البرقي، وثبت كذلك في أواخر صحيح مسلم، وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق: لاثنتي عشرة ليلة خلت منه حين اشتد الضحى، وهذا ما جزم به الكلبي فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر. وحكاه ابن الجوزي في شرف المصطفى عن الزهري فقال: قال الزهري: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وبه جزم النووي في السّير من الروضة، وكذا ابن النجار، ونقل المراغي هذا عن النووي وابن النجار فقط، وتعجب من عدم موافقته لشيء من الأقوال، وكأنه فهم أن مرادهما المدينة نفسها بعد الخروج من قباء، وليس ذلك مرادهما؛ فإن ابن النجار عبر بقوله: فعدل بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين لاثني عشر من شهر ربيع الأول، وأما النووي وإن عبر بالمدينة فليس مراده   (1) نصف البسر والثمر: رطّب نصفه: زها البسر: تلوّن بحمرة أو صفرة. (2) عدل بهم: عطف بهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 سوى ذلك، والعلماء كلهم يطلقون على ذلك قدوم المدينة. وفي شرف المصطفى لابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين، واستنبئ يوم الإثنين، ورفع الحجر يوم الإثنين، وخرج مهاجرا من مكة يوم الإثنين، وقدم المدينة يوم الإثنين، وقبض يوم الإثنين. وفي روضة الأقشهري: قال ابن الكلبي: خرج من الغار ليلة الإثنين أول يوم من ربيع الأول، وقدم المدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. قال أبو عمر: وهو قول ابن إسحاق إلا في تسمية اليوم. وعند أبي سعيد في شرف المصطفى من طريق أبي بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول، وهذا الجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال. وعنده من حديث عمر: ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الإثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول، ولعل الرواية خلتا ليوافق ما تقدم. ونقل ابن زبالة عن ابن شهاب أن ذلك كان في النصف من ربيع الأول، وقيل: كان قدومه في سابعه، وجزم ابن حزم بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر، وهذا يوافق قول هشام بن الكلبي إنه خرج من الغار ليلة الإثنين أول يوم من ربيع الأول، فإن كان محفوظا فلعل قدومه قباء كان يوم الإثنين ثامن ربيع الأول، وإذا ضم ذلك إلى ما سيأتي عن أنس أنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة خرج منه أن دخوله المدينة نفسها كان لاثنين وعشرين منه، لكن الكلبي جزم بأنه دخلها لاثنتي عشرة خلت منه؛ فعلى قوله تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط، وبه جزم ابن حبان؛ فإنه قال: أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس، يعني وخرج يوم الجمعة، فلم يعتد بيوم الخروج، وكذا قال موسى بن عقبة: إنه أقام فيهم ثلاث ليال؛ فكأنه لم يعد يوم الدخول ولا الخروج. وعن قوم من بني عمرو بن عوف أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يوما، حكاه ابن زبالة. وفي البخاري من حديث أنس «أقام فيهم أربع عشرة ليلة» وهو المراد في رواية عائشة بقولها «بضع عشرة ليلة» وقال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: أقام فيهم ثلاثا، قال: وروى ابن شهاب عن مجمع بن حارثة أنه أقام اثنتين وعشرين ليلة. وقال ابن إسحاق: أقام فيهم خمسا، وبنو عمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك. قال الحافظ ابن حجر: أنس ليس من بني عمرو بن عوف؛ فإنه من الخزرج، وقد جزم بأربع عشرة ليلة، فهو أولى بالقبول، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتاريخ فكتب من حين الهجرة في ربيع، رواه الحاكم في الإكليل، وهو معضل، والمشهور أن ذلك كان في خلافة عمر رضي الله عنه، وأن عمر قال: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخ بها، وابتدأ من المحرم بعد إشارة علي وعثمان رضي الله عنهما بذلك، وقد ذكرنا ما قيل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 سببه في الأصل، وأفاد السهيلي أن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا التأريخ بالهجرة من قوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة: 108] . ابتداء التأريخ من الهجرة وفي الصحيح أنهم لما قدموا قام أبو بكر للناس: أي يتلقاهم، وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطفق من جاء من الأنصار يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رآه يحسبه أبا بكر، حتى إذا أصابته الشمس أقبل أبو بكر بشيء أظله به، وفي رواية ابن إسحاق: حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل، فعرفناه بذلك. ونزل أبو بكر رضي الله عنه على حبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح، ويقال: على خارجة بن زيد منهم. وأقام علي رضي الله عنه بعد مخرجه صلّى الله عليه وسلّم أياما، قال بعضهم: ثلاثة، حتى أدى للناس ودائهم التي كانت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلفه لردها، ثم خرج فلحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقباء، فنزل على كلثوم بن الهدم، قال فيما رواه رزين: فبينا أنا بائت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا برجل يضرب باب امرأة، فخرجت فأعطاها شيئا وانصرف، ثم فعل ذلك ليلة ثانية أيضا، فذكرت ذلك لها فقالت: هذا سهل بن حنيف يغدو كل ليلة على أصنام قومه فيكسرها ثم يأتي بها لأوقدها حطبا، وقد علم أن ليس لي من الحطب شيء. وروى يحيى عن عبد العزيز بن عبيد الله بن عثمان بن حنيف قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بني عمرو بن عوف، وقد كان بين الأوس والخزرج ما كان من العداوة، وكانت الخزرج تخاف أن تدخل دار الأوس، وكانت الأوس يخاف أن تدخل دار الخزرج، وكان أسعد بن زرارة قتل نبتل بن الحارث يوم بعاث، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين أسعد بن زرارة؟ فقال سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد المنذر ورفاعة بن عبد المنذر: كان يا رسول الله أصاب منا رجلا يوم بعاث، فلما كانت ليلة الأربعاء جاء أسعد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم متقنّعا بين المغرب والعشاء، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يا أبا أمامة، جئت من منزلك إى هاهنا وبينك وبين القوم ما بينك؟ قال أبو أمامة: لا والذي بعثك بالحق ما كنت لأسمع بك في مكان إلا جئت، ثم بات عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أصبح، ثم غدا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 لسعد بن خيثمة ورفاعة ومبشر ابني عبد المنذر: أجيروه، قالوا: أنت يا رسول الله فأجره فجوارنا في جوارك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يجيره بعضكم، فقال سعد بن خيثمة: هو في جواري، ثم ذهب سعد بن خيثمة إلى أسعد بن زرارة في بيته فجاء بن مخاصرة يده في يده ظهرا حتى انتهى به إلى بني عمرو بن عوف، ثم قالت الأوس: يا رسول الله كلنا له جار، فكان أسعد بن زرارة بعد يغدو ويروح إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى. وكان لكلثوم بن الهدم بقباء مربد، والمربد: الموضع الذي يبسط فيه التمر لييبس، فأخذه منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسسه وبناه مسجدا كما رواه ابن زبالة وغيره. وفي الصحيح عن عروة: فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وفي رواية عبد الرزاق عنه قال: الذين بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف، وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عايد، ولفظه: ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال، واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه، ثم بناه بنو عمرو بن عوف؛ فهو الذي أسس على التقوى. وروى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن المسعودي عن الحكم بن عتيبة قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزل بقباء قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء، فهو أول مسجد بني، يعني لعامة المسلمين أو للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وهو في التحقيق أول مسجد صلّى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا، وإن كان قد تقدم بناء غيره من المساجد، فقد روى ابن أبي شبة عن جابر قال: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة، ولذا قيل: كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأنصار بقباء قد بنوا مسجدا يصلون فيه، يعني هذا المسجد، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وورد قباء صلى بهم فيه إلى بيت المقدس، ولم يحدث فيه شيئا: أي: في مبدأ الأمر؛ لأن ابن شبة روى ذلك، ثم روى أنه صلّى الله عليه وسلّم بنى مسجد قباء وقدم القبلة إلى موضعها اليوم، وقال: جبريل يؤم بي البيت، وقد اختلف في المراد بقوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فالجمهور على أن المراد به: مسجد قباء، ولا ينافيه قوله صلّى الله عليه وسلّم لمسجد المدينة «هو مسجدكم هذا» إذ كل منهما أسس على التقوى على ما سيأتي إيضاحه. وفي الكبير للطبراني- وفيه ضعيف- عن جابر بن سمرة قال: لما سأل أهل قباء النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يا بني لهم مسجدا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليقم بعضكم فيركب الناقة» فقام أبو بكر رضي الله عنه فركبها فحركها فلم تنبعث، فرجع فقعد، فقام عمر رضي الله عنه فركبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فلم تنبعث، فرجع فقعد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «ليقم بعضكم فيركب الناقة» فقام علي رضي الله عنه فلما وضع رجله في غرز الركاب وثبت به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أرخ زمامها، وابنوا على مدارها فإنها مأمورة» . وروى الطبراني- وفيه من لم يعرف- عن جابر أيضا قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال لأصحابه: «انطلقوا بنا إلى أهل قباء نسلم عليهم، فأتاهم فسلم عليهم، فرحّبوا به، ثم قال: يا أهل قباء ائتوني بأحجار من هذه الحرة، فجمعت عنده أحجار كثيرة، ومعه عنزة له «1» ، فخط قبلتهم، فأخذ حجرا فوضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: يا أبا بكر، خذ حجرا فضعه إلى حجري، ثم قال: يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال: يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر عمر، ثم التفت إلى الناس فقال: ليضع كل رجل حجره حيث أحب على ذلك الخط. متى بني مسجد قباء قلت: وهو يقتضي أن هذا البنيان لم يكن عند قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قباء، بل بعد قدوم عثمان رضي الله عنه من الحبشة؛ فإنه كان قد هاجر إلى أرض الحبشة فارا بدينه مع زوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان أول خارج إليها، ثم هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة؛ فيمكن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسسه عند قدومه، ثم بناه بعد ذلك، وإلا فلم يكن عثمان رضي الله عنه حاضرا، كذا نبه عليه بعضهم ولهذا قال السهيلي: أول من وضع حجرا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أبو بكر، ثم عمر، ولم يذكر عثمان، ثم قال: وصلّى فيه نحو بيت المقدس قبل أن يأتي المدينة، انتهى. وسيأتي عند ذكره في المساجد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وأصحابه ننقل حجارته على بطوننا، ويؤسسه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل يؤم به البيت، ولم أر من نبه على تعيين زمان قدوم عثمان من الحبشة، وسيأتي في بنائه صلّى الله عليه وسلّم لمسجد المدينة أخبار تقتضي حضور عثمان له، وهو محتمل أيضا للبناء الأول والثاني، وسبق في الفصل قبله عد عثمان فيمن قدم المدينة قبل مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها، وهو كذلك في كلام ابن إسحاق. وقال المحب الطبري: الظاهر أن قدوم عثمان من الحبشة كان قبل هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو بعدها وقبل وقعة بدر؛ لأنه صح أنه كان في وقعة بدر متخلفا في المدينة على زوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت مريضة، ووقعة بدر في الثانية، وكان قدوم أكثر مهاجري الحبشة في السابعة كما سيأتي، والله أعلم.   (1) العنزة: أطول من العصا وأقصر من الرمح في أسفلها زجّ كزجّ الرمح يتوكأ عليها الشيخ الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وفي الكبير للطبراني ورجاله ثقات عن الشموس بنت النعمان قالت: نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر، وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته، فيأتي الرجل من أصحابه ويقول: بأبي وأمي يا رسول الله أعطني أكفك، فيقول: لا، خذ مثله، حتى أسسه، ويقول: إن جبريل عليه السلام هو يؤم الكعبة، قالت: فكان يقال: إنه أقوم مسجد قبلة. قلت: قد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يستقبل بيت المقدس حتى نسخ ذلك، وجاءت القبلة وهم في صلاة الصبح فأخبرهم، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة؛ فيحتمل: أن جبريل عليه السلام كان يؤم به البيت ليستدل به على جهة بيت المقدس لتقابل الجهتين، ولعلمه بما يؤول إليه الأمر من استقبال الكعبة، أو أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مخيّرا في ابتداء الهجرة في التوجه إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة كما قاله الربيع فأمّ به جبريل البيت لذلك، واختياره الصلاة لبيت المقدس أولا لاستمالة اليهود، أو أن استقبال الكعبة كان مشروعا في ذلك الوقت ثم نسخ ببيت المقدس ثم نسخ بالكعبة، لما قاله ابن العربي وغيره من أن القبلة نسخت مرتين، أو أن ذلك تأسيس آخر غير التأسيس الأول، ويدل لهذا الأخير ما قدمناه من راوية ابن شبة. وقوله في حديث الشموس المتقدم «حتى يهصره الحجر» أي: يميله. وأورده المجد من رواية الخطابي بلفظ آخر، فقال: وروى الخطابي عن الشموس بنت النعمان قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بنى مسجد قباء يأتي بالحجر قد صهره «1» إلى بطنه فيضعه، فيأتي الرجل يريد أن يقله فلا يستطيع حتى يأمره أن يدعه ويأخذ غيره، ثم قال: صهره وأصهره إذا ألصقه بالشيء، ومنه اشتقاق الصهر في القرابة. وروى ابن شبة أيضا أن عبد الله بن رواحة كان يقول وهم يبنون في مسجد قباء: أفلح من يعالج المساجدا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «المساجدا» فقال عبد الله: ويقرأ القرآن قائما وقاعدا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «وقاعدا» فقال عبد الله: ولا يبيت الليل عنه راقدا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «راقدا» ، والله أعلم.   (1) صهر الشيء إليه: قرّبه وأدناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الفصل الحادي عشر في قدومه صلّى الله عليه وسلّم باطن المدينة ، وسكناه بدار أبي أيوب الأنصاري، وأمر هذه الدار، وما آلت إليه، وما وقع من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. قال أهل السير: ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاؤوا متقلدين بالسيوف، وكانوا أخواله، وذلك أن هاشم بن عبد مناف تزوج منهم امرأة، وهي سلمى بنت عمرو، فجاءه منها ولد، فلما مات هاشم وكبر الغلام مر به قوم من قريش فأبصروه وقد ترعرع وهو ينتضل «1» ويقول: أنا القرشي، فجاؤوا وأخبروا عمه المطلب بن عبد مناف، فذهب فجاء به، فدخل به مكة وهو ردفه وعليه ثياب السفر، فقالت قريش: هذا عبد المطلب، فغلب عليه هذا الاسم؛ فلذلك كان أخواله بني النجار، فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اركبوا آمنين مطاعين. وفي البخاري من حديث أنس: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا بالسيوف، ثم رواه البخاري بلفظ آخر، فقال: قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزل جانب الحرة، ثم بعث إلى الأنصار فجاؤوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركب حتى نزل جانب دار أبي أيوب. قال الحافظ ابن حجر: تقديره فنزل جانب الحرة فأقام بقباء المدة التي أقام بها وبنى بها مسجده، ثم بعث إلى آخره. وفي التأريخ الصغير للبخاري عن أنس أيضا قال: إني لأسعى مع الغلمان إذ قالوا: محمد جاء، فننطلق فلا نرى شيئا، حتى أقبل وصاحبه، فكمنا «2» في بعض جوانب المدينة، وبعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما «3» ، فاستقبله خمسمائة من الأنصار، فقالوا: انطلقا آمنين مطاعين، الحديث، ففيه طي لذكر قصة قباء، إلا أن يريد أن ذلك وقع في مبدأ الأمر عند نزوله صلّى الله عليه وسلّم بقباء، وهو ما اقتضاه رواية رزين، فإنه قال: عن أنس قال: كنت إذ قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة ابن تسع سنين، فأسمع الغلمان والولائد يقولون: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنذهب فلا نرى شيئا، حتى جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر، فكمنا في   (1) انتضل القوم: استبقوا بالرمي. ويفتخروا. (2) كمنا: استخفا في مكمن لا يفطن له. (3) يؤذن بهما: ينذر بهما ويخبر عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 خرب في طرف المدينة، وأرسلا رجلا يؤذن لهما الأنصار، فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار، حتى انتهوا إليهما، قال: فما رأيت مثل ذلك اليوم قط، والله لقد أضاء منها كل شيء، ونزلا على كلثوم بن الهدم، ثم ذكر تأسيس مسجد قباء، ثم قال: ثم خرج منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد المدينة، فلا يمر بدار من دور الأنصار إلا عرضوا عليه، وذكر نحو ما سيأتي؛ فهو صريح في أن ذلك كان عند مقدمه صلّى الله عليه وسلّم في بدء الأمر. وكان خروجه صلّى الله عليه وسلّم من قباء يوم الجمعة، وتعيينه من الشهر مرتب على ما تقدم في قدومها. وروى يحيى أنه صلّى الله عليه وسلّم لما شخص: أي: من قباء، اجتمعت بنو عمرو بن عوف فقالوا: يا رسول الله أخرجت ملالا أم تريد دارا خيرا من دارنا؟ قال: إني أمرت بقرية تأكل القرى، فخلوها- أي ناقته- فإنها مأمورة فخرج صلّى الله عليه وسلّم من قباء، فعرض له قبائل الأنصار كلهم يدعوه ويعدوه النصرة والمنعة، فيقول: خلوها فإنها مأمورة، حتى أدركته الجمعة في بني سالم، فصلى في بطن الوادي الجمعة وادي ذي صلب. قلت: قيل كانت هذه أول جمعة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وقيل: إنه كان يصلي الجمعة في مسجد قباء في إقامته هناك، والله أعلم. وروى أيضا عن عمارة بن خزيمة قال: لما كان يوم الجمعة وارتفع النهار دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم براحلته، وحشد المسلمون، ولبسوا السلاح، وركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناقته القصوى، والناس معه عن يمينه وعن شماله وخلفه: منهم الماشي والراكب، فاعترضنا الأنصار فما بدار من دورهم إلا قالوا هلم يا رسول الله إلى العز والمنعة والثروة، فيقول لهم خيرا، ويدعو، ويقول: إنها مأمورة، خلوا سبيلها، فمر ببني سالم، فقام إليه عتبان بن مالك، ونوفل بن عبد الله بن مالك بن العجلان وهو آخذ بزمام راحلته يقول: يا رسول الله انزل فينا فإن فينا العدد والعدة والحلقة، ونحن أصحاب العصا والحدائق والدرك، يا رسول الله قد كان الرجل من العرب يدخل هذه البحرة خائفا فيلجأ إلينا فنقول له: قوقل حيث شئت، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبسم ويقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فقام إليه عبادة بن الصامت وعباس بن الصامت بن نضلة بن العجلان فجعلا يقولان: يا رسول الله انزل فينا، فيقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: بارك الله عليكم، إنها مأمورة، فلما أتى مسجد بني سالم- وهو المسجد الذي في الوادي- فجمّع بهم فخطبهم، ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن يمين الطريق حتى جاء بني الحبلى، فأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي، فلما رآه ابن أبي وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 عند مزاحم أي الأطم محتبيا قال: اذهب إلى الذين دعوك فانزل عليهم، فقال سعد بن عبادة لا تجد «1» يا رسول الله في نفسك من قوله، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه عليها، ولكن هذه داري، فمر ببني ساعدة فقال له سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة: هلم يا رسول الله إلى العز والثروة والقوة والجلد، وسعد يقول: يا رسول الله ليس من قومي أكثر عذقا «2» ولا فم بئر مني مع الثروة والجلد والعدد والحلقة؛ فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بارك الله عليكم، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: يا أبا ثابت خلّ سبيلها فإنها مأمورة، فمضى، واعترضه سعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة وبشير بن سعد فقالوا: يا رسول الله لا تجاوزنا فإنا أهل عدد وثروة وحلقة، قال: بارك الله فيكم، خلوا سبيلها فإنها مأمورة، واعترضه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو- أي: من بني بياضة- يقولان: يا رسول الله هلم إلى المواساة والعز والثروة والعدد والقوة، نحن أهل الدرك يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ثم مر ببني عدي بن النجار- وهم أخواله- فقام أبو سليط وصرمة بن أبي أنيس في قومهما فقالا: يا رسول الله نحن أخوالك هلم إلى العدد والمنعة مع القرابة، لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول الله، ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا بك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، ويقال: إن أول الأنصار اعترضه بنو بياضة، ثم بنو سالم، ثم مال إلى ابن أبي، ثم مر على بني عدي بن النجار، حتى انتهى إلى بني مالك بن النجار. قلت: وقول بني عدي بن النجار «نحن أخوالك» لأنهم أقاربه من جهة الأمومة؛ لأن سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار كانت أم جده عبد المطلب، وقول البراء في حديث الصحيح «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده، أو قال أخواله، من الأنصار» فيه تجوز من حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم إنما نزل على إخوتهم بني مالك بن النجار، أو أراد أنه نزل بخطة بني النجار لتقارب منازلهم الجميع ومنهم بنو عدي. وقال الحافظ ابن حجر في المقدمة في الكلام على الحديث المذكور: هم من بني عمرو بن عوف من الخزرج، وكانت أم عبد المطلب جد النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم، واسمها سلمى؛ فهم أجداده حقيقة، وأخواله مجازا، والشك من راوي الخبر، انتهى. وهو وهم، سببه اشتباه النزول الأول بقباء بهذا النزول الذي وقع فيه الاستقرار، وليس بنو عمرو بن عوف ممن يوصف بذلك، وقد تنبه له في الشرح؛ فذكره على الصواب كما قدمناه، والله أعلم.   (1) الوجد: الحزن والغضب. (2) أكثر عذقا: أكثر نخلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وروى رزين أنه صلّى الله عليه وسلّم سار من قباء ومعه جماعة من الأنصار في السلاح وجميع المهاجرين، وذكر صلاة الجمعة، قال: ثم ركب فجاء بني الحبلى فأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي بن سلول، وكان جالسا محتبيا عند أطم له، فقال: اذهب إلى الذين دعوك فانزل عليهم، فقال سعد بن عبادة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تجد عليه، فإن أهل هذه البحرة كانوا قد أجمعوا على أن يعصّبوه» ويتوّجوه، فلما رد الله عليه ذلك بالحق الذي أعطاك شرق لذلك «2» . قلت: الذي في الصحيح ذكر سعد لذلك في قصة عيادته صلّى الله عليه وسلّم له من مرض بعد سكناه بالمدينة، والذي في كتب السير عن ابن إسحاق أن الجمعة أدركته في وادي رانونا فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، وكانوا أربعين، وقيل: مائة، فأتاه عتبان بن مالك في رجال من بني سالم فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة، قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، لناقته، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة، فأجابهم بمثل ما تقدم، فخلوا سبيلها، حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بلحارث، فأجابهم بما تقدم، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار- وهم أخواله دنيا- اعترضهم سليط بن قيس في رجال منهم، فأجابهم بمثل ما تقدم، حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده صلّى الله عليه وسلّم ثم وثبت وسارت غير بعيد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تلحلحت وأرزمت «3» ووضعت جرانها «4» فنزل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي رواية أنها لما وثبت من مبركها الأول بركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ثم ثارت منه وبركت في مبركها الأول، وفي رواية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا المنزل إن شاء الله. وذكر ابن سيد الناس بعد قصة بني سالم أن راحلته انطلقت حتى وازنت دار بني بياضة، فذكر قصتهم، ثم قال: فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة، وذكر قصتهم، ثم قال: فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع، وذكر قصتهم، ثم ذكر القصة كما قدمناه.   (1) عصّبه القوم: سوّدوه وجعلوه سيدا عليهم. (2) شرق لذلك: غصّ وضاق صدره لذلك. (3) تحلحلت: تحركت عن موضعها. أرزمت: اشتد صوتها. (4) الجران: باطن العنق من البعير وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وذكر يحيى في رواية أخرى أنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن سار من بني سالم تيامن، فأتى منزل ابن أبي، ثم مضى في الطريق والطريق يومئذ فضاء حتى انتهى إلى سعد بن عبادة، ثم اعترضت له بنو بياضة عن يساره، ثم مضى حتى أتي بني عدي بن النجار، ثم أتى إلى بني مازن بن النجار، فقامت إليه وجوههم، ثم مضى حتى انتهى إلى باب المسجد وقد حشدت «1» بنو مالك بن النجار فهم قيام ينتظرونه إلى أن طلع فهش إليه أسعد بن زرارة وأبو أيوب وعمارة بن حزم وحارثة بن النعمان يقول: يا رسول الله قد علمت الخزرج أنه ليس ربع أوسع من ربعي، قال: فبركت بين أظهرهم، فاستبشروا، ثم نهضت كأنها مذعورة ترجّع الحنين «2» ، فساءهم ذلك، وجعلوا يعدون بجنبها حتى أتت إلى زقاق الحبشي ببئر جمل فبركت والنبي صلّى الله عليه وسلّم عليها مرخ لها زمامها ثم قامت عودها على بدئها تزيد في المشي حتى بركت على باب المسجد وضربت بجرانها وعدلت ثفناتها «3» ، وجاء أبو أيوب والقوم يكلمونه في النزول عليهم، فأخذ رحله فأدخله، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رحله وقد حط فقال: «المرء مع رحله» . وذكر رزين اعتراض بني سالم له وقوله «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» ثم قال: فمر ببني بياضة فكذلك، ثم ببني ساعدة فكذلك، ثم بدار بني الحارث بن الخزرج فكذلك، ثم مر بدار عدي بن النجار فكذلك، فمضت حتى إذا أتت دار بني مالك بن المجار بركت على باب المسجد اليوم، ولم ينزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بركت، ثم وثبت فسارت غير بعيد ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها الأول، فنزل إذا ذاك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أي الدور أقرب؟ فقال أبو أيوب: داري، هذا بابي، وقد حططنا رحلك فيها، فقال: «المرء مع رحله» فمضت مثلا. وروى ابن زبالة أنها لما بركت بباب أبي أيوب جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن ينزل فتحلحل فيطيف حولها أبو أيوب فيجد جبار بن صخر أخا بني سلمة ينخسها برجله، فقال أبو أيوب: يا جبار عن منزلي تنخسها؟ أما والذي بعثه بالحق لولا الإسلام لضربتك بالسيف، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منزل أبي أيوب، وقر قراره، واطمأنت داره، ونزل معه زيد بن حارثة. وعند الحاكم عن أنس: جاءت الأنصار فقالوا: إلينا يا رسول الله، فقال: دعو الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب.   (1) احتشد القوم: اجتمع القوم. (2) ترجع الحنين: عادت ومدّت صوتها. (3) الثفنة: الركبة. والجزء من جسم الدابة تلقى به الأرض فيغلظ ويجمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وروى الطبراني في الأوسط وفيه صديق بن موسى- قال الذهبي: ليس بالحجة- عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة فاستناخت راحلته بين دار جعفر بن محمد بن علي ودار الحسن بن زيد، فأتاه الناس فقالوا: يا رسول الله المنزل، فانبعثت به راحلته، فاستناخت ثم تحلحلت، وللناس ثم عريش كانوا يرشونه ويعمرونه ويبردون فيه، حتى نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن راحلته فاوى إلى الظل فنزل فيه، فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله منزلي أقرب المنازل إليه أفأنقل رحلك؟ قال: نعم، فذهب برحله إلى المنزل، ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله انزل علي، فقال: إن الرجل مع رحله حيث كان، وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العريش اثنتي عشرة ليلة حتى بنى المسجد. قلت: دار جعفر بن محمد هي التي في قبلة دار أبي أيوب ملاصقة لها، ودار الحسن ابن زيد تقابلها من جهة المغرب، بينهما الشارع. وعند ابن عائذ وسعيد بن منصور أن ناقته صلّى الله عليه وسلّم استناخت به أولا، فجاءه ناس فقالوا: المنزل يا رسول الله، فقال دعوها، فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد، ثم تحلحلت، فنزل عنها، فأتاه أبو أيوب فقال: منزلي أقرب المنازل فاذن لي أن أنقل رحلك، قال: نعم، وأناخ الناقة في منزله. وقال الواقدي: أخذ أسعد بن زرارة بزمام راحلته فكانت عنده، ونقله الحافظ ابن حجر عن ابن سعد ونقل الأقشهري، في روضته عن ابن نافع صاحب مالك في أثناء كلام نقله عن مالك أن ناقته صلّى الله عليه وسلّم لما أتت موضع مسجده بركت وهو عليها، وأخذه الذي كان يأخذه عند الوحي، ثم ثارت من غير أن تزجر وسارت غير بعيد، ثم التفتت، ثم عادت إلى المكان الذي بركت فيه أول مرة فبركت، فسرّي عنه، فأمر أن يحط رحله، في بعض الروايات أن القوم لما تنازعوا أيهم ينزل عليه قال: إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك. وفي البخاري من حديث عائشة أنه صلّى الله عليه وسلّم أقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب، فقال: أيّ بيوت أهلنا أقرب؟ أيّ أخوال جده، فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري، وهذا بابي، قال: فانطلق فهيئ لنا مقيلا «1» . وفي رواية لابن زبالة: اختار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عينه، فنزل منزله وتخيره، وأراد أن يتوسط الأنصار كلها. قال المطري: وهو غير مناف لما تقدم من قوله: «دعوها فإنها مأمورة» ؛ لأن الله اختار له ما كان يختار لنفسه.   (1) المقيل: المكان الذي تؤخذ فيه القيلولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وفرح أهل المدينة بمقدمه صلّى الله عليه وسلّم إليهم فرحا شديدا؛ ففي البخاري من حديث البراء: «ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم» الحديث، وروى أبو داود أن الحبشة لعبت بحرابهم فرحا بقدومه صلّى الله عليه وسلّم. قال رزين: وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير «1» يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع وفي رواية: أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع والغلمان والولائد يقولون: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرحا به. وفي شرف المصطفى: لما بركت الناقة على باب أبي أيوب خرج جوار من بني النجار يضربن بالدفوف ويقلن: نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتحببناني؟ قلن: نعم يا رسول الله، فقال: والله وأنا أحبكن، قالها ثلاثا، وفي رواية: «يعلم الله إني أحبكن» . وأخرج الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة: فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدف وهن يقلن، وذكر البيت المتقدم. وروى عن أنس قال: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة أظلم منها كل شيء، فلما دخل المدينة أضاء منها كل شيء، ورواه ابن ماجه بلفظ: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء. ورواه أبو داود بلفظ: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه صلّى الله عليه وسلّم وما رأيت يوما كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، أضاء منها كل شيء، الحديث. ورواه ابن أبي خيثمة عنه بلفظ: شهدت يوم دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ. وروى يحيى عن عبد الله بن سلام: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة انجفل الناس «2» إليه، وقيل: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجئت أنظر، فلما تبينت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يتكلم قال: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام، وهذا الحديث بنحوه في الترمذي وصححه.   (1) الأجاجير: سطوح المنازل. (2) انجفل الناس: قدموا إليه مسرعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة أعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم بنتيه وسودة زوجته وأم أيمن زوج زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأختها أسماء زوج الزبير وأمها أم رومان، فلما قدموا المدينة أنزلهم في بيت حارثة بن النعمان. وقال رزين: إن أبا بكر أرسل عبد الله بن أريقط مع زيد بن حارثة ليأتيه بعائشة وأم رومان أمها وعبد الرحمن. قال بعضهم: ووجدوا طلحة بن عبيد الله على خروج، فخرج معهم، فقدموا كلهم. وروى ابن إسحاق عن أبي أيوب الأنصاري قال: لما نزل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت، قال: فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفله، وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حب لنا «1» فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه شيء فيؤذيه. قلت: وذكر بعضهم أن ذلك هو سبب سكناه في العلو بعد ذلك، والذي في صحيح مسلم عن أبي أيوب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نزل عليه، فنزل صلّى الله عليه وسلّم في السفل وأبو أيوب في العلو، فانتبه أبو أيوب ليلة فقال: نمشي فوق رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم؟! فتنحوا وباتوا في جانب، ثم قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: السفل أرفق، فقال: لا أعلو سقيفة وأنت تحتها، فتحول النبي صلّى الله عليه وسلّم في العلو وأبو أيوب في السفل. وقد قدمنا في آخر الفصل الرابع أن ابن إسحاق ذكر أن هذا البيت بناه تبّع الأول لما مرّ بالمدينة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ينزله إذا قدم المدينة، فتداول البيت الملاك إلى أن صار لأبي أيوب، وأن أبا أيوب من ذرية الحبر الذي أسلمه تبع كتابه. وقد نقل الحافظ ابن حجر ذلك عن حكاية ابن هشام في التيجان، قال: وأورده ابن عساكر في ترجمة تبع، فما نزل صلّى الله عليه وسلّم إلا في بيته، وقد ابتاع المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بيت أبي أيوب هذا من ابن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري بألف دينار، فتصدق به، وهو في شرقي المسجد المقدس كما سيأتي في الدور المطيفة بالمسجد. وقد اشترى الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب بن شادي عرصة دار أبي أيوب هذه، وبناها مدرسة للمذاهب الأربعة،   (1) الحب: الجرّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ووقف عليها أوقافا بميّا فارقين التي هي دار ملكه، وبدمشق لها وقف آخر أيضا، ولها بالمدينة الشريفة أيضا وقف من النخيل وغيرها، غير أنه شمل ذلك ما عم الأوقاف، وكان بها كتب كثيرة نفيسة فتفرقت أيدي سبا، وآل حال هذه المدرسة إلى التعطيل، فسكنها بعض نظارها، فتشاءمت على عياله، واتصل ذلك بسلطان مصر فخرج منها، والمدرسة قاعتان: كبرى، وصغرى، وفي إيوان الصغرى الغربي خزانة صغيرة جدا، فما يلي القبلة فيها محراب. قال المطري: يقال إنها مبرك ناقة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكانت إقامته صلّى الله عليه وسلّم بهذه الدار كما أفاده ابن سعد سبعة أشهر: أي: بتقديم السين على الباء، حتى بنى مساكنه. وقال رزين: أقام عند أبي أيوب من شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الثانية، وقال الدولابي: شهرا، وفي كتاب يحيى عن زيد بن ثابت: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي أيوب لم يدخل منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدية أول من هدية دخلت بها عليه قصعة مثرودة خبز بر وسمنا ولبنا فأضعها بين يديه، فقلت: يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال: بارك الله فيها، ودعا أصحابه فأكلوا، فلم أرم الباب «1» حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة على رأس غلام مغطاة، فأقف على باب أبي أيوب فأكشف غطاءها لأنظر، فرأيت ثريدا عليه عراق، فدخل بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال زيد: فقد كنا في بني مالك بن النجار ما من ليلة إلا على باب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منا الثلاثة والأربعة يحملون الطعام ويتناوبون بينهم، حتى تحول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بيت أبي أيوب، وكان مقامه فيه سبعة أشهر، وما كانت تخطئه جفنة سعد بن عبادة وجفنة أسعد بن زرارة كل ليلة. وفيه أنه قيل لأم أبي أيوب: أيّ الطعام كان أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنكم عرفتم ذلك لمقامه عندكم؟ قالت: ما رأيته أمر بطعام فصنع له بعينه، ولا رأيناه أتى بطعام قط فعابه. وقد أخبرني أبو أيوب أنه تعشى عنده ليلة من قصعة أرسل بها سعد بن عبادة طفيشل «2» فقال أبو أيوب: فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينهل تلك القدر ما لم أره ينهل غيرها، فكنا نعملها له، وكنا نعمل له الهريس وكانت تعجبه، وكان يحضر عشاءه خمسة إلى ستة عشر كما يكون الطعام في الكثرة والقلة.   (1) لم أرم الباب: لازمته. (2) طفيشل: نوع من الأدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وفيه عن أبي أيوب أنهم تكلفوا له طعاما فيه بعض هذه البقول، فلما أتوه به كرهه وقال لأصحابه: كلوا فإني لست كأحدكم، إني أخاف أن أوذي صاحبي «1» . وفي كتاب رزين عنه بعد ذكر نزوله عليه قال: وما مرت ليلة من نحو السنة إلا وتأتيه جفنة سعد بن معاذ ثم سائر الناس، يتناوبون ذلك نوبا، قال أبو أيوب: فصنعت له ليلة طعاما، وجعلت فيه ثوما، فلم يأكل منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففزعت فنزلت إليه فقلت له: أحرام هو؟ فقال: إني أناجي، وأنا أكرهه لذلك، وأما أنتم فكلوه، قال: فقلت: فإني أكره ما تكره يا رسول الله. المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود «2» ، وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط لهم، وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال فيما بلغنا: تاخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي. قلت: كانت هذه المؤاخاة بعد مقدمه صلّى الله عليه وسلّم بخمسة أشهر، وقيل: ثمانية، وهو يا بني المسجد، وقيل: بعده، وقيل: قبله، وذكره أبو حاتم في السنة الأولى، والظاهر أن ابتداءها كان فيها، واستمرت على حسب من يدخل في الإسلام أو يحضر، كما يعلم من تفاصيلها، قيل: وكانوا تسعين رجلا من كل طائفة خمسة وأربعون، وقيل: مائة، آخى بينهم على الحق والمواساة والتوارث، وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر وَأُولُوا الْأَرْحامِ [الأنفال: 75] الآية. وقال الواقدي: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة آخى بين المهاجرين، وآخى بين المهاجرين والأنصار. وقال ابن عبد البر: كانت المؤاخاة مرتين: الأولى قبل الهجرة بمكة بين المهاجرين، فاخى بين أبي بكر وعمر، وهكذا حتى بقي علي رضي الله عنه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فأنت أخي في الدنيا والآخرة، والمواخاة الثانية ما تقدم من مواخاة المهاجرين والأنصار، وهي المرادة بقول الحسن: كان التوارث بالحلف؛ فنسخ باية المواريث.   (1) البقول: المراد بها البصل والثوم والكراث. (2) وادع فلان: صالحه وسالمه وهادنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ولأبي داود عن أنس بن مالك: حالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار في دارنا، وحديث «لا حلف في الإسلام» معناه: حلف التوارث، والحلف على ما منع الشرع منه، وعبر رزين عن المواخاة بين المهاجرين والأنصار فيما نقله عن أبي حاتم بقوله: ثم آخى بين أصحابه، ودعا لكل واحد منهم دعوة، وقال: أبشروا أنتم في أعلى غرف الجنة، وقال لعلي: ما أخرتك إلا لنفسي، أنت أخي ووارث علمي، وأنت معي في الجنة في قصري مع ابنتي، وقصة المؤاخاة الأولى أقر بها الحاكم؛ فذكر المؤاخاة بين أبي بكر وعمر، وذكر جماعة، ثم قال: فقال علي: يا رسول الله، إنك آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال: أنا أخوك. وقد أنكر ابن تيمية في الرد على ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين خصوصا مؤاخاة النبي لعلي، قال: لأنها شرعت للإرفاق والتألف؛ فلا معنى لها بينهم، وهو رد للنص وغفلة عن حقيقة الحكمة في ذلك، مع أن بعضهم كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة، والارتفاق ممكن، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقوم بعلي من عهد الصبا، واستمر ذلك. وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن أنه صلّى الله عليه وسلّم «آخى بين الزبير وابن مسعود» وهما من المهاجرين. اليهود تحاول الإفساد بين الأوس والخزرج والتأم شمل الحيين الأوس والخزرج ببركته صلّى الله عليه وسلّم فمر شاس بن قيس- وكان شيخا من اليهود شديد الضغن على المسلمين والحسد لهم- على نفر من الأوس والخزرج في مجلس يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر شابا من يهود كان معه فقال: اجلس إليهم ثم اذكر يوم بعاث، وما كان فيه، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل الشاب ذلك، فتنازع القوم وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، وهما أوس بن قيظي وجبار بن صخر، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة، وهي الحرة، فخرجوا إليها، وبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق الأوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس، فأنزل الله في شأنه: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران: 98- 99] ، وأنزل الله في الذين صنعوا ما صنعوا من الحيين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلى قوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 100- 103] . وكان حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر من أشد يهود للعرب حسدا لما خصهم الله برسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ فكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا فأنزل الله تعالى فيهما: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ إلى قوله: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 109] . وحدثت صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة غدا عليه أبي وعمي مغلّسين «1» ، فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع. فو الله ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت، فشقيا بجسدهما، والله أعلم. الفصل الثاني عشر فيما كان من أمره صلّى الله عليه وسلّم بها في سني الهجرة إلى أن توفاه الله عز وجل مختصرا وقد لخصه رزين من تأريخ أبي حاتم، فزدت فيه نفائس ميزتها، فأقول في أولها «قلت» وفي آخرها «والله أعلم» وقد أقام صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين بالإجماع كما حكاه النووي. السنة الأولى من الهجرة: وقد تقدم بعض ما فيها من بناء مسجد قباء وغيره. وقال أبو حاتم: كان فيها بناء المسجد النبوي، ومات أسعد بن زرارة والمسجد يا بنى؛ فكان أول من دفن بالبقيع من المسلمين.   (1) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 قلت: ومن هذا يعلم أن عثمان بن مظعون أول من دفن به من المهاجرين، جمعا بين النقلين، ومات كلثوم بن الهدم قبل أسعد بن زرارة؛ فهو أول من مات من الأنصار بعد مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: توفي أسعد بن زرارة في الثانية، والله أعلم. ومات البراء بن معرور قبل قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأوصى أن يوجّه إلى الكعبة، وصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على قبره، وكانت الأنصار يتقربون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهدايا رجالهم ونساؤهم، وكانت أم سليم تتأسف على ذلك، وما كان لها شيء، فجاءت بابنها أنس، وقالت: يخدمك أنس يا رسول الله؟ قال: نعم. قلت: الذي في الصحيح عن أنس «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة ليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيّس «1» فليخدمك، قال: فخدمته، الحديث، وقد يجمع بأنها جاءت به أولا، وانطلق به أبو طلحة ثانيا؛ لأنه وليه وعصبته، وهذا غي مجيئه به لخدمته صلّى الله عليه وسلّم في غزوة خيبر كما يفهمه لفظ الحديث، والله أعلم. ثم زيد في صلاة الحضر ركعتين بعد مقدمه المدينة بشهر. قلت: قال السهيلي: إن ذلك كان بعد الهجرة بعام أو نحوه، والذي عليه الأكثر أن الصلاة نزلت بتمامها من بدء الأمر، والله أعلم. ووعك أصحابه فدعا بنقل وبائها إلى الجحفة، وقال: «اللهم حبب إلينا المدينة» ثم آخى بين أصحابه كما سبق، ثم مات الوليد بن المغيرة بمكة، وولد عبد الله بن الزبير، جاءت أمه أسماء بعد الهجرة فنفست به في قباء في شوال، فكان أول مولود ولد في الإسلام بها بعد الهجرة، وكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تفل في فيه. قلت: سيأتي في مسجد دار سعد بن خيثمة من المساجد التي لا تعلم عينها أن الذهبي قال: إن عبد الله ولد في الثانية، والله أعلم. ثم عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لواء لابن عمه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب على ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، وهي أول راية عقدت في الإسلام، ورمى فيها سعد بن أبي وقاص بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام، فالتقى مع أبي سفيان بن حرب، وقيل: عكرمة بن أبي جهل، وكان في مائة من المشركين ببطن رابغ ويعرف بودان فانحاز   (1) كيّس: فطن. والكياسة: تمكن النفوس من استنباط ما هو أنفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 إلى المسلمين من المشركين المقداد بن عمرو بن الأسود وعتبة بن غزوان، وكان حامل اللواء لعبيدة مصلح بن أثاثة. أول راية عقدت في الإسلام قلت: وذكر أبو الأسود في مغازيه عن عروة، ووصله ابن عائذ من حديث ابن عباس: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وصل إلى الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا» وذكر القصة، فيكون ذلك في السنة الثانية، وبه صرّح بعض السير، والله أعلم. ثم عقد لواء لعمه حمزة على ثلاثين من المهاجرين- قيل: ومن الأنصار- ليتعرض عير قريش، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب، فحجب بينهم مجدي بن عمرو، وكان حليفا للفريقين، وانصرفوا من غير قتال، وكان حامل لواء حمزة يومئذ أبو مرثد. قلت: قدم بعضهم هذه على سرية عبيدة، وقال: إن لواء حمزة أول لواء عقد في الإسلام، ورجح ابن إسحاق الأول، وقال: إنما أشكل أمرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيعهما جميعا، وذكر أبو عمر أن أول راية عقدت لعبد الله بن جحش. وقيل: إن سرية حمزة هذه كانت في السنة الثانية، والله أعلم. زواج عائشة ثم بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعائشة وهي بنت تسع، وكان عقد بها في مكة قبل الهجرة بثلاث وهي بنت ست. زواج سودة بنت زمعة قلت: وعقد على سودة بنت زمعة بعد عائشة- وقيل: قبلها، وبنى بها بمكة- وكان بناؤه بعائشة على رأس تسعة أشهر- وقيل: ثمانية، وقيل ثمانية عشر شهرا- من قدومه، والله أعلم. ثم عقد لواء لسعد بن أبي وقاص في عشرين يريدون عير قريش في ذي القعدة، فخرجوا على أقدامهم يكمنون «1» بالنهار ويسيرون بالليل، وكان حامل اللواء لسعد المقداد بن عمرو، فلم يجدوا شيئا، ثم جاء أبو قيس بن الأسلت ليسلم، فلقيه ابن أبيّ ابن سلول، فقال: تربص «2» حتى ترى، فرجع فمات كافرا.   (1) يكمنون: يستخفون في مكمن لا يفطن له. (2) تربص: انتظر به خيرا أو شرّا يحل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 إسلام عبد الله بن سلام قلت: وأسلم عبد الله بن سلام في أول قدومه صلّى الله عليه وسلّم؛ ففي البخاري من حديث عائشة التصريح بأنه جاء قبل دخوله صلّى الله عليه وسلّم دار أبي أيوب لما سمع بقدومه صلّى الله عليه وسلّم ثم رجع إلى أهله، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم لأبي أيوب: اذهب فهيئ لنا مقيلا، فقال: قوما على بركة الله، أي هو وأبو بكر، قالت: فلما جاء نبي الله صلّى الله عليه وسلّم جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك قد جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت؛ فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا معشر اليهود، ويلكم! اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا، قالوا: ما نعلمه، قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أفرأيتم إن أسلم، قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: أفرأيتم إن أسلم، قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، كرر عليهم ذلك ثلاثا فيقولون له ذلك، قال: يا ابن سلام اخرج عليهم، فخرج عليهم، فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي رواية أن عبد الله بن سلام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء، فلما أعلمه بها أسلم، وفي هذه الرواية ذكر قصة اليهود المتقدمة، وأن عبد الله بن سلام لما خرج إليهم وتشهد قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه؛ فقال: هذا كنت أخاف يا رسول الله، ونصبت أحبار اليهود العداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم بغيا وحسدا: منهم حيي بن أخطب، وأبو رافع الأعور، وكعب بن الأشرف، وعبد الله بن صوريا، والزبير بن باطا، وشمويل، ولبيد بن الأعصم، وغيرهم، ودخل منهم جماعة في الإسلام نفاقا، وانضاف إليهم من الأوس والخزرج منافقون، وأرى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الأذان، وقيل: كان ذلك في السنة الثانية عندما شاور صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة؛ إذ كان اجتماعهم قبل بمناد «الصلاة جامعة» والله أعلم. السنة الثانية من الهجرة السنة الثانية: فلما جاء العاشر من المحرم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصومه، وقال: «نحن أحق بموسى من اليهود» ثم زوج عليا بفاطمة. قلت: وذلك قبل بدر، في رجب على الأصح، وبنى بها في ذي الحجة كما سيأتي، وكان لها خمس عشرة سنة، وقل: ثمان عشرة، وقيل: تزوجها بعد أحد، والله أعلم. ثم غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه إلى الأبواء وهي من ودان على ستة أميال مما يلي المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 قلت: ولتقاربهما أطلق عليها «غزوة ودان» ، والله أعلم. واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وكان حامل لوائه سعد بن أبي وقاص، ثم رجع، ولم يلق كيدا، فانصرف بعدما وادع مجدي بن عمرو الضمري، ثم غزا في مائتين من أصحابه إلى ناحية رضوى، وحامل لوائه سعد بن أبي وقاص، ثم رجع ولم يلق كيدا. قلت: وهي غزوة «بواط» خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد تجار قريش أيضا، حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، وقال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون، وفي نسخة السائب بن مظعون، وقال الواقدي: سعد بن معاذ، والله أعلم. ثم أغار على سرح المدينة كرز بن جابر الفهري، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أثره في المهاجرين، وحامل لوائه علي بن أبي طالب، فانتهى إلى بدر، وفاته كرز، وهذه بدر الأولى. قلت: ذكر ذلك ابن إسحاق بعد «العشيرة» بليال، والله أعلم. ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جحش في سرية، وهم الذين قتلوا في الشهر الحرام في اثني عشر نفسا، فأضل عتبة بن غزوان وسعد بن أبي وقاص راحلتيهما، فتخلفا عنهم، ومضى العشرة حتى لقوا جماعة من قريش: منهم عثمان بن عبد الله بن المغيرة، وافتدى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحكم ابن كيسان، أسلم، وقتلوا عمرو بن الحضرمي. قلت: ذكرها بعضهم بعد العشيرة، ووصلوا نخلة على يوم وليلة من مكة، فمرت بهم عير قريش تحمل زبيبا وأدما من الطائف معها الجماعة المذكورون في آخر يوم من رجب، فاستأسروا الأسيرين، وقتلوا عمرا، واستاقوا العير، وكانت أول غنيمة في الإسلام، والله أعلم. ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى العشيرة، فوادع بني مدلج وحفاءهم، ثم رجع. قلت: وكان خروجه فيها يعترض عيرا لقريش، ففاتته بأيام، واستخلف أبا سلمة بن عبد الأسد، والله أعلم. التوجه إلى الكعبة قال أبو حاتم: وبلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى فدعا الله تعالى، فأنزل قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ إلى قوله: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] وقت صلاة الظهر يوم الثلاثاء النصف من شعبان ثانية سني الهجرة. قلت: سيأتي ما فيه من الخلاف في الفصل الثالث من الباب بعده، والله أعلم. ثم نزلت فريضة الصوم في شعبان، فصاموا رمضان، فلما فرض رمضان لم يأمرهم بصيام عاشوراء ولا نهاهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ثم كانت غزوة بدر في رمضان لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، وقيل: يوم جمعة صبيحة سبع عشرة منه، وقيل: صبيحة أربع وعشرين منه، وكان المسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر. قلت: الراجح القول الثاني، وخرجت الأنصار معه صلّى الله عليه وسلّم فيها، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، ومعهم ثلاثة أفراس، وكان المشركون ألفا، ويقال، تسعمائة وخمسين رجلا معهم مائة فرس، وهذه بدر الثانية لما تقدم، والله أعلم. ثم قتل عمير بن عدي الخطمي العصماء امرأة من الأنصار، وهي زوج يزيد الخطمي، كانت تؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشعر، فقتلها، ثم جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينتطح فيها عنزان» . قلت: قال في الاكتفاء: إن العصماء هذه نافقت لما قتل أبو عفك (بالفاء وإهمال أوله) وقالت شعرا تعيب الإسلام وأهله، وتؤنب الأنصار في اتباعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن عميرا رجع إلى قومه بعد قتلها يومئذ كثير موجهم «1» في شأنها، ولها بنون خمسة رجال، فقال: يا بني خطمة، أنا قتلت بنت مروان، يعني العصماء، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فذلك اليوم أول ماء الإسلام في دار بني خطمة، وكان يستخفي بإسلامه فيهم من أسلم، ويومئذ أسلم رجال منهم لما رأوا من عز الإسلام، انتهى. والذي رواه ابن سيد الناس عن ابن سعد أنه قال بعد ذكر قتل عمير للعصماء: ثم في شوال كانت سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك اليهودي، وكان أبو عفك من بني عمرو بن عوف شيخا قد بلغ عشرين ومائة، وكان يحرض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقول الشعر، فقال سالم بن عمير وهو أحد البكائين وممن شهد بدرا: علي نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، وذكر قتله إياه، وهو مخالف لما قدمناه عن الاكتفاء من تقديم قتل أبي عفك على قتل العصماء، وذكر ابن سعد أيضا أن قتل العصماء كان لخمس ليال بقين من شهر رمضان، وأن عميرا كان ضرير البصر، وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البصير، قيل: وكان أول من أسلم من بني خطمة، وكان إمام قومه وقارئهم، وكان يدعى «القارئ» ، والله أعلم. ثم خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل الفطر بيومين يعلّم الناس زكاة الفطر. قلت: وقيل: في أول شوال، وصلّى صلاة الفطر، وفيها فرضت زكاة الأموال أيضا، وقيل: في الثالثة، وقيل: في الرابعة، وقيل: قبل الهجرة، وثبتت بعدها، والله أعلم. ثم غزا بني قينقاع في شوال.   (1) ماج القوم: اختلفت أمورهم واضطربت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 قلت: قد تقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قد وادع اليهود، وكانوا يرجعون إلى ثلاث طوائف: بني قينقاع، والنضير، وقريظة، فنقض الثلاثة العهد طائفة بعد طائفة، فأول من نقض منهم بنو قينقاع فحاربهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد بدر في شوال، فألقى الله الرعب في قلوبهم، فنزلوا على حكمه، فأراد قتلهم، فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات، وفي الاكتفاء: وكان منشأ أمرهم، يعني في نقض العهد، أن امرأة من العرب قدمت بجلب «1» لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقلته، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فوقع الشر بينهم وبين المسلمين، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلوا على حكمه. وروي أن ابن أبيّ قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه، وأنه قال: أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هم لك، وقال مغلطاي في غزوة بني قينقاع، قال الحاكم: هذه وبني النضير واحد، وربما اشتبهتا على من لا يتأمل، وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكر أنهم أول من نقض العهد: فغزاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم بني النضير، وأغرب الحاكم فزعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني النضير كان في زمن واحد ولم يوافق على ذلك؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق، وذكر الواقدي أن إجلاء بني قينقاع كان في شوال سنة اثنتين، يعني بعد بدر بشهر، ويؤيده ما روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس قال: لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا يوم بدر جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا، فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال، ولو قاتلتنا لعرفت أنا الرجال؛ فأنزل الله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى قوله: لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: 12- 13] وأصاب صلّى الله عليه وسلّم من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف ودر عين أحدهما تسمى فضة والآخرى تسمى السغدية (بالسين المهملة والغين المعجمة) قال بعض الحفاظ: وكانت السغدية درع داود عليه السلام التي لبسها حين قتل جالوت، والله أعلم. غزوة السويق قلت: سميت به لأنه كان أكثر زاد المشركين، وغنمه المسلمون لأن أبا سفيان خرج   (1) الجلب: ما جلب من إبل وغنم ومتاع من البادية للتجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 في مائتي راكب، وقيل: في أربعين، حتى أتوا العريض، فحرق نخلا، وقتل رجلا من الأنصار وأجيرا له، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طلبه، وجعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون للهرب فيلقون جرب السويق، فأخذها المسلمون فرجعوا، وذلك بعد بدر، فإن أبا سفيان حلف بعدها ألايمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا، ففعل ذلك، ورأى أن يمينه انحلت، والله أعلم. ثم مات عثمان بن مظعون في ذي الحجة، فهول أول من مات من المهاجرين بالمدينة، ثم صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة العيد، ثم ضحى بكبش، ثم بنى علي بفاطمة في ذي الحجة. قلت: وقال النووي: وتوفيت في ذي الحجة منها رقية ابنته صلّى الله عليه وسلّم لكن ذكر أهل السير ما يقتضي أن وفاتها كانت في رمضان منها، والله أعلم. السنة الثالثة من الهجرة السنة الثالثة: ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لكعب بن الأشرف» ؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له، ثم قتله. قلت: ابن الأشرف كان أصله عربيا من نبهان على ما قاله ابن إسحاق، أتى أبوه المدينة فخالف بني النضير، فشرف فيهم، وتزوج بنت أبي الحقيق، فولدت له كعبا، وكان جسيما شاعرا، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وخرج إلى مكة وأنشدهم الأشعار، وبكى أصحاب القليب «1» من قريش، ونزل فيهم على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وعنده عاتكة بنت أبي العيص ابن أمية، فهجاه حسان وهجا امرأته عاتكة، فطردته، فرجع إلى المدينة وشبب بنساء المسلمين، وكان يهجو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويحرض عليه كفار قريش، وقيل: صنع طعاما وواطأ يهود أن يدعو النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا حضر فتكوا به، ثم دعاه، فأعلمه جبريل فقام منصرفا وقال: «من لكعب بن الأشرف» فانتدب له محمد بن مسلمة في نفر، واحتال عليه حتى نزل له ليلا فقتله، وقيل: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه، والله أعلم. غزوة الكدر ثم غزا غزوة الكدر، وكان حامل لوائه علي بن أبي طالب، فرجع ولم يلق كيدا. قلت: خرج فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد بني سليم، واستخلف سباع بن عرفطة، وقيل:   (1) القليب: البئر. أصحاب القليب: المشركون الذين قتلوا ببدر، وطرحوا بالبئر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ابن أم مكتوم، فبلغ ماء يقال له الكدر، وتعرف بغزوة «قرقرة» ، ويقال نجران، فلم يلق أحدا، والله أعلم. غزوة أنمار ثم غزا غزوة أنمار، فجاءه دعثور فوجده نائما تحت الشجرة، فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم على رأسه بالسيف، فقال له دعثور: من يمنعك مني؟ قال: الله، فوقع السيف من يده، وأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، قال: اذهب لشأنك، فولى وهو يقول: محمد خير مني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم، وأنا أحق بذلك منك، فنذرت غطفان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهربوا. غزوة ذي أمر قلت: هذه غزوة ذي أمر، وسماها الحاكم غزوة أنمار، وسمى بعضهم الأعرابي غورث، ويقال: كان ذلك في ذات الرقاع، ولا مانع من تعدد ذلك، وكأن أبا حاتم رأى اتحادهما فلم يذكر ذات الرقاع، وهي بنخل عند بعضهم؛ فلذلك لم يذكرها أيضا، والله أعلم. ثم كانت سرية القردة ، وكان أميرها زيد بن حارثة، فلقي بها عير قريش، فأخذها، وأسر فرات بن حيان، وبلغ الخمس من تلك الغنيمة عشرين ألفا. سرية القردة قلت: والقردة ماء من مياه نجد، فإن قريشا بعد بدر خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام، فسلكوا طريق العراق، وكان في هذه العير أبو سفيان بن حرب ومعه فضة كثيرة هي عظم تجارتهم، والله أعلم. ثم كانت أحد. غزوة أحد قلت: كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور، وشذ من قال: سنة أربع، وقال ابن إسحاق: لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقيل: لسبع ليال، وقيل: لثمان؛ وقيل: لتسع، وقيل: في نصفه، وقال مالك: كانت بعد بدر بسنة، وفيه تجوز، لأن بدرا كانت في رمضان باتفاق، فهي بعدها بسنة وشهر لم يكمل، ولهذا قال مرة أخرى: كانت بعد الهجرة بإحدى وثلاثين شهرا. وكان السبب فيها أنه لما قتل الله من قتل من كفار قريش يوم بدر ورجع من بقي منهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيرهم، فكلموا أبا سفيان ومن له في العير مال في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الاستعانة بها على حرب النبي صلّى الله عليه وسلّم ففعلوا، وقيل: كان المال خمسين ألف دينار، فسلم إلى أهل العير رؤوس أموالهم، وعزلت الأرباح، وكانوا يربحون في تجارتهم الدينار دينارا، وجهزوا الجيش بذلك، وحركوا من أطاعهم من القبائل، وخرجوا بأحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن «1» لئلا يفروا، فخرج أبو سفيان- وكان قائدهم- بهند بنت عتبة، وكذلك سار أشرافهم خرجوا بنسائهم، وكان جبير بن مطعم أمر غلامه وحشيا الحبشي بالخروج مع الناس، وقال له: إن قتلت حمزة عم محمد صلّى الله عليه وسلّم بعمي طعمة بن عدي فأنت عتيق، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة، قاله ابن إسحاق، ووادي قناة خلف عينين بينه وبين أحد، فإن عينين في مقابلة أحد، فنزلوا هم أمام عينين مما يلي المدينة وفي غربيه لجهة بئر رومة؛ فلا يخالف ما سيأتي عن المطري، ونقل ابن عقبة أن أبا سفيان سار بجمعه حتى طلعوا من بئر الجماوين، ثم نزلوا ببطن الوادي الذي قبل أحد، وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، وتمنوا لقاء العدو، وأرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح، والله خير، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته «2» ، أو قال به فلول، فكرهته وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة، وأني مردف كبشا، قالوا: ما أولتها؟ قال: أولت البقر بقرا يكون فينا، وأولت الكبش كبش الكتيبة [3] ، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت، ونقل ابن إسحاق أيضا أن عبد الله بن أبي قال: يا رسول الله، أقم بالمدينة، ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم، فقال أولئك القوم: يا نبي الله كنا نتمنى هذا اليوم، وأبى كثير من الناس إلا الخروج، فلما صلّى الجمعة وانصرف دعا باللأمة فلبسها، ثم أذن في الناس بالخروج، فندم ذوو الرأي منهم، فقالوا: يا رسول الله امكث كما أمرتنا، فقال: ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل، فخرج بهم وهم ألف رجل، وكان المشركون ثلاثة آلاف. وقال المطري: إن نزول قريش يوم أحد بالمدينة كان يوم الجمعة، قال: وقال ابن إسحاق: يوم الأربعاء. قال المطري: فنزلوا برومة من وادي العقيق، وصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم الجمعة بالمدينة، ثم   (1) الظعينة: الراحلة يرتحل عليها. والهودج. (2) الظّبة: حدّ السيف والسنان والخنجر وما أشبهها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 خرج هو وأصحابه على الحرة الشرقية حرة واقم، وبات بالشيخين موضع بين المدينة وبين جبل أحد على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد، وغدا صبح يوم السبت إلى أحد، انتهى. ونقل الأقشهري أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا بثلاثة أرماح فعقد ثلاثة ألوية؛ فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وقيل: إلى سعد بن عبادة، ولواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب، وقيل: إلى مصعب بن عمير، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، ثم ركب فرسه، وتقلد القوس، ثم أخذ قناته بيده، وفي المسلمين مائة دارع، وخرج السعدان أمامه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة والناس على يمينه وشماله، فمضى حتى إذا كان بالشيخين- وهما أطمان- التفت فنظر إلى كتيبة حسنة لها زجل «1» ، فقال: ما هذه؟ قالوا: حلفاء ابن أبي من يهود، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا نستنصر بأهل الشرك، فلما بلغوا الشوط انخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس، انتهى. وفي الاكتفاء أن مخيريقا كان من أحبار يهود، فقال لهم يومئذ، لقد علمتم إن نصر محمد عليكم لحق، فتعللوا بسبتهم، فقال لهم: لا سبت لكم، وأخذ سيفه وعدته فلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقاتل معه حتى قتل بعد أن قال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء، وفيه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مخيريق خير يهود» انتهى. وروى الطبراني في الكبير والأوسط برجال ثقات عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج يوم أحد حتى إذا جاوز ثنية الوداع فإذا هو بكتيبة حسناء، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: عبد الله بن أبي في ستمائة من مواليه من اليهود من بني قينقاع، فقال: وقد أسلموا؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: مروهم فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين. قال الأقشهري عقب كلامه السابق: وعرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عرض ورد من رد في ذلك الموضع، يعني بالشيخين، وأذن بلال المغرب فصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه، وبات بذلك الموضع صلّى الله عليه وسلّم واستعمل على الحرس في تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين يطوفون بالعسكر، وأدلج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السحر وهو يرى المشركين ودليله أبو خيثمة الحارثي، فانتهى إلى موضع القنطرة، فحانت الصلاة فصلى بأصحابه الصبح صفوفا عليهم السلاح، قال: وقال مجاهد والكلبي والواقدي: غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منزل عائشة على رجليه إلى أحد، فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوّم القدح، وقال ابن إسحاق: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أحد حتى إذا كان بالشوط انخذل عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، وفي رواية بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني، وقال ابن عقبة: فبقي صلّى الله عليه وسلّم في سبعمائة،   (1) الزجل: صوت الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فلما رجع عبد الله بن أبي سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين- وهما بنو حارثة وبنو سلمة- وقال الأقشهري: فبقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سبعمائة، ومعه فرسه وفرس لأبي بردة بن نيار، وهذه رواية الواقدي، والذي رواه ابن عقبة- كما سيأتي- أنه لم يكن مع المسلمين فرس، وفي الاكتفاء بعد ذكر انخذال ابن أبي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضى حتى سلك في حرة بني حارثة، ثم قال: من رجل يخرج منا على القوم من كثب، أي من قرب، من طريق لا يمر بنا عليهم؟ فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي، وكان منافقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه قام فحثا في وجوههم التراب ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وذكر أنه أخذ حفنة من تراب، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، فمضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال الأقشهري: وجعل أحدا خلف ظهره، واستقبل المدينة، وجعل عينين الجبل عن يساره، وقال ابن عقبة: وصفّ المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة، وتعبوا للقتال، وعلى خيل المشركين- وهي مائة فرس- خالد بن الوليد، وليس مع المسلمين فرس، وصاحب لواء المشركين طلحة بن عثمان، وأمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا، وعهد إليهم ألايتركوا منازلهم. ونقل الأقشهري أنه جعلهم على جبل عينين. وفي الاكتفاء أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لأميرهم: انضح الخيل عنا لا يأتونا من خلفنا، إن كان لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك، وظاهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين درعين، وتعبأ قريش، وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائة فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وقد كان أبو عامر الراهب من الأوس خرج عن قومه إلى مكة مباعدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان يعد قريشا أن لو لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم هو في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق، وبذلك سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالا شديدا، ثم راضخهم بالحجارة، انتهى. وروى البزار- ورجاله ثقات- عن الزبير بن العوام قال: عرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفا يوم أحد فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام أبو دجانة فقال: يا رسول الله أنا آخذه بحقه، فأعطاه إياه، فخرج، فأتبعته فجعل لا يمر بشيء إلا أفراه «1» وهتكه، حتى أتى نسوة في سفح الجبل ومعهن هند وهي تقول:   (1) فرى الشيء: فتّته وشقّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق والدر في المخانق ... والمسك في المفارق «1» إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق «2» يعني تحرضهم بذلك، قال: فحمل عليها، فنادت بالصحراء فلم يجبها أحد، فانصرف عنها، فقلت له: كل سيفك رأيته فأعجبني غير أنك لم تقتل المرأة، قال: فإنها نادت فلم يجبها أحد، فكرهت أن أضرب بسيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امرأة لا ناصر لها. وفي الاكتفاء: ذكر الزبير رضي الله عنه أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عرجونا، فعاد في يده سيفا قائمه منه، فقاتل به؛ فكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل بعد يتوارث حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار. وروى البزار برجال الصحيح عن بريدة أن رجلا قال يوم أحد: اللهم إن كان محمد على الحق فاخسف به، قال: فخسف به. وقال ابن إسحاق: قتل أصحاب لواء المشركين وهم تسعة بأحد واحد بعد واحد. وقال غيره: أحد عشر آخرهم غلام لبني طلحة. وقال ابن عقبة: وكان صاحب لواء المسلمين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، فبارز طلحة بن عثمان من بني عبد الدار فقتله، وحمل المسلمون على المشركين حتى أجهضوهم «3» ، وحملت خيل المشركين فنضحهم الرماة بالنبل ثلاث مرات، فدخل المسلمون عسكر المشركين فانتهبوه، فرأى ذلك الرماة، فتركوا مكانهم، ودخلوا العسكر، فأبصر ذلك خالد ومن معه، فحملوا على المسلمين في الخيل، فمزقوهم، وصرخ صارخ: قتل محمد، أخراكم، فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزم طائفة منهم وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل، وثبت نبي الله حين انكشفوا عنه وهو يدعوهم في أخراهم، حتى رجع إليه بعضهم وهو عند المهراس في الشعب، وتوجه النبي صلّى الله عليه وسلّم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، فمر مصعدا «4» في الشعب ومعه طلحة والزبير، وقيل: معه طائفة من الأنصار منهم سهل بن بيضاء والحارث بن الصمة، واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان   (1) الفرق: الفاصل بين صفين من الشعر. المخنق: العنق، النحر. (2) الوامق: المحب الذي يحب الآخر لغير ريبة. (3) أجهضوهم: نحّوهم وأزالوهم. (4) صعّد في الشعب: نظر إلى أعلاه وأسفله يتأمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 والأنوف والفروج ويبقرون البطون، وهم يظنون أنهم أصابوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأشراف أصحابه، فقال أبو سفيان يفتخر بإلهه: «اعل هبل» فناداه عمر: الله أعلى وأجل، ورجع المشركون إلى أثقالهم. الرسول يقتل أبي بن خلف قال ابن إسحاق: كان أول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الهزيمة، وتحدث الناس بقتله، كعب بن مالك الأنصاري، قال: عرفت عينيه يزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأشار إلي أن أنصت، فلما عرف المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة ورهط من المسلمين، فلما أسند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منا؟ فقال: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة، يقول بعض القوم: فلما أخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها «1» عن فرسه مرارا، وكان أبي بن خلف يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العود فرسا أعلفه كل يوم فرقا «2» من ذرة أقتلك عليه، فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنا أقتلك إن شاء الله، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد، فقالوا: ذهب والله فؤادك، والله إن يك بأس، قال: إنه قد كان، قال بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني، فمات عدو الله بسرف وهم قافلون» إلى مكة، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قاله يومئذ: اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسحقا لأصحاب السعير. وفي الصحيح عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أي عباد الله، أخراكم، فرجعت أولاهم، فاجتلدت مع أخراهم، فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه فنادى: أي عباد الله، أبي أبي، فقالت: فو الله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم. ونقل الأقشهري أن أبا سفيان بن حرب قال يومئذ لبني عبد الدار: إنكم ضيعتم اللواء يوم بدر، فأصابنا ما رأيتم، فادفعوا اللواء إلينا نكفكم، وإنما أراد تحريضهم على القتال   (1) تدأدأ: تمايل. (2) الفرق: مكيال يساوي ثلاثة آصع. (3) قافلون: عائدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 والثبات، فغضبوا وأغلظوا له، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل: من يحمل لواء المشركين؟ قيل: عبد الدار، قال: نحن أحق بالوفاء منهم؟ أين مصعب بن عمير؟ فقال: ها أنا، قال: خذ اللواء، فأعطاه اللواء، وإن حمزة رضي الله عنه حمل على عثمان بن طلحة حامل لواء المشركين فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره «1» ، ثم إن أصحاب اللواء قتلوا واحدا بعد واحد، فانكشف المشركون منهزمين، ونساؤهم يدعون بالويل والثبور، وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح، ووقفوا يأخذون الغنائم، فلما رأى الرماة ذلك أقبل جماعة منهم وخلوا الجبل، فكر خالد بالخيل، فتبعه عكرمة، فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير، وانتقضت صفوف المسلمين، ونادى إبليس: قتل محمد، وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يزول، يرمي عن قوسه حتى صارت شظايا، ويرمي بالحجارة، وثبت معه عصابة من الصحابة أربعة عشر من المهاجرين فيهم أبو بكر وعمر وسبعة من الأنصار، اه. وروى النسائي عن جابر قال: لما ولّى الناس يوم أحد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في اثني عشر رجلا من الأنصار فيهم طلحة. ووقع عند الطبري من طريق السدي قال: تفرق الصحابة فدخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل، وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو الناس إلى الله، فرماه ابن قميئة بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله، فتراجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثون رجلا، فجعلوا يذبون عنه «2» ، فحمله منهم طلحة وسهل بن حنيف، فرمي طلحة بسهم فيبست يده، وقال بعض من فر إلى الجبل: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي يستأمن لنا من أبي سفيان، فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه، ثم ذكر قصة قتله، وقصد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجبل، فأراد رجل من أصحابه أن يرميه بسهم، فقال: أنا رسول الله، فلما سمعوا ذلك فرحوا به، واجتمعوا حوله، وتراجع الناس. وروى أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن يساره يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد، وقد أخرجه الشيخان، وفي رواية لمسلم: يعني جبريل ومكائيل، وقول مجاهد: «لم تقاتل الملائكة يومئذ ولا قبله ولا بعده، إلا يوم بدر» . قال البيهقي: أراد به أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به.   (1) المؤتزر: النصف الأسفل من البدن. والموضع الذي يلبس فيه الإزار. (2) ذبّ عنه: دافع عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وعن عروة بن الزبير: كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهده إليهم وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران: 152] فصدق الله وعده، وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء. وعند ابن سعد: ثبت معه صلّى الله عليه وسلّم سبعة من الأنصار وسبعة من قريش. وفي مسلم من حديث أنس: أفرد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش طلحة وسعد. وقال ابن إسحاق: حدثني حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعية النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وشج في وجهه، فجعل يسيل الدم على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: 128] الآية. وروى بن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لما صنع برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذكر ابن هشام في حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص أخا سعد هو الذي كسر رباعية النبي صلّى الله عليه وسلّم السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب هو الذي شجه في جبهته، وأن عبد الله بن قميئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن مالك بن سنان مص الدم من وجهه، ثم ازدرده «1» ، فقال له: لن تمسك النار. وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: رمى عبد الله بن قميئة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد فشج وجهه، وكسر رباعيته، وقال: خذها وأنا بن قميئة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يمسح الدم عن وجهه: ما لك أقمأك الله، فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة. وقال السهيلي: الذي كسر رباعية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتبة بن أبي وقاص أخو سعد، لم يولد من نسله ولد فبلغ الحلم إلا وهو أبخر أو أهتم، يعرف بذلك في عقبه. وروى ابن الجوزي عن محمد بن يوسف الفريابي قال: لقد بلغنى أن الذين كسروا رباعية النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يولد لهم صبي فنبتت له رباعية. وقيل: كان سبب الهزيمة أن ابن قميئة الليثي قتل مصعب بن عمير، وكان مصعب إذا   (1) ازدرد اللقمة: ابتلعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 لبس لأمته يشبه النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما قتله ظن أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجع إلى قريش وقال: قد قتلت محمدا، فازدادوا جرأة وصاح إبليس من العقبة: قتل محمد، فلما سمع المسلمون ذلك وهم متفرقون كانت الهزيمة، فلم يلو أحد على أحد «1» . والصواب أن السبب مخالفة الرماة للأمر، وهذا مؤكد له ومتمم، مع أن الأصل في ذلك- مع إرادة الله تعالى- ما اتفق ببدر من أخذ الفداء، فقد أخرج الترمذي والنسائي عن علي أن جبريل هبط فقال: خيّرهم في أسارى بدر القتل أو الفداء على أن يقتل منهم من قابل مثلهم، قالوا: الفداء ويقتل منا، وقال الترمذي: حسن، وذكر غيره له شواهد تقويه، ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، وقتلوا سبعين، وأسروا سبعين. وفيه أيضا أن المشركين أصابوا يوم أحد من المسلمين سبعين، ولفظه من حديث البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم جيشا من الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير، وقال: لا تبرحوا، فإن رأيتمونا ظهرنا عليهم «2» فلا تبرحوا «3» ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا، فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلا خلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله: عهد إلي النبي صلّى الله عليه وسلّم ألاتبرحوا، فأبوا، فلما أبوا صرف الله وجوههم، فأصيب سبعون قتيلا. ووقع عند مسلم من طريق ابن عباس عن عمر في قصة بدر قال: فلما كان يوم أحد قتل منهم سبعون وفروا، وكسرت رباعية النبي صلّى الله عليه وسلّم وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله تعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها [آل عمران: 165] الآية، والمراد بكسر الرباعية- وهي السن التي تلي الثنية والناب- أنها كسرت فذهب منها فلقة، ولم تقلع من أصلها، وقوله «وفروا» أي: بعضهم، أو أطلق ذلك باعتبار تفرقهم، والواقع أنهم صاروا ثلاث فرق: فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة، فما رجعوا حتى انقضى القتال، وهم قليل، وهم الذين نزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [آل عمران: 155] وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قتل، فصار غاية الواحد منهم أن يذب عن نفسه، أو يستمر على نصرته في القتال إلى أن يقتل، وهم أكثرهم، وفرقة بقيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم تراجع إليهم القسم الثاني شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حي، وما ورد من الاختلاف في العدد محمول على تعدد المواطن في القصة.   (1) لا يلو أحد على أحد: لا يقيم عليه ولا ينتظره. (2) ظهر على عدوه: غلبه. (3) برح مكانه: زال عنه وغادره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ووقع عند أبي يعلى في حديث عمر المتقدم: فلما كان عام أحد عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون. وفي الاكتفاء: أنه لما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللواء علي بن أبي طالب، فقاتل في رجال من المسلمين، ولما اشتد القتال جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدم الراية، فتقدم فقال: أنا أبو القصم، فناداه أبو سعد بن أبي طلحة: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟ قال: نعم، فبرزا بين الصفين، فاختلفا ضربتين: فضربه علي فصرعه، ثم انصرف ولم يجهز عليه «1» ، فقال له أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله. وقد قيل: إن سعد بن أبي وقاص هو الذي قتل أبا سعد هذا. وروى الطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس قال: دخل علي بن أبي طالب على فاطمة يوم أحد فقال: خذي هذا السيف غير ذميم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لئن كنت أحسنت القتال فقد أحسنه سهل بن حنيف وأبو دجانة بن خرشة. وذكر في الاكتفاء دخول الحلقتين من حلق المغفر في وجنته صلّى الله عليه وسلّم وأنه وقع في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر الراهب ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأخذ علي بيده، ورفعه طلحة حتى استوى قائما، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجهه، ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلّى الله عليه وسلّم فسقطت ثنيته، ثم نزع الآخرى فسقطت ثنيته الآخرى، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل ويقول: «ارم فداك أبي وأمي» ، وأصيب ويمئذ عين قتادة بن النعمان فردها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، فكانت أحسن عينيه، وأصيب فم عبد الرحمن بن عوف فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر أصابه بعضها في رجله فعرج، فلما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الشعب ومعه أولئك النفر من أصحابه، فبينا هم في الشعب إذ علت عالية من قريش: الجبل، فقال: اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل، ونهض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع، وقد كان بدّن «2» وظاهر بين درعين «3» ، فجلس تحته طلحة بن   (1) أجهز على الجريح: أسرع في قتله وتمم عليه. (2) بدن: سمن وضخم. (3) ظاهر بين الدرعين: طابق بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوجب طلحة» «1» وصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يومئذ الظهر قاعدا من الجراح التي أصابته، وصلّى المسلمون خلفه قعودا. وفي الصحيح من حديث البراء أن أبا سفيان- حين أراد الانصراف- قال: «لنا العزى ولا عزى لكم» فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم» . وفيه أيضا أن أبا سفيان أشرف يوم أحد فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: لا تجيبوه، قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فلما لم يجبه أحد قال: إن هؤلاء قتلوا، ولو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك. قال ابن إسحاق: فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له: هلم إلي يا عمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمر: ائته فانظر ما شأنه، فجاء، فقال له أبو سفيان: أنشدك بالله يا عمر أقتلنا محمدا، فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر، ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت، ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل من أصحابه: «قل: نعم، هو بيننا وبينكم موعد» ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم، فخرج علي فرآهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة، وفزع الناس لقتلاهم، وانتشروا يبتغونهم، وسيأتي خبرهم وتعيينهم إن شاء الله تعالى في الفصل السادس من الباب الخامس، وبكى المسلمون يومئذ على قتلاهم، فسر المنافقون، وظهر غش اليهود، وفارت المدينة بالنفاق. الحكم التي في قصة أحد قال العلماء: وكان في قصة أحد من الحكم والفوائد أشياء عظيمة. منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي؛ لما وقع من الرماة. ومنها: أن عادة الرسل أن تبتلى وتكون لها العاقبة.   (1) أوجب: استحق الجنة الثواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ومنها: إظهار أهل النفاق حتى عرف المسلمون أن لهم عدوا بين أظهرهم. ومنها: أن في تأخير النصر هضما للنفس. ومنها: أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فسبب لهم ذلك ليبلغوها. ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء، فساقها لهم بين يدي الرسول ليكون شهيدا عليهم. قال ابن إسحاق: وفي شأن أحد أنزل الله ستين آية من آل عمران. وروى ابن أبي حاتم من طريق المسور بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال: اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجدها: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ إلى قوله: أَمَنَةً نُعاساً [آل عمران: 121- 154] . أبو عزة الجمحي ومقتله ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الوقعة مرهبا لعدوه حتى انتهى إلى حمراء الأسد، فأخذ في وجهه ذلك أبا عزّة الجمحي، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد منّ عليه يوم بدر بغير فداء، وأخذ عليه ألايظاهر «1» عليه أحدا، وكان شاعرا، فقال له صفوان بن أمية: إنك امرؤ شاعر فأعنّا بلسانك، ولم يزل به حتى خرج معهم، فلما أخذه النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يا رسول الله أقلني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعت محمدا مرتين، اضرب عنقه يا زبير، فضرب عنقه. تحريم الخمر السنة الرابعة من الهجرة غزوة الرجيع غزوة بني النضير. وفي رواية أنه قال له: «إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت» فضرب عنقه. تحريم الخمر وفي هذه السنة أيضا حرمت الخمر، ويقال: في التي بعدها، وقال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان، واستدل بشيء فيه نظر. وتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في شعبان على الأصح، وقيل: في التي قبلها، وزينب بنت خزيمة أم المساكين في رمضان، فمكثت عنده شهرين أو ثلاثة، وقيل: ثمانية أشهر، وماتت، وولد الحسن بن علي في منتصف رمضان،   (1) لا يظاهر أحدا عليه: لا يساعد أحدا عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وعلقت أمه بالحسين بعد خمسين ليلة، وتزوج عثمان أم كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والله أعلم. السنة الرابعة من الهجرة السنة الرابعة: وكانت بئر معونة أولها في المحرّم. قلت: في الصحيح من رواية أنس قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان، فزعموا أنهم قد أسلموا، واستمدوه على قومهم، فأمدهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبعين من الأنصار، قال أنس: كنا نسميهم القراء، يحطبون بالنهار ويصلون بالليل، فانطلقوا بهم حتى بلغوا بئر معونة غدروا بهم وقتلوهم، فقنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان، وفي بعض الروايات ما يقتضي أن الذين استمدوا لم يظهروا الإسلام، بل كان بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد، وأنهم غير الذين قتلوا القراء لكنهم من قومهم، وهو الذي في كتب السير وقد بين ابن إسحاق في المغازي وكذلك موسى بن عقبة عن ابن شهاب أسماء الطائفتين، وأن أصحاب العهد هم بنو عامر ورأسهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر، المعروف بملاعب الأسنة، وأن الطائفة الآخرى من بني سليم، وأن عامر بن أخي ملاعب الأسنة أراد الغدر بأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فدعا بني عامر إلى قتالهم، فامتنعوا وقالوا: لا نخفر «1» ذمة أبي براء، فاستصرخ عليهم عصية وذكوان من بني سليم، فأطاعوه وقتلوهم، قالوا: ومات أبو براء بعد ذلك آسفا على ما صنع به عامر بن الطفيل، وقيل: أسلم أبو براء عند ذلك، وقاتل حتى قتل، وعاش عامر بن الطفيل حتى مات كافرا بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم أصابته غدة كغدة البعير «2» ، ولم يكن القراء المذكورون كلهم من الأنصار، بل كان بعضهم من المهاجرين مثل عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ونافع بن ورقاء الخزاعي وغيرهما، كما يؤخذ من الصحيح أيضا، والله أعلم. ثم كانت غزوة الرجيع في صفر. غزوة الرجيع قلت: ذكرها ابن إسحاق في الثالثة قبل بئر معونة، والرجيع: موضع ببلاد هذيل، والله أعلم. ثم كانت غزوة بني النضير .   (1) لا نخفر العهد: لا ننقض العهد ولا نغدر به. (2) غدة البعير: طاعون الإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 غزوة بني النضير قلت: ذكرها بعضهم في الثالثة قبل أحد، وقال الزهري: كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد، وذكرها ابن إسحاق في الرابعة بعد بئر معونة وأن سببها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاءهم يستعينهم في دية، وجلس إلى جنب جدار لهم، فخلا بعضهم ببعض، وأمروا عمرو بن جحاش أن يرقى فيلقي عليه صخرة، فأتاه الخبر من السماء، فقام مظهرا أن يقضي حاجة، وقال لأصحابه: لا تبرحوا، ورجع مسرعا إلى المدينة، فأمر بحربهم والمسير إليهم، وأمر بقطع النخل والتحريق، قال: وحاصرهم ست ليال، فسألوا أن يجلوا من أرضهم على أن لهم ما حملت الإبل، فصولحوا على ذلك، فاحتملوا إلى خيبر وإلى الشام؛ فكانت أموالهم له صلّى الله عليه وسلّم خاصة، ووافق ابن إسحاق على ذلك جل أهل المغازي، وأصح منه ما رواه ابن مردويه بسند صحيح أنهم أجمعوا على الغدر، فبعثوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمر بني النضير قبل أن يصل إليهم، فرجع وصبّحهم بالكتائب، فحصرهم يومه، ثم غدا على بني قريظة فحاصرهم، فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل «1» إلا السلاح، فاحتملوا أبواب بيوتهم؛ فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام. ورواه أيضا عبد بن حميد في تفسيره، وروى أيضا من طريق عكرمة أن غزوتهم كانت صبيحة قتل كعب بن الأشرف، وروى أن قريشا كتبوا لبني النضير يحثونهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأضمروا الغدر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ولما حرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخلهم قال حسان رضي الله عنه يعير قريشا من أبيات: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ولم يكن أسلم حينئذ: أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نواحيها السعير ستعلم أيّنا منها بنزه ... وتعلم أي أرضينا تضير أي: ستعلم أينا منها ببعد، وأي الأرضين أرضنا أو أرضكم يحصل لها الضير: أي الضرر؛ لأن بني النضير إذا خربت أضرت بما جاورها وهو أرض الأنصار لا أرض   (1) ما أقلت الإبل: ما نقلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 قريش، ونقل ابن سيد الناس عن أبي عمرو الشيباني أن الذي قال البيت المتقدم المنسوب لحسان هو أبو سفيان بن الحارث، وأنه لما قال: وعزّ على سراة بني لؤي بدل «هان» قال: ويروى «بالبويلة» بدل «بالبويرة» وأن المجيب له بالبيتين المتقدمين هو حسان، وما قدمناه هو رواية البخاري. قال ابن سيد الناس: وما ذكره الشيباني أشبه. قلت: كأنه استبعد أن يدعو أبو سفيان في حالة كفره على أرض بني النضير، وقد قدمنا وجهه، وكان أشراف بني النضير بنو الحقيق وحيي بن أخطب، فكانوا في من سار إلى خيبر، فدان «1» لهم أهلها، وأسلم منهم يامين بن عمير وأبو أسعد بن وهب، فأحرزا أموالهما. وروى ابن شبة عن الكلبي قال: لما ظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أموال بني النضير قال للأنصار: إن إخوانكم من المهاجرين ليست لهم أموال، فإن شئتم قسمت هذه الأموال بينهم وبينكم جميعا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم فقسمت هذه فيهم، قالوا: بل اقسم هذه فيهم واقسم لهم من أموالنا ما شئت، فنزلت: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] . وقال ابن إسحاق: قسمها صلّى الله عليه وسلّم في المهاجرين إلا سهل بن حنيف وأبو دجانة، ذكرا فقرا فأعطاهما منها، والله أعلم. ثم ولد الحسين بن علي. قلت: المشهور في ولادته أنها في الثالثة كما قدمناه، والله أعلم. ثم كانت بدر الموعود. قلت: هي بدر الثالثة لما تقدم، والله أعلم. ثم كان مقتل سلام بن مشكم أي أبي رافع، ويقال: عبد الله بن أبي الحقيق وهي سرية عبيد الله بن عتيك. ثم رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهوديين اللذين كان يحني أحدهما على الآخر. زواج أم سلمة هند بنت أبي أمية قلت: وفيها في شوال تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم سلمة هند- وقيل: رملة- بنت أبي   (1) دان لهم أهلها: خضع لهم أهلها وأطاعوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 أمية، وهي أول من هاجر مع زوجها أبي سلمة إلى الحبشة ثم هاجرت إلى المدينة، كذا ذكر بعض أهل السير، وقال أبو عمر: تزوجها صلّى الله عليه وسلّم سنة اثنتين بعد بدر في شوال. غزوة ذات الرقاع وفيها غزوة ذات الرقاع بعد بني النضير بشهرين عند ابن إسحاق، وقيل: في الخامسة، وذكرها البخاري بعد خيبر لما في الصحيح من حضور أبي موسى الأشعري فيها، وهو من أصحاب السفينة، ولا مانع من التعدد، والله أعلم. السنة الخامسة من الهجرة السنة الخامسة: ثم فك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلمان من الرق، ثم خرج إلى دومة الجندل، فرجع ولم يلق كيدا. ثم توفيت أم سعد بن عبادة. ثم كسف القمر في جمادى الآخرة؛ فصلى بهم كصلاة كسوف الشمس. قلت: وجعلت اليهود يضربون بالطساس، ويقولون: سحر القمر. وروى ابن حبان في صحيحه أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى لكسوف القمر، والله أعلم. ثم أصابت قريشا شدة، فبعث إليهم بفضة يتألفهم بها. ثم وفد بلال بن الحارث المزني، فكان أول وافد مسلم إلى المدينة. ثم قدم ضمام بن ثعلبة، ثم غزا المريسيع في شعبان، وفيها أنزلت آية التيمم بسبب عقد عائشة رضي الله عنها. قلت: وسيأتي أن الأشبه أن بني المصطلق هي هذه، والله أعلم. ثم غزوة الخندق . غزوة الخندق قلت: هكذا ذكره ابن إسحاق، وهو المعتمد، وقال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع، وصححه النووي في الروضة، مع قوله بأن بني قريظة في الخامسة، وهو عجيب؛ لما سيأتي من أنها كانت عقيب الخندق، سميت بذلك لحفر النبي صلّى الله عليه وسلّم الخندق بإشارة سلمان الفارسي، وتسمى بالأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين فيها على الحرب، وهم الذين سماهم الله تعالى الأحزاب، وأنزل الله في ذلك صدر سورة الأحزاب، وذلك أن حيي بن أخطب في نفر من بني النضير خرجوا من خيبر إلى مكة، فحرضوا قريشا على الحرب، وخرج كنانة بن أبي الحقيق يسعى في بني غطفان ويحضهم على قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن لهم نصف ثمر خيبر، فأجابه عيينة بن حصن الفزاري، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل إليهم طليحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بن حرب بقريش، فنزلوا مر الظهران، فجاءهم من أجابهم من بني سليم، وكانوا قد استمدوهم فصاروا في جمع عظيم- ذكر ابن إسحاق بأسانيد أن عدتهم عشرة آلاف، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وكان المسلمون ثلاثة آلاف- وقيل: كان المسلمون ألفا، والمشركون أربعة آلاف- وذكر موسى بن عقبة أن مدة الحصار كانت عشرين يوما، ونزلت قريش بمجتمع السيول من رومة بني الجرف وزغابة، وغطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب نقمى إلى جانب أحد. وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس: ونزل عيينة في غطفان ومن معهم من أهل نجد إلى جانب أحد بباب نعمان، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، والخندق بينه وبين القوم، وجعل النساء والذراري في الآطام. وقال ابن إسحاق: نزلت قريش بمجتمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة، ونزل عيينة في غطفان، وذكر ما تقدم من رواية ابن عباس المذكورة. وروى الطبراني ورجاله ثقات عن رافع بن خديج قال: لم يكن حصن أحصن من حصن بني حارثة، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم النساء والصبيان والذراري فيه، وقال: إن لم يكن أحد فالمعن بالسيف، فجاءهن رجل من بني ثعلبة بن سعد يقال له «نجدان» أحد بني جحاش على فرس حتى كان في أصل الحصن، ثم جعل يقول للنساء: أنزلن إلي خير لكن، فحركن السيف، فأبصره أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فابتدر الحصن «1» قوم فيهم رجل من بني حارثة يقال له: ظفر بن رافع، فقال: يا نجدان ابرز، فبرز إليه، فحمل عليه فقتله، وأخذ رأسه فذهب به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وروى البزار بإسناد ضعيف عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرج للخندق جعل نساءه وعمته صفية في أطم يقال له «فارع» وجعل معهم حسان بن ثابت، فرقي يهودي حتى أشرف على نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى عمته، فقالت صفية: يا حسان قم إليه حتى تقتله، قال: لا، والله ما ذاك فيّ، ولو كان في لخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت صفية: فاربط السيف على ذراعي، ثم تقدمت إليه حتى قتلته، وقطعت رأسه، فقالت له: خذ الرأس فارم به على اليهود، قال: ما ذاك فيّ، فأخذت هي الرأس فرمت به على اليهود، فقالت اليهود: قد علمنا أن لم يك يترك أهله خلوفا ليس معهم أحد، فتفرقوا وذهبوا. وروى أحمد بإسناد قوي عن عبد الله بن الزبير قال: كانت صفية في حصن حسان بن ثابت يوم الخندق، أي: وهو المسمى بفارع، فذكر الحديث في قتلها اليهودي وقولها لحسان: انزل فاسلبه «2» ، فقال: ما لي بسلبه حاجة.   (1) ابتدر الحصن قوم: أسرع إليه جماعة. (2) سلب القتيل: ما يؤخذ من القتيل من ثياب وسلاح ودابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وروى الطبراني هذه القصة عن صفية رضي الله عنها في غزوة أحد، وفي إسناده اثنان، قال الهيثمي: لم أعرفهما، وبقية إسناده ثقات، والمذكور في كتب السير أن هذه القصة في الخندق، وأن بعضهم كان بحصن بني حارثة وبعضهم بفارع، وأن صفية رضي الله عنها لما فرغت من قتل اليهودي ورجعت إلى الحصن قالت لحسان: انزل فاسلبه، فإني لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب. قال السهيلي: محمل هذا الحديث عند الناس أن حسان كان جبانا شديد الجبن، وقد دفع بعض العلماء هذا وأنكره، وقال: لو صح هذا لهجي حسان به، فإنه كان يهاجي الشعراء، وكانوا يردون عليه فما عيّره أحد بجبن، وإن صح فلعل حسان كان معتلا في ذلك اليوم بعلة منعته من شهود القتال، انتهى. وروى الطبراني برجال الصحيح عن عروة مرسلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أدخل نساءه يوم الأحزاب أطما من آطام المدينة، وكان حسان بن ثابت رجلا جبانا، فأدخله مع النساء، فأغلق الباب، وذكر القصة. وممن ذكر القصة في الخندق ابن إسحاق، ويؤيده أن اليهود إنما غدروا في الخندق، وذلك أن حيي بن أخطب توجه إلى بني قريظة، فلم يزل بهم حتى غدروا، وبلغ المسلمين غدرهم، فاشتد بهم البلاء والحصار حتى تكلم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف وأوس بن قيظي أخو بني حارثة وغيرهما من المنافقين بالنفاق، وأنزل الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 12] الآيات. قال ابن عباس: وكان الذين جاؤوهم من فوقهم بنو قريظة، ومن أسفل منهم قريش وغطفان، وكان حيي بن أخطب أتى كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، فأغلق باب حصنه دونه، وقال: لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا، فقال له: إني جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش وغطفان على قادتهما وسادتهما قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذلّ الدهر، وبجهام قد هراق «1» ماءه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء، فلم يزل حتى نقض كعب عهده وبرئ مما كان بينه وبين محمد صلّى الله عليه وسلّم فاشتد الخوف بالمسلمين. قال ابن إسحاق: ولم يقع بينهم حرب إلا مراماة بالنبل، ولكن كان عمرو بن عبد ود العامري اقتحم هو ونفر معهم خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، فبارزه علي فقتله، وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، فبارزه الزبير فقتله، ويقال: قتله علي،   (1) الجهام: السحاب لا ماء فيه. هراق: أفرغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ورجعت بقية الخيول منهزمة، وقيل: اقتتلوا ثلاثة أيامة قتالا شديدا حتى يحجز الليل بينهم، سيما في اليوم الثالث، حتى شغلهم القتال عن صلاة العصر والمغرب- وقيل: والظهر- وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [البقرة: 239] قال مالك: ولم يستشهد يوم الخندق إلا أربعة أو خمسة، وذكر غيره ستة، وهم: سعد بن معاذ كما سيأتي، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهيل، وهم من بني عبد الأشهل، وثعلبة بن غنمة، والطفيل بن النعمان، وهما من بني سلمة، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار. وكان من المناوشات بين الفريقين أن مات بعض بني عمرو بن عوف من أهل قباء، فاستأذن أقرباؤه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليدفنوه، فأذن لهم، فلما خرجوا إلى الصحراء لدفن ميتهم وافقوا ضرار بن الخطاب وجماعة من المشركين بعثهم أبو سفيان ليمتاروا له من قريظة على إبل له، فحملوا على بعضها قمحا، وعلى بعضها شعيرا، وعلى بعضها تمرا وتبنا للعلف، فلما رجعوا وبلغوا ساحة قباء وافقوا الذين كانوا يدفنون ميتهم، فناهضهم المسلمون وغلبوهم، فجرح ضرار جراحات، فهرب هو وأصحابه، وساق المسلمون الإبل بما عليها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان للمسلمين في ذلك سعة من النفقة. إسلام نعيم بن مسعود الأشجعي ثم أتى نعيم بن مسعود الأشجعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مسلما، ولم يعلم به قومه، فقال له: خذل عنا «1» ، فمضى إلى بني قريظة، وكان نديما لهم، فقال: قد عرفتم محبتي، قالوا: نعم، فقال: إن قريشا وغطفان ليست هذه بلادهم، وإنهم إن رأوا فرصة انتهزوها، وإلا رجعوا إلى بلادهم وتركوكم في البلاد مع محمد، ولا طاقة لكم به، قالوا: فما ترى؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا، فقبلوا رأيه، فتوجه إلى قريش فقال لهم: إن اليهود ندموا على الغدر بمحمد، فراسلوه في الرجوع إليه، فراسلهم بأنا لا نرضى حتى تبعثوا إلى قريش فتأخذوا منهم رهنا فأقتلهم، ثم جاء غطفان بنحو ذلك، فلما أصبح أبو سفيان بعث عكرمة بن أبي جهل إلى بني قريظة بأنا قد ضاق بنا المنزل، ولم نجد مرعى، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، فأجابوهم إن اليوم يوم السبت، ولا نعمل فيه شيئا، ولا بد لنا من الرهن منكم لئلا تغدروا بنا، فقالت قريش: هذا ما حذركم نعيم، فراسلوهم ثانيا: إنا لا نعطيكم رهنا، فإن شئتم أن تخرجوا فافعلوا، فقالت قريظة: هذا ما أخبرنا نعيم، ثم بعث الله عليهم الريح فما تركت لهم بناء إلا هدمته، ولا إناء إلا أكفته، لا تقر   (1) خذّلهم: احملهم على الفشل وترك القتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 لهم قرارا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، والله ما أصبحتم بدار مقام «1» ، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا من شدة الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، فتحملت قريش وإن الريح لتغلبهم على بعض أمتعتهم، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا «2» راجعين إلى بلادهم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا» . وفي الذيل على أخبار المدينة لابن النجار لصاحبه العراقي عن الكلبي أنه قال: إن الملائكة اتبعوا الأحزاب حتى بلغوا الروحاء يكرون في أدبارهم، فهربوا لا يلوون على شيء «3» ، والله أعلم. ثم كانت غزوة بني قريظة . غزوة بني قريظة قلت: قال أبو الربيع الكلاعي في الاكتفاء: ولما أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة ومعه المسلمون، فلما كانت الظهر أتاه جبريل- ويقولون فيما ذكر ابن عقبة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في المغتسل عندما جاءه جبريل، وهو يرجّل رأسه «4» ، قد رجّل أحد شقيه، فجاءه جبريل على فرس عليه اللأمة وأثر الغبار، حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له جبريل: غفر الله لك! قد وضعتم السلاح؟ قال: نعم، قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم، اه. وفي رواية أخرى أنه قال: انهض إليهم فلأضعضعنهم، فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار، وأصله في البخاري في باب مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأحزاب من رواية أنس، قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في سكة بني غنم من موكب جبريل. ورواه ابن سعد من طريق حميد بن هلال مطولا، لكن ليس فيه أنس، وأوله: كان بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين بني قريظة عهد، فلما جاءت الأحزاب نقضوه وظاهروهم، فلما هزم الله الأحزاب تحصنوا، فجاء جبريل فقال: يا رسول الله، انهض إلى بني قريظة، فقال: إن   (1) دار المقام: مكان الإقامة. (2) انشمروا راجعين: انكفأوا عائدين أدراجهم. (3) لا يلوون على شيء: لا يهتمون لشيء. (4) رجّل رأسه: سوّى شعره وزيّنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 في أصحابي جهدا، قال: انهض إليهم فلأضعضعنهم، قال: فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار. قلت: زقاقهم هو عند موضع الجنائز في شرقي المسجد، كما علم من ذكر منازلهم. وفي رواية: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخندق والمسلمون، ووضعوا السلاح، أتى جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتجرا بعمامة «1» من استبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: ما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بلالا فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وقدم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، وحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسا وعشرين ليلة في رواية، وفي أخرى خمس عشرة، وعند ابن سعد عشرة، حتى أجهدهم الحصار، وقذف في قلوبهم الرعب، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد وقال لهم: إما أن تؤمنوا بمحمد فو الله إنه نبي أو تقتلوا نساءكم وأبناءكم وتخرجوا مستقتلين ليس وراءكم ثقل «2» وتبيتوا المسلمين ليلة السبت، فقالوا: لا نؤمن ولا نستحل السبت، وأي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟ وأرسلوا إلى أبي لبابة بن عبد المنذر أخي بني عمرو بن عوف من الأوس، وكانوا حلفاءهم، فاستشاروه في النزول على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأشار إلى حلقه، يعني الذيح، ثم ندم، فتوجه إلى المسجد النبوي، وارتبط بسارية تعرف به اليوم حتى تاب الله عليه، واستشهد من المسلمين خلاد بن سويد من بني الحارث بن الخزرج، طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بقتلها بعد ذلك، ومات في الحصار أبو سنان بن محصن الأسدي أخو عكاشة بن محصن، فدفنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مقبرة بني قريظة التي تدافن فيها المسلمون لما سكنوها، ولم يصب غير هذين، فلما اشتد بهم الحصار أذعنوا «3» أن ينزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الأوس: قد فعلت في موالي الخزرج- أي: بني قينقاع- ما علمت، فال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد قد أصابه سهم في أكحله «4» يوم الخندق، فأتاه قومه، فحملوه على حمار، ثم أقبلوا معه يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا   (1) اعتجر بالعمامة: لفّها على رأسه وردّ طرفها على وجهه. (2) الثقل: الحمل الثقيل. ومتاع المسافر. (3) أذعنوا: انقادوا وأقروا. (4) الأكحل: وريد في وسط الذراع يفصد أو يحقن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قال: لقد آن لسعد ألاتأخذه في الله لومة لائم، فجاء سعد فرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحكم إليه، فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة: سموات، ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، ثم خرج صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق وفيهم عدو الله حيي بن أخطب؛ فإنه كان قد عاهد كعب بن أسد لئن رجعت قريش وغطفان لأدخلن معك في حصنك حتى يصيا بني ما أصابك، فلما رجعت الأحزاب دخل معه في حصنه، فكان ذلك، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل من أنبت منهم، ومن لم ينبت استحياه، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد كما سبق. وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال: أن سعد بن معاذ حكم أيضا أن يكون دارهم للمهاجرين دون الأنصار، فلامه الأنصار، فقال: أحببت أن يستغنوا عن دوركم. واختلف في عدتهم؛ فعند ابن إسحاق كانوا ستمائة، وعند ابن عائذ من مرسل قتادة كانوا سبعمائة، وقال السهيلي: المكثر يقول: إنهم ما بين الثمانمائة إلى السبعمائة، وفي النسائي وابن ماجه بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل، وكان الزبير بن باطا القرظي قد مر على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث، فجاءه ثابت لما قتل بنو قريظة وهو شيخ كبير، وذكّره بذلك، ثم ذهب فاستوهبه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوهبه إياه، فأتاه فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة؟ فاستوهب له امرأته وولده، فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم؟ فاستوهب له ماله، فأتاه فأعلمه، فقال: أي ثابت ما فعل فلان وفلان، وصار يذكر قومه ويصفهم، فقال له: قتلوا، قال: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فقدمه ثابت فضرب عنقه. ثم قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأسهم للخيل، فكان أول فيء وقعت فيه السهمان «1» ، وأخرج منه الخمس، واصطفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عنده حتى توفي، وكان يحرص عليها أن يتزوجها، فقالت: تتركني في ملكك فهو أحق علي وعليك، فتركها، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة، فكان كذلك، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعتقها وتزوجها، وإنها ماتت   (1) السّهمان: القرعة. والنصيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 في حياته مرجعه من حجة الوداع، وهذا الأثبت عند الواقدي، وبعضهم يقول: هي من بني النضير. ولما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فمات شهيدا. وفي البخاري ما يقتضي أن قريظة كانوا قد حاربوا قبل ذلك مع بني النضير، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم منّ عليهم، ولم أر التصريح بذلك، ولم يتعرض له الحافظ ابن حجر في شرحه، وقد قدمنا في بني النضير من رواية ابن مروديه ما يشهد له، ولفظ البخاري: عن ابن عمر قال: حاربت النضير وقريظة، فأجلى بني النضير، وأقر قريظة ومنّ عليهم، حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأموالهم وأولادهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فأمنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم: بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهودي بالمدينة، اه. ورواه أبو داود بنحوه، إلا أنه قال: حتى حاربت قريظة بعد ذلك، يعني بعد محاربتهم الأولى وتقريرهم، ويؤخذ من ذلك أن إجلاء من بقي من طوائف اليهود بالمدينة كان بعد قتل قريظة. وفي البخاري أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: انطلقوا إلى يهود، فخرجنا حتى إذا جئنا بيت المدراس «1» قال: أسلموا تسلموا، واعلموا أن الأرض لله ولرسوله وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن يجد منكم بما له شيئا فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله، وهو مقتض لأن ذلك كان بعد خيبر؛ لأن إسلام أبي هريرة بها في السنة السابعة، والله أعلم. ثم كانت سرية عبيد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلي ثم اللحياني بعرنة «2» ، وفيها سقط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن فرسه «3» فجحش، وفيها دفت دافة العرب» ، فنهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث. قلت: وتزوج زينب بنت جحش، وهي بنت عمته أميمة، وقيل: في الثالثة، وبسبها نزلت آية الحجاب، وأسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، والله أعلم. السنة السادسة من الهجرة السنة السادسة: في أولها أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثمامة بن أثال أسيرا، ثم كسفت الشمس ثانية بعد الكسوف الذي كان يوم مات ابنه إبراهيم.   (1) المدراس: موضع يدرس فيه كتاب الله، ومنه مدارس اليهود. (2) العرنة: موقف بعرفات. (3) جحش شقه: انخدش جلده. (4) دفت الدافة: جماعة من الناس تقبل من بلد إلى بلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 قلت: لعل في النسخة خللا لما سنذكره من ولادة إبراهيم في الثامنة ووفاته في العاشرة، فالكسوف في السادسة هو الكسوف الأول، وفيها نزل حكم الظهار، والله أعلم. وفيها قتل المشركون سرية محمد بن مسلمة ولم يفلت منهم غيره، وكانوا عشرة، ثم كانت سرية علي بن أبي طالب إلى فدك في مائة رجل، ثم كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، فظهر عليهم، فزوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تماضر بنت الإصبغ بن عمرو الكلبي وهو ملكهم، ثم أجدب الناس فاستسقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان في موضع المصلى فسقوا، ثم أرسل زيد بن حارثة في سرية، فسبى سلمة بن الأكوع في تلك السرية بنت مالك بن حذيفة، ثم كانت الحديبية، ثم أغار عيينة بن حصن الفزاري على لقاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستنقذها. قلت: قد قدمنا في حدود الحرم أن لقاحه صلّى الله عليه وسلّم كانت ترعى بالغابة وما حولها، فأغار عليها عيينة يوم ذي قرد، وهو الموضع الذي كان فيه القتال، سميت الغزوة به، وتسمى أيضا غزوة الغابة. قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة بني لحيان وكان في شعبان سنة ست، لم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة في خيل من غطفان على لقاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغابة، وفيها رجل من بني غفار وامرأته، فقتلوا الرجل، واحتملوا المرأة في اللقاح، وكان أول من نذر بهم سلمة بن الأكوع، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم، فأشرف في ناحية سلع، ثم صرخ: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم حتى لحقهم، فجعل يردهم بالنبل ويقول إذا رمى: خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضّع، فإذا وجهت الخيل نحوه هرب، ثم عارضهم، وهكذا، وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صياحه، فصرخ بالمدينة: الفزع، الفزع، فترامت الخيل إليه، فلما اجتمعوا أمّر عليهم سعد بن زيد الأشهلي، وقال: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس، فقتل أبو قتادة رضي الله عنه حبيب بن عيينة بن حصن وغشاه برده، وأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسلمين، فإذا حبيب مسجى ببرد أبي قتادة ولكنه قتيل، فظنوه هو، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس بأبي قتادة ولكنه قتيل له، وأدرك عكاشة بن محصن رضي الله عنه أوبارا وابنه عمر بن أوبار، وهما على بعير واحد، فانتظمهما بالرمح، فقتلهما جميعا، واستنقذوا بعض اللقاح، وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل بالخيل من ذي قرد، وتلاحق به الناس، وأقام عليه يوما وليلة، وقال له سلمة: يا رسول الله لو سرّحتني في مائة رجل لاستنقذت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بقية السرح وأخذت بأعناق القوم، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: إنهم ليقرون في غطفان، فقسم صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه في كل مائة جزورا، وأقاموا عليها، ثم رجع، وأفلتت امرأة الغفاري على ناقة من اللقاح حتى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته الخبر، وقالت: إني نذرت لله أن أنحرها إن أنجاني الله عليها، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: بئس ما جزيتيها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين، هذه رواية ابن إسحاق، وقد ذكر فيها قتل اثنين من المسلمين. وخرّج مسلم القصة عن سلمة مطولة ومختصرة، وخالف ما ذكره ابن إسحاق في مواضع: منها أنها كانت بعد انصرافه صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، وجعلها ابن إسحاق قبلها، ومنها: أن فيه أن اللقاح كانت ترعى بذي قرد، وكذا هو في البخاري، وقال ابن إسحاق: بالغابة، وكذا هو في حديث سلمة الطويل، ولهذا قال عياض: إن الأول غلط، ويمكن الجمع بأنها كانت ترعى تارة هنا وتارة هناك، ومنها: أنه قال فيه: خرجت قبل أن يؤذن بالأولى فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال: أخذت لقاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه، فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم وقد أخذوا بذي قرد يسقون من الماء، وفي رواية لمسلم ما يقتضي أن سلمة كان مع السرح «1» لما أغير عليه، وأنه قام على أكمة «2» وصاح: يا صباحاه، ثلاثا، وهذا يرجح أن السرح كان بالغابة، ويبعد كونه بذي قرد، ولو كان بذي قرد لما أمكنه لحوقهم، ومنها: أن فيه أنه استنقذ سرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجملته، ومنها: أنه قال فيه: فرجعنا إلى المدينة، فو الله ما لبثنا بها إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال القرطبي: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية، انتهى. وما في الصحيح من التاريخ لها أصح مما في السير، ويمكن الجمع بتكرر الواقعة، ويؤيده أن الحاكم ذكر في الإكليل أن الخروج إلى ذي قرد تكرر؛ ففي الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفي الثانية خرج إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم في ربيع الآخر سنة خمس، والتالية هي المختلف فيها، انتهى. والله أعلم. ثم كانت قصة العرنيين . قصة العرنيين قلت: وذلك أن ثمانية منهم، وفي رواية من عكل، قدموا فأسلموا واجتووا «3»   (1) السّرح: ما يغدى به ويراح. والماشية. (2) الأكمة: التل المرتفع. (3) اجتووا المدينة: لم يوافقهم هواءها واستوبؤه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 المدينة، وقالوا: إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، فبعثهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى لقاحه، وفي رواية «إبل الصدقة» وكأنهما كانا معا، فصح الإخبار بالبعث لكل منهما، ليشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلبهم كرز بن خالد الفهري في عشرين، فأتى بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وطرحهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، حتى ماتوا، هذا محصل ما في الصحيح، وذكر أهل السير أن اللقاح كانت ترعى ناحية الجماوات، وفي رواية بذي الجدر غربي جبل عير على ستة أميال من المدينة، وذكر ابن سعد عن ابن عقبة أن أمير الخيل يومئذ سعيد بن زيد أحد العشرة، فأدركوهم فربطوهم وأردفوهم على خيلهم، وردوا الإبل، ولم يفقدوا منها إلا لقحة واحدة من لقاحه صلّى الله عليه وسلّم تدعى الحنا، فسأل عنها، فقيل: نحروها، فلما دخلوا بهم المدينة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغابة. غزوة بني المصطلق (المريسيع) قال بعضهم: وذلك مرجعه من غزوة ذي قرد، فخرجوا بهم، نحوه، فلقوه بالزغابة، فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم وصلبوا هناك، والله أعلم. ثم غزا بني المصطلق، ومر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في انصرافه على المريسيع. وفيها كانت قصة الإفك. قلت: قد قدم غزوة المريسيع في السنة الخامسة، وذكر أن فيها أنزلت آية التيمم، وقد اقتضى كلامه أن المريسيع وقعت مرتين: في الأولى التيمم، وفي الثانية الإفك، وفيه جمع بين ما ذكره كثير من أهل السير من أن المريسيع سنة خمس وبين ما نقله البخاري عن ابن إسحاق أنها سنة ست، لكن قد ثبت في الصحيح أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك؛ فلو كانت المريسيع التي هي غزاة بني المصطلق سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطا؛ لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة، وكانت سنة خمس، وقيل: أربع؛ فالأشبه أن بني المصطلق والمريسيع واحد، كلاهما في سنة خمس. وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد أن التيمم كان في غزاة بني المصطلق، وجزم به في الاستذكار، وسبقه إليه ابن سعد وابن حبان. وفي البخاري «غزوة بني المصطلق» ، وهي غزوة المريسيع» وفي الطبراني حديث: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق، وبنو المصطلق بطن من خزاعة، وكان رئيسهم الحارث بن أبي ضرار، وكان معه عليه الصلاة والسلام بشر كثير، خرج بهم إليهم لما بلغه أنهم يجمعون له، وكان معه ثلاثون فرسا وأم سلمة وعائشة، فهزمهم وأسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 من الكفار جمعا عظيما، وتزوج جويرية بنت الحارث رئيسهم، فأعتق الناس ما بأيديهم من الأسرى لمكانها، وفي هذه الغزاة قال ابن أبي: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقين: 8] وقال: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقين: 7] وذلك أن ابن أبي خرج في عصابة من المنافقين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما رأوا أن الله قد نصر رسوله وأصحابه أظهروا قولا سيئا، واقتتل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فظهر عليه المهاجري، فقال ذلك ابن أبي لقومه، فأخبر زيد بن أرقم بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فأجهد ابن أبي يمينه ما فعل، فحزن زيد بن أرقم لذلك، فأنزل الله تصديقه، واستأذن عبد الله بن عبد الله بن أبي النبي صلّى الله عليه وسلّم في قتل أبيه فيما رواه عروة بن الزبير، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقتل أباك، ولما كان بينهم وبين المدينة يوم تعجل عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة حتى جاء أبوه فلقال له ابنه: لا والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعلم اليوم من الأعز ومن الأذل، فقال له: أنت من بين الناس؟ فقال: نعم، أنا من بين الناس، فانصرف عبد الله حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاشتكى إليه ما صنع ابنه، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ابنه «أن خلّ عنه» فدخل المدينة، رواه ابن شبة. وفي هذه السنة فرض الحج على الصحيح، كما سيأتي، والله أعلم. السنة السابعة من الهجرة السنة السابعة: فيها قصة أبي سفيان مع هرقل في الشام، وفي أولها كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الملوك وبعث إليهم رسله، ثم كانت خيبر. قلت: واستصفى صفية بنت حيي بن أخطب من المغنم، فأعتقها وتزوجها، وجاءته مارية القبطية هدية وبغلته دلدل، وأسلم أبو هريرة، وسمته صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت الحارث زوجة سلام بن مشكم، ثم صار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى وادي القرى، فحاصر أهله ليالي وأصاب غلامه مدعم سهم غرب «1» فقتله، وفي رجوعه إلى المدينة كان النوم عن صلاة الصبح، وروى بعضهم أنه كان في الرجوع من غزوة تبوك، وقال الواقدي: وفي المحرم منها جاء رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم- وكان حليفا في بني زريق، وكان ساحرا- فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثة دنانير، وذكر قصة سحره، وفي رواية عن   (1) سهم غرب: لا يدرى راميه، فضاع غريمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الزهري بإسناد صحيح أن المدة التي مكث النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها في السحر سنة، وفي رواية أربعين ليلة، والله أعلم. وفيها جاءته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وتزوج بها، ثم كانت عمرة القضية وتزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية. السنة الثامنة من الهجرة السنة الثامنة: فيها كانت مؤتة، ثم كان الفتح، ثم غزوة هوازن، ثم غزوة الطائف، وأمر على مكة عتاب بن أسيد، وأسلم مالك بن عوف النضري، وتألف المؤلفة من غنائم هوازن، ثم انصرف إلى المدينة في آخر ذي القعدة. قلت: وفي هذه السنة ولد ابنه إبراهيم من مارية القبطية، وحلق رأسه يوم سابعه، وتصدق بزنة شعره فضة، وعقّ عنه بكبشين «1» ، ومات في عاشر ربيع الأول من السنة العاشرة وسنه عام ونصف، وقيل: عام وثلث، وفي الثامنة أيضا توفيت ابنته زينب، وهي أكبر أولاده، وكانت زوج أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس الذي أثنى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم في صهارته، تزوجها قبل البعثة، ولما قدم عليها مسلما ردها النبي صلّى الله عليه وسلم بالنكاح الأول على الصحيح لقدومه عقب تحريم المسلمات على المشركين، وذلك بعد صلح الحديبية، والله أعلم. السنة التاسعة من الهجرة السنة التاسعة: فيها هجر نساءه شهرا، ثم تتابعت الوفود، ثم فرض الحج. قلت: قد اختلف في وقته، فقيل: قبل الهجرة، وهو غريب، والمشهور بعدها، فقيل: سنة خمس، وجزم به الرافعي في موضع، وقيل: ست، وصححه الرافعي في موضع آخر، وكذا النووي، وقيل: سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع، وصححه عياض، والله أعلم. وأمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحج أبا بكر رضي الله عنه، ثم نزلت براءة، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لينبذ إلى الناس عهدهم. قلت: وفيها في شهر رجب كانت غزوة تبوك، وهي آخر غزواته صلّى الله عليه وسلّم على ما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم. السنة العاشرة من الهجرة السنة العاشرة: في أولها قدم عدي بن حاتم بوفد طيء، ثم قدم وفد بني حنيفة، ثم   (1) العقيقة: الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سبوعه عند حلق شعره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وفد غسان، ثم وفد نجران الذين كانت فيهم قصة المباهلة، ثم جاء جبريل يعلم الناس دينهم، ثم غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبوكا. قلت: وهو مخالف لما قدمناه عن ابن إسحاق من كونها في التاسعة، والله أعلم. ثم أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس بالحج في حجة الوداع ورجع، ثم مرض في صفر لعشر بقين منه، وتوفي صلّى الله عليه وسلّم لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الإثنين، انتهى ما ذكره رزين عن أبي حاتم. قلت: وشهر ربيع هذا من الحادية عشرة، وكان ابتداء مرضه في بيت ميمونة، وقيل: زينب بنت جحش، وقيل: ريحانة، وذكر الخطابي أن ابتداءه يوم الإثنين، وقيل: السبت، وقيل: الأربعاء، وحكى في الروضة قولين في مدته، فقيل: أربعة عشر، وهو الذي صدّر به، وقيل: ثلاثة عشر، وعليه الأكثر، وقيل: عشرة، وبه جزم سليمان التيمي، ومقتضى ما تقدم أن المدة تزيد على عشرين يوما، ولم أر من صرح به، ولا خلاف في أن الوفاة كانت يوم الإثنين، وكونه من ربيع الأول، كاد يكون إجماعا، لكن في حديث ابن مسعود عند البزار: في حادي عشر رمضان، وكونها في ثاني عشر ربيع الأول هو ما عليه الجمهور، وذهب جماعة إلى أنها في أوله، ورواه يحيى عن ابن شهاب، وقال: حين زاغت الشمس، وعن أسماء بنت أبي بكر أنه توفي للنصف من ربيع الأول، وقيل: ثانيه، ورجحه السهيلي، واستشكل قول الجمهور بأنهم اتفقوا على أن الوقفة في حجة الوداع كانت الجمعة، فأول ذي الحجة الخميس، فمهما فرضت الشهور الثلاثة توامّ أو نواقص أو بعضها، لم يصح كون الوفاة يوم الإثنين مع كونه ثاني عشر ربيع الأول، وأجاب البارزي باحتمال وقوع الثلاثة كوامل، واختلاف أهل مكة والمدينة في هلال ذي الحجة: فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها، فكان أول ذي الحجة الجمعة، وهو وما بعده كوامل، فأول ربيع الأول الخميس، وثاني عشرة الإثنين، ولا يخفى بعد هذا الجواب، وقد جزم سليمان التيمي أحد الثقات بأن بدء مرضه صلّى الله عليه وسلّم كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر، ومات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، ومنه يعلم أن صفر كان ناقصا، ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والحرم ناقصين؛ فيلزم عليه نقص ثلاثة أشهر متوالية، وأما على قول من قال: «أول ربيع الأول» ؛ فيكون اثنان ناقصين وواحد كاملا، وكذا على قول من قال: «للنصف منه» . وقال البدر ابن جماعة: يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت: أي بأيامها، فيكون موته في اليوم الثالث عشر، وتفرض الشهور كوامل؛ فيصح قول الجمهور، ويعكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 عليه ما فيه من مخالفة أهل اللسان في قولهم «لاثنتي عشرة» فإنهم لا يفهمون منها إلا مضي الليالي، وأن ما أرخ بذلك يكون واقعا في الثاني عشر. قال الحافظ ابن حجر: فالمعتمد قول أبي مخنف أنه في ثاني ربيع الأول، وكأن سبب غلط غيره تغيير ذلك إلى الثاني عشر، وتبع بعضهم بعضا في الوهم. وغسله صلّى الله عليه وسلّم علي بوصيته، والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران يصبون الماء، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة- وسحول: بلدة باليمن- وعن جعفر بن محمد عن أبيه: كفن في ثوبين صحاريين مما يصنع بعمان من كرسف «1» وبرد حبرة، وفي الإكليل ورواه يحيى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كفن في سبعة أثواب، وصلّي عليه في حجرته بغير إمام؛ ونقل الأقشهري عن الحسين بن محمد الصدفي أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى عليه في وسط الروضة من مسجده، ثم حمل إلى بيته ودفن فيه. قلت: هذا إنما هو معروف في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي مستدرك الحاكم ومسند البزار بسند ضعيف أنه صلّى الله عليه وسلّم أوصى أن يصلوا عليه أرسالا بغير إمام، ودفن صلّى الله عليه وسلّم ليلة الأربعاء، وقيل: يومها، وقيل: يوم الثلاثاء بعد أن عرف الموت في أظفاره، وقال قائلون: ندفنه بمسجده، وآخرون بالبقيع، ثم اتفقوا على دفنه ببيته، فحمل بالفراش، وحفر له في موضع الفراش، وروى يحيى عن ابن أبي مليكة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ما هلك نبي إلا دفن حيث تقبض روحه، وأوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه بإخراج المشركين من جزيرة العرب كما في الصحيح من حديث ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك، ولفظه: وأمرهم بثلاث، فقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيرهم» والثالثة إما سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها. قال سفيان: هذا- أي قوله والثالثة إلى آخره- من قول سليمان: أي شيخ سفيان، قال الداودي: الثالثة هي الوصية بالقرآن، وقال المهلب: بل هي تجهيز جيش أسامة، وقواه ابن بطال بأن الصحابة لما اختلفوا على أبي بكر في تنفيذ جيش أسامة، قال لهم أبو بكر: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد بذلك عند موته. وقال عياض: يحتمل أن يكون قوله: «لا تتخذوا قبري وثنا» فإنها ثبتت في الموطأ مقرونة بالأمر بإخراج اليهود، ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» .   (1) الكرسف: القطن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 والذي أجلى المشركين من جزيرة العرب هو عمر رضي الله عنه؛ ففي الصحيح من حديث ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما ظهر على أهل خيبر أراد أن يخرج اليهود منها، وكانت الأرض لما ظهر عليها لله وللرسول وللمؤمنين، فسأل اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نقركم على ذلك ما شئنا» فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء. وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر: لما فدع «1» أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيبا، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عامل يهود خيبر على أموالهم وقال: نقركم على ما أقركم الله، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك، فعدي عليه من الليل، ففدعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدو غيرهم، هم عدونا وتهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم، فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين، أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلّى الله عليه وسلّم؟ وعاملنا على الأموال، وشرط ذلك لنا، فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة» فقال: كانت هذه هزيلة من أبي القاسم صلّى الله عليه وسلّم فقال: كذبت يا عدو الله، فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك. وظاهر هذا أن عمر رضي الله عنه إنما استند في إجلائهم لهذه القصة. وروى ابن زبالة عن مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبقى دينان في جزيرة العرب» . قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى أتاه الثلج «2» واليقين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يبقى دينان في جزيرة العرب» فأجلى يهود خيبر، قال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك. وروى البيهقي من حديث عمر مرفوعا: «لئن عشت إلى قابل لآخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» وخرجه مسلم بدون «لئن عشت» وفي مسند أحمد والبيهقي عن أبي عبيدة قال: كان آخر ما تكلم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» الحديث. وروى أحمد بسند جيد عن عائشة قالت: آخر ما عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن قال: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» .   (1) الفدع: عوج في المفاصل كأنها قد فارقت مواضعها؛ وأكثر ما يكون في رسغ اليد أو القدم. (2) أتاه الثلج: الرضى والاطمئنان واليقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قال الجويني والقاضي حسين من أصحابنا: الجزيرة هي الحجاز، والمشهور أن الحجاز بعض الجزيرة. ولما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتفرغ أبو بكر رضي الله عنه لإخراجهم، فأجلاهم عمر رضي الله عنه وهم زهاء أربعين ألفا، ولم ينقل أن أحدا من الخلفاء أجلاهم من اليمن مع أنها من الجزيرة؛ فدل على أن المراد الحجاز فقط. وحكى أن بعض اليهود أظهر كتابا، وادعى أنه كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة الصحابة؛ فعرض على أبي بكر الخطيب البغدادي فقال: هذا مزور؛ لأن فيه شهادة معاوية، وهو أسلم عام الفتح، فلم يحضر ما جرى، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات في بني قريظة بسهم أصابه في الخندق، وذلك قبل خيبر بسنتين، وذلك من فوائد علم التاريخ، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الباب الرابع فيما يتعلق بأمور مسجدها الأعظم النبوي ، والحجرات المنيفات، وما كان مطيفا به من الدور والبلاط، وسوق المدينة، ومنازل المهاجرين، واتخاذ السور، وفيه سبعة وثلاثون فصلا. الفصل الأول في أخذه صلّى الله عليه وسلّم لموضع مسجده الشريف، وكيفية بنائه تقدم أن ناقته صلّى الله عليه وسلّم لما بركت عند باب المسجد قال صلّى الله عليه وسلّم: «هذا المنزل إن شاء الله» وفي كتاب يحيى عن الزهري أنها بركت عند مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين، وكان مربدا «1» لغلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بركت راحلته: هذا إن شاء الله المنزل، وقال: اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين، قاله أربع مرات. وروى رزين نحوه عن أنس، ولفظه: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا المنزل إن شاء الله» ثم أخذ في النزول فقال: «ربّ أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين» ولم يقل قاله أربعا. وفي كتاب يحيى عن الزهري أيضا أن المربد كان لسهل وسهيل، وأنهما كانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال حين بركت به راحلته: «هذا المنزل إن شاء الله» ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا. قال يحيى تبعا لابن زبالة: وقال بعضهم: كان لغلامين يتيمين لأبي أيوب هما سهل وسهيل ابنا عمرو، فطلب المربد من أبي أيوب، فقال أبو أيوب: يا رسول الله المربد ليتيمين، وأنا أرضيهما، فأرضاهما، فأعطاه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاتخذه مسجدا. وعند ابن إسحاق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لمن هذا؟ يعني المربد، فقال له معاذ بن عفراء: هو لسهل وسهيل ابني عمرو يتيمان لي، وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدا، فأمر به أن يا بني. ويؤيده أنه وقع في مرسل ابن سيرين عند أبي عبيد في الغريب أنهما كانا في حجر معاذ بن عفراء. والذي في صحيح البخاري أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة، كذا هو في رواية الجميع إلا أبا ذر، ففي روايته سعد بإسقاط الألف، ورواية الجماعة هي الوجه؛ إذ كان أسعد من السابقين إلى الإسلام، وهو المكنى بأبي أمامة، وأما أخوه سعد فتأخر إسلامه.   (1) المربد: موقف الإبل ومحبسها. والمحبس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وقد يجمع باشتراك من ذكر في كونهما كانا في حجورهم، أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكر واحدا بعد واحد، سيما وقد روى ابن زبالة عن ابن أبي فديك قال: سمعت بعض أهل العلم يقولون: إن أسعدا توفي قبل أن يا بني المسجد، فابتاعه النبي صلّى الله عليه وسلّم من ولي سهل وسهيل. وروى ابن زبالة في خبر: كان مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم لسهل وسهيل ابني أبي عمرو من بني غنم، فأعطياه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبناه مسجدا. وفي الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى ملأ بني النجار بسبب موضع المسجد، فقال: يا بني النجار، ثامنوني «1» بحائطكم هذا، فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. وعند الإسماعيلي «إلا من الله» وهو ظاهر في أنهم لم يأخذوا له ثمنا. وفي رواية في باب الهجرة من الصحيح بعد ذكر تأسيس مسجد قباء: ثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزل، ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا. ووقع في رواية ابن عيينة: فكلم عمهما- أي الذي كانا في حجره- أن يبتاعه منهما، فطلبه منهما فقالا: ما تصنع به؟ فلم يجد بدا من أن يصدقهما، فأخبرهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراده، فقالا: نحن نعطيه إياه، فأعطياه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبناه، أخرجه الجندي. وطريق الجمع بين ذلك- كما أشار إليه الحافظ ابن حجر- أنهم لما قالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله سأل عن من يختص بملكه منهم، فعينوا له الغلامين، فابتاعه منهما أو من وليهما أن كانا غير بالغين. وحينئذ فيحتمل أن الذين قالوا: «لا نطلب ثمنه إلا إلى الله» تحملوا عنه للغلامين بالثمن، فقد نقل ابن عقبة أن أسعد عوّض الغلامين عنه نخلا له في بني بياضة. وتقدم أن أبا أيوب قال: هو ليتيمين لي، وأنا أرضيهما، فأرضاهما، وكذلك معاذ بن عفراء، فيكون ذلك بعد الشراء. ويحتمل أن كلا من أسعد وأبي أيوب وابن عفراء أرضى اليتيمين بشيء، فنسب ذلك لكل منهم. وقد روي أن اليتيمين امتنعا من قبول عوض، فيحمل ذلك على بدء الأمر، لكن يشكل على هذا ما نقل عن التاريخ الكبير لابن سعد أن الواقدي قال: إنه صلّى الله عليه وسلّم اشتراه من ابني عفراء بعشرة دنانير ذهبا، دفعها أبو بكر الصديق، وقد يقال: إن الشراء وقع من ابني عفراء لأنهما كانا وليين لليتيمين، ورغب أبو بكر في   (1) ثامنوني بحائطكم: ساوموني بحديقتكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الخير كما رغب فيه أسعد، وأبو أمامة ومعاذ بن عفراء، فدفع لهم أبو بكر العشرة، ودفع كل من أولئك ما تقدم، ولم يقبله صلّى الله عليه وسلّم بلا ثمن أولا لكونه لليتيمين، لكن ابن سيد الناس نقل عن البلاذري أنه قال عقب كلامه الآتي: فعرض- يعني أسعد- على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذها ويغرم لليتيمين ثمنها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، وابتاعها منه بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر، انتهى؛ فيحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم أخذ أولا بعض المربد، ثم أخذ بعضا آخر؛ لما سيأتي من أنه زاد فيه مرة أخرى؛ فليست القصة متحدة. ورأيت بخط الأقشهري في كلام نقله عن أبي جعفر الداودي عن عبد الله بن نافع صاحب مالك أن المسجد كان مربدا لابني عفراء. قلت: يحتمل نسبته إليهما لولايتهما على اليتيمين، أو أن لليتيمين أما تسمى عفراء، وأما ابنا عفراء المشهوران فهما معاذ ومعوذ ابنا الحارث، والذي في الصحيح من تسمية الغلامين سهل وسهيل أصح، والله أعلم. وفي كتاب يحيى ما يقتضي أن أسعد بن زرارة كان قد بنى بهذا المربد مسجدا قبل مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه قال: حدثنا بكر ثنا محمد بن عمر ثنا معاذ بن محمد عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال: سمعت أم سعد بنت سعد بن الربيع تقول: أخبرتني النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت أنها رأت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بالناس الصلوات الخمس، ويجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل ابني رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، قالت: فأنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قدم صلّى بهم في ذلك المسجد وبناه، فهو مسجده اليوم. ونقل ابن سيد الناس عن ابن إسحاق أن الناقة بركت على باب مسجده صلّى الله عليه وسلّم وهو يومئذ ليتيمين من بني مالك بن النجار في حجر معاذ بن عفراء سهل وسهيل ابني عمرو، ثم قال: وذكر أحمد بن يحيى البلاذري، قال: فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند أبي أيوب، ووهبت له الأنصار كل فضل كان في خططها، وقالوا: يا نبي الله إن شئت فخذ منازلنا، فقال لهم خيرا، قالوا: وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة يجمّع بمن يليه في مسجد له، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فيه، ثم إنه سأل أسعد أن يبيعه أرضا متصلة بذلك المسجد كانت في يديه ليتيمين في حجره يقال لهما سهل وسهيل ابنا رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم، كذا نسبهما البلاذري، وهو يخالف ما سبق عن ابن إسحاق وغيره، والأول أشهر، انتهى، وتشهيره للأول- وهو كون الغلامين ابني عمرو- تقدم ما يقتضيه، لكن تقدم أيضا ما يقتضي الثاني، وهو الأرجح فقدم صرح ابن حزم في الجمهرة، ورواه ابن زبالة عن ابن شهاب، وكذا ذكره ابن عبد البر. وذكر السهيلي فيما نقله عنه الذهبي ما يحصل به الجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ويرفع الخلاف إلا أن فيه بعض مخالفة لما تقدم، فقال: سهل بن عمرو الأنصاري النجاري أخو سهيل صاحب المربد، وكانا في حجر أسعد بن زرارة، ينسبان إلى جدهما، وهما ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن النجار، انتهى. فعلى هذا يكون سقط من الرواية المتقدمة ابن عمرو بين رافع وأبي عمرو، وتصحف عبيد بعائذ، والله أعلم. وقال المجد: ذكر البيهقي المسجد فقال: كان جدارا مجدرا ليس عليه سقف، وقبلته إلى القدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، وكان يصلي بأصحابه فيه، ويجمّع بهم فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنخل التي في الحديقة وبالغرقد أن يقطع، وكان فيه قبور جاهلية، فامر بها فبنشت، وأمر بالعظام أن تغيّب، وكان في المربد ماء مسحل فسيره حتى ذهب- والمسحل: ممشى ماء المطر، انتهى. ولم أره في المعرفة للبيهقي، ولا في السنن الكبير، ولا في الدلائل، والمعروف أنه كان مربدا للتمر: أي يجفّف فيه التمر، وكأنه سماه حديقة لاشتماله على نخل؛ ففي الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «لما أخذه كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، فصفوا النخل قبلة له، وجعلوا عضادتيه حجارة» وقد قدمنا الكلام على قطع هذا النخل في أحكام الحرم، وكأن معنى صف النخل قبلة له جعلها سواري في جهة القبلة ليسقف عليها كما في الصحيح «كان المسجد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل» وسيأتي فيما أسند يحيى أنه كان في جوف الأرض- أي أرض المربد- قبور جاهلية، فامر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقبور فنبشت، فرمى بعظامها، فأمر بها فغيبت، وكان في المربد ماء مستنجل «1» فسيره حتى ذهب» ووقع في رواية عطاف بن خالد عند ابن عائذ أنه صلّى الله عليه وسلّم «صلى فيه وهو عريش اثني عشر يوما، ثم بناه وسقفه» وسيأتي ما يشهد له. وأسند ابن زبالة عن أنس قال: بناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- يعني المسجد- أول ما بناه بالجريد، قال: وإنما بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين. قلت: وهو واه أو مؤول، والمعروف خلافه. وأسند أيضا عن شهر بن حوشب قال: لما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحجر بناء المسجد قيل له: عريش كعريش أخيك موسى سبع أذرع، وأسنده يحيى من غير طريقه عن شهر أيضا بلفظ: لما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يا بني المسجد، وأورده رزين بلفظ: لما أراد   (1) استنجل الماء: صفّى ماء النّزّ من أرضه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بناء المسجد قال: قيل لي: عريش كعريش أخيك موسى سبعة أذرع، ثم الأمر أعجل من ذلك. وأسند يحيى عن الحسن قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال: ابنوا لي مسجدا عريشا كعريش موسى، ابنوه لنا من لبن. وأورده رزين بلفظ: لما أخذ في بناء المسجد قال: ابنوا لي عريشا كعريش موسى، ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك، قيل: وما ظلة موسى؟ قال: كان إذا قام فيه أصاب رأسه السقف، وعمل فيه بنفسه صلّى الله عليه وسلّم ترغيبا لهم؛ ففي الرواية المتقدمة في الصحيح عقب قوله: «حتى ابتاعه منهما» وطفق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل معهم اللبن في ثيابه، ويقول وهو ينقل اللبن: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربّنا وأطهر ويقول: اللهم إنّ الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار والمهاجره قال ابن شهاب: فتمثل صلّى الله عليه وسلّم بشعر رجل من المسلمين، ولم يبلغنا في الأحاديث أنه تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات، زاد ابن عائذ في آخره: التي كان يرتجزهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد. والحمال مخفّف بمهملة مكسورة: أي هذا المحمول من اللبن أبر عند الله من حمال خيبر، أي ذات التمر والزبيب. وقوله «ربّنا» أي يا ربنا. وأسند يحيى عن الزهري في معنى قوله «هذا الحمال لا حمال خيبر» قال: كانت يهود إذا صرمت نخلها جاءتهم الأعراب بركائبهم فيحملون لهم عروة بعروة إلى القرى، فيبيعون، يكون لهذا نصف الثمن ولهؤلاء نصفه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك. وفي الرواية المتقدمة في الصحيح عقب قوله: «وجعلوا عضادتيه حجارة» فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم، يقولون: اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فانصر الأنصار والمهاجره ويذكر أن هذا البيت لعبد الله بن رواحة. وعن الزهري: بلغني أن الصحابة كانوا يرتجزون به، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل معهم ويقول: اللهم لا خير إلا خير الآخره ... فارحم المهاجرين والأنصار وكان لا يقيم الشعر، قال الله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وفعل ذلك احتسابا وترغيبا في الخير؛ ليعمل الناس كلهم، ولا يرغب أحد بنفسه عن نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهذا أسند ابن زبالة عن مجمع بن يزيد أنه قال عقب ذلك: وعملوا فيه ودأبوا، فقال قائل من المسلمين: لئن قعدنا والنّبيّ يعمل ... ذاك إذا للعمل المضلّل وأسند أيضا أن علي بن أبي طالب كان يرتجز وهو يعمل فيه يقول: لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى عن الغبار حائدا وأسند هو أيضا ويحيى من طريقه والمجد، ولم يخرجه، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده، فقرب اللبن وما يحتاجون إليه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوضع رداءه، فلما رأى ذلك المهاجرون الأولون والأنصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم، وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون: لئن قعدنا والنبيّ يعمل البيت. وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا نظيفا متنظفا، وكان يحمل اللبنة فيجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه، ونظر إلى ثوبه، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب فأنشأ يقول: لا يستوي من يعمر المساجدا الأبيات المتقدمة. فسمعها عمار بن ياسر، فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها، فمر بعثمان فقال: يا ابن سمية، ما أعرفني بمن تعرض، ومعه جريدة فقال: لتكفن أو لأعترضن بها وجهك، فسمعه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في ظل بيتي، يعني أم سلمة، وفي كتاب يحيى «في ظل بيته» - فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي، فإذا بلغ ذلك من المرء فقد بلغ، ووضع يده بين عينيه، فكف الناس عن ذلك، ثم قالوا لعمار: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا القرآن، فقال: أنا أرضيه كما غضب، فقال: يا رسول الله مالي ولأصحابك؟ قال: مالك وما لهم؟ قال: يريدون قتلي، يحملون لبنة لبنة ويحملون علي اللبنتين والثلاث، فأخذ بيده فطاف به في المسجد، وجعل يمسح وفرته «1» بيده من التراب ويقول: يا ابن سمية لا يقتلك أصحابي، ولكن تقتلك الفئة الباغية.   (1) الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس، أو ما جاوز شحمة الأذن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقد ذكر ابن إسحاق القصة بنحوه كما في تهذيب ابن هشام، قال: وسألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز فقالوا: بلغنا أن علي بن أبي طالب ارتجز به، فلا ندري أهو قائله أم غيره، وإنما قال ذلك علي رضي الله عنه مطايبة ومباسطة كما هو عادة الجماعة إذا اجتمعوا على عمل، وليس ذلك طعنا. وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل أبي جعفر الخطمي قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا بني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول: أفلح من يعالج المساجدا فيقولها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول ابن رواحة: يتلو القرآن قائما وقاعدا فيقولها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي الصحيح في ذكر بناء المسجد: وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعل ينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» وقال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. وأسند ابن زبالة ويحيى عن مجاهد قال: رآهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يحملون الحجارة على عمار، وهو يا بني المسجد، فقال: «ما لهم ولعمار؟ يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، وذلك فعل الأشقياء الأشرار» . وأسند الثاني أيضا عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يبنون المسجد، فجعل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يحمل كل رجل منهم لبنة لبنة وعمار بن ياسر لبنيتن لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمسح ظهره وقال: «يا ابن سمية لك أجران وللناس أجر، وآخر زادك من الدنيا شربة من لبن، وتقتلك الفئة الباغية» . وفي الروض للسهيلي: أن معمر بن راشد روى ذلك في جامعه بزيادة في آخره، وهي: فلما قتل يوم صفين دخل عمرو على معاوية رضي الله عنهما فزعا فقال: قتل عمار، فقال معاوية: فماذا؟ فقال عمرو: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تقتله الفئة الباغية» فقال معاوية: دحضت «1» في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله من أخرجه. وروى البيهقي في الدلائل عن عبد الرحمن السلمي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لأبيه عمرو: قد قتلنا هذا الرجل، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه ما قال، قال: أي رجل؟ قال: عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد؛ فكنا نحمل   (1) دحضت: زلقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين، فمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «تحمل لبنتين لبنتين وأنت ترحض «1» ، أما إنك ستقتلك الفئة الباغية، وأنت من أهل الجنة» فدخل عمرو على معاوية فقال: قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال، فقال: اسكت، فوالله ما تزال تدحض في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بيننا. قلت: وهو يقتضي أن هذا القول لعمار كان في البناء الثاني للمسجد؛ لأن إسلام عمرو كان في الخامسة كما سبق. وأسند ابن زبالة عن حسن بن محمد الثقفي قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا بني في أساس مسجد المدينة ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فمر به رجل فقال: يا رسول الله ما معك إلا هؤلاء الرهط؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هؤلاء ولاة الأمر من بعدي. وروى أبو يعلى برجال الصحيح إلا أن التابعي لم يسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه، وجاء أبو بكر بحجر فوضعه، وجاء عمر بحجر فوضعه، وجاء عثمان بحجر فوضعه، قالت: فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: هذا أمر الخلافة من بعدي. وتقدم في تأسيس مسجد قباء نحو ذلك من غير ذكر أمر الخلافة. وقال الأقشهري في روضته: روى صاحب السيرة ولم يسمه أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا محمد، إن الله يأمرك أن تبني له بيتا، وأن ترفع بنيانه بالرهص والحجارة- والرهص: الطين الذي يتخذ منه الجدار- فقال: كم أرفعه يا جبريل؟ قال: سبعة أذرع، وقيل: خمسة أذرع، ولما ابتدأ في بنائه أمر بالحجارة وأخذ حجرا فوضعه بيده أولا، ثم أمر أبا بكر فجاء بحجر فوضعه إلى جنب حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم عمر كذلك، ثم عثمان كذلك، ثم عليا، انتهى ما ذكره الأقشهري ومن خطه نقلته. وروى البيهقي في الدلائل عن سفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لما بنى النبي صلّى الله عليه وسلّم المسجد وضع حجرا، ثم قال: ليضع أبو بكر حجره إلى جنب حجري، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال: ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هؤلاء الخلفاء من بعدي» . وأسند يحيى عن أسامة بن زيد عن أبيه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه حجر، فلقيه أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله أعطنيه، فقال: اذهب فاحتمل غيره، فلست بأفقر إليه مني.   (1) رحض المحموم: عرق حتى كأنه غسل جسده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وعن مكحول قال: لما كثر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: اجعل لنا مسجدا، فقال: خشبات وثمامات، عريش كعريش أخي موسى صلوات الله عليه، الأمر أعجل من ذلك. ورواه رزين وزاد فيه: فطفقوا ينقلون اللبن وما يحتاجون إليه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل معهم، فلقيه رجل ومع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبنة فقال: أعطنيها يا رسول الله، فقال: اذهب فخذ غيرها، فلست بأفقر إلى الله مني. ونقل المجد عن رواية محمد بن سعد نحوه، قال: وجاء رجل يحسن عجن الطين، وكان من حضرموت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رحم الله امرأ أحسن صنعته، وقال له: الزم أنت هذا الشغل فإني أراك تحسنه. وفي كتاب يحيى من طريق ابن زبالة عن الزهري: كان رجل من أهل اليمامة يقال له طلق من بني حنيفة يقول: قدمت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يا بني مسجده، والمسلمون يعملون فيه معه، وكنت صاحب علاج وخلط طين، فأخذت المسحاة أخلط الطين والنبي صلّى الله عليه وسلّم ينظر إلي ويقول: إن هذا الحنفي لصاحب طين. وروى أحمد عن طلق بن علي قال: بنيت المسجد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يقول: قربوا اليمامي من الطين فإنه أحسنكم له مسكا وأشدكم منكبا. وعنه أيضا قال: جئت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يبنون المسجد، قال: فكأنه لم يعجبه عملهم، قال: فأخذت المسحاة فخلطت بها الطين، فكأنه أعجبه أخذي المسحاة وعملي فقال: دعوا الحنفي والطين فإنه من أصنعكم للطين. وأسند ابن زبالة ويحيى من طريقه في أثناء كلام عن ابن شهاب في قصة أخذ المربد، قال: فبناه مسجدا، وضرب لبنه من بقيع الخبخبة ناحية بئر أبي أيوب بالمناصع والخبخبة: شجرة كانت تنبت هناك. وأسند يحيى من طريق عبد العزيز بن عمر عن يزيد بن السائب عن خارجة بن زيد بن ثابت قال: بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده سبعين في ستين ذراعا أو يزيد، ولبّن لبنه من بقيع الخبخبة، وجعله جدارا، وجعل سواريه خشبا شقة شقة، وجعل وسطه رحبة، وبنى بيتين لزوجتيه. قال عبد العزيز: فسألت زيدا: أين بقيع الخبخبة؟ قال: بين بئر أبي أيوب وتلك الناحية، وهذا بقيع الغرقد لبقيع المقبرة، وقال: سألت عبد العزيز عن بقيع الخبخبة فقال: هي- أي الخبخبة- يسار بقيع الغرقد حين تقطع الطريق وتلقاها عند مسجد يحيى، فقلت: ومن يحيى صاحب المسجد الذي ذكرت؟ فقال: يحيى بن طلحة بن عبيد الله. قلت: بقيع الخبخبة لا يعرف اليوم كما ذكره شيخ مشايخنا الزين المراغي، لكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الخارج من درب البقيع إذا مشى في البقيع لجهة مشهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وصار مشهد سيدنا إبراهيم بن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على يمينه يكون على يساره طريق تمر بطرف الكومة، فإذا سلكها انتهى بعد رأس العطفة التي على يمينه إلى حديقة تعرف قديما بأولاد الصيفي بها بئر ينزل إليها بدرج تعرف ببئر أيوب قديما وحديثا، وعن يسار الخارج من درب البقيع أيضا إذا سلك طريق سيدنا حمزة في شامي الحديقة المعروفة بالرومية حديقة تعرف بالرباطية وقف رباط اليمنة بها بئر. قال المراغي: تعرف ببئر أيوب أيضا، يتبرك بها الناس، وهي بالقرب من الحديقة المعروفة بدار فحل، وهي عن يسار بقيع الغرقد أيضا، قال الزين المراغي: ولعلها أقرب إلى المراد. قلت: والذي يظهر أن الأولى هي المراد، لما سنبينه في الآبار. وفي كتاب رزين ما لفظه: عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان بناء مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسميط لبنة على لبنة، ثم بالسعيدة لبنة ونصف أخرى، ثم كثروا فقالوا: يا رسول الله لو زيد فيه، فبنى بالذكر والأنثى، وهي لبنتان مختلفتان، وكانوا رفعوا أساسه قريبا من ثلاثة أذرع بالحجارة، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخرة مائة ذراع، وكذا في العرض، وكان مربعا، وفي رواية جعفر: ولم يسطح، فشكوا الحر فجعلوا خشبه وسواريه جذوعا، وظللوا بالجريد ثم بالخصف، فلما وكف «1» عليهم طينوه بالطين، وجعلوا وسطه رحبة، وكان جداره قبل أن يظلل قامة وشيئا، انتهى. والظاهر أنه ليس جميعه من كلام جعفر؛ بدليل قوله في الأثناء «وفي رواية جعفر» . وقد ذكر ابن زبالة ويحيى من غير طريقه كلام جعفر متمحضا فأسندا عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بناء مسجده بالسميط لبنة لبنة، ثم إن المسلمين كثروا فبناه بالسعيدة، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت من يزيد فيه، فقال: نعم، فأمر به فزيد فيه، وبنى جداره بالأنثى والذكر، ثم اشتد عليهم الحر فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلل، قال: نعم، فأمر به فأقيمت فيه سواري من جذوع النخل، ثم طرحت عليها العوارض «2» والخصف والإذخر «3» ، فعاشوا فيه، وأصابتهم الأمطار، فجعل المسجد يكف عليهم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطيّن، فقال: لا، عريش كعريش موسى، فلم يزل كذلك   (1) وكف سطح البيت: قطر بالماء. (2) العوارض: قطع الخشب. الخصف: جلة تعمل من الخوص ليحفظ فيها التمر. (3) الإذخر: حشيشة تسقف بها البيوت فوق الخشب ولها رائحة طيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 حتى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان جداره قبل أن يظلل قامة، فكان إذا فاء الفيء ذراعا وهو قدمان يصلي الظهر، فإذا كان ضعف ذلك صلّى العصر، ثم نقلا عنه تفسير السميط والسعيدة والأنثى والذكر بما تقدم، ولم يذكرا ذرعا. وفي الإحياء عن الحسن مرسلا: لما أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يا بني مسجد المدينة أتاه جبريل فقال: ابنه سبعة أذرع طولا في السماء، ولا تزخرفه، ولا تنقشه، انتهى. وتقدم فيما نقله الأقشهري عن صاحب السيرة عن جبريل عليه السلام في ارتفاعه سبعة أذرع، وقيل: خمسة. وأسند يحيى عن أسامة بن زيد عن أبيه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه حجر، فلقيه أسيد بن حضير، وذكر ما قدمناه، ثم قال: قال- يعني زيدا- ورفعوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة، وكان في جوف الأرض قبور جاهلية، فأمر بالقبور فنبشت فرمى بعظامها، وأمر بها فغيبت، وكان في المربد ماء مستنجل فسربه حتى ذهب، وكان الذين أسسوا المسجد جعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفي الجانبين الآخرين مثل ذلك فهو مربع، ويقال: إنه كان أقل من مائة ذراع، وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، أي وهو في جهة القبلة اليوم، وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويقال باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو باب آل عثمان اليوم، وهذان البابان لم يغيرا بعد أن صرفت القبلة، ولما صرفت القبلة سد النبي صلّى الله عليه وسلّم الباب الذي كان خلفه وفتح هذا الباب، وحذاء هذ الباب- أي ومحاذيه- هذا الباب الذي سد. وعبر ابن النجار عن ذلك بقوله: ولما صرفت القبلة سد الباب الذي كان خلفه وفتح بابا حذاءه. قال المجد: أي تجاهه، انتهى. وذكر الأقشهري في خبر عن ابن عمر ما يخالف هذا، فإنه قال: وعن عبد الله بن عمر قال: كان مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في زمانه من اللبن، وسقفه من غصن النخل، وله ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب عاتكة وهو باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه وهو باب عثمان، وهو الذي يسمى اليوم باب جبريل، ولما صرفت القبلة سد الباب الذي خلفه وفتح الباب الآخر، وهو الذي يسمى باب النساء، انتهى. وهو غريب، ولعل قوله: «وهو الذي يسمى باب النساء» من تصرفه وفهمه في معنى الخبر، ولذلك أورد عقبه حديث أبي داود مرفوعا «لو تركنا هذا الباب للنساء» لكن أبو داود بيّن أن الأصح أنه من قول عمر كما سيأتي، وعلى ما ذكره فلم يجعل للمسجد بعد التحويل بابا خلفه، وباب عن يمين المصلى، وباب عن يسار المصلى، ثم انتهوا إلى البناء باللبن، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحمل معهم اللبن في ثيابه ويقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 هذا الحمال لا حمال خيبر الرجز المتقدم. وروى أحمد عن أبي هريرة أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم، قال: قاستقبلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عارض لبنة على بطنه، فظننت أنها شقت عليه، فقلت: ناولنيها يا رسول الله، قال: خذ غيرها يا أبا هريرة فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة. زيادة النبي في مسجده قلت: وهذا في البناء الثاني، أي لأن أبا هريرة لم يحضر البناء الأول؛ لأن قدومه عام فتح خيبر. وأسند ابن زبالة من طريق ابن جريج عن جعفر بن عمرو قال: كان المربد لسهل وسهيل ابني عمرو فأعطياه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبناه، وأعان أصحابه أو بعضهم بنفسه في عمله، وكان علي بن أبي طالب يرتجز وهو يعمل فيه، قال: وبناه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتين: بناه حين قدم أقل من مائة في مائة، فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد عليه مثله في الدور. وروى الطبراني بإسناد فيه ضعيف عن أبي المليح عن أبيه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لصاحب البقعة التي زيدت في مسجد المدينة- وكان صاحبها من الأنصار- فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لك بها بيت في الجنة» قال: لا، فجاء عثمان فقال له: «لك بها عشرة آلاف درهم» فاشتراها منه، ثم جاء عثمان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله اشتر مني البقعة التي اشتريتها من الأنصاري، فاشتراها منه ببيت في الجنة، فقال عثمان: إني اشتريتها بعشرة آلاف درهم، فوضع النبي صلّى الله عليه وسلّم لبنة، ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة، ثم دعا عمر فوضع لبنة، ثم جاء عثمان فوضع لبنة، ثم قال للناس: «ضعوا» فوضعوا. وروى الترمذي وحسّنه في حديث قصة إشراف عثمان على الناس يوم الدار عن ثمامة بن حزن القشيري أن عثمان رضي الله عنه قال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟ فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعونني أن أصلي فيها ركعتين، قالوا: اللهم نعم، الحديث، وأخرجه الدارقطني أيضا، وكذا أحمد بنحوه. وأخرجا أيضا حديثا طويلا عن الأحنف بن قيس فيه: أن عثمان رضي الله عنه قال: أهاهنا علي؟ قالوا: نعم، قال: أهاهنا طلحة؟ قالوا: نعم، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 إلا هو أتعلمون أن رسلو الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أمن يبتاع مربد بني فلان غفر الله له، فابتعته بعشرين ألفا أو خمسة وعشرين ألفا، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: قد ابتعته، فقال: اجعله في مسجدنا وأجره لك، قالوا: اللهم نعم. وأخرج خيثمة بن سليمان في فضائل عثمان عن قتادة قال: كانت بقعة إلى جنب المسجد فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من يشتريها ويوسعها في المسجد له مثلها في الجنة، فاشتراها عثمان، فوسعها في المسجد. وأسند ابن زبالة عن خالد بن معدان قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن رواحة وأبي الدرداء ومعهما قصبة يذرعان بها المسجد، فقال: ما تصنعان؟ فقالا: أردنا أن نبني مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بنيان الشام، فيقسم ذلك على الأنصار، فقال: هاتياها، فأخذ القصبة منهما، ثم مشى بها حتى أتى الباب، فدحا بها «1» ، وقال: كلا، ثمام وخشيبات وظلة كظلة موسى، والأمر أقرب من ذلك، قيل: وما ظلة موسى؟ قال: إذا قام أصاب رأسه السقف. وروى البيهقي في الدلائل من طريق يعلى بن شداد عن عبادة أن الأنصار جمعوا مالا فأتوا به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله ابن بهذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد؟ فقال: ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى. وروى البيهقي أيضا عن الحسن في بيان عريش موسى قال: إذا رفع يده بلغ العريش، يعني السقف. وعن ابن شهاب: كانت سواري المسجد في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جذوعا من جذوع النخل، وكان سقفه جريدا وخوصا ليس على السقف كثير طين، إذا كان المطر امتلأ المسجد طينا، إنما هو كهيئة العريش. وفي الصحيح في ليلة القدر: وإني أريت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فليرجع، فرجعنا وما نرى في السماء قزعة «2» فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته. الفصل الثاني في ذرعه وحدوده التي يتميز بها عن سائر المسجد اليوم اعلم أن الذراع حيث أطلق فالمراد به ذراع الآدمي، وقد قدمنا في تحديد الحرم   (1) دحا بها: دفعها ورماها. (2) القزع: قطع السحاب المتفرقة في السماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 أنه ذراع غير ثمن من ذراع الحديد المستعمل بمصر وبمكة، وهو شبران تقريبا، وقد تحصلنا كما تقدم في ذرع المسجد على أربع روايات: الأولى: سبعون ذراعا في ستين أو يزيد، والثانية: مائة ذراع في مائة، وأنه مربع، والثالثة: أنه أقل من مائة ذراع، وهذا صادق بالأولى فليحمل عليها، الرابعة: أنه بناه أولا أقل من مائة في مائة، ثم بناه وزاد عليه مثله في الدور، ولا يصح أن يراد بذلك الأذرع قطعا؛ لأنها تقتضي أنه بعد البناء الثاني صار أحد امتداديه إما الطول أو العرض نحو مائتي ذراع، والامتداد الآخر نحوها، ولا شك أن حد مسجده صلّى الله عليه وسلّم من جهة المشرق غايته الحجرة الشريفة، فعرضه من جدارها إلى جدار المسجد الغربي، وذرع هذا القدر اليوم بعد الزيادات المجمع عليها لا تبلغ مائة وخمسين ذراعا كما اختبرته، بل تنقص أزيد من ستة أذرع، وقد أجمع المؤرخون على أن عمر وعثمان رضي الله عنهما زادا في المسجد من هذه الجهة، ثم غيرهما من الخلفاء؛ فالظاهر أن المراد من هذه الرواية الأشبار لا الأذرع، فيقتضي أن المسجد النبوي بعد البناء الثاني صار أحد امتداديه مائتي شبر، والامتداد الآخر نحوها؛ فيوافق رواية مائة ذراع في مثلها، على أن ما ذكره المتأخرون من التحديد بالأمور الآتية يقتضي أنه لم يكن مائة ذراع؛ فهو مقتض لترجيحهم الرواية الأولى، وهي سبعون ذراعا في ستين، وتكون السبعون للطول والستون للعرض. وقد نقل النووي ذلك في منسكه عن خارجة بن زيد أحد فقهاء المدينة السبعة، ولفظه: بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده سبعين ذراعا في ستين أو يزيد، وهو الذي جزم به ابن النجار فقال: بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجده مربعا، وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وطوله سبعين ذراعا في ستين ذراعا أو يزيد، انتهى. هذا، وقد قال يحيى قبيل ما جاء في حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم: حدثني هارون قال: حدثنا محمد بن يحيى- يعني صاحب مالك- قال: فيما كان انتهى إلينا من ذرع مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم من القبلة إلى حده الشامي أربعة وخمسون ذراعا وثلثا ذراع، وحده من المشرق إلى المغرب ثلاث وستون ذراعا، يكون ذلك مكسرا ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعين ذراعا، انتهى. وقال ابن النجار: اعلم أن حدود مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أي: الذي كان في زمنه- من القبلة الدرابزينات التي بين الأساطين التي في قبلة الروضة، ومن الشام الخشبتان المغروزتان في صحن المسجد، وأما من المشرق إلى المغرب فهو من حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الأسطوان الذي بعد المنبر، وهو آخر البلاط، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وفيما ذكره ابن النجار مناقشة: أما ما ذكره من التحديد بالدرابزينات من جهة القبلة وبالخشبتين من جهة الشام، فالخشبتان اليوم غير معروفتين، وقد نبه على فقدهما الزين المراغي، وكلام المطري يفهمه، ولم أر لهما ذكرا في كلام المتقدمين، نعم ذكر ابن زبالة كلاما فيه غموض يقتضي تحديد بعض جهات المسجد بعودين علا الكبس على أحدهما، وأن الآخر كان موجودا في زمانه، فلعل ذلك مأخذ ابن النجار، وعبارة ابن زبالة تنبو «1» عن ذلك؛ إذ لم يذكرهما في حد جهة الشام، والحد من هذه الجهة اليوم- على ما يعرف في زماننا- الحجران الآتي ذكرهما في صحن المسجد، وسيأتي ما يقتضي رد ذلك. وذكر ذلك ابن جماعة في منسكه فقال: قد عرّف المتأخرون مقدار المسجد الذي كان عليه أولا فقالوا: كان على التربيع من الحجرة المقدسة إلى مكان السارية السابعة من جهة المغرب، ومن موضع الدرابزين الذي هو بين الأساطين المتصل بالصندوق أمام المصلى الشريف إلى موضع الحجرين المغروزين في صحن المسجد الشريف، انتهى. ومستنده في ذلك قول المطري في الحجرين المذكورين يذكر أنهما حد المسجد من جهة الشام والمغرب، قال: لكنهما ليسا على سمت المنبر الشريف، بل هما داخلان إلى جهة المشرق بمقدار أربعة أذرع أو أقل، وكذا متقدمان إلى القبلة بمثل ذلك، قال: لأني اعتبرت ذلك بالذرع فوجدتهما ليسا على ذرع المسجد الأول. قلت: كونهما داخلين عن سمت المنبر إلى جهة المشرق بما ذكر لا يقدح في كونهما الحد المذكور؛ لأن المراد أن جهة المغرب هناك في سمتهما، كما أن المراد أن جهة الشام في سمتهما، لا أنها ما يحاذي الحجرين فقط، ووقع الاستغناء عن تحرير ابتداء جهة المغرب بما تقدم له نقلا عن ابن النجار من الأسطوانة التي تلي المنبر من تلك الجهة، كما استغنى بكون الحجرة الشريفة حده من جهة المشرق؛ إذ لم يذكر حد لجهة المشرق مما يلي الحجرين في جهة الشام، وفي الحقيقة لم يقصد بهما سوى بيان جهة الشام، على أنه يحتمل أن مقدم المسجد كان أعرض من مؤخره كما هو موجود اليوم، فيكون الحجران حده من جهة المغرب حقيقة، وأما قوله إنهما متقدمان إلى القبلة بأربعة أذرع وإنهما ليسا على ذرع المسجد الأول يعني السبعين التي ذكرها ابن النجار فقد بناه على ما قاله أيضا من أن الدرابزينات التي ذكرها ابن النجار من جهة القبلة متقدمة على موضع الحائط القبلي؛ لأن الحائط القبلي كان محاذيا لمصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما جعل هذا الصندوق الذي في قبلة المصلى الشريف أي بين المصلى والدرابزينات سترة بين المقام الشريف وبين الأسطوانات، قال: وورد أيضا أنه كان بين الحائط القبلي وبين المنبر ممر الشاة، وبين   (1) تنبو: تختلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 المنبر والدرابزين اليوم مقدار أربعة أذرع وربع ذراع، والمنبر لم يغير من جهة القبلة، وكذا المصلى الشريف، انتهى. فلم يعتبر الذرع من الدرابزينات. وقد اختبرت أنا ذلك بنفسي من الدرابزينات المذكورة إلى الحجرين المذكورين فكان سبعين ذراعا بذراع اليد المتقدم ذكره، وقد قال ابن جماعة: إنه اختبر ذلك بذراع العمل فكان ستة وأربعين ذراعا وثلثي ذراع؛ فهو موافق لذرعنا، بل يرجح قليلا؛ لأن ذراع العمل ذراع ونصف راجح من ذراع اليد. وأما ما ذكره المراغي في كتابه من الذرع فغير موافق لذرعنا؛ لأنه اعتمد في ذلك كما صرح به على ذراع المدينة الشريفة اليوم، وقد اختبرته فوجدته يزيد على ذراع اليد الذي حررناه بأكثر من قيراط، وقول المطري: «إن بين المنبر والدرابزين اليوم مقدار أربعة أذرع وربع» مخالف لما اختبرناه؛ فإن بينهما ثلاثة أذرع ونصف بالذراع الذي حررناه، لكن سيأتي أن المنبر اليوم ليس هو ذلك، وأنه قد اتضح لنا عند الحفر لتأسيس المنبر الرخام الآتي ذكره صحة ما قاله المطري، وأن المنبر الذي أدركناه قدّم عن محل المنبر الأصلي لجهة القبلة أزيد من نصف ذراع، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى. وقد ذكر ابن زبالة ويحيى من طريقه نقلا عن غير واحد من أهل العلم تحديد المسجد الشريف من هذه الجهة فقالا: وعلامته في القبلة حروف المرمر الذي المنبر وسطه، وعلامته من الشام أربعة طيقان من ناحية المشرق والمغرب، وعلامة الطيفان الأربع أنهن مخضرات الأجواف بالفسيفساء كلهن. قلت: والمرمر اليوم لا يظهر منه شيء. لكن يؤخذ من كلام ابن زبالة في وصف هذا المرمر أنه كان دكة مرتفعة حول المنبر قدر الذراع، وأنه ممتد من المغرب قدر ثلاثة أذرع، ومن المشرق ثلاثة، ومن القبلة ثلاثة، فإنه قال: حدثني محمد بن إسماعيل قال: رأيت طنفسة «1» كانت لعبد الله بن حسن بن حسن تطرح قبالة المنبر على مرمر كان هناك، قال: فحبس عبد الله بن حسن سنة أربعين ومائة، وبقيت الطنفسة بعده أياما، ثم رفعت، قال: ثم إن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي رضي الله عنهم لما ولي المدينة سنة خمسين ومائة في خلافة أبي جعفر نقض المرمر ووسعه من جوانبه كلها حتى ألحقه بالسواري، فكلمه أبو مودود عبد العزيز بن أبي سليمان أن يدع له مصلاه فتركه ولم يلحق المرمر بالأساطين المقدمة؛ فالمرمر اليوم هو الذي عمل الحسن بن زيد، والمرمر الذي حول المنبر المرتفع عن المرمر الذي عمل الحسن بن زيد بين ستة أساطين ثلاثة أذرع من قبل القبلة وثلاثة أذرع من قبل المشرق وثلاثة أذرع من قبل المغرب، وهو مرتفع عن الأرض نحوا من ذراع، انتهى.   (1) الطنفسة: النمرقة فوق الرّحل. والبساط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وقال في موضع آخر: عرض المرمر الذي حول المنبر ثمانية أذرع، وطوله ثماني عشرة ذراعا، وسماه في موضع آخر رخاما، وهو يطلق عليه لغة، وسيأتي ذكر هذه الدكة التي المنبر في وسطها عن ابن النجار حيث قال: وارتفاع الدكة التي المنبر عليها شبر وعقد، فكأن الكبس علا؛ فإنها كانت ذراعا في زمن ابن زبالة، وفي زمن ابن النجار شبرا وعقدا، ثم علا الكبس فلم يوجد اليوم، وقد ظهر أثرها وأثر الرخام المذكور عند حفر ما حول المنبر الشريف، وشاهدت الرخام الذي في قبلته كما سيأتي، وتلخص من هذا أن المرمر كان في جهة القبلة ثلاثة أذرع بعد المنبر، والظاهر أن عرض جدار المسجد الشريف أدخل في ذلك من جهة القبلة؛ فقد روى يحيى في ترجمة ما جاء في زيادة الوليد أن عمر بن عبد العزيز أحضر رجالا من قريش فأروه مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي زاد فيه عمر، والذي زاد فيه عثمان، فعلم عمر بن عبد العزيز المسجد الأول الذي كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان جدار القبلة من وراء المنبر ذراعا وأكثر من ذراع. وروى ابن زبالة أخبارا تتضمن أن جدار القبلة كان بينه وبين المنبر قدر ممر العنز، وفي العتبية ممر الرجل منحرفا، وفي الصحيح عن سهل: كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين الجدار ممر الشاة. وفيه أيضا عن سلمة: كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزه؛ فتعين ما أشرنا إليه من إدخال جدار المسجد في ذلك الممر الذي جعل علامة في جهة القبلة، وأما الطاقات الأربع التي ذكرها علامة لنهاية المسجد من جهة الشام فغير معروفة اليوم، إلا أنه سيأتي فيما نقله المرجاني عن الحارث المحاسبي ما يبين محلها. وأما الجواب على ما ذكر المطري من كون الدرابزينات متقدمة فالظاهر أن ابن النجار فهم أن المراد إدخال عرض الجدار الذي كان موجودا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم لما تقرر عندنا من أن جدار المسجد من جملة المسجد، ويؤيده ما تقدم من التحديد بالمرمر من تلك الجهة، وما سيأتي في الفصل الثاني عشر من رواية أحمد عن نافع أن عمر رضي الله عنه زاد في المسجد من الأسطوانة- أي التي عند المصلى الشريف- إلى المقصورة؛ لأن ذلك هو الرواق الذي بين الأساطين التي في قبلة الروضة وبين الأساطين التي تليها في القبلة. وقد قال المراغي: إن الذي ظهر له أن الصندوق الذي في قبلة المصلى الشريف جعل في مكان الجدار القديم، ويشهد له ما سيأتي عن يحيى في ذرع ما بين المصلى الشريف وجدار القبلة اليوم، لكن عرض هذا الصندوق ذراعان، وبينه وبين الدرابزين أرجح من نصف ذراع، وذلك فيما يظهر أزيد من عرض الجدار القديم بنحو الذراع؛ لأني شاهدت لبنا أخرج من جدران الحجرة الشريفة في العمارة التي أدركناها أولا يزيد في الطول على الذراع، وعرضه نصف ذراع، وسمكه ربع ذراع، وفيه شيء مرتفع طوله وعرضه وسمكه واحد، وكل ثنتين منه طول لبنة مما قدمناه، والذي يظهر أنه كان من بقايا لبن الحجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الشريفة التي كانت مبنية به أولا جعل للتبرك لأنه أتى غير مستو، والجدار مبني بالحجارة الوجوه المحكمة وبالقصة؛ فلا يناسبه وضع ذلك فيه، ولهذا جعل بين الحجارة الوجوه في أعالي الجدار، وقد تقدم أن الذي استقر عليه عرض الجدار في زمنه صلّى الله عليه وسلّم الأنثى والذكر، وهما لبنتان مختلفتان، واللبنتان المختلفتان من هذا اللبن الذي رأيناه أو اللبنة ونصف الآخرى وهو السعيدة يزيد على ذراع ونصف يسيرا، فيكون ذلك هو عرض الجدار في زمنه صلّى الله عليه وسلّم ويشهد له ما شاهدناه أيضا في عرض جدار الحجرة الشريفة على ما سنذكره، ثم اتضح الحال بظهور المرمر الذي في قبلة المنبر؛ فإنا وجدنا بينه وبين الدرابزين المذكور أرجح من ذراع، وبينه وبين طرف محل المنبر الأصلي من جهة القبلة ثلاثة أذرع سواء، كما ذكر ابن زبالة، فذلك هو عرض الجدار مع ما كان بين المنبر وبينه. وأما ما ذكره ابن النجار من التحديد بالأسطوانة التي تلي المنبر من جهة المغرب وأنها آخر البلاط وبالحجرة الشريفة من جهة المشرق؛ فالبلاط الذي ذكره لا يوجد اليوم، وكأنه يريد به الرخام الذي كان المنبر وسطه، وقد عبر عن ذلك ابن جماعة كما تقدم بقوله: من الحجرة إلى مكان السارية السابعة من جهة المغرب، فإن السابعة من صف الأساطين المذكورة هي التي تلي المنبر من المغرب إن عددنا الأسطوان الملاصق للحجرة، ولم أر لما ذكره ابن جماعة مستندا في كلام المؤرخين سوى ما ذكره ابن النجار؛ فيتعين الحمل على الأسطوانة المذكورة، وقد ذرعت ما بين الأسطوانة التي تلي المنبر عند ظهره من المغرب إلى حائز عمر بن عبد العزيز الذي داخله الحجرة الشريفة بمقط؛ فكانت مساحته سبعة وخمسين ذراعا ونصف ذراع راجح، وعرض الحائز المذكور ذراع وربع راجح، كما تحرر لي عند عمارة ما نقض منه، وليس بينه وبين جدار الحجرة من هذه الجهة فضاء أصلا، بل هو لاصق به ليس بينهما مغرز إبرة خلاف ما ذكره المؤرخون؛ فيكون ما بين الأسطوانة المذكورة والحجرة الشريفة تسعة وخمسون ذراعا ينقص يسيرا، وكأن ابن النجار جرى على قول من تقدمه من المؤرخين في أن بين الحائز وجدار الحجرة فضاء من هذه الجهة، وظن أن عرض الحائز أكثر مما ذكرناه؛ فجعل نهاية قولهم في عرض المسجد ستين ذراعا أو يزيد إلى الأسطوانة التي تلي المنبر أو أن ذلك القدر الناقص لتفاوت الأذرعة، على أن الظاهر أن ابن جماعة لم يعتبر الأسطوانة اللاصقة بالحجرة، وأنه جعل السارية السابعة هي التي تلي السارية التي تلي المنبر في جهة المغرب، وهي الثانية من المنبر في تلك الجهة، فإنه قال: إنه ذرع ما بين الأسطوانة السابعة إلى حائز الحجرة الشريفة فكان ذلك اثنين وأربعين ذراعا وثلثي ذراع بذراع العمل. قلت: وقد اعتبرت ما ذكره من الذرع بذراع العمل فرأيته ينتهي إلى الأسطوانة الثانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 من المنبر في جهة المغرب، وذرعته بذراع اليد الذي حررناه فكان خمسا وستين ذراعا، وهو مطابق لما قاله ابن جماعة ولما اختبرناه بذراع العمل؛ لأن ذراع العمل ذراع وثلث من ذراع الحديد المستعمل بمصر، وذلك اثنان وثلاثون قيراطا، والذراع الذي حررناه أحد وعشرون قيراطا، فذراع العمل ذراع ونصف قيراط بالذراع الذي حررناه، وقد مال المراغي إلى اعتبار التحديد بهذه الأسطوانة- أعني الثانية من المنبر- فإنه ذكر عدم وجود البلاط اليوم، ثم قال: لكني اعتبرت ذرعه من المشرق إلى المغرب على رواية يحيى ثلاثة وستين، وهي من أقل الروايات؛ فكان من جدار الحجرة الشريفة يعني الحائز الظاهر إلى الأسطوانة الثانية من المنبر لا التي بعده ستون ذراعا تقريبا، قال: وعلى هذا يكون عرض جدار عمر بن عبد العزيز وما بينه وبين جدار الحجرة الشريفة الأصلي ثلاث أذرع تقريبا، انتهى. ولا يخفى ما فهم؛ لأنه جعل المسافة المذكورة ستين ذراعا تقريبا وهي خمسة وستون تحريرا، وتبع من تقدمه من المؤرخين في ثبات فضاء بين حائز عمر بن عبد العزيز وجدار الحجرة، فخمن أن ذلك مع عرض الحائز ثلاثة أذرع، وقد علمت أن عرض الحائز ذراع وربع يرجح يسيرا، وليس بينه وبين جدار الحجرة شيء. وقد روى ابن زبالة ويحيى من طريقه أشياء في تحديد المسجد وذرعه يقتضي أن جدار المسجد الشريف في زمنه صلّى الله عليه وسلّم من جهة المشرق لم ينته إلى حائز عمر بن عبد العزيز، بل الحائز وبعض ما يليه من المغرب في موضع حجرة عائشة رضي الله عنها، وأن جدار حجرة عائشة كان فيما بين الأساطين اللاصقة بجدار القبر وبين الأساطين التي بينها المقصورة الدائرة على الحجرة الشريفة، وأنه صلّى الله عليه وسلّم كان قد بنى المسجد أولا وجعله ثلاث أساطين عن يمين المنبر في المغرب وثلاث أساطين عن يساره في المشرق، وأن نهايته من جهة المشرق كانت أولا أسطوان التوبة؛ لأنها تكون في موضع الجدار بعد الأساطين الثلاث، وأن مساحة ذلك من المشرق إلى المغرب ثلاث وستون ذراعا، وقيل: خمس وخمسون، وأنه زاد فيه بعد ذلك من المشرق والمغرب، ومع ذلك لم ينته زيادته في المشرق إلى موضع حائز عمر بن عبد العزيز، وأنه لم يزد فيه من جهة القبلة ولا من جهة الشام. قلت: وهو موافق لما روى أنه كان مائة ذراع كما سنبينه، ويرجحه عندي أن المنبر الشريف يكون حينئذ متوسطا للمسجد؛ إذ يبعد أنه صلّى الله عليه وسلّم لا يتوسط أصحابه ويقف على منبر في طرفهم، وكون المسجد النبوي لا ينتهي إلى موضع حائز عمر بن عبد العزيز كما قدمناه خلاف ما عليه متأخرو المؤرخين، لكنه حسن؛ إذ يبعد أن يا بني عمر بن عبد العزيز حائزه في شيء من المسجد، وينتقص الروضة الشريفة به، حاشاه من ذلك، والذي صح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أن محل القبور الشريفة في صفة بيت عائشة، ولا بد للصفة من مرافق، فيظهر أن الحائط الذي في جوف الحائز هو حائط الصفة، والحائز فيما خرج عنها من بقية البيت. ثم ظفرت في كلام المرجاني نقلا عن الحارث المحاسبي بما يصرح بذلك، لما سيأتي من أنه ذكر في تحديد المسجد ستة أساطين من جهة شرقي المنبر، ثم قال: والروضة ما بين القبر والمنبر، فما كان منها في الأسطوانة السادسة التي حددت لك عن يمين المنبر فليس من المسجد الأول، وإنما كان من حجرة عائشة رضي الله عنها فوسع به المسجد، وهو من الروضة، انتهى. ولنورد عبارة ابن زبالة فإن يحيى روى ذلك عنه من غير زيادة ولا مخالفة مع ما فيها من أشياء لا تعرف اليوم، ولكن إفادة هذه الأمور الغريبة التي لم يذكرها متأخرو المؤرخين اقتضت إيرادنا لذلك فنقول: أسند ابن زبالة عن عبيد بن عمر بن حفص بن عاصم أن مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ثلاث أساطين مما يلي المشرق، وثلاث أساطين مما يلي المغرب، سوى ما خرج في الرحبة أي الأساطين المصفوفة من الرحبة إلى القبلة، ولولا ما سيأتي من التصريح بأن هذه الست كانت ثلاثة منها على يمين المنبر وثلاثة عن يساره- يعني في البناء الأول- لحملنا ذلك على أن ابتداء هذه الست من الأسطوانة التي تلي المنبر؛ فيكون نهايتها الأسطوان التي يلي أسطوان التوبة، ويكون جدار الحجرة بعدها، فيوافق التحديد المتقدم، لكنه قال عقبه: وقال جمهور الناس من أهل العلم وغيرهم: هو إلى الفرضتين اللتين في الأسطوانتين اللتين دون المربعيتن الغربية والتي في القبر. قلت: لا تعرف اليوم في المسجد القديم مربعة غربية، غير أن الذي ظهر لي- من مقابلتها بمربعة القبر ومما سيأتي في بيان الحائز الذي عمل لمنع ماء المطر أن يغشى المسقف القبلي- أنها الأسطوانة العظيمة المثمنة اليوم في المسقف القبلي، فإنها كانت ركن رحبة المسجد في هذا المسقف من جهة المغرب، كما أن مربعة القبر كانت ركن الرحبة في جهة المشرق، قبل زيادة الرواقين اللذين ذكرهما في المسقف القبلي كما يؤخذ من مواضع في كلام ابن زبالة ويحيى، والذي يظهر أن تثمين الأسطوانة المذكورة حادث، وإنما كانت مربعة، كما ثمنوا ما ظهر من مربعة القبر وما يلي الحجرة منها باق على تربيعه، ومربعة القبر هي التي في نهاية الصفحة الغربية من الحائز الدائر على الحجرة من جهة الشام، وتعرف بأسطوان مقام جبريل عليه السلام كما سيأتي إيضاحه، والأسطوان التي دونها هي الملاصقة بالشباك الدائر على الحجرة اليوم، وهي بين المربعة وبين أسطوان الوفود؛ فيكون جدار الحجرة على هذا كان فيما بين مربعة القبر والتي يليها. قال ابن زبالة عقب ما قدمناه عنه: واحتجوا بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعتكف في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 المسجد في موضع مجلس بني عبد الرحمن بن الحارث، وأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رأسه وهو معتكف في المسجد وهي في بيتها، وكان مالك بن أنس يقول: الجدار من المشرق في حد القناديل التي بين الأساطين التي في صفها أسطوان التوبة وبين الأساطين التي تلي القبر، وأرفه عمر بن عبد العزيز من ورائها في الأسطوانة التي تلي القبر. قلت: ما نقله عن مالك صريح فيما قدمناه من أن جدار المسجد الشرقي كان فيما بين الأساطين اللاصقة بالقبر وبين الأساطين المقابلة لها؛ فيكون في محاذاة القناديل الآخرة من القبلة إلى الشام فيما بين هذه الأساطين، ويكون عمر بن عبد العزيز أخره إلى الأسطوان اللاصق بجدار القبر، وسيأتي ما يصرح بذلك من كلام المحاسبي أيضا وأما قوله: «واحتجوا إلى آخره» فوجه الاحتجاج أن معتكفه صلّى الله عليه وسلّم كان لاصقا بحجرته، بحيث إن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رأسه وهو في معتكفه وهي في بيتها، ولهذا أورد ابن زبالة عقبه حديث «كان يدنو مني وأنا حائض فأرجله وهو في المسجد» ومجلس بني عبد الرحمن بن الحارث الذي ذكره ابن زبالة لا يعرف اليوم، وروى ابن زبالة ويحيى في بيان معتكفه صلّى الله عليه وسلّم أشياء سنذكرها إن شاء الله تعالى، والمناسب لما نحن فيه منها: أنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم سرير من جريد فيه سعفه يوضع بين الأسطوان التي وجاه القبر وبين القناديل، كان يضطجع عليه صلّى الله عليه وسلّم وقوله: «التي وجاه القبر» يريد به المواجهة له، وهي اللاصقة بشباك الدائر على الحجرة اليوم في صف أسطوان التوبة، بل قيل: إنها أسطوان التوبة كما سيأتي، وهذا مطابق لما ذكره مالك من أن الجدار كان في حد القناديل المذكورة. وأسند ابن زبالة أيضا عن غير واحد من أهل العلم أن مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ثلاث أساطين عن يمين المنبر وأنت مستقبل القبلة في موضع معتكف حسن بن زيد الذي كان يعتكف فيه، ومن الشق الآخر إلى أسطوان التوبة، وكان ذرعه من المشرق إلى المغرب ثلاثة وستين ذراعا، وقال عبد الرحمن بن سعد عن أشياخه: كان خمسين في خمسين. قلت: فيكون الحجر التي في شرقي المسجد أدخلت بعد أو بعضها في الزيادة الآتية أو أنها لم تستقر في شرقيه إلا بعد ذلك. ثم قال ابن زبالة: قالوا: وعلامة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أي الذي بني عند مقدمه من مكة- وذكر علامات كانت في السقف المحترق والفسيفساء التي زالت فلا تعرف اليوم، ثم قال: وعلامة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي بني عند مقدمه من خيبر قالوا: ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد من القبلة في تلك البنية في حده الأول، وزاد فيه من ناحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 المشرق إلى الأسطوان التي دون المربعة التي عند القبر، وعلامة تلك الأسطوان أن لها نجافا «1» طالعا في الرحبة من بين الأساطين، ومن المغرب إلى الأسطوان التي تلي المربعة التي لها نجاف أيضا من بين الأساطين، وظهر ذلك أي حد المسجد بحجارة، وعبارة يحيى: وقد صمد بحجارة تحت الحصباء، منها أرفة عند الأسطوان التي بين أسطوان التوبة وبين القبر في صف الأسطوان التي لها نجاف، ومن المغرب مثل ذلك بأرفة حجارة في الأرض مبنية، وترك مما يلي الشام لم يزد فيه، انتهى كلام ابن زبالة بحروفه. وقوله: «ومن المغرب مثل ذلك» أي ظهر الحد بأرفة حجارة في الأرض، ولا أدري معنى قوله بأرفة «2» . وذكر ابن زبالة أيضا في موضع آخر ذرع مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان في زمنه، يعني ما استقر عليه في آخر الأمر، ثم قال: وحده من شرقي المنبر أربع أساطين، ومن غربيه أربع أساطين، انتهى. والعجب من ابن النجار فمن بعده من المؤرخين حيث لم يتعرضوا لهذا، لكن ابن النجار اعتذر في أول كتابه بأنه كان مجاورا بالمدينة، ولم تكن كتبه حاضرة عنده، وذكر ما يقتضي أنه كتب ذلك مما علق بفكره، والمطري جرى على منواله، وابن زبالة ويحيى عمدة في ذلك؛ فإنهما أقدم من أرخ للمدينة لأن ابن زبالة هو محمد بن الحسن أحد أصحاب الإمام مالك بن أنس، ويؤخذ من كلامه أنه وضع كتابه في صفر سنة تسع وتسعين ومائة، وأما يحيى فهو من أصحاب أصحابه، وكانت وفاته سنة سبع وسبعين ومائتين عن ثلاث وستين سنة، وأما ابن شبة فكان معاصرا ليحيى وقبله بيسير، ولم أظفر من كتابه بهذا المحل المشتمل على ذكر المسجد، ولو ظفرت به لكان الشفاء؛ فإنه يوضح الأمور إيضاحا تاما، وهو إمام ثقة، وابن زبالة وإن كان ضعيفا لكن اعتضد بموافقة يحيى له وروايته لكلامه من غير تعقيب. ثم ظفرت في كلام المرجاني نقلا عن المحاسبي بما يوافق كلامه؛ فهو العمدة عندي. قال المرجاني: قال الحارث بن أسد المحاسبي: حد المسجد الأول ستة أساطين في عرضه عن يمين المنبر إلى القناديل التي حذاء الخوجة، وثلاث سوار عن يساره من ناحية المنحرف منه، ومنتهى طوله من قبلته إلى مؤخره حذاء تمام الرابع من طيقان المسجد   (1) النجاف: الناتئ المشرف على الشيء. (2) الأرفة: علامة تنصب، تبين الحدّ بين الأرضين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 اليوم: أي في زمنه، وما زاد على ذلك فهو خارج عن المسجد الأول، قال- يعني المحاسبي- وقد روى عن مالك أنه قال: مؤخر المسجد بحذاء عضادة الباب الثاني من الباب الذي يقال له باب عثمان، أعني العضادة الآخرة السفلى، وهو أربع طيقان من المسجد، ثم قال: والروضة ما بين القبر والمنبر، إلى آخر ما قدمناه عنه. وقوله «عن يمين المنبر» أي في جهة المشرق، لما سبق عنه خلاف ما تقدم في كلام ابن زبالة، فإنه عنى يمين مستقبل المنبر، والطيقان التي ذكرها لها ذكر في كلام ابن زبالة ويحيى كما تقدم، وهي غير موجودة اليوم، والباب الثاني من باب عثمان هو المعروف اليوم بباب النساء؛ فهو صريح في رد ما تقدم من تحديد جهة الشام بالحجرين الموجودين اليوم في صحن المسجد، ومؤيد للرواية المتقدمة في الذرع، وهي رواية مائة ذراع في مائة ذراع؛ لأنه يقرب من ذلك. وقد تحصلنا من هذا مع ما تقدم عن المتأخرين على خلاف في نهاية المسجد النبوي من جهة المغرب. فأحد الأقوال: أنه إلى الأسطوانة التي تلي المنبر من تلك الجهة، وهو الذي عوّل عليه ابن النجار ومن اتبعه. والثاني: أنه إلى التي تليها، وهي الثانية من المنبر من تلك الجهة أيضا، وهما بعيدان. والثالث: أنه إلى الأسطوانة الثالثة من المنبر في تلك الجهة، وقد اقتضى كلام ابن زبالة أن ذلك حد المسجد قبل زيادة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه، خلاف ما يظهر من كلام المحاسبي. والرابع: أنه إلى الأسطوانة الرابعة من المنبر؛ لما تقدم من أنه كان على ثلاثة أساطين عن يمين المنبر؛ فيكون جداره الغربي في موضع الأسطوانة الرابعة في صفها من جهة القبلة أسطوان مربع من أسفله عن الأرض بقدر الجلسة، وفي صفه من جهة الشام أسطوان محراب الحنفية المحدث. والخامس: أنه إلى الأسطوانة الخامسة من المنبر؛ لما تقدم من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زاد فيه بعد فتح خيبر من جهة المغرب بقدر أسطوان آخر، كما يؤخذ مما تقدم، ولما صرح به ابن زبالة كما قدمناه أيضا حيث قال في حده: وعن غربيه أربع أساطين؛ فينتهي حده إلى الأسطوانة الخامسة من المنبر، وهي التي تلي الأسطوانة المذكورة في جهة المغرب في صفها، وهي مربعة من أسفلها بقدر الجلسة أيضا، وفي صفها من جهة الشام الأسطوان التي تلي محراب الحنفية من جهة المغرب، فهاتان المربعتان هما اللتان يتردد فيما يكون منهما في موازاة حد المسجد النبوي من جهة المغرب، وقد ذهب تربيعهما في العمارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 المتجددة في زماننا بعد الحريق؛ والمربعة الثانية- أعني الخامسة من المنبر- هي التي يترجح عندي أيضا؛ لأن تجاهها في حائط القبلة طراز آخذ من السقف نازل إلى العصابة السفلى الظاهرية، لكنه انقشر بعضه عند إصلاح العصابة العليا وتبييض الجدار في العمارة التي أدركناها أولا، وذهب منه ما كان بين العصابتين، وبعض ما فوق العليا، وبقي منه ما بين العصابة العليا والسقف، ثم ذهب بقيته في الحريق الحادث في زماننا، وبقي موضعه أصباغ ملونة في الجدار من صناعة الأقدمين، وقد ذهب ذلك عند هدم الجدار القبلي؛ فالظاهر أنه علامة نهاية المسجد النبوي من هذه الجهة، خلاف ما سيأتي عن المطري في جعله علامة لنهاية زيادة عثمان رضي الله عنه؛ لوجوه: الأول: أني ذرعت من الأسطوان التي المنبر إلى الأسطوان المحاذية لهذا الطراز؛ فكان ذلك سبعا وثلاثين ذراعا، فإذا أضفنا ذلك إلى الذرع المتقدم فيما بين الأسطوان التي تلي المنبر وبين الحجرة الشريفة، وهو نحو الستين ذراعا كما تقدم، قارب ذلك المائة التي تقدمت الرواية بها. الثاني: أنه يبعد أن يجعل هذا الطراز لزيادة عثمان رضي الله عنه كما زعمه المطري، ويترك التعليم للمسجد الأصلي والاعتناء به أشد. وقد قال ابن زبالة: إن له علامات في الفسيفساء، والظاهر أن الفسيفساء لما زالت جعل هذا بدلها. الثالث: أنه سيأت أن عمر لما زاد في المسجد جعل عرضه مائة وعشرين ذراعا، وأنه لم يزد فيه من جهة المشرق شيئا؛ فيكون نهاية المسجد في زمنه من جهة المشرق الحجرة الشريفة، وقد علمت أن من الحجرة الشريفة إلى ما يحاذي الطراز المذكور ينقص عن المائة، فكيف يكون نهاية زيادة عثمان؟ وعثمان قد زاد أسطوانا من جهة المغرب على زيادة عمر، فلو كان ذلك الطراز نهاية زيادة عثمان لزم أن يكون عرض المسجد في زمن عمر نحو التسعين، ولا قائل به. الرابع: أنه سيأتي أن عثمان رضي الله عنه لم يزد في جهة المغرب غير أسطوانة واحدة، وأن زيادة الوليد من المغرب أسطوانتان، ولا شك أن من الأسطوانة التي تحاذي الطراز المذكور إلى جدار المسجد الغربي خمس أساطين، فإذا سقط منها ثلاث أساطين لعثمان رضي الله عنه وللوليد بقي أسطوانتان لزيادة عمر رضي الله عنه، وهما يقربان من عشرين ذراعا التي زادها عمر رضي الله عنه على المائة كما سيأتي. الخامس: أن موضع المنبر لم يغير كما سيأتي، ويبعد كل البعد أن يجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم موضع منبره في طرف مسجده ولا يتوسط أصحابه في حال قيامه. السادس: أنه سيأتي أن عمر رضي الله عنه زاد في المسجد شيئا من دار العباس وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ما بقي منها زاد عثمان رضي الله عنه بعضه، وما بقي دخل في دار مروان بن الحكم. وروى يحيى في قصة زيادتها ما يصرح بأنها كانت ملاصقة بجدار المسجد النبوي، بل روي أنه كان لها ميزاب يصب فيه، وقد نقل يحيى أنها كانت فيما بين الأسطوان المربعة التي تلي دار مروان بن الحكم، أي والباب الذي يلي دار مروان بن الحكم؛ لما تقدم من دخول بعضها في دار مروان؛ فوجب أن تكون المربعة المذكورة أول دار العباس وآخر المسجد النبوي. السابع: ما قدمناه من أن المربعة الغربية إذا أطلقت، فالمراد بها الأسطوانة التي كانت ركن صحن المسجد في المغرب عند نهاية المسقف القبلي قبل زيادة الرواقين الآتيين فيه، وهي المثمنة اليوم؛ فهي المرادة بما تقدم عن الجمهور من أن المسجد النبوي كان إلى الفرضتين اللتين في الأسطوانتين اللتين دون المربعتين الغربية والتي في القبر كما نقله ابن زبالة، ولا شك أن الأسطوانة الخامسة من المنبر في جهة المغرب دون المربعة المذكورة؛ لأن المربعة المذكورة هي السادسة من المنبر، فوضح أنها المراد بذلك، فيكون الجمهور على رواية أن المسجد كان مائة في مائة، ومما يرجح هذه الرواية أيضا ما تقدم عن المحاسبي من تحديد مؤخر المسجد الأول نقلا عن مالك بعضادة الباب الثاني من باب جبريل- وهو باب النساء- وما سيأتي من أن باب الرحمة- ويعرف بباب عاتكة- لم يغيره عمر رضي الله عنه، يعني أنه نقله فأخره فقط وجعله في تجاه الباب الأول، لأنه زاد في المسجد من جهة المغرب، وبين باب الرحمة وبين الحجرين اللذين ذكر أنهما حد المسجد من جهة الشام تفاوت ظاهر؛ لتأخره عن موازاتهما كثيرا، وكأنهما إنما جعلا هناك تميزا لفوهتي بالوعة عندهما الحجران المذكوران هناك؛ فالذي يترجح في النقد رواية المائة وما ذكرناه من التحديد، ويحتمل أن ابن النجار لما رأى اختلاف الروايات أراد الأخذ بالأقل لأنه المحقق فذكر التحديد المتقدم، وتبعه من بعده، على أنه اعتذر في أول كتابه بغيبة كتبه، وأن الحفظ قد يزيد وينقص، ولما اتضح ذلك للمقر الشجاعي شاهين الجمالي ناظر الحرم الشريف النبوي وشاد عمائره وشيخ خدامه اتخذ لأعالي الأسطوانة الخامسة من المنبر من صف الأساطين التي في قبلة المنبر طرازا متصلا بالسقف منقوشا فيه أن ذلك هو الذي استقر عليه الأمر في نهاية المسجد النبوي وحده، فالله تعالى يوفقه للمداومة على حفظ الحدود، ويلحقه بالمقر بين الشهود. ويتفرع على ذلك مسألة ذكرها النووي فقال في شرح مسلم والمناسك وغيرهما: إن الصلاة إنما تتضاعف في المسجد الذي كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم دون بقية الزيادات، ولم يحك غيره، لكن الخطيب بن حملة نقل عن المحب الطبري أن المسجد المشار إليه في حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 المضاعفة هو ما كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم مع ما زيد فيه، لأخبار وآثار وردت في ذلك، واستحسنه ابن حملة على ما ذهب إليه النووي في كتبه من التخصيص، مع أن البرهان ابن فرحون نقل في شرحه لابن الحاجب الفرعي أنه لم يخالف في هذه المسألة غير النووي، وأن الشيخ محب الدين الطبري نقل في كتابه الإحكام أن النووي رجع عن ذلك، قال: ونقل أبو عبد الله بن فرحون في شرح مختصر الموطأ أنه وقف على كتاب من كتب المالكية فيه أن مالكا سئل عن ذلك فقال: ما أراه عليه السلام أشار بقوله: «في مسجدي هذا» إلا لما سيكون من مسجده بعده، وأن الله أطلعه على ذلك، انتهى. قلت: أما قوله «إنه لم يخالف في ذلك إلا النووي» فممنوع؛ فقد نقل ذلك ابن الجوزي في الوفاء عن ابن عقيل الحنبلي، وأما ما نقله عن الإحكام للطبري فقد راجعتها فرأيته ترجم لبيان أن مسجده صلّى الله عليه وسلّم المشار إليه بالتفضيل هو الموجود في زمنه مع ما زيد فيه، وأورد بعض الأخبار الآتي ذكرها في آخر الفصل الثاني عشر، ثم قال: وقد يتوهم بعض من لم يبلغه ذلك قصر الفضيلة على الموجود في زمنه صلّى الله عليه وسلّم لمكان الإشارة، وقد وقع ذلك لبعض أئمة العصر، فلما رويت له ما سبق جنح إليه وتلقاه بالقبول، انتهى. فكأن ابن فرحون فهم أن المراد من قولهم «بعض أئمة العصر» النووي. وأما ما حكاه عن مالك فقد نقله الأقشهري في روضته عن عبد الله بن نافع صاحب مالك عن مالك، ولفظه في أثناء كلام: قيل له- أي لمالك- فحد المسجد الذي جاء فيه الخبر هو على ما كان في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم أو على ما هو الآن؟ قال: بل هو على ما هو الآن، قال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر بما يكون بعده، وزويت له الأرض فأري مشارقها ومغاربها، وتحدث بما يكون بعده، فحفظ ذلك من حفظه في ذلك الوقت، ونسي ذلك من نسيه، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون المهديون أن يزيدوا فيه بحضرة الصحابة ولم ينكر عليهم ذلك منكر، انتهى. قلت: ومتمسك من ذهب إلى التخصيص الإشارة في قوله «مسجدي هذا» ولعله صلّى الله عليه وسلّم إنما جاء بها ليدفع توهم دخول سائر المساجد المنسوبة إليه بالمدينة غير هذا المسجد، لا لإخراج ما سيزاد فيه، وقد سلّم النووي أن المضاعفة في المسجد الحرام تعم ما زيد فيه، فليكن مسجد المدينة كذلك، كما أشار إليه ابن تيمية، قال: وهو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم، وكان الأمر عليه في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما، فإن كلّا منهما زاد في قبلة المسجد، وكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه، ويمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا، إلا أن بعض المتأخرين ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت له سلفا في ذلك. وسيأتي في زيادة عمر بن الخطاب ما ورد من الأخبار والآثار المقوية لذلك وليست مسألة الحلف على ألايدخل هذا المسجد فزيد فيه من هذا القبيل، لأن الأيمان مبناها على العرف. الفصل الثالث في مقامه الذي كان يقوم به صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة قبل تحويل القبلة، وبعدما جاء في تحويلها روينا في البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] فتوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 142] فصلى مع النبي صلّى الله عليه وسلّم رجل، ثم خرج بعدما صلى، فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال: هو يشهد أنه صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنه توجه نحو الكعبة، فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة. وأسند يحيى عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا وقف يصلي انتظر أمر الله في القبلة، وكان يفعل أشياء مما لم يؤمر بها ولم ينه عنها من فعل أهل الكتاب، قال: فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي، فأشار له جبريل: يا محمد صلّ إلى البيت، وصلّى جبريل عليه السلام إلى البيت، قال: فدار النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى البيت، قال: فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها إلى وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144] قال: فقال المنافقون: حن محمد إلى أرضه وقومه، وقال المشركون: أراد محمد أن يجعلنا له قبلة، وأن يجعلنا له وسيلة، وعرف أن ديننا أهدى من دينه، وقالت اليهود للمؤمنين: ما صرفكم إلى مكة وتركتم قبلة موسى ويعقوب والأنبياء؟ والله ما أنتم إلا تعبثون، وقال المؤمنون: لقد ذهب منا قوم ماتوا ما ندري أكنا نحن وهم على قبلة أم لا؟ فأنزل الله تعالى في ذلك: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [البقرة: 142- 143] . وروى ابن زبالة عن عثمان بن عبد الرحمن قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا وقف يصلي انتظر أمر الله في القبلة، وكان يفعل أشياء مما لم يؤمر بها ولم ينه عنها من فعل أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الكتاب، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي الظهر في مسجده قد صلّى ركعتين إذ نزل عليه جبريل فأشار إليه أن صلّ إلى البيت، وصلّى جبريل إلى البيت، وذكر نحو ما تقدم. وأسند يحيى عن رافع بن خديج قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، وأمر أن يوجّه إلى المسجد الحرام، فاستدار، قال رافع: فأتانا آت ونحن نصلي في بني عبد الأشهل فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر أن يوجه إلى الكعبة، قال: فأدارنا إمامنا إلى الكعبة ودرنا معه. وعن ابن عمر قال: بينما نحن في صلاة الصبح بقباء جاءهم رجل فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها، وكانت قبلة الناس إلى الشام، فاستداروا وتوجّهوا إلى الكعبة، وهو في الصحيحين بلفظ: كانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة، وفي لفظ: كانوا ركوعا في صلاة الصبح. وعن عثمان بن محمد بن الأخنس أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى بأصحابه فيه- يعني في مسجد القبلتين- الظهر، فلما صلّى ركعتين أمر أن يوجه إلى الكعبة، فاستدار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة، واستقبل الميزاب. وعنه أيضا نحوه، وأن الفريضة كانت الظهر، وأنها يومئذ كانت أربع ركعات. وعن سعيد بن المسيب قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا، وصرفت القبلة قبل بدر بشهرين، والثبت عندنا أنها صرفت في الظهر في مسجد القبلتين. وفي رواية أخرى عنه: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قدم المدينة نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم حولت القبلة قبل بدر بشهرين. وعن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده قال: صرفت القبلة يوم الإثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا. وفي مسلم عن البراء بن عازب: صلّيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا حتى نزلت الآية التي في البقرة: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] فنزلت بعدما صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار وهم يصلون، فحدثهم بالحديث، فولّوا وجوههم قبل البيت. تاريخ تحويل القبلة وفي رواية له عنه أيضا: ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، على الشك. وعند الزمخشري: صرفت القبلة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجد بني سلمة- يعني مسجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 القبلتين- وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة، واستقبل الميزاب، وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال. وروى ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق تويلة بنت أسلم قالت: صليت الظهر والعصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلت مسجد إيلياء، فصلينا سجدتين: أي ركعتين، ثم جاءنا من يخبرنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام. قال الحافظ ابن حجر: وهذه القصة المرادة بقوله في الحديث المتقدم «فمر على قوم من الأنصار يصلون في صلاة العصر نحو بيت المقدس» فهؤلاء القوم هم بنو حارثة، والمار عباد بن بشر، ووصل الخبر وقت الصبح إلى أهل قباء، فلا منافاة بين الحديثين. وسيأتي في مسجد القبلتين أن ابن زبالة نقل أن القبلة صرفت ونفر من بني سلمة يصلون الظهر في مسجد القبلتين، فأتاهم آت فأخبرهم وقد صلوا ركعتين فاستداروا حتى جعلوا وجوههم إلى الكعبة، فبذلك سمي مسجد القبلتين. قال المجد: فعلى هذا كان مسجد قباء أولى بهذه التسمية. مدة الصلاة إلى بيت المقدس وعند أبي القاسم القشيري في لطائف التفسير: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس بعد قدومه المدينة مهاجرا ستة عشر شهرا عن قتادة، وقيل: سبعة عشر شهرا عن ابن عباس، وقال أنس: كان تسعة أشهر أو عشرة أشهر، وقال معاذ بن جبل: ثلاثة عشر شهرا استمالة لقلوب اليهود أن يصلي إلى قبلتهم ربما يرغبون في دينه، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم كره موافقتهم في أمر القبلة لما قالوا: لولا أن ديننا حق لما صلّى إلى قبلتنا، ولما استن بسنتنا، فقال صلّى الله عليه وسلّم لجبريل: وددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال جبريل: إنما أنا ملك عبد، لا أملك شيئا، فسل ربك، فصعد جبريل السماء، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الصحراء نحو أحد يصلي هاهنا ركعتين وهاهنا ركعتين، ويدعو الله أن يجيز له في ذلك، فلم يزل كذلك يديم النظر إلى السماء، حتى دخل ناحية أحد، فأنزل الله تعالى في رجب بعد زوال الشمس قبل الظهر: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] الآية، وصرفت القبلة، وذلك قبل بدر بشهرين، وفي السير لابن حبان: حولت بعد سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام، وحديث البراء المتقدم رواه ابن خزيمة في صحيحه «ستة عشر شهرا» على الجزم كرواية مسلم الأولى، وقال الشيخ شرف الدين الدمياطي: حوّلت القبلة نصف رجب بعد خمسة عشر شهرا ونصف، ونقل النووي في سير الروضة عن محمد بن حبيب الهاشمي أن التحويل يوم الثلاثاء النصف من شعبان من السنة الثانية. ونقل المجد عن ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 حبيب أنها حوّلت في النصف من شعبان في الركعة الثالثة، وقيل: في صلاة العصر. وعند النحاس بعد بضعة عشر شهرا. وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: صرفت في جمادى، قال: وهو أولى الأقوال بالصواب. وقال ابن جرير عن معاذ: بعد ثلاثة عشر شهرا من مقدمه المدينة، قال: وعن أنس عشرة أو تسعة أشهر، انتهى ما نقله المجد. وقال ابن سعد: يقال: إنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار ودار معه المسلمون، ويقال: زار النبي صلّى الله عليه وسلّم أمّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة وصنعت له طعاما، وحانت الظهر فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب، فسمي مسجد القبلتين. قال ابن سعد: قال الواقدي: هذا أثبت عندنا. أول صلاة إلى الكعبة وفي الصحيح أن أول صلاة صلاها- أي متوجها إلى الكعبة- صلاة العصر. قال الحافظ ابن حجر: التحقيق أن أول صلاة صلاها في بني الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر. قال: وأسانيد الروايات المتقدمة- أعني رواية ثلاثة عشر شهرا وتسعة عشر شهرا ونحوها- شاذة. قال: وأما رواية الصحيح فطريق الجمع بين رواية سبعة عشر شهرا وستة عشر، ورواية الشك في ذلك: أن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا، وألغى الأيام الزائدة، ومن جزم بسبعة عشر شهرا عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقول ابن حبان: «سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام» مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول. وقال الربيع: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في ابتداء الهجرة مخيرا في التوجه إلى بيت المقدس أو الكعبة، إلا أنه أمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، فكان التوجه إليه فرضا، وإن كان مخيرا فيه كالمخير في كفارة اليمين أي واحد اختار فهو فرض عليه، وقال ابن عباس: بل كان الفرض التوجه إلى بيت المقدس ثم نسخ. وقال ابن العربي وغيره: نسخت القبلة مرتين. إلى أيّ جهة كانت الصلاة بمكة قبل الهجرة؟ وقال ابن رشد في البيان: ولم يختلف في أن صلاته صلّى الله عليه وسلّم كانت بالمدينة إلى بيت المقدس حتى حولت القبلة، وإنما اختلف في صلاته بمكة قبل قدومه المدينة، فروى أنها كانت إلى الكعبة، وروى أنها كانت إلى بيت المقدس، وروى أنه كان يصلي إلى بيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 المقدس والكعبة بين يديه- أي بين الركنين اليمانيين- وجكى ابن عبد البر الاختلاف في صلاته صلّى الله عليه وسلّم بمكة: هل كانت إلى الكعبة، أو بيت المقدس؟ ثم قال: وأحسن من ذلك قول من قال: كان يصلي بمكة مستقبل القبلتين يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس. وروى الطبري وغيره عن ابن عباس قال: لما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت، وهو ظاهر في أن استقبال بيت المقدس كان بوحي، لا باجتهاد من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه إنما وقع بعد الهجرة، لكن أخرج أحمد عن ابن عباس: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه» فيجمع بأنه لما هاجر أمر بأن يستمر على الصلاة لبيت المقدس. وروى الطبري أيضا من طريق ابن جريح قال: صلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أول ما صلّى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، وصلّى ثلاث حجج، وهاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجّهه الله إلى الكعبة. كيف حرّرت قبلة مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وقال ابن النجار: وصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه- أي: في مسجده- إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم أمر بالتحول إلى الكعبة، فأقام رهطا على زوايا المسجد ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده هكذا، فأماط كل جبل بينه وبينها، فوضع القبلة وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء، فلما فرغ قال جبريل عليه السلام هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها، وصارت قبلته إلى الميزاب. وأسند يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن الخليل بن عبد الله الأزدي عن رجل من الأنصار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقام رهطا على زوايا المسجد ليعدل القبلة، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا رسول الله، ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، ثم قال بيده هكذا، فأماط كل جبل بينه وبين القبلة، فوضع تربيع المسجد وهو ينظر إلى الكعبة لا يحول دون نظره شيء، فلما فرغ قال جبريل عليه السلام بيده هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها، وصارت قبلته إلى الميزاب. وعن نافع بن جبير من طرق مرفوعا: ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى رفعت إليّ الكعبة فوضعتها أؤمها. وعن ابن عجلان قال: وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبلة مسجده وجبريل قائم ينظر إلى الكعبة، ثم كشف له ما بينه وبينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وعن ابن شهاب مرفوعا: ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى فرج لي ما بيني وبين الكعبة فوضعتها أؤمها. وأسند العراقي في ذيله من طريق أبي علي بن شاذان بسنده عن إبراهيم بن دينار عن مالك بن أنس عن زيد بن أنس عن زيد بن أسلم قال: قال ابن عمر: وضع جبريل عليه السلام القبلة لرسول صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، تفرد به عن مالك ومحمد بن إبراهيم- قلت: وهو ثقة. وفي العتبية: قال مالك: سمعت أن جبريل عليه السلام هو الذي أقام لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبلة المسجد مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجد المدينة، انتهى. وأسند ابن زبالة عن أبي هريرة قال: كانت قبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم الشام، وكان مصلاه الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام في مسجده أن تضع موضع الأسطوان المخلّق اليوم خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام، حتى إذا كنت بيمنى باب آل عثمان كانت قبلته ذلك الموضع. قال الذهبي: هذه القبلة كانت في شمالي المسجد، فلما حولت القبلة بقي حائط القبلة الأولى مكان أهل الصفة، انتهى. والأسطوانة المخلقة هي التي تدعى أسطوان عائشة رضي الله عنها فيما قاله المطري، وسيأتي ما نقله ابن زبالة فيها من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى إليها المكتوبة بضعة عشر يوما بعد أن حولت القبلة، ثم تقدم إلى مصلّاه الذي وجاه المحراب في الصف الأوسط، هذا لفظه بحروفه. وقوله: «وجاه المحراب» يريد المحراب العثماني الكائن في جدار القبلة. وقال المطري: إن الحائط القبلي- أي الأول- كان محاذيا لمصلى النبي (؛ لما ورد أن الواقف في مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكون رمانة المنبر الشريف حذو منكبه الأيمن، قال: فمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يغير باتفاق، وكذلك المنبر لم يؤخر عن منصبه الأول: أي من جهة القبلة؛ لما سيأتي أنه زيد فيه من جهة الشام، قال: وإنما جعل هذا الصندوق الذي قبالة مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سترة بين المقام وبين الأسطوانات، انتهى. وسيأتي في ذكر الجذع الذي كان يخطب النبي صلّى الله عليه وسلّم إليه اختلاف في محله: هل هو عن يمين المصلى الشريف أو عن يساره لجهة القبر الشريف؟ وسيأتي ما عبر به ابن النجار في حكاية الرواية الأولى حيث قال: كان في موضع الأسطوانة المخلّقة التي عن يمين محراب النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الصندوق والرواية الثانية هي المرادة بما أسنده يحيى عن ابن أبي الزناد وغيره من علماء المدينة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب إلى جذع في المسجد كان موضعه عند الأسطوانة المخلقة التي تلي القبر: أي في جهة القبر التي عن يسار الأسطوانة المخلقة التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي عندها التي هي عند الصندوق، هذا لفظه، والغرض من إيراده هنا قوله: «التي عن يسار الأسطوانة المخلقة.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 إلى آخره» فهذه الأسطوانة المشار إليها- أعني التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي إليها- هي التي عن يمين الواقف في المصلى الشريف من جهة القبلة، وعلم أن وضع الصندوق هناك كان من الزمن القديم، لكنه كان صندوق مصحف كما سيأتي، ووصفها بالمخلقة لا يشكل عليك بما اشتهر من وصف أسطوانة المهاجرين- وهي أسطوانة عائشة- بالمخلقة، فالوصف بالمخلقة يطلق على أساطين متعددة كما سنوضحه، ولهذا اشتمل هذا الكلام على وصف كل من هاتين الأسطوانتين بهذا الوصف. ونقل المرجاني أن في العتبية ما لفظه: أحب مواضع التنفل في مسجد رسول الله مصلاه حيث العمود المخلق، انتهى. وقال ابن القاسم: أحب مواضع الصلاة في مسجده صلّى الله عليه وسلّم في النفل العمود المخلق، وفي الفرض في الصف الأول، قال ابن رشد: في كون العمود المخلق كان قبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أقرب إلى قبلته صلّى الله عليه وسلّم قول ابن القاسم وسماعه. قلت: وهو دال على أن العمود المخلق هو الذي عند المصلى الشريف، ولهذا روى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقيل له: أي المواضع أحب إليك الصلاة فيه؟ قال: أما النافلة فموضع مصلاه، وأما المكتوبة فأول الصفوف، انتهى. فعبر هنا عن العمود المخلق بمصلاه. ورأيت في جامع العتبية من البيان لابن رشد ما لفظه: قال مالك: ليس العمود المخلق قبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم هو حذو قبلة الإمام، وإنما قدمت القبلة حذو قبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم سواء. قال ابن رشد عقبه: وقد مر في كتاب الصلاة عن ابن القاسم أن مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هو العمود المخلق، خلاف قول مالك هنا، انتهى. وقول مالك: «وإنما قدمت القبلة» يشير به إلى المحراب الذي في جدار القبلة بزيادة عثمان رضي الله عنه، وهذا الذي ذكره يكاد أن يكون قطعيا، وليس مراد ابن القاسم إلا أن العمود المخلق أقرب شيء إلى قبلة النبي صلّى الله عليه وسلّم فيعرف به، ولهذا نقل ابن النجار عن مالك ما يقتضى أن الأسطوانة المذكورة علم لمصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه قال: قال مالك بن أنس: أرسل الحجاج بن يوسف إلى أمهات القرى بمصاحف، فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير، وكان في صندوق عن يمين الأسطوانة التي عملت علما لمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن زبالة فيما سيأتي عنه: إن الخيزران لما أمرت بأن تخلق المسجد أشار عليهم إبراهيم بن الفضل فزادوا في خلوق أسطوانة التوبة والأسطوان التي هي علم عند مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فخلقوهما حتى بلغوا بهما أسفلهما، وزادوا في الخلوق في أعلاهما، انتهى. وقد توهم جماعة أن المراد من كلام ابن القاسم، وما نقل عن مالك، الأسطوانة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 المعروفة اليوم بالمخلقة، وهي التي بأوسط الروضة، وهو مردود؛ لأن الأسطوانة المذكورة ليست علما على مصلى الرسول عليه السلام اتفاقا، ومنشأ الوهم ظنهم اختصاصها بوصف المخلقة، وممن اعتقد ذلك الحافظ ابن حجر فقال في الكلام على قول يزيد بن عبيد: «كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف» ما لفظه: هذا دال على أنه كان للمصحف موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ: يصلي وراء الصندوق، وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه، قال: والأسطوانة المذكورة حقق لنا بعض مشايخنا أنها المتوسطة في الروضة، وأنها تعرف بأسطوانة المهاجرين، وأسرت بها عائشة لابن الزبير، ثم وجدت ذلك في تاريخ المدينة لابن النجار، وذكره قبله محمد بن الحسن في أخبار المدينة، هذا كلام الحافظ ابن حجر، ومراده بمحمد بن الحسن ابن زبالة، وليس في كلامه ولا في كلام ابن النجار ما يقتضي أن الأسطوانة التي عند الصندوق هي أسطوانة المهاجرين، إلا من حيث وصف كل منهما بالمخلقة، فتوهم اتحادهما، وليس كذلك، والله أعلم. محراب المسجد النبوي، ومتى صنع؟ وسيأتي أن المسجد الشريف لم يكن له محراب في عهده صلّى الله عليه وسلّم ولا في عهد الخلفاء بعده، وأن أول من أحدثه عمر بن عبد العزيز في عمارة الوليد، وزعم الأقشهري في روضته أن مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في موضع الصندوق، وفي موضعه اليوم المحراب المرخم المرتفع عن المصلى الشريف وبنائه، فإنه قال ومن خطه نقلت: إنه قيل: إن منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتغير تقديما ولا تأخيرا؛ فالزيادة وقعت في المنبر شماليا لا غير، وحد المنبر الأصلي اليوم مساوية مع مصلى الإمام، ومصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمامه في موضع الصندوق اليوم فهو خارج عن حد المنبر، انتهى. واستنتج من ذلك أن يكون ما حاذى الصندوق يمنة ويسرة، قال: وهو مما زاده عمر روضة من رياض الجنة، قال: لأن المصلى الشريف روضة بلا شك، أي فما حاذاه كذلك، وهو عجيب لم أر من سبقه إليه، وما زعمه من أن حد المنبر- يعني من القبلة- مساو لمصلى الإمام اليوم، يريد به أن نهاية مصلى الإمام اليوم مساوية لنهاية المنبر من جهة القبلة، فإنه صور ذلك بخطه كما ذكرناه، وكأنه توهم أن مصلاه صلّى الله عليه وسلّم كان في محراب بارز عن سمت المسجد؛ لأنه جعل ما عن يمينه ويساره من زيادة عمر رضي الله عنه، ولم يقل به أحد، مع أن ما زعمه من الاستواء لا يشهد له عقل ولا نقل؛ لأن المنبر الذي كان في زمنه هو المنبر الذي كان في زمن المطري، فإنهما متعاصران، وقد سبق عن المطري في الفصل قبله أن بين المنبر والدرابزين الذي في القبلة مقدار أربع أذرع وربع، وأنه اتضح لنا صحة ما قاله، وذلك هو محل المنبر النبوي كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 سنوضحه، وعرض الصندوق المذكور وما بعده إلى الدرابزين المذكور ذراعان ونصف راجح، والمنبر الذي أدركناه أولا لم يكن بينه وبين الدرابزين القبلي سوى ثلاثة أذرع ونصف راجحة، ومع ذلك فحد المنبر متأخر عن حد مصلى الإمام من جهة القبلة بنحو الذراع، وعلى ما ذكره المطري- وهو الصواب- يكون متأخرا بأزيد من ذلك، وذلك فيما يظهر هو القدر الوارد فيما كان بين المنبر والجدار القبلي، وأوضح من ذلك في الرد عليه أن يحيى نقل في كتابه عن محمد بن يحيى صاحب مالك قال: وجدنا ذرع ما بين مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان بعهده إلى جدار القبلة اليوم الذي فيه المحراب عشرين ذراعا وربعا، وهذه هي الزيادة التي زيدت بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم انتهى. قال المراغي: وقد اعتبرته من وجه سترة مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جدار القبلة فكان كذلك، وبه يظهر أن المصلى الشريف لم يغير عن مكانه، وأن الصندوق إنما جعل في مكان الجدار الأول، انتهى. وقد اعتبرت ما ذكره من جدار المسجد القبلي إلى طرف المصلى الشريف المحاذي لطرف صندوق السترة، فكان ذلك إحدى وعشرين ذراعا ونصف وربع يرجح قيراطا، فإذا أسقط من ذلك عرض الجدار- وهو ذراع ونصف راجح- كان الباقي عشرين ذراعا وربعا كما ذكره يحيى، وقد علمت أن الصندوق المذكور له أصل قديم هناك، فكيف يكون في موضع المصلى الشريف ولا ينبه عليه أحد؟ بل يذكرون ما يدل على خلافه، بل كيف يمكنون من ذلك، ويحرمون المسلمين التيمن بمكانه؟ هذا مما يكاد العقل يحيله. وقال النووي في مناسكه ما لفظه: وفي إحياء علوم الدين أنه- أي: المصلى- يجعل عود المنبر حذاء منكبه الأيمن، ويستقبل السارية التي إلى جانبها الصندوق، وتكون الدائرة التي في قبلة المسجد بين عينيه، فذلك موقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى. قلت: وكأن المراد من استقبال السارية المذكورة جعلها عن جهة اليمين كما عليه وضع المصلى اليوم. وقد ذكر ابن زبالة هذه الأسطوانة ثم قال: حدثني إبراهيم بن محمد عن غير واحد منهم خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك قال: إذا عدلت عنها- أي عن الأسطوانة المذكورة- قليلا وجعلت الجزعة التي في المقام بين عينيك والرمانة التي في المنبر إلى شحمة أذنك قمت في مقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكأن الرمانة المذكورة كانت في أعلى عمود المنبر النبوي، ولذا عبر به في الإحياء. وسيأتي أنه لما حفر بعد الحريق الثاني لتأسيس المنبر الرخام وجدوا محل المنبر الأصلي شبه حوض من حجر، وفي جانبيه من المشرق والمغرب فرضتان منقورتان في الحجر بهما شيء من الرصاص بحيث لا يخفى على من أحاط علما بصفة المنبر النبوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 أنهما محل عموديه كانا محكمين بالرصاص فيهما، وقد وقعت في المصلى الشريف مما يلي مؤخره، وتأملت الفرضة التي مما تلي الروضة فوجدتها في محاذاة يميني، فظهر أنها المرادة. وأما الجزعة فذكر المطري أن هذه الجزعة كانت في المحراب القبلي المقابل للمصلى الشريف، وأنها أزيلت منه، قال: وما حققه الغزالي عند ذكر المصلى الشريف بقوله: «إذا وقف المصلى في مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم تكون رمانة المنبر حذو منكبه الأيمن ويجعل الجزعة التي في القبلة بين عينيه فيكون واقفا في مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما كان قبل حريق المسجد، وقبل أن يجعل هذا اللوح القائم في قبلة مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: أي فإنه صار يحجب عن مشاهدة ما في المحراب القبلي، قال: وإنما جعل بعد حريق المسجد، قال: وكان يحصل بتلك الجزعة فتنة كبيرة وتشويش على من يكون بالروضة الشريفة من المجاورين وغيرهم. وذلك أنه كان يجتمع إليها الرجال والنساء، ويقال: هذه خرزة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت عالية لا تنال بالأيدي، فتقف المرأة لصاحبتها حتى ترقى على ظهرها وكتفيها حتى تصل إليها، فربما وقعت المرأة وانكشفت عورتها، وربما وقعتا معا. فلما كان سنة إحدى وسبعمائة جاور الصاحب زين الدين أحمد بن محمد المعروف بابن حنا المصري، فرأى ذلك، فاستعظمه وأمر بقلع الجزعة، فقلعت، قال: وهي الآن في حاصل الحرم، ثم توجه إلى مكة في أثناء السنة فرأى أيضا ما يقع من الفتنة عند دخول البيت الحرام، وتعلق الناس بعضهم ببعض، وحمل النساء على أعناق الرجال للاستمساك بالعروة الوثقى في زعمهم، فأمر بقلع ذلك المثال، وزالت تلك البدعة أيضا، ولله الحمد. قلت: والظاهر أن هذه الجزعة هي التي ذكرها ابن جبير في رحلته في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة لما قدم المدينة، قال: رأيت على المحراب مسمارا مثبتا في جداره فيه شبه حق صغير لا يعرف من أي شيء هو يزعمون أنه كأس كسرى، وشاهدت على رأس المحراب حجرا مربعا أصفر قدر شبر في شبر ظاهر البريق والبصيص، يقال: إنه مرآة كسرى، والله أعلم بحقيقة ذلك كله، انتهى. ثم رأيت في العقد لابن عبد ربه- وهو أقدم من ابن جبير- أن على ترس يعني المحراب العثماني فضة ثابتة غليظة في وسطها مرآة مربعة ذكر أنها كانت لعائشة رضي الله عنها، ثم فوقه إزار رخام فيه نقوش صفائح ذهب مثمنة فيها جزعة مثل جمجممة الصبي الصغير مسمرة، ثم تحتها إلى الأرض إزار رخام مخلق بالخلوق فيه الوتد الذي كان صلّى الله عليه وسلّم يتوكأ عليه في المحراب الأول، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 قلت: وقد سألت عن هذه الجزعة المتولى لأمر حاصل الحرم الشريف وخازن داره- وكان قديم الهجرة- وغيرهما فقالوا: إنه ليس عندهم بالحاصل شيء من ذلك، ولعل ذلك ذهب فيما أخذه الأمير جماز عند كسر حاصل الحرم الشريف، وقد وسع المحراب القبلي عما كان عليه وزيد في طوله بعد هدم الجدار القبلي بعد الحريق الثاني. وقال ابن زبالة: إن ذرع ما بين المنبر ومقام النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يصلي فيه حتى توفي صلّى الله عليه وسلّم أربعة عشر ذراعا وشبرا. قلت: وقد ذرعت ما بين المنبر الموجود قبل الحريق الثاني وأعلى الحفرة الذي ينزل منه إلى درجتها من ناحية مؤخر المصلى الشريف، فكان أربعة عشر ذراعا، وعرض الدرجة شبر راجح؛ فصح ذلك، وأما حده من جهة المشرق فسيأتي أن جعله على هذه الهيئة الموجودة اليوم أمر حادث. وقد قال ابن زبالة: إن ذرع ما بين مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من مسجده الأول وبين أسطوان التوبة سبع عشرة ذراعا، وأسطوان التوبة في جهة المشرق، وقد ذرعت ما بينها وبين درجة الحفرة الشرقية فكانت ست عشرة ذراعا، فعلمنا بذلك أن المصلى الشريف في جانب الحفرة الغربي، وأن ما يلي المشرق منها ليس منه، ويشهد له ما سبق من كلام مالك والإحياء لذكرهما السارية التي عندها الصندوق، بل في خط الأقشهري في مصنفه في الزيادة ضبط قول ابن زبالة فيما بين المصلى الشريف وأسطوان التوبة تسع عشرة ذراعا- بتقديم التاء على السين- وقد ذرعت ما بين طرف أسطوان التوبة الشرقي وبين طرف الحفرة الغربي فكان كذلك. ونقل الأقشهري أيضا عن أبي غسان أحد أصحاب مالك أن ما بين الحجرة الشريفة ومقام النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يقوم فيه ثمانية وثلاثون ذراعا، وأنا ما بينه وبين المنبر الشريف مثل ما سبق عن ابن زبالة، وقد اختبرت ما بين طرف الحفرة الغربي ورخام جدار الحجرة الشريفة فكان ثمانية وثلاثين ذراعا، فعلمنا أن المحاف عليه في حد المصلى الشريف هو طرف الحفرة الغربي، ولم تكن هذه الحفرة في الزمن القديم، ولهذا قال المجد: حكى ابن النجار الإجماع على أن المصلى الشريف لم يغير بتقديم وتأخير، وإنما غيرت هيئته في هذا العصر الأخير بجعل المصلى شبه حفير أو حوض صغير منخفض عن موقف المأمومين نحو ذراع بسبب ترخيمه وتكاثر الرمل المفروش به الروضة. قلت: وهو الآن شبه حوض مربع ينزل إليه بدرجة طوله ذراعان ونصف وثمن، وعرضه ذراعان ونصف ونصف ثمن، لكن زادوا في طوله في العمارة الحادثة بعد الحريق أرجح من نصف ثمن ذراع ونحوه في العرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قال البدر بن فرحون وغيره: وما زال العلماء الأئمة يتحرجون من ذلك، وفي أيام القاضي السراج- وهو أول قاض ولي لأهل السنة- فمن بعده كانت ترفع تلك الحفيرة بالرمل حتى تزول الكراهة، إلى أيام الشرف الأسيوطي، فأراد طمس الحفرة أو رفعها وإزالة الخشب المنقوش أمامها الآتي ذكره، فقام عليه بعض الناس من الخدام، واستعانوا عليه بالأشراف، فكف وانتقل عن المحراب، وصار يصلي إلى الأسطوانة التي تقابل أسطوانة الوفود- أي من مقدم الروضة- ولزمها إلى أن مات، وصار من الفقهاء من يرفع الكراهة بما يحصل من القرب إلى مقامه صلّى الله عليه وسلّم وموضع قدمه، وهذه نزغة؛ فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في الموقف سواء، فمن خالف سنته بالهوى فقد غوى. قلت: وهذه الحفرة بعيدة من موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلو الأرض؛ لما سيأتي عن البدر بن فرحون أنهم وجدوا عند تجديد المنارة التي بباب السلام باب مروان وتحصيب المسجد الشريف القديم بعد حفر قامة، ولما اتضح لنا في العمارة الآتي ذكرها؛ فقد اعتبرت أرض الحجرة الشريفة وأرض المسجد، فكان بينهما من التفاوت ذراعان ونصف وأزيد، لكن مقتضى ما ظهر من الرخام الذي وصفه ابن زبالة حول المنبر ومشاهدتنا لما انكشف منه فيما بين المنبر والأساطين التي خلفه عدم بعض أرض هذه الحفرة من محل الموقف الشريف في ذلك العصر؛ لأن نسبة ما بين هذه الحفرة والرخام المذكور أقل من نصف ذراع، وقد حققت مسألة انخفاض المصلى الشريف في كتابي الموسوم «بكشف الجلباب والحجاب عن القدوة في الشباك والرحاب» ولم يتحرر لي ابتداء ترخيم المصلى الشريف وجعله على هذه الهيئة، وسماه ابن جبير في رحلته بالروضة الصغيرة، وقال: إن الإمام يصلي بالروضة الصغيرة المذكورة إلى جانبها الصندوق، وقال قبل ذلك في وصفها: وبإزائها لجهة القبلة عمود مطبق يقال: إنه على بقية الجذع الذي حنّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق، انتهى. ولم يذكر فيها ترخيما ولا انخفاضا، مع ذكره لذلك في المحل الذي عليه المنبر كما سيأتي، والظاهر أن حدوث انخفاض المصلى الشريف بما حوله تجدد بعد الحريق الأول، وقد اقتضى رأي متولي العمارة الحادثة بعد الحريق الثاني أن يخفض أرض المسجد حتى تكون مساوية للمصلى الشريف، فقطع من الأرض نحو ذراع؛ فكانوا يجدون طبقة من التراب، وتليها طبقة من الرمل، حتى وصلوا إلى الأرض المساوية للمصلى الشريف، وظهر لهم الرخام الذي كان عليه المنبر الشريف بعد حفر نحو نصف ذراع، وحصل بذلك إزالة هذه البدعة، ولله الحمد والمنة. وكان في قبلة المصلى الشريف صندوق خشب بديع الصنعة يعلوه محراب قد أمتج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الصناع فيه نتائج مبدعة من صنعة النجارة، والمحراب المذكور شبه باب نقنطر لموضع لطيف على ظهر الصندوق المذكور مكتوب في داخله أمام مستقبله بعد البسملة آية الكرسي، وعلى ظاهر الباب المقنطر بعد البسملة قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها [البقرة: 144] الآية، وفيه صنعة عجيبة وصبغ باللازورد وتذهيب عجيب يشغل الخاطر، ويفرق القلب الحاضر؛ إذ لا قلب أجمع وأعلى وأرفع من قلب سيد الأنام. عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد قال في شأن الخميصة من أجل تلك الأعلام «اذهبوا بخميصتي «1» هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي» وسيأتي أنه لما قال عمر بن عبد العزيز بعد زخرفة المسجد لعمرو بن عثمان رضي الله عنه: بناؤنا أحسن أم بناؤكم؟ فقال له: بنيناه بناء المساجد، وبنيتموه بناء الكنائس. وقال مالك فيما نقله عنه صاحب التبصرة: كره الناس ما فعل في قبلة المسجد بالمدينة من التزاويق؛ لأنه يشغل الناس في صلاتهم، وأرى أن يزال كل ما يشغل الناس عن الصلاة، وإن عظم ما كان أنفق فيه فالله تعالى يبعث لهذا المصلى الشريف من يزيل عنه هذه الزخارف ويسويه كما كان في زمن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وقد أدعم هذا المحراب الخشبي من ورائه بدعامة شبه التاج العظيم حتى اتصل بالدرابزين الذي بين الأساطين في قبلة الروضة، وبرز عنها، وجعل في أعلاه وعن يمينه وشماله مع امتداد الروضة مغارز لفرخات القناديل المسماة بالبزاقات تسرج في ليالي الزيارات، وفي داخله كسوة جليلة من الحرير من جنس كسوة الحجرة الشريفة ذات طراز منسوج، وقد احترق ذلك كله في الحريق الثاني الآتي ذكره، وذلك بعد تمام هذا التأليف، فاقتضى رأي متولي العمارة الحادثة بعد ذلك إبداله بمحراب مرخّم في دعامة تبني في محل الصندوق المذكور، فحفروا هناك لأساسها نحو القامة، فوجدوا هناك قبرا بدا لحده مسدودا باللبن أخرجوا منه بعض العظام، ووجدوا الأقدمين لما أسسوا الأسطوانة التي عنده حرفوا أساسها عنه قليلا، فتركوه على حاله، وأسسوا للمحراب المذكور، ورخموه بالرخام الملون ترخيما بديعا فيه صبغ ذهبي وغيره، وهو أبهى منظرا من الأول، وجعلوا أرض المحراب المذكور مرفعة قليلا على المصلى الشريف؛ لأنه إنما جعل في محل الصندوق الذي كان أمام المصلى الشريف، فليتنبه لذلك، والله أعلم. تنبيهات- الأول: قال البخاري في صحيحه «باب قدركم ينبغي أن يكون بين المصلى والسترة» ثم روى عن سهل بن سعد قال: كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين الجدار ممر   (1) الخميصة: ثوب أسود أو أحمر له أعلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 المشاة، ثم روى عن سلمة- يعني: ابن الأكوع- قال: كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة، تجوزها: أي المسافة، وهي ما بين المنبر والجدار، وقوله في الحديث الأول «كان بين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أي: مقامه في صلاته، وكذا هو في رواية أبي داود، وقوله: «وبين الجدار» أي: جدار المسجد مما يلي القبلة كما صرح به من طريق ابن غسان في الاعتصام، ومنه يعلم ما في قول النووي في شرح مسلم: يعني بالمصلى موضع السجود، والحديث الثاني رواه الإسماعيلي بلفظ: كان المنبر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما تمر العنز. قال الكرماني في بيان مطابقته للتبويب: إن ذلك من حيث إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقوم بجنب المنبر: أي ولم يكن لمسجده محراب، فيكون مسافة ما بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار، فكأنه قال: الذي ينبغي أن يكون بين المصلى وسترته قدر ما كان بين منبره صلّى الله عليه وسلّم وجدار القبلة. قلت: وكأن الكرماني بنى ذلك على ما عهده في غالب المساجد من أن مصلى الإمام يكون إلى جانب المنبر، وقد تقدم بيان ما بينهما من المسافة وحكاية الإجماع على أنه لم يغير، وأيضا فلا يلزم من كونه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي إلى جانب المنبر أن يكون بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار كما لا يخفى، وأوضح مما ذكره- كما قال الحافظ ابن حجر- ما ذكره ابن رشد من أن البخاري أشار إلى حديث سعد بن سهل الذي في باب الصلاة على المنبر فإن فيه أنه صلّى الله عليه وسلّم «قام على المنبر حين عمل، وصلّى عليه» فاقتضى ذلك أن ما بين المنبر والجدار يؤخذ منه موضع قيام المصلى. قلت: لكن يلزم من ذلك التأخر عند السجود؛ لأن ذلك المقدار لا يتأتى فيه السجود، وقد ثبت رجوعه صلّى الله عليه وسلّم القهقرى «1» من أجل السجود لما صلّى على المنبر لعدم تأتّيه عليه. وقال ابن بطال: هذا أقل ما يكون بين المصلى وسترته، يعني قدر ممر الشاة، وقيل: أقل ذلك ثلاثة أذرع؛ لحديث بلال أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع» كما في الصحيح، وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة، وأكثره ثلاثة أذرع، وجمع بعضهم بأن الأول في حال القيام والقعود، والثاني في حال الركوع والسجود، قاله الحافظ ابن حجر. قلت: ويلزمه التأخر عن موقفه الأول عندهما كما قدمناه، وهو متعين؛ إذ لا يتأتى   (1) رجع القهقرى: رجع على عقبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 السجود في أقل من ثلاثة أذرع، ولهذا كان حريم المصلّي الذي يكون بينه وبين سترته ثلاثة أذرع عندنا. وقال ابن الصلاح: قدروا ممر الشاة بثلاث أذرع. قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى ما فيه. قلت: الظاهر أن البخاري إنما أورد حديث سلمة المشتمل على بيان ما بين المنبر والجدار ليستدل به على مقدار ممر الشاة، فإن ما بينهما كان معلوما عندهم، وقد تقدم عن العتبية أنه كان بينهما قدر ما يمر الرجل منحرفا، والذي اقتضى حمل ابن الصلاح ممر الشاة على ما ذكره أن ذلك هو القدر الذي يتأتى فيه السجود مع الاستمرار في الموقف. وقد قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف، وقد ورد الأمر بالدنو من السترة مع بيان حكمة ذلك، وهو ما رواه أبو داود وغيره مرفوعا: «إذا صلّى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته» ، قال الحافظ ابن حجر: وهو حديث حسن، والله أعلم. التنبيه الثاني: في العود الذي كان في المصلى الشريف. روينا في كتاب يحيى عن مصعب بن ثابت قال: طلبنا علم العود الذي كان في مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم نقدر على أحد يذكر لنا فيه شيئا، قال مصعب: حتى أخبرني محمد بن مسلم بن السائب صاحب المقصورة قال: جلس إلى أنس بن مالك، فقال: تدري لم صنع هذا العود؟ وما أسأله عنه، فقلت: لا والله ما أدري لم صنع، فقال أنس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع عليه يمينه ثم يلتفت إلينا فيقول: استووا، واعدلوا صفوفكم. وعن أنس بن مالك قال: لما سرق العود الذي كان في المحراب فلم يجده أبو بكر حتى وجده عمر رضي الله عنهما عند رجل من الأنصار بقباء قد دفن في الأرض أكلته الأرضة، فأخذ له عودا، فشقه فأدخله فيه، ثم شعبه «1» ، فرده في الجدار، وهو العود الذي وضعه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في القبلة، وهو الذي في المحراب اليوم باق فيه. وعند أبي داود عن محمد بن أسلم صاحب المقصورة قال: صلّيت إلى جنب أنس بن مالك يوما فقال: هل تدري لم صنع هذا العود؟ فقلت: لا والله، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع يده عليه فيقول: «استووا واعدلوا صفوفكم» . قلت: سيأتي في الكلام على الجذع أن الأسطوانة المتقدم ذكرها التي هي علم   (1) شعبه: أصلح صدعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 المصلّى الشريف كان بها خشبة ظاهرة محكمة بالرصاص، يقول الناس: إنها من الجذع الذي حن للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأن المطري قال: إن الأمر ليس كذلك، وإن العز ابن جماعة أمر بإزالتها، فأزيلت عام خمس وخمسين وسبعمائة. قال المجد: ورأى بعض العلماء أن إزالتها كانت وهما منهما، وذلك أن إتقان هذه الخشبة، وترصيصها بين حجارة الأسطوان وإبرازها لم يكن سدى، وإنما شاهد الحال يشهد بأنه كان من عمل عمر بن عبد العزيز؛ فالظاهر أنه كان من الجذع. قلت: بل الظاهر أنها ليست منه؛ إذ لم ينقل بقاء شيء منه، بل الظاهر أنها من هذا العود المذكور؛ لما قدمناه فيه، ولما سيأتي عن ابن النجار. وقول الزيني المراغي: «إن احتمال ذلك كان يمكن تسليمه قبل حريق المسجد، أما بعده فمردود؛ لأنه بقي من حريق المسجد بقايا خشب كثيرة كما سنحققه» . وقول المؤرخين: «إنه لم يبق ولا خشبة واحدة» مردود؛ فقد شاهدت عند إزالة هدم الحريق من الحجرة الشريفة ما لا يحصى من أطراف الخشب المحترق، حتى ميزاب الحجرة الشريفة رأيته من عرعر «1» فيما أظن احترق بعضه وبقي منه قدر الذراع، وأخذ الناس كثيرا من تلك الأخشاب، واتخذ متولي العمارة وغيره منها سبحا كثيرة، وعبارة ابن النجار صريحة فيما ذكرناه من كون العود المذكور كان بالأسطوانة المذكورة، فإنه ترجم عليه بقوله: «ذكر العود الذي في الأسطوانة التي عن يمين القبلة» ، ثم روى عن أهل السير خبر مصعب بن ثابت المتقدم. وشيوع أن تلك الخشبة من الجذع قديم، فقد قال ابن جبير في رحلته: إن بإزاء الروضة- يعني المصلى الشريف منها- لجهة القبلة عمودا مطبقا يقال: أنه على بقية الجذع الذي حنّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقطعة منه وسط العمود ظاهرة يقبلها الناس ويبادرون للتبرك بلمسها ومسح خدودهم فيها، وعلى حافتها في القبلة منها الصندوق، انتهى. واستفيد منه أيضا أن وضع الصندوق هناك كان قبل حريق المسجد في زمنه، وسبب الشيوع المذكور في تلك الخشبة ما سيأتي من أن الجذع كان قريبا من محل الأسطوانة المذكورة؛ فالظاهر أن الخشبة المذكورة كانت قريبا منه في الجدار، فجعلت في تلك الأسطوانة لقربها من المحل الأول؛ فقد روى يحيى أيضا عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان يستمسك بعود كان في القبلة، ثم يلتفت عن يمينه وعن شماله، فإذا استوت الصفوف كبر» .   (1) العرعر: جنس أشجار وجنبات من الصنوبريات، فيه أنواع تصلح للأحراج وللتزيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وروى ابن زبالة عن عمرو بن مسلم قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أسن قد جعل له العود الذي في المقام، إذا قام في الصلاة توكأ عليه، قال: ثم ألصق إليه عود معه، وروى أيضا هو ويحيى من طريقه عن مسلم بن خباب قال: لما قدم عمر رضي الله عنه القبلة فقد العود الذي كان مغروسا في الجدار، فطلبوه، فذكر لهم أنه في مسجد بني عمرو بن عوف أخذوه فجعلوه في مسجدهم، فأخذه عمر فرده إلى المحراب، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة أمسكه بكفه يعتمد عليه، ثم يلتفت في شقه الأيمن فيقول: عدّلوا صفوفكم، ثم يلتفت إلى الأيسر فيقول مثل ذلك، ثم يكبر للصلاة، وذلك العود من طرفاء الغابة «1» . هل مصلاه صلّى الله عليه وسلّم على عين القبلة أو جهتها؟ التنبيه الثالث: أسند يحيى عقب ما تقدم عن ابن عباس قال: كنت أرى صفحة خد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليمنى في مسجده يتيامن. وعن عروة: كان الزبير بن العوام وأناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتيامنون ويقولون: إن البيت تهامي، قال يحيى: وسمعت غير واحد من مشايخنا ممن يقتدى به يقول: المنبر على القبلة. قلت: لعل ما ذكره من التيامن في غير المصلى الشريف، والذي ذكره أصحابنا أنه لا يجتهد في محراب النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه صواب قطعا؛ إذ لا يقر على خطأ؛ فلا مجال للاجتهاد فيه حتى لا يجتهد في اليمنة واليسرة، بخلاف محاريب المسلمين، سيما وقد تقدم أنه وضعه وجبريل يؤم به البيت، والمراد بمحرابه صلّى الله عليه وسلّم مكان مصلاه، فإنه لم يكن في زمنه صلّى الله عليه وسلّم محراب، نعم إن ثبت تيامنه صلّى الله عليه وسلّم في مكان مصلاه فما نقله متجه، ويؤيده أن الدكة التي ظهرت في محل المنبر ووجد فيها آثار قوائم المنبر النبوي كما سيأتي متيامنة، ولذا حرّضت على بقائها على ما وجدت عليه فبقيت على حالها، إلا أنهم وضعوا المنبر عليها غير متيامن فصار محرفا عنها، وعبارة النووي في التحقيق: وكل موضع صلّى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضبط موقفه تعين، ولا يجتهد فيه بتيامن ولا تياسر، انتهى. وقال الشيخ محب الدين الطبري في شرح التنبيه، ومن خطه نقلت: إن قيل محرابه صلّى الله عليه وسلّم على عين الكعبة؛ إذ لا يجوز فيه الخطأ، فيلزم مما قلتم أنه لا يصح صلاة من بينه وبينه من أحد جانبيه أكثر من سمت الكعبة إلا مع الانحراف. قلنا: من أين لكم أنه على يمين الكعبة؟ فيجوز أن يكون ذلك ولا خطأ بناء على أن   (1) الطرفاء: جنس من النبات منه أشجار وجنبات من الفصيلة الطرفاوية، ومنه الأثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الفرض الجهة، نعم إن روي في الصحيح أنه نصب على العين فنقول: مقتضى الدليل ما ذكرتموه على القولين، أما على العين فظاهر، وأما على الجهة فإنما ذلك عند عدم المشاهدة، وهذا المحراب منزل منزلة الكعبة فمشاهده كمشاهدها، إلا أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم على بناء مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم واسعا وصلاتهم في أقطاره من غير أن ينقل الانحراف عنهم دليل على طرد حكم البعد في كل مكان، سواء تحقق صوب عين الكعبة أم لا، توسعة وتعميما للحكم، وتحقيقا للقول بأن فرض البعيد هو الجهة مطلقا، ولا أعلم أحدا تكلم في هذه المسألة، والظاهر فيها ما ذكرته، انتهى. وفيه نظر، بل صلاة من بينه وبين المصلى الشريف أكثر من سمت الكعبة صحيح، واعتبار العين من غير انحراف لما تقرر من أن المسامتة تصدق مع البعد، ألا ترى أن الدائرة إذا عظمت اتسعت الخطوط فيسامت الخط الخارج من جبين المصلى الكعبة ظنا، وهو المكلف به في البعد، نعم هذا يقتضي جواز الاجتهاد بالتيامن والتياسر لمن بينه وبين المصلى الشريف أكثر من سمت الكعبة إلا أن ينقل عدمه عن الصحابة في زمنه صلّى الله عليه وسلّم مع إقراره صلّى الله عليه وسلّم لهم على ذلك، والله أعلم. قد تم- بمعونة الله تعالى وحسن توفيقه- الجزء الأول من كتاب «وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى» تأليف العلامة المحقق، والمؤرخ المدقق، نور الدين علي السمهوري، أحد علماء القرن العاشر الهجري، ويليه- إن شاء الله تعالى- الجزء الثاني منه، وأوله «الفصل الرابع، في خبر الجذع الذي كان يخطب إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم- إلخ» نسأل الله الذي بيده تتم الصالحات أن يعين على إكماله، بمنه وفضله؛ إنه لا معين سواه، ولا يوفق للخير غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فهرس الجزء الأول ترجمة مؤلف الكتاب/ 5 خطبة المؤلف/ 7 أبواب الكتاب/ 8 الباب الأول: في أسماء هذه البلدة الشريفة/ 13 أثرب/ 13 أرض الله/ 14 ذات الحجر/ 19 الباب الثاني/ 31 الفصل الأول: في تفضيلها على غيرها من البلاد مكة أفضل أم المدينة/ 31 الفصل الثاني: وعد من صبر على شدها/ 39 الفصل الثالث: في الحث على حفظ أهلها وإكرامهم/ 45 الفصل الرابع: في بعض دعائه صلّى الله عليه وسلّم لها ولأهلها، وما كان بها من الوباء، ونقله/ 48 الفصل الخامس: في عصمتها من الدجال والطاعون/ 55 الفصل السادس: في الاستشفاء بترابها، وبتمرها/ 59 الفصل السابع: في سرد خصائصها/ 64 الفصل الثامن: في الأحاديث الواردة في تحريمها، وهي كثيرة/ 75 الفصل التاسع: في بيان عير وثور/ 77 الفصل العاشر: في أحاديث تقتضي زيادة الحرم على ذلك التحديد، وأنه مقدر ببريد/ 80 الفصل الحادي عشر: في بيان الألفاظ المتعلقة بالتحديد/ 82 الفصل الثاني عشر: في حكمة تخصيص هذا المقدار المعين بالتحريم/ 86 الفصل الثالث عشر: في أحكام هذا الحرم الشريف، وفيه مسائل/ 87 الفصل الرابع عشر: في ذكر بدء شأنها، وما يؤول إليه أمرها/ 96 الفصل الخامس عشر: فيما ذكر من وقوع ما أخبر به صلّى الله عليه وسلّم من خروج أهلها وتركها، وذكر كائنة الحرة المقتضية لذلك/ 99 الفصل السادس عشر: في ظهور نار الحجاز التي أنذر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم/ 113 الباب الثالث: في أخبار سكانها في سالف الزمان، ومقدمه صلّى الله عليه وسلّم إليها، وما كان من أمره بها في سنين الهجرة، وفيه اثنا عشر فصلا/ 125 الفصل الأول: في سكانها بعد الطوفان، وما ذكر في سبب نزول اليهود بها، وبيان منازلهم/ 125 الفصل الثاني: في سبب سكنى الأنصار بها/ 132 الفصل الثالث: في نسبهم/ 138 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الفصل الرابع: في تمكنهم بالمدينة، وظهورهم على يهود، وما اتفق لهم مع تبع/ 142 الفصل الخامس: في منازل قبائل الأنصار بعد إذلال اليهود/ 151 الفصل السادس: فيما كان بينهم من حرب بعاث/ 170 الفصل السابع: في مبدأ إكرام الله لهم بهذا النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر العقبة الصغرى/ 173 الفصل الثامن: في العقبة الكبرى/ 179 الفصل التاسع: في هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها/ 184 الفصل العاشر: في دخوله صلّى الله عليه وسلّم أرض المدينة، وتأسيس مسجد قباء/ 191 الفصل الحادي عشر: في قدومه صلّى الله عليه وسلّم باطن المدينة/ 198 الفصل الثاني عشر: فيما كان من أمره صلّى الله عليه وسلّم بها في سني الهجرة إلى أن توفاه الله عز وجل مختصرا/ 209 الباب الرابع: فيما يتعلق بأمور مسجدها الأعظم النبوي/ 249 الفصل الأول: في أخذه صلّى الله عليه وسلّم لموضع مسجده الشريف، وكيفية بنائه/ 249 الفصل الثاني: في ذرعه وحدوده التي يتميز بها عن سائر المسجد اليوم/ 261 الفصل الثالث: في مقامه الذي كان يقوم به صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة قبل تحويل القبلة/ 275 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الجزء الثاني تأليف الشّيخ العلّامة نور الدّين علي بن أحمد السّمهودي المتوفى 911 هـ اعتنى به ووضع حواشيه خالد عبد الغني محفوظ الجزء الثّاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي اختار رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم من أطيب الأرومات، والصلاة والسلام الأتّمان الأكملان على أشرف الكائنات، وعلى آله وصحبه الذين فدوه بالأنفس والأموال وبالآباء والأمهات. وعلى من اتبعه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. [تتمة الباب الرابع: فيما يتعلق بأمور مسجدها الأعظم النبوي] الفصل الرابع: الروايات في حنين الجذع في خبر الجذع الذي كان يخطب إليه صلّى الله عليه وسلّم واتخاذه المنبر، وما اتفق فيه، وما جعل بدله بعد الحريق، واتخاذ الكسوة له. روينا في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه. وفيه عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة رفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فضمّه إليه وهو يئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها. وفيه أيضا عنه: كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر فكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت «1» العشار، الحديث. وعند النسائي في الكبرى عن جابر: اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج: أي التي انتزع ولدها منها. وعند ابن خزيمة عن أنس: فحنّت الخشبة حنين الواله «2» . وفي روايته الآخرى عند الدارمي: خار ذلك الجذع كخوار الثور. وفي حديث أبي بن كعب عند أحمد والدارمي وابن ماجه: فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق. وفي حديثه: فأخذ أبيّ بن كعب ذلك الجذع لما هدم المسجد فلم يزل عنده حتى بلى وعاد رفاتا. وفي حديث أبي سعيد عند الدارمي: فأمر به أن يحفر له ويدفن، وسيأتي أحاديث بذلك، ولا تنافي بين ذلك؛ لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف، فأخذه أبيّ بن كعب.   (1) العشار: مفردها: العشراء، من النّوق ونحوها: ما مضى على حملها عشرة أشهر. وفي التنزيل العزيز: وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ [التكوير: 4] . (2) الواله: الذي اشتد حزنه حتى ذهب عقله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 وقال أبو اليمن بن عساكر في تحفته: وفي رواية فلما جلس عليه أي المنبر حنت الخشبة حنين الناقة على ولدها، حتى نزل النبي صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليها، فلما كان من الغد رأيتها قد حوّلت، فقلنا: ما هذا؟ قال: جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر فحولوها، انتهى. وفي مسند الدارمي من حديث بريدة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب قام فأطال القيام، فكان يشق عليه قيامه، فأتى بجذع نخلة، فحفر له وأقيم إلى جنبه قائما للنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب فطال القيام عليه استند فاتكى عليه، فبصر به رجل كان ورد المدينة فرآه قائما إلى جنب ذلك الجذع، فقال لمن يليه من الناس: لو أعلم أن محمدا يحمدني في شيء يرفق به لصنعت له مجلسا يقوم عليه، فإن شاء جلس ما شاء، وإن شاء قام، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ائتوني به، فأتوه به، فأمر أن يصنع له هذه المراقي الثلاث أو الأربع، هي الآن في مسجد المدينة؛ فوجد النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك راحة، فلما فارق النبي صلّى الله عليه وسلّم الجذع وعمد إلى هذه التي صنع له جزع الجذع فحنّ كما تحن الناقة، حين فارقه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فزعم ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمع حنين الجذع رجع إليه فوضع يده عليه، وقال: اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت أن أغرسك في الجنة، فتشرب من أنهارها وعيونها فتحسن زينتك، وتثمر، فتأكل كل أولياء الله من ثمرتك وتخلد؛ فعلت؛ فزعم أنه سمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول له: نعم قد فعلت، مرتين، فسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: اختار أن أغرسه في الجنة. ولفظه عند عياض: إن شئت أردك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك، ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فتأكل أولياء الله من ثمرك، ثم أصغى له النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله وأكون في مكان لا أبلي فيه فسمعه من يليه، قال صلّى الله عليه وسلّم: قد فعلت، ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء، فكان الحسن إذا حدث بهذا بكى وقال: يا عباد الله، الخشبة تحن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شوقا إليه لمكانه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه، وهو في كتاب يحيى بنحوه، وفي حديث سهل بن سعد عند أبي نعيم: فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة، فأقبل الناس عليها فسمعوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم. وفي لفظ عند ابن عبد البر: فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق، فرجع إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر، قال: فكان إذا صلّى صلى إليه، فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة وعاد رفاتا. وهذا يبعد ما قدمناه من التأويل؛ إذا ظاهره أنه لم يدفن. ويحتمل: أن ذلك كان بعد دفنه، ومشى يصلي إليه قريبا منه؛ لأنه كان عند مصلّاه كما سنحققه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وفي كتاب يحيى عن أبي سعيد: كان صلّى الله عليه وسلّم يخطب إلى جذع نخلة، فأتاه رجل رومي، فقال: أصنع لك منبرا تخطب عليه، فصنع له منبره الذي ترون، فلما قام عليه فخطب حنّ الجذع حنين الناقة إلى ولدها، فنزل إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم فضمّه فسكن، وأمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدفن ويحفر له. وعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب إلى جذع يتساند إليه، فمر رومي فقال: لو دعاني محمد لعملت له ما هو أرفق له من هذا، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليه، فدعاه، فجعل له المنبر، ثم ذكر حنين الجذع وتخيير النبي صلّى الله عليه وسلّم له، قال: فقالت: فسمعنا النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: فنعم، فغار الجذع فذهب. وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب إلى الجذع، فلما اتخذ المنبر وعدل إليه حن الجذع حتى أتاه فاحتضنه فسكن، وقال: لو لم أفعل هذا لحنّ إلى يوم القيامة. وذكر الإسفراييني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعاه إلى نفسه، فجاء يخرق الأرض فالتزمه، ثم أمره فعاد إلى مكانه. صانع المنبر وفي كتاب ابن زبالة عن خالد بن سعيد مرسلا أن تميما الداري كان يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشتد عليه وجع كان يجده في فخذيه يقال له الزجر، فقال له تميم: يا رسول الله ألا أصنع لك منبرا تقوم عليه، فإنه أهون عليك إذا قمت وإذا قعدت؟ قال: وكيف المنبر؟ قال: أنا يا رسول الله أصنعه لك، قال: فخرج إلى الغابة فقطع منها خشبات من أثل، فعمل له درجتين: أي غير المقعد، فتحول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخشبة التي كان يستند إليها إذا خطب، ثم ذكر حنينها، وقال: بلغنا أنها دفنت تحت المنبر. وعن المطلب بن حنطب أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بالجذع فحفر له تحت المنبر فدفن هنالك، قال: والذي عمل المنبر غلام نصيبة المخزومي، وكان المنبر من أثلة كانت قريبا من المسجد. وعن سهل بن سعد الساعدي نحو ما في الصحيح أن رجالا أتوا سهلا وقد امتروا في المنبر مم عوده، فسألوه عن ذلك، فقال: والله إني لأعرف ممّ هو، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى فلانة امرأة من الأنصار قد سماها سهل: مري غلامك النجار، أن يعمل لي أعوادا أجلس عليها إذا كلمات الناس، فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها فأرسلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمر بها فوضعت هاهنا، ثم رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى عليها وكبر وهو عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر، هذا لفظ الصحيح، وزاد فيه ابن زبالة: وقطعت خشب المنبر بيدي مع الذي بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحملت إحدى الدرجات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 ورواه يحيى بلفظ: عمل من أثل، يعني المنبر، وكنت ممن حمل درجته هذه، ثم ذكر حنين الجذع، وفي رواية للبخاري في كتاب الهبة «فجاؤا به- يعني المنبر- فاحتمله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فوضعه حيث ترون» . وقال الحافظ ابن حجر: صحف بعض الرواة قوله إلى فلانة امرأة من الأنصار فقال إلى علاثة (بالعين المهملة والمثلاثة) وهو خطأ، والمرأة لا يعرف اسمها، ونقل ابن التين عن مالك أن النجار كان مولى لسعد بن عبادة؛ فيحتمل أنه كان في الأصل مولى امرأته، ونسب إليه مجازا، واسم امرأته فكيهة بنت عبيد بن دليم، وهي ابنة عمه؛ فيحتمل أن تكون هي المرأة، لكن رواه ابن راهواه عن ابن عيينة وقال: مولى لبني بياضة، ووقع عند الكرماني قيل: اسمها عائشة، وأظنه صحّف المصحف، ثم وجدت في الأوسط للطبراني من حديث جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي إلى سارية في المسجد، ويخطب إليها، ويعتمد عليها، فأمرت عائشة، فصنعت له منبره هذا، فذكر الحديث، وإسناده ضعيف، ولو صح لما دل على أن عائشة هي المرادة في حديث سهل هذا إلا بتعسف، والله أعلم. وأسند ابن سعد في الطبقات من حديث أبي هريرة، ورجاله ثقات إلا الواقدي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان يخطب وهو مستند إلى جذع، فقال: إن القيام قد شق علي، فقال تميم الداري: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام؟ فشاور النبي صلّى الله عليه وسلّم المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال: مره أن يعمل» الحديث. موضع الجذع وأسند يحيى منقطعا عن ابن أبي الزناد وغيره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد كان موضعه عند الأسطوانة المخلّقة التي تلي القبر التي عن يسار الأسطوانة المخلّقة التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي عندها التي هي عند الصندوق، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن القيام قد شق علي، وشكا صلّى الله عليه وسلّم ضعفا في رجليه، قالوا: فقال تميم الداري- وكان رجلا من لخم من أهل فلسطين- يا رسول الله أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام، قالوا: فلما أجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذو الرأي من أصحابه على اتخاذه قال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له كلاب أعمل الناس، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: مره يعمل، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلسا، ثم جاء بالمنبر فوضعه في موضعه اليوم، ثم راح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة، فلما جاوز الجذع يريد المنبر حن الجذع ثلاث مرات كأنه خوار بقرة، حتى ارتاع الناس، وقام بعضهم على رجليه، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مسه بيده، فسكن، فما سمع له صوت بعد ذلك، ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المنبر فقام عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 فلم يزل كذلك في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، فلما هدم عثمان المسجد اختلف في الجذع، فمنهم من قال: أخذه أبي بن كعب، فكان عنده حتى أكلته الأرضة، ومنهم من قال: دفن في موضعه. شهرة حديث حنين الجذع وقال عياض: حديث حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر. وقال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف، ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف، وفيه دليل على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكا كأشرف الحيوان. وقد نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته؛ فهذا أكبر من ذلك. الموضع الذي دفن فيه الجذع ونقل ابن زبالة اختلافا في دفن خشبته؛ فعن عثمان بن محمد: دفنت دوين المنبر عن يساره، وقال بعضهم: دفنت شرقي المنبر إلى جنبه، وقال بعضهم: دفنت تحت المنبر، وتقدم في رواية أنه دفن في موضعه الذي كان فيه، ومحصل الرواية المتقدمة في كلام يحيى أنه كان في جهة المشرق يسار المصلّى الشريف. ونقل ابن زبالة عن عبد العزيز بن محمد أن الأسطوان الملطّخ بالخلوق ثلثاها أو نحو ذلك محرابها موضع الجذع الذي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب إليه، بينها وبين القبلة أسطوان، وبينها وبين المنبر أسطوان. بدعة اصطنعها الناس بسبب الجذع قلت: وهذه الأسطوانة هي التي تقدم أنها علم المصلّى الشريف عن يمينه، ولهذا روى عقبة ما قدمناه من القيام بمقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة لمن عدل عنها قليلا، وهذا مستند المطري في قوله: وكان هذا الجذع عن يمين مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاصقا بجدار المسجد القبلي في موضع كرسي الشمعة اليمنى التي توضع عن يمين الإمام المصلّي في مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأسطوانة التي قبلي الكرسي متقدمة عن موضع الجذع؛ فلا يعتمد على قول من جعلها في موضع الجذع، قال: وفيها خشبة ظاهرة مثبتة بالرصاص سدادة لموضع كان في حجر من حجارة الأسطوانة مفتوح قد حوط عليه بالبياض والخشبة ظاهرة، تقول العامة: هذا الجذع الذي حن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس كذلك بل هو من جملة البدع التي يجب إزالتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 لئلا يفتن بها الناس، كما أزيلت الجزعة التي كانت في المحراب القبلي، وذكر قصة الجزعة التي قدمناها. وقال المجد: إن الخشبة المذكورة كان يزدحم على زيارتها والتمسح بها، ويعتقد الناس عامة أنها الجذع، فظن بعض الفقهاء أن هذا من المنكر الذي يتعين إزالته، وصرح بهذا في كتبه، إلى أن وافق على ذلك شيخنا العز بن جماعة فأمر بإزالتها، إلى آخر ما قدمناه عنه. قال: وكان موضع الخشبة من الأسطوان المذكور على مقدار ذراعين من الأرض ارتفاعا، وقد طلي عليه بالقصة، ولا عين منه ولا أثر. قلت: الذي يظهر- كما قدمته- أن هذه الخشبة كانت من العود الذي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يضع يده عليه ويقول: عدلوا صفوفكم، كما تقدم، والله أعلم. عود إلى الاختلاف في صانع المنبر ونقل ابن زبالة الاختلاف في الذي عمل المنبر، فقيل: غلام نصيبة المخزومي، وقيل: غلام للعباس، وقيل: غلام لسعيد بن العاص يقال له باقول (بموحدة وقاف مضمومة) وقيل: غلام لامرأة من الأنصار من بني ساعدة، أو لامرأة لرجل منهم يقال له مينا، وقوله «يقال له مينا» يحتمل المولى وزوج المرأة، لكن عند يحيى قال إسماعيل بن عبد الله: الذي عمل المنبر غلام الأنصارية واسمه مينا، وعند ابن بشكوال عن أبي بن أويس: عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بني سلمة أو بني ساعدة أو امرأة لرجل منهم يقال له مينا، وهذا محتمل كالأول، وقيل: عمله تميم الداري، هذا حاصل ما ذكره ابن زبالة، وفي رواية ليحيى: عمل المنبر صباح غلام العباس (بضم المهملة بعدها موحدة خفيفة) وتقدم تسميته كلابا، ونقل المراغي عن بعض شيوخه أن الذي عمله باقوم (بالميم) باني الكعبة لقريش، وفي الاستيعاب عن باقوم الرومي قال: صنعت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم منبرا من طرفاء له ثلاث درجات: المقعدة، ودرجتيه، قال ابن عبد البر: وإسناده ليس بالقائم. وفي طبقات ابن سعد أن الصحابة قالوا: يا رسول الله إن الناس قد كثروا، فلو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت، قال صلّى الله عليه وسلّم: ما شئتم، قال سهل رضي الله عنه: ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذاك النجار إلى الغابة فقطعنا هذا المنبر من أثلة، وفي لفظ: فحمل سهل منهن خشبة، قال المجد: إسنادهما صحيح، وعند قاسم بن أصبغ: وكان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون، فذكر الحديث، وعند الطبراني عن سهل: كنت جالسا مع خال لي من الأنصار، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اخرج إلى الغابة وأتني من خشبها فاعمل لي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 منبرا، الحديث. وأخرج الطبراني بإسناد فيه مترول أن اسم صانع المنبر إبراهيم، وفي أسماء الصحابة لابن شبة مرسلا: اسمه قبيصة أو قصيبة بتقديم الصاد، المخزومي، مولاهم، وعند أبي داود بإسناد جيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بدّن قال تميم الداري: يا رسول الله ألا تتخذ لك منبرا يحمل- أو يجمع- عظامك، قال صلّى الله عليه وسلّم: بلى، فاتخذ له منبرا مرقاتين: أي غير المقعدة. قال الحافظ ابن حجر: وليس في الروايات التي سمي فيها النجار قوي السند إلا هذا، وليس فيه تصريح بأن الذي اتخذ المنبر تميم، بل قد تبين من رواية ابن سعد المتقدمة أن تميما لم يعمله، وأشبه الأقوال بالصواب أنه ميمون؛ لكون الإسناد من طريق سهل، ولا اعتداد بالأقوال الآخرى لكونها واهية. قلت: ولا ينافيه قوله في مقدمة الشرح «باقوم أشهر الأقوال» فقد يشتهر الواهي. وفي التحفة لابن عساكر: روينا من حديث أبي كبشة السلولي عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أتّخذ منبرا فقد اتخذه أبي إبراهيم، وإن اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم، صلى الله عليهما وسلم. وأسند ابن النجار من حديث أنس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة مسندا ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبرا، فبنوا له منبرا له عتبتان، وهو يقتضي أن المنبر كان بناء، ويحتمل أنه أطلق على تأليفه من الأخشاب اسم البناء، لكن قال الحافظ ابن حجر: حكى بعض أهل السير أنه صلّى الله عليه وسلّم «كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب» ويعكر عليه ما تقدم في الأحاديث الصحيحة من أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب. قلت: يحتمل أن ذلك المنبر المتخذ من الطين كان إلى جانب الجذع، وكأنه كان بناء مرتفعا فقط، وليس له درج ومقعدة بحيث يكمل الارتفاق به؛ فلا ينافي ما تقدم في سبب اتخاذ المنبر من خشب، ويؤيد ذلك ما ورد في حديث الإفك في الصحيحين عن عائشة قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، الحديث، وهذه القصة متقدمة على اتخاذ المنبر من الخشب؛ فقد جزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان، وجزم ابن سعد بأنه كان في السنة السابعة، على أن ذكر تميم والعباس في عمله كما تقدم يقتضي تأخره عن ذلك أيضا؛ فقد كان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع، وفي بعض طرق الحديث: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه، الحديث. وفي بعض طرقه أنه جاء والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب أي: على ذلك الدكان، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وروى يحيى عن ابن أبي الزناد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجلس على المجلس، ويضع رجليه على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية، ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما ولي عمر قام على الدرجة السفلى، ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان فعل ذلك ست سنين من خلافته؛ ثم علا إلى موضع النبي صلّى الله عليه وسلّم. ثم قال: قالوا فلما استخلف معاوية زاد في المنبر، فجعل له ست درجات، وكان عثمان أول من كسا المنبر قبطية. أراد معاوية أن ينقل المنبر إلى الشام قالوا: فلما قدم معاوية عام حج حرك المنبر، وأراد أن يخرجه إلى الشام، فكسفت الشمس يومئذ، حتى بدت النجوم، فاعتذر معاوية إلى الناس، وقال: أردت أنظر إلى ما تحته، وخشيت عليه من الأرضة. قال بعضهم: وكساه يومئذ قبطية أو لينة. ثم أسند عن سعيد ابن عمرو قصة تحريك معاوية للمنبر، وأن الشمس كسفت، واعتذاره بأن خشي عليه الأرضة، وأنه كساه يومئذ قبطية يكون عليه أو لينة، فكان يقال: هو أول من كساه، قال يحيى: وأثبتهما عندنا أن عثمان هو أول من كساه، وقد نقل ذلك ابن النجار عن الواقدي عن ابن أبي الزناد، قال: فسرقت الكسوة امرأة، فأتى بها عثمان، فقال لها: هل سرقت؟ قولي لا، فاعترفت، فقطعها، واتفق لامرأة مع ابن الزبير مثل ذلك. وفي تاريخ الواقدي: أراد معاوية رضي الله عنه سنة خمسين تحويل منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى دمشق، فكسفت الشمس يومئذ، وكلمه أبو هريرة رضي الله عنه فيه، فتركه، فلما كان عبد الملك أراد ذلك فكلمه قبيصة فتركه؛ فلما كان الوليد أراد ذلك فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز فكلمه فيه فتركه، فلما كان سليمان قيل له في تحويله قال: لا؛ ها الله، أخذنا الدنيا ونعمد إلى علم من أعلام الإسلام نريد تحويله؟ ذاك شيء لا أفعله؛ وما كنت أحب أن يذكر هذا عن عبد الملك ولا عن الوليد! ما لنا ولهذا؟ رفع المنبر ست درجات وأسند ابن زبالة عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: بعث معاوية رضي الله عنه إلى مروان يأمره أن يحمل إليه منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمر به أن يقلع، فأظلمت المدينة، وأصابتهم ريح شديدة، قال: فخرج عليهم مروان فخطبهم، وقال: يا أهل المدينة إنكم تزعمون أن أمير المؤمنين بعث إلى منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأمير المؤمنين أعلم بالله من أن يغير منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ما وضعه عليه، إنما أمرني أن أكرمه وأرفعه، قال: فدعا نجارا فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم، ووضعه موضعه اليوم. وفي رواية له عن ابن قطن: قلع مروان بن الحكم منبر رسول الله، وكان درجتين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 والمجلس، وأراد أن يبعث به إلى معاوية، قال: فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم، قال: فزاد فيه ست درجات، وخطب الناس فقال: إني إنما رفعته حين كثر الناس. وعند يحيى في رواية أخرى: كتب معاوية رضي الله عنه إلى مروان وهو على المدينة أن أرسل لي بمنبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج مروان فقلعه، فأصابتنا ريح مظلمة بدت فيها النجوم نهارا، ويلقى الرجل الرجل يصكه فلا يعرفه، وذكر اعتذار مروان المتقدم، وقال: إنما كتب إلي يأمرني أن أرفعه من الأرض، فدعا له النجاجرة، فعمل هذه الدرجات ورفعوه عليها، وهي- أي الدرجات التي زادها- ست درجات، قال: ثم لم يزد فيه أحد قبله ولا بعده. وقال ابن زبالة عقب حديث رواه من طريق سفيان عن كثير بن زيد عن المطلب ما لفظه: والذي زاد في درج المنبر معاوية بن أبي سفيان. قال سفيان: قال كثير: فأخبرني الوليد بن رباح قال: كسفت الشمس يوم زاد معاوية في المنبر حتى رؤيت النجوم. وروى ابن النجار زيادة مروان فيه، وأنه صار تسع درجات بالمجلس، عن ابن أبي الزناد، ثم قال: ولما قدم المهدي المدينة سنة إحدى وستين ومائة، فقال لمالك بن أنس: إني أريد أن أعيد منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على حاله، فقال له مالك: إنما هو من طرفاء، وقد سمّر إلى هذه العيدان وشد، فمتى نزعته خفت أن يتهافت ويهلك، فلا أرى أن تغيره، فانصرف المهدي عن تغييره. وروى ابن شبة قصة المهدي عن محمد بن يحيى عن محمد بن أبي فديك. عدد درجات المنبر قلت: وجميع ما قدمناه من كلام المؤرخين مقتض لاتفاقهم على أن منبره صلّى الله عليه وسلّم كان درجتين غير المجلس ونقله ابن النجار عن الواقدي، لكن سبق في رواية الدارمي «هذه المراقي «1» الثلاث أو الأربع» على الشك، وفي صحيح مسلم «هذه الثلاث درجات» من غير شك، وقال الكمال الدميري في شرح المنهاج: وكان صلّى الله عليه وسلّم منبره ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح، ولعل مأخذه ظاهر ذلك مع حديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رقي المنبر فلما رقي الدرجة الأولى قال: آمين، ثم رقي الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم رقي الدرجة الثالثة فقال: آمين، فقالوا: يا رسول الله سمعناك قلت آمين ثلاث مرات، قال: لما رقيت الدرجة الأولى جاء جبريل عليه السلام فقال: شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ عنه فلم يغفر له، قلت:   (1) المراقي: وسائل الرقي أو آلاته، مفردها: مرقاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 آمين، ثم قال: شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، قلت: آمين، ثم قال: شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، فقلت: آمين، رواه يحيى بن الحسن عن جابر، ورواه الحاكم عن كعب بن عجرة» وقال: صحيح الإسناد، ولفظه: قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: احضروا المنبر، فحضرنا، فلما رقي درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين، فلما نزل قلنا: يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه، قال: إن جبريل عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين؛ فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: آمين، ويمكن حمله على أنه صلّى الله عليه وسلّم ارتقى حينئذ على المجلس وهي الدرجة الثالثة. مساحة المنبر قال ابن زبالة: وطول منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة ذراعان في السماء، وعرضه ذراع في ذراع، وتربيعه سواء، وفيه مما كان يلي ظهره إذا قعد ثلاثة أعواد تدور، ذهب إحداهن، وانقلعت إحداهن سنة ثمان وتسعين ومائة، وأمر به داود بن عيسى فأعيد، وفيما عمل مروان في حائط المنبر الخشب عشرة أعواد لا يتحركن، وطول منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مرتفع في السماء مع الخشب الذي عمله مروان- أي الأعواد المتقدمة- ثلاث أذرع ونصف. وقال عقب كلامه الآتي في ذرع ما عليه المنبر اليوم، يعني زمنه، ما لفظه: وطول المجلس- أي مجلسه صلّى الله عليه وسلّم- شبران وأربع أصابع في مثل ذلك. مربع؛ فقوله أولا: «وعرضه ذراع في ذراع» إنما أراد به مقعد المنبر؛ لما قاله هنا في وصف المقعد بدون درجتيه؛ ولأنه قال هنا عقب ما تقدم: وما بين أسفل قوائم منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم الأول إلى رمانته خمسة أشبار وشيء؛ وعرض درجه شبران، وطولها شبر، وطوله من ورائه- يعني محل الاستناد- شبران وشيء؛ فيؤخذ من ذلك أن امتداد المنبر النبوي من أوله- وهو ما يلي القبلة- إلى ما يلي آخره في الشام أربعة أشبار وشيء؛ لقوله: إن عرض درجه شبران، وإن المجلس شبران وأربع أصابع، وقوله: «وما بين أسفل قوائم منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم- إلى آخره» معناه أن من طرف المنبر النبوي الذي يلي الأرض إلى طرف رمانته التي يضع عليها يده الكريمة خمسة أشبار وشيء؛ وذلك نحو ذراعين ونصف، وقد تقدم أن ارتفاع المنبر النبوي خاصة ذراعان؛ فيكون ارتفاع الرمانة نحو نصف ذراع. وقال ابن النجار: طول منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذراعان وشبر وثلاث أصابع، وعرضه ذراع   (1) أبو محمد، القضاعي، البلوي، المدني، حليف القوافل، مات سنة إحدى وخمسين روى عنه البخاري ومسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 راجح، وطول صدره- وهو مستند النبي صلّى الله عليه وسلّم- ذراع، وطول رمانتي المنبر اللتين كان يمسكهما بيده الكريمتين إذا جلس شبر وأصبعان، وعرضه ذراع في ذراع، يريد وتربيعه سواء، ولا يخفى ما فيه من المخالفة لكلام ابن زبالة. وقال ابن زبالة في الكلام على فضل ما بين القبر والمنبر، بعد ذكر المرمر الذي حول المنبر، ما لفظه: وفي المنبر من أسفله إلى أعلاه سبع كوى «1» مستطيرة من جوانبه الثلاث، وفي جنبه الذي عمل مروان من قبل المشرق ثماني عشرة كوة «1» مستديرة شبه المربعة، ومن قبل المغرب ثماني عشرة كوة مثل ذلك، وكان فيه خمسة أعواد تدور، فذهب بعضها وبقي اثنان منها، فسقط أحدهما في سلطان داود بن عيسى على المدينة في سنة ثمان وتسعين ومائة، فأمر به فأعيد. وقال في موضع آخر: وفيما عمل مروان في حائط المنبر الخشب عشرة أعواد لا يتحركن، ثم قال: وفي منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة خمسة أعواد من جوانبه الثلاث، فذهب بعضها. وقال بعد ما تقدم عنه في ذرع منبره صلّى الله عليه وسلّم ما لفظه: وذرع طول المنبر اليوم أربع أذرع، وعرضه ذراع وشيء يسير، وما بين الرمانة المؤخرة والرمانة التي كانت في منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القديم ذراع وشيء، وما بين رمانة منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الرمانة المحدثة في مقدم المنبر ذراعان وعظم الذراع، وما بين الرمانة والأرض ثلاث أذرع وشيء، وطول المنبر اليوم من أسفل عتبته إلى مؤخره سبع أذرع- أي بتقديم السين- وشبر، وطوله في الأرض إلى مؤخره ست أذرع، هذه عبارته بحروفها، ويتعين حمل كلامه على أن امتداد المنبر في الأرض من أسفل عتبته الرخام التي أمامه إلى مؤخر المنبر سبعة أذرع وشبر، وطول امتداده وهو في الأرض إلى مؤخره مع إسقاط العتبة ست أذرع، حتى يلتئم كلامه، وقد ذكر فيما قدمناه عنه أن حول المنبر مرمر مرتفع قدر الذراع، وفيه شيء محدث غير مرتفع زاده الحسن بن زيد. وقال في موضع آخر: والمنبر مبني فوق رخام، وهو في وسط الرخام، فسمي المرمر رخاما، وقال: إن هذا الرخام حده من الأسطوانتين اللتين في قبلة المنبر- أي خلفه- إلى الأسطوانتين اللتين تليانهما مما يلي الشام- أي أمام المنبر- وقد سمى ابن النجار هذا الرخام الذي عليه المنبر دكة، وقال: إن طولها شبر وعقد، يعني في الارتفاع، وسمى ذلك أبو الحسين بن جبير في رحلته حوضا، وكأنه أخذ هذه التسمية مما ورد في أن المنبر على الحوض، وذكر في طول هذا الرخام وعرضه ما يقرب مما قدمناه في حدود المسجد النبوي، قال: وارتفاعه شبر ونصف.   (1) الكوى جمع كوّة: الخرق في الحائط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 قلت: ولما حفر متولي العمارة في زماننا أرض المسجد الشريف وسواها بأرض المصلى الشريف وجد هذا الرخام المذكور، وارتفاعه عن أرض المصلى الشريف نحو ما ذكره ابن النجار وابن جبير؛ ثم لما أرادوا تأسيس المنبر الرخام الآتي ذكره حفروا حول الدكة المذكورة فظهر أنها منخفضة عن أرض المصلّى الشريف التي استقر عليها الحال اليوم يسيرا، وخلفها من جهة القبلة إفريز نحو ثلث ذراع، وطولها سبع أذرع، بتقديم السين، وشبر، وهي مجوفة شبيهة بالحوض، فصح ما ذكره ابن جبير في تسميتها حوضا، وصح أيضا ما سيأتي عنه من أن سعة المنبر خمسة أشبار؛ لأن جوف هذا الحوض الذي وجدناه بما دخل من عمودي المنبر في أحجاره خمسة أشبار، وقول ابن زبالة أولا «وذرع طول المنبر اليوم أربع أذرع» مراده ارتفاعه في الهواء مع الدرج الست التي زادها مروان؛ فيكون طول الدرج الست ذراعين؛ فتكون كل درجة ثلث ذراع، فيقرب مما قدمه ابن زبالة في طول درج منبر النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو الذي تقتضيه المناسبة. ونقل الزين المراغي عن ابن زبالة أنه قال: طول منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بما زيد فيه أربعة أذرع، ومن أسفل عتبته إلى أعلاه تسعة أذرع وشبر. قلت: كذا رأيته بخط الزين، وضبط قوله: «تسعة أذرع» بتقديم التاء الفوقية، وهو غلط في النسخة التي وقعت له؛ لأن الذي قدمناه عن ابن زبالة إنما هو من أسفل عتبته إلى مؤخره، وقررناه بما تقدم، وإنما قضينا على ذلك بالغلط لأنه حينئذ لا يلتئم أطراف كلامه، ولأنه يقتضي أن يكون ارتفاع المنبر في الهواء تسعة أذرع، بتقديم التاء، وشبرا، فإذا قام عليه القائم يقرب من سقف المسجد، ويبعد كل البعد كون منبر في ذلك الزمان ارتفاعه هذا القدر، وأيضا فابن زبالة قد صرح بأن الذي زاده مروان ست درج، فيلزم أن يكون كل درجة ذراعا وشيئا، وهو في غاية البعد، وما نقلناه عن ابن زبالة يقرب مما ذكره ابن النجار؛ فإنه قال عقب ما قدمناه عنه في وصف منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لفظه: وطول المنبر اليوم ثلاثة أذرع وشبر وثلاث أصابع، والدكة التي عليها من رخام طولها شبر وعقد، ومن رأسه- أي المنبر- دون دكته إلى عتبته خمسة أذرع وشبر وأربع أصابع، وقد زيد فيه اليوم عتبتان وجعل عليه باب يفتح يوم الجمعة، انتهى؛ فهو قريب مما ذكره ابن زبالة من أن طول المنبر- يعني في الهواء- أربعة أذرع، وامتداده هو خاصة في الأرض من عتبته إلى مؤخره ستة أذرع، ويوافق أيضا ما ذكره الفقيه أبو الحسين محمد بن جبير من حديث القدر، فإنه قال: رأيت منبر المدينة الشريف في عام ثمان وسبعين وخمسمائة، وارتفاعه من الأرض نحو القامة أو أزيد، وسعته خمسة أشبار، وطوله خمس خطوات، وأدراجه ثمانية، وله باب على هيئة الشباك مقفل يفتح يوم الجمعة، وطوله- أي الباب- أربعة أشبار ونصف شبر، وهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 المنبر هو الذي وصفه ابن النجار فيما يظهر؛ لأنه وضع تاريخه سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، وتوفي قبل حريق المسجد سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكان احتراق المسجد كما سيأتي سنة أربع وخمسين وستمائة، وفيه احترق هذا المنبر، وفقد الناس بركته. وقد زاد ابن جبير على ابن النجار في وصف هذا المنبر فقال: وهو مغشّى بعود الآبنوس، ومقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أعلاه ظاهر قد طبق عليه لوح من الآبنوس غير متصل به يصونه من القعود عليه؛ فيدخل الناس أيديهم إليه ويمسحونه بها تبركا بلمس ذلك المقعد الكريم، وعلى رأس رجل المنبر الأيمن حيث يضع الخطيب يده إذا خطب حلقة فضة مجوفة مستطيلة تشبه حلقة الخياط التي يضعها في أصبعه إلا أنها أكبر منها، وهي لاعبة تستدير في موضعها، انتهى. والظاهر: أن هذا المنبر غير الذي وصفه ابن زبالة لأنه لم يصفه بذلك، ويوضح ذلك ما ذكره في الطراز لسند من المالكية حيث قال: إن منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل عليه منبر كالغلاف، وجعل في المنبر الأعلى طاق مما يلي الروضة، فيدخل الناس منها أيديهم يمسحون منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ويتبركون بذلك، انتهى؛ فهذا شيء حدث بعد ابن زبالة. وقد قال المطري: حدثني يعقوب بن أبي بكر من أولاد المجاورين، وكان أبوه أبو بكر فراشا من قوام المسجد، وهو الذي كان حريق المسجد على يده، أن المنبر الذي زاده معاوية ورفع منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم تهافت على طول الزمان، وأن بعض خلفاء بني العباس جدده، واتخذ من بقايا أعواد منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمشاطا للتبرك، وعمل المنبر الذي ذكره ابن النجار فيما تقدم. قال يعقوب: سمعت ذلك من جماعة بالمدينة ممن يوثق بهم، وأن المنبر المحترق هو الذي جدده الخليفة المذكور، وهو الذي أدركه ابن النجار؛ لأن وفاته قبل الحريق. قلت: وظاهر كلام ابن عساكر في تحفته أنه كان قد بقي من المنبر الشريف بقايا فقط إلى احتراق المسجد، وهو من أدرك حريقه، وأورد في كتابه ما ذكره شيخه ابن النجار، ولفظه: وقد احترقت بقايا منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم القديمة، وفات الزائرين لمس رمانة المنبر التي كان صلّى الله عليه وسلّم يضع يده المقدسة المكرمة عليها عند جلوسه عليه، ولمس موضع جلوسه منه بين الخطبتين وقبلهما، ولمس موضع قدميه الشريفتين بركة عامة ونفع عائد، وفيه صلّى الله عليه وسلّم عوض من كل ذاهب ودرك من كل فائت، انتهى. وهو صريح في بقاء ما ذكره إلى حين الحريق، ويؤيده ما تقدم عن رحلة ابن جبير وصاحب الطراز، بل ظفرنا بما يشهد لصحة ذلك؛ فإنه لما أراد متولي العمارة تأسيس المنبر الرخام الآتي ذكره حفروا على الدكة التي تقدم أن المنبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 كان عليها فوجدت مجوفة كالحوض، وبه عبر ابن جبير عنها، فوجدوا فيما يلي القبلة منها قطعا كثيرة من أخشاب المنبر المحترق- أعني الذي كان فيه بقايا منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم- فوضعها الأقدمون في جوف ذلك المحل حرصا على البركة، وبنوا فوقها بالآجر بحيث سدوا جوف ذلك الحوض كله، فصار دكة مستوية، ووضعوا المنبر الآتي ذكره عليها، وشاهدت آثار قائمتي المنبر الشريف اللتين كان بأعلاهما رمانتاه قد نحت لهما في الحجر المحيط بالحوض المذكور على نحو ذراع وثلث من طرف باطن الحوض المذكور مما يلي القبلة، وسعة الحوض المذكور خمسة أشبار كما ذكره ابن جبير في سعة المنبر، وعرض جدار الحوض المذكور خلف المنبر نحو نصف ذراع، وقد حرصت على وضع ما وجد من تلك الأخشاب في محلها، فوضع ما بقي منها في محله من الحوض المذكور، وبنوا عليه كما سيأتي، والله أعلم. ولما احترق المنبر المذكور في جملة الحريق أرسل الملك المظفر صاحب اليمن في سنة ست وخمسين منبرا له رمانتان من الصندل، فنصب في موضع منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم كما ذكره المطري فمن بعده، قال: ولم يزل يخطب عليه عشر سنين، فلما كان في سنة ست وستين وستمائة أرسل الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري هذا المنبر الموجود اليوم أي: زمن المطري، فقلع منبر صاحب اليمن، وحمل إلى حاصل الحرم، ونصب هذا المنبر مكانه، وطوله أربع أذرع في السماء، ومن رأسه إلى عتبته سبع أذرع يزيد قليلا، وعدد درجاته تسع بالمقعد. قال المجد: وله باب بمصراعين، في كل مصراع رمانة من فضة، ومكتوب على جانبه الأيسر اسم صانعه «أبو بكر بن يوسف النجار» وكان من أكابر الصالحين الأخيار، وهو الذي قدم بالمنبر إلى المدينة، فوضعه في موضعه، فأحسن وضعه، وأتقن نجارته وصنعته، ثم انقطع في المدينة. قال الزين المراغي: وبقي منبر الظاهر بيبرس يخطب عليه من سنة ست وستين وستمائة إلى سنة سبع وتسعين وسبعمائة، فكانت مدة الخطبة عليه مائة سنة واثنتين وثلاثين سنة، فبدأ فيه أكل الأرضة؛ فأرسل الظاهر برقوق صاحب مصر هذا المنبر الموجود اليوم: أي زمن المراغي، أرسله في آخر سنة سبع وتسعين وسبعمائة، وقلع منبر الظاهر بيبرس، انتهى. قلت: ولم يزل هذا المنبر موجودا إلى ما بعد العشرين وثمان مائة، كما أخبرني به جماعة من مشايخ الحرم منهم الشيخ صالح المعمر الجمال عبد الله بن قاضي القضاة عبد الرحمن بن صالح، قال: فأرسل سلطان مصر الملك «المؤيد شيخ» هذا المنبر الموجود اليوم عام اثنين وعشرين وثمان مائة. ثم رأيت في كلام الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر أن المنبر الموجود اليوم أرسله المؤيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 سنة عشرين وثمان مائة؛ فهذا هو المعتمد، لكن لم يطلع ابن حجر على ما ذكره المراغي من منبر الظاهر برقوق، وجعل إتيان منبر المؤيد هذا بدلا عن منبر الظاهر بيبرس، وكلام المراغي أولى بالاعتماد في ذلك؛ فإنه كان بالمدينة حينئذ، وعلى هذا فمدة الخطبة على منبر الظاهر برقوق ثلاث أو أربع وعشرون سنة، ثم وضع منبر المؤيد. وأخبرني السراج النفطي أنه صنعه أهل الشام، وجاؤوا به المؤيد ليجعله بمدرسته المؤيدية، فوجدوا أهل مصر قد صنعوا لها منبرا، فجهز المؤيد منبر أهل الشام إلى المدينة الشريفة، وقال لي الجمال عبد الله بن صالح: شاهدت وضعه موضع المنبر الذي كان قبله. قلت: ويدل على صحة ذلك ما قدمناه من اختبار ذرع ما بينه وبين المصلى الشريف؛ إذ المنقول أن بينهما أربعة عشر ذراعا وشبرا، وقد اختبرته من ناحية المصلى الشريف إلى ما حاذاه من المنبر في المغرب فكان كذلك؛ فوضعه من هذه الجهة صحيح لا شك فيه، وأما من جهة القبلة فقد قال المطري: إن المنبر الذي أدركه بينه وبين الدرابزين الذي في قبلة الروضة مقدار أربعة أذرع وربع ذراع، وقد ذكر الزين المراغي في كتابه ما ذكره المطري من الذرع، ولم يتعقبه؛ فاقتضى أن المنبر الذي تقدم وضعه في زمنه وضع موضع المنبر الذي كان في زمان المطري، وأقر أيضا قول المطري في حدود المسجد أن المنبر لم يغير عن منصبه الأول. وقد ذكر ابن جماعة أيضا ذرع ما بين المنبر والدرابزين، وهو يعني المنبر الموجود زمن المطري، فقال: إن بينهما ثلاثة أذرع بذراع العمل، وهو أزيد مما ذكره المطري بربع ذراع راجح؛ لأن ذراع العمل كما تقدم ذراع ونصف، وكأن المطري يعني ذراع المدينة اليوم كما يؤخذ من كلام المراغي فيوافق كلام ابن جماعة، والذي بين هذا المنبر الموجود اليوم وبين الدرابزين المذكور ذراعان وثلث بذراع العمل، وذلك ثلاثة أذرع ونصف من الذراع الذي قدمنا أنه المراد عند الإطلاق؛ فيحتمل أن يكون هذا المنبر مقدم الوضع لجهة القبلة على المنبر الذي كان قبله، وهو مقتضى ما نقله الأثبات، لكني أستبعده للأخبار ممن لقيناه بوضعه موضع ذاك. ثم تبين عند انكشاف الدكة التي تقدم ذكرها من آثار المنبر المحترق قديما ما علمنا به صواب ما ذكره المطري وغيره أن هذا المنبر مقدم الوضع على الذي قبله من جهة القبلة بما يقرب من ذراع، وكذا ظهر زيادته من جهة الشام أيضا على الدكة الأصلية المتقدم وصفها بقريب من ذراع، ووجد محرفا عنها من طرفه الشامي نحو المغرب قدر شبر لما فيها من التيامن الذي تقدمت الإشارة إليه في التنبيه الثالث من الفصل قبله، وكنت قد أيدت وضعه بكونه أقرب إلى ما ورد فيما كان بين المنبر والجدار القبلي كما سيأتي فانكشف الحق لذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 عينين، والذي لقيناه وأخبر بوضعه موضع المنبر الذي كان قبله هو الجمال بن صالح في آخر عمره، وكان غير تام الضبط حينئذ، وكنت قد أيدت خبره بأنا قد قدمنا إلى الصندوق الذي في قبلة المصلى الشريف في عرض الجدار، وأن المصلى الشريف لم يغير باتفاق، وأن منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بينه وبين الجدار القبلي ممر الشاة أو ممر الرجل منحرفا، وأقصى ما قيل فيه ذراع وشيء كما قدمناه، فإذا أسقطت قدر ما بين طرف المصلى الشريف والدرابزين الذي أمامه مما بين المنبر اليوم والدرابزين المذكور وهو ثلاثة أذرع ونصف بقي ذراع، وهو نحو القدر المنقول فيما بين المنبر القديم وجدار المسجد الشريف، ثم تبين لنا مما سبق في حدود المسجد النبوي وبانكشاف المرمر الذي في قبلة المنبر تقدم الدرابزين المذكور عن ابتداء المسجد النبوي بأزيد من ذراع كما قدمناه في حدود المسجد النبوي؛ فالصواب ما ذكره المطري ومن تبعه. وطول هذا المنبر في السماء سوى قبته وقوائمها، بل من الأرض إلى محل الجلوس، ستة أذرع وثلث، وارتفاع الخافقتين اللتين يمين المجلس وشماله ذراع وثلث، وامتداد المنبر في الأرض من جهة بابه إلى مؤخره ثمانية أذرع ونصف راجحة، وعدد درجه ثمانية، وبعدها مجلس ارتفاعه نحو ذراع ونصف، وقبته مرتفعة، ولها هلال قائم عليها مرتفع أيضا، وما أظن منبرا وضع قبله في موضعه أرفع منه، وله باب بصرعتين. وقد احترق هذا المنبر في حريق المسجد الثاني الحادث في رمضان عام ستة وثمانين وثمان مائة، فكانت مدة الخطبة عليه نحو سبع وستين سنة. ولما نظف أهل المدينة محله جعلوا في موضعه منبرا من آجر مطلي بالنورة، واستمر يخطب عليه إلى أثناء شهر رجب سنة ثمان وثمانين، فهدم رابع الشهر المذكور، وحفروا لتأسيس المنبر الرخام الموجود اليوم ظاهر الدكة المتقدم ذكرها، فوجدت على النحو المتقدم، ونقضوا من بعضها قريب القامة فلم يبلغوا نهايتها، ووجدوها محكمة التأسيس في الأرض، فأعادوها كما كانت، إلا ما كان فوقها من نحو أزيد من نصف ذراع من الآجر، وسوّوا ما وجد مجوفا منها كالحوض بالبناء بعد وضع ما تقدم ذكره مما وجد بمقدمها من بقايا المنبر القديم المحترق في الحريق الأول بمقدمها أيضا، وكانوا قد سألوني عن ابتداء حد المنبر القديم من جهة القبلة والروضة فأخبرتهم بذلك، وأن ذلك الحوض وما به من محل قوائم المنبر الأصلي إمام يقتدى به لموافقته ما ذكره المؤرخون قديما وحديثا، فشرعوا في وضع رخام المنبر عليها على سمت ما ظهر من الفرضة التي وجدوها في الحوض المذكور على الاستقامة من غير انحراف، وبينها وبين طرف الدكة الشرقي خمسة أصابع، لما ظهر من أن المنبر الأصلي كان بالحوض المذكور، ومشاهدة محل قوائمه نقرا في الحجر وبقايا الرصاص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الذي كانت القوائم مثبتة به، وما وصفه المؤرخون في أمر المنبر الأصلي شاهد لذلك، ومعلوم أن الحوض الموجود في باطن تلك الدكة لا يمكن وضع المنبر فيه إلا على الاستقامة، سيما وقد طابقت سعته ما ذكره ابن جبير في سعة المنبر الأصلي، وإحكام تلك الدكة بحيث إنهم حفروا منها قرب القامة، ولم يدركوا آخرها، وإتقان فرضتي الحوض المذكور بالرصاص، وترخيم تلك الدكة قديما، كله قاض بجعل السلف لها من أجل وضع المنبر فيها، كما صرح به المؤرخون، ولم يكن السلف مع عظيم إتقانهم يجعلونها لوضع المنبر ويحرفونها عن وضعه؛ لأن وضعها تابع لوضعه إذ جعلت من أجله، وقد كان وضعه مشاهدا لهم؛ لوجود المنبر النبوي بين أظهرهم وإتقانها وما سبق من المتقدمين في ذكر ترخيمها شاهد بعملها في عمارة عمر بن عبد العزيز للمسجد إن لم يكن من زمن معاوية رضي الله عنه عند تحريكه المنبر كما سبق، ولم أرتب عند مشاهدتها في وضع المنبر بها كذلك، وتيامن حوضها الذي كان المنبر به يسير جدا لا يخرج صدر المستقبل عن القبلة، وقد أشار يحيى فيما قدمناه عنه في التنبيه الثالث إلى تصويب وضعه، وأيضا فقد يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم وضعه متيامنا لما أوضحناه في الرسالة الموسومة بالنصيحة، والمنبر جماد ليس بمصل حتى يحرر أمره في الاستقبال ويترك ما وجد من حدوده الأصلية المجمع عليها في الأعصر الماضية المترتب عليها حدود الروضة الشريفة، فشرعوا في وضع رخام المنبر المذكور على النحو الذي ذكرته، غير أنهم جعلوا جداره من جهة القبلة على الأحجار التي خلف الحوض من جهة القبلة؛ لاقتضاء نظرهم ذلك، ولو كان لي من الأمر شيء ما وافقت عليه. ثم وقع من بعض ذوي النفوس ما أوضحناه في الرسالة الموسومة (بالنصيحة الواجبة القبول، في بيان وضع منبر الرسول) صلّى الله عليه وسلّم. والحاصل: أنهم نقضوا ما سبق، وزادوا خلف أحجار الحوض المذكور نحو ربع ذراع العمل حتى ساوى ذلك محل المنبر المحترق من جهة القبلة، وحرفوه على تلك الدكة لجهة المغرب أزيد من تحريف المنبر المحترق، وجعلوا هذا المنبر في محل المحترق من جهة القبلة ومساو لطرفها الشرقي مما يلي القبلة أيضا، وزعموا أنه لا يعول على كلام من قدمناه من الأئمة، ويتحرر مما سبق أنه مقدم على محل المنبر الأصلي لجهة القبلة بعشرين قيراطا من ذراع الحديد، وهو نحو ذراع اليد، وأن المنبر النبوي لم يقع في محله نغير إلا من تاريخ وضع المنبر المحترق في زماننا لأنه خفي على واضعه ما في جوف الدكة المذكورة، ولم يدركه أحد من مؤرخي المدينة، وكان مفرط الطول بحيث كان قاطعا للصف الباقي من الروضة، وقد اقتدى به واضع هذا المنبر لكونه من آبائه، ولم يبال ولي الأمر بتفويته المنقبة العظيمة في إعادة وضع منبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما كان عليه، وهذا المنبر- أعني الرخام- أقصر من امتداد المنبر المحترق في الأرض بنحو ثلاثة أرباع ذراع، وعدد درجه مع مجلسه كالمحترق، ومحل عود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 المنبر الأصلي منه مما يلي الروضة وهو الذي كان بأعلاه رمانة المنبر النبوي قبل عمود هذا المنبر بأزيد من قيراط، وذلك على نحو ذراعين وشيء من طرف المنبر المذكور من القبلة. وقد اشتهر محله من أحجار الدكة المذكورة بسبب تحريف المنبر المذكور بحيث تغيرت حدود الروضة الشريفة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. كسوة المنبر وفي يوم الجمعة يجعل على باب المنبر ستر من حرير أسود مرقوم بحرير أبيض وقد قدمنا أول من كسا المنبر. وأسند ابن زبالة عن هشام بن عروة أن ابن الزبير كان يلبس منبر النبي صلّى الله عليه وسلّم القباطي فسرقت امرأة قبطية فقطعها، وقال ابن النجار: ولم يزل الخلفاء إلى يومنا هذا يرسلون في كل سنة ثوبا من الحرير الأسود له علم ذهب يكسى به المنبر، قال: ولما كثرت الكسوة عندهم أخذوها فجعلوها ستورا على أبواب الحرم. ستور الأبواب كسوة الحجارة قلت: قد استقر الأمر بعد قتل الخليفة المستعصم على حمل الكسوة من مصر كما قاله الزين المراغي قال: والأبواب مستقلة اليوم بستور، قال: وإنما يظهرونها في أوقات المهمات كقدوم أمير المدينة، وذكر ما سيأتي في كسوة الحجرة من وقف قرية بمصر على ذلك وعلى كسوة الكعبة الشريفة؛ فالكعبة تكسي كل عام مرة، والحجرة والمنبر في كل ست سنين مرة. وقال المجد: والمنبر يحمل له في كل سبعة أعوام أو نحوها من الديار المصرية كسوة معظمة ملوكية يكساها من الجمعة إلى الجمعة، ورايتان سوداوان ينسجان أبدع نسج يرفعان أمام وجه الخطيب في جانبي المنبر قريبا من الباب. قلت: في زماننا تمضي السبع سنين والعشر وأكثر من ذلك ولا تصل كسوة، والذي يجعل اليوم على المنبر إنما هو الستر المتقدم ذكره مع الرايتين اللتين ذكرهما المجد، والله أعلم. الفصل الخامس في فضائل المسجد الشريف قال الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108] . المسجد الذي أسس على التقوى روينا في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت لبعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا، لمسجد المدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسألاه عن ذلك، فقال: هو هذا، وفي ذلك- يعني مسجد قباء- خير كثير، وأخرجه أحمد من وجه آخر مرفوعا، وفي العتبية عن مالك ما لفظه: وقال: المسجد الذي ذكر الله عز وجل أنه أسس على التقوى من أول يوم الآية هو مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا، أي مسجد المدينة، ثم قال: أين كان يقوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ أليس في هذا؟ ويأتونه أولئك من هنالك. وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً [الجمعة: 11] فإنما هو مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد قال عمر بن الخطاب: لولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو سمعته يريد أن يقدم القبلة، وقال عمر بيده هكذا، ما قدمتها، ثم قدمها عمر موضع المقصورة الآن، انتهى. قال ابن رشد في بيانه: ما ذهب إليه مالك مروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء، فاستدلوا بما روي أن الآية لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم خيرا، الحديث، قال: ولا دليل فيه؛ لأن أولئك كانوا في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم، قال: واستدلال مالك بقول عمر المتقدم ظاهر؛ لأن الله تعالى لما ذكر فيه أنه أسس على التقوى لم يستجز نقض بنائه وتبديل قبلته، إلا بما سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك ورآه قد أراد أن يفعله. قلت: ما ذكره مالك من كون مسجد المدينة هو المراد هو ظاهر ما قدمناه، لكن قوله تعالى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يقضي أنه مسجد قباء؛ لأنه ليس المراد أول أيام الدنيا، بل أول أيام حلوله صلّى الله عليه وسلّم بدار الهجرة، وذلك هو مسجد قباء إلا أن يدعى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم شرع في تأسيس مسجد المدينة أيضا من أول يوم قدومه لها، أو يقال: المراد من أول يوم تأسيسه، وسيأتي في مسجد قباء أشياء صريحة في أنه المراد؛ فتعين الجمع بأن كلا منهما يصدق عليه أنه أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه كما هو معلوم، وأنهما المراد من الآية، لكن يشكل عليه كون النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاب عند السؤال عن ذلك بتعيين مسجد المدينة، وجوابه أن السر في ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد به رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء كما هو ظاهر ما فهمه السائل، وتنويها بمزية مسجده الشريف لمزيد فضله، والله أعلم. فضل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي الصحيحين حديث أبي هريرة «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» . وعند مسلم: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وعند أبي داود بلفظ: «ومسجدي هذا» . وفي الكبير والأوسط للطبراني برجال ثقات عن ابن عمر، وبرجال الصحيح عن أبي الجعد الضّمري «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ، وذكر نحو رواية الصحيحين. وفي صحيح ابن حبان ومسند أحمد والأوسط للطبراني وإسناده حسن من حديث جابر: «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق» . وهو عند البزار بلفظ: «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجد إبراهيم ومسجد محمد صلّى الله عليه وسلّم» ورجاله رجال الصحيح إلا عبد الرحمن بن أبي الزناد وقد وثقه غير واحد. فضل الصلاة في مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» هذا لفظ البخاري، زاد مسلم: «فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد» . قلت: يريد آخر مساجد الأنبياء كما نقله المحب الطبري عن أبي حاتم، وإلا فهو من أول مساجد هذه الأمة، وإذا كانت الألف واللام هنا لمعهود- وهو مساجد الأنبياء- فالألف واللام أيضا في قوله «فيما سواه من المساجد» للعهد، والمراد مساجد الأنبياء؛ فيتحصل من معناه أن الصلاة في مسجده أفضل من الصلاة في سائر مساجد الأنبياء بألف صلاة إلا المسجد الحرام؛ فيقتضي ذلك أن تكون الصلاة بمسجده أفضل من ألف صلاة في بيت المقدس؛ لأنه من جملة مساجد الأنبياء، ولم يستثن، ويدل على ذلك ما رواه البزار عن أبي سعيد قال: ودّع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل فقال له: أين تريد؟ قال: أريد بيت المقدس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، وأسنده يحيى بزيادة تسمية الرجل فقال: عن الأرقم أنه تجهز يريد بيت المقدس، فلما فرغ من جهازه جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يودعه، وقال فيه: فجلس الأرقم ولم يخرج، وأسنده ابن النجار عن الأرقم بلفظه: إنني أريد الخروج إلى بيت المقدس، قال صلّى الله عليه وسلّم: ولم؟ قلت: للصلاة فيه، قال: هاهنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة، ورواه الطبراني برجال ثقات عن الأرقم بلفظ: صلاة هاهنا خير من ألف صلاة ثم. وقد روى أبو يعلى برجال ثقات عن ميمونة قالت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر، وأرض المنشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة- أي في غيره من مساجد الأنبياء قبله، ومساجد غير الأنبياء ما عدا المسجدين- لقيام الدليل على ذلك؛ فتكون الصلاة بمسجد المدينة خيرا من ألف ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فأما المسجد الأقصى فإنها أفضل من ألف صلاة فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 فقط، ولا يعلم قدر زيادتها في الفضل على ذلك إلا الله تعالى، ولمثل هذا تضرب آباط الإبل، وتستحق الرحلة، ولا يعكر على ذلك ما رواه أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة وعائشة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الأقصى» لأن المحفوظ إنما هو استثناء المسجد الحرام، وحديث أبي هريرة في الصحيح خلا قوله: «إلا المسجد الأقصى» وهو معارض بما تقدم، ولأن الهيثمي أورده في مجمع الزوائد ثم قال: رواه أحمد، وأعاده بعد هذا بسنده فقال: إلا المسجد الحرام، فاتضح بذلك ما قلناه. وأما المسجد الحرام فاختلف الناس في معنى استثنائه، فذهب مالك في رواية أشهب عنه- وقاله ابن نافع صاحبه وجماعة من أصحابه- إلى أن معنى الاستثناء أن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة، إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل من الصلاة فيه بدون الألف، وذهب بعضهم إلى أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة، وحمل على ذلك الاستثناء في الحديث المتقدم، واحتجوا برواية سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في ما سواه» فيأتي فضيلة مسجد الرسول عليه بتسعمائة، وعلى غيره بألف، وتعقّب بأن المحفوظ بالإسناد المتقدم «صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا مسجد الرسول فإنما فضله عليه بمائة صلاة» . قلت: وروى الطبراني في الأوسط عن عائشة مرفوعا: «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في غيره» لكن فيه سويد بن عبد العزيز، قال البخاري: في حديثه نظر لا يحتمل، وقد صح ما يقتضي رد ما ذهب إليه هؤلاء؛ فقد روى أحمد والبزار وابن خزيمة برجال الصحيح من طريق حبيب المعلم عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا» زاد ابن خزيمة: «يعني في مسجد المدينة» لكن لفظ البزار: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عيه بمائة» وهي محتملة لأن يكون الضمير في «فإنه يزيد» لمسجده أو للمسجد الحرام، وقد صحح ابن عبد البر حديث أحمد، وقال: هو الحجة عند التنازع، نص في موضع الخلاف، قاطع له عند من ألهم رشده، ولم تمل به العصبية، قال: ولا مطعن فيه إلا لمتعسف لا يعرج على قوله في حبيب، وقد كان الإمام أحمد يمدحه، ويوثقه، ويثنى عليه، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه، ولم يرو عنه القطان، وروى عنه أئمة ثقات يقتدى بهم، ومنهم من أعله باختلاف على عطاء؛ لأن قوما يروونه عنه عن ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 الزبير، وآخرين يروونه عنه عن ابن عمر، وآخرين عنه عن جابر، ومن العلماء من يجعل مثل هذا علة في الحديث، وليس كذلك؛ لأنه يمكن أن يكون عن عطاء عنهم، والواجب ألايدفع خبر نقله العدول إلا بحجة. قال البزار: هذا الحديث قد روى عن عطاء، واختلف على عطاء فيه، ولا نعلم أحدا قال بأنه يزيد على مسجد المدينة مائة إلا ابن الزبير، وقد تابع حبيبا المعلم الربيع بن صبيح؛ فرواه عن عطاء عن ابن الزبير، ورواه عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر، ورواه ابن جريح عن عطاء بن أبي سلمة عن أبي هريرة أو عائشة، ورواه ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي هريرة، انتهى. وقال الذهبي في مختصر سنن البيهقي: إسناده صالح، ولم يخرجه أصحاب السنن. قلت: هذا أمر آخر، وهو أن الحديث المذكور لما اختلف لفظه على وجهين أحدهما ليس نصا في الدلالة كما قدمناه احتمل أن تكون الرواية في الواقع به، ومن رواه بالوجه الآخر رواه بالمعنى بحسب فهمه، إلا أن وروده من الطرق الآخرى بذلك اللفظ توهن هذا الاحتمال، وعلى تقدير ثبوته فهو من ابن الزبير، وهو أعرف بفهم مرويه؛ لأن عبد الرزاق روى عن ابن جريج قال: أخبرني سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول: «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه» ويشير إلى مسجد المدينة، وقد قال ابن عبد البر: إن رجال إسناد حديث ابن عمر علماء أجلاء، ورواه ابن وضاح عن ابن الزبير من كلام عمر بن الخطاب بنفسه، قال ابن حزم: وسنده كالشمس في الصحة، وروى ابن أبي خيثمة عن أبيه حدثنا مسلم عن الحجاج عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بمائة ضعف، قال: فنظرنا فإذا هي تفضل على سائر المساجد بمائة ألف صلاة، قال ابن عبد البر وابن حزم: فهذان صحابيان جليلان يقولان بفضل المسجد الحرام على مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا مخالف لهما من الصحابة؛ فصار كالإجماع منهم على ذلك. وفي ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» وفي بعض النسخ: «من مائة صلاة فيما سواه» فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة لما تقدم عن جابر. قلت: وقد روى يحيى حديث الصحيحين المتقدم عن جبير بن مطعم بلفظ: «إن صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد غير الكعبة» وفي رواية النسائي وغيره «إلا مسجد الكعبة» ولهذا ذهب بعضهم إلى أن المراد من المسجد الحرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 الكعبة، وبه قال العمراني من أصحابنا وغيره، وروى البزار عن عائشة حديث: «أنا خاتم الأنبياء، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء، أحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل المسجد الحرام ومسجدي، وصلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» . وروى ابن ماجه مرفوعا برجال ثقات إلا أبا الخطاب الدمشقي فهو مجهول: «صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي تجمع فيه بخمس مائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاة في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة» وهو يقتضي أن الصلاة بمسجد المدينة مساوية لمسجد بيت المقدس، وأنهما معا على النصف من الصلاة بالمسجد الحرام، وهو مخالف لما في الصحيح، مع أن مفهوم العدد ليس بحجة؛ فلا ينفي ما ثبت من الزيادة لمسجد المدينة على مسجد بيت المقدس سيما بالطريقة التي قدمناها. وفي الطبراني- وهو حسن، وفي بعض رجاله كلام- عن أبي الدرداء مرفوعا: «الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة» ورواه ابن خزيمة في صحيحه بنحوه، والبزار وحسنه، وقال المجد: أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، قال: ولا نعلم حديثا يشتمل على فضيلة الصلاة بالمساجد الثلاثة خصوصا «1» سواه مما يصح عند الاعتبار معناه. قلت: لم أره في الترمذي، وقد ساقه ابن عبد البر محتجا به، وهو غير مانع مما قدمناه من كون الصلاة بمسجد المدينة أفضل من ألف صلاة بمسجد بيت المقدس؛ لأن العدد لا ينفي الزائد، وكذا حديث الأوسط للطبراني برجال الصحيح عن أبي ذر: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيما أفضل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو» وقد يقال في ذلك كما قيل في نظائره من احتمال أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر أولا ببعض ذلك بحسب ما أوحى إليه، ثم أعلم بالزيادة، ويكون حديث الأقل قبل حديث الأكثر، ثم تفضل الله بالأكثر شيئا بعد شيء، ومحصله ما قررناه من الأخذ بالزائد، ويحتمل أن ينزل تلك الأعداد على اختلاف الأحوال؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى غير نهاية.   (1) المساجد الثلاثة: هي الأقصى، ومسجد المدينة، والمسجد الحرام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 هل فضل الصلاة في المساجد الثلاثة يختص بالفرض؟ ونقل الزركشي في أعلام المساجد عن الكبير للطبراني بسند فيه مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا بعشرة آلاف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام بعشرة أمثالها مائة ألف صلاة، وصلاة الرجل في بيت المقدس بألف صلاة، وصلاة الرجل في بيته حيث لا يراه أحد أفضل من ذلك كله» . قلت: وهو ضعيف، ولم يورده الهيثمي في مجمعه في فضل الصلاة في المساجد الثلاث. وهذه المضاعفة المذكورة في هذه المساجد لا تختص بالفريضة، بل تعم الفرض والنفل، كما قال النووي في شرح مسلم إنه المذهب. قال الزركشي: وهو لازم تعليل الأصحاب استثناء النفل بمكة في الأوقات المكروهة بمزيد الفضيلة. وقال الطحاوي من الحنفية: هو مختص بالفرض، وفعل النوافل بالبيت أفضل، وإليه ذهب ابن أبي زيد من المالكية، وهو المرجح عندهم، وفرق بعضهم بين أن يكون المسجد خاليا أم لا. فإن قيل: كيف تقولون إن المضاعفة تعم الفرض والنفل وقد تطابقت الأصحاب ونص الحديث الصحيح على أن فعل النافلة في بيت الإنسان أفضل؟ قلنا: لا يلزم من المضاعفة في المسجد أن يكون أفضل من البيت كما قاله الزركشي وغيره، وغاية الأمر أن يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل، ولا يلزم من ذلك جعله أفضل؛ فإن للأفضل مزايا إن كان للمفضول مزية، ولهذا بحث التاج السبكي مع أبيه في صلاة الظهر بمنى يوم النحر إذا جعلنا منى خارجة عن محل المضاعفة: هل يكون أفضل من صلاتها في المسجد لأنه صلّى الله عليه وسلّم فعلها بمعنى يومئذ أو في المسجد للمضاعفة؟ فقال والده: بل في منى وإن لم يحصل بها المضاعفة؛ فإن في الاقتداء بأفعال النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يربو على المضاعفة، على أن الحافظ ابن حجر ذكر ما يقتضي إثبات المضاعفة للتنفل في البيوت بالمدينة ومكة، عملا بعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» فقال: وقد تقدم النقل عن الطحاوي وغيره أن ذلك- يعني التضعيف- مختص بالفرائض؛ لحديث: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه؛ فتكون النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما، وكذا في المسجدين، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 مرجع مضاعفة فضل الصلاة ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب بتلك الأعداد، لا إلى الإجزاء، باتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره؛ فلو كانت صلوات فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة، وقد أوهم كلام أبي بكر النقاش في تفسيره خلاف ذلك؛ فإنه قال: حسبت الصلاة في المسجد الحرام فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمسة وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة، اه. وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة والسواك ونحوه، لكن هل تجمع التضعيفات أولا؟ محل بحث. هل يختص التضعيف بالصلاة؟ قلت: وينبغي ألايختص هذا التضعيف بالصلاة، بل سائر أنواع الطاعات كذلك قياسا على ما ثبت في الصلاة، كما صرحوا به في مسجد مكة المشرفة، وصرح به فيما يتعلق بالمدينة صاحب الانتصار أبو سليمان داود من المالكية، ثم رأيته في كلام الغزالي في الإحياء كما قدمناه في فضل الخصائص، ويشهد له ما في الكبير للطبراني عن بلال بن الحارث قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان» ونقل المجد عن أبي الفرج الأموي أنه أخرجه بسنده عن ابن عمر. قلت: ورواه ابن الجوزي في شرف المصطفى عن ابن عمر أيضا بلفظ: «صيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها، وصلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها» . وروى البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وشهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر رمضان فيما سواه إلا المسجد الحرام» ورواه أيضا عن ابن عمر بنحوه. وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فإذا ضمت إلى ما قدمناه من القياس على الصلاة ثم الاستدلال، وقد قدمنا في حدود مسجده صلّى الله عليه وسلّم الخلاف المذكور في المراد بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا» ، وترجيح أن ذلك يتناول ما زيد فيه. وروى أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات عن أنس بن مالك حديث: «من صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 في مسجدي أربعين صلاة» زاد الطبراني: «لا تفوته صلاة كتب له براءة من النار، وبراءة من العذاب، وبرئ من النفاق» . تقدم هذا الحديث بدون زيادة الطبراني، وهو عند الترمذي بغير هذا اللفظ. وروى ابن المنذر وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدي فرجل تكتب حسنة ورجل تحط عنه خطيئة» . وقال البيهقي بعد ذكر حديث فضل مسجد قباء ما لفظه: ورواه يوسف بن طهمان عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وزاد: «ومن خرج على طهر لا يريد إلا مسجدي هذا- يريد مسجد المدينة- ليصلي فيه كانت بمنزلة حجة» وقد أسند ذلك ابن زبالة ومن طريقه ابن النجار عن سهل أيضا، وفي إسناده طهمان أيضا، وهو ضعيف عند البخاري وابن عدي، وذكره ابن حبان في الثقات، ولفظ ابن زبالة: «من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة» وأسند هو ويحيى عن سهل بن سعد حديث: «من دخل مسجدي هذا يتعلم فيه خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان كالذي يرى ما يعجبه وهو لغيره» وفي رواية لهما عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: «من دخل مسجدي هذا لا يدخله إلا ليعمل خيرا أو يتعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان بمنزلة من يرى ما يعجبه وهو في يدي غيره» . وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره» ورواه الطبراني من حديث سعد مرفوعا بمعناه، إلا أنه قال: «من دخل مسجدي ليتعلم خيرا أو ليعلمه» ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ الطبراني لكن من حديث أبي هريرة. وأسند ابن زبالة عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «من دخل مسجدى هذا لصلاة أو لذكر الله أو يتعلم خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله» ولم يجعل ذلك لمسجد غيره، وعند يحيى أيضا عن كعب أنه قال: «ما من مؤمن يغدو أو يروح إلى المسجد لا يغدو أو لا يروح إلا ليتعلم خيرا أو يعلمه أو يذكر الله أو يذكّر به إلا كان مثله في كتاب الله كمثل الجهاد في سبيل الله، وما من رجل يغدو أو يروح إلى المسجد لا يغدو ولا يروح إلا لأخبار الناس وأحاديثهم إلا كان مثله في كتاب الله كمثل الرجل يرى الشيء يعجبه ويرى المصلين وليس منهم، ويرى الذاكرين وليس منهم» ، وعنده أيضا عن أبي سعيد المقبري عن الثقة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا إخال إلا أن لكل رجل منكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 مسجدا في بيته» قالوا: نعم يا رسول الله، قال: «فو الله لو صليتم في بيوتكم لتركتم مسجد نبيكم، ولو تركتم مسجد نبيكم لتركتم سننه، ولو تركتم سننه إذا لضللتم» . وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في غزوة خيبر: «من أكل من هذه الشجرة- يعني: الثوم- فلا يقربن مسجدنا» . قال الكرماني: قال التيمي: قال بعضهم: النهي إنما هو عن مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم خاصة، من أجل ملائكة الوحي، والأكثر على أنه عام، انتهى. وقد حكى ابن بطال القول بالاختصاص عن بعض أهل العلم ووهّاه، والله أعلم. الفصل السادس في فضل المنبر المنيف، والروضة الشريفة روينا في الصحيحين حديث عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» زاد البخاري من حديث أبي هريرة: «ومنبري على حوضي» . وروى أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه علي بن زيد وقد وثق عن جابر بن عبد الله مرفوعا: «ما بين بيتي إلى منبري روضة من رياض الجنة، وإن منبري على ترعة من ترع الجنة» . وروى أحمد برجال الصحيح عن سهل بن سعد مرفوعا: «منبري على ترعة من ترع الجنة» وفيه تفسير الترعة بالباب، وقيل: الترعة الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة، وقيل: الدرجة. ورواه يحيى عن أبي هريرة وغيره بلفظ: «على رتعة من رتع الجنة» وكذا هو في رواية لرزين، وظنه بعضهم تصحيفا فكتب في هامشه «صوابه ترعة» وليس كذلك، بل معناه صحيح؛ إذ الرتع الاتساع في الخصب، والرّتعة- بسكون التاء وفتحها- الاتساع في الخصب، وكل مخصب مرتع. وفي الحديث: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» ، وروى البزار عن معاذ بن الحارث نحوه. وفي الكبير للطبراني من طريق يحيى الحماني وهو ضعيف عن أبي واقد الليثي مرفوعا: «قوائم منبري رواتب في الجنة» ورواه ابن عساكر وابن النجار ويحيى عن أم سلمة، وقال المجد: أخرجه عنها النسائي، وفي رواية لابن عساكر: «وضعت منبري هذا على ترعة من ترع الجنة» . وأسند يحيى عن أبي المعلى الأنصاري وكانت له صحبة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال وهو على المنبر: «إن قدمي على ترعة من ترع الجنة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وعن أبي سعيد الخدري: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو قائم على منبره: «أنا قائم الساعة على عقر حوضي» وفي رواية له: «إني على الحوض الآن» . وأسند ابن زبالة عن نافع بن جبير عن أبيه حديث: «أحد شقي المنبر على عقر الحوض، فمن حلف عنده على يمين فاجرة يقتطع بها حق امرئ مسلم فليتبوأ مقعده من النار» قال: وعقر الحوض من حيث يصب الماء في الحوض. وفي سنن أبي داود من حديث جابر مرفوعا: «لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار، أو وجبت له النار» ، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه. وروى النسائي برجال ثقات عن أبي أمامة بن ثعلبة مرفوعا: «من حلف عند منبري هذا يمينا كاذبة استحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» . وفي الأوسط للطبراني وفيه ابن لهيعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «منبري على ترعة من ترع الجنة، وما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة» . وفي الصحيحين حديث ابن عمر: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» . وروى أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد حديث: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي» . وروى البزار برجال ثقات عن سعد بن أبي وقاص حديث: «ما بين بيتي ومنبري، أو قبري ومنبري، روضة من رياض الجنة» وفي الأوسط للطبراني وفيه متروك عن أنس بن مالك حديث: «ما بين حجرتي ومصلاي روضة من رياض الجنة» وفي رواية لابن زبالة من طريق عائشة بنت سعد عن أبيها «ما بين منبري والمصلى» وفي رواية «ما بين مسجدي إلى المصلى روضة من رياض الجنة» ورواه أبو طاهر بن المخلص في انتقائه ويحيى في أخبار المدينة بلفظ: «ما بين بيتي ومصلاي روضة من رياض الجنة» قال جماعة: المراد به مصلى العيد، وقال آخرون: مصلاه الذي يصلي فيه في المسجد، كذا قاله الخطابي. قلت: ويؤيد الأول أن في النسخة التي رواها طاهر بن يحيى عن أبيه يحيى عقب الحديث المذكور ما لفظه: قال أبي: سمعت غير واحد يقولون: إن سعدا لما سمع هذا الحديث من النبي صلّى الله عليه وسلّم بنى داره فيما بين المسجد والمصلى، وكذا ما سيأتي في مصلى العيد من رواية ابن شبة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص. قلت: وهو شاهد لما سيأتي من عموم الروضة لجميع مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولما زيد فيه من جهة المغرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وروى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند برجال الصحيح إلا أن فيهم فليحا- وقد روى له الجماعة، وقال الحاكم: اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره، وقال الساجي: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: فليح يختلفون فيه، وقال بعضهم: إنه كثير الخطأ- عن عبد الله بن زيد المازني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بين هذه البيوت- يعني بيوته- إلى منبري روضة من رياض الجنة، والمنبر على ترعة من ترع الجنة» . معنى كون المنبر على الحوض وقد اختلف في معنى ذلك؛ فقال الخطابي: معنى قوله: «ومنبري على حوضي» أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد الحوض ويوجب الشرب منه، وهذا قول الباقي، والثاني: أن منبره الذي كان يقوم عليه صلّى الله عليه وسلّم يعيده الله كما يعيد سائر الخلائق، ويكون على حوضه في ذلك اليوم، واعتمد ذلك ابن النجار، وحكى ابن عساكر القول بأن المراد منبره بعينه الذي كان في الدنيا، ثم قال: وهو أظهر، وعليه أكثر الناس، فتبع شيخه ابن النجار في ذلك، والثالث أن المراد منبر يخلقه الله تعالى له في ذلك اليوم، ويجعله على حوضه. قلت: ويظهر لي معنى رابع، وهو أن البقعة التي عليها المنبر تعاد بعينها في الجنة، ويعاد منبره ذلك على هيئة تناسب ما في الجنة؛ فيجعل المنبر عليها عند عقر الحوض، وهو مؤخره، وعن ذلك عبر بترعة من ترع الجنة، وذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لأمته للترغيب في العمل في هذا المحل الشريف ليفضي بصاحبه إلى ذلك، وهذا في الحقيقة جمع بين القولين الأولين، وسيأتي في الزيارة ما ذكره ابن عساكر من أن الزائر يأتي المنبر الشريف، ويقف عنده، ويدعو. معنى أن الروضة من رياض الجنة واختلفوا أيضا في معنى ما جاء في الروضة الشريفة، قال الحافظ ابن حجر: محصل ما أول به العلماء ذلك أن تلك البقعة كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل فيها من ملازمة حلق الذكر، لا سيما في عهده صلّى الله عليه وسلّم؛ فيكون مجازا، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة، فيكون مجازا أيضا، أو هو على ظاهره، وأن المراد أنها روضة حقيقة بأن ينقل ذلك الموضع إلى الجنة؛ ثم قال: وهذه الأقوال على ترتيبها هذا في القوة، وهو محتمل لتقوية الأول أو الأخير، والأخير أقواها عندي، وهو الذي ذهب إليه ابن النجار، ونقله البرهان ابن فرحون في منسكه عن ابن الجوزي وغيره عن مالك، فقال: وقوله: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» حمله مالك رحمه الله على ظاهره، فنقل عنه ابن الجوزي وغيره أنها روضة من رياض الجنة تنقل إلى الجنة، وأنها ليست كسائر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 الأرض تذهب وتفنى، ووافقه على ذلك جماعة من العلماء، انتهى ونقله الحطيب ابن حملة عن الداروردي، وصححه ابن الحاج في مدخله؛ لأن العلماء فهموا من ذلك مزية عظيمة لهذا المحل. ثم رأيت في كلام الحافظ ابن حجر ترجيحه في موضع آخر، فقال في الكلام على الحوض: والمراد بتسمية ذلك الموضع روضة أن تلك البقعة تنقل إلى الجنة فتكون روضة من رياضها، أو أنها على المجاز لكون العبادة فيه تؤول إلى دخول العابد روضة الجنة، ثم قال: وهذا فيه نظر؛ إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة، والخبر مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها، انتهى. قلت: وأحسن من ذلك ما ذهب إليه ابن أبي جمرة من الجمع بين هذا وما قبله، ومنه استنبطنا ما قدمناه في أمر المنبر، فإنه لم يعول على ذكر المعنى الأول وقال بعد ذكر المعنيين الأخيرين: الأظهر- والله أعلم- الجمع بين الوجهين؛ لأن لكل منهما دليلا يعضده، أما الدليل على أن العمل فيها يوجب الجنة فلما جاء في فضل مسجدها من المضاعفة، ولهذه البقعة زيادة على باقي بقعه، وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة فلإخباره صلّى الله عليه وسلّم بأن المنبر على الحوض، لم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره؛ وأنه حق محسوس موجود على حوضه. قلت: وفيه نظر؛ لما قدمناه. قال: وقد تقرر في قواعد الشرع أن الشرع أن البقع المباركة ما فائدة بركتها لنا والإخبار بذلك إلا تعميرها بالطاعات؛ قال: ويحتمل وجها ثالثا؛ وهو أن تلك البقعة نفسها روضة من رياض الجنة كما أن الحجر الأسود من الجنة؛ فيكون الموضع المذكور روضة من رياض الجنة الآن؛ ويعود روضة في الجنة كما كان؛ ويكون للعامل بالعمل فيه روضة في الجنة؛ قال: وهو الأظهر؛ لعلو مكانته عليه السلام؛ وليكون بينه وبين الأبوة الإبراهيمية في هذا شبه، وهو أنه لما خص الخليل بالحجر من الجنة خص الحبيب بالروضة منها. قلت: وهو من النّفاسة بمكان، وفيه حمل اللفظ على ظاهره، إذ لا مقتضى لصرفه عنه، ولا يقدح في ذلك كونها تشاهد على نسبة رياض الدنيا فإنه ما دام الإنسان في هذا العالم لا ينكشف له حقائق ذلك العالم لوجود الحجب الكثيفة والله أعلم. وتخصيص ما أحاطت به البينية المذكورة بذلك إما تعبد وإما لكثرة تردده صلّى الله عليه وسلّم بين بيته ومنبره وقرب ذلك من قبره الشريف الذي هو الروضة العظمى كما أشار إليه ابن أبي جمرة أيضا. وقال الجمال محمد الراساني الريمي: اتفقوا على أن هذا اللفظ معقول المعنى، مفهوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 الحكمة، وإنما اختلفوا في ذلك المعنى ما هو، فقيل: اللفظ على حقيقته، وإن ذلك روضة من رياض الجنة بمعنى أنه بعينه نقل من الجنة، أو أنه سينقل إليها، وقيل: مجاز معناه أن العبادة فيه تؤدّي إلى الجنة، أو لما ينزل فيه من الرحمة وحصول المغفرة، كما سمي مجالس الذكر رياض الجنة في حديث: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» «1» وفي رواية لأبي هريرة: «قلت: ما رياض الجنة؟ قال: المساجد، قلت: وما الرتع؟ قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر» . وقال ابن عبد البر: لما كان صلّى الله عليه وسلّم يجلس في ذلك الموضع ويجلس الناس إليه للتعلم شبّهه بالروضة؛ لكريم ما يجتنى فيه، وأضافها إلى الجنة لأنها تؤول إلى الجنة، كقوله: «الجنة تحت ظلال السيوف» أي أنه عمل يدخل الجنة. وقال الخطابي: روضة من رياض الجنة بالطاعة فيه، كقوله: «عائد المريض في مخرفة الجنة» «2» أي يرجى له بذلك مخرفة الجنة؛ فأطلق اسم المسبب على سببه كقوله: «الجنة تحت أقدام الأمهات» . هذا ما نقله الخطيب ابن حملة من المعاني، ثم تعقب الأخير بأنه لا يبقى حينئذ لهذه الروضة مزية، وقد فهم الناس من ذلك المزية العظيمة التي بسببها فضلها مالك على سائر البقاع. وقد تعقب الجمال الريمي الخطيب في ذلك، وقال: أظهر المعاني تضعيف أجر الطاعات، وتعليم الناس وجوه الخير؛ لاتفاق الخطابي وابن عبد البر عليه، وهما عمدة الأمة في فقه الحديث، ولأن النظائر تؤيده، وأما المعنيان الآخران فلم يعزهما الخطيب إلى أحد، فدل على ضعفهما، ولم يذكر عياض القول بأن هذا الموضع بعينه نقل من الجنة، وذكر ما عداه، فدل على شذوذه؛ لأن مثل هذا طريقه التوقيف كما جاء في الركن والمقام، على أن القول به يؤدي إلى إنكار المحسوسات أو الضروريات، وجواب ما ذكره الخطيب أن المزية ظاهرة، وهو أن العمل في النظائر المتقدمة يؤدي إلى رياض الجنة، والعمل في هذا المحل يؤدي إلى روضة أعلى من تلك الرياض. قلت: إنما حمله على هذا ذهابه إلى أن اسم الروضة يعم جميع مسجده صلّى الله عليه وسلّم، وأنه إذا   (1) ارتعوا أي انعموا في خصب وسعة. (2) المخرفة: البستان، والسّكة بين صفين من نخيل، والطريق الواضح، جمع مخاريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 ثبت لما زيد فيه حكم المضاعفة تعدى ذلك إليه، فاختار كون التسمية بذلك مجازية، ووضع في ذلك كتابا سماه «دلالات المسترشد، على أن الروضة هي المسجد» وقد صنف الشيخ صفي الدين الكازروني المدني مصنفا في الرد عليه، وقد لخصتهما مع سلوك طريق الإنصاف بينهما في كتابي الموسوم: «بدفع التعرض والإنكار، لبسط روضة المختار» وسنذكر الصواب في ذلك، واستدلاله على ضعف القول بأن ذلك الموضع بعينه نقل من الجنة بأن عياضا لم يذكره عجيب لاحتمال أنه لم يطلع عليه، وقوله: «إن ذلك طريقه التوقيف كما جاء في الركن» فنقول: أي توقيف أعظم من إخبار الصادق المصدوق بذلك؟ وهو المخبر بأمر الركن والمقام، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فكيف سلمه في الركن والمقام ولم يسلمه هنا؟ والذي فهمه العلماء من الحديث أن هذا الموضع روضة، سواء كان به ذاكرون ومصلون أم لم يكن، بخلاف حلق الذكر مثلا، فإن ذلك يزول عنها بقيامهم، فالروضة ما هم فيه بخلاف هذه، ولهذا فسر الرتع هناك بالذكر، والمراد في حديث: «الجنة تحت أقدام الأمهات» أن لزوم خدمتهن تؤدي إليها، وقوله: «إن القول بذلك يؤدي إلى ما ذكره» عجيب، وقد قدمنا السبب المانع من شهود ذلك على حقيقته، وأي حسن أحسن من القول بأن ذلك روضة من الجنة أكرم الله به نبيه؟ ويؤيده أحاديث المنبر المتقدمة وما سيأتي في أحد وعير؛ إذ لم يقل أحد إن المراد أن المتعبد عند أحد يفضي به ذلك إلى الجنة، والمتعبد عند عير يفضي به ذلك إلى النار، وأما قوله في بيان المزية: «إن العمل في ذلك المحل يؤدي إلى روضة أعلى» فليس في الحديث وصفه بأنه أعلى الرياض، بل أطلق ذلك، فإذا ثبت ذلك لغيره فلا خصوصية، بل قد يقول الذاهب إلى تفضيل مكة: إن العمل فيها يؤدي إلى روضة أعلى وأفضل، ولظهور مزية تلك البقعة على غيرها بذلك استدل به بعض الأئمة على تفضيل المدينة على مكة بإضافة حديث «لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» وتعقبه ابن حزم بأن جعلها من الجنة إنما هو على سبيل المجاز، إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى [طه: 118] قال: وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة كما يقال في اليوم الطيب: هذا يوم من أيام الجنة. قلت: لا يلزم من ثبوت عدم الجوع والعري لمن حل في الجنة ثبوته لمن حل في شيء أخرج منها؛ إذ يلزمه أن ينفي بذلك عن حجر المقام كونه من الجنة حقيقة، ولا قائل به، ومسألة عموم الروضة لجميع مسجده صلّى الله عليه وسلّم ذات خلاف؛ فقد قال الأقشهري: سئل أبو جعفر بن نصر الداودي المالكي عن قوله: «ما بين بيتي ومنبري روضة» فقال: هو روضة كله، ونقل الريمي عن الخطيب ابن حملة أنه قال: قوله «ما بين بيتي» مفرد مضاف قد يفيد العموم في بيوته، ثم ذكر بيان مكان بيوته، ثم قال: ولهذا قال السمعاني في أماليه: لما فضّل الله مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشرفه وبارك في العمل فيه وضعفه سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 روضة من رياض الجنة، فتراه جعل المسجد كله روضة، والمشهور أن المراد بيت خاص، وهو بيت عائشة رضي الله عنها؛ للرواية الآخرى «ما بين قبري ومنبري» قال ابن خزيمة: أراد بقوله ما بين بيتي الذي أقبر فيه؛ إذ النبي صلّى الله عليه وسلّم قبر في بيته الذي كانت تسكنه عائشة، قال الخطيب: فعلى هذا تسامت- يعني الروضة- حائط الحجرة من القبلة والشمال من جهة الحجرة، ولا تزال تقصر إلى جهة المنبر، أو توجد المسامتة مستوية فلينظر، هذا كله كلام الخطيب. قلت: فتلخص من ذلك ثلاثة آراء: الأول: أنها المسجد الموجود في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، الثاني: أنها ما سامت المنبر والحجرة فقط، فتتسع من جهة الحجرة وتضيق من جهة المنبر لما تقدم في مقداره، وتكون منحرفة الأضلاع لتقدم المنبر في جهة القبلة وتأخر الحجرة في جهة الشام، فتكون كشكل مثلث ينطبق ضلعاه على قدر المنبر، الثالث: أنها ما سامت كلا من طرفي الحدين، فتشمل ما سامت المنبر من مقدم المسجد في جهة القبلة وإن لم يسامت الحجرة، ويشمل ما سامت الحجرة من جهة الشمال، وإن لم يسامت المنبر، فتكون مربعة، وهي الأروقة الثلاثة: رواق المصلى الشريف، والرواقان بعده، وذلك هو مسقف مقدم المسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، لأنه قد تحرر لنا في هذه العمارة التي أدركناها أن صف أسطوان الوفود- وهي التي كانت إلى رحبة المسجد كما سيأتي- واقع خلف الحجرة سواء، حتى إن الأسطوانة التي تلي مربعة القبر في صفها الداخلة في الزور بعضها داخل في جدار الحجرة الشامي كما سيأتي بيانه. وأما أدلة هذه الأقوال فقد استدل الريمي للأول بأشياء غالبها ضعيف مبناه على أن إطلاق الروضة من قبيل المجاز لما في ذلك من المضاعفة ونحوه، وأحسنها ما أشار إليه الخطيب ابن حملة وأيده الريمي بأشياء، فقال: قوله «بيتي» من قوله «ما بين بيتي» مفرد مضاف، فيفيد العموم في سائر بيوته صلّى الله عليه وسلّم، وقد كانت بيوته مطيفة بالمسجد من القبلة والمشرق- وفيه بيت عائشة- والشام كما سيأتي عن ابن النجار وغيره، ولم يكن منها في جهة المغرب شيء، فعرف الحد من تلك الجهة بالمنبر الشريف، فإنه كان في آخر جهة المغرب بينه وبين الجدار يسير؛ لأن آخره من تلك الجهة الأسطوانة التي تلي المنبر، والمنبر على ترعة من ترع الجنة، فقد حدد الروضة بحدود المسجد كلها. قلت: وهو مفرع على ما ذكره ابن النجار في تحديد المسجد من جهة المغرب، وقد مشيت عليه في تواليفي قبل أن أقف على ما قدمته في حد المسجد، وقد مشى على ذلك الزين المراغي فقال: ينبغي اعتقاد كون الروضة لا تختص بما هو معروف الآن، بل تتسع إلى حد بيوته صلّى الله عليه وسلّم من ناحية الشام، وهو آخر المسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم؛ فيكون كله روضة، وهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 إذا فرعنا على المفرد المضاف للعموم، وقد رجحه في كتب الأصول جماعة، ثم ذكر ما تقدم. قلت: وفاتهم الجميع الاستدلال بحديث زوائد مسند أحمد المتقدم بلفظ «ما بين هذه البيوت» يعني بيوته «إلى منبري روضة من رياض الجنة» والعجب أن المعتنين بأمر الروضة لم يذكروه، مع أن فيه غنية عن التمسك بكون المفرد المضاف يفيد العموم، فقد ناقش الصفي الكازروني في ذلك بأشياء: منها أن رواية «ما بين قبري ومنبري» بينت المراد من البيت المضاف. قلت: ليته قال رواية: «ما بين المنبر وبيت عائشة» لأنه يلزم عليه أن يكون الروضة بعرض القبر فقط، والتخصيص بذلك بعيد، ومن قال: «إن المراد من البيت القبر» ليس مراده والله أعلم إلا أن رواية القبر لعدم إبهامها تعين البيت، ولعله مراد الصفي، ولهذا قال الطبري: وإذا كان قبره صلّى الله عليه وسلّم في بيته اتفقت معاني الروايات، ولم يكن بينها خلاف، انتهى، ولك أن تقول: رواية «قبري» ورواية «حجرة عائشة» من قبيل إفراد فرد من العام، وذكره بحكم العام، وهو لا يقتضي التخصيص على الأصح، بل يقتضي الاهتمام بشأن ذلك الفرد، على أن القرطبي قال: الرواية الصحيحة «بيتي» ويروى «قبري» وكأنه بالمعنى، والله أعلم. ومنها: أن القرافي حمل إطلاق عموم اسم الجنس على ما يقع منه على القليل والكثير كالماء والمال، بخلاف ما لا يصدق إلا على الواحد كالعبد والبيت والزوجة فلا يعم، ولهذا لو قال عبدي حر أو امرأتي طالق لا يعم سائر عبيده ونسائه، قال: ولم أره منقولا. قلت: قال التاج السبكي: خالف بعض الأئمة في تعميم اسم الجنس المعرف «1» والمضاف، والصحيح خلافه، وفصل قوم بين أن يصدق على القليل والكثير فيعم، أو [لا] «2» فلا، واختاره ابن دقيق العيد، انتهى. فقد جعل ما بحثه القرافي وجها ثالثا مفصلا، وذلك يأبى حمل إطلاق المطلقين عليه، فما بحثه منقول، لكن الصحيح خلافه، وما استدل به من عدم عموم عبدي حر وامرأتي طالق جوابه من أوجه ذكرناها في دفع التعرض، وأحسنها ما أشار إليه الأسنوي من أن عدم العموم في ذلك لكونه من باب الأيمان، والأيمان يسلك فيها مسلك العرف، انتهى. ونقل   (1) في جميع المطبوعات «المعروف» . (2) ما بين [] زيادة يقتضيها السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 الأزرقي في نفائسه عن ابن عبد السلام أنه قال: الذي تبين لي طلاق الجميع وعتق الجميع، وفي كتب الحنابلة نص أحمد على أنه لو قال من له زوجتان أو عبيد «زوجتي طالق، أو عبدي حر» ولم ينو معيّنا، وقع الطلاق والعتق على الجميع، تمسكا بالقاعدة المذكورة، فقد جرى ابن عبد السلام والحنابلة على مقتضى ذلك؛ فهذه الطرق من أحسن الأدلة، ولكن على شمول الروضة لما بين المنبر والبيوت الشريفة فهو رأي آخر، وقد قدمنا من الحديث ما يصرح به، ويؤيده ما أشار إليه الريمي من أن المقتضى لكون ذلك روضة كثرة تردده صلّى الله عليه وسلّم فيه، وكان يصلي قبل تحويل القبلة في طرفه الذي يلي الشام، ومتهجّده كما سيأتي في جهة المشرق إلى الشام أيضا، ومنبره الشريف في نهاية هذا الموضع المحدود من جهة المغرب، ومصلاه الشريف بمقدمه وبه الأساطين الآتية ذوات الفضل. وأما الرأي الثاني فدليله التمسك بظاهر لفظ البينية الحقيقية، وحمل البيت على حجرة عائشة رضي الله عنها، ويضعفه أن مقدم المصلى الشريف يلزم خروجه عن اسم الروضة حينئذ؛ لخروجه عن موازاة طرفي المنبر والحجرة، مع أن الظاهر أن معظم السبب في كون ذلك روضة تشرفه بجبهته الشريفة، على أني لم أر هذا القول لأحد، وإنما أخذته من تردد الخطيب ابن حملة المتقدم. وأما الرأي الثالث فهو ظاهر ما عليه غالب العلماء وعامة الناس، ووجهه حمل البيت على ما في الرواية الآخرى من ذكر حجرة عائشة، وجعل ما تقدم في أمر خروج مقدم المصلى الشريف دليلا على أن المراد من البينية ما حاذى واحدا من الطرفين، وأن المراد مقدم المسجد المنتهي من جهة مؤخر الحجرة الشريفة لصف أسطوان الوفود كما قدمناه، وفي كلام الأقشهري إشارة له، وهذا إنما علمناه في العمارة التي سنذكرها، ولم يكن معلوما قبل ذلك، ولهذا قال المجد في الباب الأول في فصل الزيارة من كتابه ما لفظه: ثم يأتي- يعني الزائر- إلى الروضة المقدسة، وهي ما بين القبر والمنبر طولا، ولم أر من تعرض له عرضا، والذي عليه غلبة الظنون أنه من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه، وأنا لا أوافق على ذلك، وقد بينته في موضعه من هذا الكتاب، وذكرت أن الظاهر من لفظ الحديث يقتضي أن يكون أكثر من ذلك؛ لأن بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بجميع مرافق الدار كان أكثر من هذا المقدار، انتهى. ولم يذكر في الموضع الذي أحال عليه شيئا، وقوله «من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه» كأنه يريد به الأسطوان المخلق وما حاذاها؛ فتكون الروضة على ذلك التقدير الرواق الأول منها فقط، وهو غلط؛ لأن الحجرة الشريفة متأخرة عن ذلك لجهة الشام؛ وصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الأسطوان المذكور محاذ لطرف جدارها القبلي. وقال ابن جماعة: قد تحرر لي طول الروضة، ولم يتحرر لي عرضها، يريد أن طولها من المنبر إلى الحجرة، وهو كما قال ابن زبالة ثلاثة وخمسون ذراعا وشبرا، وقال في موضع آخر: أربعة وخمسون ذراعا وسدس. قلت: وما ذكره أولا أقرب إلى الصواب كما اختبرناه، فإني ذرعت بحبل من صفحة المنبر القبلية إلى طرف الحجرة القبلية فكان ثلاثة وخمسين ذراعا. وذكر ابن جماعة ذراعا أقل من هذا، وكأنه ذرع على الاستقامة، ولم يعتبر الذرع من الطرفين المذكورين، فقال: وذرعت ما بين الجدار الذي حول الحجرة الشريفة وبين المنبر فكان أربعا وثلاثين ذراعا وقيراطا بذراع العمل. قلت: وذلك نحو اثنين وخمسين ذراعا بذراع اليد الذي قدمنا تحريره، وأما قول من قال: «إن طول الروضة اليوم ينقص عن خمسين ذراعا بثلثي ذراع» فلا وجه له إلا أن يكون اعتبر بذراع اليد المفرط الطول، والله أعلم. وأما نهاية الحجرة فلم تكن معلومة لابن جماعة وغيره، وعليها يتوقف بيان العرض، ولهذا قال الريمي: لا ندري الحجرة في وسط البناء المحيط بها أم لا؟ ولا ندري إلى أين ينتهي امتدادها؟ وغالب الناس يعتقدون أن نهايتها في محاذاة أسطوان علي رضي الله عنه، ولهذا جعلوا الدرابزين الذي بين الأساطين ينتهي إلى صفها، واتخذوا الفرش لذلك فقط، والصواب ما قدمناه؛ فقد انجلى الأمر ولله الحمد. الفصل السابع في الأساطين المنيفة الأسطوان المخلق منها الأسطوان الذي هو علم على المصلى الشريف، ويعرف بالمخلق، وقد قدمنا قول ابن زبالة «المخلق نحو من ثلثيها» وقول ابن القاسم «إن المصلى الشريف حيث الأسطوان المخلق» وبينا أن المراد أنها أقرب أسطوان إليه، وأن الجذع الذي كان يخطب إليه صلّى الله عليه وسلّم ويتكئ عليه كان هناك، وأن الأسطوان الموجود اليوم متقدم على المحل الأول، وأن المحل الأصلي هو موضع كرسي الشمعة التي عن يمين الإمام الواقف في المصلى الشريف، فمن أراد التبرك بذلك فليصل هناك. وروى ابن زبالة عن يزيد بن عبيد أنه كان يأتي مع سلمة بن الأكوع إلى سبحة الضحى، فيعمد إلى الأسطوان دون المصحف فيصلي قريبا منهما، فأقول: ألا تصلي هاهنا؟ وأشير له إلى بعض نواحي المسجد، فيقول: إني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتحرى هذا المقام، وهذا الحديث في الصحيحين، ولفظ البخاري «كنت آتي مع سلمة بن الأكوع، فيصلي عند الأسطوان التي عند المصحف، فقلت: يا أبا سلمة أراك تتحرى الصلاة عند هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 الأسطوانة، قال: فإني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتحرى الصلاة عندها» ولفظ مسلم عن سلمة أنه كان يتحرى موضع المصحف يسبح «1» فيه، وذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتحرى ذلك، وقد قدمنا في الكلام على المصلى الشريف ما يبين أن المراد هذه الأسطوانة. أسطوان القرعة ومنها أسطوان القرعة، وتعرف بأسطوان عائشة رضي الله عنها، وبالأسطوان المخلق أيضا، وبأسطوان المهاجرين. روينا في كتاب ابن زبالة عن إسماعيل بن عبد الله عن أبيه أن عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وثالثا كان معهما دخلوا على عائشة رضي الله عنها فتذاكروا المسجد، فقالت عائشة: إني لأعلم سارية من سواري المسجد لو يعلم الناس ما في الصلاة إليها لاضطربوا عليها بالسهمان «2» ، فخرج الرجلان وبقي ابن الزبير عند عائشة، فقال الرجلان: ما تخلف إلا ليسألها عن السارية، ولئن سألها لتخبرنه، ولئن أخبرته لا يعلمنا، وإن أخبرته عمد لها إذا خرج فصلى إليها، فاجلس بنا مكانا نراه ولا يرانا، ففعلا، فلم ينشب أن خرج مسرعا فقام إلى هذه السارية فصلى إليها متيامنا إلى الشق الأيمن منها، فعلم أنها هي، وسميت أسطوانة عائشة بذلك، وبلغنا أن الدعاء عندها مستجاب، هذا لفظ ابن زبالة. وفي الأوسط للطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن في مسجدي لبقعة قبل هذه الأسطوانة لو يعلم الناس ما صلوا فيها إلا أن تطير لهم قرعة، وعند عائشة جماعة من أبناء الصحابة فقالوا: يا أم المؤمنين وأين هي؟ فاستعجمت عليهم، فمكثوا عندها ساعة ثم خرجوا وثبت عبد الله بن الزبير فقالوا: إنها ستخبره بذلك المكان، فارقبوه في المسجد حتى تنظروا حيث يصلي، فخرج بعد ساعة فصلى عند الأسطوانة التي صلى إليها عامر بن عبد الله بن الزبير، فقيل لها: أسطوانة القرعة. قال عتيق: وهي الأسطوانة التي هي واسطة بين القبر والمنبر: عن يمينها إلى المنبر أسطوانتان، وبينها وبين القبر أسطوانتان، وبينها وبين الرحبة أسطوانتان، وهي واسطة بين ذلك، وهي تسمى أسطوانة القرعة، هذا لفظ الأوسط.   (1) السّبحة: صلاة التطوع وهي مواضع السجود. (2) السهم: القدح يقارع به أو يلعب به في الميسر، أي الحظ والنصيب، وما يفوز به الظافر بالقرعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وقال ابن زبالة: حدثني غير واحد من أهل العلم منهم الزبير بن حبيب أن الأسطوان التي تدعى أسطوان عائشة هي الثالثة من المنبر، والثالثة من القبر، والثالثة من القبلة، والثالثة من الرحبة، أي قبل زيادة الرواقين الآتي ذكرهما المتوسطة للروضة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى إليها بضع عشرة المكتوبة ثم تقدم إلى مصلاه الذي وجاه المحراب في الصف الأوسط، أي الرواق الأوسط، وأن أبا بكر وعمر والزبير بن العوام وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها، وكان يقال لذلك المجلس مجلس المهاجرين، انتهى. وقد ذكر ابن النجار هذه الرواية عن الزبير بن حبيب، وزاد: وقالت عائشة فيها: لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالسهمان، فسألوها عنها فأبت أن تسميها، فأصغى إليها ابن الزبير فسارّته بشيء، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها أسطوان عائشة، قال: فظن من معه أن عائشة أخبرته أنها تلك الأسطوانة، فسميت أسطوان عائشة، قال: وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال: رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر، ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر، ويقال: الدعاء عندها مستجاب، هذا لفظ رواية ابن النجار عقب ما قدمناه من رواية ابن زبالة. وزاد فيما ذكره ابن زبالة عقب قوله: «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى إليها المكتوبة بضع عشرة، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم» ما لفظه: وكان يجعلها خلف ظهره، قلت: ولم أره في كلام غيره، والظاهر أن مراده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستند إليها إذا جلس هناك، لا أنه يجعلها خلف ظهره إذا صلى؛ لما ذكره عن زيد بن أسلم من أنه رأى موضع جبهة النبي صلّى الله عليه وسلّم عندها، ووصف هذه الأسطوانة بالمخلقة يؤخذ مما تقدم عن ابن زبالة من قول أبي هريرة «وكان مصلاه صلّى الله عليه وسلّم الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده أن تضع موضع الأسطوان المخلقة خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام» إلى آخر ما تقدم قلت: وهذه الأسطوان بصف الأساطين التي خلف الإمام الواقف بالمصلى الشريف، وهي الثالثة من القبلة وكانت الثالثة أيضا من رحبة المسجد كما تقدم، وذلك قبل أن يزاد في مسقف مقدم المسجد الرواقان الآتي بيانهما في رحبته، وبهما صارت خامسة من الرحبة. أسطوان التوبة ومنها أسطوان التوبة، وتعرف بأسطوان أبي لبابة بن عبد المنذر أخي بني عمرو بن عوف الأوسي أحد النقباء، واسمه رفاعة، وقيل غير ذلك، سميت به لأنه ارتبط إليها حتى أنزل الله توبته كما قدمناه في غزوة بني قريظة. وقال الأقشهري: اختلف أهل السير والتفسير في ذنب أبي لبابة، فقال قوم: كان من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 الذين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، وقال ابن هشام تبعا لابن إسحاق: سببه قضية بني قريظة واستشارتهم إياه، وأسند يحيى عن عبد الرحمن بن يزيد قصته معهم، وأنهم قالوا له: أننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، وهو الذبح. وفي رواية أخرى أنه لما جاءهم قام إليه الرجال، وأجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، فكان منه ما تقدم، قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله. قال يحيى في الرواية المتقدمة: فلم يرجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، ومضى إلى المسجد، وارتبط إلى جذع في موضع أسطوانة التوبة، وأنزل الله عز وجل فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] وفي رواية: فربط نفسه في السارية، وحلف لا يحل نفسه حتى يحله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو تنزل توبته، قال: فجاءت فاطمة رضي الله عنها تحله، فقال: لا، حتى يحلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إنما فاطمة بضعة مني، وفي رواية لابن النجار أن أبا لبابة عاهد الله تعالى ألايطأ بني قريظة أبدا، وقال: لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لما بلغه خبره- وكان قد استبطأه- «أما لو جاءني لاستغفرت الله له، فاما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه» فأنزلت توبته ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت أم سلمة، قالت: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من السحر يضحك، فقلت: مم تضحك أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أبي لبابة، قلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فثار الناس إليه ليطلقوه، قال: لا والله حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه. وروى البيهقي في الدلائل عن سعيد بن المسيب قصة أبي لبابة في بني قريظة، وأنه تخلف في غزوة تبوك، فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءه يسلم عليه، فأعرض عنه، ففزع أبو لبابة، فارتبط بسارية التوبة التي عند باب أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم سبعا بين يوم وليلة في حر شديد لا يأكل فيهن ولا يشرب قطرة. وروى مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن أبا لبابة ارتبط إليها بسلسلة ربوض، والربوض: الثقيلة «1» ، بضع عشرة ليلة، حتى ذهب سمعه فما يكاد يسمع، وكاد بصره يذهب، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة وإذا أراد أن يذهب لحاجته حتى يفرغ ثم تأتي به فيرده في الرباط كما كان.   (1) سلسلة ربوض: سلسلة ضخمة ثقيلة، وفي الحديث: «أنه ارتبط بسلسلة ربوض إلى أن تاب اللهّ عليه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 وأورد الزمخشري قصة أبي لبابة في تفسيره قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [الأنفال: 27] الآية، وقال فيها: قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، فنزلت أي: الآية المتقدمة، فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، وذكر في القصة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاءه فحله فقال: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أخلع من مالي، فقال عليه السلام: «يجزئك الثلث أن تتصدق به» . ونقل ابن النجار عن إبراهيم بن جعفر أن السارية التي ربط إليها ثمامة بن أثال الحنفي هي السارية التي ارتبط إليها أبو لبابة، ونقل ذلك أيضا عن ابن شبة. وروى البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ [التوبة: 102] الآية، قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، فلما حضر رجوع النبي صلّى الله عليه وسلّم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، فلما رآهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من هؤلاء؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك، الحديث، وفيه توبة الله عليهم وأنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل إليهم وأطلقهم. وروى ابن زبالة عن عمر بن عبد الله بن المهاجر عن محمد بن كعب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي نوافله إلى أسطوانة التوبة. وفي رواية له عن عمر بن عبد الله، لم يذكر ابن كعب، أنه قال في أسطوان التوبة: كان أكثر نافلة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها، وكان إذا صلّى الصبح انصرف إليها، وقد سبق إليها الضعفاء والمساكين وأهل الضر وضيفان النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤلفة قلوبهم ومن لا مبيت له إلا في المسجد، قال: وقد تحلقوا حولها حلقا بعضها دون بعض، فينصرف إليهم من مصلاه من الصبح، فيتلو عليهم ما أنزل الله عليه من ليلته، ويحدثهم ويحدثونه، حتى إذا طلعت الشمس جاء أهل الطّول والشرف والغنى فلم يجدوا إليه مجلسا، فتاقت أنفسهم إليه وتاقت نفسه إليهم، فأنزل الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف: 28] إلى منتهى الآيتين، فلما نزل ذلك فيهم قالوا: يا رسول الله اطردهم عنا، ونكون نحن جلساءك وإخوانك ولا نفارقك، فأنزل الله عز وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] إلى منتهى الآيتين. وفي العتبية عن مالك وصف أسطوان التوبة بالمخلقة، وقد قدمنا في الكلام على المصلى الشريف ما ذكره ابن زبالة من خلوقها وخلوق غيرها من الأساطين. وروى ابن زبالة خبر مالك بن أنس المتقدم عن عبد الله بن أبي بكر بنحو ما تقدم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وقال فيه: وهي الأسطوان المخلق نحو من ثلثيها، تدعى أسطوان التوبة، منها حل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا لبابة حين نزلت توبته، وبينها وبين القبر أسطوان. وأسند أيضا عن ابن عمر أنه كان يقول في الأسطوان التي ارتبط إليها أبو لبابة: هي الثانية من القبر، وهي الثالثة من الرحبة. قلت: كانت الثلاثة من الرحبة قبل تجدد الأسطوانتين المشار إليهما في أسطوانة القرعة بسبب تجدد الرواقين الآتي ذكرهما، وهذه الأسطوانة إلى جانب الأسطوانة المتقدم ذكرها من جهة المشرق؛ فهي الرابعة من المنبر، والثانية من القبر، والثالثة من القبلة، والخامسة في زماننا من رحبة المسجد، وفيها اليوم هيئة محراب من الجص تتميز به عن سائر الأساطين، لكنه أزيل في الحريق الثاني. وفهم البدر بن فرحون من رواية ابن عمر المتقدمة أنها التي تلي هذه الأسطوانة في جهة المشرق، وهي اللاصقة بالشباك اليوم كما سيأتي، فقال: إن أسطوان التوبة هي اللاصقة بالشباك على ما قاله عبد الله بن عمر، وتبعه مالك بن أنس، وما قيل إنها غيرها فغلط أوجبه أشياء يطول ذكرها، انتهى كلامه. قلت: بل الصواب ما قدمناه في بيانها، ومنشأ ما فهمه عدّه للأسطوانة اللاصقة بجدار القبر، فحمل قول ابن عمر أنها الثانية من القبر، وقول مالك بينها وبين القبر أسطوان على الأسطوانة اللاصقة بالشباك اليوم، وقد علم من كلامهم في أسطوان القرعة أنهم لا يعدون اللاصقة بجدار القبر لما تقدم من قولهم فيها: إنها الثالثة من المنبر والثالثة من القبر، ولو عدوا اللاصقة بجدار القبر لكانت الرابعة من القبر، وأيضا فاللاصقة بجدار القبر أحدثها عمر بن عبد العزيز، ولم يدرك ذلك ابن عمر، وأوضح من ذلك أن ابن زبالة قال: إن بين أسطوان التوبة وبين جدار القبر الشريف عشرين ذراعا، وقد اعتبرت ذلك من الأسطوانة التي ذكرناها فكان كذلك. وقال أيضا فيما قدمناه عنه: «إن ذرع ما بين مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبينها سبع عشرة ذراعا» وقد قدمنا في المصلى الشريف ما يقتضي صحة ذلك عند اختبارنا لما بينهما مع بيان أن المصلى الشريف في طرف الحفر الذي يلي المغرب، وإن جعل المصلى الشريف على تلك الهيئة حادث، وفي نسخة من ابن زبالة «تسع عشرة ذراعا» بتقديم التاء، فإن صحت فقد علمت أنه لم يكن المصلى الشريف في عهد ابن زبالة على هذه الهيئات، بل كانت الأرض مستوية، فكأنه اعتبر الذراع من ابتداء طرف المصلى الشريف الغربي، ومنه إلى الأسطوان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 المذكور تسع عشرة ذراعا بتقديم التاء، وأما ذرع ما بين المصلى الشريف والأسطوانة التي يعنيها البدر فخمس وعشرون ذراعا، فلا يصح إرادتها بوجه. وأسند ابن زبالة ويحيى في بيان معتكف النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير وراء أسطوانة التوبة» . وروى ابن ماجه عن نافع أن ابن عمر أراه المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم روى عن نافع عن ابن عمر أنه صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سرير وراء أسطوانة التوبة» . قال البدر بن فرحون: ونقل الطبراني في معجمه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن ذلك مما يلي القبلة «يستند إليها» . قلت: ورواه البيهقي بسند حسن، ولفظه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا اعتكف يطرح له فراشه أو سريره إلى أسطوانة التوبة مما يلي القبلة يستند إليها» ونقل عياض عن ابن المنذر أن مالك بن أنس كان له موضع في المسجد، قال: وهو مكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو المكان الذي كان يوضع فيه فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتكف، كذا قال الأويسي. أسطوان السرير ومنها: أسطوان السرير، أسند ابن زبالة ويحيى في بيان معتكف النبي صلّى الله عليه وسلّم عقب ذكر ما تقدم من وضع فراشه وسريره وراء أسطوان التوبة عن محمد بن أيوب أنه «كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم سرير من جريد فيه سعفه «1» يوضع بين الأسطوان التي تجاه القبر وبين القناديل، كان يضطجع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . قلت: وهذه الأسطوانة هي اللاصقة بالشباك اليوم في شرقي أسطوان التوبة وابن فرحون يجعلها إليها كما تقدم، ويؤيده ما تقدم في أسطوان التوبة من أن سريره صلّى الله عليه وسلّم كان يوضع إليها، إلا أن يجاب بأنه كان يوضع مرة عند هذه ومرة عند تلك، بدليل أنه تقدم في أسطوان التوبة أن وضع ذلك كان مما يلي القبلة يستند إليها، وذكر في هذه أنه «كان يوضع بينها وبين القناديل» وذلك في جهة شرقيها. وقال البدر بن فرحون: روينا بالسند الصحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كان إذا اعتكف يطرح له وسادة، ويوضع له سرير من جريد فيه سعفه، يوضع له فيما بين الأسطوان التي وجاه القبر الشريف وبين القناديل، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضطجع عليه»   (1) الجريدة: سعفة طويلة تقشّر من خوصها، والسعفة: جريد النخل وورقه، وورق النخل اليابس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 قال أبو وحرة- بحاء مهملة- السعدي وهو يذكر السرير ويمدح آل الزبير لقرب مجلسهم منه: وإذا غدا آل الزبير غدا النّدى ... وإذا انتدى فإليهم ما ينتدي وإذا هم راحوا فإنهم هم ... أهل السرير وأهل صدر المسجد أسطوان المحرس ومنها: أسطوان المحرس «1» ، ويسمى أسطوان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال يحيى: حدثنا موسى بن سلمة قال: سألت جعفر بن عبد الله بن الحسين عن أسطوان علي بن أبي طالب، فقال: إن هذه المحرس، كان علي بن أبي طالب يجلس في صفحتها التي تلي القبر مما يلي باب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يحرس النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الجمال المطري وتبعه من بعده: وهو مقابل الخوخة التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج منها إذا كان في بيت عائشة إلى الروضة للصلاة، وهي خلف أسطوان التوبة من جهة الشمال. قلت: هي الأسطوان الذي يصلي عندها أمير المدينة يجعلها خلف ظهره، ولذا قال الأقشهري: إن أسطوان مصلى علي كرم الله وجهه اليوم أشهر من أن تخفى على أهل الحرم، ويقصد الأمراء الجلوس والصلاة عندها إلى اليوم، وذكر أنه كان يقال لها مجلس القلادة لشرف من كان يجلس فيه، وذلك إنما هو في أسطوان الوفود لما سيأتي. أسطوان الوفود ومنها: أسطوان الوفود، قال المطري: هي خلف أسطوان المحرس من جهة الشمال، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس إليها لوفود العرب إذا جاءته، وكانت مما يلي رحبة المسجد قبل أن يزاد في السقف القبلي الرواقان، وكانت تعرف أيضا بمجلس القلادة، يجلس إليها سروات الصحابة وأفاضلهم رضوان الله عليهم. وقال الأقشهري، ومن خطه نقلت: وأما الأسطوان الذي كان يجلس إليها صلّى الله عليه وسلّم لوفود العرب إذا جاءته، فقال: إذا عددت الأسطوان التي فيها مقام جبريل عليه السلام كانت هي الثالثة، انتهى، وكأنه سقط من خطه فاعدد فقال: وقد أخذه من تحفة ابن عساكر، وقد رأيت في نسخة معتمدة منها موضع بياض بعد «فقال» . وهذا مطابق لما تقدم عن المطري؛ لأن الأسطوان التي فيها مقام جبريل هي مربعة القبر كما سيأتي، وبينها وبين أسطوان الوفود المذكور أسطوان.   (1) المحرس: مكان أقام به حرسا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وقال ابن زبالة: حدثنا غير واحد من أهل العلم منهم عبد العزيز بن محمد أن الأسطوان التي إلى الرحبة التي في صف أسطوان التوبة بينها وبين أسطوان التوبة مصلى علي بن أبي طالب، وأنه المجلس الذي يقال له مجلس القلادة، كان يجلس فيه سراة الناس قديما. وأورده المجد، وزاد في آخره: وإنما سمي القلادة لشرف من كان يجلس إليها من بني هاشم وغيرهم. أسطوان مربعة القبر ومنها أسطوان مربعة القبر، وسيأتي أنه يقال له أيضا أسطوان مقام جبريل عليه السلام، وقد تقدم فيما نقله الأقشهري في أسطوان الوفود ما يشهد له. وأسند ابن زبالة ويحيى عن سليمان بن سالم عن مسلم بن أبي مريم وغيره: كان باب بيت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المربعة التي في القبر، قال سليمان: قال لي مسلم: لا تنس حظك من الصلاة إليها؛ فإنها باب فاطمة رضي الله عنها الذي كان علي يدخل عليها منه. قلت: وهي في حائز عمر بن عبد العزيز عند منحرف الصفة الغربية منه إلى جهة الشمال، في صف أسطوان الوفود، بينهما الأسطوانة اللاصقة بالشباك التي شرقي أسطوان الوفود، وسيأتي لها مزيد بيان إن شاء الله تعالى. ومن فضلها ما أسنده يحيى عن أبي الحمراء قال: شهدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين صباحا يجيء إلى باب علي وفاطمة وحسن وحسين حتى يأخذ بعضادتي الباب ويقول: السلام عليكم أهل البيت: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] وفي رواية له: رابطت بالمدينة سبعة أشهر كيوم واحد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي باب علي كل يوم فيقول: الصلاة، الصلاة، ثلاث مرات إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وقد حرم الناس الصلاة إلى هذه الأسطوان لإدارة الشباك الدائر على الحجرة الشريفة وغلق أبوابه. أسطوان التهجد ومنها: أسطوان التهجد، أسند يحيى عن عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج حصيرا كل ليلة إذا انكفت الناس فيطرح وراء بيت علي، ثم يصلي صلاة الليل، فرآه رجل فصلى بصلاته، ثم آخر فصلى بصلاته، حتى كثروا، فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا بهم، تأمر بالحصير فطوي ثم دخل، فلما أصبح جاؤه فقالوا: يا رسول الله، كنت فصلى الليل فنصلي بصلاتك، فقال: إني خشيت أن ينزل عليكم صلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 الليل ثم لا تقوون عليها، قال عيسى بن عبد الله: وذلك موضع الأسطوان التي على طريق باب النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يلي الزوراء. قلت: صحّف بعضهم هذه اللفظة فقال: مما يلي الدور، ورأيت بخط الأقشهري: لعله مما يلي دوره، انتهى. والظاهر أن الرواية مما يلي الزور- بالزاي- يعني الموضع المزور في بناء عمر بن عبد العزيز خلف الحجرة كما سيأتي والله أعلم. قال عيسى: وحدثني سعيد بن عبد الله بن فضيل قال: مر بي محمد بن الحنفية وأنا أصلي إليها، فقال لي: أراك تلزم هذه الأسطوانة، هل جاءك فيها أثر؟ قلت: لا، قال: فالزمها فإنها كانت مصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الليل. قلت: تقدم في حدود المسجد النبوي ما يقتضي أن الموضع المذكور كان خارج المسجد تجاه باب جبريل قبل تحويله إلى محله اليوم، وهو موافق لما سيأتي عن المؤرخين في بيان موضع هذه الأسطوانة، والمعروف من حاله صلّى الله عليه وسلّم أن قيامه في غير رمضان إنما كان في بيته، وهذا الموضع ليس منه، وفيما سبق مع أحاديث قيام رمضان ما يوهم أن القصة المذكورة كانت فيه، ففي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «اتخذ حجرة، قال: حسبت أنه قال: من حصير، في رمضان فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته ناس- الحديث» ورواه مسلم عنه بلفظ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها ليلا، حتى اجتمع إليه ناس، فذكره نحوه» وفي رواية لأبي عوانة عن زيد «اتخذ حجرة من حصير في المسجد في رمضان- الحديث» . ولعلها القبة التي كان يعتكف صلّى الله عليه وسلّم فيها في رمضان، فقد روى الطبراني في الكبير عن أبي ليلى قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتكف في قبة من خوص، وفي الكبير والأوسط عن معيقيب قال: «اعتكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبة من خوص بابها من حصير والناس في المسجد» وأسند يحيى عن أبي حازم مولى الأنصار قال: «اعتكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد في رمضان في قبة على بابها حصير» ، وعن ابن عمر قال: بنى النبي صلّى الله عليه وسلّم بيتا من سعف في المسجد في آخر شهر رمضان يصلي فيه. وقال المطري في بيان موضع هذه الأسطوانة: هي خلف بيت فاطمة رضي الله عنها، والواقف إليها يكون باب جبريل المعروف قديما بباب عثمان على يساره، وحولها الدرابزين: أي لاصقا بها يمينا ويسارا، وهو الشباك الدائر على الحجرة الشريفة وعلى بيت فاطمة رضي الله عنها، وقد كتب فيها بالرخام: هذا متهجّد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن النجار: هذه الأسطوانة وراء بيت فاطمة من جهة الشمال، وفيها محراب إذا توجه المصلى إليه كانت يساره إلى باب عثمان المعروف اليوم بباب جبريل. قلت: وقد جدد محرابها في هذه العمارة التي أدركناها أولا، وزيد في رخامه فوق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 المحراب الأول، وكتبوا في ذلك بالرخام بروز الأمر بتجديد عمارة الحجرة الشريفة من السلطان الأشرف قايتباي- أعز الله أنصاره! - وأن ذلك على يد الخواجا الجناب الشمسي ابن الزمن، وتاريخ العمارة المذكورة، كل ذلك مكتوب بالرخام في أعلى محراب الأسطوانة المذكورة، ثم لما جاء الحريق الحادث بعد تمام هذا التأليف أزال ذلك كله، ثم اقتضى رأيهم عند بناء الدعائم التي اتخذوها للقبة المحاذية لأعلى الحجرة والعقود التي خلفها إبدال هذه الأسطوانة بدعامة اتخذوا فيها محرابا. وهذه الأسطوانة آخر الأساطين التي ذكر لها أهل التاريخ فضلا خاصا، وإلا فجميع سواري المسجد الشريف لها فضل؛ ففي البخاري من حديث أنس قال: لقد أدركت كبار أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يبتدرون السواري عند المغرب، قال ابن النجار: فعلى هذا جميع سواري مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم يستحب الصلاة عندها؛ لأنه لا يخلو أن كبار الصحابة صلوا إليها، والله أعلم. الفصل الثامن في الصّفة وأهلها، وتعليق الأقناء لهم بالمسجد وصف الصفة وموضعها قال عياض: الصفة- بضم الصاد وتشديد الفاء- ظلة في مؤخر مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، يأوي إليها المساكين، وإليها ينسب أهل الصّفة على أشهر الأقاويل. وقال الحافظ الذهبي: إن القبلة قبل أن تحوّل كانت في شمالي المسجد، فلما حوّلت القبلة بقي حائط القبلة الأعلى مكان أهل الصفة . وقال الحافظ ابن حجر: الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل، وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر. وقد سرد أسماءهم أبو نعيم في الحلية فزادوا على المائة، وقد أخرج أبو نعيم في الحلية من مرسل الحسن قال: بنيت صفّة في المسجد لضعفاء المسلمين. وقال المجد نقلا عن الدارقطني: الصفة هي ظلة كان المسجد في مؤخرها، ثم قال المجد: وذكر ابن جبير في رحلته عند ذكر قباء قال: وفي آخر القرية تلّ مشرف يعرف بعرفات يدخل إليه على دار الصفة حيث كان عمار وسلمان وأصحابهما المعروفون بأهل الصفة، وكأن هذا وهم، والله أعلم. قلت: يظهر من قول عياض فيما قدمناه عنه «على أشهر الأقوال» أن في ذلك خلافا؛ فيكون ما ذكره ابن جبير أحد الأقوال، لكنه مرجوح أو مؤول بأن من ذكر من أهل الصفة اتخذوا تلك الدار بعد، فاشتهرت بذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 أهل الصفة وقد روى ابن سعد في مرسل يزيد بن عبد الله بن قسيط: كان أهل الصفة ناسا فقراء لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد لا مأوى لهم غيره. وروى البيهقي عن عثمان بن اليمان قال: لما كثرت المهاجرون بالمدينة ولم يكن لهم دار ولا مأوى أنزلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، وسماهم أصحاب الصفة، فكان يجالسهم ويأنس بهم. وأسند يحيى عن فضالة بن عبيد قال: كنا نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيخر قوم من قامتهم من الخصاصة «1» ، حتى يقول الأعرابي: مجانين، وهم أهل الصفة، فإذا صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم فوقف عليهم، فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فقرا وحاجة. وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال مرة: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس- الحديث. وفيه من حديث أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوه، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وفيه من حديث أبي هريرة أيضا أنه كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما في طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا يستتبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: أباهر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، فمضى فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخلت فوجدنا لبنا في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ فقالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أباهر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوّى بها، فلما جاؤوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما   (1) الخصاصة: سوء الحال والفقر والحاجة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هريرة، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فاخذه فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم انتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم، وقال: يا أباهر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة. وقد وقع لأبي هريرة رضي الله عنه قصة أخرى في تكثير الطعام مع أهل الصفة. وأخرج ابن حبان من طريق مسلم بن حيان عن أبيه عنه قال: أتت عليّ ثلاثة أيام لم أطعم، فجئت أريد الصفة، فجعلت أسقط، فجعل الصبيان يقولون: خر أبو هريرة، حتى انتهيت إلى الصفة، فوافيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى بقصعة من ثريد، فدعا عليها أهل الصفة وهم يأكلون منها، فجعلت أتطاول كي يدعوني، حتى قاموا وليس في القصعة إلا شيء في نواحيها، فجمعه صلّى الله عليه وسلّم فصارت لقمة، فوضعها على أصابعه فقال لي: كل باسم الله، فو الذي نفسي بيده ما زلت آكل منه حتى شبعت. وروى أبو نعيم في الحلية من حديث معاوية بن الحكم فقال: بينا أنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصفة، فجعل يوجه الرجل مع الرجل من الأنصار، والرجلين والثلاثة، حتى بقيت في أربعة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خامسنا، فقال: انطلقوا بنا، فقال: يا عائشة عشّينا- الحديث. وروى أيضا من طريق نعيم المجمر عن أبي هريرة: كنت من أهل الصفة، وكنا إذا أمسينا حضرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيأمر كل رجل فينصرف برجل أو أكثر، فيبقى من بقي عشرة أو أقل أو أكثر، فيؤتي النبي صلّى الله عليه وسلّم بعشائه فيتعشى معهم، فإذا فرغنا قال: ناموا في المسجد. وروى ابن شبة عن طلحة البصري قال: كان من قدم المدينة فكان له بها عريف نزل على عريفه، ومن لم يكن له بها عريف نزل الصفة، فكنت فيمن نزل الصفة، فوافقت رجلين كان يجرى علينا في كل يوم مدّين من تمر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فناداه رجل من أهل الصفة: يا رسول الله أحرق التمر بطوننا وتحرفت علينا الحرف، فمال النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى منبره فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ما لقي من قومه حتى إن كان ليأتي علي وعلى صاحبي بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا البرير، فقدمنا على إخواننا من الأنصار وجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 طعامهم التمر، فواسونا، ولو أجد لكم الخبز واللحم لأطعمتكم، ولكن لعلكم ستدركون زمانا أو من أدركه منكم يلبسون فيه مثل أستار الكعبة ويغدى ويراح عليكم بالجفان. مبدأ تعليق الأقناء وقال ابن النجار: روى أهل السير أن محمد بن مسلمة رأى أضيافا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، فقال: ألا نفرق هذه الأضياف في دور الأنصار، ونجعل لك في كل حائط قنوا ليكون لمن يأتيك من هؤلاء الأقوام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بلى، فلما جدّ ماله جاء بقنو فجعله في المسجد بين ساريتين، فجعل الناس يفعلون ذلك، وكان معاذ بن جبل يقوم عليه، وكان يجعل حبلا بين الساريتين ثم تعلّق الأقناء على الحبل، وتجمع العشرين وأكثر فيهش عليهم بعصا من الأقناء فيأكلون حتى يشبعون، ثم ينصرفون ويأتي غيرهم فيفعل بهم مثل ذلك، فإذا كان الليل فعل لهم مثل ذلك. قلت: بوّب البخاري للقسمة وتعليق القنو في المسجد، ولم يذكر في الباب تصريحا بتعليق القنو، فأشار بذلك إلى ما رواه النسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبيده عصا، وقد علق رجل قنو حشف، فجعل يطعن في ذلك القنو، ويقول: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا، إن رب هذه الصدقة يأكل حشفا يوم القيامة، وليس على شرط البخاري، وإن كان إسناده قويا، فأشار إليه بالتبويب ولم يذكره كعادته. وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن ناسا كانوا يقدمون على النبي صلّى الله عليه وسلّم لا شيء لهم، فقالت الأنصار: يا رسول الله، لو عجلناك قنوا من كل حائط لهؤلاء، قال: أجل فافعلوا، ففعلوا، فجرى ذلك إلى اليوم، فهي الأقناء التي تعلق في المسجد عند جدار النخل فيعطاها المساكين، وكان عليها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذ بن جبل. وقال يحيى: حدثني هرون بن موسى عن غير واحد من أهل المدينة أن الناس أصابتهم في ثمارهم عاهة من العاهات في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما على أحدكم لو بعث بقنو من نخله للمساكين، فبعث ذلك الناس، واستعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأقناء معاذ بن جبل، فكان يمد حبلا بين جذعين ويعلق عليه الأقناء، فرفع الله تلك العاهة، فصارت سنة، ولم تزل الأئمة عليها إلى اليوم. وروى يحيى أيضا عن عاصم بن سويد قال: سمعت أبي يقول: عويم بن ساعدة أتى بقنو إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتسى الناس به أهل العالية وأهل السافلة. وأخرج ثابت في الدلائل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أمر من كل حائط بقنو يعلق في المسجد» يعني للمساكين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 وفي رواية له: وكان عليها معاذ بن جبل: أي على حفظها، أو على قسمتها، والله أعلم. الفصل التاسع في الحجرة الشريفة، وبيان إحاطتها بالمسجد الشريف إلا من جهة المغرب قد تقدم أنه صلّى الله عليه وسلّم لما بنى مسجده الشريف بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل. قال ابن النجار: وكان لبيت عائشة مصراع واحد من عرعر أو ساج «1» ، قال: ولما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه بنى لهن حجرا، وهي تسعة أبيات، وهي ما بين بيت عائشة رضي الله عنها إلى الباب الذي يلي باب النبي صلّى الله عليه وسلّم، انتهى. ومراده بالباب الذي يلي باب النبي صلّى الله عليه وسلّم الباب الذي في الجهة المقابلة له من المغرب، وهو المعروف الآن بباب الرحمة، وإنما حملنا كلامه على ذلك لأنه وقع في كلامه استعمال الباب الذي يليه بمعنى الباب الذي يقابله، ولأنه قال عقبه: قال أهل السير: ضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجرات ما بينه وبين القبلة والشرق إلى الشام، ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من المغرب، وكانت أبوابها شارعة في المسجد، انتهى. وكأن الخطيب ابن حملة فهم من هذا اختلافا في مواضع الحجر، فقال: قيل كانت كلها في جهة المشرق، وقيل: في جهات المسجد ما عدا المغرب. قلت: ويرجح ما قررناه ما رواه ابن الجوزي في شرف المصطفى بسنده إلى محمد بن عمر قال: سألت مالك بن أبي الرجال: أين كانت منازل أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ فأخبرني عن أبيه عن أمه أنها كانت كلها في الشق الأيسر إذا قمت إلى الصلاة إلى وجه الإمام في وجه المنبر هذا أبعدها، ولما توفيت زينب أدخل- أي النبي صلّى الله عليه وسلّم- أم سلمة بيتها، انتهى، ووجه المنبر ووجه الإمام يعني إذا قام على المنبر بجهة الشام في جهة الباب المعروف الآن بباب الرحمة قبل أن ينقل إلى محله اليوم، وهو يقتضي أنه لم يكن من الحجر شيء في جهة القبلة، إلا أن تكون الرواية إلى وجه الإمام وفي وجه المنبر فيوافق ما تقدم عن أهل السير. وأسند ابن زبالة عن محمد بن هلال قال: أدركت بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت من جريد مستورة بمسوح الشعر «2» مستطيرة في القبلة وفي المشرق والشام، ليس في غربي   (1) العرعر: جنس أشجار وجنبات من الصنوبريات، فيه أنواع تصلح للأحراج وللتزيين، والساج: ضرب من الشجر يعظم جدا، ويذهب طولا وعرضا، وله ورق كبير. (2) المسوح أو الأمساح مفردها: المسح: كساء من الشعر، والجادّة من الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 المسجد شيء منها، وكان باب عائشة مواجه الشام، وكان بمصراع واحد من عرعر أوساج. وأسند يحيى من طريق الواقدي عن عبد الله بن يزيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت من لبن «1» ، ولها حجر من جريد مطرورة بالطين، عددت تسعة أبيات بحجرها، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى منزل أسماء بنت حسن اليوم. قلت: وقوله «إلى الباب الذي يلي باب النبي صلّى الله عليه وسلّم» قد تقدم ما يؤخذ منه أن المراد به باب الرحمة، وقوله «إلى منزل أسماء إلى آخره» يقتضي أن البيوت المذكورة كان بعضها خارجا عن سمت «2» المسجد؛ لأن بيت أسماء المذكور كان في مقابلة الباب الذي كان يلي باب النساء من شاميه، ويبعد أن يكون المسجد النبوي ممتدا إلى تلك الجهة في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، لكن سيأتي في بيت فاطمة رضي الله عنها ما يصرح بأن بيتها كان ينتهي إلى الباب المذكور؛ فيحتمل أن المسجد كان ممتدا إليه، ويحتمل أن بعض البيت المذكور لم يكن في محاذاة المسجد، على أن البخاري روى في صحيحه حديث «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد وعنده أزواجه فرجعن، فقال لصفية بنت حيي: لا تعجلي حتى أنصرف معك، وكان بيتها في دار أسامة، فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم معها- الحديث» . وفي رواية له عن صفية قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت، فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار- الحديث. وفي رواية له أنها جاءت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، ثم قامت تنقلب، فقام معها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا بلغ قريبا من باب المسجد عند باب أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم مر بهما رجلان من الأنصار- الحديث، وهو يقتضي أن صفية لم يكن مسكنها في الحجر المحيطة بالمسجد. ولم يتعرض ابن شبة لاتخاذ أسامة لدار، وذكر أن أباه اتخذ دارين إحداهما دخلت في المسجد لما زيد فيه، ولعلها المرادة والله أعلم. ولنرجع إلى بقية ما أسنده يحيى عن عبد الله بن زيد، قال: ورأيت بيت أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم وحجرتها من اللبن، فسألت ابن ابنها، فقال: لما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دومة الجندل بنت حجرتها بلبن، فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى اللبن ودخل عليها أول نسائه، فقال: ما هذا البناء؟ فقالت: أردت يا رسول الله أن أكف أبصار الناس، فقال: يا أم سلمة إن من شر ما   (1) اللّبن: ضرب من الطين يا بنى به دون أن يطبخ. (2) السمت: الطريق الواضح، والمقصود هنا طريق المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 ذهب فيه مال المسلم البنيان، قال الواقدي: فحدثت بهذا الحديث معاذ بن محمد الأنصاري، فقال: سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس يقول وهو فيما بين القبر والمنبر: أدركت حجرات أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمرنا بهدم حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم. قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها ينشأ ناشئ من المدينة ويقدم قادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، ويكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها، قال معاذ: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس: كان فيها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها على أبوابها مسوح الشعر، ذرعت الساتر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع وعظم الذراع، فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيتني في السمجد وفيه نفر من أبناء أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو أمامة بن سهل وخارجة بن زيد وإنهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمع، وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تركت حتى ينقص الناس من البنيان ويروا ما رضي الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ومفاتيح خزائن الدنيا بيده. وروى رزين عن عبد الله بن يزيد الهلالي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم حين هدمها عمر بن عبد العزيز يدخلها في المسجد مبنية باللبن حولها حجر من جريد ممدودة إلا حجرة أم سلمة، وذكر نحو ما تقدم باختصار. وقال ابن الجوزي في الوفاء: قال محمد بن عمر: كانت لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، وكلما أحدث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهلا «1» نزل له حارثة عن منزله حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأزواجه. قلت: وظاهره يخالف ما تقدم من أنه صلّى الله عليه وسلّم بنى أولا بيتين لزوجتيه، وأنه لما تزوج نساءه بنى لهن حجرا، وظاهره أنه كان كلما أحدث زوجة أحدث لها بناء حجرة، فيحمل ما هنا على أن حارثة كان ينزل له عن مواضع المساكن، وكان صلّى الله عليه وسلّم يبنيها. ونقل الزركشي عن الشمس الذهبي أنه قال: لم يبلغنا أنه صلّى الله عليه وسلّم بنى له تسعة أبيات حين بنى المسجد، ولا أحسبه فعل ذلك، إنما كان يريد بيتا واحدا حينئذ لسودة أم المؤمنين، ثم لم يحتج إلى بيت آخر حتى بنى لعائشة رضي الله عنها، في شوال سنة اثنين، فكأنه صلّى الله عليه وسلّم بناها في أوقات مختلفة، انتهى. وهو مقتضى ما قدمناه، غير أنه مخالف لما قدمناه في بيت عائشة رضي الله عنها، لما   (1) أي كلما تزوج رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 تقدم أنه بناه مع بناء المسجد، وهو الظاهر؛ لأنها كانت حينئذ زوجته، غير أنه لم يبن لها فتأهب لذلك بأن بنى لها حجرتها. وذكر الأقشهري أن ابن عبد البر روى من طريق الزبير بن بكار عن عائشة رضي الله عنها خبرا طويلا في قدومها المدينة قالت فيه: ثم إنا قدمنا المدينة، فنزلت مع آل أبي بكر، ونزل آل النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا بني مسجده وأبياتا حول المسجد، فأنزل فيها أهله، فمكثنا أياما، ثم قال أبو بكر: يا رسول الله ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ قال: الصداق، فأعطاه أبو بكر اثنتي عشرة أوقية ونشا «1» فبعث بها إلينا، وبنى لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتي هذا الذي أنا فيه، وهو الذي توفي فيه ودفن فيه. المشربة قلت: ولم أر في كلام المؤرخين من تعرض للمشربة التي اعتزل فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما آلى من نسائه شهرا، ومقتضى ذلك أنه لم يكن بابها من بيت واحدة منهن ليتأتى عدم الدخول عليهن، والذي في الصحيح قول حفصة: هو ذاقي المشربة، وفي رواية تسميتها علّبة، وفي رواية غرفة، وقد بوب عليه البخاري باب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم نساءه في غير بيوتهن، وفي رواية «هو في خزانته في المشربة» وفي رواية «فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مشربة يرقى عليها بعجلة» وفي رواية «فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعد على أسكفة المشربة «2» مدل رجليه على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينحدر» . وقال السهيلي: قال الحسن البصري: كنت أدخل بيوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا غلام مراهق وأنال السقف بيدي، وكان لكل بيت حجرة، وكانت حجرة من أكسية من خشب عرعر. وورد أن بابه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرع بالأظافير: أي: لا حلق له. وقال مالك: كان المسجد يضيق عن أهله، وحجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليست من المسجد، ولكن أبوابها شارعة في المسجد. وقال ابن سعد: أوصت سودة ببيتها لعائشة رضي الله عنها، وباع أولياء صفية بنت حيي بيتها من معاوية بمائة ألف وثمانين ألف درهم، واشترى معاوية من عائشة منزلها   (1) النش: نصف كل شيء. يقال: نشّ أوقية. ووزن مقداره عشرون درهما. (2) أسكفة المشربة: عتبة المشربة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 بمائة ألف وثمانين ألف درهم، وقيل: بمائتي ألف، وشرط لها سكناها حياتها، وحمل إليها المال، فما قامت من مجلسها حتى قسمته، وقيل: بل اشتراه ابن الزبير من عائشة، وبعث إليها خمسة أجمال تحمل المال، وشرط لها سكناها حياتها، ففرقت المال. وأسند ابن زبالة عن هشام بن عروة قال: إن ابن الزبير ليعتد بمكرمتين ما يعتد أحد بمثلهما: أن عائشة أوصته ببيتها وحجرتها، وأنه اشترى حجرة سودة. قلت: وهذا يقتضي أن الحجر الشريفة كانت على ملك نسائه صلّى الله عليه وسلّم، ويؤيده ما تقدم من تصرف أم سلمة وبنائها لحجرتها في غيبته صلّى الله عليه وسلّم، ويعارضه ما تقدم من أن زينب بنت خزيمة لما توفيت أدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم أم سلمة بيتها، وقد أضيفت البيوت في القرآن العظيم مرة إليه صلّى الله عليه وسلّم ومرة إليهن، والظاهر أن الإضافة الأولى هي الحقيقية؛ لما تقدم من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بناها، ولأنه كان يجب عليه إسكانهن، غير أن لهن فيها بعده حق السكنى لحبسهن لحقه صلّى الله عليه وسلّم. وقال الزبير بن المنير: إن غرض البخاري حيث ترجم بقوله «باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم» وما نسب من البيوت إليهن وقول الله عز وجل وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: 53] أن يبين أن بهذه النسبة تحقيق دوام استحقاقهن البيوت ما بقين؛ لأن نفقتهن وسكناهن من خصائص النبي صلّى الله عليه وسلّم، والسر فيه حبسهن عليه، انتهى. ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم كان قد ملّك بعضهن بيتها، أو ملكهن كلهن كما ذهب إليه بعضهم. قال الطبري: قيل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ملّك كلا من أزواجه البيت التي هي فيه فسكّن بعده فيهن بذلك التمليك، وقيل: إنما لم ينازعن في مساكنهن لأن ذلك من جملة مؤنتهن التي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم استثناه لهن مما كان بيده أيام حياته حيث قال: ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة، قال الطبري: وهذا أرجح، ويؤيده أن ورثتهن لم يرثوا عنهن منازلهن، ولو كانت البيوت ملكا لهن لانتقلت إلى ورثتهن، وفي ترك ورثتهن حقوقهم منها دلالة على ذلك، ولهذا زيدت بعدهن في المسجد لعموم نفعه للمسلمين، انتهى. وقد يناقش فيما ذكره من عدم إرث ورثتهن لمنازلهن؛ إذ لا يلزم من عدم نقله انتفاءه مع أن في قصة إدخال بيت حفصة في المسجد وما وقع من آل عمر في أمر طريق بيت حفصة ما يشهد لأن ورثتهن ورثوا ذلك، ويحتمل أن إدخال الحجر في المسجد كان بعد شرائها من الورثة، وقد تقدم عن ابن سعد ما يشهد لذلك، وقد قال في طبقاته أيضا: أخبرنا إسرائيل عن جابر عن عامر قال: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يوص إلا بمسكن أزواجه وأرض، انتهى. وهذا يحتمل الوصية للأزواج بذلك، ويحتمل غيره، والله أعلم. وادعى المهلب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قد حبس عليهن بيوتهن، ثم استدل به على أن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 حبس دارا جاز له أن يسكن منها في موضع، وتعقّبه ابن المنير بمنع أصل الدعوى، وقد ترجم ابن شبة لعلم دور أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وذكر عن جماعة منهن اتخاذ دور في أماكن متفرقة من المدينة، فتلك غير الحجر المذكورة، والظاهر أن اتخاذهن لذلك كان بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم. الفصل العاشر في حجرة فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنها أسند يحيى عن عيسى بن عبد الله عن أبيه أن بيت فاطمة رضي الله عنها في الزور الذي في القبر، بينه وبين بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم خوخة. وأسند عن عمر بن علي بن عمر بن علي بن الحسين قال: كان بيت فاطمة في موضع الزور مخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت فيه كوة إلى بيت عائشة رضي الله عنها، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى المخرج اطلع من الكوة إلى فاطمة فعلم خبرهم، وأن فاطمة رضي الله عنها قالت لعلي: إن ابني أمسيا عليلين فلو نظرت لنا أدما «1» نستصبح به «2» ، فخرج علي إلى السوق فاشترى لهم أدما، وجاء به إلى فاطمة فاستصبحت، فدخلت عائشة المخرج في جوف الليل فأبصرت المصباح عندهم، وذكر كلاما وقع بينهما، فلما أصبحوا سألت فاطمة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسد الكوة، فسدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأسند يحيى عقب ذلك حديث عائشة «قلت: يا رسول الله ندخل كنيفك فلا نرى شيئا من الأذى، فقال: الأرض تبلع ما يخرج من الأنبياء من الأذى فلا يرى منه شيء» فأشعر صنيع يحيى أن المراد من المخرج موضع الكنيف، وأفهم ذلك أن المخرج المذكور كان خلف حجرة عائشة رضي الله عنها، بينها وبين بيت فاطمة رضي الله عنها، وذلك يقتضي أن يكون محله في الزور، أعني الموضع المزور شبه المثلث في بناء عمر بن عبد العزيز في جهة الشام. ويشهد لذلك ما أسنده يحيى عن مسلم عن ابن أبي مريم أن عرض بيت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الأسطوانة التي خلف الأسطوان المواجهة الزور، قال: وكان بابه في المربعة التي في القبر. وقد أسند أبو غسان كما قاله ابن شبة عن مسلم بن سالم بن مسلم بن أبي مريم قال: عرّس علي رضي الله عنه بفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الأسطوان التي خلف الأسطوان   (1) الأدم: ما يستمرأ به الخبز. والمراد هنا الزيت. (2) نستصبح به: نوقد به المصباح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 المواجهة الزور، وكانت داره في المربعة التي في القبر، قال سليمان: وقال مسلم: لا تنس حظك من الصلاة إليها؛ فإنه باب فاطمة التي كان علي يدخل إليها منه، وقد رأيت حسن بن زيد يصلي إليها. وقد ذكرنا في فضل أسطوان مربعة القبر ما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلّم «كان يأتي باب علي كل يوم» وفي رواية «عند صلاة الصبح» وفي رواية يحيى «إلى باب علي وفاطمة وحسن وحسين حتى يأخذ بعضادتي الباب ويقول: السلام عليكم أهل البيت» وفي رواية فيقول «الصلاة الصلاة الصلاة، ثلاث مرات، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» وذكرنا أيضا أن أسطوان التهجد خلف بيت فاطمة رضي الله عنها. وروى الطبراني من حديث أبي ثعلبة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يثني بفاطمة، ثم يأتي أزواجه، وفي لفظ: ثم بدأ ببيت فاطمة، ثم يأتي بيوت نسائه. وأسند يحيى عن محمد بن قيس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر أتى فاطمة فدخل عليها وأطال عندها المكث، فخرج مرة في سفر وصنعت فاطمة مسكتين «1» من ورق وقلادة وقرطين، وسترت باب البيت لقدوم أبيها وزوجها، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخل عليها، ووقف أصحابه على الباب لا يدرون أيقيمون أم ينصرفون لطول مكثه عندها، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد عرف الغضب في وجهه، حتى جلس على المنبر، ففطنت فاطمة أنه فعل ذلك لما رأى من المسكتين والقلادة والستر، فنزعت قرطيها وقلادتها ومسكتيها ونزعت الستر وبعثت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالت للرسول: قل له تقرأ عليك ابنتك السلام، وتقول لك: اجعل هذا في سبيل الله، فلما أتاه قال: قد فعلت فداها أبوها، ثلاث مرات، ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء، ثم قام فدخل عليها. وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوم عراة كانوا غزاة بالروم، فدخل على فاطمة وقد سترت سترا قال: أيسرك أن يسترك الله يوم القيامة؟ فأعطنيه، فأعطته، فخرج به فشقه لكل إنسان ذراعين في ذراع. وعن علي رضي الله عنه قال: زارنا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبات عندنا والحسن والحسين نائمان، واستسقى الحسن، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قربة لنا فجعل يعصرها في القدح ثم جعل يصبه، فتناول الحسين فمنعه، وبدأ بالحسن، فقالت فاطمة: يا رسول الله كأنه أحب إليك، قال:   (1) المسك: الأساور والخلاخيل من القرون أو العاج ونحوها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 إنما استسقى أول، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني وإياك وهذا وهذا الرقد يعني عليا يوم القيامة في مكان واحد، وعن أبي سعيد الخدري أيضا مثله. وعن علي قال: زارنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعملنا له خزيرة «1» ، وأهدت لنا أم أيمن قعبا من لبن وصحفة من تمر، فأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأكلنا معه، ثم وضّأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمسح رأسه وجبهته بيده، ثم استقبل القبلة فدعا بما شاء، ثم أكبّ إلى الأرض بدموع غزيرة، يفعل ذلك ثلاث مرات، فتهيبنا رسول الله أن نسأله، فوثب الحسين على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبكى، فقال له: بأبي وأمي ما يبكيك؟ قال: يا أبت رأيتك تصنع شيئا ما رأيتك تصنع مثله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا بني سررت بكم اليوم سرورا لم أسرّ بكم مثله قط، وإن حبيبي جبريل عليه السلام أتاني وأخبرني أنكم قتلى، وأن مصارعكم شتى، فأحزنني ذلك، ودعوت الله تعالى لكم بالخيرة. وقال ابن النجار: وبيت فاطمة اليوم حوله مقصورة وفيه محراب، وهو خلف حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم. قلت: المقصورة اليوم دائرة عليه وعلى حجرة عائشة رضي الله عنها كما سيأتي بيانه، والمحراب الذي ذكره خلف حجرة عائشة من جهة الزور بينه وبينه موضع تحترمه الناس ولا يدوسونه بأرجلهم، يذكر أنه موضع قبر فاطمة رضي الله عنها كما هو أحد الأقوال الآتية فيه، وقد اقتضى ما قدمناه أن بيت فاطمة رضي الله عنها كان فيما بين مربعة القبر وأسطوان التهجد، وأنه عرّس بها إلى الأسطوان الذي إليه المحراب الموجود اليوم في بيتها؛ لأن الأسطوان المواجه للزور هو الأسطوان الذي في صف المربعة اللاصق بالجدار الداخل من الحجرة الشريفة، كان بعضه في حائطها الشامي، وأدخل كله فيه في العمارة التي أدركناها، وخلفه الأسطوانة التي التقى عندها زاويتا الزور، وخلفها الأسطوانة التي إليها المحراب المذكور؛ فيصدق عليها ما تقدم في كلام ابن شبة نقلا عن رواية أبي غسان من أن عليا رضي الله عنه عرّس بفاطمة إلى الأسطوان التي خلف الأسطوان المواجه الزور، لكن قال ابن شبة قبل ذلك ما لفظه: واتخذ علي بن أبي طالب بالمدينة دارين إحداهما دخلت في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي منزل فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي كان يسكن، وموضعها من المسجد بين دار عثمان بن عفان التي في شرقي المسجد وبين الباب المواجه دار أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس في شرقي المسجد، والآخرى دار علي التي بالبقيع، وهي بأيدي ولد علي على حوز الصدقة، اه. وقوله «بين دار عثمان» أي ما يحاذيها، وقوله «وبين الباب المواجه دار أسماء» أي ما   (1) الخزير: لحم يقطع قطعا صغارا ثم يطبخ بماء كثير وملح، فإذا اكتمل نضجه ذرّ عليه الدقيق وعصد به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 يحاذيه أيضا، وسيأتي أن هذا الباب كان بعد باب النساء مقابلا لرباط النساء المعروف اليوم برباط السبيل، وهو بعيد من وجوه: أحدها: ما تقدم في أسطوان التهجد من أنه كان خلف بيت فاطمة. الثاني: أنهم متفقون على أن باب جبريل المقابل لدار عثمان كان موجودا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، فكيف يصح كون دار علي في ذلك الموضع. الثالث: أن عمر بن الخطاب أول من زاد في المسجد وأحدث باب النساء، وهو فيما بين باب جبريل والباب الذي ذكره ابن شبة، وبيت فاطمة إنما أدخله في المسجد الوليد، وسنذكر ما اتفق عند إدخاله في زيادة الوليد. وقد يقال: إن الشارع كان بين المسجد النبوي وبين بيت فاطمة من جهة مؤخره، فيتأتى مع ذلك اتخاذ عمر لباب النساء من غير تعرض لبيت فاطمة، وكذا يقال في باب جبريل: إنه كان في محاذاة موضعه اليوم، لكن كان الشارع بينه وبين بيت فاطمة من تلك الجهة. ويؤيد ذلك أنهم لما حفروا للدعامة الغربية التي إليها باب الحجرة الشامي عند بناء القبة والعقود التي حولها بالحجرة الشريفة بعد الحريق الذي أدركناه وجدوا في محاذاة باب جبريل أمام باب الحجرة المذكور درجا تحت الأرض آخذة لجهة الشام، وقد سبق في حدود المسجد النبوي ما يقتضي أن جداره في المشرق كان هناك، فترجح عندي أن تلك الدرج كانت لباب جبريل عليه السلام، وأنه كان هناك قبل تحويله، والله أعلم. الفصل الحادي عشر في الأمر بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد الشريف وبيان ما استثنى من ذلك. قال البخاري: باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر، قاله ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد وصله البخاري في الصلاة بلفظ سدوا عني كل خوخة، فكأنه ذكره هنا بالمعنى، ثم أسند البخاري في الباب حديث أبي سعيد الخدري قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس وقال: إن الله خيّر عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله، قال: فبكى أبو بكر، فتعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عبد خيّر، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أمنّ الناس علي في صحبته وما له أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 ورواه مسلم من طريق مالك بن أنس بنحوه، وقال: لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر. والخوخة: طاقة في الجدار تفتح لأجل الضوء، ولا يشترط علوها، وحيث تكون سفلى يمكن الاستطراق منها لاستقراب الوصول إلى مكان مطلوب، وهو المقصود هنا، لهذا أطلق عليها باب، وقيل: لا يطلق عليها باب إلا إذا كانت تغلق. وفي حديث ابن عباس المشار إليه في الصلاة أن ذلك في مرضه صلّى الله عليه وسلّم الذي مات فيه، ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول قبل أن يموت بخمس ليال، وذكر الحديث. وروى عبد الله بن أحمد برجال ثقات عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار، سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر. وروى الطبراني بإسناد حسن عن معاوية رضي الله عنه نحوه، وفيه أن ذلك بعد أن صب عليه صلّى الله عليه وسلّم من سبع قرب من آبار شتى، ولفظه: انظروا هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا ما كان من باب أبي بكر. وروى أبو يعلى- ورجاله ثقات- عن عائشة نحوه أيضا. وفي طبقات ابن سعد: أخبرنا قتيبة بن سعيد البلخي ثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن أعظم الناس علي منّا في صحبته وذات يده أبو بكر، فأغلقوا هذه الأبواب الشارعة كلها في المسجد إلا باب أبي بكر. وقال قتيبة بن سعيد: قال الليث بن سعد: قال معاوية بن صالح: فقال ناس: أغلق أبوابنا وترك باب خليله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر، وإني أرى على باب أبي بكر نورا، وأرى على ابوابكم ظلمة. وفيها أيضا: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني الزبير بن موسى عن أبي الحويرث قال: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأبواب تسد إلا باب أبي بكر قال عمر: يا رسول الله دعني افتح كوة أنظر إليك حين تخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا. قال الخطابي وابن بطال: في هذا الحديث إشارة قوية إلى استحقاق أبي بكر رضي الله عنه للخلافة، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الوقت الذي أمرهم فيه ألايؤمهم إلا أبو بكر. قال الحافظ ابن حجر: وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة، والأمر بالسد كناية عن طلبها، كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وإلى هذا جنح ابن حبان، وقوى بعضهم ذلك بأن منزل أب بكر كان بالسّنح «1» من عوالي المدينة فلا يكون له خوخة إلى المسجد. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الإستناد ضعيف؛ لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسّنح ألايكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى، وهي أسماء بنت عميس، بالاتفاق، وأم رومان على القول بأنها كانت باقية يومئذ، وقد ذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه فباعها فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم. قلت: وسيأتي بقية ما ذكره في إدخالها في المسجد في زيادة عمر رضي الله عنه. وقال ابن شبة أيضا في ذكر دور بني تيم: اتخذ أبو بكر رضي الله عنه دارا في زقاق البقيع قبالة دار عثمان الصغرى، واتخذ منزلا آخر أيضا عند المسجد، وهو المنزل الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سدوا عني هذه الأبواب إلا ما كان من باب أبي بكر. قال أبو غسان: أخبرني محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أن عمه أخبره أن الخوخة الشارعة في دار القضاء في غربي المسجد خوخة أبي بكر الصديق التي قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سدوا عني هذه الأبواب إلا ما كان من خوخة أبي بكر الصديق، واتخذ أبو بكر أيضا بيتا بالسنح، اه كلام ابن شبة. وقال الجمال المطري: وأما خوخة أبي بكر رضي الله عنه فإن ابن النجار قال: قال أهل السير: إن باب أبي بكر كان عربي المسجد، ونقل أيضا أنه كان قريب المنبر، ولما زادوا في المسجد إلى حده في الغرب نقلوا الخوخة «2» وجعلوها في مثل مكانها أولا، كما نقل باب عثمان إلى موضعه اليوم. قال المطري: وباب خوخة أبي بكر اليوم هو باب خزانة لبعض حواصل الحرم، إذا دخلت من باب السلام كانت على يسارك قريبا من الباب. قلت: وهذه الخزانة جعل في جهتها عند عمارة المدرسة الأشرفية ثلاثة أبواب، ومحل الخوخة من ذلك الباب الثالث من على يسارك إذا دخلت من باب السلام، وتعرف قديما بخزانة النورة لوضعها فيها للعمارة.   (1) السّنح: موضع بعوالي المدينة فيه منازل بني الحارث بن الخزرج. (2) الخوخة: باب صغير وسط باب كبير نصب حاجزا بين دارين- وهو الكوّة في البيت تؤدّي إليه الضوء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وكلامه في ذلك يوافق ما ذكره ابن زبالة فإنه قال: وحدثني محمد بن إسماعيل عن إسحاق بن مسلم أن الخوخة التي إلى جنب باب زياد في غربي المسجد الشارعة في رحبة القضاء هي يمنى خوخة أبي بكر، لما زيد في المسجد نحّيت فجعلت يمناها: أي: في موازاتها من جهة اليمين، ورحبة القضاء خلف الخوخة المتقدم وصفها من جهة الحصن العتيق المتخذ مدرسة للسلطان الأشرف بعد الحريق الذي أدركناه. قال الحافظ ابن حجر: وقد جاء في سد الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها ما تقدم: منها حديث سعد بن أبي وقاص قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب علي، أخرجه أحمد والنسائي وإسناده قوي، وفي رواية للطبراني في الأوسط رجالها ثقاة: فقالوا يا رسول الله سددت أبوابنا، فقال: ما أنا سددتها ولكن الله سدها، وعن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي، فتكلم ناس في ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكن أمرت بشيء فاتبعته، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات. قلت: لفظ رواية أحمد: عن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبواب شارعة في المسجد، قال: فقال يوما: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي، فتكلم أناس في ذلك، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فإني قد أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيه قائلكم، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، الحديث. وعن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي، وفي رواية: وأمر بسد أبواب المسجد غير باب علي؛ فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره، أخرجهما أحمد والنسائي، ورجالهما ثقات. وعن جابر بن سمرة قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مر فيه وهو جنب، أخرجه الطبراني. وعن ابن عمر: كنا نقول في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رسول الله «خير الناس، ثم أبو بكر، ثم عمر، ولقد أعطى علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم: زوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطى له الراية يوم «1» خيبر، أخرجه أحمد، وإسناده حسن. وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار- بمهملات- قال: قلت لابن عمر: أخبرني عن علي وعثمان، فذكر الحديث، وفيه: وأما علي فلا تسأل عنه أحدا، وانظر إلى منزله من   (1) يوم خيبر: يوم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه، ورجاله رجال الصحيح، إلا العلاء وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. قال الحافظ ابن حجر: وهذه الأحاديث تقوي بعضها بعضا، وكل طريق منها صالحة للاحتجاج، فضلا عن مجموعها، وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، وأخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر مقتصرا على بعض طرقه عنهم، وأعلّه ببعض من تكلم فيه من رواته، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، وأعله أيضا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر، وزعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. قال الحافظ ابن حجر: وقد أخطأ في ذلك خطأ شنيعا؛ فإنه سلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة، مع أن الجمع بين القصتين ممكن. وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري- يعني الذي أخرجه الترمذي- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبا غيري وغيرك، والمعنى أن باب علي كان إلى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره؛ فلذلك لم يؤمر بسده. ويؤيد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلا لعلي بن أبي طالب؛ لأن بيته كان في المسجد، ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين، ففي الأولى استثنى عليا لما ذكره من كون بابه كان إلى المسجد ولم يكن له غيره، وفي الآخرى استثنى أبا بكر، ولكن لا يتم ذلك إلا بأن يحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي، والمراد به الخوخة كما صرح به في بعض طرقه، وكأنهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها وأحدثوا خوخا يستقربون الدخول إلى المسجد منها، فأمروا بعد ذلك بسدها. فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين المذكورين؛ وبها جمع بينهما الطحاوي في مشكل الآثار، والكلاباذي في معاني الأخبار، وصرح بأن بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت علي لم يكن له باب إلا من داخل المسجد، انتهى ما أورده الحافظ بن حجر في ذلك. قلت: والعبارة تحتاج إلى تنقيح؛ لأن ما ذكره بقوله «ومحصل الجمع» طريقة أخرى في الجمع غير الطريقة المتقدمة؛ إذ محصل الطريقة المتقدمة أن البابين بقيا، وأن المأمورين بالسد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 هم الذين كان لهم أبواب إلى غير المسجد مع أبواب من المسجد، وأما علي فلم يكن بابه إلا من المسجد، وأن الشارع صلّى الله عليه وسلّم خصّه بذلك، وجعل طريقه إلى بيته المسجد لما سبق، فباب أبي بكر هو المحتاج إلى الاستثناء، ولذلك اقتصر الأكثر عليه، ومن ذكر باب علي فإنما أراد بيان أنه لم يسد، وأنه وقع التصريح بإبقائه أيضا، والطريقة الثانية تعدد الواقعة، وأن قصة علي كانت متقدمة على قصة أبي بكر رضي الله عنهما. ويؤيد ذلك ما أسنده يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن عبد الله بن مسلم الهلالي عن أبيه عن أخيه قال: لما أمر بسد أبوابهم التي في المسجد خرج حمزة بن عبد المطلب يجر قطيفة له حمراء، وعيناه تذرفان يبكي يقول: يا رسول الله أخرجت عمك وأسكنت ابن عمك، فقال: ما أنا أخرجتك ولا أسكنته، ولكن الله أسكنه، فذكر حمزة رضي الله عنه في القصة يدل على تقدمها. وروى البزار وفيه ضعفاء قد وثقوا عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: انطلق فمرهم فليسدوا أبوابهم، فانطلقت فقلت لهم، ففعلوا إلا حمزة، فقلت: يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قل لحمزة فليحول بابه، فقلت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تحول بابك، فحوله، فرجعت إليه وهو قائم يصلي، فقال: ارجع إلى بيتك. وروى البزار بإسناد قال الهيثمي: فيه من لم أعرفه، عن علي رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي، فقال: إن موسى سأل ربه أن يطهر مسجده بهارون، وإني سألت ربي أن يطهر مسجدي بك وبذريتك، ثم أرسل إلى أبي بكر أن سد بابك، فاسترجع ثم قال: سمع وطاعة، فسد بابه، ثم أرسل إلى عمر، ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي، ولكن الله فتح باب علي وسد أبوابكم» . قلت: ذكر العباس بدل حمزة هنا وفيما سيأتي فيه نظر؛ لأنه يقتضي تأخر ذلك؛ لأنه إنما قدم المدينة عام الفتح. وأسند ابن زبالة ويحيى من طريقه عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: بينما الناس جلوس في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ خرج مناد فنادى: أيها الناس سدوا أبوابكم، فتحسحس «1» الناس لذلك ولم يقم أحد، ثم خرج الثانية فقال: أيها الناس سدوا أبوابكم، فلم يقم أحد، فقال الناس: ما أراد بهذا؟ فخرج فقال: أيها الناس سدوا أبوابكم قبل أن ينزل العذاب، فخرج الناس مبادرين، وخرج حمزة بن عبد المطلب يجر كساءه حين نادى   (1) تحسحس الناس: تحركوا ببطء. حسحس للشيء: توجّع وأظهر إحساسه بالألم منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 سدوا أبوابكم، قال: ولكل رجل منهم باب إلى المسجد أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم، قال: وجاء علي حتى قام على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما يقيمك؟ ارجع إلى رحلك، ولم يأمره بالسد، فقالوا: سدّ أبوابنا وترك باب علي وهو أحدثنا، فقال بعضهم: تركه لقرابته، فقالوا: حمزة أقرب فيه، وأخوه من الرضاعة وعمه، وقال بعضهم تركه من أجل ابنته، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إليهم بعد ثالثة فحمد الله وأثنى عليه محمرا وجهه- وكان إذا غضب احمر عرق في وجهه- ثم قال: أما بعد ذلكم فإن الله أوحى إلى موسى أن اتخذ مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا هو وهارون وأبناء هارون شبرا وشبيرا، وإن الله أوحى إلي أن أتخذ مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا أنا وعلي وأبناء علي حسن وحسين، وقد قدمت المدينة، واتخذت بها مسجدا، وما أردت التحول إليه حتى أمرت، وما أعلم إلا ما علّمت، وما أصنع إلا ما أمرت، فخرجت على ناقتي، فلقيني الأنصار يقولون: يا رسول الله انزل علينا، فقلت: خلوا الناقة فإنها مأمورة حتى نزلت حيث بركت، والله ما أنا سددت الأبواب وما أنا فتحتها، وما أنا أسكنت عليا، ولكن الله أسكنه. وروى أحمد بإسناد حسن عن سعد بن مالك قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب علي رضي الله عنه، ورواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط، وزاد: قالوا: يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي، قال: ما أنا سددت أبوابكم، ولكن الله سدها. وأسنده يحيى عنه بلفظ: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بالأبواب فسدت إلا باب علي، فقال العباس: يا رسول الله سددت أبوابنا إلا باب علي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها. وعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سدوا أبواب المسجد إلا باب علي، فقال رجل: اترك لي قدر ما أخرج وأدخل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم أومر بذلك، قال: اترك بقدر ما أخرج صدري يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم أومر بذلك، وانصرف، قال رجل: فبقدر رأسي يا رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم أومر بذلك، وانصرف واجدا «1» باكيا حزينا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم أومر بذلك، سدوا الأبواب إلا باب علي. ورواه الطبراني عن جابر مختصرا، وفي ناصح بن عبد الله، وهو متروك، ولفظ الطبراني: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب كلها غير باب علي رضي الله عنه، فقال   (1) واجدا: حزينا غاضبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 العباس: يا رسول الله اترك لي قدر ما أدخل أنا وحدي وأخرج، فقال: ما أمرت بشيء من ذلك، فسدها كلها غير باب علي، قال: وربما مر وهو جنب. وأسند ابن زبالة ويحيى من طريقه عن عمرو بن سهل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بسد الأبواب الشوارع في المسجد، قال له رجل من أصحابه: يا رسول الله دع لي كوة أنظر إليك منها حين تغدو وحين تروح، فقال: لا والله ولا مثل ثقب الإبرة. قلت: وقد اقتضى ذلك المنع من الخوخة أيضا، بل ومما دونها، عند الأمر بسد الأبواب أولا، فإن صح ذلك فيحمل الإذن بعده في اتخاذ الخوخ، ثم كانت قصة أبي بكر بعد ذلك. وفي طبقات ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني عبد الرحمن بن الواقفي عن صالح ابن حسان عن أبي البداح بن عاصم بن عدي قال: قال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد، وما بالك سددت أبواب رجال في المسجد؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا عباس ما فتحت عن أمري ولا سددت عن أمري، والله أعلم. الفصل الثاني عشر في زيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد سيأتي في الفصل الرابع عشر من رواية البخاري وأبي داود عن ابن عمر أن أبا بكر رضي الله عنه لم يزد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا، وزاد فيه عمر، وسيأتي في رواية لأبي داود أن سواري المسجد نخرت في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع النخل، وهو لا ينافي رواية أنه لم يزد فيه، وقال أهل السير: لم يزد أبو بكر في المسجد شيئا لأنه اشتغل بالفتح، فلما ولي عمر قال: إني أريد أن أزيد في المسجد، ولولا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ينبغي أن يزاد المسجد» ما زدت فيه شيئا. وفي تاريخ اليافعي أن زيادته فيه كانت في سنة سبع عشرة، وذكر غيره أنه زاد في هذه السنة في المسجد الحرام، ولم يتعرض لتاريخ زيادته في مسجد المدينة. وأسند ابن زبالة عن أنس قال: لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وولي أبو بكر لم يحول المسجد، فلما ولي عمر جعل أساطينه من لبن، ونزع الخشب، ومده في القبلة، وكان حد جدار عمر من القبلة، على أول أساطين القبلة التي إليها المقصورة: أي التي كانت بين صف الأساطين التي تلي القبلة على الرواق القبلي. والذي في صحيح البخاري وسنن أبي داود كما سيأتي أن عمر رضي الله عنه زاد في المسجد، وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باللّبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، وهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 مخالف لما في رواية ابن زبالة من أن عمر جعل أساطينه من لبن، والمعوّل عليه رواية الصحيح. وروى أحمد عن نافع أن عمر رضي الله عنه زاد في المسجد من الأسطوانة إلى المقصورة، وقال عمر: لولا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ينبغي أن نزيد في مسجدنا» ما زدت. وأسند يحيى عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما قال: لولا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ينبغي أن نزيد في المسجد» ما زدت في المسجد شيئا. وفي رواية له أن ابن عمر قال: إن الناس كثروا في عهد عمر، فقال له قائل: يا أمير المؤمنين لو وسّعت في المسجد، فقال عمر: لولا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إني أريد أن أزيد في قبلة مسجدنا» ما زدت فيه. وأسند ابن زبالة عن مسلم بن حباب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يوما وهو في مصلاه في المسجد: «لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة، فأدخلوا رجلا وأجلسوه في موضع مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها حتى رأوا أن ذلك نحو ما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم رفع يده، ثم مدوا مقاطا «1» فوضعوا طرفه بيد الرجل، ثم مدوه، فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك فيه بما أشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الزيادة، فقدم عمر القبلة، فكان موضع جدار عمر في موضع عيدان المقصورة. بين عمر والعباس وقال ابن سعد: أنا يزيد بن هارون، أنا أبو أمية بن يعلى عن سالم أبي النضر قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه وضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين، فقال عمر للعباس: يا أبا الفضل، إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم، وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين، فأما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها، وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسّع بها في مسجدهم، فقال العباس: ما كنت لأفعل، قال: فقال له عمر: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت المال، وإما أن أخطك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين، وإما أن تصدّق بها على المسلمين فتوسع في مسجدهم، فقال: لا، ولا واحدة   (1) المقاط: الحبل. وومقود الفرس. ورشاء الدّلو. (ج) مقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 منها، فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت، فقال: أبي بن كعب، فانطلقا إلى أبي فقصّا عليه القصة، فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالا: حدّثنا، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتا أذكر فيه، فخط له هذه الخطة خطة بيت المقدس، فإذا تربيعها بزاوية بيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياها، فأبى، فحدث داود نفسه أن يأخذه منه، فأوحى الله إليه: أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه، فأردت أن تدخل في بيتي الغصب، وليس من شأني الغصب، وإن عقوبتك ألاتبنيه، قال: يا رب فمن ولدي، قال: فمن ولدك، فأخذ عمر بمجامع أبي بن كعب فقال: جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه، لتخرجن مما قلت، فجاء يقوده حتى دخل المسجد، فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم أبو ذر، فقال أبي: نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر حديث بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره، فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال آخر: أنا سمعته، يعني من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فأرسل أبيا، قال: فأقبل أبي على عمر فقال: يا عمر أتتهمني على حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال عمر: والله يا أبا المنذر ما اتهمتك عليه، ولكن أردت أن يكون الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظاهرا، قال: وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك، فقال العباس: أما إذا قلت ذلك فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تخاصمني فلا، قال: فخط له عمر داره التي هي اليوم، وبناها من بيت مال المسلمين. في سنن البيهقي قبل كتاب الرجعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أراد عمر رضي الله عنه أن يزيد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقعت زيادته على دار العباس رضي الله عنه، فأراد عمر أن يدخلها في المسجد ويعوضه منها، فأبى، وقال: قطيعة «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاختلفا، فجعل بينهما أبيّ بن كعب رضي الله عنه، فأتياه في منزله، وكان يسمى سيد المسلمين، فأمر لهما بوسادة، فألقيت لهما فجلسا عليها بين يديه، فذكر عمر ما أراد، وذكر العباس قطيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبيّ رضي الله عنه: إن الله عز وجل أمر عبده ونبيه داود أن يا بني له بيتا، قال: أي رب، وأين هذا البيت؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا   (1) القطيعة: الجزء من الأرض يملّكه الحاكم لمن يريد من أتباعه منحة. (ج) قطائع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 سيفه، فرآه على الصخرة، وإذا ما هناك يومئذ أندر لغلام من بني إسرائيل، فأتاه داود عليه السلام. فقال: إني قد أمرت أن أبني هذا المكان بيتا لله تعالى، فقال له الفتى: الله أمرك أن تأخذ مني بغير رضاي؟ قال: لا، فأوحى الله إلى داود إني قد جعلت في يدك خزائن الأرض فأرضه، فأتاه داود عليه السلام فقال: إني قد أمرت برضاك، فلك بها قنطار من ذهب، فقال: قد قبلت، فيا داود هي خير أم القنطار؟ فقال: بل هي، قال: فأرضني، قال: فلك بها ثلاث قناطير، فلم يزل يشدد على داود حتى رضي منه بتسع قناطير، قال العباس رضي الله عنه: اللهم لا آخذ لها ثوابا، وقد تصدقت بها على جماعة المسلمين، فقبلها عمر، فأدخلها في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قلت: وهذا يفهم أن داود صلوات الله وسلامه عليه بنى بين المقدس، وأنه أول من بناه، والرواية المتقدمة تقتضي أن سليمان صلوات الله وسلامه عليه هو الذي بناه، ويؤيده ما روى الطبراني من حديث رافع بن عميرة مرفوعا قال: قال الله عز وجل لداود: ابن لي بيتا في الأرض، وإن داود- عليه السلام- بنى المسجد، فلما تم السور سقط ثلثاه، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه إنه لا يصلح أن يا بني لي بيتا، وذكر قصة غير ما تقدم، فشق ذلك على داود، فأوحى الله تعالى إليه: إني سأقضي بناءه على يد ابنك سليمان. وروى النسائي من حديث عمرو بن العاص مرفوعا بإسناد صحيح أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثا- الحديث. وسواء كان الباني له داود أو سليمان عليهما السلام يشكل عليه ما في الصحيحين عن أبي ذر: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أول مسجد وضع على الأرض، فقال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: وكم بينهما؟ قال: أربعون عاما، ووجه الإشكال كما ذكره ابن الجوزي أن إبراهيم عليه السلام بنى الكعبة وبينه وبين سليمان أكثر من ألف سنة، وقد مشى ابن حبان على ظاهر الحديث المذكور، فقال: فيه رد على من زعم أن بين داود وإبراهيم ألف سنة، ولو كان كما قال لكان بينهما أربعون سنة، وهذا عين المحال؛ للاتفاق على طول الزمان بين إبراهيم وموسى عليهما السلام، ثم إن نص القرآن أن قصة داود في قتل طالوت كانت بعد موسى بمدة. وأجاب ابن الجوزي بأن الإشارة في حديث الصحيحين إلى أول البناء، ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة، ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس؛ فقد روى أن أول من بنى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس بعد ذلك بأربعين سنة، ثم بنى إبراهيم الكعبة بنص القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وذكر ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم عليه السلام لما بنى البيت أمره جبريل عليه السلام بالمسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه، فبناه ونسك فيه «1» . وأجاب بعضهم بأن داود وسليمان عليهما السلام إنما كان لهما من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق عليهما السلام بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا القدر. ويشكل على ذلك ذكر القصة المتقدمة؛ لأنه حينئذ لا يحتاج إلى شراء أرضه، نعم قال الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الأقصى وضع قبل داود وسليمان، ثم زادا فيه ووسعاه فأضيف إليهما بناؤه، فيحتمل حينئذ أن القصة المتقدمة وقعت فيما وقع الأمر بزيادته فيه، ويؤيد ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي يحيى الضرير زيد بن الحسن البصري حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب أنه قال للعباس رضي الله عنهما: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: نزيد في المسجد، ودارك قريبة من المسجد، فأعطناها نزيدها فيه، وأقطع لك أوسع منها، قال: لا أفعل، قال: إذا أغلبك عليها، قال: ليس لك ذلك، قال: فأجعل بيني وبينك من يقضي بالحق، قال: ومن هو؟ قال: حذيفة بن اليمان، قال: فجاؤوا إلى حذيفة رضي الله عنه، فقصوا عليه، فقال حذيفة: عندي في هذا خبر، قالوا: وما ذاك؟ قال: إن داود النبي صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يزيد في بيت المقدس، وقد كان بيت قريب من المسجد ليتيم، فطلب إليه فأبى، فأراد أن يأخذه منه، فأوحى الله عز وجل إليه إن أنزه البيوت عن الظلم لبيتي، قال: فتركه، فقال له العباس: فبقي شيء؟ قال: لا، قال: فدخل عمر المسجد فإذا ميزاب للعباس شارع في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسيل ماء المطر منه، فقال عمر بيده فقلع الميزاب، فقال: هذا الميزاب لا يسيل في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له العباس: والذي بعث محمدا بالحق إنه هو الذي وضع هذا الميزاب في هذا المكان ونزعته أنت يا عمر، فقال عمر رضي الله عنه: ضع رجليك على عنقي لترده إلى ما كان، ففعل ذلك العباس، ثم قال العباس رضي الله عنه [قد أعطيتك الدار تزيدها] في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فزادها عمر في المسجد، ثم قطع للعباس دارا أوسع منها بالزوراء، وقال الحاكم: هذا الحديث كتبناه [عن أبي جعفر وأبي علي الحافظ] » ولم يكتبه إلا بهذا الإسناد، والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم،   (1) نسك فيه: تزهد وتعبّد فيه. - وأصل مأخذه النسيكة: سبيكة الفضة الخالصة. (2) ما بين [] بياض بالأصل، وهذه الزيادة من كتاب المستدرك لأبي عبد الله الحاكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 قال: وقد وجدت له شاهدا من حديث أهل الشام، ثم ساقه من طريق شعيب الخراساني عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد أن يزيد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقعت منازعة على دار العباس، فذكر نحوه. وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن عبد الله بن أبي بكر قال: كان للعباس بيت في قبلة المسجد، وكثر الناس، وضاق المسجد، فقال عمر للعباس: إنك في سعة فأعطني بيتك هذا أوسع به في المسجد، فأبى العباس ذلك عليه، فقال عمر: إني أثمنك وأرضيك، قال: لا أفعل، لقد ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عاتقي وأصلح ميزابه بيده فلا أفعل، قال عمر: لآخذنه منك، فقال أحدهما لصاحبه: فاجعل بيني وبينك حكما، فجعلا بينهما أبي بن كعب، فأتياه فاستأذنا على الباب، فحبسهما ساعة ثم أذن لهما وقال: إنما حبستكما أني كنت كما كانت الجارية تغسل رأسي، فقص عليه عمر قصته، ثم قص عباس قصته، فقال: إن عندي علما مما اختلفتما فيه، ولأقضين بينكما بما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، سمعته يقول: إن داود لما أراد أن يا بني بيت المقدس وكان بيت ليتيمين من بني إسرائيل في قبلة المسجد فأراد منهما البيع فأبيا عليه، فقال: لآخذنه، فأوحى الله عز وجل إلى داود: إن أغنى البيوت عن المظلمة بيتي، وقد حرمت عليك بنيان بيت المقدس، قال: فسليمان، فأعطاه سليمان، فقال عمر لأبي: ومن لي بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال هذا؟ فقال أبي لعمر: أتظن أني أكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ لتخرجن من بيتي، فخرج إلى الأنصار فقال: أيكم سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول كذا وكذا؟ فقال هذا: أنا، وقال هذا: أنا، حتى قال ذلك رجال، فلما علم ذلك عمر قال: أما والله لو لم يكن غيرك لأجزت قولك، ولكني أردت أن أستثبت. وفي رواية ليحيى عن أبي الزناد أن عمر بن الخطاب لما زاد في المسجد دعا من كان له إلى جانبه منزل فقال: اختاروا مني بين ثلاث خصال: إما البيع فأثمن، وإما الهبة فأشكر، وإما الصدقة على مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجابه الناس، وكان للعباس دار عن يمين المسجد، فدعاه عمر، فقال: يا أبا الفضل اختر مني بين ثلاث خصال، وذكر نحو ما تقدم، فقال العباس: ما أجيبك إلى شيء مما دعوتني إليه، فقال عمر: إذا أهدمها، فقال العباس: مالك ذلك، وذكر التحاكم إلى أبي، وقصة بيت المقدس مع مخالفة في ذكر قصته لبعض ما تقدم. وفي رواية له عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه كلّم العباس في داره، وكانت في ما بين موضع الأسطوان المربعة التي تلي دار مروان بن الحكم، قطيعة كان قطع له النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكلمه عمر رضي الله عنه يدخلها في المسجد، وأعطاه بها ثمنا حسنا، وقال: يا أبا الفضل إن الناس قد شكوا ضيق مسجدهم، وأحبوا الاتساع، فأبى العباس أن يبيعه، فقال عمر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 أنا أعطيك خيرا منها في أي نواحي المدينة شئت، فأبى العباس ذلك، فقال عمر: فتصدق على الناس، فأبى فقال عمر: لآخذنه، فقال العباس: ليس ذلك لك، قال عمر: اجعل بيني وبينك رجلا، فجعلا أبي بن كعب، فأتياه فحبسهما ساعة ثم أذن لهما ثم قال: إن جاريتي كانت تغسل رأسي، فأيكما يستعدي على صاحبه؟ فقال عمر: أنا، جعلناك حكما بيننا، وما رأيت من أمر لزمنا، فقال أبي: ما تقول يا أبا الفضل؟ قال: أقول ذلك، فذهب عمر يتكلم، فقال أبي: تكلم يا أبا الفضل، دعه يابن الخطاب يتكلم لمكانه من نبي الله صلّى الله عليه وسلّم، فتكلم العباس فقال: هذه خطة خطها لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وابتنيتها وبناها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معي، وهو والله شد هذا الميزاب الذي يصب في المسجد، وذكر القصة أيضا، وأن العباس قال: أما إذ قضيت به لي فهو صدقة على المسلمين أما والله يا عمر لقد هدمت الميزاب وما شددته إلا ورجلاي على عاتقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال عمر: فو الله لا تشده إلا ورجلاك على عاتقي، قال: ثم هدم الدار ووسع في المسجد وغيّر جذوعا كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أسفلها قد أكلته الأرضة. وقد أورد رزين في كتابه خبر ابن عمر المتقدم، ولفظه: عن نافع عن ابن عمر قال: إن الناس كثروا في عهد عمر رضي الله عنه، فقالوا له: يا أمير المؤمنين لو وسّعت لنا في المسجد، فزاد فيه عمر، فكلم عمر العباس في داره، وكانت لاصقة بالمسجد، وقال له: أعطيك خيرا منها وتصدق بها على الناس، فأبى العباس، وقال: خطها لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووضع ميزابها بيده، فقال عمر: فإني آخذها، قال العباس: ليس لك ذلك، فجعلا بينهما أبيا، فحجبهما ساعة ثم أذن لهما فقصا عليه خبرهما، فقال: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لما أراد داود عليه السلام أن يا بني بيت المقدس كان ليتيمين من بني إسرائيل بيت في الموضع الذي خط أن يا بني المسجد عليه، فقال لهما: بيعاه مني ورغبهما في الثمن، فباعاه ثم قالا له: الذي أخذت منا خير أم الذي أعطيتنا؟ قال الذي أخذت، قالا: فإنا لا نجيز البيع، فزادهما حتى كان ذلك منهما ومنه سبع مرات، فقال: أزيدكما كذا وكذا على أن لا تسألاني، فقالا له: نبيعك بحكمنا ولا نسألك، قال: افعلا، فطلبا منه مالا كثيرا، فتعاظم ذلك داود، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى داود: إن كنت إنما تعطيهما من مالك فأنت أعلم، وإن كنت إنما تعطيهما من رزقنا فأعطهما حتى يرضيا فإن أغنى البيوت عن مظلمة بيتي، وقد حرمت عليك بناءه، فقال داود: يا رب فأعطه سليمان، فقضى به أبي للعباس. فقال العباس: أما إذ قضيت لي به فهو صدقة على المسلمين، فذهب عمر فهدم الميزاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 فأسف العباس لما وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، وقال: والله لقد وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن رجليه لعلى عاتقي، فقال عمر للعباس: والله لتردنه ورجلاك على عاتقي، فرده، ثم قال عمر للعباس: اهدم الآن بيدك. وقد روى أن نزع الميزاب كان قبل ذلك لأجل أنه كان يسكب الماء داخل المسجد للزوقه به «1» ، انتهى لفظ رواية رزين. وروى يحيى بسند جيد عن سفيان ابن عيينة عن موسى بن أبي عيسى قال: كان في دار العباس ميزاب يصب في المسجد، فجاء عمر فقلعه، فقال العباس: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي وضعه بيده، فقال عمر للعباس: لا يكن لك سلّم إلا ظهري حتى ترده مكانه. وروى ابن إسحاق عن أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن عبد الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان، فلما وافى الميزاب صب فيه ماء من دم الفرخين، فأصاب عمر، فأمر عمر بقلعه، ثم رجع فطرح ثيابه، ثم لبس غيرها، ثم جاء فصلى بالناس، فأتاه العباس فقال: والله إنه الموضع الذي وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمر للعباس: فأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه، ففعل ذلك العباس. ورواه الإمام أحمد في مسنده من حديث هشام بن سعد عن عبيد الله بن عباس أخي عبد الله فذكره، وكذا رواه ابن سعد، وقال ابن أبي حاتم: إنه سأل أباه عنه، وقال: هو خطأ، وأخرجه ابن سعد من طريق موسى بن عبيدة عن يعقوب أن عمر خرج في يوم جمعة، فذكره بنحوه. وروى يحيى عن أبي مصعب الزهري الفقيه قال: حدثنا يوسف بن الماجشون عن الثقة أنه كان في دار مروان ميزاب يصب على الناس إذا خرجوا من المسجد في المطر، وكانت دار مروان للعباس بن عبد المطلب، فأمر عمر بن الخطاب بذلك الميزاب فنزع، فجاءه العباس ابن عبد المطلب فقال: أما والله لوضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، قال: فأعاده عمر حيث كان، وقال: والله لا تعيده إلا وأنت على رقبتي، فأعاده العباس يومئذ على رقبة عمر. قلت: وهذه الدار بقية من التي وقع النزاع المتقدم فيها، ونسبتها إلى مروان لما سيأتي أنها دخلت في داره، وروى أنها مربدها، فكأن هذا الميزاب كان في تلك البقية، فيجمع بين الروايات بأنه كان للدار المذكورة ميزابان: ميزاب يصب في المسجد، وميزاب يصب في الطريق، واتفق في كل منهما قصة، ويؤيد ذلك ما رواه يحيى في زيادة عثمان رضي الله   (1) لزق به: اتصل به، لا يكون بينهما فجوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 عنه عن الأعمش قال: بنى عباس بن عبد المطلب داره التي إلى جنب المسجد، فجعل يرتجز يقول: بنيتها باللبن والحجاره ... والخشبات فوقها مطاره يا ربنا بارك لأهل الداره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم بارك في هذه الداره، قال: وجعل العباس ميزابها لاصقا بباب المسجد يصب عليه، فطرحه عمر بن الخطاب، فقال عباس: أما والله ما شده إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنه لعلى منكبي، فقال له عمر: لا جرم والله لا تشده إلا وأنت على منكبي، فشده عمر، وابتاع عثمان بن عفان تلك الدار فزادها في المسجد إلا ثلاثة عشر ذراعا أو أربعة عشر ذراعا، فقال: لا أدري كان ابتاع البقية أم لا؟ قلت: فالذي يظهر أن العباس أبقى لنفسه بقية الدار بعد أخذ ما احتيج إلى زيادته منها، وأنه كان في تلك البقية ميزاب، فلما أحدث عمر الباب الذي عند دار مروان كما سيأتي صار الميزاب يصب على الباب في طريق المسجد، ثم اشترى عثمان من تلك البقية ما احتاج إلى إدخاله في زيادته. وروى ابن أبي الدنيا قصة دار العباس هذه مطولة، وقال: إن العباس قال لعمر: أما والله ما شده إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه، حملني والله على عاتقه حين شده، قال: وبعض الناس يقول: بل العباس حمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال محمد بن عقبة- يعني روايه-: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليضع قدميه على رقبة أبيه أو عمه، ولكنه حمل العباس على عاتقه، وقول يحيى في رواية ابن عمر المتقدمة «وكانت- يعني دار العباس- فيما بين الأسطوان المربعة التي تلي دار مروان بن الحكم» أي والباب الذي يلي دار مروان لدخول بعضها في دار مروان. قال الزين المراغي: وسيأتي بيان المربعة، أي في زيادة عثمان رضي الله عنه، وقد ذكر هناك تبعا للمطري أنها الأسطوانة التي في وصف الأساطين التي تلي القبلة، وقد رفع أسفلها مربعا قدر الجلسة. قلت: والتي تليها مربعة أيضا، وهي التي تلي دار مروان؛ فهي المراد هنا كما قدمنا الإشارة إليه في تحديد المسجد النبوي، وهي الخامسة من المنبر في جهة المغرب، فيكون ابتداء زيادة عمر رضي الله عنه من جهة المغرب من الأسطوانة المذكورة، خلاف قول المطري والمراغي إن المربعة التي ذكراها قبل هذه منتهى زيادة عمر رضي الله عنه، وكيف يكون منتهى زيادته مع كونها مبتدأ دار العباس التي هي أول الزيادة؟ وأيضا فذرع ما بين الأسطوان التي ذكراها والحجرة الشريفة نحو تسعين ذراعا، وقد قال يحيى في رواية ابن عمر أيضا «إن المسجد كان طوله أي من القبلة إلى الشام على عهد عمر رضي الله عنه أربعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 ومائة ذراع وعرضه عشرون ومائة، وطول السقف أي ما بينه وبين الأرض أحد عشر ذراعا» انتهى. وكيف يصح أن يكون الأسطوان المذكور نهاية زيادته؟ بل ابتداء زيادته من الأسطوان التي تليها، فيكون زيادته بعد الأسطوان المذكورة في جهة المغرب عشرين ذراعا، لما قدمناه من رواية أن المسجد كان عرضه مائة ذراع فزيادته عشرون، وذلك نحو أسطوانين، فيكون نهاية المسجد في زمنه من تلك الجهة الأسطوانة السابعة من غربي المنبر، ومن المشرق الحجرة الشريفة، لأنه لم يزد في تلك الجهة شيئا، ومن القبلة صف الأساطين التي تلي القبلة، وكانت إليها المقصورة الآتي ذكرها، وقد احترقت، ومن بقاياها خشبة في سفل الأسطوان التي في هذا الصف عن يسار مستقبل المحراب العثماني، مثبتة تلك الخشبة في الأسطوان المذكور مما يلي الأرض، وقد زالت في الحريق الثاني؛ فزيادة عمر رضي الله عنه من جهة القبلة الرواق المتوسط بين الروضة ورواق القبلة، وذلك نحو عشرة أذرع، وأما الشام فيستفاد من كون المسجد كان طوله في زمنه أربعين ومائة ذراع، وأن منها في جهة القبلة نحو عشرة أذرع أنه يمتد في زمنه بعد الحجرين المتقدم ذكرهما في حدود المسجد الأصلي اللذين في صحنه نحو ستين ذراعا؛ لأنا قدمنا أن من مقدم المسجد الأصلي إليها نحو السبعين فقط. وبقي أمر آخر لم أر من نبه عليه، وهو أن حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بعضها في جهة الشام كما تقدم، ومقتضى ما قدمناه من رواية ابن سعد- وهو ظاهر ما سيأتي في زيادة الوليد- أن عمر رضي الله عنه لم يدخل منها شيئا في المسجد، وإنما أدخلها الوليد، فكأن عمر ترك ما كان منها في جهة الشام قائما على حاله، وصار المسجد حواليها. وقال السيد القرافي في ذيله: واشترى عمر أيضا نصف موضع كان خطه النبي صلّى الله عليه وسلّم لجعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة دارا بمائة ألف فزاده في المسجد. قلت: سيأتي من رواية يحيى أن الذي شرى ذلك عثمان رضي الله عنه، كذا في النسخة التي رواها ابن ابنه الحسن بن محمد عنه، ثم رأيت في النسخة التي رواها ابنه طاهر عنه ما ذكره القرافي، ولم يذكر ابن زبالة ويحيى وغيرهما إدخال عمر دار أبي بكر رضي الله عنه في المسجد، ويتعين أن يكون عمر هو الذي أدخلها؛ لما سبق في الفصل قبله من أن باب خوختها كان غربي المسجد، وأن الخوخة المجعولة في محاذاتها عند إدخال الدار هي الخوخة الموجودة اليوم غربي المسجد، وهذا لا خلاف فيه عند المؤرخين، ولهذا قال ابن النجار نقلا عن أهل السير: كانت خوخة أبي بكر في غربي المسجد، فعلمنا بذلك أن دار أبي بكر كانت في غربي المسجد، وأن عمر رضي الله عنه أدخلها، لكن قال الحافظ ابن حجر: إن ابن شبة ذكر في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 المسجد كانت ملاصقة للمسجد، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه، فباعها، فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، فلم تزل بيدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان، فطلبوها منها ليوسعوا بها المسجد، فامتنعت وقالت: كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها: نعطيك دارا أوسع منها ونجعل لك طريقا مثلها، فسلّمت ورضيت. قلت: هذه القصة إنما ذكرها ابن شبة في دار حفصة التي في قبلة المسجد، وذكر معها شراءها لدار أبي بكر المذكورة بصيغة تقتضي التضعيف، واقتضى ذلك أن دار أبي بكر كانت في قبلة المسجد على تلك الرواية الضعيفة، وأن طريق آل عمر اليوم منها، فنسب إليه الحافظ ابن حجر الجزم به، وليس الأمر كذلك كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في الفصل الرابع عشر. وقال يحيى في روايته المتقدمة: وجعل أساطينه من جذوع نخل وسقفه بالجريد ذراعين فوق المسجد سترة حائطه ثلاثة أذرع، وعبر ابن النجار عن ذلك بقوله: وسقفه جريد ذراعان، وبنى فوق ظهره سترة ثلاثة أذرع، انتهى. والذي يظهر أن في عبارة يحيى خللا، وتبعه عليه ابن النجار، وأن المراد ما ذكره رزين في هذه الرواية بعينها، فإنه قال فيها: وجعل عمر سترة المسجد فوقه ذراعين أو ثلاثة، فكأن لفظ «أو» سقط قبل قوله ثلاثة أذرع. وقال يحيى ورزين عقب ذلك: وكان بنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة، زاد يحيى: وكان لبنه ضربه بالبقيع، وجعل له ستة أبواب: بابين عن يمين القبلة، وبابين عن يسارها، وبابين خلف القبلة، ولم يغير باب عاتكة- أي المعروف بباب الرحمة- ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو فتح الباب الذي عند القبر، فهذان البابان من الشق الأيسر: أي المشرق، وفتح الباب الذي عند دار مروان بن الحكم، وفتح بابين من مؤخر المسجد، انتهى. وقوله: «إنه لم يغير باب عاتكة، ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم» مسلم في الباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال المراغي تبعا للمطري: وهو باب جبريل؛ لأنه لم يزد في جهة المشرق شيئا، وأما باب عاتكة ففيه نظر؛ لأنه زاد من جهة المغرب كما تقدم، فالمراد بكونه لم يغير أنه أخره في محاذاة الباب الأول، وهذه الرواية تقتضي أن الباب المعروف اليوم بباب النساء لم يكن موجودا في زمن عمر رضي الله عنه؛ لأن المستفاد مما ذكره أن الباب الذي زاده في جهة المشرق جعله عند القبر، ولعله تصحيف؛ لأنه إذا لم يزد من جهة المشرق شيئا كيف يحدث بابا عند القبر ويترك الجهة التي زادها من جهة الشام بغير باب؟ والمنقول كما سيأتي أن إحداث الباب الذي عند القبر إنما هو في زيادة الوليد، وسيأتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 في سبب تسميته باب النساء أن عمر رضي الله عنه قال حين بنى المسجد: هذا باب النساء، كما رواه يحيى؛ فتبين أن باب النساء هو الباب الباقي في جهة المشرق على عهد عمر رضي الله عنه، وأنه الذي أحدثه، وسيأتي في زيادة عثمان عند ذكر اقتصاره على الأبواب التي جعلها عمر ما هو كالصريح في ذلك، والله أعلم. وفي البخاري تعليقا عن أبي سعيد قال: أمر عمر ببناء المسجد، وقال: أكنّ الناس «1» من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. وروى ابن شبة ويحيى من طريق عبد العزيز بن عمران عن مليح بن سليمان عن ابن أبي عمرة قال: زاد عمر بن الخطاب في المسجد من شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى نبلغ به الجبانة كان مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، زاد يحيى: وجاء الله بعامر، وعبد العزيز هو ابن أبي ثابت، تركوه، كانت كتبه قد احترقت فحدّث من حفظه فاشتد غلطه. وروى يحيى من طريق ابن زبالة وهو ضعيف: حدثني محمد بن إسماعيل عن ابن أبي ذئب قال: قال عمر بن الخطاب: لو مد مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذي الحليفة لكان منه، ورواه ابن شبة من طريق أبي غسان المدني بدل ابن زبالة، وعلى كل حال هو معضل. وروى ابن شبة ويحيى والديلمي في مسند الفردوس بسند فيه متروك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لو بنى هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي، وكان أبو هريرة يقول: لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما عدوت أن أصلي فيه، ثم قال يحيى: وحدثنا هارون بن موسى نبأ عمر بن أبي بكر الموصلي عن ثقات من علمائه قالوا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا مسجدي، وما زيد فيه فهو منه، ولو بلغ بمسجدي صنعاء كان مسجدي. قلت: وهو منقطع، لكن اجتماع هذه الروايات تقوي ما قدمناه في آخر الفصل الثاني عن مالك رحمه الله من أن المضاعفة الواردة في المسجد النبوي تعم ما زيد فيه، والله أعلم. الفصل الثالث عشر في البطيحاء التي بناها عمر رضي الله عنه بناحية المسجد، ومنعه من إنشاد الشعر ورفع الصوت فيه، وما جاء في ذلك روى ابن شبة ويحيى بسند جيد عن سالم بن عبد الله أن عمر- يعني ابن الخطاب- اتخذ   (1) أكنّ الناس من المطر: أحميهم وأسترهم منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 مكانا إلى جانب المسجد يقال له «البطيحاء» وقال: من أراد أن يلغط أو يرفع صوتا أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إليه، ولفظ يحيى: أن عمر بن الخطاب بنى في ناحية المسجد رحبة تدعى البطيحاء، ثم قال: من أراد أن يلغظ أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إلى هذه الرحبة، زاد ابن شبة عقيب روايته من طريق محمد بن يحيى: قال محمد: وقد دخلت تلك البطيحاء في المسجد فيما زيد فيه بعد عمر رضي الله عنه. وذكر ابن شبة في موضع آخر ما يبين أن البطيحاء كانت في جهة شرقي المسجد مما يلي مؤخره زمن عمر رضي الله عنه، فإنه قال: اتخذ خالد بن الوليد داره التي كانت بالبطيحاء، إلى آخر ما سيأتي عنه، مع بيان أنها الرباط المعروف اليوم برباط السبيل في شرقي المسجد. وروى ابن شبة أيضا بسند جيد عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه كان إذا خرج من الصلاة نادى في المسجد: إياكم واللغط، ويقول: ارتفعوا في أعلى المسجد. ورواه يحيى بلفظ: كان إذا خرج إلى الصلاة. وروى ابن شبة بسند جيد إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عمر رضي الله عنه سمع ناسا من التجار يذكرون تجارتهم والدنيا في المسجد، فقال: إنما بنيت هذه المساجد لذكر الله، فإذا ذكرتم تجاراتكم ودنياكم فاخرجوا إلى البقيع. وروى أيضا عن شيخه سليمان بن داود قال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع صوت رجل في المسجد، فقال: أتدري أين أنت؟ كأنه كره الصوت. وعن عبد الرحمن بن حاطب قال: كان بين عثمان وطلحة تلاح في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغ عمر رضي الله عنه، فأتاهم وقد ذهب عثمان وبقي طلحة، فقال: أفي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقولان الهجر وما لا يصلح من القول؟ قال: فجثا طلحة على ركبتيه وقال: إني والله لأنا المظلوم المشتوم، فقال: أفي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تقولان الهجر وما لا يصلح من القول؟ ما أنت مني بناج، فقال: الله الله يا أمير المؤمنين، فو الله إني أنا المظلوم المشتوم، فقالت أم سلمة من حجرتها: والله إن طلحة لهو المظلوم المشتوم، قال: فكف عمر رضي الله عنه. وعن السائب بن يزيد قال: كنت مضطجعا في المسجد، فحصبني رجل «1» ، فرفعت رأسي، فإذا عمر رضي الله عنه فقال: اذهب فأتني بهذين الرجلين، فجئت بهما، فقال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد ما فارقتماني حتى أوجعكما جلدا، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟!   (1) حصبني: رماني بحجارة صغيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وعن طارق بن شهاب أن عمر رضي الله عنه أتى برجل في المسجد وقد أخذ في شيء، فقال: أخرجاه من المسجد فاضرباه، أو اضربوه. وروى يحيى عن نافع أن عمر بينما هو في المسجد عشاء إذ سمع ضحك رجل، فأرسل إليه فقال: من أنت؟ فقال: أنا رجل من ثقيف، فقال: أمن أهل البلد أنت؟ فقال: بل من أهل الطائف، فتوعده فقال: لو كنت من أهل البلد لنكّلت بك، إن مسجدنا هذا لا ترفع فيه الأصوات. وعن ابن سيرين أن ابن مسعود سمع رجلا يرفع صوته في المسجد، فسبه، فقيل له: ما كنت فحّاشا، فقال: أمرنا بهذا. وروى ابن زبالة ويحيى عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحسان بن ثابت وهو ينشد في المسجد، فلحظ إليه، فقال حسان: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس» قال: اللهم نعم، وقد رواه البخاري في الصحيح بنحوه، وفي رواية ليحيى عقب قوله: «قد كنت أنشد فيه من هو خير منك» فانصرف عمر وقد عرف أنه يريد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي رواية ذكرها الحافظ ابن حجر فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، وفي الترمذي من طريق أبي الزناد عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينصب لحسان منبرا في المسجد، فيقوم عليه يهجو الكفار. وأما ما رواه ابن خزيمة في صحيحه والترمذي وحسنه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن تناشد الأشعار في المساجد، قال الحافظ ابن حجر: صحيح إلى عمرو، فمن يصحح نسخته يصححه، وفي هذا المعنى عدة أحاديث، لكن في أسانيدها مقال، والجمع بينها وبين ما تقدم أن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين، وهو مراد عمر بقوله: من أراد أن ينشد شعرا فليخرج إلى هذه، يعني البطيحاء، والمأذون فيه ما سلّم من ذلك، وقيل: المنهي عنه ما إذا كان غالبا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه، وأبعد بعضهم فأعمل أحاديث النهي، وادعى نسخ الإذن، ولم يوافق على ذلك. وروى ابن زبالة عن علي بن زيد بن جدعان قال: أنشد كعب بن زهير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد أبياتا: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول «1» والله أعلم.   (1) وعجزه: متيم إثرها لم يفد مكبول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 الفصل الرابع عشر في زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه روينا في صحيح البخاري وسنن أبي داود عن نافع أن عبد الله- يعني ابن عمر- أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصّة «1» ، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. وروى أبو داود أيضا- وسكت عليه- عن عطية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت سواريه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها نخرت في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فبناها بجذوع النخل وبجريد النخل، ثم إنها نخرّت في خلافة عثمان رضي الله عنه فبناها بالآجر، فلم تزل ثابتة حتى الآن، هكذا رأيته في أصول متعددة معتمدة من السنن، وأورده المجد بلفظ: ثم إنها نخرت في خلافة عمر- بدل أبي بكر- ولم أره في شيء من النسخ. وفي هذا الخبر ما يقتضي أن السبب في بناء عثمان للمسجد كون الجذوع التي هي السواري نخرت، وأن عثمان بناها بالآجر لا الحجر، فلعل البعض كان في زمنه مبنيا بالآجر وهو بعيد، وما تقدم من رواية الصحيح أصح. وفي صحيح مسلم عن محمود بن لبيد أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك، وأحبوا أن يدعه على هيئته، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من بنى «مسجدا لله» بنى الله له في الجنة مثله. وفيه وفي البخاري عن عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول: إنكم قد أكثرتم، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من بنى مسجدا لله عز وجل، الحديث. وقوله في الرواية الأولى إن عثمان أراد بناء المسجد يبين أن المراد من قوله حين بناء المسجد حين أراد بناءه، إلا أن يكون ذلك قد تكرر من عثمان لتكرر كلامهم قبل البناء وبعده، وهو الأقرب، وقوله «وأحبوا أن يدعه على هيئته» أي بجذوع النخل واللبن كما فعل عمر رضي الله عنه لموافقته لفعله صلّى الله عليه وسلّم، ولهذا قال البغوي في شرح السنة: لعل الذي كره الصحابة من عثمان بناؤه بالحجارة المنقوشة، لا مجرد توسيعه، اه. ويؤيده ما سيأتي من   (1) القصّ: الجصّ. وسمي موضع قرب المدينة بذي القصّة لأن به الجصّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 أن الناس شكوا إليه ضيق المسجد؛ فقوله: «لما أراد عثمان بناء المسجد» أي: على الهيئة التي بناه عليها، ويؤخذ من هذا إطلاق البناء المرغّب فيه في حق من جدد ووسع؛ لأن عثمان لم يبن المسجد كله إنشاء، وقوله «إنكم أكثرتم» أي: الكلام بالإنكار ونحوه. وروى يحيى عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: لما ولي عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين كلمه الناس أن يزيد في مسجدهم، وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة، حتى إنهم ليصلون في الرحاب، فشاور فيه عثمان أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، فصلى الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأزيد فيه، وأشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة، وقد كان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب، كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه، فحسّن الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه، وكان رجلا يصوم الدهر ويصلي الليل، وكان لا يخرج من المسجد، وأمر بالقصّة المنخولة تعمل ببطن نخل، وكان أول عمله في شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين، وفرغ منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين، فكان عمله عشرة أشهر. قلت: قوله أولا «لما ولي عثمان سنة أربع وعشرين» إلى قوله «فأصبح ودعا العمال» يفهم أنه في تلك السنة، وقوله أخيرا «وكان أول عمله إلى آخره» يأباه، وما ذكره أخيرا هو الصواب المذكور في كلام غيره؛ فيحمل ما ذكره أولا على أنه لم يشرع في المشاورة والعمارة عقب كلام الناس له، بل استمر تلك السنين، وربما تكرر الكلام فخطبهم في السنة التي وقعت فيها العمارة. وقد روى رزين الخبر المذكور عن المطلب المذكور بلفظ: لما ولي عثمان وكان سنة أربع من خلافته كلمه الناس أن يزيد في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكوا إليه ضيقه، فشاور عثمان أهل الرأي، فأشاروا عليه بذلك، وذكر نحو ما تقدم، وينبغي حمله أيضا على أن الكلام وقع من الناس سنة أربع من خلافته وتأخرت العمارة إلى سنة تسع وعشرين- بتقديم المثناة الفوقية على السين- وإلا فهو مخالف لما تقدم؛ لأن عثمان رضي الله عنه ولي غرة المحرم افتتاح سنة أربع وعشرين، فسنة أربع من خلافته هي سنة سبع وعشرين- بتقديم السين على الموحدة- والأول هو الأصح؛ فقد روى يحيى وابن زبالة أن عثمان زاد في المسجد قبل أن يقتل بأربع سنين، وعثمان قتل في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وقال الحافظ ابن حجر: كان بناء عثمان للمسجد سنة ثلاثين على المشهور، وقيل: في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 آخر سنة من خلافته؛ ففي كتاب السير عن الحارث بن مسلم عن ابن وهب: أخبرني مالك أن كعب الأحبار كان يقول عند بنيان عثمان المسجد: لوددت أن هذا المسجد لا ينجز «1» ؛ فإنه إذا فرغ من بنيانه قتل عثمان، قال مالك: فكان كذلك. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بأن الأول كان تاريخ ابتدائه، والثاني تاريخ انتهائه. قلت: قد تقدم ما يردّ هذا الجمع، وأن الفراغ منه كان في سنة ثلاثين، لكن يمكن أن عثمان رضي الله عنه أحدث فيه عمارة أخرى آخر سنة من خلافته وقد وصل ابن شبة ما نقله مالك عن كعب؛ فروى بسنده من طريق الأعمش عن أبي صالح قال: قال كعب ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم يا بنى: والله لوددت أنه لا يفرغ من برج إلا سقط برج، فقيل له: يا أبا إسحاق أما كنت تحدثنا أن صلاة فيه أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، قال: بلى، وأنا أقول ذلك الآن، ولكن فتنة نزلت من السماء ليس بينها وبين أن تقع إلا شبر، ولو فرغ من بناء هذا المسجد وقعت، وذلك عند قتل هذا الشيخ عثمان بن عفان، فقال رجل: وهل قاتله إلا كقاتل عمر، قال: بل مائة ألف أو يزيدون، ثم يحل القتل ما بين عدن أبين إلى دروب الروم «2» . وروى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال: لما أراد عثمان أن يكلم الناس على المنبر ويشاورهم قال له مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، فقال: ويحك! إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور، قال مروان: فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك لهم؟ قال: اسكت، إن عمر اشتد عليهم فخافوه، حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا، وإني لنت لهم حتى أصبحت أخشاهم، قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيجترأ عليك. وعن عبد الرحمن بن سفينة قال: رأيت القصّة تحمل إلى عثمان وهو يا بني مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بطن نخل، رأيته يقوم على رجليه والعمال يعملون فيه حتى تأتي الصلاة فيصلي بهم، وربما نام ثم رجع، وربما نام في المسجد. وعن خارجة بن زيد قال: هدم عثمان بن عفان المسجد وزاد في قبلته، ولم يزد في شرقيه، وزاد في غربيه قدر أسطوان، وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة وعسب النخل   (1) أنجز الشيء: أتمه وقضاه. (2) الدروب مفردها الدرب: المضيق بين الجبال. وكل مدخل إلى بلاد الروم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 والجريد، وبيضه بالقصة، وقدر زيد بن ثابت أساطينه فجعلها على قدر النخل، وجعل فيه طيقان مما يلي المشرق والمغرب، وذلك قبل أن يقتل بأربع سنين، وزاد فيه إلى الشام خمسين ذراعا. وعن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: زاد عثمان في المسجد قبل أن يقتل بأربع سنين فزاد من القبلة، فوضع جداره على حد المقصورة اليوم، وزاد فيه من المغرب أسطوانا بعد المربعة، وزاد فيه من الشام خمسين ذراعا، ولم يزد من المشرق شيئا، وزعم المطري وتبعه المراغي أن المراد بهذه المربعة المربعة المتقدم وصفها في تحديد المسجد النبوي في زيادة عمر رضي الله عنه، وهي الأولى من المربعتين اللتين يليان القبلة في صف الأسطوان الرابع من المنبر في جهة المغرب، وجعلا نهاية زيادة عثمان إلى الأسطوانة التي تليها في المغرب المقابلة للطراز المتقدم وصفه، فقالا: أراد بالمربعة الأسطوانة التي تليها في المغرب التي في القبلة التي رفع أسفلها مربعا قدر الجلسة، وهي منتهى زيادة عثمان من المغرب، وقبالة الأسطوانة التي زادها عثمان في الحائط القبلي طرازا آخر من العصابة السفلى إلى سقف المسجد، وهو حد زيادة عثمان، انتهى. ومحصله أن زيادة عثمان هي الرواق الكائن بين الأسطوانتين المذكورتين، ولم أر من سبقهما لذلك، وقد قدمنا في تحديد المسجد النبوي ما يقتضي أن الطراز المذكور في موازاة حد المسجد النبوي على الراجح، وأن زيادة عمر وعثمان رضي الله عنهما من بعد ذلك في جهة المغرب، وأن عمر رضي الله عنه جعل المشرق إلى المغرب مائة وعشرين ذراعا، وأن من المربعة التي ذكرا أنها نهاية زيادته إلى الحجرة الشريفة ينقص عن تسعين ذراعا، وإلى محاذاة الطراز نحو المائة؛ فيبقى لعمر في جهة المغرب بعد الطراز رواقان آخران؛ فيكون نهاية المسجد في زمنه الأسطوانة السابعة من المنبر، وفي صف السابعة من المنبر أسطوان أسفله مربع لكنه ليس مرتفعا عن الأرض بقدر الجلسة، بل تربيعه على وجه الأرض، وقد زال تربيعه في العمارة الحادثة بعد الحريق الثاني، وليس هو في صف الأساطين التي تلي القبلة، بل في صف الأساطين التي خلف محراب الحنفية؛ فالظاهر أن هذه المربعة هي المرادة هنا؛ فيكون لعثمان رضي الله عنه في جهة المغرب الرواق الذي بعدها؛ فيكون نهاية المسجد في زمننه الأسطوانة الثامنة من المنبر في جهة المغرب، ويدل على صحة ذلك ما سيأتي أن الوليد زاد بعد عثمان رضي الله عنه في جهة المغرب أسطوانين، ولم يزد أحد بعد الوليد في جهة المغرب شيئا، والباقي من الأسطوانة الثامنة من المنبر أسطوانتان فقط في جهة المغرب، فهما زيادة الوليد، وهناك أسطوان مربعة مرتفعة قدر الجلسة أيضا أمام الأسطوانة بوجاه الداخل من باب السلام، الظاهر أنها جعلت علامة لنهاية زيادة عثمان رضي الله عنه، وابتداء زيادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 الوليد، وإن قلنا بأن نهاية المسجد النبوي المربعة الأولى التي تلي القبلة كما سبقت الإشارة إليه فحينئذ يكون لعمر رضي الله عنه منها إلى جهة المغرب أسطوانتان فيكون نهاية زيادة الأسطوانة السادسة من المنبر، وفي صفها أسطوان مربع قدر الجلسة أيضا أمام الأسطوانة المثمنة اليوم، وتكون زيادة عثمان رضي الله عنه إلى الأسطوانة التي بعدها في جهة المغرب وهي السابعة، وتبقى للوليد منها إلى جدار المسجد ثلاثة أساطين، وسيأتي في عمارته رواية تقتضي ذلك، على أن الذي أفهمه من كلام متقدمي المؤرخين كما قدمناه في حدود المسجد أن المربعة حيث أطلقت في جهة المغرب فالمراد بها الأسطوانة المقابلة لمربعة القبر في جهة المغرب عند ركن صحن المسجد قبل زيادة الرواقين الآتي بيانهما، وهي المثمنة اليوم، وفي ركني الصحن الشاميين أسطوانتان على هيأتها أيضا، وتثمينها حادث كما تقدم بيانه، ويعبرون عنها بالمربعة الغربية، وهي السادسة من المنبر؛ فيترجح بذلك أنها نهاية زيادة عمر وابتداء زيادة عثمان رضي الله عنه، ولو كان كما زعم المطري ومن تبعه لكان بعد نهاية زيادة عثمان رضي الله عنه في المغرب خمس أساطين، فيكون كلها للوليد، ولا قائل بذلك، وفيما قدمناه في تحديد المسجد النبوي كفاية في رد ما قالاه. وروى يحيى عن عبد الله بن عطية بن عبد الله بن أنيس قال: بنى عثمان المسجد بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده حجارة منقوشة، وبها عمد الحديد فيها الرصاص، وسقفه ساجا، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه ست أبواب على ما كان على عهد عمر رضي الله عنه: باب عاتكة، أي المعروف بباب الرحمة، والباب الذي يليه أي يقرب من محاذاته في المشرق، وهو باب النساء، وباب مروان: أي المعروف بباب السلام، والباب الذي يقال له باب النبي صلّى الله عليه وسلّم: أي المعروف بباب جبريل، وبابين في مؤخر المسجد. قلت: قوله: «وجعل طوله ستين ومائة ذراع» مخالف لما تقدم من كونه زاد فيه من جهة الشام خمسين ذراعا؛ لأنه قد تقدم أن عمر رضي الله عنه جعل طول المسجد أربعين ومائة ذراع، فلو زاد فيه عثمان خمسين ذراعا لكان طوله في زمنه تسعين ومائة ذراع، على أن الأقرب أن طوله في زمن عثمان كان ستين ومائة ذراع، لما سيأتي في الزيادة بعده. وقوله «وعرضه خمسين ومائة ذراع» مخالف لما تقدم من كونه لم يزد من جهة المغرب سوى أسطوانة واحدة، ولم يزد في جهة المشرق شيئا، بل هذه الرواية خطأ؛ للاتفاق على أن عثمان رضي الله عنه لم يزد من جهة المشرق شيئا؛ فيكون نهايته في زمنه الحجرة الشريفة، وذرع المسجد اليوم من جداره الغربي إلى جدار الحجرة الشريفة لا يبلغ خمسين ومائة ذراع، بل ينقص عن ذلك أكثر من سبعة أذرع، ثم تبقى زيادة الوليد من جهة المغرب، وهي متفق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 عليها أيضا؛ فالصواب أنه لم يزد من المغرب سوى أسطوانة، وأن عرض المسجد في زمنه نحو مائة وثلاثين ذراعا، والله أعلم. وروى يحيى كما في النسخة التي رواها ابنه عن أبي الحسن المدائني أنه قال في حديث ساقه: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم خط لجعفر بن أبي طالب دارا وهو بأرض الحبشة، فاشترى عثمان نصفها بمائة ألف، فزادها في المسجد. قلت: تقدم في زيادة عمر رضي الله عنه نقل مثل ذلك عن فعل عمر رضي الله عنه؛ فيحتمل أن كلا منهما شرى نصف ذلك وأدخله مرتبا، والله أعلم. وروى ابن زبالة عن عبد الله بن عمر بن حفص قال: مدّ عمر بن الخطاب جدار القبلة إلى الأساطين التي إليها المقصورة اليوم، ثم زاد عثمان بن عفان حتى بلغ جداره اليوم، قال: فسمعت أبي يقول: لما احتيج إلى بيت حفصة قالت: فكيف بطريقي إلى المسجد؟ فقال لها: نعطيك أوسع من بيتك، ونجعل لك طريقا مثل طريقك، فأعطاها دار عبيد الله بن عمر، وكانت مربدا «1» . قلت: وهذه العبارة محتملة لأن القائل «نعطيك إلى آخره» عمر أو عثمان رضي الله عنهما، ويرجح الثاني أنه أورده في سياق زيادة عثمان رضي الله عنه، وأنه روى عقبة عن عبد الرحمن بن سعد عن أشياخه أن عمر قدم جدار القبلة إلى المقصورة، ثم قدمه عثمان إلى موضعه اليوم، وأخل بقية دار العباس بن عبد المطلب مما يلي القبلة والشام والمغرب، وأدخل بعض بيوت حفصة بنت عمر مما يلي القبلة، فقام المسجد على تلك الحال حتى زاد فيه الوليد. قلت: تقدم في زيادة عمر رضي الله عنه أن الحافظ ابن حجر نقل عن ابن شبة أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد اشترتها حفصة أم المؤمنين، فلم تزل في يدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان، فطلبوها منها ليوسع بها في المسجد، فامتنعت وقالت: كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها: نعطيك دارا أوسع منها ونجعل لك طريقا مثلها، فسلمت وضيت، والذي ذكره ابن شبة في علم دور أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما سنذكره عنه في الدور التي كانت حول المسجد من أن حفصة اتخذت دارها التي في قبلة المسجد لها خوخة في المسجد، فورثها عبد الله بن عمرن وذكر ما سيأتي في أصل هذه الدار من كونها كانت مربدا كما سيأتي، ثم ذكر لحفصة دارا أخرى، ثم قال: وأخبرني مخبر قال: كان بيت أبي بكر الذي أذن له النبي صلّى الله عليه وسلّم في إبقاء خوخته بيد عبد الله بن   (1) المربد: موقف الإبل ومحبسها، وبه سمي مربد البصرة. وربد بالمكان: أقام به. وحبس به. والتمر خزنه في المربد. (ج) مرابد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 عمر، وهو البيت الذي على يمينك إذا دخلت دار عبد الله من الخوخة التي في المسجد، فتلقاك هناك خوخة في جوف الخوخة التي هي الطريق المبوب، فتلك الخوخة خوخة أبي بكر، قال: وكانت حفصة ابتاعت ذلك المسكن من أبي بكر، والدار الذي ذكرت فوق هذه الشارعة على باب دار عبد الله إلى جنب دار هشام، فباع أبو بكر رضي الله عنه ذلك المسكن وتلك الدار من حفصة بأربعة آلاف درهم، ونقدها عنها عثمان بن عفان، وإنما باع ذلك أبو بكر لناس قدموا عليه من بني تميم فسألوه. ثم قال ابن شبة: حدثنا محمد بن يحيى عن عبد الله بن عمر بن حفص قال: سمعت أبي يقول: لما احتيج إلى بيت حفصة قالت: وكيف طريقي في المسجد؟ فقيل لها: نعطيك أوسع من بيتك ونجعل لك طريقا مثل طريقك، فأعطاها دار عبد الله بن عمر، وكانت مربدا، انتهى. والذي يقتضيه قوله «وأخبرني مخبر» تضعيف هذه الرواية. وقد روى في ذكر دور بني تيم كما قدمناه أن دار أبي بكر المذكورة كانت شارعة في دار القضاء في غربي المسجد، وقد صدّر كلامه بأن أصل دار حفصة إنما هو المربد، وختم كلامه بذلك. وقوله «لما احتيج إلى بيت حفصة» المراد به سكنها، هو الذي كان شارعا في المسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم كما سيأتي بيانه، والله أعلم. وتقدم في زيادة عمر رضي الله عنه ما رواه يحيى من أن عثمان رضي الله عنه شرى دار العباس فزادها في المسجد إلا ثلاثة عشر ذراعا أو أربعة عشر ذراعا، فقال الراوي: لا أدري أكان ابتاع البقية أم لا، وحملناه على أن المراد بدار العباس ما بقي منها بعد ما زاده عثمان رضي الله عنه، والظاهر أن تلك البقية هي التي دخلت في دار مروان. وقد ذكر ابن زبالة ويحيى وابن النجار اتخاذ مروان لداره عقب ذكر زيادة عثمان رضي الله عنه؛ فيحتمل أنه اتخذها في حال زيادة عثمان رضي الله عنه أو بعده، وهو الظاهر؛ لأنهم ذكروا أنه اتخذ لها خوخة في المسجد من جهة القبلة، ثم قال: أخشى أن أمنعها، فجعل لها بابا عن يمينك حين تدخل، ثم جعل الباب الثالث الذي على باب المسجد، كما سيأتي، والله أعلم. الفصل الخامس عشر في المقصورة التي اتخذها عثمان رضي الله عنه في المسجد وما كان من أمرها بعده روى ابن زبالة وابن شبة عن عبد الرحمن بن سعد عن أشياخه أن أول من عمل المقصورة بلبن عثمان بن عفان، وأنه كانت فيه كوى ينظر الناس منها إلى الإمام، وأن عمر بن عبد العزيز هو الذي جعلها من ساج حين بنى المسجد. وروى الأول أيضا عن عيسى بن محمد بن السائب ومحمد بن عمرو بن مسلم بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 السائب ابن خباب وعمر بن عثمان بن عبد الرحمن أن عثمان بن عفان أول من وضع المقصورة من لبن، واستعمل عليها السائب بن خباب، وكان رزقه دينارين في كل شهر، فتوفي عن ثلاثة رجال: مسلم، وبكير، وعبد الرحمن، فتواسوا في الدينارين، فجريا في الديوان على ثلاثة منهم إلى اليوم، قال ابن زبالة: وقال مالك بن أنس: لما استخلف عثمان بعد مقتل عمر بن الخطاب عمل عثمان مقصورة من لبن، فقام يصلي فيها للناس خوفا من الذي أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت صغيرة. وروى يحيى هذا كله في زيادة عثمان رضي الله عنه، ثم روى في زيادة الوليد عن عبد الحكم بن عبد الله بن حنطب قال: أول من أحدث المقصورة في المسجد مروان بن الحكم، بناها بالحجارة المنقوشة، وجعل لها كوى، وكان بعث ساعيا «1» إلى تهامة، فظلم رجلا يقال له دب، فجاء دب إلى مروان، فقام حيث يريد أن يقوم مروان، حتى إذا أراد أن يكبر ضربه بسكين فلم يصنع شيئا، فأخذه مروان فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: بعثت عاملا فأخذ ذودي بمرة «2» ، وتركني وعيالي لا يجد شيئا، فقلت: أذهب إلى الذي بعثك فاقتله؛ فهو أصل هذا، فجاء ما ترى، فحبسه مروان حينا في السجن، ثم أمر به فاغتيل سرا، فكانت المقصورة. ورواه ابن شبة بنحوه، إلا أنه سمى الرجل في موضع دبا، وفي آخر ذبابا، وقال: بعثت عاملك، فأخذ مني بقرة، فتركني وعيالي لا نجد شيئا، وأنا امرؤ خبيث النفس، فقلت: أذهب إلى الذي بعثه فأقتله فهو أصل هذا، فجاء ما ترى، فحبسه مروان في الحبس حينا، ثم أمر به فاغتيل سرا، وعمل المقصورة. قلت: وجزم بذلك في العتبية فيما حكاه ابن رشد في بيانه، فقال في كتاب الصلاة: مسألة قال مالك: أول من جعل المقصورة مروان بن الحكم حين طعنه اليماني، قال: فجعل مقصورة من طين، وجعل فيها تشبيكا، انتهى. قال ابن رشد في شرح ذلك: وجه قوله هذا الإعلام بأن المقصورة محدثة لم تكن على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا على عهد الخلفاء بعده، وإنما أحدثها الأمراء للخوف على أنفسهم، فاتخاذها في الجوامع مكروه انتهى. وفي شرح مسلم للنووي أن أول من اتخذ المقصورة في المسجد معاوية رضي الله عنه حين ضربه الخارجي، انتهى.   (1) الساعي: عامل الصدقات. (ج) سعاة. (2) الذود: القطيع من الإبل بين الثلاث إلى العشر. وفي الحديث: «ليست فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة» . وفي المثل: «الذود إلى الذود إبل» : يضرب في اجتماع القليل إلى القليل حتى يؤدّي إلى الكثير. (خ) أذواد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وأفهم كلام ابن زبالة أنها كانت في زمن عمر بن عبد العزيز مرتفعة عن أرض المسجد؛ لأنه ذكر في زيادة المهدي أنه أمر بالمقصورة فهدمت وخفضت إلى مستوى المسجد، وكانت مرتفعة ذراعين عن وجه المسجد، فأوطأها مع المسجد، وكأن المراغي فهم أن المراد بذلك سقف المقصورة لا أرضها، فإنه قال في زيادة المهدي: وخفض سقف المقصورة، وكانت مرتفعة ذراعين عن وجه المسجد فأوطأوها المسجد، انتهى. ورأيت لفظة «سقف» ملحقة بخطه، والظاهر أن ذلك هو المراد، وذكر المطري ما يقتضي أن المهدي جعلها من خشب على الرواق القبلي بأجمعه، وهو مراد ابن جبير بقوله في رحلته- بعد أن ذكر أن في الجهة القبلية من المسجد خمس بلاطات- يعني أروقة، قال: والبلاط المتصل بالقبلة من الخمس المذكورة تحويه مقصورة تكنفه طولا من غرب إلى شرق، والمحراب فيها، انتهى. وقد احترقت هذه المقصورة في حريق المسجد الأول، والله أعلم. الفصل السادس عشر في زيادة الوليد بن عبد الملك على يد عمر بن عبد العزيز نقل رزين أن المسجد بعد أن زاد فيه عثمان رضي الله عنه لم يزد فيه علي ولا معاوية رضي الله عنهما، ولا يزيد ولا مروان، ولا ابنه عبد الملك شيئا، حتى كان الوليد بن عبد الملك- وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة ومكة- بعث الوليد إلى عمر بن عبد العزيز بمال وقال له: من باعك فأعطه ثمنه، ومن أبي فاهدم عليه وأعطه المال، فإن أبى أن يأخذه فاصرفه إلى الفقراء، انتهى. وقال ابن زبالة: حدثني عبد العزيز بن محمد عن بعض أهل العلم قال: قدم الوليد بن عبد الملك حاجا، فبينا هو يخطب الناس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ حانت منه التفاتة فإذا بحسن بن حسن بن علي بن أبي طالب في بيت فاطمة في يده مرآة ينظر فيها، فلما نزل أرسل إلى عمر بن عبد العزيز فقال: لا أرى هذا قد بقي بعد، اشتر هذه المواضع، وأدخل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، واسدده. وروى يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن عبد العزيز بن محمد بنحوه. وروى أيضا عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: بينما الوليد يخطب على المنبر إذ انكشفت الكلة «1» عن بيت فاطمة عليها السلام، وإذا حسن بن حسن يسرّح لحيته، وهو يخطب على المنبر، فلما نزل أمر بهدم بيت فاطمة رضي الله عنها.   (1) الكلّة: ستر رقيق مثقّب يتوقّى به من البعوض وغيره. (ج) كلل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 قال يحيى: وحدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي رضي الله عنهما مثله، وزاد فيه أن حسن بن حسن وفاطمة بنت الحسين أبوا أن يخرجوا منه، فأرسل إليهم الوليد بن عبد الملك: إن لم تخرجوا منه هدمته عليكم، فأبوا أن يخرجوا، فأمر بهدمه عليهم وهما فيه وولدهما، فنزع أساس البيت وهم فيه، فلما نزع أساس البيت قالوا لهم: إن لم تخرجوا قوّضناه «1» عليكم، فخرجوا منه حتى أتوا دار علي نهارا. وروى ابن زبالة عن منصور مولى الحسن بن علي قال: كان الوليد بن عبد الملك يبعث كل عام رجلا إلى المدينة يأتيه بأخبار الناس وما يحدث بها، قال: فأتاه في عام من ذلك، فسأله، فقال: لقد رأيت أمرا لا والله ما لك معه سلطان ولا رأيت مثله قط، قال: وما هو؟ قال: كنت في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا منزل عليه كلة؛ فلما أقيمت الصلاة رفعت الكلة وصلى صاحبه فيه بصلاة الإمام هو ومن معه، ثم أرخيت الكلة، وأتى بالغداء فتغدى هو وأصحابه، فلما أقيمت الصلاة فعل مل ذلك، وإذا هو يأخذ المرآة والكحل وأنا أنظر، فسألت، فقيل: إن هذا حسن بن حسن، قال: ويحك! فما أصنع هو بيته وبيت أمه، فما الحيلة في ذلك؟ قال: تزيد في المسجد وتدخل هذا البيت فيه، قال: فكتب إلى عمر بن عبد العزيز يأمره بالزيادة في المسجد ويشتري هذا المنزل، قال: فعرض عليهم أن يبتاع منهم فأبوا، وقال حسن: والله لا نأكل له ثمنا أبدا، قال: وأعطاهم به سبعة آلاف دينار أو ثمانية، فأبوا، فكتب إلى الوليد بن عبد الملك في ذلك، فأمره بهدمه وإدخاله، وطرح الثمن في بيت المال، ففعل، وانتقلت منه فاطمة بنت حسين بن علي إلى موضع دارها بالحرة فابتنتها. قلت: وسيأتي بقية هذا الخبر في ذكر بئرها، إن شاء الله تعالى. قال ابن زبالة: وحدثني غير واحد من أهل العلم منهم: إبراهيم بن محمد الزهري عن أبيه عن عبد الرحمن بن حميد، ومحمد بن إسماعيل عن محمد بن عمار عن جده، ومحمد بن عبد الله عن عبيد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر بن حفص وعبد العزيز بن محمد عن عبيد الله ابن عمر بن حفص، وسليمان بن محمد بن أبي سبرة ومحمد بن طلحة عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان، وبعضهم يزيد على بعض، أن عمر بن عبد العزيز لما جاءه كتاب الوليد بهدم المسجد والزيادة فيه بعث إلى رجال من آل عمر، فقال: إن أمير المؤمنين كتب إلى أن أبتاع بيت حفصة، وكان عن يمين الخوخة: أي خوخة آل عمر، وكان بينه وبين منزل عائشة الذي فيه قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طريق، وكانتا يتهاديان الكلام وهما في منزليهما من قرب ما بينهما، فلما دعاهم قال: إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أبتاع هذا المنزل وأدخله في   (1) قوّضناه عليكم: هدمناه عليكم. وانقاض الجدار أو الكثيب: تهدم وانهال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 المسجد، قالوا: ما نبيعه بشيء، قال: إذا أدخله في المسجد، قالوا: أنت وذاك، أنت وذاك، فأما طريقنا فإنا لا نقطعها، فهدم البيت وأعطاهم الطريق ووسعها لهم حتى انتهى بها إلى الأسطوان، وكانت قبل ذلك ضيقة قدر ما يمر الرجل منحرفا. قال عبد العزيز بن محمد: فكنت أسمع عبيد الله بن عمر يقول: لا أخرجني الله من الدنيا حتى أراها قد سدت، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يلقى الصور الصور. قلت: وسنورد بقية هذا الخبر. وروى يحيى في قصة هذه الدار عن مالك بن أنس في جملة خبر أن الحجاج قال لعبيد الله ابن عبد الله بن عمر: بعني منزل حفصة، قال: لا والله ما كنت لآخذ لبيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمنا أبدا، قال: إذا والله أهدمه، قال: والله لا تهدمه إلا على ظهري، فأمر الحجاج صائحا صاح الناس بالعتل «1» والمساحي والفوس، فقام عبد الله فدخل بيت حفصة، وجاء الغوغاء بالعتل والفوس، فأمرهم الحجاج بهدمه، فصعدوا ليهدموه وعبيد الله فيه، فجاءت بنو عدي إلى عبيد الله فقالوا له: ما أضعفك! هو يتأسف على قتل أبيك ويزع عن قتلك، فأخرجوه، فهدمه الحجاج، وكتب إلى الوليد يعلمه ما صنع، وامتناع عبيد الله من الثمن، فكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره يعرض على عبيد الله الثمن، فإن أبى جعل له مكرمة بدله في المسجد، فجعل له عمر الخوخة التي في قبلة المسجد التي إلى دار حفصة اليوم، وهو يقتضي أن الذي هدم دار حفصة هو الحجاج. وعن جعفر بن وردان عن أبيه قال: لما استعمل الوليد عمر بن عبد العزيز على المدينة أمره بالزيادة في المسجد وبنيانه واشتراء ما حوله من المشرق والمغرب والشام، فلما خلص إلى القبلة قال له عبيد الله بن عبد الله بن عمر: لست أبيع هذا، هو من حق حفصة، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسكنها، فقال له عمر: ما أنا بتارككم أو أدخلها المسجد، فلما كثر الكلام بينهما قال له عمر: أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه، وأعطيكم دار الدقيق مكان هذا الطريق، وما بقي من الدار فهو لكم، ففعلوا، وأخرج بابهم في المسجد وهو الخوخة التي في المسجد تخرج في دار حفصة بنت عمر، وأعطاهم دار الدقيق، وقدّم الجدار في موضعه اليوم، وزاد في المشرق ما بين الأسطوان المربعة إلى جدار المسجد اليوم، ومعه عشرة أساطين من مربعة القبر إلى الرحبة إلى الشام، ومده في المغرب أسطوانين، وأدخل فيه حجرات أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأدخل فيه دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التي كان يقال لها القرائن اللاتي يقول فيهن أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط:   (1) العتلة: عمود قصير من الحديد له رأس عريض يهدم به الحائط. ويقلع به الشجر والحجر. (ج) عتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ألا ليت شعري هل تغير بعدنا ... بقيع المصلّى أو كعهدي القرائن وقد سمعنا من يقول: القرائن كانت جنابذ ثلاثا لعبد الرحمن بن عوف، انتهى. قلت: وأخبار المؤرخين متطابقة على أن حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أدخلت في المسجد بأمر الوليد، وقد قدمنا في الفصل التاسع قول عطاء الخراساني: أدركت حجرات أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ يأمر بإدخال حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم، قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها، لكن نقل الزين المراغي عن السهيلي أنه نقل أن الحجر والبيوت خلطت بالمسجد في زمن عبد الملك بن مروان، قال: ويرده تصريح رزين وغيره بضد ذلك. قلت: ولعل مراد من نسب ذلك إلى عبد الملك أنه جعلها للمسلمين يصلون فيها لضيق المسجد من غير هدم لها، وقد كان الناس يصلون فيها قبل إدخالها في المسجد في يوم الجمعة، فقد نقل مالك رحمه الله عن الثقة عنده أن الناس كانوا يدخلون حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلون فيها يوم الجمعة بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان المسجد يضيق عن أهله، قال: وحجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ليست من المسجد، ولكن أبوابها شارعة في المسجد، انتهى. وأما بقية خبر ابن زبالة المتقدم فقد قال عقب ذلك: ثم سام «1» عمر بن عبد العزيز بني عبد الرحمن بن عوف بدارهم، فأبوا، فهدمها عليهم وأدخلها في المسجد، قال عبد الرحمن بن حميد: قذهب لنا متاع في هدمهم، وأدخل حجرات أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يلى المشرق ومن الشام، وأخل القرائن دور عبد الرحمن بن عوف وأدخل دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء، وأبيات هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وأدخل فيه من المغرب دارا كانت لطلحة بن عبيد الله، ودارا كانت لأبي سبرة بن أبي رهم كانت في موضع المربعة التي في غربي المسجد، ودارا لعمار بن ياسر كانت إلى جنب دار أبي سبرة، وبعض دار العباس بن عبد المطلب، فأعلم ما دخل منها في المسجد، فجعل منابر سواريها التي تلي السقف أعظم من غيرها من سواري المسجد، وأدخل دارا كانت لمخارق مولى العباس بن عبد المطلب. قلت: قوله «وأدخل إلى آخره» وإن كان مبنيا لما لم يسم فاعله، لكن إيراده هنا يقتضي أن ذلك كله في زيادة الوليد المذكورة، وفيه نظر؛ لما تقدم من أن عثمان رضي الله عنه زاد   (1) سام: ساوم، مساومة وسواما: فاوضه في البيع والابتياع. والبائع بالسلعة: غالى بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 في المسجد أسطوانا بعد المربعة، فيكون زيادة الوليد بعد ذلك في جهة المغرب، فلا يصح إدخاله لدار أبي سبرة؛ لقوله إنها كانت في موضع المربعة، إلا أن يريد بالمربعة هنا الأسطوانة التي عن يمينك إذا دخلت من الباب الذي يلي دار مروان، وهو باب السلام، وهي الثانية من الباب المذكور، فإنها أول زيادة الوليد؛ لقوله في رواية يحيى المتقدمة «ومده في المغرب أسطوانين» لكن قال ابن شبة نقلا عن ابن أبي يحيى: إنه كانت لأبي سبرة بن أبي رهم دار موضعها عند الأسطوان المربعة التي في المسجد اليمانية الغربية، وكانت جديدة، وكانت هناك دار لعمار بن ياسر، فأدخلتا في المسجد، انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالمربعة الأسطوان المثمنة اليوم التي قدمنا وصفها في زيادة عثمان رضي الله عنه، وقوله «وبعض دار العباس بن عبد المطلب» ظاهر أيضا في أن الوليد أدخل من دار العباس شيئا، ولعله مما كان بقي منها وأدخله مروان في داره، فيستفاد منه أن الوليد أدخل بعض دار مروان وهو ظاهر؛ لما قدمناه من أن دار مروان كانت ملاصقة للمسجد في جهة المغرب ولها خوخة فيه، ولا شك أنه اتخذها قبل زيادة الوليد، فإن وفاة مروان كانت في سنة خمس وستين بعد أن أقام في الخلافة عشرة أشهر. ولنرجع إلى تكميل خبر ابن زبالة المتقدم، قال: قالوا: وكتب الوليد بن عبد الملك إلى ملك الروم «إنا نريد أن نعمر مسجد نبينا الأعظم، فأعنّا فيه بعمال وفسيفساء» ، قالوا: فبعث إليه بأحمال من فسيفساء وبضعة وعشرين عاملا، وقال بعضهم: بعشرة عمال، وقال: قد بعثت إليك بعشرة يعدلون مائة، وبثمانين ألف دينار عونا له. قلت: روى ذلك يحيى أيضا، وذكر في رواية أخرى عن قدامة بن موسى أن ملك الروم، بعث إليه بأربعين. يعني عاملا سمن الروم، وبأربعين من القبط، وبأربعين ألف مثقال ذهب. وفي رواية لرزين: فبعث إليه ثلاثين عاملا، وأربعين من الروم، ومثلهم من القبط، وبثمانين ألف مثقال، وبأحمال من الفسيفساء، وبأحمال من سلاسل القناديل، انتهى. ولنرجع إلى تكميل خبر ابن زبالة له أيضا، قال عقب ما تقدم: وبعث بهذه السلاسل التي فيها القناديل، قالوا: وهدمه عمر بن عبد العزيز سنة إحدى وتسعين- أي بتقديم التاء الفوقية على السين- وبناه بالحجارة المنقوشة المطابقة وقصّة بطن نخل، وعمله بالفسيفساء والمرمر، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب، وهدم حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فأدخلها في المسجد، ونقل لبن المسجد ولبن الحجرات فبنى به داره التي بالحرة فهو فيها اليوم له بياض على اللبن، قال: فبينما أولئك العمال يعملون في المسجد إذ خلا لهم المسجد فقال بعض أولئك العمال من الروم: ألا أبول على قبر نبيهم، فتهيأ لذلك فنهاه أصحابه، فلما همّ أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 يفعل اقتلع فألقى على رأسه، فانتثر دماغه، فأسلم بعض أولئك النصارى، وعمل أحد أولئك الروم على رأس خمس طاقات في جدار القبلة في صحن المسجد صورة خنزير، فظهر عليه عمر بن عبد العزيز فامر به فضربت عنقه، وقال بعض أولئك العمال الذين عملوا الفسيفساء: إنا عملناه على ما وجدنا من صور شجر الجنة وقصورها، انتهى خبر ابن زبالة. وفي خبر يحيى المتقدم عن قدامة بن موسى أن عمر بن عبد العزيز أخمر النورة التي تعمل بها الفسيفساء سنة، وحملوا القصة من بطن نخل منخولة، وعمل الأساس بالحجارة والجدار بالحجارة المطابقة والقصة، وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص، وكان طوله مائتي ذراع وعرضه في مقدمته مائتين وفي مؤخره ثمانين ومائة، وهو من قبل كان مقدمه أعرض، انتهى. وما ذكره في ذرع عرض المسجد غير صحيح؛ لما سيأتي عن ابن زبالة في الفصل الحادي والثلاثين أنه ذكر في موضع آخر أن عرض المسجد من مقدمه في زمنه مائة وخمسة وستون ذراعا، وعرضه من مؤخره مائة وثلاثون ذراعا، وسيأتي أيضا أن الذي حررناه أن عرضه اليوم من مقدمه في جهة القبلة مائة ذراع وسبعة وستون ذراعا ونصف، وأن عرضه من مؤخره في جهة الشام مائة وخمسة وثلاثون ذراعا، ولا شك أن المسجد لم ينقص من عرضه شيء، فهذا الذرع المذكور في هذه الرواية غير صحيح، وقد نقله ابن النجار عن أهل السير، وتعقبه المطري بنحو ما ذكرناه. وروى ابن زبالة عن محمد بن عمار عن جده قال: لما صار عمر بن عبد العزيز إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالي فقال لهم: تعالوا أحضروا بنيان قبلتكم، لا تقولوا غير عمر قبلتنا، فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع مكانه حجرا، فكانت زيادة الوليد بن عبد الملك من المشرق إلى المغرب ستة أساطين، وزاد إلى الشام من الأسطوان المربعة التي في القبر أربع عشر أسطوانا منها عشر في الرحبة وأربع في السقايف الأولى التي كانت قبل، وزاد من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق أربع أساطين في السقايف، فدخل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، وبقي ثلاث أساطين في السقايف. قلت: فاستفدنا من ذلك أن الستة أساطين التي زادها في المشرق والمغرب ليس منها في جهة المغرب سوى اثنتين، وأن أربعة منها في جهة المشرق؛ فيكون ابتداء زيادته في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 المشرق من الأسطوان الاصق اليوم بالشباك الدائر حول الحجرة الشريفة على ما قدمناه في تحديد المسجد النبوي، وذلك هو المراد بقوله «من الأسطوان التي دون المربعة إلى المشرق» وقوله «وبقي ثلاث أساطين» أي من الأربعة المذكورة «في السقايف» أي المسقف الشرقي كما هو اليوم، لكن في رواية يحيى المتقدمة أنه زاد في المشرق ما بين الأسطوان المربعة أي مربعة القبر إلى جدار المسجد يعني الشرقي؛ فعلى هذا يكون له في المشرق ثلاثة أساطين فقط؛ فيحتمل أن يكون له في المغرب ثلاث أيضا، وقوله «وزاد إلى الشام من الأسطوان المربعة التي في القبر- إلى آخره» معناه أنه لما أحدث المسقف الشرقي جعل ابتداءه مما يلي رحبة المسجد مربعة القبر، وجعل في صفها إلى جهة الشام أربع عشر أسطوانا منها عشر في الرحبة وأربع في السقايف التي كانت قبل: أي في المسقف الشامي، فيكون قد صيّر المسقف الشامي رحبة، وجعل المسقف الشامي بعد أربع عشر أسطوانا، فهذا معنى زيادته لهذا العدد. ويستفاد منه: أن جدار المسجد من جهة الشام في زمنه كان بعد ثمان عشرة أسطوانة، من مربعة القبر؛ لأنك إذا ضممت أربع أساطين للسقايف التي أحدثها بدل الأولى إلى الأربع عشرة المذكورة بلغ ذلك، فيكون محل الجدار المذكور قريبا مما يوازي الأسطوان التي قبل المسقف الشامي بأسطوان فيما يليه من الرحبة، وذلك موافق لما تقدم من أنه جعل طوله- يعني من القبلة إلى الشام- مائتي ذراع، فيتحرر من ذلك أن زيادته من جهة الشام على ما ذكر من الذرع في زمن عثمان رضي الله عنه أربعون ذراعا، ويحتمل أن يكون معنى قوله «وزاد إلى الشام من الأسطوان المربعة التي في القبر أربع عشرة أسطوانة» أن المسجد ينتهي في جهة الشام في زمنه بعد أربع عشرة أسطوانا من المربعة إلى جهة الشام؛ فيكون الجدار الشامي في موازاة الأسطوانة الخامسة من طرف الدكاك التي هي المسقف الشامي، وهناك أسطوان في الصف الأوسط من المسقف الشرقي مربع أسفله قدر الجلسة؛ فعلى هذا يكون علامة لذلك، لكنه مخالف لما تقدم من أنه جعل طوله مائتي ذراع، بل يكون طوله على هذا التقدير نحو مائة وستين ذراعا، وذلك هو ما تقدم في طوله زمن عثمان رضي الله عنه، فيكون هذا الاحتمال مردودا، ولكن سيأتي في زيادة المهدي ما يقتضيه، والله أعلم. وروى يحيى عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عمن يثق به من مشايخ البلد أن عمر بن عبد العزيز أمر حين بنى المسجد بأسفل الأساطين فجعل قدر سترة اثنين يصليان إليها وقدر مجلس اثنين يتساندان إليها. وعن صالح بن كيسان قال: لما جاء كتاب الوليد من دمشق لهدم المسجد سار خمس عشرة، فجرد في ذلك عمر بن عبد العزيز، قال صالح: واستعملني على هدمه وبنائه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 فهدمناه بعمال المدينة فبدأنا بهدم بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى قدم علينا الفعلة الذين بعث بهم الوليد، وقال ابن زبالة فيما رواه عن محمد بن عمار عن جده: وكان في موضع الجنائز- أي شرقي المسجد في زمان الوليد بن عبد الملك- نخلتان إذا أتى بالموتى وضعوا عندهما فيصلي عليهم، فأراد عمر بن عبد العزيز قطعهما حين ولي عمل المسجد للوليد بن عبد الملك، وذلك في سنة ثمان وثمانين، فاقتتلت فيهما بنو النجار من الأنصار، فابتاعهما عمر بن عبد العزيز فقطعهما. قلت: ولا ينافي ذلك ما تقدم من أن عمر هدم المسجد في سنة إحدى وتسعين، لجواز أن يكون ولايته لذلك سنة ثمان وثمانين، واستمر في تحصيل الأهبة وشراء الأماكن وتخمير النورة «1» إلى سنة إحدى وتسعين. وفيما رواه يحيى عن حفص بن مروان عن أبيه أن عمر مكث في بنائه ثلاث سنين. قلت: فعلى هذا يكون قد فرغ منه في آخر سنة ثلاث وتسعين، وهي السنة التي عزل فيها عمر عن المدينة، وفيه ردل لقول من زعم أن هدمه كان في سنة ثلاث وتسعين، لكن في رواية لابن زبالة ما يقتضي أن البداءة في هدم المسجد وعمارته كانت في سنة ثمان وثمانين؛ فإنه قال فيها: وابتدأ عمر بن عبد العزيز بناء المسجد سنة ثمان وثمانين، وفرغ سنة إحدى وتسعين، وفيها حج الوليد. قال: ولما فرغ عمر بن عبد العزيز من بنيان المسجد أرسل إلى أبان بن عثمان، فحمل في كساء خز حتى انتهى به إليه، فقال: أين هذا البناء من بنيانكم؟ فقال: بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس، قال: وقال الوليد حين رأى خوخة آل عمر: صانعتهم لمكان الخوخة، هكذا في النسخة التي وقعت لنا، ولعلها لمكان الخؤلة؛ لأن المطري قال: إن الوليد قال له: صانعت أخوالك، وقد كانت أم عمر بن عبد العزيز منهم. وروى يحيى عن جعفر بن وردان عن أبيه ما يقتضي أن المخاطب لأبان بن عثمان هو الوليد؛ فإنه قال: فلما قدم الويد حاجا جعل يطوف في المسجد وينظر إليه ويصيح بعمر: هاهنا، ومعه أبان بن عثمان، فلم استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان وقال: أين بناؤنا من بنائكم؟ قال أبان: إنا بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس. قلت: وكان قد اعتنى عمر بتحسينه؛ فقد روى يحيى عن النضر بن أنس قال: كان عمر ابن عبد العزيز إذا عمل العامل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء فأحسن عملها نفّله «2»   (1) النورة: حجر الكلس. (2) نفّله: أعطاه زيادة على نصيبه الواجب له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 عمر ثلاثين درهما، وذكر هو وابن زبالة ما كان فيه من الكتابات داخله وخارجه وعلى أبوابه فتركناه لزواله. وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد الزهري عن أبيه قال: ولما قدم الوليد بن عبد الملك المدينة حاجا بعد فراغ عمر بن عبد العزيز من المسجد جعل يطوف في المسجد وينظر إلى بنيانه، فقال لعمر بن عبد العزيز حين رأى سقف المقصورة: ألا عملت السقف كله مثل هذا، قال: إذا يا أمير المؤمنين تعظم النفقة جدا، قال: وإن، قال: وكان نفقته في ذلك أربعين ألف دينار. وروى ابن النجار هذا الخبر عن أهل السير بهذا اللفظ، إلا أنه قال: فقال: يا أمير المؤمنين إذا تعظم النفقة جدا، قال: وإن، قال: أتدري كم أنفقت على عمل جدار القبلة وما بين السقفين؟ قال: وكم، قال: خمسة وأربعون ألف دينار، وقال بعضهم: أربعون ألف دينار، قال: والله لكأنك أنفقتها من مالك، وقيل: كانت النفقة في ذلك أربعين ألف مثقال، انتهى. وذكر يحيى رواية ابن زبالة المتقدمة من غير طريقه، وقال عقب قوله: «وكانت النفقة في ذلك أربعين ألف دينار» قال: ثم انتهى إلى القبر فقال ابن الوليد لعمر بن عبد العزيز: من هذا في القبر؟ قال: رسول الله وأبو بكر وعمر، قال: فأين أمير المؤمنين عثمان؟ قال: فأعرض عنه، فألح عليه، فقال: دفن في حال تشاغل من الناس وقد أسيء أدبك. وروى ذلك ابن زبالة أيضا، وزاد فقال: وسمعت بعض أهل العلم يقول: السائل بكار بن عبد الملك، وكان ضعيفا. وقال ابن شبة: حدثنا أيوب بن عمر بن أبي عمرو، قال: أخبرني موسى بن عبد العزيز قال: قال عمر بن عبد العزيز لي: اتكأ الوليد على يدي حين قدم المدينة، فجعل يطوف المسجد ينظر إلى بنائه، ثم أتى بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فوقف عليه، ثم أقبل علي فقال: أمعه أبو بكر وعمر؟ قلت: نعم، قال: فأين أمير المؤمنين عثمان؟ قال: فالله أعلم إني لظننت أنه لا يبرح حتى يخرجهما، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الناس كانوا حين قتل عثمان في فتنة وشغل فذاك الذي منعهم من أن يدفنوه معهم، فسكت. وروى يحيى أنه جعل المقصورة من ساج، قال: وكانت قبل من حجارة، وأن الواقدي قال: حدثني عبد الله بن يزيد قال: كان عمل القبط مقدم المسجد، وكانت الروم تعمل ما خرج من السقف جوانبه ومؤخره، فسمعت سعيد بن المسيب يقول: عمل هؤلاء أحكم، يعني القبط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 الفصل السابع عشر فيما اتخذه عمر في المسجد في زيادة الوليد من المحراب والشّرفات والمنائر، واتخاذ الحرس، ومنعهم من الصلاة على الجنائز فيه أول من أحدث المحراب والشرفات أسند يحيى عن عبد المهيمن بن عباس عن أبيه قال: مات عثمان وليس في المسجد شرفات ولا محراب، فأول من أحدث المحراب والشرفات عمر بن عبد العزيز، وعن القاسم وسالم أنهما نظرا إلى شرفات المسجد فقالا: إنها من زينة المسجد، وأسند أيضا من طريق ابن زبالة ورأيته فيه أن عمر بن عبد العزيز هو الذي عمل الرصاص على طنف «1» المسجد والميازيب التي من الرصاص، فلم يبق من الميازيب التي عمل عمر بن عبد العزيز غير ميزابين: أحدهما في موضع الجنائز، والآخر على الباب الذي يدخل منه أهل السوق الذي يقال له باب عاتكة، ولم يكن للمسجد شرفات حتى عملها عبد الواحد بن عبد الله النصري، وهو وال على المدينة، سنة أربع ومائة، انتهى. فهذا يقتضي أن عمر بن عبد العزيز لم يحدث الشرفات في زيادة الوليد، بل ولا في زمن خلافته بعده، لأن وفاته كانت في رجب سنة إحدى ومائة. وفي سنن البيهقي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ابنوا المساجد واتخذوها جماء» وعن ابن عمر: نهانا- أو نهينا- أن نصلي في مسجد مشرف. قال أبو عبيد: الجم التي لا شرف لها، حكاه في شرح المهذب. قال الزين المراغي: وليس للمسجد شرفات منذ حريقه، وقد جددت له شرفات سنة سبع وستين وسبعمائة في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد صاحب مصر، انتهى. والمراد بالشرفات المذكورة ما على ما أحاط بجدرات صحن المسجد من جوانبه الأربعة، وبينها فرج شبه طاقات الشباك، وهي المرادة فيما حكاه البدر بن فرحون عن القاضي فخر الدين بن مسكين الفقيه الشافعي أنه كان يجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس فيصلي الضحى، وأنه رأى الناس يرتقبون بصلاتهم الشيخ أبا عبد الله بن فرحون ولد البدر، قال: وكان يقوم إذا وصلت الشمس في الحائط الغربي إلى تحت الشبابيك الصغار، قال: فاجتمعت به، وكنت به جاهلا، فقلت له: رأيتك تقوم للضحى قبل وقتها، وقد نهى النبي   (1) الطنف: ما برز من الجبل ونحوه، وكأنه جناح. والسقيفة تشرع وتبنى فوق باب الدار ونحوها للوقاية من المطر. وإفريز الحائط. وما أشرف خارجا عن البناء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 صلّى الله عليه وسلّم عنها حتى ترتفع الشمس وتبيض، فالتفت إليّ وقال: بعد اليوم نؤخر كما قلت، وسكت عني. قلت: وإنما ذكرت ذلك لأن كثيرا من الناس اليوم يشرعون في الصلاة عند وقوع الشمس على رؤوس الشراريف، وذلك قبل ارتفاع الشمس كرمح، والله أعلم. المنارات التي عملها عمر بن عبد العزيز وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن محمد بن عمار عن جده، قال: جعل عمر بن عبد العزيز لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بناه أربع منارات في كل زاوية منه منارة. قال كثير بن حفص: وكانت المنارة الرابعة مطلة على دار مروان، فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن، فأطل عليه، فأمر سليمان بتلك المنارة فهدمت إلى ظهر المسجد، وبابها على باب المسجد، وفي نسخة يحيى «وبابها على المسجد مما يلي دار مروان من قبل المسجد» . قلت: فكان المسجد بعد ذلك له ثلاث منارات فقط، وهو المراد من قول ابن زبالة في موضع آخر: ولمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث منارات طول كل منارة ستون ذراعا، وقال في موضع آخر: وطول المنارة الشرقية اليمانية في السماء خمس وخمسون ذراعا، والمنارة الشرقية الشامية خمس وخمسون، والمنارة الغربية الشامية ثلاث وخمسون، وعرض المنارات ثمان أذرع في ثمان أذرع، اه. وذكر ابن جبير في رحلته ما يقتضي أن المنارتين الشاميتين كانتا صغيرتين، بخلاف الشرقية اليمانية، فإنه قال: وللمسجد المبارك ثلاث صوامع إحداها في الركن الشرقي المتصل بالقبلة، والاثنتان في ركني الجهة الجوفية صغيرتان كأنهما على هيئة برجين، والصومعة الأولى المذكورة على هيئة الصوامع. قلت: فكأن الشاميتين غيرتا بعد ابن جبير؛ فإنهما اليوم على هيئة الشرقية اليمانية المعروفة اليوم بالرئيسية؛ لاختصاص الرئيس بها، وكان طول المنارة الرئيسية في زماننا أولا من رأس هلالها إلى أسفلها خارج المسجد بالبلاط سبعة وسبعين ذراعا، بتقديم السين، ثم سقط منها نحو ثلثها بسبب الصاعقة التي نشأ عنها حريق المسجد الثاني كما سيأتي، فاقتضى الحال هدم جميعها، ثم أعيدت فكان طولها اليوم أزيد من مائة ذراع، فصارت أطول المنارات، ثم ظهر منها خلل بعد، فبعث السلطان الأشرف الشجاعي شاهين الجمالي وأمره بهدمها، فهدمها غير محكم، فحفر أساسها إلى الملك، وأعادها متقنة جدا في عرض جدارها الشرقي من موضع الجنائز شرقي المسجد، وزاد في ارتفاعها أيضا حتى بلغ زيادة عن مائة وعشرين ذراعا، وطول المنارة الشرقية الشامية وهي المعروفة بالسنجارية تسعة- بتقديم التاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 على السين- وسبعون ذراعا، وطول الشامية الغربية المعروفة بالخشبية اثنان وسبعون ذراعا- بتقديم السين فيهما- كل ذلك من أعلى الهلال إلى الأرض الخارجة عن المسجد، وبه يعلم أن المنارات التي كانت في زمن ابن زبالة ليست هي الموجودة اليوم. قال المطري: ولم يزل المسجد على ثلاث منارات إلى أن جددت المنارة الرابعة، وذكر في موضع آخر تجديدها، فقال بعد ذكر خوخة مروان المتقدم ذكرها في ركن المسجد الغربي: إنه شاهد الخوخة المذكورة عند بناء المنارة الكبيرة المتجددة في سنة ست وسبعمائة، أمر بإنشائها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون. قال المطري: وكان باب الخوخة عليها، وهو من ساج، فلم يبل إلى هذا التاريخ، كان مروان يدخل من داره إلى المسجد منها، وقد انسدت- يعني الخوخة- بحائط المنارة الغربي اه. قلت: وقد ذكر البدر بن فرحون بناء هذه المنارة فإنه أدرك ذلك، وذكر أنه لم يوجد عند الحفر أثر لما ذكر من وجود منارة قبلها، فقال ما ملخصه؛ إنه لما حج سلار وبيبرس كلمهما شيخ الخدام شبل الدولة كافور المظفري المعروف بالحريري في بناء المنارة التي بباب السلام اليوم، فأنعما «1» ، ثم خشي أنهما يشتغلان عن ذلك ويستثقلان النفقة، فقال: أنا لا أطلب منكم مالا، عندي من قناديل الذهب والفضة ما يقوم بها وزيادة، فأنعما له بإرسال الصناع، وأمر بالحفر لها في مكانها اليوم، فلم ينزلوا إلا قليلا إذ وجدوا باب مروان ابن الحكم أسفل من أرض المسجد بقدر قامة، ثم وجدوا تحصيب المسجد في أيام مروان بالرمل الأسود يشبه أن يكون من جبل سلع، ثم نزلوا في الأساس حتى بلغوا الماء، ثم أمر الحريري من كان بالمدينة يتعانى البناية كالشيخ إبراهيم البنا والشيخ علي الفراش الحجار وغيرهما ممن ليس له في البناية كبير قدم، فدكوا الأساس، فلما حضر الصناع في الموسم قال مقدمهم للشيخ: لا تبنى حتى تنقض ذلك، فإنّا لا نأمن عاقبته، فامتنع الشيخ، فرجع إلى مصر من حينه، فقال الشيخ لمن كان معه من المعلمين: اعملوا أنتم، فعملوها على ما هي عليه اليوم، وعمّ نفعها؛ لأنها متوسطة المدينة حتى إن رئيس المؤذنين محمد بن إبراهيم قال لي: لو تركت لي هذه المأذنة لكفيت المدينة، وهو حق؛ فإن امتداد المدينة وقوة عمارتها من جهة المغرب، يعني في محاذاة المنارة المذكورة. قال: وكان بعض المؤرخين يذكر أنه كان هناك مأذنة مشرفة على دار مروان، فهدمها   (1) أنعم فلان: أحسن وزاد. وصار في النعيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 غيرة على أهله من مؤذنيها، فلم يوجد لذلك صحة ولا أثر البتة، انتهى ما ذكره ابن فرحون. قلت: وجواب ما ذكره أخيرا أن تلك المنارة تحتمل أن تكون على باب المسجد وسطحه مما يلي دار مروان، وليس لها في الأرض أساس، ويدل على ذلك قوله في الرواية المتقدمة: وبابها على المسجد، أو على باب المسجد؛ فلا يلزم من عدم وجود أثرها عند الحفر عدم وجودها أصلا ورأسا في تلك الجهة، ولم يتعرضوا لذرع هذه المنارة، وكانت أطول منارات المسجد. وقد ذرعتا من أعلى هلالها إلى الأرض، فكان ذلك خمسة وتسعين ذراعا- بتقديم التاء على السين- لكن صارت المنارة الرئيسية المجددة بعد الحريق أطول منها كما سبق، والله أعلم. ويظهر من سياق ما تقدم أن أول جعل المنارات في المسجد كان في زيادة الوليد، ويشهد لذلك ما رواه ابن إسحاق وأبو داود والبيهقي أن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة، فيأتي بسحر، فيجلس على البيت لينظر إلى الفجر، فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن. وروى خالد بن عمرو عن أبي برزة الأسلمي قال: من السنة الأذان في المنارة والإقامة في المسجد. وروى غيره أن الأذان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم كان على أسطوانة في دار عبد الله بن عمر التي في قبلة المسجد. قال ابن زبالة: حدثني محمد بن إسماعيل وغيره قال: كان في دار عبد الله بن عمر أسطوان في قبلة المسجد يؤذن عليها بلال يرقى إليها بأقتاب «1» ، والأسطوان مربعة قائمة إلى اليوم يقال لها المطمار، وهي في منزل عبيد الله بن عبد الله بن عمر. قلت: والظاهر أنها المرادة بقوله في الرواية المتقدمة في قصة الخوخة التي جعلت بدل طريق بيت حفصة: ووسعها لهم حتى انتهى بها إلى الأسطوان. وقال الأقشهري، ومن خطه نقلت: عن عبد العزيز بن عمران قال: كان في دار عبد الله ابن عمر أسطوان في قبلة المسجد يؤذن عليها، وهي مربعة قائمة إلى اليوم. قال الأقشهري: وهي باقية إلى يومنا هذا، قال، يعني عبد العزيز: وكان يقال لها المطمار. وأسند يحيى من طريق عبد العزيز بن عمران عن قدامة العمري عن نافع عن ابن عمر، قال: كان بلال يؤذن على منارة في دارة حفصة ابنة عمر التي تلي المسجد، قال: وكان يرقى   (1) الأقتاب: مفردها (القتب) : الرّحل الصغير على قدر سنام البعير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 على أقتاب فيها، والأسطوان في البيت الذي كان بيد عبيد الله بن عمر الذي يقال له بيت عبد الله بن عمر، وقد كانت خارجة من مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم تكن فيه، وليست فيه اليوم، والظاهر أنه تجوّز في تسمية الأسطوان منارة، وعبد العزيز بن عمران كان كثير الغلط؛ لأن كتبه احترقت؛ فكان يروي من حفظه، فتركوه، ثم الظاهر أن عمر وعثمان رضي الله عنهما لم يتخذا في المسجد منارة، وإلا لنقل. عثمان أول من خلق المسجد ورزق المؤذنين وروى يحيى عن جابر بن عبد الله قال: كان أول من خلّق المسجد، ورزق المؤذنين، وجلس على الدرجة الثالثة من المنبر بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم عثمان رضي الله عنه. اتخاذ حرس للمسجد وروى ابن زبالة عن موسى بن عبيدة أن عمر بن عبد العزيز استأجر حرسا للمسجد لا يحترف فيه أحد. وعن كثير بن زيد قال: نظرت إلى حرس عمر بن عبد العزيز يطردون الناس من المسجد أن يصلّى على الجنائز فيه. وعن عثمان بن أبي الوليد عن عروة بن الزبير أنه قال له: تضربون الناس في الصلاة في المسجد على الجنائز؟ قال: قلت: نعم، قال: أما إن أبا بكر قد صلي عليه في المسجد. قلت: وذكر يحيى ما يقتضي أن الحرس كانوا قبل زمن عمر بن عبد العزيز يمنعون الناس من الصلاة على الجنائز في المسجد؛ فإنه روى عن ابن أبي ذئب عن المقبري أنه رأى حرس مروان بن الحكم يخرجون الناس من المسجد يمنعونهم أن يصلوا فيه على الجنائز. قلت: وأما ما كان من ذلك في زمنه صلّى الله عليه وسلّم فقد روى ابن شبة عن صحابي سقط اسمه من النسخة التي وقفت عليها حديثا محصله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة كان إذا احتضر الميت آذنوه فحضره واستغفر له، حتى إذا قبض انصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن معه، وربما قعد ومن معه فربما طال حبس ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فلما خشينا مشقة ذلك عليه قال بعض القوم لبعض: لو كنا لا نؤذن النبي صلّى الله عليه وسلّم بأحد حتى يقبض، فإذا قبض آذناه، فلم يكن عليه في ذلك مشقة ولا حبس، ففعلنا ذلك، وكنا نؤذنه بالميت بعد أن يموت فيأتيه فيصلي عليه، فربما انصرف، وربما مكث حتى يدفن، فكنا على ذلك حينا، فقلنا: لو لم نشخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحملنا جنائزنا إليه حتى يصلي عليها عند بيته كان ذلك أرفق به، ففعلنا، فكان ذلك الأمر إلى اليوم. الصلاة على الجنائز في المساجد وعن ابن شهاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا هلك الهالك شهده يصلي عليه حيث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 يدفن، فلما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبدّن نقل إليه المؤمنون موتاهم فصلى عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجنائز عند بيته في موضع الجنائز اليوم، ولم يزل ذلك جاريا. قال ابن شبة: وحدثني محمد بن يحيى قال: حدثني من أثق به أنه كان في موضع الجنائز نخلتان إذا أتى بالموتى وضعوا عندهما فصلى عليهم، فأراد عمر بن عبد العزيز حين بنى المسجد قطعهما، فاقتتلت فيهما بنو النجار، فابتاعهما عمر فقطعهما. وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر في قصة اليهوديين «فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد» فدل ذلك على أن الموضع المذكور كان معروفا بذلك. وفي صحيح مسلم من حديث عائشة أنها أمرت أن يمر بجنازة ابن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما نسي الناس! ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد، وفي رواية لها: والله لقد صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه. قلت: ويفهم منه أن ذلك نادر، وأن الكثير من فعله صلّى الله عليه وسلّم ما تقدمت الإشارة إليه. وروى يحيى بسند جيد عن عبد الله بن عمر أنه صلّى على عمر بن الخطاب في المسجد، وفي رواية أخرى له عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبا صلّى على عمر بن الخطاب في المسجد، وبين في رواية أخرى أن ذلك كان عند المنبر، وقد روى ذلك ابن أبي شيبة، وقال في رواية: وضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر. قال الحافظ ابن حجر: وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك، وقد تقررت المذاهب في ذلك. وقال ابن النجار عقب ذكر ما تقدم عن عمر بن عبد العزيز في ذلك: والسنة في الجنائز باقية إلى يومنا هذا، إلا في حق العلويين ومن أراد الأمراء من الأعيان وغيرهم، والباقون يصلّى عليهم خلف الحائط الشرقي من المسجد، إذا وقف الإمام على الجنائز هناك كان النبي صلّى الله عليه وسلّم عن يمينه. انتهى. الشيعة غير الأشراف قلت: وقد انتسخ ما ذكره ابن النجار، وصار يصلي على الجنائز كلها في المسجد، ويخص الأعيان بالصلاة عليهم بالروضة الشريفة بين القبر والمنبر، وغيرهم يصلي عليه أمام الروضة بعد أن يوقف بالجنازة بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم أمام الوجه الشريف إلى عام اثنين وأربعين وثمانمائة في دولة السلطان الظاهر جقمق، فوردت مراسيمه على شيخ الحرم فارس بالأمر بمنع جنائز الشيعة من المسجد، فمنع المنسوبون للشيعة من إدخال جنائزهم إلى المسجد إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 الأشراف العلويين، وجرى الأمر على ذلك إلى يومنا هذا، لا يدخل المسجد إلا جنائز الأشراف وأهل السنة، وحاول بعض أهل المدينة إدخال بعض الشيعة غير الأشراف فقام في ذلك بعض أمراء الترك ومنع منه، وكان صاحبنا العلامة أحد شيوخ المالكية الشيخ شهاب الدين أحمد بن يونس القسنطيني ينكر الصلاة على الموتى بالروضة الشريفة ومقدم المسجد؛ لكون رجلي الميت تصيران إلى جهة الرأس الشريف، حتى إنه أوصى أن يصلّى عليه خارج المسجد في موضع الجنائز، وأكثر قبل وفاته من الاستفتاء في ذلك، وأراني خطوط جماعة من علماء الشام وغيرها من الشافعية وغيرهم يتضمن موافقته على ذلك، وفي كلام بعض الشافعية: ينبغي أن تكون الصلاة بالمسجد خلف الحجرة الشريفة أو شرقيها، والتمس مني الكتابة في ذلك، فكتبت بما حاصله أن الله تعالى قد أوجب على هذه الأمة تعظيم نبيها صلّى الله عليه وسلّم وتوقيره وسلوك الأدب التام معه، ولا شك أن الميت إذا وضع في مقدم الروضة أو المسجد كما يوضع اليوم وإن لم تكن رجلاه في محاذاة الرأس الشريف حقيقة؛ لأن الرأس الشريف في محاذاة صف أسطوان التوبة والمخلقة: أي حذاء الأسطوانات التي تكون خلف المصلى على الميت، لكن تكون رجلاه في محاذاة الجهة المذكورة، وقد تصدق المحاذاة مع البعد، ولو رأينا شخصا اضطجع بذلك المحل من الروضة وجعل رجليه لتلك الجهة الشريفة لأنكرنا ذلك عليه، وما ننكره على الأحياء لا ينبغي أن نفعله بالأموات، وقد تأملت كتب المذاهب الأربعة فلم أر فيها تعرضا لذكر السنة في جهة رجلي الميت، بل ذكر الشافعية فيما إذا حضرت جنائز وصلّى عليها الإمام دفعة وجهين: أصحهما وضع الجميع صفا بين يدي الإمام في جهة القبلة، زاد أبو زرعة العراقي في شرح البهجة: والأولى جعلها عن يمينه، والثاني يوضع الجميع صفا واحدا رأس كل إنسان عند رجل الآخر، ويجعل الإمام جميعهم عن يمينه، ويقف في محاذاة الأخير، هذا إذا اتحد النوع، فإن اختلف النوع تعين الوجه الأول، ذكره في أصل الروضة، ويؤخذ منه استحباب جعل رجلي كل ميت عن يمين الإمام على الوجه الثاني، وإلا فلا يكون الجميع صفا عن يمينه، وأما على الوجه الأول فيؤخذ ذلك أيضا مما تقدم عن أبي زرعة، ولعل مأخذه فيه ما ذكر في الثاني، وإذا ثبت ذلك في الجماعة فالواحد كذلك؛ فيكون الأولى جعل رجليه عن يمين الإمام، ولكن الذي عليه الناس جعلهما على يساره. ورأيت في كتب المالكية ما يقتضي أن ذلك هو الأولى، وأن الناس مضوا على ذلك. وقد ظهر لي أن السر في ذلك أن السلف- كما يؤخذ مما قدمناه- إنما كانوا يصلون على الجنائز خارج المسجد في شرقيه في الموضع المعروف بذلك، والواقف هناك يكون القبر الشريف عن يمينه، فرأوا- والله أعلم- أن الأدب جعل الرجلين عن يسار الإمام صرفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 لهما عن تلك الجهة الشريفة، ثم توارثوا ذلك، واستمر العمل عليه، فلما ترك ذلك وصلوا على الجنائز في المسجد مشوا على ما اعتادوه من جعل رجلي الميت عن يسار الإمام مع الغافلة عن ذلك، وإذا لم تثبت سنة في جعل رجلي الميت عن يسار الإمام فينبغي جعلهما عن يمينه في هذا المحل الشريف، استعمالا لكمال الأدب. وقد قال لي الشيخ فتح الدين بن تقي الدين الكازروني- وكان يعد من فضلاء الشافعية- وقد ذاكرته بذلك: إذا أنا مت فليجعل رجلاي عن يمين الإمام، ففعل به ذلك رحمة الله، على أن الموضع الذي يلي الأرجل الشريفة من المسجد هو من موضع الجنائز في زمنه صلّى الله عليه وسلّم فيما يظهر، ويدل عليه ما اتفق لبني النجار لما أراد عمر بن عبد العزيز قطع النخلتين عند عمارته للمسجد؛ فلو صلّى فيه اليوم على من يدخل به المسجد من الجنائز لكان أولى؛ فإنه يتأتى فيه كون الرجلين عن يسار الإمام والرأس في جهة الأرجل الشريفة، ويكون أفضل لما جرت به العادة من الخروج بالميت من باب جبريل، وأوفق لفعل السلف في الصلاة على موتاهم هناك، ولم يوافق على شيء من ذلك المتمسكون بالعادات، وقد ذكرت نص ما أجبت به في ذلك مبسوطا استطرادا في كتابي «دفع التعرض والإنكار، لبسط روضة المختار» والله أعلم. الفصل الثامن عشر في زيادة المهدي نقل ابن زبالة ويحيى أن المسجد لم يزل على حالة ما زاد فيه الوليد إلى أن هم أبو جعفر المنصور بالزيادة فيه، ثم توفي ولم يزد فيه، حتى زاد فيه المهدي، لكن ذكر يحيى في حكاية ما كان مكتوبا في جدار القبلة ما لفظه: ثم إلى جنب هذا الكتاب- أي ما كتب في زمن المهدي- كتاب كتب في ولاية أبي العباس، يعني السفاح، وصل هذا الكتاب أي كتاب المهدي إليه، وهو: أمر عبد الله عبد الله أمير المؤمنين بزينة هذا المسجد وتزيينه وتوسعته مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ابتغاء رضوان الله وثواب الله، وإن الله عنده ثواب الدنيا والآخرة، وكان الله سميعا بصيرا، انتهى. وهو يقتضي أن أبا العباس السفاح- وهو أول خلفاء بني العباس- زاد في المسجد أول ولايته، وولايته سنة اثنتين وثلاثين، ووفاته سنة ست وثلاثين ومائة، وسنشير إلى محمل ذلك آخر الفصل. ولفظ ما نقله ابن زبالة عن غير واحد من أهل العلم- منهم عبد العزيز بن محمد ومحمد ابن إسماعيل- قالوا: لم يزل المسجد على حال ما زاد فيه الوليد بن عبد الملك حتى ولي أبو جعفر عبد الله- يعني المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس- فهمّ بالزيادة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وأراده، وشاور فيه، وكتب إليه الحسن بن زيد يصف له ناحية موضع الجنائز، ويقول: إن زيد في المسجد من ناحيته الشرقية توسط قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم المسجد، فكتب إليه أبو جعفر: إني قد عرفت الذي أردت، فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتوفي أبو جعفر ولم يزد فيه شيئا، ثم حج المهدي- يعني ابن أبي جعفر- سنة ستين ومائة، فقدم المدينة منصرفه عن الحج، فاستعمل عليها جعفر بن سليمان سنة إحدى وستين ومائة، وأمر بالزيادة فيه، وولّى بناءه عبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز وعبد الملك ابن شبيب الغساني، فمات ابن عاصم، فولي مكانه عبد الله بن موسى الحمصي، وزاد فيه مائة ذراع من ناحية الشام، ولم يزد في القبلة ولا في المشرق والمغرب شيئا، وذلك عشر أساطين في صحن المسجد إلى سقائف النساء، وخمسا سقائف النساء الشامية. وروى يحيى ذلك من طريق ابن زبالة وغيره، وقال في رواية له عقب قوله واستعمل عليها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس: وأمره بالزيادة في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وولاه بناءه هو وعبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز بن مروان وعبد الملك بن شبيب الغساني من أهل الشام، فزيد في المسجد من جهة الشام إلى منتهاه اليوم، وكانت زيادته مائة ذراع، ولم يزد فيه من المشرق ولا المغرب ولا القبلة شيئا. قلت: ما روياه من أنه زاد في مؤخر المسجد مائة ذراع يخالفه ما تقدم في زيادة الوليد أنه جعل طوله مائتي ذراع؛ لأنه يقتضي أن يكون طول المسجد بعد زيادة المهدي ثلاثمائة ذراع، وطول المسجد اليوم على ما صرح به ابن زبالة مائتا ذراع وأربعون ذراعا، وقد اختبرته فزاد على ذلك ثلاثة عشر ذراعا كما سيأتي، ومع ذلك فهو مؤيد لما قدمناه من الاحتمال المتبادر إلى الفهم في الرواية المتقدمة في زيادة الوليد المقتضي لأن نهاية المسجد من جهة الشام في زمنه كانت بعد أربع عشر أسطوانة من مربعة القبر، ومنها إلى آخر المسجد أربع وعشرون أسطوانة فإذا أسقطنا من ذلك أربع عشرة للوليد بقي عشرة أساطين وقدرها نحو مائة ذراع، وهذا معنى قوله في الرواية المتقدمة «وذلك عشر أساطين في صحن المسجد إلى سقائف النساء» أي إلى آخر سقائف النساء، وهي المسقف الشامي، وقوله «وخمس في السقائف» أي من العشرة المذكورة، مع أنه يقتضي أن المهدي جعل المسقف المذكور خمس أساطين، وهذا كان في ذلك الزمان كما سنوضحه، وهو اليوم أربع فقط، وقد قدمنا ترجيح أن المراد مما ذكر في زيادة الوليد أنه جعل أربع فقط، وقد قدمنا ترجيح طأن المراد مما ذكر في زيادة الولدي أنه جعل أربع عشرة أسطوانة في الرحبة بما فيها من أربع أساطين في السقائف التي كانت أولا، وأنه جعل السقائف الشامية في زمنه بعد الأربع عشرة المذكورة؛ لموافقة ما ذكره في ذرع المسجد في زمنه ولما ذكر في زيادة عثمان رضي الله عنه من أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 جعل المسجد مائة وستين ذراعا، فإن ذلك يقتضي أن يكون نهايته في جهة الشام يقرب من أربعة عشر أسطوانة من المربعة المذكورة، فيتحصل من ذلك أن زيادة الوليد على ما ذكر في زيادة عثمان رضي الله عنه أربعون ذراعا، وأن زيادة المهدي نحو خمسة وخمسين ذراعا فقط؛ فيكون للمهدي نحو ستة أساطين في مؤخر المسجد، لكن سيأتي في ذكر أبواب المسجد ما يقتضي أن الباب الذي كان يواجه دار خالد بن الوليد كان مكتوبا عليه: زيادة المهدي، وكذا الباب الذي بعده في الشام عليه ما يقتضي ذلك، وكذا البابان المقابلان لهما في جهة المغرب، دون ما قبل ذلك من الأبواب، وذلك يقتضي ترجيح رواية أنه زاد في المسجد مائة ذراع، وقد رأيت في المسقف الشرقي أسطوانة هي التاسعة من جدار المسجد الشامي مربع أسفلها مرتفع عن الأرض بقدر الجلسة، وهي محاذية لما وصفوه من الباب المقابل لدار خالد بن الوليد، فإن صحت هذه الرواية فهي علامة على ابتداء زيادة المهدي، والله أعلم. وقال ابن زبالة ويحيى في روايتهما المتقدمة أيضا: وكان- يعني المهدي- قبل بنيانه قد أمر به، فقدّروا ما حوله، فابتيع، وكان مما أدخل في المسجد من الور دار مليكة. قال ابن زبالة: وأخبرني إبراهيم بن محمد الزهري عن أبيه قال: كانت دار مليكة لعبد الرحمن بن عوف، وإنما سميت دار مليكة لأن عبد الرحمن أنزلها مليكة ابنة خارجة بن سنان، فغلب عليها اسمها، ثم باعها بنو عبد الرحمن بن عوف من عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فباعها عبد الله حين بناء المسجد، فأدخل بعضها في المسجد، وبعضها في رحبة المسارب، وبعضها في الطريق، قالوا: وأدخل دار شرحبيل بن حسنة وكانت صدقة، فابتاعوا دورا ومنازل فأوقفوها صدقة وبقيت منها بقية، فابتاعها منهم يحيى بن خالد بن برمك فدخلت في الحش حش طلحة. قلت: وقد ذكر ابن شبة دار مليكة وقال: فباعها عبد الله من معاوية رضي الله عنه، فصارت في الصوافي؛ فأدخلها المهدي في المسجد، وذكر دار شرحبيل هذه في ترجمة علم دور أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة: أي غير الحجر، فقال: قال أبو غسان: اتخذت أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها الدار التي يقال لها دار آل شرحبيل، فوهبتها لشرحبيل بن حسنة، فلم تزل لبنيه حتى باعوا صدرها من المهدي فزادها في مؤخر مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة إحدى وستين ومائة، ثم ذكر ما سنورده في ذكر الدور المطيفة بالمسجد. وقال ابن زبالة عقب ما تقدم: وأدخل بقية دار عبد الله بن مسعود التي يقال لها دار القراء، ودار المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة. قلت: ذكر ابن شبة هذه الدار في دور بني زهرة، فقال: واتخذ مخرمة بن أهيب بن نوفل دارا، وهي في زاوية المسجد عند المنارة الشرقية اليمانية، فاشترى المهدي بعضها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 فأدخله في رحبة المسجد القصيا وفي الطريق، وبيعت بقيتها فصارت لرجل من آل مطرف ثم صارت لبعض بني برمك ثم صارت صافية اليوم، انتهى. وقوله «المنارة الشرقية اليمانية» تحريف والصواب الشامية. قال ابن زبالة ويحيى عقب ما تقدم: وفرغ من بنيان المسجد سنة خمس وستين ومائة، وقد كان هم بسد خوخة آل عمر، وأمر بالمقصورة فهدمت وخفضت إلى مستوى المسجد، وكانت مرتفعة ذراعين عن وجه المسجد، فأوطأها مع المسجد، فكلمه آل عمر في خوختهم حتيكثر الكلام بينهم، فأذن لهم ففتحوها وخفضوها في الأرض شبه السرب؛ فصارت في المسجد أي: خارج المقصورة عليها شباك حديد، وزاد في المسجد لتلك الخوخة ثلاث درجات؛ فهي على ذلك إلى اليوم. ويؤخذ مما ذكره ابن زبالة من الكتابة على أبواب المسجد في زمن المهدي أنه زخرفه بالفسيفساء كما فعل الوليد، ويشهد لذلك بقية من الفسيفساء كانت فيما زاده في مؤخر المسجد عند المنارة الغربية الشامية، وفيما يقرب منها من الحائط الغربي، ولم أر في كلام أحد من مؤرخي المدينة أن المسجد الشريف زيد فيه بعد المهدي، لكن قال الزين المراغي ما لفظه: وقيل: إن المأمون زاد فيه، وأتقن بنيانه أيضا في سنة اثنتين ومائتين. قال السهيلي: وهو على حاله، ورزين ينكر ذلك، ويمكن الجمع بأنه جدده ولم يزد، انتهى. قلت: ولم أر في كلام رزين تعرضا لحكاية ذلك حتى ينكره، وهذا بعيد جدّا؛ لأن من أدرك زمن المأمون من مؤرخي المدينة لم يتعرض لشيء من ذلك، نعم رأيت في المعارف لابن قتيبة بعد ذكر زيادة المهدي ما لفظه: وزاد فيه المأمون زيادة كثيرة ووسعه، وقرأت على موضع زيادة المأمون: أمر عبد الله بعمارة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة اثنتين ومائتين، وذكر أشياء من الأمر بالعدل وتقوى الله، وهذا لا دلالة فيه على زيادة المأمون في المسجد لاحتمال أنه وقع في زمنه عمارة من غير أن يزيد فيه، على أن في كلام يحيى وغيره في حكاية ما كان مكتوبا في المسجد ما يدل على كتابة مثل ذلك لمن تجددت ولايته من الخلفاء فقط، والله أعلم. الفصل التاسع عشر فيما كانت عليه الحجرة الشريفة الحاوية للقبور المنيفة في مبدأ الأمر قد قدمنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بنى المسجد بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من لبن وجريد النخل، قال ابن النجار: وكان لبيت عائشة رضي الله عنها مصراع واحد من عرعر أو ساج، وتقدم أيضا في الفصل التاسع عن جماعة ممن أدرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أدخلت في المسجد أنها كانت من جريد مستورة بمسوح الشعر، وأن عمران بن أبي أنس قال: كان فيها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد، الخبر المتقدم. أول من بنى جدارا على بيت عائشة قلت: وكان بيت عائشة رضي الله عنها أحد الأربعة المذكورة. لكن سيأتي من رواية ابن سعد أنه لم يكن عليه حائط زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن أول من بنى عليه جدارا عمر بن الخطاب، وليحمل على أن حجرة الجريد التي كانت مضافة له، أبدلها عمر بجدار، جمعا بين الروايات، وتقدم أيضا قول عبد الله بن يزيد الهذلي: ورأيت حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم حين هدمها عمر بن عبد العزيز مبنية باللبن حولها حجر من جريد ممدودة، إلا حجرة أم سلمة، وقول الحسن البصري: كنت أدخل بيوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا غلام مراهق، وأنال السقف بيدي، وكان لكل بيت حجرة، وكانت حجره من أكسية من شعر مربوطة في خشب عرعر. قلت: والظاهر أن ما يستر به الحجر المذكورة هو المراد في حديث كشفه صلّى الله عليه وسلّم لسجف حجرته، كما في الصحيح، والسجف لغة: الستر. وفي التحفة لابن عساكر عن داود بن قيس أنه قال: أظن عرض البيت من الحجرة إلى باب البيت نحو من ست أو سبع أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والتسع نحو ذلك، ووقفت عند باب عائشة فإذا هو مستقبل المغرب، وهو صريح في أن الباب كان في جهة المغرب، وسيأتي ما يؤيده. وكذا ما روى في الصحيح من كشفه صلّى الله عليه وسلّم سجف الباب في مرضه وأبو بكر رضي الله عنه يؤم الناس، وترجيل عائشة رضي الله عنها شعره وهو في معتكفه وهي في بيتها كما تقدم في حديث: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وفي رواية النسائي: يأتيني وهو معتكف في المسجد، فيتكئ على عتبة باب حجرتي، فأغسل رأسه وأنا في حجرتي وسائره في المسجد، لكن سبق أيضا ما يقتضي أن الباب كان مستقبل الشام، وهو ضعيف أو مؤول، أما ضعفه فلما تقدم من أن بيت فاطمة رضي الله عنها كان ملاصقا له من جهة الشام وأن مربعة القبر كانت باب علي، ويحتمل أن بعضه من جهة الشام كان ملاصقا بيت فاطمة دون بعضه، فيتأتى ذلك، ويدل له ما قدمناه في بيت فاطمة رضي الله عنها من أن الموضع المزور في بناء عمر بن عبد العزيز كان مخرجا للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأما تأويله فبأحد أمرين كما أشار إليه الزين المراغي: أحدهما حمله على أنه باب شرعته عائشة رضي الله عنها لما ضربت حائطا بينها وبين القبور المقدسة بعد دفن عمر رضي الله عنه، لا أنه الباب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الذي كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وفيه بعد؛ لأنه سيأتي ما يؤخذ منه أن الحائط الذي ضربته كان في جهة المشرق، ثانيهما لأنه كان له بابان؛ إذ لا مانع من ذلك، وهذا محمل ما رواه ابن عساكر عن محمد بن أبي فديك عن محمد بن هلال أنه رأى حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من جريد مستورة بمسوح الشعر، فسألته عن بيت عائشة، فقال: كان بابه من جهة الشام، قلت: مصراعا كان أو مصراعين؟ قال: كان باب واحد، قلت: من أي شيء كان؟ قال: من عرعر أو ساج، وهذا مستند ابن عساكر في قوله: وباب البيت شامي، ولم يكن على الباب غلق مدة حياة عائشة، اه. ثم ظفرت في طبقات ابن سعد بما يصرح بأن الحجرة الشريفة كان لها بابان؛ فإنه روي من طرق أنهم صلوا على النبي «بحجرته، وروى في أثناء ذلك عن أبي عسيم قال: لما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: كيف نصلي عليه؟ قالوا: ادخلوا من ذا الباب أرسالا أرسالا فصلوا عليه، واخرجوا من الباب الآخر، والله أعلم. وكان بيت حفصة بنت عمر رضي الله عنها ملاصقا لبيت عائشة رضي الله عنها من جهة القبلة. ونقل ابن زبالة فيما رواه عن عبد الرحمن بن حميد وعبيد الله بن عمر بن حفص وأبي سبرة وغيرهم أنه كان بين بيت حفصة وبين منزل عائشة الذي فيه قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم طريق، وكانتا يتهاديان الكلام وهما في منزليهما، من قرب ما بينهما، وكان بيت حفصة عن يمين الخوخة. قلت: فهو موقف الزائرين اليوم داخل المقصورة وخارجها، كما ذكره المطري، وتقدم في حدود المسجد النبوي أن جدار الحجرة مما يلي المسجد كان في حد القناديل التي بين الأساطين اللاصقة بجدار القبر، وبين الأساطين المقابلة لها، وهي التي إليها المقصورة الدائرة على الحجرة من جهة المغرب، وأن المسجد زيد فيه من تلك الجهة شيء من الحجرة، وأن الظاهر أن ما ترك في المسجد من الحجرة كان من مرافقها كالدهليز للباب، وأن ما بني عليه من ذلك هو صفة بيت عائشة رضي الله عنها التي وقع الدفن بها. هذا ما تحصل لي من كلام متقدمي المؤرخين، خلاف ما اقتضاه كلام متأخريهم، من أن جدار الحجرة الذي [في] جوف الحائز الدائر عليها اليوم هو جدارها الأول، وإليه ينتهي حد المسجد، وأن جدار الحائز الذي جعله عمر بن عبد العزيز إنما جعله فيما يلي الحجرة من المسجد، وقد قدمنا من كلام ابن زبالة والمحاسبي نقلا عن مالك ما يرد ذلك، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 الفصل العشرون فيما حدث من عمارة الحجرة بعد ذلك، والحائز الذي أدير عليها روى ابن زبالة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي «1» حتى دفن عمر؛ فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا. وعن المطلب قال: كانوا يأخذون من تراب القبر، فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم، وكانت في الجدار كوة فكانوا يأخذون منها، فأمرت بالكوت فسدت. وقال ابن سعد في طبقاته: أخبرني موسى بن داود قال: سمعت مالك بن أنس يقول: قسم بيت عائشة باثنين: قسم كان فيه القبر، وقسم كان تكون فيه عائشة وبينهما حائط؛ فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فضلا، فلما دفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها. وقال ابن سعد أيضا: أخبرنا يحيى بن عباد قال: حدثنا حماد بن زيد قال: سمعت عمرو بن دينار وعبيد الله بن أبي يزيد قالا: لم يكن على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم على بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم حائط، وكان أول من بنى عليه جدارا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال عبيد الله بن أبي يزيد: كان جداره قصيرا، ثم بناه عبد الله بن الزبير. وقال الأقشهري: قال أبو زيد بن شبة: قال أبو غسان بن يحيى بن علي بن عبد الحميد وكان عالما بأخبار المدينة ومن بيت كتابة وعلم-: لم يزل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي دفن فيه هو وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ظاهرا حتى بنى عمر بن عبد العزيز عليه الحظار «2» المزور الذي هو عليه اليوم حين بنى المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، وإنما جعله مزورا كراهة أن يشبه تربيعه تربيع الكعبة، وأن يتخذ قبلة فيصلي إليه. قال أبو زيد: قال أبو غسان: وقد سمعت غير واحد من أهل العلم يزعم أن عمر بنى البيت غير بنائه الذي كان عليه، وسمعت من يقول: بنى علي بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أجدر، فدور القبر ثلاثة أجدر: جدار بناء بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وجدار البيت الذي يزعم أنه بنى عليه يعني عمر بن عبد العزيز، وجدار الحظار الظاهر، انتهى ما نقله الأقشهري. قلت: ولم يوجد على الحجرة الشريفة عند انكشافها في العمارة التي أدركناها غير جدار واحد جوف الحظار الظاهر. وقال ابن سعد: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي المكي قال: حدثنا مسلم بن   (1) الفضل: المرأة إذا لبست ثياب مهنتها وكانت في ثوب واحد. ويقال: امرأة فضل: مختالة تفضل في ذيل ثيابها. (2) الحظار: كل شيء حجز بين شيئين كحائط البستان. والأرض المحوطة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 خالد قال: حدثني إبراهيم بن نوفل بن سعيد بن المغيرة الهاشمي عن أبيه قال: انهدم الجدار الذي على قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم في زمان عمر بن عبد العزيز، فأمر بعمارته، قال: فإنه لجالس وهو يا بني إذ قال لعلي بن حسين: قم يا علي فقمّ البيت «1» ، يعني بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقام إليه القاسم ابن محمد قال: وأنا أصلحك الله، قال: نعم وأنت فقم؛ ثم قال له سالم بن عبد الله: وأنا أصلحك الله، قال: اجلسوا جميعا، وقم يا مزاحم، فقمّه، فقام مزاحم فقمه، قال مسلم: وقد أثبت لي بالمدينة أن البيت الذي فيه قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بيت عائشة، وأن بابه وباب حجرته تجاه الشام. وأن البيت كما هو سقفه على حاله، وأن في البيت جرة وخلق رخالة، انتهى. وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن غير واحد منهم إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن أبيه قال: جاف «2» بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم من شرقيه، فجاء عمر بن عبد العزيز ومعه عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، فأمر ابن وردان أن يكشف عن الأساس، فبينا هو يكشفه إلى أن رفع يده وتنحّى واجما، فقام عمر بن عبد العزيز فزعا، فقال عبد الله ابن عبيد الله: أيها الأمير لا يروعنّك فتانك قدما جدك عمر بن الخطاب ضاق البيت عنه فحفر له في الأساس، فقال: يابن وردان غطّ ما رأيت، ففعل. وروى أيضا عن المطلب أنه لما سقط الجدار من شق الجنائز أمر عمر بقباطيّ فخيطت «3» ، ثم ستر بها، وأمر أبا حفصة مولى عائشة وناسا معه فبنوا الجدار، فجعلوا فيه كوة، فلما فرغوا منه ورفعوه دخل مزاحم مولى عمر فقمّ ما سقط على القبر من التراب والطين، ونزع القباطي، وكان عمر يقول: لأن أكون وليت ما ولي مزاحم من قمّ القبور أحب إلي من أن يكون لي من الدنيا كذا وكذا، وذكر مرغوبا من الدنيا. وروى يحيى من طريقه أيضا عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: كنت أخرج كل ليلة من آخر الليل حتى آتي المسجد، فأبدأ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم عليه، ثم آتي مصلاي فأجلس به حتى أصلي الصبح، فخرجت في ليلة مطيرة حتى إذا كنت عند دار المغيرة بن شعبة لقيتني رائحة لا والله ما وجدت مثلها قط، فجئت المسجد فبدأت بقبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا جداره قد انهدم، فدخلت فسلمت على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومكثت فيه مليا، وذكر صفة القبور كما سيأتي عنه، قال: فلم ألبث أن سمعت الحس، فإذا عمر بن عبد العزيز قد أخبر فجاء، فأمر به فستر بالقباطي، فلما أصبح دعا وردان البناء فقال له: ادخل فدخل فكشف فقال: لا بد لي   (1) قمّ البيت: كنسه. والشاة ونحوها: تناولت بشفتيها ما وجدت على وجه الأرض لتأكله. (2) جاف: نتن، ظهرت له رائحة كريهة. (3) القباطي: (ج) القبطية: ثياب من كتان بيض رقاق، كانت تنسج في مصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 من رجل يناولني، فكشف عمر بن عبد العزيز ساقيه يريد يدخل، فكشف القاسم بن محمد، فكشف سالم بن عبد الله، فقال عمر: مالكم؟ فقالوا: ندخل والله معك، قال: فلبث عمر هنيهة ثم قال: والله لا نؤذيهم بكثرتنا اليوم، ادخل يا مزاحم فناوله، فقال عمر: يا مزاحم كيف ترى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: متطاطيا، قال: فكيف ترى قبر الرجلين؟ قال: مرتفعين. قال: أشهد أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورواه رزين عن عبد الله المذكور باختصار، وخالف سياق يحيى في وصف القبور كما سيأتي التنبيه عليه، وقال فيه: فأخبرت بذلك عمر، فجاء فأمر به فستر بالقباطي، وذكره بنحوه. وفي العتبية: قال مالك: انهدم حائط بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي فيه قبره، فخرج عمر بن عبد العزيز واجتمعت رجالات قريش، فأمر عمر بن عبد العزيز فستر بثوب، فلما رأى ذلك عمر بن عبد العزيز من اجتماعهم أمر مزاحما أن يدخل ليخرج ما كان فيه، فدخل فقمّ ما كان فيه من لبن أو طين، وأصلح في القبر شيئا كان أصابه حين انهدم الحائط، ثم خرج وستر القبر ثم بنى، انتهى. وروى البخاري في الصحيح من حديث هشام بن عروة عن أبيه، قال: لما سقط عنهم الحائط زمان الوليد بن عبد الملك أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدم، ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما وجدوا أحدا يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما هي إلا قدم عمر. ويستفاد مما تقدم أن السبب في هذا البناء سقوط الجدار المذكور بنفسه، ولعله بسبب المطر المشار إليه في الرواية المتقدمة. ويخالفه ما رواه أبو بكر الآجرى من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر، فأمر به عمر ابن عبد العزيز فرفع حتى لا يصل إليه أحد، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال: ساق عمر وركبته! فسرّي «1» عن عمر بن عبد العزيز. ومن طريق مالك بن مغول عن رجاء بن حيوة قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز، وكان قد اشترى حجر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن اهدمها ووسع بها المسجد، فقعد عمر في ناحية، ثم أمر بهدمها، فما رأيت باكيا أكثر من يومه، ثم بناها كما أراد، فلما أن بنى البيت على القبر وهدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة، وكان الرمل الذي عليها قد انهار، ففزع عمر بن عبد العزيز، وأراد أن يقوم فيسويها بنفسه، فقلت له:   (1) سرّي عنه: زال ما به من هم وفزع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 أصلحك الله! إنك إن قمت قام الناس معك، فلو أمرت رجلا أن يصلحها، ورجوت أن يأمرني بذلك، فقال: يا مزاحم- يعني مولاه- قم فأصلحها. ونقل الأقشهري عن الرشيد أبي المظفر الكازروني شارح المصابيح أنه قال: سألت جمعا من العلماء عن سبب ستر القبور عن أعين الناس: أي باتخاذ جدار لا باب له، فذكر بعضهم أنه لما مات الحسن بن علي أوصى أن تحمل جنازته ويحضر بها قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم يرفع ويقبر في البقيع، فلما أراد الحسين أن يجيز وصيته ظن طائفة أنه يدفن في الحضرة، فمنعوه وقاتلوه، فلما كان عبد الملك أو غيره سدوا وستروا. وقال أبو غسان فيما حكام الأقشهري: أخبرني الثقة عن عبد الرحمن بن مهدي عن منصور بن ربيعة عن عثمان بن عروة قال: قال عروة: نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ألايجعل في المسجد أشد المنازلة، فأبى، وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه، قال: فقلت: فإن كان لا بد فاجعل له حوجوا (أي: وهو الموضع المزور خلف الحجرة) . وروى ابن زبالة عن محمد بن هلال وعن غير واحد من أهل العلم أن بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي فيه قبره صلّى الله عليه وسلّم الذي فيه قبره، وهو بيت عائشة الذي كانت تسكن، وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة الذي يلي القبلة منه أطوله، والشرقي والغربي سواء، والشامي أنقصها، وباب البيت مما يلي الشام، وهو مسدود بحجارة سود وقصة، ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك البيت هذا البناء الظاهر، وعمر بن عبد العزيز زوّاه لأن يتخذه الناس قبلة تخص فيه الصلاة من بين مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد- الحديث» قالوا: والبناء الذي حول البيت بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين البناء الظاهر اليوم مما يلي المشرق ذراعان، ومما يلي المغرب ذراع، ومما يلي القبلة شبر، ومما يلي الشام فضاء كله، وفي الفضاء الذي يلي الشام مركن مكسور «1» ومكيل خشب، قال عبد العزيز بن محمد: يقال إن البنائين نسوه هناك، انتهى. وروى يحيى عن أبي غسان محمد بن يحيى قال: سمعت من يقول في الحظار الذي على قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مركن وخشبة وحديدة مسندة، قال محمد بن يحيى: وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد: هو مركن تركه العمال هناك، وقال محمد بن يحيى- يعني أبا غسان- فأما أنا فإني أطلعت في الحظار فلم أر شيئا، فزعم لي زاعم أنه قد رأى ثم المركن وشيئا موضوعا مع   (1) المركن: وعاء تغسل فيه الثياب (ج) مراكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 المركن، وأما أنا فلم أره، ولم أعلم أحدا يدري من أخذه، ولم أر للبيت الذي في الحظار بابا ولا موضع بابه، وقد أخبرني ابن أبي فديك أنه رأى باب بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يلي الشام، انتهى. وقد حكى الأقشهري عن أبي غسان أيضا نحو ذلك. قلت: ولم نر للبيت عند انكشافه في العمارة التي أدركناها بابا ولا موضع باب، ولم يوجد في الفضاء الذي يلي الشام من الحظار المذكور مركن ولا غيره مما ذكر، وسيأتي في الفصل الثالث والعشرين أن ابن عاث ذكر أنهم وجدوا عند عمارة حائط سقط بالحجرة قعبا انكسر عند سقوط الحائط، وأنه حمل إلى بغداد، فإن صح فلعله المراد، وفيما قدمناه إشعار بأن موضع القبور الشريفة كان مسقفا تحت سقف المسجد كما سيأتي التصريح به، ولهذا لما انكشف سقف المسجد رأوا ما بين الحظار الظاهر والحجرة، ولم يروا جوف الحجرة، ويدل له ما سيأتي عن أبي الجزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة، فقالت: فانظروا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا، الخبر الآتي، لكن سيأتي في الفصل الرابع والعشرين عن ابن رشد أنه قال في بيانه: إن الثقة أخبرني أنه لا سقف له في زمنه تحت سقف المسجد، وكنت أظن أن ذلك بعد حريق المسجد، فإن كلام المؤرخين الآتي متطابق على أنه لا سقف للحجرة بعد الحريق إلا سقف المسجد، ثم تبين أن زمن ابن رشد كان قبل الحريق بمدة مديدة؛ لأن وفاته سنة عشرين وخمسمائة، ثم اطلعنا في العمارة التي أدركناها على وجود سقف جعل بعد الحريق وعلى آثار السقف الذي كان قبله كما سيأتي بيانه، والله أعلم. الفصل الحادي والعشرون فيما روي من الاختلاف في صفة القبور الشريفة، بالحجرة المنيفة وما جاء من أنه بقي بها موضع قبر، وأن عيسى بن مريم عليه السلام يدفن بها، وما جاء في تنزل الملائكة حافين بالقبر الشريف، وتعظيمه والاستسقاء به. اعلم أن ابن عساكر ذكر في تحفته الاختلاف في صفة القبور الشريفة، فذكر في ذلك سبع روايات، وسبقه إلى ذلك شيخه ابن النجار، لكنه ذكر ستا فقط. رواية نافع في وضع القبور الأولى: ما رواه عن نافع بن أبي نعيم أن صفة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبر أبي بكر وقبر عمر، قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامها إلى القبلة مقدما، ثم قبر أبي بكر حذاء منكبي «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر، وهذه صفته:   (1) المنكب: مجتمع رأس العضد والكتف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 النبي صلّى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه قلت: وهذه الرواية هي التي عليها الأكثر ونقل الزين المراغي أن رزينا ويحيى جزما بها، وهو كذلك في كلام رزين، ورواها عن عبد الله بن محمد بن عقيل فقال عقب خبره المتقدم في قصة سقوط جدار الحجرة: ورأيت القبور، فإذا قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أمام، وقبر أبي بكر خلفه، وقبر عمر خلف قبر أبي بكر، ورأس أبي بكر عند منكبي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورأس عمر عند منكبي أبي بكر، وأما يحيى فلم أر في كلامه الجزم بذلك، بل رأيته حكى اختلاف الروايات كغيره، ولفظه في حكاية هذه الرواية: حدثنا هارون بن موسى قال: سمعت أبي يذكر عن نافع بن أبي نعيم وغيره من المشايخ ممن له سنّ وثقة أن صفة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذكر ما تقدم، ورأيت في نسخة من كتاب يحيى تصوير القبور الشريفة على هذه الصفة، وقال: إنها صفة القبور الشريفة فيما وصف بعض أهل الحديث عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها، ثم ذكر ما سيأتي في الصفة السادسة. وروى ابن سعد في طبقاته في ذكر أبي بكر رضي الله عنه من طريق الواقدي عن أبي بكر ابن عبد الله بن أبي سبرة عن عمر بن عبد الله بن عروة أنه سمع عروة والقاسم بن محمد يقولان: أوصى أبو بكر عائشة أن يدفن إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما توفي حفر له، وجعل رأسه عند كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وألصق اللحد بقبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقبر هناك. ثم روى من طريق الواقدي أيضا عن ربيعة بن عثمان عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: رأس أبي بكر عند كتفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورأس عمر عند حقوي أبي بكر. قلت: وفي هذه مخالفة يسيرة لما تقدم بالنسبة إلى عمر رضي الله عنه. رواية القاسم بن محمد الثانية: روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها: يا أمة اكشفي لي عن قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطية، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. زاد الحاكم: فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدما، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عساكر: وهذه صفته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 النبي صلّى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه قلت: وقد صحح الحاكم إسناد هذه الرواية، والله أعلم. رواية عثمان بن نسطاس الثالثة: ما رواه الزبير بن بكار عن ابن زبالة قال: حدثني إسحاق بن عيسى عن عثمان بن نسطاس قال: رأيت قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم لما هدم عمر بن عبد العزيز عنه البيت مرتفعا نحوا من أربع أصابع عليه حصباء إلى الحمرة ما هي، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأيت قبر عمر أسفل منه، وصوّره لنا كما صوره له عثمان. قلت: ولم يكن في النسخة التي وقفت عليها من ابن زبالة تصوير، وصوّر ذلك ابن عساكر هذا: النبي صلّى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه قلت: وابن زبالة ضعيف، وإسحاق بن عيسى هو ابن بنت داود بن أبي هند، صدوق يخطئ، وعثمان بن نسطاس عن عثيم مصغر بن نسطاس بكسر النون المدني أخو عبيد مولى آل كثير بن الصلت، مقبول حيث يتابع، وإلا فليّن الحديث. وقد ذكر الحافظ بن حجر أن أبا بكر الآجري روى هذا الخبر في كتاب صفة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم من طريق إسحاق بن عيسى المذكور عن ابن نسطاس، وليس فيه ذكر تصوير، ولم يذكر الحافظ ابن حجر الواسطة بين الآجري وإسحاق بن عيسى، وهذه الرواية مع ما فيها من الضعف قابلة للتأويل بردها إلى الرواية التي قبلها، وإن كان التصوير يأباه؛ لجواز حمله على التقريب، والله أعلم. رواية المنكدر بن محمد الرابعة: روى ابن زبالة عن المنكدر بن محمد عن أبيه قال: قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم هكذا، وقبر أبي بكر خلفه، وقبر عمر خلفه عند رجلي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصوره ابن عساكر هكذا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 النبي صلّى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه قلت: ويمكن رد هذه الرواية مع ضعفها إلى الثانية؛ لأن قوله «وأبو بكر خلفه» صادق بأن يكون رأسه عند منكبي النبي صلّى الله عليه وسلّم. رواية عمرة عن عائشة الخامسة: روى يحيى بإسناد فيه إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس عن أبيه- وإسماعيل صدوق، لكن أخطأ في أحاديث من قبل حفظه، وأبوه صدوق يهم، وبقية رجاله ثقات- عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها وصفت لنا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبر أبي بكر وقبر عمر، وهذه القبور في سهوة في بيت عائشة، رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم مما يلي المغرب، وقبر أبي بكر رأسه عند رجلي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقبر عمر خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبقي موضع قبر، وهذه صفة قبورهم على ما وصف ابن أبي أويس عن يحيى بن سعيد وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة، ولم يصور يحيى لذلك شيئا. وروى ابن زبالة نحو ذلك وقد ذكره من طريق ابن عساكر، ثم قال: وهذه صفته: النبي صلّى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه قلت: ويردها ما روى من أن رجلي عمر رضي الله عنه ضاق عنها الحائط فحفر لهما في الأساس. وفي الصحيح كما سبق قول عروة «ما هي إلا قدم عمر» . رواية أخرى عن القاسم بن محمد السادسة: روى ابن زبالة عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه أريني قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه، فكشفت لي عن قبورهم، فإذا هي لا مرتفعة ولا لاطية، مبطوحة ببطحاء حمراء من بطحاء العرصة، فإذا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامهما، ورجلا أبي بكر عند رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأس عمر عند رجليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 قال ابن عساكر: وهذه صفتها: النبي صلّى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه قلت: وهذه الرواية مع ضعفها معارضة بما تقدم في الرواية الثانية عن القاسم بن محمد المذكور، وتلك أصح، وما سيأتي في صفة الحجرة الشريفة يأبى ذلك أيضا، وقد رأيتها في نسخة من كتاب يحيى رواه ابنه طاهر عنه على هذه الصورة: النبي صلّى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أبو بكر رضي الله عنه وقال: إنها عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها، ثم قال ابن فراس أحد رواة النسخة المذكورة عن طاهر بن يحيى: سألت طاهر بن يحيى أن يصور لي بخطه صفة قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فصور لي بيده هذه الصورة، انتهى. رواية عبد الله بن محمد بن عقيل السابعة: ما روى يحيى من طريق ابن زبالة في الخبر المتقدم في الفصل قبله في قصة سقوط جدار الحجرة الشريفة في تلك الليلة المطيرة عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال عقب قوله فيما تقدم: «فدخلت فسلمت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ومكثت فيه مليا، ورأيت القبور فإذا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقبر أبي بكر عند رجليه، وقبر عمر عند رجلي أبي بكر، وعليهما حصىّ من حصباء العرصة» قال ابن عساكر: وهذه صفته: النبي صلّى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 قلت: وهذه الرواية نقلها رزين عن عبد الله بن عقيل، وساقها باللفظ السابق، إلا أنه قال: ورأيت القبور، فإذا قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أمام، وذكر ما قدمنا عنه في الرواية الأولى، وهو مخالف لما في هذه الرواية، وهو أولى بالاعتماد؛ لأن هذه الرواية ضعيفة مع بعدها مما سيأتي في وصف الحجرة الشريفة، سيما على ما سبق من قسم عائشة رضي الله عنها الحجرة باثنين، ولها شاهد لكنه ضعيف أيضا، وهو ما في طبقات ابن سعد عن مالك بن إسماعيل- أظنه مولى لآل الزبير- قال: دخلت مع مصعب بن الزبير البيت الذي فيه يعني قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فرأيت قبورهم مستطيلة، انتهى. وفي رواية للآجري ما يوهم صفة ثامنة؛ فإنه ذكر عقب الخبر المتقدم عن رجاء بن حيوة في إدخال الحجرة في المسجد ما لفظه: قال رجاء: فكان قبر أبي بكر وسطه، ولم يذكر فيه عمر رضي الله عنه، فإن الضمير في قوله «وسطه» إن كان للبيت فواضح، وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهذه صفة أخرى، لكن ينبغي تأويلها أيضا على التجوز في لفظ الوسط ليوافق رواية غيره. وأما ما أخرجه أبو يعلى عن عائشة: أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره؛ فسنده ضعيف أيضا، ويمكن تأويله كما قاله الحافظ ابن حجر. وحينئذ فلم يبق إلا الروايتان الأوليان فهما اللتان يتردد بينهما في الترجيح، والأولى هي المشهورة، ومقتضى تصحيح الحاكم لإسناد الثانية ترجيحها، وهي أصح الروايات، وقد اشتملت على أن القبور لم تكن مسنّمة «1» وقد قال يحيى: حدثني هارون بن موسى- قلت: ولا بأس به- قال: حدثني غير واحد من مشايخ أهل المدينة أن صفات القبور الشريفة مسطوحة عليها بطحاء من بطحاء العرصة حمراء. وروى ابن زبالة من طريق عمرة عن عائشة قالت: ربّع قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعل رأسه مما يلي المغرب. وأما ما في صحيح البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مسنما، زاد أبو نعيم في المستخرج: وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كذلك، ورواه ابن سعد عنه بلفظ: رأيت قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر مسنّمة، فلا يعارض ما قدمناه؛ لأن سفيان ولد في زمان معاوية فلم ير القبر الشريف إلا في آخر الأمر، فيحتمل- كما قال البيهقي- أن القبر لم يكن في الأول مسنما، ثم سنم لما سقط عن الجدار؛ فقد روى يحيى عن عبد الله ابن الحسين قال: رأيت قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم مسنما في زمن الوليد بن هشام. وفي رواية أخرى   (1) سنّم القبر: رفعه وعلّاه عن وجه الأرض كالسنام ولم يسطحه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 عنه أن القبر جثوة «1» مرتفعة مسنّمة غير شديدة الارتفاع، عليها قزع من حصىّ وتربة طيبها الله عز وجل. وروى ابن سعد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان نبيث «2» قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم شبرا. ويؤيد التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر بتسويتها. بقي بعدها موضع قبر وقد تقدم في الرواية الرابعة أنه بقي بعد القبور الشريفة موضع قبر، ويؤيده ما روي أن عائشة رضي الله عنها أرسلت إلى عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت: أن هلم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى أخويك، فقال: ما كنت مضيقا عليك بيتك، الخبر الآتي في ذكر قبره، وكذلك ما سيأتي في إذنها للحسن أن يدفن عندها، ومنع بني أمية له. وكذلك ما في صحيح البخاري عن هشام بن عروة أن عائشة أوصت عبد الله بن الزبير: لا تدفنني معهم: أي النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه، وادفني مع صواحبي بالبقيع لا أزكى به أبدا. وقد أخرجه الإسماعيلي وزاد فيه: وكان في بيتها موضع قبر، ولكن في الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أرسل إلى عائشة فسألها أن يدفن مع صاحبيه قالت: كنت أريده لنفسي فلأوثرنه اليوم على نفسي. قال الحافظ ابن حجر: فكأن اجتهادها في ذلك تغيّر، أو لما قالت ذلك لعمر كان قبل أن يقع لها قصة الجمل، فاستحيت بعد ذلك وإن كانت زوجته صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة كما قاله عمار أحد من حاربها، انتهى. وقال ابن التين: كلامها في قصة عمر يدل على أنه لم يبق ما يسع إلا موضع قبر واحد، فهو يغاير قولها «لا تدفنّني عندهم» فإنه يشعر بموضع للدفن، والجمع بينهما أنها كانت تظن أولا أنه لا يسع إلا قبرا واحدا، فلما دفن [عمر] ظهر لها أن هناك وسعا لقبر آخر، أو أن الذي آثرته به المكان الذي دفن فيه من وراء قبر أبيها بقرب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك لا ينفي وجود مكان آخر في الحجرة. وروى يحيى بسنده إلى عثمان بن الضحاك عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال: يدفن عيسى بن مريم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه، ويكون قبره الرابع. وفي سنن الترمذي من طريق أبي مودود عن عثمان بن الضحاك عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم   (1) الجثوة: الكومة من تراب وحصى. (2) النبيثة: تراب البئر والنهر. (ج) نبائث. والمراد أن الماء الذي حول القبر مقدار الشبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 يدفن معه، قال: فقال أبو مودود: وقد بقي في البيت موضع قبر، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي بعض النسخ: حسن غريب، هكذا قال عثمان بن الضحاك، والمعروف الضحاك بن عثمان المدني، انتهى كلام الترمذي. وفي رواية للطبراني عن عبد الله بن سلام قال: يدفن عيسى بن مريم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر؛ فيكون قبرا رابعا، وهو من رواية عثمان بن الضحاك، وقد وثقه ابن حبان وضعفه أبو داود. وذكر الزين المراغي أن ابن الجوزي روى في المنتظم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض، فيتزوج ويولد له، فيمكث خمسا وأربعين سنة، ثم يموت فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى بن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر. وقال ابن النجار: قال أهل السير: وفي البيت موضع قبر في السهوة الشرقية، قال سعيد بن المسيب: فيه يدفن عيسى بن مريم. والسهوة: بيت صغير منحدر في الأرض قليلا شبيه بالمخدع والخزانة، وقيل: هو كالصفة يكون بين يدي البيت، وقيل: هو شبيه بالرف والطاق يوضع فيه الشيء، ولعل المراد بذلك الموضع الذي ضربت عليه عائشة جدارا وسكنت به كما سبق. الملائكة يحفون بالقبر وسنذكر فيما استقر عليه بناء الحجرة أنه عقد على نحو ثلثها الشرقي عقد، فصار ذلك المحل مميزا عن بقية البيت، وكان قبله في البناء ما يشهد لجدار آخر من الشام إلى القبلة في تلك الجهة، فلعله الموضع المذكور. وروى يحيى وابن النجار عن كعب الأحبار قال: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر، يضربون بأجنحتهم، ويصلون على النبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا أمسوا عرجوا، وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك، حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة، صلّى الله عليه وسلّم. وفي صحيح الدارمي نحوه من رواية عائشة رضي الله عنها، وقال فيه: سبعون ألفا بالليل وسبعون ألفا بالنهار، ذكره في باب ما أكرم الله به نبيه صلّى الله عليه وسلّم بعد موته، رواه البيهقي في شعبه. لا ينبغي رفع الصوت في المسجد وقد تقدم قول عمر رضي الله عنه «إن مسجدنا هذا لا ترتفع فيه الأصوات» وقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيا ولا ميتا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن غير واحد منهم عبد العزيز بن أبي حازم ونوفل بن عمارة قالوا: إن كانت عائشة تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فترسل إليهم لا يؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: وما عمل على مصراعي داره إلا بالمناصع، توقيا لذلك. وفي الوفاء لابن الجوزي من طريق أبي محمد الدارمي بسنده عن أبي الجوزاء. سنة أهل المدينة في أعوام الجدب قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: فانظروا قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق. قال الزين المراغي: واعلم أن فتح الكوة عند الجدب سنة أهل المدينة حتى الآن، يفتحون كوة في سفل قبة الحجرة: أي القبة الزرقاء المقدسة من جهة القبلة، وإن كان السقف حائلا بين القبر الشريف وبين السماء. قلت: وسنتهم اليوم فتح الباب المواجه للوجه الشريف من المقصورة المحيطة بالحجرة، والاجتماع هناك، والله أعلم. الفصل الثاني والعشرون فيما ذكروه من صفة الحجرة الشريفة، والحائز المخمس الدائر عليها، وبيان ما شاهدناه مما يخالف ذلك قال الأقشهري، فيما رواه من طريق ابن شبة: قال أبو غسان- يعني محمد بن يحيى-: وأما الحظار الظاهر والبيت الذي فيه فإني اطلعت فيه من بين سقفي المسجد حتى عاينت ذلك الحظار الذي على البيت وما فيه، وصورته وما فيه، وذرعته على ما فيه من الذرع، وذلك حين انكسر خشب سقف المسجد فكشف السقف من تلك الناحية لعمارته، وأبو البحتري بن وهب بن رشد يومئذ على المدينة، وذلك في جمادى الأولى من سنة ثلاث وتسعين ومائة. وقال أبو زيد- يعني ابن شبة- فهذه صورته، ثم صورها الأقشهري في كتابه المسمى «بمنسك القاصد الزائر» بهذه الصورة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وفي هذا التصوير وما ذكر فيه من الذّرع مخالفة لما تقدم عن نقل ابن زبالة حيث قال. والبناء الذي حول البيت بينه وبين البناء الظاهر اليوم مما يلي المشرق ذراعان، والتصوير المذكور قد اشتمل على أن الفرجة المذكورة ثلاثة أذرع، ويستفاد من التصوير أيضا أن الفرجة بينهما في جهة القبلة مختلفة، فبعضها دون الذراع وهو الشبر المشار إليه في كلام ابن زبالة، وبعضها ذراع. وسنذكر أن ما شاهدناه في صورة الحجرة الشريفة عند انكشافها أقرب إلى التصوير المذكور مما ذكره ابن زبالة، وأن الحال شاهد بأنه وقع في بنائها الداخل تغيير؛ فلم يبق على الصورة المذكورة. وقد أدرك ابن زبالة عمارة أبي البحتري التي كشف فيها سقف المسجد مما يلي الحجرة الشريفة، وذكرها في كتابه فقال: وكان أبو البحتري- إذ كان واليا على المدينة لهارون أمير المؤمنين- كشف سقف المسجد في سنة ثلاث وتسعين ومائة، فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة، فأدخل مكانها خشبا صحاحا اه. وكأنه لم يشاهد ذلك كما شاهده أبو غسان، وعبارة يحيى في ذكر هذه العمارة: وقد كان خشب من خشب المسجد فوق القبر مما يليه انكسر في ولاية أبي البحتري، فأمر بكشف السقف، وذكر ما تقدم عن ابن زبالة، على أن ابن زبالة ويحيى أشارا في كتابيهما إلى تصوير الحجرة والحائز الدائر عليها، لكن الصورة ساقطة من النسخة التي وقعت لنا. وقد صور ذلك ابن النجار في كتابه، وأظنه أخذه من نسخة وقعت له من ابن زبالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 مشتملة على تلك الصورة، وتبعه عليها ابن عساكر في «تحفة الزائر» والمرافي في تاريخه، وهي بعيدة مما وجدنا عليه صورة الحجرة الشريفة؛ فلنبدأ بتصويره، ثم تصوير الصورة التي شاهدناها، ثم الصورة التي استقر بناء الحجرة الشريفة عليها، وقد تبعت في حكاية تصوير ابن النجار ما صنعه المراغي؛ فإني نقلته من خطه، فقال: وجعل عمر بنيان الحجرة الشريفة على خمس زوايا لئلا يستقيم لأحد استقبالها بالصلاة؛ لتحذيره صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، وهذه صورتها وصورة الحائز حولها كما ضبطه ابن النجار، والله أعلم. وهذا التصوير ينافي ما تقدم من رواية ابن زبالة وغيره أن البيت مربع مبني بحجارة سود وقصّة. ثم بنى عليه عمر بن عبد العزيز هذا البناء الظاهر المخمس؛ لأنه صوّر فيه البيت مخمسا أيضا كما ترى، وهو خلاف الذي شاهدناه عند انكشافه في العمارة التي أدركناها، فرأيناه مربعا مبنيا بالأحجار السود المنحوتة لونها يقرب من لون أحجار الكعبة الشريفة، ولها من الهيبة والأنس ما لا يدرك إلا بالذوق، ولم نجد بين الجدار الخارج والداخل من جهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 المغرب فضاء أصلا، ولا مغرز إبرة، ولم نجد للبيت الداخل بابا أصلا، ولا موضع باب، لا في الجهة الشامية ولا في غيرها، ووجدنا الفضاء الذي خلف البيت الشريف من جهة الشام، بينه وبين البناء الظاهر، شكله مثلث، ومساحته نحو ثمانية أذرع بذراع اليد المتقدم تحريره، وذلك من جدار البيت الشامي إلى زاوية البناء الظاهر المقابلة له، وهي الزاوية الشمالية التي ينحرف عنها صفحتا الشكل المثلث المذكور، وهناك أسطوانة ملاصقة لجدار البيت الشامي في صف أسطوانة مربعة القبر وأسطوانة الوفود، وبعض الأسطوانة المذكورة داخل في الجدار المذكور، وقد طوق على أعاليها بأطواق من الحديد، وأدعمت بجذع من جذوع النخل رأسه في أعاليها ورأسه الآخر في زاوية البناء الظاهر الشمالية المتقدم ذكرها، والظاهر أن ذلك جعل بعد الحريق لتشقق الأسطوانة المذكورة وتأثير النار فيها، وهي الأسطوانة التي تقدم ذكرها في التصوير الأول المأخوذ من كلام ابن شبة عند نهاية جدار البيت الشامي، مما يلي المشرق، لكنا لم نجدها كذلك، بل قريبة من وسط الجدار الشامي، غير أن متولي العمارة ومن كان معه أخبروني أنهم وجدوا عند نقض جدار البيت الشامي من داخله رأس جدار في محاذاة الأسطوانة المذكورة يشهد الحال أنه كان آخذا من الشام إلى ما يحاذيه من القبلي، فكأنه كان نهاية الحجرة الشريفة من جهة المشرق، وكأنه لما انهدم زيد فيها ذلك القدر، قالوا: ولا يخفى على الناظر أن بقية الجدار الشامي مما يلي المشرق لم يبن مع الجانب الآخر منه، بل هي ملصقة إلى رأس الجدار المذكور بحيث لم يدخل أحجار أحدهما في الآخر، ولا هي مرتبطة كما هو عادة البناء الواحد، ورأيت أنا ما يقابل هذا الجانب من الجدار القبلي مما يلي المشرق؛ فرأيت ما يشهد بإحداث بنائه بحيث إنه مبني بالحجارة غير الوجوه كنسبة الجدار الشرقي، بخلاف بقية جدارات الحجرة الشريفة فإنها كلها من داخلها وخارجها مبنية بالحجارة الوجوه المنحوتة، وإنما لم أشاهد ما قدمته مما حكى لي في أمر الجدار الشامي لأني اجتنبت حضور الهدم احتياطا لنفسي، وظهر بذلك أن البيت الشريف كان من جهة المشرق على ما صوره ابن شبة، ثم حدث ذلك بعده، ولم ينبه عليه أحد من المؤرخين، ويحتمل أن ذلك الجدار هو الذي أحدثته عائشة رضي الله عنها بينها وبين القبور الشريفة؛ فقد تقدم عن ابن سعد روايته عن مالك بن أنس قال: قسم بيت عائشة باثنين، قسم كان فيه القبر، وقسم كان تكون فيه عائشة وبينهما حائط. قلت: فهذا الاحتمال هو الذي يترجح عندي، والله أعلم. ووجد بين جدار البيت الشرقي وبين الجدار الظاهر الشرقي فضاء مختلف كالزقاق الرقيق، فعند ابتدائه من جهة الشام نحو ذراع اليد يمر فيه الرجل منحرفا، فإذا قرب من جهة القبلة تضاعف بحيث لا يمر فيه إلا الصغير منحرفا، وسعته هناك نحو ثلث الذراع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وقد نقل ابن شبة أنه كان ثلاثة أذرع؛ فهذا مؤيد لما قدمناه من حدوث التغيير في الجدار الشرقي الداخل، ورؤيته تقضي بذلك دون بقية الجدران. ووجدنا بين جدار البيت القبلي والجدار الظاهر القبلي فضاء مختلفا أيضا كالزقاق الرقيق؛ فأوله من جهة الشرق نحو ذراع اليد، فإذا قرب من الوجه الشريف تضايق بحيث يصير نحو شبر ثم أقل من ذلك إلى ملتقى الحائطين في جهة المغرب، وهذا الفضاء لا يمكن المرور فيه؛ لأن الأسطوانة التي في البناء الظاهر عند مواجهة مواقف الزائر لسيدنا عمر رضي الله عنه بعضها بارز في الفضاء المذكور، وفي محاذاتها بناء بنحو عرضها قد سدّ ما بين الجدارين من الفضاء، وكأنه جعل لإدعام الجدار من أجل الانشقاق الآتي ذكره، أو لمنع المرور هناك، جزى الله فاعله خيرا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وأما طول جدران الحائز الظاهر من كل زاوية إلى الآخرى من خارجه فطول الجدار القبلي من زاويته التي تلي القبلة من المغرب إلى زاويته التي تلي المشرق سبعة عشر ذراعا، بتقديم السين، ينقص يسيرا، وذلك موافق لما تقدم في تصوير ابن النجار. وطول الجدار الغربي من القبلة إلى طرف مقام جبريل ستة عشر ذراعا ونحو نصف ذراع، ومنعطف مقام جبريل هناك الشام، وذرع منعطفه ذراعان ونصف ذراع، وجملة ذلك تسعة عشر ذراعا؛ فهو المراد مما تقدم في تصوير ابن النجار، لكنه يوهم أن وجه مقام جبريل غير داخل في التسعة عشر ذراعا التي ذكرها للجدار الغربي، وليس كذلك. وطول الجدار المنعطف من مقام جبريل إلى الزاوية الشمالية اثنا عشر ذراعا ونصف ذراع راجح. وطول الجدار الشرقي من القبلة إلى الزاوية التي ينحرف منه إلى جهة الشمال اثنا عشر ذراعا ونصف ذراع راجح. وطول الجدار المنعطف من الجدار المذكور عند الزاوية المذكورة إلى الزاوية الشمالية نحو أربعة عشر ذراعا، وفيما ذكرناه من الذرع في الثلاثة الجدر الأخيرة مخالفة لما تقدم في تصوير ابن النجار ومن تبعه. وأما طول الحائز الظاهر في السماء فثلاثة عشر ذراعا وثلث ذراع، ويرجح من بعض الجوانب يسيرا، وعرض منقبته ذراع وربع ثمن. ونقل الأقشهري أن ابن شبة نقل عن أبي غسان أن طول الحظار الذي على البيت- يعني الحائز المذكور- من جهة ارتفاعه ثلاثة عشر ذراعا غير سدس. قلت: وقد رأيت بأعلاه سترة من آجر قدر نصف ذراع يشهد الحال أنها محدثة لإحداث السقف الآتي ذكره للحجرة الشريفة بعد حريق المسجد الأول؛ فلا مخالفة بين ما وجدناه وبين ما ذكره أبو غسان. وأما ارتفاع الجدار الداخل في السماء فقسته من خارجه من جهة الشام فكان خمسة عشر ذراعا، وارتفاع تلك الأرض التي في شامي الحجرة بين الجدارين على أرض الحجرة ذراع ونحو ربع ذراع، ومع ذلك فالحائز الخارج أرجح من الداخل بيسير أو مساوله، وسبب ذلك علو الأرض الخارجة عن هذا الحائز على الأرض الداخلة بين الحائزين بأرجح من ذراع ونصف، مع أن الأرض الداخلة بين الحائزين من جهة الشام التي هي كهيئة المثلث وجدت مجدولة بالحجارة والقصة بحيث لم يتأت لهم حفر أساس فيها، ولله الحمد على ذلك. وأما ما تقدم فيما نقلناه من خط المراغي- وهو موجود في كلام ابن النجار وابن عساكر- من أن طول حيطان الحائز الخارج في السماء ثلاثة وعشرون ذراعا، فهذا مخالف لما شاهدناه ولما قدمناه عن أبي غسان، وكأنهم أرادوا بهذا ذرع ما بين الأرض المحيطة بالحجرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وبين سقف المسجد، وهذا البناء لم يبلغ به عمر بن عبد العزيز سقف المسجد اتفاقا، بل فوقه شباك من خشب متصل ذلك الشباك بسقف المسجد كما يظهر عند رفع الكسوة، وكأن ابن النجار توهم أن الحائط المذكور متصل بالسقف؛ لأنه قال: وبنى عمر ابن عبد العزيز على حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم حائزا من سقف المسجد إلى الأرض، وصارت الحجرة في وسطه وهو على دورانها. وينبغي حمل كلامه على أن المراد أنه بناه من سقف المسجد إلى الأرض بما جعل عليه من الشباك، وكذلك يحمل ما ذكره في ذرع؛ لأن الشباك المذكور له ذكر في كلامه، فإنه ذكر ما سيأتي من أن الجمال الأصفهاني جدد تأزير الحجرة بالرخام، ثم قال: وعمل لها مشبكا من خشب الصندل والآبنوس، وأداره حولها مما يلي السقف: أي على رأس الجدار المذكور. قلت: ولعله أول من أحدث هذا الشباك؛ لأنه ذكر له في كلام متقدمي المؤرخين، والله أعلم. وقال ابن النجار: واعلم أن على حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم أي على سقفها ثوبا مشمعا مثل الخيمة، وفوقه سقف المسجد، وفيه- أي فيما تحت المشمع المذكور- خوخة عليها ممرق أي طابق مقفول، وفوق الخوخة في سقف السطح خوخة أخرى فوق تلك الخوخة، وعليها ممرق مقفول أيضا، وبين سقف المسجد وبين سقف السطح أي السقف الثاني لسطح المسجد فراغ نحو الذراعين. قلت: أما الممرق الذي ذكره في سقف المسجد الذي يلي الحجرة الشريفة فقد أدركناه موجودا عليه قفل من حديد ومشمع جدده متولي العمارة التي أدركناها إلى أن احترق المسجد في زماننا، وعملت القبة التي جعلت بدلا عن القبة الزرقاء. وأما الممرق الذي ذكره في سقف الحجرة تحت المشمع الذي أشار إليه فهذا كان قبل حريق المسجد الأول، ولم يوجد في السقف الذي عمل بدله بعد الحريق ممرق، نعم وجد عليه ستارة من المحابس اليمنية مبطنة، وسنذكر وصفه إن شاء الله تعالى عند ذكر العمارة المتجددة في زماننا، على أن الذي يقتضيه كلام المطري ومن بعده أنه ليس ثم غير طابق واحد في سقف المسجد، فإنه قال: وعلى سقف الحجرة بين السقفين- أي سقفي المسجد- ألواح، وقد سمّر بعضها على بعض، وسمر عليها ثوب مشمع، وفيها طابق مقفل، إذا فتح كان النزول منه إلى ما بين حائط بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الحائط الذي بناه عمر بن عبد العزيز. قلت: وليس ما ذكره في وصف هذا الطابق بصحيح؛ لأن النزول منه يكون على وسط الحجرة سواء كما شاهدناه، مع أن المطري ومن تبعه اتفق كلامهم كما سيأتي على أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 سقف الحجرة بعد الحريق إنما هو سقف المسجد، وهو خلاف ما وجدنا الأمر عليه أيضا، والله أعلم. الفصل الثالث والعشرون في عمارة اتفقت بالحجرة الشريفة على ما نقله الأقشهري عن ابن عاث، وما وقع من الدخول إليها عند الحاجة له وتأزيرها بالرخام قال الأقشهري، ومن خطة نقلت ما لفظه: أخبرنا الشيخ الراوية أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الشاطبي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله القضاعي الحافظ قال: حدثنا صاحبنا الرحال أبو عمر أحمد بن أبي محمد هارون بن عاث النفري قال: حدثت بالمدينة الشريفة، أو قال بمدينة السلام، بأنهم سمعوا منذ سنين قريبا من الأربعين هدة في الروضة الشريفة أي الحجرة فإنه يعبر عنها بذلك، فكتب في ذلك إلى الخليفة، فاستشار الفقهاء، فأفتوا أن يدخلها رجل فاضل من القومة على المسجد، فاختاروا لذلك بدرا الضعيف، وهو شيخ فاضل يقوم بالليل ويصوم النهار، وهو من فتيان بني العباس، فدلى حتى دخل الروضة أي الحجرة، فوجد الحائط الغربي قد سقط، وهو حائط دون الحائط الظاهر، فصنع له لبن من تراب المسجد، فبناه وأعاده على هيئته كما كان، ووجد هناك قعبا من خشب قد أصابه وقوع الحائط فكسره، فحمل إلى بغداد مع شيء من تراب الحائط، وكان يوم وصول ذلك بغداد يوما مشهودا تجمع لاستقباله الناس، وازدحموا على رؤيته، وعطلت الصناعات والبيع، وكانت رحلة ابن عاث سنة ثلاث عشرة وستمائة، وقد قال «قريبا من أربعين سنة» فيكون ذلك سنة سبعين وخمسمائة أو ما دون ذلك، وهكذا ذكره في رحلته ومنها نقلته، ويكون ذلك في دولة المستضيء بالله بن المستنجد بالله، انتهى كلام الأقشهري. ولعل هذا الحائط المنهدم في هذه العمارة إنما هو الشرقي من الجدار الداخل، وأطلق عليه اسم الغربي بالنظر إلى الجدار الخارج الذي يليه، فتكون هذه الواقعة هي التي اتفق فيها بناء الجدار المتقدم وصفه، ووقع فيها تقديمه عن محله الأول، وأبقوا رأسه كما تقدمت الإشارة إليه، وهو إنما بنى بالحجر، ولا يتأتى هناك بناء باللبن إلا في السترة التي جعلت على رأس الجدار، فلعله أراد باللبن المتخذ من تراب المسجد هذا، لكن في كلام ابن النجار ونقله من بعده وأقره، ما يقتضي أنه لم يقع دخول إلى الحجرة الشريفة من سنة أربع وخمسين وخمسمائة إلى زمانه، وقد توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة، فإنه قال في كتابه «الدرة الثمينة» ما لفظه: واعلم أن في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة سمعوا صوت هدة في الحجرة، وكان الأمير قاسم بن مهني الحسيني، فأخبروه بالحال، فقال: ينبغي أن ينزل شخص إلى هناك ليبصر ما هذه الهدة، فافتكروا في شخص يصلح لذلك، فلم يجدوا لذلك إلا عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 النسائي شيخ شيوخ الصوفي بالموصل، وكان مجاورا بالمدينة، فذكروا ذلك له، فذكر أن به فتقا والريح والبول يحوجه إلى دخول الغائط مرارا، فالزموه، فقال: أمهلوني حتى أروض نفسي، وقيل: إنه امتنع من الأكل والشرب وسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم إمساك المرض عنه بقدر ما يبصر ويخرج، ثم إنهم أنزلوه في الحبال من الخوخة إلى الحظير الذي بناه عمر، ودخل منه إلى الحجرة ومعه شمعة يستضيء بها فرأى شيئا من طين السقف قد وقع على القبور، فأزاله وكنس التراب بلحيته، وقيل: إنه كان مليح الشيبة، وأمسك الله تعالى ذلك الداء قدر ما خرج من الموضع وعاد إليه، وهذا ما سمعته من أفواه جماعة، والله أعلم بحقيقة الحال في ذلك. وعبارة المراغي تبعا للمطري في النقل عن ابن النجار: فأنزلوه بالحبال من بين السقفين من الطابق المذكور، ونزل بين حائط النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الحائز ومعه شمعة يستضيء بها، ومشى إلى باب البيت، ودخل من الباب إلى القبور المقدسة، فرأى شيئا من الردم، إما من السقف أو من الحيطان إلى آخره. قلت: وهذا لا يطابق ما ذكره ابن النجار وعليه رتب المراغي إشكاله الآتي بيانه. ثم قال ابن النجار: وفي شهر ربيع الآخر من سنة أربع وخمسين وخمسمائة في أيام قاسم أيضا وجدوا من الحجرة رائحة منكرة، وكثر ذلك حتى ذكروه للأمير، فأمرهم بالنزول إلى هناك، فنزل بيان الأسود الخصي أحد خدام الحجرة، ومعه الصفي الموصلي متولي عمارة المسجد، ونزل معهما هارون الشادي الصوفي بعد أن سأل الأمير في ذلك، وبذل له جملة من المال، فلما نزلوا وجدوا هرا قد هبط ومات وجيّف، فأخرجوه، وكان في الحائز بين الحجرة والمسجد. وقال المراغي وغيره في النقل عن ابن النجار: فوجدوا هرا قد سقط من الشباك الذي في أعلى الحائز، ووقع بين الحائز وبيت النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن النجار: وكان نزولهم يوم السبت الحادي عشر من ربيع الآخر، ومن ذلك التاريخ إلى يومنا هذا لم ينزل أحد إلى هناك، فاعلم ذلك، انتهى. فهذا يخالف ما نقله الأقشهري عن ابن عاث؛ لاقتضائه أن تلك الواقعة في سنة سبعين وخمسمائة أو ما قاربها، والظاهر أن القضية واحدة، ولم نجد من دونها فنقل كل منهما بحسب ما بلغه. وقال الزين المراغي عقب ذكره للواقعة الأولى التي حكاها ابن النجار المتضمنة للدخول إلى القبور الشريفة ما لفظه: وينبغي تأمل هذا النقل؛ لأن الوصول إلى القبور الشريفة متعذر، إن كان الجدار الذي أحدثته عائشة المتقدم ذكره باقيا، فإن جاء نقل بإزالته وبإمكان الاستطراق معه من باب أو نحوه فهو واضح، وإلا ففيه نظر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 قلت: نظره إنما يتوجه على ما قدمه من أن النزول كان إلى ما بين الحائطين وأنه مشى إلى باب البيت، وليس في كلام ابن النجار تعرض لشيء من ذلك، بل مقتضى ما قدمناه عنه- من أن الحجرة الشريفة بها ممرق، وبسقف المسجد مثله- أن النزول إنما هو من العلو إلى سقف الحجرة، ثم منه إليها؛ فلا نظر، على أن الجدار الذي أشار إليه وأن عائشة بنته ولم نجد له أثرا إلا ما تقدمت الإشارة إليه من رأس جدار الحائط الشامي مقتض لأنه كان هناك جدار من الشام إلى القبلة، وكذلك الباب لم نجد له أثرا كما قدمناه. وأما تأزير الحجرة بالرخام فليس له ذكر في كلام ابن زبالة، وله ذكر في كلام يحيى؛ فإنه روى ما حاصله أن بيت فاطمة الزهراء لما أخرجوا منه فاطمة بنت حسين وزوجها حسن بن حسن وهدموا البيت بعث حسن بن حسن ابنه جعفرا، وكان أسنّ ولده، فقال له: اذهب ولا تبرحن حتى يبنوا فتنظر الحجر الذي من صفته كذا وكذا هل يدخلونه في بنيانهم، فلم يزل يرصدهم حتى رفعوا الأساس وأخرجوا الحجر، فجاء جعفر إلى أبيه فأخبره، فخر ساجدا وقال: ذلك حجر كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي إليه إذا دخل إلى فاطمة، أو كانت فاطمة تصلي إليه، الشك من يحيى. وقال علي بن موسى الرضي: ولدت فاطمة عليها السلام الحسن والحسين على ذلك الحجر. قال يحيى: ورأيت الحسين بن عبد الله بن عبد الله بن الحسين ولم أر فينا رجلا أفضل منه إذا اشتكى شيئا من جسده كشف الحصى عن الحجر فيمسح به ذلك الموضع، ولم يزل ذلك الحجر نراه حتى عمّر الصانع المسجد ففقدناه عندما أزر القبر بالرخام، وكان الحجر لاصقا بجدار القبر قريبا من المربعة. قال بعض رواة كتاب يحيى: الصانع هذا هو إسحاق بن سلمة، كان المتوكل وجه به على عمارة المدينة ومكة. قلت: وكانت خلافة المتوكل سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وتوفي في شوال سنة سبع وأربعين، وكان هذا مأخذ بن النجار في قوله إن المتوكل في خلافته أمر إسحاق بن سلمة وكأن على عمارة الحرمين من قبله أن يؤزّر الحجرة بالرخام ففعل. ثم في خلافة المقتفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة جده جمال الدين وزير بني زنكي، وجعل الرخام حولها قامة وبسطة. قلت: ولم يذكر أحد من المؤرخين تجديدا لهذا الرخام بعد ذلك، وقد جدده في زماننا متولي العمارة الآتي ذكرها الجناب الشمس المحسني الخواجكي بن الزمن بأمر المقام الشريف السلطاني قايتباي عز نصره، ووجد في الصفحة القبلية عند ابتدائها من جهة المغرب في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 اللوح السماقي اللون الثاني في تلك الجهة من الألواح الملونة التي يحيط بها الرخام الأبيض البارز قطعة أوسع من الدينار ملصقة في ظاهر اللوح المذكور بالجص، فأشيع أنها جوهرة نفيسة ذات لمعان، ثم إن متولي العمارة أرانيها فإذا هي حجر عسلي اللون يميل حمرته إلى الصفرة، قال: وأظنه حجر اليرقان، وقد خشي عليه متولي العمارة إن أعيد لصقا كهيئته الأولى، فأمر بنقر الرخامة المذكورة وتنزيله فيها، ففعلوا ذلك، وأعادوا تلك الرخامة إلى محلها. ولم أر من نبه على ابتداء حدوث الرخام الذي حول الحجرة الشريفة بالأرض والظاهر أنه حدث عند حدوث تأزيرها بالرخام؛ لما تقدم من كلام يحيى في أمر الحجر الذي كان يتبرك به من أن الحسين بن عبد الله كان يكشف عنه الحصى، وأنه لم يدخل في البناء، وأنه فقده عند تأزير الحجرة بالرخام، فدل ذلك على أنه رخم الأرض أيضا، وإلا لما استتر الحجر المذكور. وأما ترخيم المصلّى الشريف فلا أدري متى زمن حدوثه، وله ذكر في رحلة ابن جبير. وأما الرخام الذي بالمحراب العثماني وما حوله فالقديم منه- أعني بعد الحريق الأول- ترخيم المحراب وشيء يسير عن جنبتيه، وفي دولة السلطان الملك الظاهر جقمق في أول عشر الستين وثمانمائة أمر بعمل الوزرة التي في الجدار القبلي، فاتصل ذلك بترخيم المحراب المذكور، وقد جدد غالب ذلك في العمارة التي أدركناها أيضا، وأبدل الطراز الأول الذي كان بأعلى الوزرة وكان محمرا بماء الذهب الطراز الموجود اليوم، ثم زال ذلك كله في حريق المسجد الثاني، ثم أعيد مع زيادة فيه مما يلي المنارة الرئيسية، ومع ترخم ما حول الحجرة الشريفة وتأزيرها بالرخام، ومع ما سبق من عمل محراب المصلى الشريف وترخيمه، ورخموا أيضا الدعائم المواجهة للوجه الشريف التي أحدثوها عند عمارة القبة الثانية من داخل المقصورة وخارجها، وجميع ما يوجد من الرخام بالمسجد اليوم من عمل سلطان زماننا الأشرف قايتباي، أعز الله أنصاره، وضاعف اقتداره! والله أعلم. الفصل الرابع والعشرون في الصندوق الذي في جهة الرأس الشريف، والمسماة الفضة المواجه للوجه الشريف، ومقام جبريل من الحجرة الشريفة، وكسوتها، وتخليقها أما الصندوق فلم أعلم ابتداء حدوثه، وكذلك القائم المحلّى فوقه، إلا أنه قد ظهر لنا في هذه العمارة التي أدركناها أنه كان موجودا قبل حريق المسجد الأول؛ لأن متولي العمارة كان قد قلعه لاقتضاء رأيه قلع حلية الفضة التي كانت على القائم الخشب الذي فوق الصندوق ليحكم صوغها، وزاد ذلك فضة وتمويها بالذهب، وأصلح حلية الصندوق أيضا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وكان ذلك سببا لإصلاح أصل الأسطوانة التي كان بها، فلما قلعوا الصندوق المذكور ظهر فيه قوائم صندوق عتيق، وفي تلك القوائم أثر الحريق، وكأنهم جددوا عليه صندوقا، وجعلوا ذلك المحترق في جوفه، وقد أعيد كذلك. وقد ذكر المجد الشيرازي هذا الصندوق والقائم فقال: وفي الصفحة الغربية من الحجرة الشريفة صندوق آبنوس مختم بالصندل مصفح بالفضة مكوكب بها، هو قبالة رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيه أسطوان، وفوق الصندوق قائم من خشب مجدد، وأما الصندوق فطوله خمسة أشبار وعرضه ثلاثة أشبار وارتفاعه في الهواء أربعة أشبار. قلت: وقد ظفرت بذلك كله في كلام ابن جبير في رحلته، غير ما يتعلق بالقائم المذكور، ومن ذلك أخذ المجد وصف القائم بكونه مجددا، وكانت رحلة ابن جبير عام ثمانين وخمسمائة، فاستفدنا بذلك وجود ذلك الصندوق قبل الحريق في ذلك الزمان، وما ذكره من أن الصندوق المذكور قبالة الرأس الشريف فيه تجوّز؛ لأنه قد ظهر لنا في هذه العمارة أنه في محاذاة الجدار الداخل القبلي، وسيأتي أن الوجه الشريف إلى الجدار؛ فالرأس الشريف متأخر عن الصندوق المذكور يسيرا. ومستند المجد وغيره في هذا الإطلاق ما روى جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه عن أبيه عن جده أنه كان إذا جاء يسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وقف عند الأسطوانة التي تلي الروضة، ثم يسلم، ثم يقول: ها هنا رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به ما قدمناه، والله أعلم. وذرع الصندوق المذكور في الارتفاع ذراع ونصف وربع بذراع اليد، وأعلى القائم فوقه محاذ لرأس الوزرة الرخام، وطول القائم المذكور ثلاثة أذرع، وهو خمس صفحات ألصق بعضها على بعض وجعلت محيطة بما ظهر من الأسطوانة التي الصندوق بأصلها فوقه؛ فإن بعض الأسطوانة في البناء الملاصق لها من الحائز المذكور ولو أحاطت الصفحات بجميع الأسطوانة لكانت أكثر من خمس، ولكانت شكلها مثمنا، وهو مختم بالخشب الأسود الهندي، معصب بصفائح الفضة المموهة طولا وعرضا بأحسن صناعة، وصفائحه الطولية من الفضة أربع، والمقاطعة لها من جهة العرض خمس، وفي رأسه من أعلاه حلية رقيقة كالزيق، وزنة ما عليه من الفضة زيادة على ألفي قفلة، وأخذوا لأجل تمويهه من حاصل المسجد أربعين مثقالا من الذهب كما أخبرني به متولي العمارة. وأما الصندوق فلم يغير، كله مغشى بالفضة، وقد احترق في حريق المسجد الثاني، ووجدوا حليته من الفضة، فجددوا صندوقا في محله وجعلوا موضع القائم الذي كان فوقه رخاما كتوبا فيه البسملة والصلاة والتسليم على النبي صلّى الله عليه وسلّم والترضي عن أصحابه وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وأما المسمار المواجه للوجه الشريف فقد تقدم أن بينه وبين أول الصفحة الغربية من المغرب خمسة أذرع، وقد اعتبرت ذلك فنقص يسيرا نحو سدس ذراع، وكأنه لاختلاف الأذرعة، ولم أعلم ابتداء حدوث التعليم بهذا المسمار أيضا، والمذكور في كلام المتقدمين إنما هو التعريف بأن يجعل القنديل على رأسه، لكن قال المطري: إن ما ذكر من القيام تحت القنديل تجاه الحجرة الشريفة للسلام كان قبل احتراق المسجد الشريف؛ فإنه لم يكن يقابل وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا قنديل واحد؛ ولما جدد جعل هناك عدة قناديل، وإنما علامة الوقوف تجاه الوجه الكريم اليوم مسمار فضة في رخامة حمراء، انتهى. وهو يوم حدوث التعليم به بعد الحريق، ولأن ابن جبير ذكره في رحلته وهو أقدم من ابن النجار فقال عند وصف الحجرة الشريفة: وفي الصفحة القبلية أمام وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم مسمار فضة هو أمام الوجه الكريم، فتقف الناس أمامه للسلام، انتهى. وأيضا فقد روى ابن الجوزي في «مثير الغرام الساكن» أن ابن أبي مليكة كان يقول: من أحب أن يقوم وجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فليجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه، ثم قال ابن الجوزي: وثم ما هو أوضح علما من القنديل، وهو مسمار من صفر في حائط الحجرة، إذا حاذاه القائم كان القنديل فوق رأسه، انتهى. وقال يحيى في كتابه: كان بن أبي مليكة يقول: إذا جعلت القنديل على رأسك والمرمرة المدخولة في جدار القبر قبالة وجهك استقبلت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قلت: وكأن هذا المسمار في موضع تلك المرمرة، ولهذا قال ابن النجار: إن اليوم هناك علامة واضحة، وهي مسمار من فضة في حائط حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذا قابله الإنسان كان القنديل على رأسه، فيقابل وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم، انتهى. ولم أر لهذا المسمار ذكرا في كلام من صنّف في المناسك قبل ابن جماعة، والذي في مناسك ابن الصلاح أخذا من الإحياء ذكر القنديل، وجعله حذار رأس الزائر، ونقله عن ابن أبي مليكة، واقتضى كلامه أن الواقف هناك يكون بينه وبين السارية التي عند رأس القبر عند زاويته الغربية وهي أسطوان الصندوق نحو أربعة أذرع؛ فهو قريب مما تقدم في التعليم بالمسمار المذكور، وإن لم يصرح به، لكن قال الأقشهري ومن خطه نقلت: أخبرنا الإمام العالم رضي الدين أبو أحمد إبراهيم بن محمد بن أبي بكر إمام مقام إبراهيم الخليل بمكة توفي في تاسع شهر ربيع الأول من عام اثنين وعشرين وسبعمائة والشيخ الوزير أبو عبد الله محمد بن أبي بكر محمد بن عيسى المومناني قالا: أخبرنا الإمام أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح السهروردي قال: ثم يأتي الزائر الصريح المقدس فيستدبر القبلة ويستقبل جداره نحو ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع من الجدار وجاه المسمار الذي في الجدار القبلي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 الحجرة المشرفة، هذا ما نقلته من خط الأقشهري بحروفه، ولم أره في كلام ابن الصلاح، والذي نقله ابن عساكر في تحفته عن ابن الصلاح وهو من تلامذته إنما هو ما قدمناه، وروايته عن إبراهيم الطبري عن ابن الصلاح تخليط؛ فإن وفاة ابن الصلاح في سنة ثلاث وأربعين وستمائة، والذي أدركه إنما هو والد إبراهيم المذكور، وهو المعروف بالرضي الطبري، فإن مولد الوالد المذكور سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، فإنما أدرك من زمن ابن الصلاح عشر سنين، فكيف يكون ولده راويا عن ابن الصلاح بلا واسطة؟ وقال الأقشهري عقب ما تقدم عنه: وقد سقط هذا المسمار سنة عشرين وسبعمائة، ولم يردّ إلى موضعه إلا في رجب عام أربع وعشرين وسبعمائة. قلت: وقد أخرج في هذه العمارة من موضعه عند ترخيم جدار الحجرة الشريفة، ثم أعيد في محله الأول بعينه في الرخامة الحمراء التي كان بها، ثم سقط من محله في الحريق الثاني، وجدد مسمار آخر في محله، ولا يختلف أحد ممن أدركناه بالمدينة الشريفة في أن ذلك الموضع تجاه الوجه الشريف، وهو الذي يقتضيه الحال عند مشاهدة الحجرة الشريفة من داخلها، غير أني رأيت في كلام يحيى ما يوهم خلاف ذلك، فإنه ذكر أن الموضع الذي يواجه الوجه الشريف هو ما بين الأسطوانة المتوسطة في قبلة جدار قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، بين هذا الموضع وبين الأسطوان شبران وثلاث أصابع متفرجة من الحفيرة إلى الوسطى، وإن كل من أدركه من أهل بيته كانوا إذا وقفوا للسلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم وقفوا قريبا من هذا الموضع، وكانت ثم علامة قد تعلموا بها حفيرة ولم تزل ثمّ منذ علمت إلى أن عمر الصانع المسجد في ولاية أمير المؤمنين المتوكل فإنه أزر القبر بالرخام فذهبت العلامة منذ ذلك. وقال: إن موسى بن جعفر قال: من وقف في هذا الموضع منحرفا واضعا شق وجهه الأيمن استقبل وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان علي بن الحسين يقف ثم، انتهى. قلت: الأسطوانة الوسطى التي يشير إليها هي البارزة في الصفحة القبلية من جدار القبر، يقف قربها المسلم على عمر رضي الله عنه، وبينها وبين المسمار المذكور نحو ثلاث أذرع أو أزيد، وقد قال: إن الموضع الذي ذكره بينه وبين الأسطوانة المذكورة شبران وثلاثة أصابع، فيكون بعيدا من المسمار المذكور بنحو الذراعين وقد شاهدنا الأسطوانة المذكورة من داخل الحجرة فرأيناها قريبة من نهايتها، بحيث إن من دفن هناك ووجهه في محاذاة الموضع الذي ذكره يحيى كانت رجلاه في جدار الحجرة الشرقي كما نقل ذلك في دفن عمر رضي الله عنه، فيبعد كل البعد كون الوجه الشريف في محاذاة ذلك الموضع، على أن ما نقله عن موسى بن جعفر يقتضي أن استقبال الوجه الشريف للواقف في الموضع الذي ذكره إنما يكون مع الانحراف ووضع شق الوجه الأيمن يعني على جدار القبر، وعلى هذا فيستقبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الزائر جهة المغرب حتى يحصل ذلك، وذلك لأن الحائط القبلي منحرف كما أشرنا إليه في التصوير المتقدم، فلا يقتضي ذلك أن المستقبل للمحل الذي عينه من غير وضع وجهه يكون مقابلا للوجه الشريف، وإنما يسامت الواقف الوجه الشريف إذا حاذى المسمار المتقدم وصفه، وكأن يحيى يرى أن الزائر يلصق خده بجدار القبر على الهيئة السابقة، فيصير محل المسمار المذكور أمامه، ولذلك أورد عقب ما تقدم عنه قصة أبي أيوب الأنصاري الآتي ذكرها في التزامه القبر. واعلم أن تشبيك باب المقصورة التي حدثت إدارتها على ما حول الحجرة الشريفة قد يمنع من مشاهدة المسمار المذكور إلا لمن يتأمل ذلك من تشبيكه، وذلك يشغل قلب الزائر، وقد تحرر لنا أن ما يقابله من ذلك هو الصرعة الثانية من باب المقصورة القبلي الذي على يمين مستقبل القبر الشريف، فمن حاذى هذه الصرعة كان محاذيا لذلك، وهذا المسمار مموّه بالذهب رأسه مستدير، وقد أحدث متولي العمارة مسمارا آخر رأسه فضة، لكنه في أول هذه الصفحة القبلية مما يلي المغرب قريبا من جهة الصندوق المتقدم وصفه، ورأس هذا المسمار مكوكب كالقبة، فلا يشتبه بالمسمار المتقدم، وأحدث أيضا مسمارين آخرين في ابتداء الصفحة الغربية مما يلي القبلة قريبا من مسماره المتقدم، وما علمت السبب في إحداث ذلك، وقد زالت هذه المسامير الثلاثة المحدثة بالحريق الثاني. وأما الموضع المعروف بمقام جبريل عند مربعة القبر فقد تقدم أنه كان هناك مسمار في منحرف المربعة إلى الزاوية الشمالية من الحجرة علامة عليه، فلم نجده هناك، وسألت عنه الخدام والمرخمين فقالوا: إنهم لم يجدوا هناك شيئا، وتسمية ذلك الموضع بمقام جبريل تقدم مستنده في الكلام على أسطول مربعة القبر، ولم أدر لم سمي بذلك، إلا أن ابن جبير ذكر هذا المحل من الحجرة الشريفة، وقال: وعليه ستر مسبل يقال: إنه كان مهبط جبريل عليه السلام، انتهى. لكن ترجم ابن شبة في كتابه لمقام جبريل ثم قال: قال أبو غسان: علامة مقام جبريل عليه السلام التي يعرف بها اليوم أنك تخرج من الباب الذي يقال له باب آل عثمان، فترى على يمينك إذا خرجت من ذلك الباب على ثلاثة أذرع وشبر وهو من الأرض على نحو من ذراع وشبر حجرا أكبر من الحجارة التي بها جدار المسجد، قال: فكان مالك بن أنس يقول، وسقط ما بعد ذلك من كتاب ابن شبة فلم أدر ما هو، لكن يستفاد من ذلك حكاية خلاف في مقام جبريل: هل هو داخل المسجد عند المربعة المذكورة أو خارجه عند باب آل عثمان وهو المعروف اليوم بباب جبريل؟ ولعل ذلك سبب تسمية الباب المذكور بذلك، كما ستأتي الإشارة إليه. وقال ابن زبالة: أخاف المسجد من شرقيه في سلطان محمد بن عبد الله بن سليمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 الربعي من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب من ناحية موضع الجنائز، فأمر به فبنى، وتعلم مقام جبريل عليه السلام بحجر ونقش فيه خاتم سليمان ومشق لأن يعرف به مقام جبريل، ومقام جبريل يمناه داخل في المسجد، فبلغ ذلك مالك بن أنس، فتكلم فيه وأنكره وعابه، فغير وجعل مكانه حجر طويل مصمت لا علم فيه مخالف لحجارة المسجد، انتهى؛ فيحتمل أن يريد بقوله «ومقام جبريل يمناه داخل المسجد» الموضع المتقدم ذكره من الحجرة الشريفة، ويحتمل أن يريد أن الباب قد قدم عن محله الأول في محاذاته، فصار مقام جبريل داخل المسجد في محاذاة ذلك، ويرجح هذا أن الظاهر أن الأصل في مقام جبريل ما قدمناه في غزة بني قريظة من رواية صاحب الاكتفاء أن جبريل عليه السلام أتى في ذلك اليوم على فرس عليه اللأمة حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز، وإن على وجه جبريل لأثر الغبار، اه؛ فلذلك سمي الباب المذكور بباب جبريل؛ إذ لم يكن حينئذ للمسجد باب في ناحية الجنائز غيره. وفي رواية البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم عندنا، فسلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فزعا، فقمت في أثره، فإذا بدحية الكلبي، فقال: هذا جبريل عليه السلام يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة، والله أعلم. كسوة الحجرة النبوية وأما كسوة الحجرة الشريفة فقد ذكر ابن النجار ما قدمناه في تأزير الحجرة الشريفة بالرخام وعمل الجواد الأصبهاني في الشباك المتخذ من خشب الصندل المتقدم وصفه على جدارها، ثم قال: ولم تزل الحجرة الشريفة على ذلك حتى عمل لها الحسين بن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير الملوك المصريين ستارة من الديبقي الأبيض، وعليها الطروز والجامات المرقومة بالإبريسم الأصفر والأحمر، ونيطها وأدار عليها زنارا من الحرير الأحمر، والزنار مكتوب عليه سورة (يس) بأسرها، وقيل: إنه غرم على هذه الستارة مبلغا عظيما من المال، وأراد تعليقها على الحجرة، فمنعه قاسم بن مهنى أمير المدينة وقال: حتى تتأذن الإمام المستضيء بأمر الله. فبعث إلى العراق يستأذن في تعليقها، فجاءه الإذن في ذلك، فعلقها نحو العامين، ثم جاءت من الخليفة ستارة من الإبريسم البنفسجي عليها الطرز والجامات البيض المرقومة وعلى دوران جاماتها مكتوب بالرقم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعلى طرازها اسم الإمام المستضيء بأمر الله، فشيلت تلك ونفذت إلى مشهد علي بن أبي طالب بالكوفة، وعلقت هذه عوضها، فلما ولي الإمام الناصر لدين الله نفذ ستارة أخرى من الإبريسم الأسود، وطرزها وجاماتها من الإبريسم الأبيض، فعلقت فوق تلك، فلما حجت الجهة أم الخليفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وعادت إلى العراق عملت ستارة من الإبريسم الأسود أيضا على شكل المذكورة ونفذتها فعلقت على هذه، ففي يومنا هذا على الحجرة ثلاث ستائر بعضهن على بعض، انتهى. وهو يقتضي أن ابن أبي الهيجاء أول من كسا الحجرة في خلافة المستضيء بأمر الله، وكانت خلافته في سنة ست وستين وخمسمائة، ومات سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وفي كلام رزين ما يقتضي مخالفته؛ فإنه قال في ضمن كلام نقله عن محمد بن إسماعيل ما لفظه: فلما كانت ولاية هارون أمير المؤمنين وقدمت معه الخيزران أمرت بتخليق مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتخليق القبر وكسته الزنانير وشبائك الحرير، انتهى. وقد رأيت في العتبية ما يصلح أن يكون مستندا في أصل الكسوة، فإنه قال في أوائلها: قيل لمالك: قلت إنه ينبغي أن ينظر في قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم كيف يكسون سقفه، فقيل: يجعل عليه خيش، فقال: وما يعجبني الخيش، وإنه ينبغي أن ينظر فيه، انتهى. قال ابن رشد في بيانه: كره مالك كشف سقف قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورأى من صونه أن يكون مغطّى، ولم ير أن يكتفي من ذلك بالخيش، وكأنه ذهب إلى أن يغطي بتغطية البيوت المسكونة، ولقد أخبرني من أثق به أنه لا سقف له اليوم تحت سقف المسجد، انتهى. وقد يضم إلى ذلك أنه إنما جاز كسوة الكعبة لما فيه من التعظيم، ونحن مأمورون بتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتعظيم قبره من تعظيمه، وهذا أولى بالجواز مما سيأتي عن السبكي في مسألة القناديل من الذهب حيث سلك بها هذا المسلك، وليس في كلام ابن زبالة ويحيى تعرض لأمر كسوة الحجرة، ولعله لأنها إنما حدثت بعدهما، مع أن ابن زبالة ذكر ما قدمناه في كسوة المنبر الشريف وجعل الستور على الأبواب، ونقل أن كسوة الكعبة كان يؤتى بها المدينة قبل أن تصل إلى مكة، فتنشر في مؤخر المسجد، ثم يخرج بها إلى مكة، ولم يذكر للحجرة كسوة. ثم ذكر تخليق الحجرة والمسجد فقال: وقدمت الخيزران أم موسى أمير المؤمنين المدينة في سنة سبعين ومائة، فأمرت بمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم فخلّق، وولي ذلك من تخليقه مؤنسة جاريتها، فقام إليها إبراهيم بن الفضل بن عبيد الله بن سليمان مولى هشام بن إسماعيل فقال: هل لكم أن تسبقوا من بعدكم وأن تفعلوا ما لم يفعل من كان قبلكم؟ قالت له مؤنسة: وما ذلك؟ قال: تخلّقون القبر كله، ففعلوا، وإنما كان يخلق منه ثلثاه أو أقل، وأشار عليهم فزادوا في خلوق أسطوان التوبة والأسطوان التي هي علم عند مصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم فخلقوهما حتى بلغوا بهما أسفلهما، وزادوا في الخلوق في أعلاهما، انتهى ولو كان لكسوة الحجرة وجود في زمانه لتعرض له. واعلم أن في عشر الستين وسبعمائة في دولة السلطان الصالح إسماعيل بن الملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 الناصر محمد بن قلاون اشترى قرية من بيت مال المسلمين بمصر، ووقفها على كسوة الكعبة المشرفة في كل سنة، وعلى كسوة الحجرة المقدسة والمنبر الشريف في كل خمس سنين مرة، هكذا ذكره التقي الفاسي في شفاء الغرام. وذكره الزين المراغي إلا أنه قال في الوقف على كسوة الحجرة: في كل ست سنين مرة، تعمل من الديباج الأسود المرقوم بالحرير الأبيض، ولها طراز منسوج بالفضة المذهبة دائر عليها، إلا كسوة المنبر فإنها بتقصيص أبيض. قلت: وما ذكراه من المدة المذكورة بالنسبة إلى الحجرة كأنه كان معمولا به في زمانهما، وأما في زماننا فيمضي عشر سنين ونحوها ولا تعمل، نعم كلما ولي ملك بمصر فإنه يعتني بإرسال كسوة. وذكر الحافظ ابن حجر في الكلام على كسوة الكعبة أن الصالح هذا اشترى حصة من بلد يقال لهل سندبيس، اشترى الثلثين منها من وكيل بيت المال، ووقفها على هذه الجهة، ولم يتعرض لكسوة الحجرة، فلعل الثلث الثالث الذي لم يذكره يتعلق بكسوة الحجرة لما قدمناه، ويحتمل أن ما يرد من الكسوة من جهة الملوك، لا من وقف، وعادتهم إذا وردت كسوة جديدة قسم شيخ الخدام الكسوة العتيقة على الخدام ومن يراه من غيرهم، ويحمل إلى السلطان بمصر منها جانبا، وحكم بيع كسوة الحجرة كحكم بيع كسوة الكعبة، وقد اختلف العلماء في ذلك قديما، وفي المسألة عندنا وجهان. وقال الحافظ صلاح الدين خليل العلائي: إنه لا يتردد في جواز ذلك الآن؛ لأن وقف الإمام للضيعة المتقدمة على الكسوة كان بعد استقرار هذه العادة والعلم بها، فينزل لفظ الواقف عليها، انتهى، والله أعلم. الفصل الخامس والعشرون في قناديل الذهب والفضة التي تعلق حول الحجرة الشريفة، وغيرها من معاليقها القناديل اعلم أني لم أر في كلام أحد ذكر ابتداء حدوث ذلك، إلا أن ابن النجار قال ما لفظه: وفي سقف المسجد الذي بين القبلة والحجرة على رأس الزوار إذا وقفوا معلّق نيف وأربعون قنديلا كبارا وصغارا من الفضة المنقوشة والساذجة، وفيه اثنان بللور، وواحد ذهب، وفيها قمر من فضة مغموس في الذهب، وهذه تنفذ من البلدان من الملوك وأرباب الحشمة والأموال، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 قلت: واستمر عمل الملوك وأرباب الحشمة إلى زماننا هذا على الإهداء إلى الحجرة الشريفة قناديل الذهب والفضة. ورأيت بحط شيخنا العلامة ناصر الدين العثماني أشياء نقلها من خط قاضي طيبة الزين عبد الرحمن بن صالح يتضمن ما كان يرد في كل سنة من ذلك؛ فذكر في سنة خمسة عشر قنديلا، وفي أخرى ثلاثة عشر، وفي أخرى عشرة، وفي أخرى إحدى وعشرين. قلت: وفي زماننا هذا يرد في غالب السنين ما يزيد على العشرين، ولا ضابط لذلك؛ فإنه يرد من نذور من ناس مختلفين، وكأن هذه القناديل كانت إذا كثرت رفعوا بعضها ووضعوه بالحاصل الذي في وسط المسجد، فاجتمع فيه شيء كثير فاتفق على ما ذكره الحافظ ابن حجر في سنة إحدى عشرة وثمانمائة أن فوض السلطان الناصر فرج لحسن بن عجلان سلطنة الحجاز، فاتفق موت ثابت بن نغير، وقرر حسن مكانه أخاه عجلان ابن نغير المنصوري، فثار عليهم جماز بن هبة بن جماز الجمازي الذي كان أمير المدينة، وأرسل إلى الخدام بالمدينة يستدعيهم، فامتنعوا من الحضور إليه، فدخل المسجد الشريف، وأخذ ستارتي باب الحجرة، وطلب من الخدام تسعة آلاف درهم على ألايتعرض لحاصل الحرم، فامتنعوا، فضرب شيخهم، وكسر قفل الحاصل، هكذا رأيته في «أنباء الغمر» للحافظ ابن حجر. والذي رأيته في محضر عليه خطوط غالب أعيان المدينة الشريفة ما حاصله: أن جماز بن هبة المذكور كان أمير المدينة، فبرزت المراسيم الشريفة بتولية ثابت بن نغير إمرة المدينة وأن يكون النظر في جميع الحجاز لحسن بن عجلان، ولم يصل الخبر بذلك إلا بعد وفاة ثابت بن نغير، فأظهر جماز بن هبة الخلاف والعصيان وجمع جموعا من المفسدين وأباح نهب بعض بيوت المدينة، ثم حضر مع جماعة إلى المسجد الشريف، وأهان من حضر معه من القضاة والمشايخ وشيخ الخدام باليد واللسان، وشهر سيفه عليهم، وكسر باب القبة حاصل الحرم الشريف، وأخذ جميع ما فيها من قناديل الذهب والفضة التي تحمل على تعاقب السنين من سائر الآفاق تقربا إلى الله ورسوله وأشياء نفيسة وختمات شريفة وزيت المصابيح وشموع التراويح وأكفان ودراهم يواري بها البطحاء، وقطع مكاتيب الأوقاف وغسلها، وقصد الحجرة الشريفة، وأحضر السلم لإنزال كسوة الضريح الشريف والقناديل المعلقة حوله، فلم يقدّر له ذلك ومنعه الله منه، وأخذ ستر أبواب الحجرة الشريفة من خزانة الخدام، وتعطل في ذلك اليوم وليلته والذي يليها المسجد الشريف من الأذان والإقامة والجماعة، وأخذ جماعته وأقاربه في نهب بيوت الناس ومصادرتهم، وأخذ جمال السواني، وارتحل هاربا عقب ذلك، ولما اتصل بحسن بن عجلان ما فوض إليه من أمر الحجاز استدعى بعجلان بن نغير وأقامه في إمرة المدينة، وعرفه ما برزت به المراسيم أولا في ولاية أخيه، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وذكر الحافظ ابن حجر أنه أخذ من الحاصل المذكور إحدى عشر خوشخانا وصندوقين كبيرين وصندوقا صغيرا بما في ذلك من المال وخمسة آلاف شقة من البطاين، وصادر بعض الخدام، ونزح عنها؛ فدخل عجلان بن نغير ومعه آل منصور فنودي بالأمان، ثم قدم عقبه أحمد بن حسن بن عجلان ومعه عسكر، يعني من مكة. قلت: ورأيت بخط شيخنا العلامة ناصر الدين المراغي قائمة ذكر أنه نقلها من خط قاضي طيبة الزين عبد الرحمن بن صالح صورتها: الذي كان في القبة، وأخذه جماز بن هبة، هو من القناديل الفضة ثلاثة وعشرون قنطارا وثلث قنطار، غير الذي في الرفوف، والصندوقين الذهب، ثم ذكر تفصيل ذلك في ثمان عشرة وزنة، ثم كتب ما صورته: خوشخانة مختومة لم تفتح، والظاهر أنها ذهب، وزنة القناديل التي في الرفوف أربع قناطير إلا ثلث، وتسع قناديل ذهب بالعدد في صندوق، وصندوق صغير مقفول، انتهى. وبلغنا أنه دفن غالب ذلك، ثم أخذه الله أخذا وبيلا فقتل هو ومن اطلع معه على دفن ذلك، فلم يعلم مكانه إلى اليوم. وقد ذكر الحافظ ابن حجر قتله في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة فقال: وفيها قتل جماز بن هبة ابن جماز بن منصور الحسيني أمير المدينة، وقد كان أخذ حاصل المدينة ونزح عنها، فلم يمهل وقتل في حرب جرت بينه وبين أعدائه، انتهى. قلت: إنما بيتته بعض عرب مطير فاغتاله وهو نائم. ورأيت في القائمة المتقدم ذكرها التي نقلها شيخنا المتقدم ذكره ما صورته: وزن ما في الحجرة من قناديل الذهب تسع قناطير، وورد بعد ذلك من أم السلطان قنديل زنته ألف مثقال، وورد من أخت السلطان قنديل زنته ألف وخمسمائة، وأربع قناديل كبار في الواحد منهم أربعة صغار، وفي الثاني اثنان صغار، وفي الثالث عدة قناديل معفوسة، وفي الرابع قنديل، زنة الجميع ثلاثة آلاف وسبعمائة وعشرون مثقالا، وعلى يد الطواشي صندل قنديلين صغار، ومعلق بعد ذلك عدة قناديل لم تكتب، انتهى. والظاهر أنه سقط بعد قوله «من قناديل الذهب» لفظ «والفضة» وفي هذه القائمة أيضا أن بالقبة- يعني قصة جماز المتقدمة- من قناديل الفضة مائة رطل وسبعة عشر رطلا وضعها بيسق بيده، انتهى. ثم إن الأمير غرير بن هيازع بن هبة الحسيني الجمازي أخذ جانبا من الحاصل المذكور في سنة أربع وعشرين وثمانمائة، زاعما أنه على سبيل القرض، وامتحن بعض قضاة المدينة لسبب ذلك، ثم حمل غرير المذكور إلى القاهرة محتفظا به، ومات بها مسجونا. ولم تزل هذه القناديل في زيادة حتى عدا عليها في ليلة السابع والعشرين من ذي الحجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 سنة ستين وثمانمائة برغوث بن بتير بن جريس الحسيني؛ فدخل الدار المعروفة بدار الشباك بجانب باب الرحمة ليلا، ولم يكن بها ساكن، وتسوّر جدار المسجد، ودخل بين سقفي المسجد الشريف من شباك هناك، ومشى حتى بلغ ما يحاذي سقف الحجرة الشريفة، فأخذ من تلك القناديل شيئا كثيرا، وكأنه تردد لذلك المرة بعد الآخرى، ولم يشعر أهل المسجد ونظاره بشيء من ذلك، غير أن أمة لبعض جيران الدار المذكورة رأت من سطح دارهم شخصين في أعلى دار الشباك يتعاطيان شيئا له حجم كبير وصوت صليل، فلما أصبحت أخبرت بواب المسجد فلم يعبأ بذلك لخلو تلك الدار، وبعد ذلك الأمر عن الأفكار، ولكن الله أراد هتك المذكور وحلول النقمة به، فأنهى بعض الناس إلى أمير المدينة أن المذكور معه شيء كثير من المال غير معهود، فأمسكه الأمير وضيّق عليه بالسجن، فانخلس ليلا، ثم شاع بالمدينة بيع شبابيك من الفضة والذهب، فكثر القال والقيل، ثم في شهر ربيع الأول من سنة إحدى وستين استفاض أن برغوثا بالينبع ومعه قطع من ذهب القناديل، فافتقد النظار الحجرة الشريفة، فرأوا أكثر القناديل مأخوذا، فعلموا الحال، لكن لم يعلموا الكيفية، واتهمت ابنة السراج النفطي بممالأة برغوث على ذلك وأنه إنما تسور من بيت أبيها لكونه متصلا بالمسجد في قبلته، وأظهر الله براءتها بعد ذلك، وكان بالمدينة إذ ذاك زين الدين استدار الصحبة فعقد مجلسا لذلك، واجتمع أعيان أهل المدينة، وكتبوا إلى أمير الينبع بالقبض على برغوث وإرساله، فقبض عليه، فاعترف أنه فعل ذلك هو ودبوس بن سعد الحسيني الطفيلي، وجعل أن دخوله من بيت المرأة المتقدم ذكرها، وأن بعض الخدام واطأه على ذلك، ثم أظهر الله الحق، وأن دخوله إنما كان من دار الشباك، وأن شريكه المعين له على ذلك دبوس المذكور، ولم ير أمير ينبع إرساله إلى المدينة، بل تركه عنده منتظرا الأوامر السلطانية، ثم إن أمير المدينة أمسك دبوسا وبعض أقاربه، فأنكر هو، وأقر عليه بعض جماعته وأحضروا جانبا من الذهب والفضة، ثم هرب برغوث من الحبس بالينبع، ثم ساقه الله إلى المدينة، فلما وصل دلّ عليه أميرها، فأمسكه وحبسه مع دبوس وذويه، فهربوا، ثم أظفر الله بهم، ولم يغب منهم إلا دبوس، وبرزت المراسيم بقتل من تجرأ على هذه العظيمة، فقتل أمير المدينة برغوثا وآخر معه من أقاربه يسمى ركابا، وصلبهما، ثم ظفر بدبوس وقتله أيضا. وأخبرت عن برغوث أنه قال: كنت كلما توجهت في حال هربي لغير جهة المدينة كأني أجد من يصدني عن ذلك، وإذا قصدت جهة المدينة تيسرت لي وكأن شخصا يقودني إليها حتى دخلتها. وأما عدة القناديل الموجودة في زماننا هذا بالحجرة الشريفة فقد ضبطت في أول سنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 إحدى وثمانين وثمانمائة بأمر السلطان الأشرف لشيخ الحرم الأمير انيال والقضاي الزكوي؛ فكان عدة معاليق الذهب ثمانية عشر قنديلا وبعض قنديل، وأربع مشنات، ومغرافان، وسواران، وزنة ذلك سبعة آلاف قفلة وستمائة وخمسة وثلاثون، من ذلك قنديل كبير في جهة الوجه الشريف زنته أربعة آلاف وستمائة قفلة، أهداه سلطان الكلرجه شهاب الدين أحمد، وعدة معاليق الفظة ثلاثمائة قنديل وأربعة وأربعون قنديلا، وثرية كبيرة، زنة ذلك ستة وأربعون ألف وأربعمائة وخمسة وثلاثون قفلة، وكانت ضبطت قبل ذلك في سنة اثنتين وستين وثمانمائة على يد الأمير بردبك التاجي فتحرر من النظر بين المقدارين أن الزائد على ما ضبط في التاريخ المتقدم من الذهب ألف قفلة ومائة وخمسة وخمسون، ومن الفضة ثلاثة عشر ألف قفلة وسبعمائة وخمسة وثمانون قفلة، فذلك القدر هو الوارد من عام ثلاث وستين إلى آخر عام تسع وسبعين، وهناك من المعاليق أيضا غير ما تقدم قنديل من بلور بتابوت من فضة، وقناديل نحاس أربعة، وفولاذ واحد مكفّت بالذهب مشبك مكتوب عليه أن الناصر محمد بن قلاوون علقه من يده إلى عام حجه، ثم ورد في سنة ثمانين في مشيخة الشيخ انيال ولم يدخل في الجملة المتقدمة قنديلان من الذهب زنتهما مائة وخمسة وعشرون قفلة، ومن الفضة اثنان وثلاثون قنديلا زنتها ألف ومائتان وخمسة وسبعون قفلة، وفي سنة إحدى وثمانين قنديل ذهب زنته مائة واثنان وأربعون قفلة، وأربعة وعشرون قنديلا من الفضة زنتها تسعمائة وخمسون قفلة، وفي سنة اثنين وثمانين من الفضة أحد وثلاثون قنديلا زنتها ألف وخمسمائة وخمسون قفلة، ولم يرد شيء من الذهب، وفي سنة ثلاث وثمانين من الذهب قنديل واحد زنته عشرون قفلة، ومن الفضة خمسة وعشرون قنديلا زنتها ألف ومائة وخمسة وثلاثون قفلة، وفي سنة أربع وثمانين من الفضة تسعة عشر قنديلا زنتها سبعمائة وخمسة وأربعون قفلة، ولم يرد شيء من الذهب؛ فجملة ما ورد في ولاية الأمير انيال في المدة المذكورة من الذهب أربعة قناديل جملة زنتها مائتان وسبعة وثمانون قفلة، ومن الفضة مائة قنديل وتسعة وعشرون قنديلا جملة زنتها خمسة آلاف وستمائة وخمسة وخمسون قفلة، ولما شرعوا في عمارة الحجرة الشريفة الآتي ذكرها في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة رفعوا جمع المعاليق التي كانت حولها، ووضعت بالقبة التي بصحن المسجد بأمر متولي العمارة الجناب الشمسي، ولم يزل بها إلى تاريخه، ولم يكن اليوم حول الحجرة الشريفة من المعاليق إلا ما تجدد في آخر سنة إحدى وثمانين إلى آخر سنة أربع وثمانين، ثم حسّن متولي العمارة للسلطان صرف ذلك في مصالح المسجد والمدينة الشريفة، فحمل بعضه من الحاصل المذكور إلى مصر قبيل الحريق الثاني، ثم وجدوا ما سقط لسبب الحريق من القناديل التي كانت معلقة بحالها، ثم صرف متولي العمارة بعض ذلك في تذهيب السقف المعادة بعد الحريق، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وضع بهذه القبة ما تجمد من مصاريف حب السماط المجدد، فاجتمع بها نحو ثلاثة عشر ألف دينار، فاتفق أن أمير المدينة حسن بن زبيري المنصوري حضر بجماعة مع الاستعداد بالأسلحة والسيوف المسلولة؛ فدخل المسجد الشريف على تلك الحالة وقت الظهر من سادس ربيع الأول عام أحد وتسعمائة، وأمر خازندار الحرم الشريف بإحضار مفاتيح الحاصل المذكور، فامتنع من ذلك، فضربه ضربا مبرحا، ثم عمد إلى باب الحاصل المذكور وأحضر فأسا وكسره وأخذ جميع ما فيه من النقد والقناديل والسبايك، فحمل منه ثلاثة أحمال على فرسين وبغل وغراير تسع على ظهور الحمالين، ثم ذهب إلى حصنه وأحضر الصياغ وسبك تلك القناديل، وذكر أنه صنع ذلك رغبة عن إمرة المدينة؛ لأن ولايته كانت بطريق النيابة عن السيد الشريف محمد بن بركات لتفويض السلطان الأشرف إليه أمر الحجاز وأن المشار إليه صار يأخذ حصته مما يحمل له من الإقطاع ومن الصدقات، وعطل عليه أهل مصر بعض إقطاعه، فحمله ذلك على ما سبق. حكم معاليق المسجد النبوي أما حكم هذه المعاليق ونحوها من تحلية الصندوق المتقدم ذكره والقائم الذي بأعلاه فحكم معاليق الكعبة الشريفة وتحليتها، وقد تكلم السبكي في حكم قناديل الكعبة وحليتها والقناديل التي حول الحجرة الشريفة، وألّف في ذلك كتابا سماه «تنزل السكينة، على قناديل المدينة» فأورد حديث البخاري وغيره في كنز الكعبة وما تضمنه من إقرار النبي صلّى الله عليه وسلّم له بمحله، ثم أبي بكر بعده، ورجوع عمر رضي الله عنه لذلك لما ذكره به ابن شبة، وقال: هما المرآن يقتدي بهما، قال: فهذا الحديث عمدة في مال الكعبة، وهو ما يهدى إليها أو ما ينذر لها وما يوجد فيها من الأموال. قال ابن بطال: أراد عمر إنفاقه في منافع المسلمين، ثم لما ذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يتعرض له أمسك، وإنما ترك ذلك والله أعلم لأن ما جعل في الكعبة وسبّل لها يجري مجرى الأوقاف؛ فلا يجوز تغييره عن وجهه، وفي ذلك تعظيم للإسلام وترهيب للعدو. قلت: قد تعقب ذلك الحافظ ابن حجر باحتمال أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما تركه رعاية لقلوب قريش، كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ويؤيده ما وقع عند مسلم في بعض طرق حديث عائشة رضي الله عنه ولفظه «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض» الحديث، فهذا التعليل هو المعتمد. قلت: لكن قد يقال: حيث تركه النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذه العلة ثم تركه أبو بكر ثم عمر بعد الهم به ورجوعه عن ذلك ثم من بعده فهو إجماع على تركه؛ فلا نتعرض له؛ لما يترتب عليه من الشناعة والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 قال السبكي: ولا يغلط في أن ذلك يصرف إلى فقراء الحرم، فإنما يكون ذلك إذا كان الإهداء إلى الحرم أو إلى مكة، أما إذا كان للكعبة نفسها فلا يصرف إلا إليها، كأن تعرض لها عمارة فحينئذ ينظر: فإن كانت تلك الأموال قد أرصدت لذلك صرفت فيه، وإلا فيختص بها الوجه الذي أرصد له، فالمرصد للبخور مثلا لا يصرف للسترة. قال: وأما القناديل التي فيها والصفائح التي عليها فلا يصرف منها شيء، بل تبقى على حالها، وقول عمر «لقد هممت ألاأدع فيها صفرا ولا بيضا» محتمل للنوعين، ولم ينقل إلينا صفتها التي كانت ذلك الوقت، ومن قال أول من ذهّب البيت في الإسلام الوليد لا ينفي أن يكون البيت ذهّب في الجاهلية وبقي إلى عهد عمر. قلت: قد نقل التقي الفاسي عن خط الحافظ رشيد الدين بن المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي ما لفظه: وفيها- أي سنة خمس وستين- استتم ابن الزبير بناء الكعبة، ويقال: إنه بناها بالرصاص المذوب المخلوط بالورس، وجعل على الكعبة وأساطينها صفائح الذهب ومفاتحها ذهبا، اه. فإن صح فهو أولى ما يحتج به. ثم نقل السبكي عن الرافعي أنه قال: لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة وتعليق قناديلها. ثم نقل أن في تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة وتعليق قناديلها وجهين مرويين في الحاوي وغيره: أحدهما: الجواز، تعظيما كما في المصحف، وكما يجوز ستر الكعبة بالديباج، وأظهرهما المنع؛ إذ لم ينقل ذلك عن فعل السلف، ثم استشكل كلام الرافعي فقال: وأما التسوية بين الكعبة والمساجد فلا ينبغي؛ لأن للكعبة من التعظيم ما ليس للمساجد، بدليل جواز سترها بالحرير إجماعا، وفي ستر المساجد به خلاف، فحكاية الخلاف فيها مشكل، وترجيح المنع أشكل، وكيف وقد فعل ذلك في صدر هذه الأمة، وقد تولى عمر بن عبد العزيز عمارة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الوليد وذهّب سقفه بأمره من غير مراجعة، بل لما ولي الخلافة بعد ذلك أراد أن يزيل ما في جامع بني أمية من الذهب فقيل له: إنه لا يتحصل منه شيء يقوم بأجرة حكّه، فتركه. والصفائح التي على الكعبة يتحصّل منها شيء كثير، فلو كان فعلها حراما لأزالها في خلافته، فلما تركها ومعه جميع من يحج كل عام وجب القطع بجوازها، وهذا في تحلية الكعبة بالصفائح، ولا منع من جريان الخلاف في التمويه لإزالة المالية، ولا من إجراء الخلاف في سائر المساجد تمويها وتحلية، على أن القاضي حسين جزم بحل تحلية المسجد بالقناديل من الذهب ونحوها، وأن حكمها حكم الحلي المباح، وهذا أرجح مما قال الرافعي؛ لأنه ليس على تحريمهما دليل، والحرام من الذهب إنما هو استعمال الذكور له، والأكل والشرب ونحوهما، وليس في تحلية المسجد بالقناديل ونحوها شيء من ذلك، لكن لا أقول إنه ينتهي إلى حد القربة في سائر المساجد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وتعليل الرافعي لما قاله بأن ذلك لم ينقل عن فعل السلف عجيب؛ إذ لا يقتضي ذلك التحريم، ومن حرّم اتخاذ الآنية وهو الأصح فإنما حرمه لأن النفس تدعو إلى الاستعمال المحرّم، وذلك إذا كانت له، وأما إذا جعلها للمسجد فلا تدعو النفس لذلك، فكيف يحرم وهي لا تسمى أواني؟ قال: ورأيت الحنابلة قالوا بتحريمها للمسجد، وجعلوها من الأواني أو مقيسة عليها، وليس بصحيح، ومن يقول بجواز التحلية والقناديل في سائر المساجد فلا شك أنه يقول بها في المساجد الثلاثة بطريق الأولى، ومن منع فلم يصرح في المساجد الثلاثة بشيء، لكن عموم كلامهم يشملها، وينبغي ترتيب الخلاف: ففي المساجد غير الثلاثة وجهان أصحهما الجواز، ومسجد بيت المقدس أولى بالجواز، والمسجدان مسجد مكة ومسجد المدينة أولى منه، ثم المسجدان على الخلاف في تفضيلهما، وقد يقال إن مسجد المدينة أولى لمجاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقصد تعظيمه بما في مسجده من ذلك، هذا كله بحث، والمنقول ما تقدم. وهذا في الاتخاذ من غير وقف، فإن وقف المتخذ من ذلك فقد قطع القاضي حسين والرافعي بأنه لا زكاة فيه، وقد رجح الرافعي فيها التحريم، فكيف يرجح ذلك؟ إذ مقتضاه صحة وقفها، فلعل مراد الرافعي إذا وقفت على قصد صحيح وإذا فرعنا على صحة وقفها. قال: وهذا حكم المساجد في ذلك، وأما الحجرة الشريفة فتعليق القناديل فيها أمر معتاد من زمان، ولا شك أنها أولى بذلك من غيرها، والذين ذكروا الخلاف في المساجد لم يذكروها، وكم من عالم وصالح قد أتى للزيارة ولم يحصل من أحد إنكار لذلك. فهذا وحده كاف في جواز ذلك مع ما تقدم، واستقراء الأدلة فلم يوجد فيها ما يدل على المنع. قال: فنحن نقطع بالجواز، والحجرة الشريفة هي بيت عائشة وما حوله، وأشار إلى بيان أن ما حوله إما منه أو من بقية الحجر المدخلة في المسجد. قال: والمدفن الشريف بالحجرة له شرف على جميع المساجد وعلى الكعبة؛ فلا يلزم من المنع في المساجد والكعبة المنع هنا. قال: ولم نر أحدا قال بالمنع هنا، فما وقف من ذلك إكراما لذلك المكان صح وقفه، وإن اقتصر على إهدائه صح أيضا كالمهدى للكعبة، وكذلك المنذور له، وقد يزاد هنا فيقال: إنه مستحق للنبي صلّى الله عليه وسلّم والنبي صلّى الله عليه وسلّم حي، وإنما يحكم بانقطاع ملكه بموته عما كان في ملكه وجعله صدقة بعده. وأما هذا النوع فلا يمتنع ملكه له، وهو الذي في أذهان كثير من الناس حيث يقولون: هذا للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ثم أورد ما رواه يحيى بن الحسين بسنده من الخبر الآتي في إجمار المسجد عن عبد الله بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 محمد بن عمار عن أبيه عن جده قال: أتى عمر بن الخطاب بمجمرة من فضة فيها تماثيل، فدفعها إلى سعد أحد المؤذنين، وقال: أجمر بها في الجمعة وفي شهر رمضان، فكان سعد يجمر بها بين يدي عمر بن الخطاب، الخبر الآتي. ثم قال: عبد الله بن محمد بن عمار بن سعد القرظ ضعفه ابن معين، وكذا الراوي عنه، ومحمد بن عمار حسن له الترمذي، فلو سلم ممن دونه كان جيدا، ومقتضى اشتراط الفقهاء الاحتواء في المجمرة عدم تحريم هذا الصنيع، لكن العرف دال على عد ذلك استعمالا، فإما أن يكون الحديث ضعيفا، وإما أن يكون احتمل ذلك لأجل المسجد تعظيما له، فتكون القناديل بطريق الأولى؛ إذ لا استعمال فيها. قال: ولا يجوز صرف شيء من قناديل الحجرة في عمارتها، ولا في عمارة المسجد؛ لأنها إنما أعدت للبقاء، وليس قصد بها جهات إلا ذلك، سواء وقفها أو اقتصر على إهدائها. قال: وقد سئلت عن جواز بيعها لعمارة المسجد النبوي، فأنكرته واستقبحته، وكيف يبلغ ملوك الأرض أنا بعنا قناديل نبينا لعمارة حرمه ونحن نفديه بأنفسنا فضلا عن أموالنا؟ وما برحت الملوك يفتخرون بعمارته. قلت: وقد تعقبه جماعة، والمحل قابل للمناقشة، وليس ذلك من غرضنا، غير أنا نقول: ستر الكعبة بالديباج قام عليه الإجماع، وأما التحلية بما ذكر فلم يثبت عن من يحتج بفعله، وترك عمر بن عبد العزيز يحتمل أعذارا ليس هذا محل بيانها. وقد نقل الشيخ الموفق الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب، والقناديل من الأواني بلا شك، واستعمال كل شيء بحسبه؛ فاستعمال ما ذكر بتعليقه للزينة، وقد سلم تحريم اتخاذ الأبنية منها أيضا. وقد ذكر الجمال الكازروني المدني أشياء أيّد بها كلام السبكي: منها أن الله تعالى قال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور: 36] قال: وهي بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد، ومعنى ترفع تعظم ويرفع شأنها وتزين، وتزيينها تعليق قناديل الذهب فيها، وتطهر من الأنجاس والأقذار وتطيب. قلت: قوله «ومن تعظيمها تعليق ذلك فيها» هو محل النزاع؛ لأن من حرم ذلك لا يسلمه، والله أعلم. ومنها: أنه روي عن عثمان تعليق قناديل الذهب بالمسجد النبوي. قلت: ولعله من اختلاف أعدائه عليه، ولم أره مسطورا في تأليف، ولو كان له أصل لذكره مؤرخو المدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ومنها: أن عمر بن عبد العزيز فعله في بنيانه للوليد ولم ينكر عليه. قلت: ولم أره في تأليف أيضا. ومنها: أنه روي أن سليمان بن داود عليه السلام بنى مسجد بيت المقدس، وبالغ في زينته وتعليق القناديل فيه، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ. قلت: لم ينقل تعليق داود عليه السلام لقناديل الذهب به، ولو صح ذلك فالناسخ في شرعنا تحريم الآنية، وهذا آنية، وما تقدم عن السبكي في كونه ليس بانية ممنوع. ومنها: ما رواه الثعلبي في حديث إتيان المساجد يوم القيامة، وفيه «وأئمتها يسوقونها، وعمارها ومزينوها ومحلوها متعلقون بها» الحديث. قلت: أخذ ذلك من رواية القرطبي عن الثعلبي، كما رأيته في بعض النسخ، وقد راجعت القرطبي أيضا في ذلك فرأيته روى الحديث المذكور من طريق الثعلبي، وليس فيه «ومزينوها ومحلوها» بل لفظه «وعمارها متعلقون بها» . ومنها: ما رواه سعيد بن ربان- بالموحدة المشددة- قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده عن أبي هند قال: حمل تميم يعني الداري من الشام إلى المدينة قناديل وزيتا ومقطا وقنديلا أو قنديلين من الذهب، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة، فأمر غلاما يقال له أبو البراد، فقام فبسط المقط وعلق القناديل، وصب فيها الماء والزيت، وجعل فيها الفتل، فلما غربت الشمس أمر البراد فأسرجها، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد، فإذا هو بها تزهر، فقال: من فعل هذا؟ قالوا: تميم الداري يا رسول الله، فقال: نورت الإسلام، وحليت مسجده، نور الله عليك في الدنيا والآخرة! - الحديث. قلت: قد أخذ ذلك من تفسير القرطبي، كما رأيته في بعض النسخ، وفي بعضها إسقاط عروة للقرطبي، وقد راجعت تفسير القرطبي فرأيته أورد الحديث المذكور بحروفه، وليس فيه قوله «وقنديلا أو قنديلين من الذهب» ولا قوله «وحليت مسجده» . ومنها: ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل الشام تلقاه معاوية بعساكر وجنود كثيرة وخيول مسومة وأسلحة مخوصة بالذهب والفضة ولبوس الحرير والديباج وزينة حسنة كزينة فارس والروم، فقال عمر: ما هذا يا معاوية؟ وما هذه الزينة والفخار؟ لقد أتيت أمرا إمرا وارتقيت مرتقى صعبا، فقال: يا أمير المؤمنين هذا غيظ كفارنا، ومقهرة لأعدائنا، وإن فرائصهم لترتعد، وإن قوائمهم لتخور من ذلك، وإنا لنجد بذلك المظهر عليهم والذلة والصغار فيهم، وأشربوا في قلوبهم الرعب حين يرون مساجدنا محلاة بالذهب وسقوفها منقطة بقناديل الذهب- الخبر، وفيه أن عمر سكت عنه. قلت: الخبر ذكره المؤرخون، ومثله لا تقوم الحجة به، ولم أر فيه الزيادة المتعلقة بتحلية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 المساجد، وقد رأيت في بعض النسخ نسبة ذلك للذهبي في تاريخ الإسلام، وأسقط العزو في نسخة أخرى، فليراجع ذلك من تاريخ الإسلام، فإن لم يكن فيه هذه الزيادة فالذي يظهر لي أن بعض المتعصبين ألحق هذه الأشياء في الروايات المتقدمة ليتم بها الاستدلال، فإن المسألة وقع فيها تعصبات، وكأن الجمال الكازروني إنما أراد إفادة أصل وضع القناديل، وذكر ما يشعر بهذا الأمر، فلما رأى ذلك المتعصب أن الاستدلال لا يتم إلا بذلك ألحقه، ولم يشعر أنه لو كان ذلك موجودا لم يكن فيه حجة لعدم اتصال السند الصحيح في ذلك. ومن تأمل سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأحواله لم يخف عليه أن كل ذلك لم يكن يعجبه في حياته، هذا الذي أعتقده، والله أعلم. الفصل السادس والعشرون في الحريق الأول القديم المستولي على تلك الزخارف المحدثة بالحجرة الشريفة والمسجد وسقفهما، وما أعيد من ذلك، وما تجدد من توسعة المسقف القبلي بزيادة الرواقين فيه، وغير ذلك سبب الحريق وتاريخه قال المؤرخون: احترق المسجد النبوي ليلة الجمعة أول شهر رمضان من سنة أربع وخمسين وستمائة في أول الليل، ونقل أبو شامة أن ابتداء حرقه كان من زاويته الغربية من الشمال، وسبب ذلك- كما ذكره أكثرهم- أن أبا بكر بن أوحد الفراش أحد القوّام بالمسجد الشريف دخل إلى حاصل المسجد هناك ومعه نار، فغافل عنها إلى أن علقت في بعض الآلات التي كانت في الحاصل، وأعجزه طفيها، ثم احترق الفراش المذكور والحاصل وجميع ما فيه. وقد صنف القطب القسطلاني في ذلك وفي النار المتقدم ذكرها في الفصل الثالث من الباب الثاني وهي نار الحجاز التي ظهرت بالمدينة الشريفة في ذلك العام كتابا سماه «عروة التوثيق، في النار والحريق» ذكر فيه بدائع من حكم الله تعالى في حدوث ذلك، وقد كان القطب بمكة حين وقع ذلك، وقد نبه فيه على ما يوافق ما قدمناه عن المؤرخين. فقال: كتب إلى الصادق في الخبر، وشافهني من شاهد الأثر، أن السبب في حريق المسجد الشريف دخول أحد قومة المسجد في المخزن الذي في الجانب الغربي من آخر باب المسجد لاستخراج قناديل لمنائر المسجد، فاستخرج منها ما احتاج إليه، ثم ترك الضوء الذي كان في يده على قفص من أقفاص القناديل وفيه مشاق، فاشتعل فيه، وبادر لأن يطفأه فغلبه وعلق بحصر وبسط وأقفاص وقصب كان في المخزن، ثم تزايد الالتهاب وتضاعف إلى أن علا إلى سقف المسجد، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وفي العبر للذهبي أن حرقه كان من مسرجة القوّام. قال المؤرخون: ثم دبت النار في السقف بسرعة آخذة قبله، وأعجلت الناس عن إطفائها بعد أن نزل أمير المدينة فاجتمع معه غالب أهل المدينة فلم يقدروا على قطعها، وما كان إلا أقل من القليل حتى استولى الحريق على جميع سقف المسجد الشريف واحترق جميعه حتى لم تبق خشبة واحدة. قلت: لعل مرادهم لم تبق خشبة كاملة؛ لما قدمناه من مشاهدة بقايا خشب كثير عند إخراج الهدم الذي كان بالحجرة. قال القطب القسطلاني: وتلف جميع ما احتوى عليه المسجد الشريف من المنبر النبوي والأبواب والخزائن والشبابيك والمقصير والصناديق وما اشتملت عليه من كتب وكسوة الحجرة وكان عليها إحدى عشرة ستارة. حكمة الله في الحريق ثم ذكر القطب حكما لذلك وأسرارا، لكون تلك الزخارف لم ترضه صلّى الله عليه وسلّم، وككون القلوب لما لاحظت المساجد الثاثة بعين التعظيم ولا يجوز في ذلك أن تنزل فوق قدرها، بل لا بد أن يعتقد أن صفة قهره تعالى وعظمته مستولية على الجميع؛ فهو الواحد القهار، فوقع الحريق في الكعبة وبيت المقدس قديما، ثم وقع بهذا المسجد في هذا الزمان عقب ظهور المعجزة العظيمة في ظهور نار الحجاز التي أخبر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم وحماية جيرانه منها لما التجؤوا إليه وانطفائها عند الوصول إلى حرمه كما سبق، وربما خطر ببال العوام أن حبس النار عنهم ببركة الجوار موجب لحبسها عنهم في الآخرة، فاقتضى الحال التبيين بذلك. ونظم الأقشهري أبياتا مضمونها أن تسليط النار كان على تلك الزخارف المنهي عنها، وأن ما كان حقا فيبقى، وما كان زورا فبالنار يحرق، قال: وأنشدني الحافظ الصالح الشيخ إبراهيم بن محمد الكناني رئيس المؤذنين هو وأبوه قال: وجد بعد الحريق في بعض جدران المسجد بيتان وهما: لم يحترق حرم النبيّ لريبة ... يخشى عليه وما به من عار لكنه أيدي الروافض لامست ... تلك الرسوم فطهّرت بالنار قلت: وأوردهما المجد بلفظ: لم يحترق حرم النبي لحادث ... يخشى عليه ولا دهاه العار لكنما أيدي الروافض لامست ... ذاك الجناب فطهرته النار وأورد بعدهما بيتين آخرين هما: قل للروافض بالمدينة ما بكم ... لقيادكم للذم كل سفيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 ما أصبح الحرم الشريف محرّقا ... إلا لسبكم الصحابة فيه قلت: وهذا لأن الاستيلاء على المسجد والمدينة كان في ذلك الزمان للشيعة وكان القاضي والخطيب منهم، حتى ذكر ابن فرحون أن أهل السنة لم يكن أحد منهم يتظاهر بقراءة كتب أهل السنة. قال المؤرخون: ولم يسلم سوى القبة التي أحدثها الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم مثل المصحف الكريم العثماني وعدة صناديق كبار متقدمة التاريخ صنعت- يعني تلك الصناديق- بعد الثلاثمائة، وهي باقية إلى اليوم، يعني في زمانهم، وذلك لكون القبة المذكورة بوسط صحن المسجد وببركة المصحف الشريف العثماني. وكانت عمارة القبة المذكورة- على ما ذكره ابن فرحون- سنة ست وسبعين وخمسمائة. قالوا: وبقيت سواري المسجد قائمة كأنها جذوع النخل إذا هبت الرياح تتمايل، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت، ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة على سقف بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة وعلى القبور المقدسة. وعبارة الذهبي وتبعه التقي السبكي: فوقع بعض سقف الحجرة، وكل ذلك قبل أن ينام الناس، وأصبحوا يوم الجمعة فعزلوا موضعا للصلاة، وكتب بذلك للخليفة المستعصم بالله أبي أحمد عبد الله بن المستنصر بالله في شهر رمضان، فوصلت الآلات صحبة الصناع مع ركب العراق في الموسم، وابتدئ بالعمارة أول سنة خمس وخمسين وستمائة. الشروع في العمارة بعد الحريق قال المطري: ولما شرعوا في العمارة قصدوا إزالة ما وقع من السقوف على القبور الشريفة فلم يجسروا على ذلك، واتفق رأي صاحب المدينة يومئذ- وهو الأمير منيف بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهني الحسيني- ورأى أكابر أهل الحرم الشريف من المجاورين والخدام أن يطالع الإمام المستعصم بذلك ليفعل ما يصل به أمره، فأرسلوا بذلك، وانتظروا الجواب، فلم يصل إليهم جواب لاشتغال الخليفة وأهل دولته بإزعاج التتار لهم، واستيلائهم على أعمال بغداد في تلك السنة، فتركوا الردم على ما كان عليه، ولم ينزل أحد هناك، ولم يتعرضوا له ولا حركوه. وعبارة المجد الشيرازي: فتركوا الردم على ما كان عليه، ولم يجسر أحد على التعرض لهذه العظيمة التي دون مرامها تزل الأقدام، ولا يتأتى من كل أحد بادئ بدئه الدخول فيه والإقدام. قلت: وقد كنت في تعجب عظيم من أهل ذلك الزمان في تركهم لذلك، وألفت كتابا سميته «الوفا، بما يجب لحضرة المصطفى» بينت فيه أن الواجب في سلوك الأدب مع هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 النبي العظيم والقيام بما وجب على الأمة من تعظيمه وتعظيم قبره الشريف هو إزالة ذلك عنه وقمّه من حجرته الشريفة، حتى اتفقت العمارة الآتي بيانها، ولم يكن تأليفي السابق سببا في شيء من ذلك كما سيأتي بيانه، حتى إني لم أطلع عليه متولي العمارة إلا بعد هدمه لشيء من جدار الحجرة، فلما نقبوا الجدار الظاهر شاهدت بين الجدارين في الفضاء الذي خلف الحجرة أمرا مهولا من الهدم الذي خص ذلك الموضع، فإنه كما سيأتي كان فيه نحو القامة، فعلمت أن أهل ذلك الزمان لم يتركوه إلا لعلمهم بأن إزالته لا تتأتى إلا بانتهاك الحرمة، فتوقفوا في ذلك، فجزاهم الله تعالى خيرا، وما كنت أعتقد إلا أنه أمر خفيف يتأتى قمّه مع رعاية الأدب، فوجدته أمرا مهولا معظمه ردم سقف المسجد الأعلى وما بين السقفين من البناء الذي على رؤوس السواري وغير ذلك، ولذلك استخرت الله تعالى في عدم حضور ذلك عند إخراجه، ووقفت بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم وسألت منه المدد في أن يوفقني الله تعالى لما يرضيه في ذلك، فحفظني الله من حضور ذلك. وقال المطري عقب قوله ولم يتعرضوا له ولا حركوه: إنهم أعادوا سقفا فوقه على رؤوس السواري التي حول الحجرة الشريفة؛ فإن الحائط الذي بناه عمر بن عبد العزيز حول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بين هذه السواري التي حول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبلغ به السقف. قلت: تبع المطري على ذلك من جاء بعده، فتوافقوا على أنهم لم يجعلوا للحجرة بعد الحريق سقفا؛ لأن السقف الذي على رؤوس السواري هو سقف المسجد، فاقتضى ذلك أنهم جعلوا سقف المسجد سقف الحجرة، وذكروا أنهم أداروا الشباك على رأس جدار عمر بن عبد العزيز حتى بلغوا به سقف المسجد؛ وأول شيء ابتدأوا به من سقف المسجد ما حاذى الحجرة الشريفة منه، وفيه مخالفة لما شاهدناه في العمارة الآتي بيانها، فإنهم وجدوا عليها سقفا مربعا على جدارها الداخل، ويتصل بالخارج من المشرق والمغرب، وهو دوين رأس الجدار الخارج بنحو شبر، ثم تبين عند كشفه آثار السقف المنهدم وأن أخشابه كانت في الجدار الداخل، ولم يعيدوا هذا السقف المجدد موضع الأول؛ لأنه لا يتأتى إلا بهدم سترته وإصلاح أماكن لرؤوس الخشب، فتركوا ذلك تأدبا واحتراما، ووضعوا ذلك السقف على أعلى سترة الجدار، وبنوا فوقه سترة لطيفة، وجعلوا على ذلك السقف ستارة من المحابس اليمنية المبطنة بقماش أزرق مربوطة بمقط في الشباك الذي بأعلى الحائز الظاهر، وليس ذلك السقف مطينا، وهو سقف محكم من ألواح ثخينة جدا من الساج الهندي، وسمروا بعضها إلى بعض على قوائم من خشب، وجعلوه أربع قطع كل قطعة كالباب العظيم، وجعلوا عند ملتقى كل قطعتين من تلك القطع مقصاة من حديد، وكلّبوا بعضها إلى بعض تكليبا محكما، وجعلوا تحت ثلاث جزم من الساج الهندي تحمله، وأوصلوا أطراف تلك الألواح بالجدار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 الظاهر كما تقدم، ولم يجعلوا في تلك الألواح دهانا ولا نقوشا ولا كتابة، غير أن النجار الذي صنع السقف المذكور كتب اسمه على طرفه نقرا، وكذلك سقف المسجد المحاذي للحجرة الشريفة مما يلي هذا السقف جميعه من الساج النقي ليس عليه دهان ولا نقوش وفي وسطه طابق عليه قفل فوقه أنطاع ومشمع، ولم يزل موجودا إلى أن عملت القبة الثانية بعد الحريق الثاني، وجعلوا على جدار الحجرة الداخل من جهة الشام ألواحا من رأس الجدار إلى سقف المسجد. والعجب أنهم عند رفع هذا السقف وجدوا جزمتين من الأخشاب التي تحته قد تاكلتا ولم يبق إلا جزمة واحدة، ومع ذلك كانت كافية في حمله، فجزى الله تعالى أهل ذلك الزمان خيرا، والظاهر أن ذلك فعل عند إعادة سقف المسجد الذي ذكره المطري. ولنرجع إلى ما ذكره عقب ما تقدم عنه، قال: وسقفوا في هذه السنة- وهي سنة خمس وخمسين- الحجرة الشريفة وما حولها إلى الحائط القبلي وإلى الحائط الشرقي إلى باب جبريل عليه السلام المعروف قديما بباب عثمان، ومن جهة المغرب الروضة الشريفة جميعها إلى المنبر الشريف. ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة فكان في المحرم منها واقعة بغداد واستيلاء التتاء عليها وقتلهم الخليفة المذكور مع أهلها. قلت: وهي من أعظم الوقائع، وقد ذكرتها في كتابي «الوفا» وأشرت إليها في الفصل الثالث من الباب الثاني عند ذكر نار الحجاز، وذكرت ما أفاده الذهبي من استيلاء الحريق على بغداد أيضا حتى تربة الخلفاء، وكانوا في العام قبله قد أشرفوا على الغرق، فسبحان الملك العظيم. قال المطري عقب ما تقدم: فوصلت الآلات من مصر، وكان المتولي عليها حينئذ الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز عز الدين أيبك الصالحي، ووصل أيضا آلات وأخشاب من صاحب اليمن يومئذ وهو الملك المظفر شمس الدين يوسف بن منصور عمر ابن علي بن رسول، فعملوا إلى باب السلام المعروف قديما بباب مروان، ثم عزل صاحب مصر المذكور- يعني في آخر سنة سبع وخمسين في ذي القعدة منها- وتولى مكانه مملوك أبيه الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، واسمه الحقيقي محمود بن ممدود، وأمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وأبوه ابن عمه أسر عند غلبة التتار، فبيع بدمشق، ثم انتقل بالبيع إلى مصر، وتملك في سنة ثمان وخمسين. قلت: إنما ولي في يوم السبت ثامن عشر ذي القعدة من سنة سبع، وفي شهر رمضان من سنة ثمان كانت وقعت عين جالوت التي أعز الله فيها الإسلام وأهله على يديه، ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 يستكمل في ملكه السنة بكمالها، بل قتل بعد الوقعة بشهر وهو داخل إلى مصر، فكان العمل بالمسجد الشريف تلك السنة من باب السلام إلى باب الرحمة المعروف قديما بباب عاتكة، ومن باب جبريل إلى باب النساء المعروف قديما بباب ريطة ابنة أبي العباس السفاح، وتولى مصر آخر تلك السنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي، ويعرف بالبند قداري، فعمل في أيامه باقي سقف المسجد الشريف من باب الرحمة إلى شمالي المسجد، ثم إلى باب النساء، وكمل سقف المسجد كما كان قبل الحريق سقفا فوق سقف. قلت: وذكر المؤرخون أن الظاهر ركن الدين المذكور لما ولي حصل منه الاهتمام بذلك؛ فجهز الأخشاب والحديد والرصاص، ومن الصناع ثلاثة وخمسين صانعا وما يمونهم، وأنفق عليهم قبل سفرهم، وأرسل معهم الأمير جمال الدين محسن الصالحي وغيره، ثم صار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات، ثم لم يزل المسجد على ذلك حتى جددوا السقف الشرقي والسقف الغربي- أي الذي عن يمين صحن المسجد وشماله- في سنتي خمس وست وسبعمائة في أوائل دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي، فجعلا سقفا واحدا نسبة السقف الشمالي أي سقف الدكاك فإنه جعل في عمارة الملك الظاهر كذلك. ثم في سنة تسع وعشرين وسبعمائة أمر السلطان الملك الناصر محمد المذكور بزيادة رواقين في المسقف القبلي متصلين بمؤخره، فاتسع مسقفه بهما وعم نفعهما. قلت: ثم حصل فيهما خلل فجددهما الملك الأشرف برسباي في ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة على يد مقبل القديدي من مال جوالي قبرص، على ما أخبرني به بعض مشايخ الحرم، ورأيته مكتوبا كذلك باللوح التي كانت بظاهر العقود من المسقف القبلي مما يلي رحبة المسجد، وهو سقف واحد في موازاة سقف المسجد الأسفل، ولذلك صار سقف مقدم المسجد القديم مرتفعا من أعلاه على هذين الرواقين وغيرهما من بقية المسجد، وله باب يدخل إليه من بين السقفين شارع في مبدأ الرواقين المذكورين مما يلي المشرق، وجدد الأشرف المذكور أيضا شيئا من السقف الشامي مما يلي المنارة السنجارية، ثم حصل خلل في سقف الروضة الشريفة وغيرها من سقف المسجد في دولة الظاهر جقمق فجدد ذلك في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة وما قبلها على يد الأمير بردبك الناصر المعمار وغيره. ثم في دولة مولانا السلطان الملك الأشرف قايتباي أدام الله تعالى تأييده ونصره أنهى إليه احتياج سقوف المسجد الشريف للعمارة فبرز أمره الشريف بذلك كما ستأتي الإشارة إليه للجناب الخواجكي الشمسي شمس الدين بن الزمن أعزه الله بعز طاعته، فحضر لذلك في أثناء سنة تسع وسبعين صحبة أمير جدة ورتب أمر العمارة وسافر صحبته أيضا، فهدموا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 عقود المسجد التي تلي رحبته من جهة المشرق وسقف الرواق الذي كان عليها؛ لاقتضاء نظرهم ذلك، ونقضوا بعض أساطينه فوجد بعضها لا رصاص فيه، وبعضها فيه رصاص، ثم أعادوا ذلك في سنتهم، وهدموا أيضا جانبا من سور المسجد الشريف مما يلي المشرق من جهة المنارة الشرقية المعروفة بالسنجارية من باب سلّمها، وهو الباب الثاني جوف بابها الظاهر، إلى ما يوازي حرف الدكاك من القبلة، وذلك آخر المسقف الشامي، ومقدار ذلك سبعة وعشرون ذراعا بذراع اليد المتقدم وصفه، هدموا ذلك من أعلاه إلى أسفله، وبلغوا به دك الأس القديم، وظهر في أصل جدار المنارة المذكورة انشقاق وكانت تضطرب عند الهدم بحيث خشي سقوطها، فسكبوا في ذلك الشق كثيرا من الجص المذاب حتى امتلأ، وكان ما هدموه من سور المسجد وعقوده مبنيا بالجص السكب، فذكر مهندس العمارة أن الجدار إنما اختل لأن السباخ له تأثير في إذابة الجص، واقتضى رأيه أن يؤسسه بالطين والنورة المخلوطة بناعم الحصباء، ففعلوا ذلك في الجدار المذكور كله وفي العقود المذكورة أيضا، وكحلوا أطراف وجوه الأحجار بالجص من داخل المسجد وخارجه، ورفعوا السقف الكائن أمام المنارة المذكورة إلى جنب ما هدموه من الجدار المذكور، وأعادوا ذلك من سنتهم أيضا. ثم اتفقت أمور اقتضت تأخير العمارة، فتعطلت في سنة ثمانين. ثم ورد الخواجا الشمسي ابن الزمن إلى المدينة الشريفة صحبة أمير جدة في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وأقام لمباشرة العمارة بنفسه، فرفعوا سقف الروضة الأعلى وما اتصل به مما حول القبة الزرقاء الآتي ذكر عملها بأعلى الحجرة الشريفة في سقف المسجد الأعلى، ورفعوا أيضا شيئا مما يلي ذلك من جهة ما يوازي غربي المنبر الشريف لتكسر كثير من أخشابه، وكان ذلك السقف مع بقية سقف مقدم المسجد على عبّارات من خشب موضوعة على أبنية فوق رؤوس السواري بعرض تلك السواري، كما أن السقف الأسفل المشاهد مما يلي المسجد موضوع على عبارات كذلك فوق رؤوس السواري، فاقتضى رأي متولى العمارة إبدال تلك الأخشاب بعقود من آجر كهيئة القناطر التي حول رحبة المسجد، ورأى أن ذلك أبقى وأحكم من الأخشاب، مع أن عبارات السقف الأسفل كما قدمناه على رؤوس السواري بأصل تلك العقود، ولكنه رأى الإحكام في ذلك، ففعله في القطعة التي رفعها من السقف المذكور فقط، ووضع أخشاب ذلك السقف على تلك القناطر، فارتفع بسببه ذلك المكان من السقف الأعلى على بقية ما حوله منه، وصار الماشي بين السقفين في تلك الجهة يمشي منتصبا أو منحنيا قليلا، وكان لا يتأتى قبل ذلك المشي هناك إلا مع انحناء كثير، وتلك القناطر موضوعة على ما يحاذي صف الأساطين التي هي قبلة الروضة والمصلى الشريف من أولها ومن جهة المشرق إلى الأسطوانة التي تلي المنبر من جهة المغرب وعلى ما يحاذي الصف الثاني وهو صف أسطوان عائشة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 رضي الله عنها في موازاة الصف المتقدم ذكره من المشرق إلى المغرب، وعلى ما يوازي الصف الثالث وهو صف أسطوان المحرس من المشرق إلى المغرب أيضا، وأما ما يوازي صف أسطوان الوفود فقد كان عليه بناء حائط حاجز لما بين السقف الأسفل والأعلى فيه باب يدخل منه إلى ما بين السقفين، فهدموا ذلك الحائط، وأحكموا بناءه، وجعلوا أطراف الخشب عليه أيضا، فهذه الثلاثة الأروقة هي التي ارتفع سقفها الأعلى على ما حوله من الأساطين اللاصقة بالمقصورة إلى الأساطين التي تلي المنبر وصار سقف الرواقين اللذين بين الروضة والجدار القبلي مع سقف ما يحاذي الحجرة الشريفة إلى الجدار الشرقي وسقف ما كان غربي المنبر من مقدم المسجد كله منخفض عن ذلك. ووجدوا أخشابا كثيرة متفرقة نحو الأربعين من السقف الأعلى أيضا قد تكسرت، فزرقوا بدلها، ووضعوا إلى جانب بعضها أخشابا مزرقة، وسمروها من غير كشف للسقف، وقلعوا السقف الأسفل الذي بالرواق الشرقي مما يلي الأرجل الشريفة، وجانبا من سقف رواق باب جبريل إلى باب النساء، وسقف الرواق الأوسط الذي يلي الرواق الذي سبقت عمارتهم إياه في العام الماضي، وأعادوا ذلك، وقلعوا السقف الأسفل المحاذي لموقف الزائرين تجاه الوجه الشريف وكان من أقدم السقف، ومع ذلك تعبوا في قلعه أكثر من غيره لإتقانه وإحكامه فإنه من عمل الأقدمين، وأظنهم وجدوا اسم الظاهر بيبرس عليه، ثم أعادوه وأصلحوا شيئا في المسقف الشامي وغيره، وجددوا أيضا دهان بعض السقف التي حول الحجرة داخل المقصورة التي تعرف اليوم بالحجرة من غير قلع لتلك السقف. ثم احترق ذلك كله في جملة حريق المسجد الثاني الآتي ذكره في الفصل التاسع والعشرين، وجعلوا سقف المسجد عند إعادته سقفا واحدا جميعه كما سيأتي. الفصل السابع والعشرون في اتخاذ القبة الزرقاء التي جعلت على ما يحاذي سقف الحجرة الشريفة بأعلى سقف المسجد، تمييزا لها، وإبدالها بالقبة الخضراء والمقصورة الدائرة بالحجرة الشريفة القبة الزرقاء أما القبة المذكورة فاعلم أنه لم يكن قبل حريق المسجد الشريف الأول وما بعده على الحجرة الشريفة قبة، بل كان حول ما يوازي حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم في سطح المسجد حظير مقدار نصف قامة مبنيا بالآجر تمييزا للحجرة الشريفة عن بقية سطح المسجد، كما ذكره ابن النجار وغيره، واتمر ذلك إلى سنة ثمان وسبعين وستمائة في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحى، فعملت تلك القبة، وهي مربعة من أسفلها مثمنة من أعلاها بأخشاب أقيمت على رؤوس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 السواري، وسمر عليها ألواح من خشب، ومن فوقها ألواح الرصاص، وفيها طاقة إذا أبصر الشخص منها رأى سقف المسجد الأسفل الذي فيه الطابق، وعليه المشمع المتقدم ذكره، وحول هذه القبة على سقف المسجد ألواح رصاص مفروشة فيما قرب منها، ويحيط به وبالقبة درابزين من الخشب جعل مكان الحظير الآجر، وتحته أيضا بين السقفين شباك خشب يحكيه محيط بالسقف الذي فيه الطابق، وعليه المشمع المتقدم ذكره، ولم أر في كلام مؤرخي المدينة تعرض لمن تولى عمل هذه القبة. ورأيت في «الطالع السعيد الجامع أسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد» في ترجمة الكمال أحمد بن البرهان عبد القوي الربعي ناظر قوص أنه بنى على الضريح النبوي هذه القبة المذكورة، قال: وقصد خيرا وتحصيل ثواب، وقال بعضهم: أساء الأدب بعلو النجارين ودق الحطب، قال: وفي تلك السنة وقع بينه وبين بعض الولاة كلام، فوصل مرسوم بضرب الكمال، فضرب، فكان من يقول إنه أساء الأدب [يقول:] إن هذا مجازاة له، وصادره الأمير علم الدين الشجاعي، وخرب داره، وأخذ رخامها وخزائنها، ويقال: إنهم بالمدرسة المنصورية اه. ويؤيد ما نقله عن بعضهم ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خرج فرأى قبة مشرفة، فقال: ما هذه؟ قال له أصحابه: هذه لفلان، رجل من الأنصار، قال: فسكت وحملها في نفسه، حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلم عليه في الناس فأعرض عنه، صنع ذلك مرارا، حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: خرج فرأى قبتك، قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سوّاها بالأرض، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم، فلم يرها، قال: ما فعلت القبة؟ قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها، فقال: أما إنّ كلّ بناء وبال على صاحبه إلا ما لا إلا ما لا» أي: إلا ما لا بد منه. وجد جدّدت هذه القبة في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، فاختلت الألواح الرصاص عن وضعها، فخشوا من كثرة الأمطار، فجددت وأحكمت في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد في سنة خمس وستين وسبعمائة، قاله الزين المراغي. وقد ظهر في بعض أخشابها خلل في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة فعضّدها متولي العمارة الشمس بن الزمن بأخشاب سمرت معها، وقلع ما حولها من ألواح الرصاص التي على أعلى السطح بينها وبين الدرابزين المتقدم ذكره، فوجدوا تحت ذلك أخشابا قد تأكلت من طول الزمان ونداوة مياه الأمطار فأصلحوا ذلك وأعادوه بعد أن أضافوا إليه كثيرا من الرصاص من حاصل المسجد ومما أحضر من مصر، وجددوا الدرابزين المحيط بها أيضا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وقد كانت مياه الأمطار تتسرّب من بين تلك الألواح وتصل إلى سقف الحجرة الشريفة، فإن آثار المياه قد وجدت هناك، وأثّرت في الشباك الذي بأعلى حائز عمر بن عبد العزيز بحيث تأكل بعضه، فأصلحه متولي العمارة أيضا، وأثّرت الأمطار أيضا في الستارة التي على سقف الحجرة الشريفة بحيث تأكل بعضها، ثم احترق ذلك كله في حريق المسجد الثاني، فاقتضى رأيهم تأسيس القبة البيضاء الموجودة اليوم على دعائم بأرض المسجد وعقود من الآجر، وجعلوا تلك الدعائم في موازاة الأساطين التي كان بينها درابزين المقصورة الآتي وصفها، وزادوا من جهة الشام دعائم بعضها عند المثلث الذي بالحجرة الشريفة من بناء عمر بن عبد العزيز، وزادوا هناك أسطوانا، وعند التأسيس لذلك وجدوا عند صفحة المثلث الشرقية قبرا بدا لحده وبعض عظامه، وإن صح القول بدفن فاطمة رضي الله عنها في بيتها كما ستأتي الإشارة إليه فهو قبرها، وأبدلوا بعض الأساطين بدعائم، وأضافوا إلى بعضها أسطوانة أخرى، وقرنوا بينهما ليتأتى لهم العقد عليها، وحصل فيما بين جدار المسجد الشرقي وبين تلك الدعائم ضيق لاتحاد بعض تلك الدعائم هناك، فخرجوا بجدار المسجد الشرقي في البلاط الذي يلي الجدار المذكور نحو ذراع ونصف، فإنهم هدموا ذلك الجدار، وأعادوه إلى باب جبريل عليه السلام، ولم ينقلوا باب جبريل عن محله. ثم إن القبة المذكورة تشققت من أعاليها ولم ينفع الترميم فيها، ففوّض السلطان للشجاعي شاهين الجمالي النظر في أمرها وأمر المنارة الرئيسية أيضا عند توليته شيخ الحرم الشريف، فاقتضى رأيه بعد مراجعة أهل الخبرة هدم أعالي المنارة المذكورة واختصار قليل منها، فاتخذ أخشابا في طاقاتها وجعل عليها سقفا يمنع ما يسقط عند الهدم للحجرة الشريفة، ثم هدم أعاليها وأعاد بناءها أحكم من البناء الأول، بحيث حمل لها الجبس الأبيض من مصر وجعله في بنائها، فجاءت محسنة محكمة، وأزيل ذلك السقف عند تمامها، وذلك في عام اثنتين وتسعين وثمانمائة. المقصورة الدائرة على الحجرة وأما المقصورة الدائرة على الحجرة الشريفة بين الأساطين حول جدار الحجرة الظاهر وحول بيت فاطمة رضي الله عنها فقد أحدثها السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وذلك أنه لما حج سنة سبع وستين وستمائة أراد أن يجعل على الحجرة الشريفة درابزينا من خشب- وهو المقصورة المذكورة- فقاس ما حول الحجرة الشريفة بيده وقدره بحبال وحملها معه، وعمل الدرابزين، وأرسله في سنة ثمان وستين، وأداره عليها، وعمل له ثلاثة أبواب قبليا وشرقيا وغربيا، ونصبه بين الأساطين التي تلي الحجرة إلا من ناحية الشام فإنه زاد فيه إلى متهجّد النبي صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 ثم زيد لهذه المقصورة باب رابع أحدث عند زيادة الرواقين المتقدم ذكرهما في سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وهو من جهة الشمال في رحبة المسجد، وكان عليه قبل الحريق الأول سقف مرتفع يحيط به رفرف، ثم أحدث هذا الباب، وأمامه من جهة رحبة المسجد سقف لطيف أيضا نحو ستة أذرع دوين السقف المتقدم وجعل له رفرف أيضا يمنع الشمس، وبسط تحته الرخام الملون شبه الرخام الذي تقدم ذكره حول حائز عمر بن عبد العزيز بالأرض داخل هذه المقصورة، وذلك في دولة الظاهر جقمق سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة. قال الزين المراغي: واعلم أن الذي عمله الملك الظاهر- أي ركن الدين- من الدرابزين نحو القامتين، فلما كان في سنة أربع وتسعين وستمائة زاد عليه الملك العادل زين الدين كتبغا شباكا دائرا عليه، ورفعه حتى وصله سقف المسجد، انتهى. وقد جدد متولي العمارة المتقدم ذكره بعض هذه المقصورة أيضا مما يلي الروضة الشريفة في العمارة الأولى، ثم احترقت في الحريق الثاني، فجعلوا بدلها شبابيك من النحاس في جهة القبلة، وعلى أعلاها شبكة من شريط النحاس كالزرد، بين أخشاب متصلة بالعقود المحيطة بالحجرة الشريفة، وجعلوا لبقيتها من جهة الشام وما اتصل بها من المشرق والمغرب مشبكا من الحديد المشاجر، وبأعلاه شريط النحاس أيضا، وأحدثوا مشبكا من الحديد المشاجر أيضا لم يكن قبل ذلك، جعلوه فاصلا بين الرحبة التي خلف مثلث الحجرة الشريفة وبينها، وبها بعض المثلث المذكور، وبه بابان أحدهما عن يمين المثلث، والآخر عن يساره، وصار هذا المشبك متوسطا بين مشبك الحجرة الشامي وما يقابله. وقد صارت هذه المقصورة تعرف بالحجرة الشريفة، وأبوابها بأبواب الحجرة، وما يعلق بسقفها بقناديل الحجرة كما تقدم في عبارة السبكي. وفي كلام البدر ابن فرحون ما يقتضي أنه كان ثمّ مقصورة متصلة بهذه المقصورة من جهة المغرب، ثم أزيلت، ولفظه: وقد تساهل من كان قبلنا فزادوا على الحجرة الشريفة مقصورة كبيرة عملت وقاية من الشمس إذا غربت، وكانت بدعة وضلالة تصلي فيها الشيعة؛ لأنها قطعت الصفوف، واتّسمت بمن ذكر من الصنوف، وندم على ذلك واضعها، ولقد كنت أسمع بعضهم يقف على بابها ويؤذن بأعلى صوته «حي على خير العمل» وكانت مواطن تدريسهم، وخلوة علمائهم حتى قيّض الله لها من سعى فيها فأصبحت ليلة منخلعة أبوابها، مقوسة أخشابها، متصلة صفوفها، وأدخل بعضها في الحجرة الشريفة- يعني ما اشتمل عليه الدرابزين المذكور- وجعل فيها الباب الشامي، وكان ذلك مع زيادة الرواقين اللذين زادهما الملك الناصر، انتهى. وذكر لي بعض مشايخ المدينة نقلا عمن أدركه من المشايخ أن هذه المقصورة كانت في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 شامي أسطوان الوفود إلى جهة باب الحجرة الشامي، والشيعة اليوم يصلون في ذلك الموضع، ومقتضى ما قدمناه عن ابن النجار في بيت فاطمة رضي الله عنها- حيث قال: وبيتها اليوم حوله مقصورة، وفيه محراب، وهو خلف حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم- وجود مقصورة هناك قبل حريق المسجد، فلعل ذلك مستند الظاهر ركن الدين في إحداث ذلك. وقد ذكر المطري ما صنعه الظاهر من هذه المقصورة، ثم قال: وظن الملك الظاهر أن ما فعله تعظيما للحجرة الشريفة، فحجر طائفة من الروضة المقدسة مما يلي بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنع الصلاة فيها، مع ما ثبت من فضلها وفضل الصلاة فيها، فلو عكس ما حجره وجعله خلف بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم من الناحية الشرقية وألصق الدرابزين بالحجرة مما يلي الروضة لكان أخفّ؛ إذ الناحية الشرقية ليست من الروضة ولا من المسجد المشار إليه، بل مما زيد في المسجد أيام الوليد، قال: ولم يبلغني أن أحدا من أهل العلم والصلاح ممن حضر ولا ممن رآه بعد تحجيره أنكر ذلك، أو تفطن له وألقى له بالا، وهذا من أهم ما ينظر فيه. قال الزين المراغي عقبه: ينبغي أن يعلم أن للظاهر سلفا في ذلك، وهو ما حجره عمر بن عبد العزيز على الحجرة الشريفة من جهة الروضة أيضا، لكنه قليل، انتهى. قلت: وهذا بناء على ما تقرر عنده من أن جدار الحجرة الذي داخل الحائز هو نهاية المسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وقد قدمنا في حدود المسجد ما يرد ذلك، ولو سلّم أن ذلك نهاية المسجد وأن عمر بن عبد العزيز اتخذ الجدار المذكور فيه فذلك لمصلحة حفظ القبر الشريف، ولجعل بنائه على هيئة لا يتأتى معها استقبال القبر الشريف كما قدمناه، وهذه المقصورة بضد ذلك، والله أعلم. وقال البدر بن فرحون في ترجمة ولي الله سيدي الشيخ علي الواسطي ما لفظه: حكى لي جمال الدين- يعني المطري- أن الشيخ بعث إلى الملك الناصر يقول له: أنا أضمن لك على الله تعالى قضاء ثلاث حوائج إن قضيت لي حاجة واحدة، وهي إزالة هذا الشباك الذي على الحجرة الشريفة، يعني هذه المقصورة، فبلغه ذلك، فتوقف ولم يفعل. قال البدر بن فرحون: وليته فعل؛ فإن الشباك الذي يدور على الحجرة قطع جانبا من المسجد، وحجر كثيرا من الروضة، وفي كل زمان يجدد ويعمر بما يتقوى به ويتأيد، وأدخل فيه قطعة كبيرة لما أزيلت المقصورة، يعني المتقدم ذكر إزالتها. وقال المجد الشيرازي، عقب ذكره لما تقدم عن المطري: والذي ذكره موجّه، غير أن أحد الأبواب مفتوح دائما لمن قصد الدخول والزيارة، فيمكن من أراد الصلاة الدخول والوقوف مع الصف الأول في الروضة، ولا يخفى أن في تقريب الدرابزين من الحجرة إخراجا للبناء عن وضعه اللائق، وأيضا فيه تضييق عظيم على الزائرين، لا سيما عند زحام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 المواسم؛ فإنه مع هذا الاتساع ينخنق المكان بالخلق، فكيف لو ضيق بحيث يتصل الدرابزين بجدار الحجرة؟ لا يقال: إنه كان يتسع من جهة المشرق للزائرين؛ لأن الناس إنما يقصدون هذه الجهة لكون الرأس الشريف هناك، وليكون الابتداء بالتسليم على النبي صلّى الله عليه وسلّم دون أن يتخطوا الشيخين رضي الله عنهما، فتأمل ذلك فإنه صحيح. قال: وهذه الكيفية لا مزيد عليها في الحسن، ولم يتعطل شيء من الروضة بسبب ذلك، بل بسبب كسل المصلين، وقد رأيت جماعة من الخدام يصلون داخل الدرابزين أيام الجمعة، انتهى. قلت: وما ذكره صحيح بالنسبة إلى زمنه؛ فإن الباب المذكور كان مفتوحا في سائر الأوقات. وقد نبه على ذلك ابن جماعة في منسكه، محاولا غلقه في المواسم فقط، فقال: إن هذا الدرابزين حجر طائفة من الروضة الشريفة مما يلي بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصار ما بين الحجرة والدرابزين مأوى للنساء بأولادهن الصغار في أيام المواسم، وربما قذر الصغار فيه، وقد تحدثت مع الملك الناصر رحمه الله لما حج وزار سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة في غلق الدرابزين أيام الموسم، فسكت لما ذكرته، ولم يجبني بشيء، وهذا من أهم ما ينظر فيه، انتهى. فحدث بعد ذلك غلق الأبواب كلها دائما، ولا يفتح منها شيء إلا في وقت إسراج القناديل ونحوه، ولا يدخل لذلك إلا بعض الخدام والفراشين أو بعض من له وجاهة بإذن شيخ الخدام، فيدخل للزيارة ليلا، وتحقق بسبب ذلك تعطيل تلك البقعة، وحرم الناس التبرك بأسطوان السرير؛ فإن محله في شرقي أسطوانه كما تقدم، وكذلك الوقوف للزيارة في موقف السلف بينها وبين الحجرة الشريفة أو على نحو أربع أذرع من جدار القبر على ما يأتي بيانه، وكذلك التبرك بمربّعة القبر ومقام جبريل كما قدمناه، وبيت فاطمة رضي الله عنها، فإن ذلك كله في جوف المقصورة، بل كانت هذه المقصورة سببا لما هو أعظم من ذلك وأطم، وهو ابتناء دعائم القبة المتقدم ذكرها بأرضها، فإنها صارت عند العوام بل وعند من لا إحاطة له بأحوال المسجد أنها ليست من المسجد، بل من الحجرة، فعاملوها معاملة غير المسجد، ولما وقعت المفاوضة في عملها صرّحت بتحريم ذلك، فأشار بعضهم بعمل القبة المذكورة على رؤوس الأساطين من غير بناء، ثم رجعوا عن ذلك وأنا غائب بمصر. وسبب غلق الأبواب المذكورة أن النجم بن حجي قاضي الشام لما حج في الموسم الشامي رأى ازدحام الناس بذلك المحل وما أشار إليه ابن جماعة فيما تقدم عنه، فأفتى بغلقها، وخالفه الولي العراقي عند قدومه مع الحاج المصري فأفتى بفتحها. وأخبرني بعض مشايخ الحرم أن ذلك كان في سنة اثنين وعشرين وثمانمائة وأن الحال استمر على ما أفتى به الولي العراقي، فلما ولي النجم بن حجي ديوان الإنشاء تسبب في بروز المراسيم السلطانية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 بالأمر بالغلق سنة ثمان وعشرين، واستمر ذلك إلى اليوم، كذا أخبرني به بعض مشايخ الحرم. ورأيت حاشية على كلام المجد بخط الحافظ جمال الدين بن الخياط اليمني، ولفظها: ومما أحدث في دولة الملك الأشرف برسباي صاحب مصر والشام بعد الثلاثين وثمانمائة سمرت أبواب الدرابزين المذكور، وصار الناس يزورون من وراء الدرابزين من غير دخول أحد إلى الحجرة الشريفة، قصدوا بذلك زيادة الحرمة، وتنزيه المشهد الشريف عن كثرة اللامسين بالأيدي وغيره؛ فإن كثيرا من جهال العرب وغيرهم يلصقون ظهورهم بصندوق القبر الشريف وجداره، قاصدين بذلك التبرك، والخير كله في استعمال الأدب، انتهى. قلت: والصواب المتعين وجوب فتح بعض تلك الأبواب، خصوصا في غير أيام الموسم، وليس الطريق في إزالة المفسدة المذكورة غلق تلك الأبواب وتعطيل تلك البقعة، بل وقوف الخدام عند ذلك المحل، ومنع من يتعاطى فيه ما لا يليق بالأدب، على أن ذلك لم يحسم المادة؛ لأن تلك الأمور- أعني لمس الجهال ووضعهم الظهور- يفعل اليوم بهذا الدرابزين، ولا شك أن الجدار الذي كان يفعل به ذلك ليس هو نفس القبر، بل ولا جدار الحجرة كما قدمناه، بل جدار آخر دائر به، كما أن هذه المقصورة دائرة به، فإن كان ذلك يقتضي تعطيل ذلك المحل، فليعطل من أجله المسجد بأجمعه، وتعطيل المسجد أو شيء منه حرام فلا يرتكب لدفع مكروه مع إمكان دفعه بغيره، وما يقال من أنه ربما وجد في بعض المواسم هناك قذر؛ فقد كان شيخنا شيخ الإسلام فقيه العصر شرف الدين المناوي يقول في جوابه: لا شك أن ذلك المحل من المسجد، فإن كان وجود القذر فيه مقتضيا لتعطيله وصيانته بالغلق فليغلق المسجد بأجمعه، فإن حكم الكل واحد من حيث وجوب صونه واختصاص ما تقرب من المحل الشريف بمزيد التعظيم حاصل بالجدار الكائن عليه، وطريق التعظيم المنع من ذلك كما قدمناه، على أن لمس جدار القبر وتقبيله ليس مما أجمع على كراهته كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في باب الزيارة. ولما قدم مولانا السلطان الملك الأشرف قايتباي أعز الله أنصاره المدينة الشريفة للزيارة سنة أربع وثمانين وثمانمائة واجتمعت به بالروضة الشريفة أردت أن أتكلم معه في فتح بعض تلك الأبواب في غير أيام الموسم، فرأيته قد تعاظم دخول هذه المقصورة لما عرض عليه ذلك. وقال: لو أمكنني الوقوف للزيارة في أبعد من هذا الموضع فعلت، ورأى أن ذلك هو التعظيم، فعلمت أنه لا يوافق على ما أريده، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 الفصل الثامن والعشرون فيما تجدد من عمارة الحجرة الشريفة في زماننا على وجه لم يخطر قط بأذهاننا، وما حصل بسببه من إزالة هدم الحريق الأول من ذلك المحل الشريف، ومشاهدة وضعه المنيف، وتصوير ما استقر عليه أمر الحجرة في هذه العمارة اعلم أن بعض سقف المسجد التي تقدم تجديدها كان قد ظهر تكسّر بعض أخشابه في هذه الدولة الأشرفية- أعز الله أنصارها، وأعلى في سلوك العدل منارها- فورد المدينة المقر الأشرف السيفي شاهين الجمالي منصرفه من جدة المعمورة، فأروه ذلك، وأروه الحائز المخمس الدائر على الحجرة الشريفة لانشقاق فيه قديم يظهر إذا رفعت الكسوة عند منتهى الصفحة الشرقية وانعطافها إلى الزاوية الشمالية، فرفعوا عنه الكسوة، وأحضروا بعض أرباب الخبرة بسبب ذلك، فاختلف النقل عمن حضر ذلك في كونه ضروريا أو غير ضروري، فاجتمعت بالمشار إليه بسبب ذلك، فذكر لي أن الذي تحرر أنه ليس بضروري؛ لأنه شق في طول الحائط لا في عرضه، وهو قديم مملوء بالجص، والحائط ليس عليه سقف يثقله فنخشى عليه، فأعجبني كلامه. ثم أنهى في سنة ثمان وسبعين لمولانا السلطان الأشرف احتياج المسجد الشريف للعمارة، وسقوط منارة مسجد قباء، وكان الجناب الخواجكي الشمسي بن الزمن مغرما بمثل ذلك، وسبق له بالمدينة الشريفة عمارة لمدرسته المعروفة بالزمنية على يد بعض جماعته، ففوض إليه السلطان أمر عمارة المسجد النبوي، فكان ما تقدم من مجيئه إلى المدينة الشريفة في أثناء سنة تسع وسبعين، وتقريره أمر العمارة، ثم توجه إلى مصر المحروسة، فكان من أمر العمارة ما قدمناه. ثم رغب في أمر العمارة المقر الشرقي شرف الدين الأنصاري تغمده الله برحمته ففوض له ذلك، وحضر صحبة الحاج إلى مكة المشرفة، وأقام بها مدة حتى يتكامل حصول آلات العمارة، فتوفى بها ليلة سابع عشر صفر عام أحد وثمانين وثمانمائة بعد شكوى خفيفة. ثم وردت المراسيم الشريفة بتفويض أمر العمارة للجناب الشمسي بن الزمن وكان بجدة المعمورة فورد المدينة الشريفة صحبة شاد جدة في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين، وأحضر معه جماعة من أرباب الصنائع، وأقام لينظر في أمر العمارة بنفسه، فكان ما تقدم من إصلاح السقف الأعلى وعمارة غيره من السّقف المتقدم ذكرها، وإحكام القبة الزرقاء المحاذية للحجرة الشريفة بسقف المسجد، وإصلاح حلية الصندوق الكائن بأصل الأسطوان التي في جهة الرأس الشريف والقائم المجدد فوقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ولما نزعوا القائم العتيق وما تحته من الصندوق وجدوا ما تحت ذلك من أحجار الأسطوانة المذكورة متشطبا، وأحجارها قطع مجوفة كالخرز، وكذا كل أساطين المسجد العتيقة، وفي جوفها الرصاص وعمد الحديد، وأهل المدينة يسمون كل قطعة منها خرزة، ويسمونها أيضا فلكة، فاقتضى رأيهم تعميق ما على رأس الأسطوان المذكور من أخشاب السقف، فجعلوا مرمة من الأخشاب حول الأسطوان المذكور ليكسروا الخرز المشقق من ذلك الأسطوان، وهن ست، ثم يعلقون ما صح من الأسطوان إلى أن يدخلوا مكان ذلك بدله، ثم شرعوا في كسر تلك الخرز ونزعها، فتعسر ذلك عليهم، وحصل بسببه دق عنيف، حتى كانت جدران الحجرة تهتز له لاتصالها بالأسطوان المذكور، فحصل بسبب ذلك كلام من الناس، ولكن بعد كسر بعض الخرز وإخراجه، وكانوا يعالجون في إخراج الرصاص أيضا علاجا أعظم من العلاج في الحجر، فعقدوا مجلسا، وطلبني متولي العمارة للحضور فيه، فترددت لأنه بلغني أن بعض الناس أوغر صدره مني وقرر عنده أني حريص على ألاتكون هذه العمارة على يده، وكنت أرى منه محبة وميلا ثم تنكر بعض التنكر، وعلمت أن الرجوع عن إصلاح الأسطوانة المذكورة غير ممكن لكسر بعضها وإخراجه، فعلمت فوات وقت النظر، فأجبت الرسول بذلك، ولم أحضر معهم مع علمي بأن بعض أهل المجلس كان مغري بمخالفة ما أشير به، وإن كان في غاية الوضوح، سامحه الله، ثم افترقوا على إتمام ذلك، فمكثوا أياما يعالجونه حتى تم، وأعادوا مكان تلك الخرزات الست مثلها من خرز أسطوان نقضوه من أساطين مسجد قباء، فكان ذلك بقدر تلك الخرز سواء، وأحكموا إعادتها بالرصاص وعمد الحديد أحسن إحكام. وقد كنت أستبعد قدرتهم على ذلك، وأتعجب من قيام بقية الأسطوان من أعلاه، مع رفع أسفله، وكونه كالجبل من الحجر والرصاص، ولكن ساعدهم المدد المحمدي في ذلك مع حسن معرفة المعلم المباشر لسبك الرصاص. ثم كان ما تقدم من إعادة الصندوق المذكور والقائم فوقه إلى محلهما، ونقض الرخام المؤزّر به جدار الحجرة الظاهر وتجديده كما تقدم، وعند قلع رخام الصفحة الآخرة من الزاوية الشمالية إلى الصفحة الشرقية مع ما يليها من صفحة المشرق عند منعطفها ظهر الشق المتقدم ذكره وهو انشقاق قديم سدّ الأقدمون خلله بكسر الآجر وأفرغوا فيه الجص وبيضوه بالقصّة فانشق البياض من رأس وزرة الرخام إلى رأس الجدار المذكور، فأرادوا اختبار ما تحت البياض ليعلموا قدره، فقشروا البياض عنه، وأخرجوا ما في خلله من الجص والآجر، فظهر من خلله بناء الحجرة المربع الذي هو جوف البناء المخمس المذكور فظهر منه ملتقى حائطه الشامي وحائطه الشرقي، وظهر هناك شق أيضا في جدار الحجرة الداخل عند ملتقى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 الجدارين المذكورين تدخل اليد فيه، وهو قديم أيضا، وقد سدّه المتقدمون، ثم اتّسع قليلا على دوام الأيام. فلما كان عشية السبت ثالث عشر شعبان عقدوا مجلسا في جوف المقصورة عند الجدار المذكور، حضره القضاة والمشايخ والخدام وشيخهم الأمير إينال، وطلبوني لذلك المجلس، فترددت في الحضور لما قدمته، ثم توضأت وصليت صلاة الاستخارة وسألت الله أن يلهمني السداد والصواب، وحضرت فوجدت الأمر قد اتفق عليه، وشاهدت ما قدمته من وصف ذلك، ورأيت على ذلك البناء الداخل من الهيبة والأنس ما لا يوصف ولا يدرك إلا بالذوق، وتحرر لي أن سبب انشقاق الجدار الظاهر انشقاق الجدار الداخل وميلانه نحو الجدار الظاهر وكأن الأقدمين لما رأوا انشقاق الجدار الداخل- ولعل رؤيتهم لذلك والله أعلم عقب الحريق عندما أحدثوا السقف المتقدم وصفه على الحجرة الشريفة- أدعموا الجدار الداخل بأخشاب جعلوها بين الجدار الداخل والخارج عند رأسهما في شرقي الحجرة، فمال الجدار الظاهر من أعلاه بحيث صار أعلاه لا يوازي أسفله، وخرج بسبب ذلك عن الاستقامة، فحدث فيه الشق المذكور، ورأيت الحاضرين بين ساكت ومشير، فترجح عندي سلوك رأي ابن عباس رضي الله عنهما في أمر الكعبة، حيث أشار بترميمها فقط، ورأيت أن ما يطلب هنا من الأدب أوجب مما يطلب هناك، فحاولت إدعام البناء الظاهر ببناء، فلم أوافق عليه، فسألت مهندس العمارة- وكان أعرف الحاضرين بهذا الأمر- هل تحققت الآن إشراف هذا الجدار على السقوط وأنه لا يتأتى تأخيره، أم يحتمل التأخير مدة إذا رمّ بالجص والآجر كما كان أوّلا فيؤخر إلى أن يصير غير محتمل للتأخير؛ فإنه لا يفعل هنا إلا ما تدعو إليه الضرورة في الحال؟ فقال: الترميم شيء وقطع الفرط شيء آخر، ثم سأل متولي العمارة عن كيفية ما يكتب ليطالع به المسامع الشريفة، فقال له القاضي الزكوي قاضي الشافعية وأحد الناظرين سامحه الله تعالى: سرّح العمال غدا للهدم وكتابة المحضر علينا، وخافت متولي العمارة بالإنكار عليه في إحضاري، وحثّه على الإعراض عن كلامي. ثم إن متولي العمارة ذكر لي أنه رأى رؤيا فهم منها الهدم، فصمّم عليه، ورأيت عنده من شجاعة الجنان وثبات الجأش في هذا الأمر ما لا يوصف، وبلغني أن بعض الناس ذكر له أن ما سبق من كلامي دليل على ما كان قد ألقاه إليه من حرصي على ألاتكون هذه العمارة على يده، وألايفوز بهذه المنقبة العظيمة التي لم يسبق إليها، ومن يسمع يخل، ولكني أشهد الله ورسوله على أني لم أرد سوى محض الوفاء بما أوجبه الله علينا من الأدب مع حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ومن بدل النصيحة. ثم في صبيحة الرابع عشر من شعبان المذكور شرعوا في هدم المحل الشريف المتقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 ذكره من الجدار الظاهر، فهدموا جانبا من الصفحة الشرقية وجانبها مما يليها من الصفحة المنحرفة منها إلى جهة الزاوية الشمالية، وسعة ذلك خمسة أذرع بذراع اليد، وذلك من بعد نحو أربعة أذرع من الأرض إلى رأس الجدار المذكور، فظهر حينئذ هدم الحريق الذي في الفضاء الكائن بين جداري الحجرة الشريفة، ورأينا فيه كثيرا من الأخشاب المحترقة قد سلم من بعضها قدر الذراع ونحوه. ثم في خامس عشر الشهر المذكور حضروا لتنظيف ذلك، وتوجه متولي العمارة لشيخنا العارف بالله تعالى سيدي شهاب الدين الأبشيطي قدس الله روحه، وسأله في الحضور للتبرك به، فحضر من خارج الجدار، وامتنع من الدخول وقرأ الفاتحة، وقال: نظفوا على بركة الله، ثم انصرف وقال لي بعد ذلك: ذكروا لنا أن هدم ذلك ضروري، فقلنا لهم: الضروري يعمل، فلما دخلوا لإزالة ذلك شاهدت أمرا مهولا من ردم الحريق بحيث لم يتأت إزالته إلا بالعتل والمساحي، وتحققت بسبب ذلك عذر من أدرك زمن الحريق في عدم إزالة ما بالحجرة الشريفة منه كما قدمناه، وكان ارتفاعه في ذلك المحل نحو القامة، وهو ردم من السقف الأعلى وجص وآجر من الجدار الذي كان بأعلى سقف المسجد لتمييز الحجرة الشريفة عن غيرها، كما تقدم بيانه، ومما كان على رؤوس الأساطين ومما احترق من أخشاب ذلك، فاشتغلوا بتنظيفه وتزاحم الناس عليه فاستمروا في ذلك حتى بلغوا في تنظيفه الأرض القديمة، بحيث ظهر تحصيب ذلك المحل بحصباء تشبه ما في المسجد، غير أنها قد اسودّت من نداوة الأرض، واعتبرت التفاوت بين الأرض المرخمة خارج الجدار الظاهر والأرض المذكورة بداخله، فكانت الأرض المذكورة- أعني الداخلة بين الجدارين- أخفض من الخارجة بذراع وثلث بذراع اليد، وظهر من وصف البناء الداخل ما قدمناه في الفصل الثاني والعشرين من كونه مربعا بأحجار منحوتة عليها أبهة عظيمة، وأن الصفحة الغربية منه ملاصقة للصفحة الغربية من البناء الظاهر، وليس بينهما ولا مغرز إبرة، وأنه لا باب فيه ولا موضع باب، وفي الصفحة الشمالية لا صق بها الأسطوان التي قدمنا وصفه، وأن بعضه داخل في الصفحة المذكورة، وقد أثر فيه الحريق كما قدمناه حتى تشطب بعضه سيما في أعاليه وهو في صف مربعة القبر يليها من جهة المشرق. وتبين حينئذ ما في الجدار الداخل من الانشقاق المتقدم وصفه في شماليه مما يلي المشرق، فأدخلوا فيه شمعة، فشاهدوا فيما يقابله من الجدار القبلي مما يلي المشرق أيضا انشقاقا مثله، وتبين لي أن البناء المتقدم وصفه بين الجدارين القبليين في موازاة الأسطوانة الظاهرة في الجدار القبلي التي يقف عندها المسلّم على عمر رضي الله عنه إنما جعل إدعاما للجدار المذكور لما حدث به ذلك الانشقاق، وظهر ما أدعموا به من الأخشاب بين الجدار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 الداخل والخارج في جهة المشرق على ما قدمناه، فتردد متولي العمارة في نقب الجدار الشامي لإحكام ذلك الشق وترميم الشق المقابل له. ثم عزم على هدم الجدار المذكور- أعني: جدار الحجرة الداخل من جهة الشام- بأجمعه، فبدأ برفع السقف الذي وجد على الحجرة نفسها كما قدمناه، وحينئذ ظهر لهم ساحة الحجرة الشريفة، وستر الله تعالى القبور الشريفة عن الأعين بالردم، ثم علمت أن هذا الموطن يطلب فيه من التثبت والأدب التام ما لا يطلب في غيره، فانصرفت عازما على أن لا أحضر معهم ما داموا في تعاطي الهدم وأن أحضر معهم في البناء. ثم أفاضوا في عقد قبة سفلية على جدار الحجرة الداخل رعاية الإتقان والإحكام فكرهت ذلك لعلمي أنه يجر إلى هدم معظم الحجرة مع ما فيه من تغيير الهيبة الأولى. ثم في حادي عشر شعبان المذكور أجمعوا أمرهم على ذلك، فشرعوا في هدم الجدار الشامي والشرقي من البناء الداخل، فوجدوا في الجانب الذي يلي المغرب من الجدار الشامي، وكذا فيما يقابله من القبلي، وكذا في الغربي عندما هدموا أسفل السترة المبنية على السقف المحترق بين فصوص الأحجار وأعلاها مع رأس الجدر المذكورة لبنا غير مشوى طول اللبنة منه أرجح من ذراع وعرضه نصف ذراع، وسمكه ربع ذراع، وطول بعضه وعرضه وسمكه واحد وهو نصف ذراع، ولم يجدوا مثل ذلك في الجدار الشرقي، ولا فيما يليه من الشامي والقبلي، وقد عاب بعض الناس على الأقدمين في وضعهم ذلك في الجدار، ونسبهم به إلى التقصير، وربما قال: إن البنائين زمن الوليد لما أمر ببناء المسجد على يد عمر بن عبد العزيز كانوا كفارا، وإن ذلك من غشهم، وهذا جهل من قائله. وقد قدمنا من شرح حال بناء الحجرة ما فيه كفاية، وتقدم أن عمر بن الخطاب أو ابن الزبير هو الباني للحجرة على ما رواه ابن سعد، ولو سلّم أن تلك البناية في ولاية عمر بن عبد العزيز للعمارة المتقدمة فهو أتقى لله من أن يهمل قبر نبيه بيد الكفار حتى يغشوا في بنائه بمثل ذلك. وقد ظهر لي في ذلك أن السلف لما بنوا الحجرة الشريفة بالأحجار لقصد الإحكام والبقاء، وكان ما عدا الأساس منها مبنيا باللبن في عهده صلّى الله عليه وسلّم كما يؤخذ مما قدمناه، فرأوا ألايخلو بناؤهم من بركة ذلك اللبن، فوضعوا منه ما رأوا فيه الصلابة بين الأحجار المبنية بالقصّة، ولولا إتقان ذلك البناء لما مكث هذه المدة المديدة، والعجب أن الخلل والانشقاق لم يحصل إلا في الناحية الخالية منه، وقد قدمنا أن الذي يظهر أن تلك الناحية سقطت وأعيدت، واختلاف البناءين شاهد بذلك، حتى إن الجدار الشرقي لم يكن مبنيا بالحجارة الموجّهة إلا من داخله دون خارجه، وعرض منقبته أقل من عرض بقية الجدر. ولما بلغوا في هدم الجدار الشامي أرض الحجرة الشريفة شرعوا في تنظيف الردم الساتر للقبور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 الشريفة، وذلك في صبيحة الثالث والعشرين من شعبان المذكور، ومكثوا في ذلك إلى غروب الشمس مع كثرتهم حتى بلغني أن الحجرة الشريفة امتلأت بهم، ولم يخصوا مكانا دون مكان، فظنوا أن القبر الشريف النبوي قريبا من وسط الحجرة، وليس كذلك كما سنبينه، ووضعوا ما أخرجوه من الردم عند طرف المسقف الغربي في زاويته المتصلة بمسقف الدكاك، وبنى عليه متولي العمارة تلك الدكة البارزة هناك. ثم وفّى القضاي الزكوي بما وعد به متولي العمارة من كتابة المحضر، وكتب فيه أهل المدينة، ولم أكتب فيه، واعتذرت بأنه لم يسبق لي عادة بمثل ذلك، وبعثوا به إلى مصر المحروسة، فلما كان في صبيحة الخامس والعشرين من الشهر المذكور بعث إليّ متولي العمارة لأتبرك بمشاهدة الحجرة الشريفة بعد تنظيفها، وصار قائل يقول: ظهر القبر الشريف، وقائل يقول: لم يجدوا لجميع القبور الشريفة أثرا، فحثّني داعي الشوق وغلبة الوجد، واستحضرت ما وقع لبعض السلف من سؤاله لعائشة رضي الله عنها أن تريه القبور الشريفة، وغير ذلك مما سبق ومما سيأتي في باب الزيارة، ووصف السلف للقبور الشريفة، وذكرهم ذرع الحجرة الشريفة وكيفيتهما كما تقدم، فعزمت على الإقدام، وتمثلت بقول بعضهم: ولو قيل للمجنون أرض أصابها ... غبار ثرى ليلى لجدّ وأسرعا لعلّ يرى شيئا له نسبة بها ... يعلّل قلبا كاد أن يتصدعا فتطهرت وتوجهت لذلك مستحضرا عظيم ما توجهت إليه، وموقع المثول ببيت أوسع الخلق كرما وعفوا، وذلك هو المعول عليه، واستحضرت بقول بعضهم: عصيت فقل لي كيف ألقى محمدا ... ووجهي بأثواب المعاصي مبرقع ثم أنشدت الذي يليه: عسى الله من أجل الحبيب وقربه ... يداركني بالعفو فالعفو أوسع وسألت الله أن يمنحني حسن الأدب في ذلك المحل العظيم، ويلهمني ما يستحقه من الإجلال والتعظيم، وأن يرزقني منه القبول والرضى، والتجاوز عما سلف ومضى، فاستأذنت ودخلت من مؤخر الحجرة، ولم أتجاوز ذلك المحل، فشممت رائحة ما شممت في عمري رائحة أطيب منها، ثم سلمت بوجل وحياء، على أشرف الأنبياء، ثم على ضجيعيه خلاصة الأصفياء، ودعوت بما تيسر من الدعوات، وتشفعت بسيد أهل الأرض والسموات، واستنزلت به في بيته من الأزمات، واغتنمت هذه الفرصة في جميع الحالات، ولله در القائل: تمتّع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصّل ما استطعت من ادّخار فقد وسّعت أبواب التداني ... وقد قرّبت للزوار داري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وقد هبّت نسيمات لنجد ... فطب واشرب بكاسات كبار فما وقت يمرّ بمستعاد ... وما دار الأعزّة بالقرار فودّع أرض نجد قبل بعد ... فما نجد لمرتحل بدار أقول لمن يمرّ بأرض نجد ... ويظفر من رباها بالديار تزود من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار وقل أيضا لمغتنم صفاء ... على معنى يلوح لذي اعتبار إذا العشرون من شعبان ولّت ... فواصل شرب ليلك بالنهار ولا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار فلما قضيت من ذلك الوطر، متعت عيني من تلك الساحة بالنظر، لأتحف بوصفها المشتاقين، وأنشر من طيب أخبارها في المحبين، فتأملت الحجرة الشريفة فإذا هي أرض مستوية، وتناولت من ترابها بيدي فإذا فيه نداوة وحصباء كالحصباء المتقدم وصفها بين الجدارين يظهر عند فحصه بالأصابع، ولم أجد للقبور الشريفة أثرا، غير أن بأوسط الحجرة موضعا فيه ارتفاع يسير جدا، توهموا أنه القبر الشريف النبوي، فأخذوا من ترابه للتبرك فيما زعموا، ومنشأ ذلك الوهم جهل من كان هناك بأخبار الحجرة الشريفة، وذلك المحل ليس هو القبر النبوي قطعا، ولعله قبر عمر رضي الله عنه؛ لأن الشافعي رضي الله عنه قد نص على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما لحد له في جدار القبلة. قال الشافعي، فيما نقله عنه الأقشهري ردا على من قال إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أدخل لقبره معترضا: هذا من فحش الكلام في الأخبار؛ لأن قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قريبا من الجدار، وكان اللحد تحت الجدار، فكيف توضع الجنازة على عرض القبر حتى سلّ معترضا؟ فدلّ على أن هذا النقل غير صحيح، انتهى. وروى ابن عساكر عن جابر رضي الله عنه قال: رشّ قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان الذي رش الماء على قبره بلال بن رباح بقربة بدأ من قبل رأسه حتى انتهى إلى رجليه ثم ضرّجه بالماء إلى الجدار، لم يقدر على أن يدور من الجدار لأنهم جعلوا بين قبره وبين حائط القبلة نحوا من سوط. وقال ابن سعد في طبقاته: أخبرنا شريح بن النعمان عن هشيم قال: أخبرني رجل من قريش من أهل المدينة يقال له محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سقط حائط قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم في زمن عمر بن عبد العزيز- وهو يومئذ على المدينة في ولاية الوليد- فكنت في أول من نهض، فنظرت إلى قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا ليس بينه وبين حائط عائشة رضي الله عنها إلا نحو من شبر، فعرفت أنهم لم يدخلوه من قبل القبلة، وعلى تقدير أن يكون ثمّ موضع بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 القبر الشريف وبين جدار القبلة بحيث يتأتى إدخاله صلّى الله عليه وسلّم من ناحية القبلة فلا يكون ذلك الموضع محل القبر الشريف؛ لبعده من جدار القبلة جدا. وفيما رواه ابن زبالة ويحيى من خبر عبد الله بن محمد بن عقيل في قصة سقوط جدار الحجرة الشريفة المتقدم ذكره أن عمر بن عبد العزيز قال لمزاحم لما دخل: يا مزاحم كيف ترى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: متطاطيا، قال: فكيف ترى قبر الرجلين؟ قال: مرتفعين، قال: أشهد أنه رسول الله. وقد قدمنا من وصف داخل الحجرة وذكر ذرعها ما فيه كفاية. وقد تأملت التفاوت بين أرض الحجرة الشريفة وبين أرض الفضاء الخارج بين الجدار الشامي الداخل وزاوية الجدار الخارج فوجدت أرض الحجرة أنزل منه بنحو ذراع ونصف، وتقدم أن أرض الفضاء المذكور أخفض مما حول الحجرة من المسجد بذراع وثلث، فيكون التفاوت بين داخل أرض الحجرة وأرض المسجد نحو ثلاثة أذرع. وتأملت آثار ردم الحريق في الجدران فرأيته في بعضها نحو ثلاثة أذرع، وفي بعضها نحو ذراعين، وأخبرني المباشرون لإخراجه بذلك أيضا. ثم هدموا من الجدار القبلي مما يلي المشرق جانبا نحو أربعة أذرع وشيء، حتى بلغوا به أرض الحجرة. وهدموا أيضا جانبا من الجدار الغربي مما يلي الشام حتى بلغوا به الأرض أيضا، وذلك نحو خمسة أذرع منه، فعلوا ذلك ليتأتى لهم إحكام القبة التي أجمعوا أمرهم عليها، ولم يبق من أركان الحجرة الشريفة سوى مجمع جدار القبلة وجدار المغرب. ثم إنهم هدموا من علو ما بقي من الجدارين المذكورين نحو خمسة أذرع، ولم يبق من بناء الحجرة الأصلي إلا ما فضل منهما. ووجدوا عند هدم مبدأ الجدار القبلي من أعلاه ميزابا قد احترق بعضه من جهة ما كان في بناء الجدار، وبقي منه نحو الذراع، وهو من عرعر له رائحة ذكية، وسعة مجرى الماء فيه نحو أربعة أصابع أو خمسة، كأنه كان ميزابا للحجرة الشريفة قديما فحرص الأقدمون على ما بقي منه بعد الحريق ووضعوه بين السترة التي أحدثوها لأجل السقف وبين رأس الجدار، فجزاهم الله خيرا. ولما أعيد بناء الحجرة حرصت على أن يعاد فيها، فوعدني متولي العمارة بذلك، فلما كان عند ختم البناء سألته عنه، فذكر لي أنه جعله في البناء الآتي ذكره في أعلى الجدار الشامي بين ما بقي من لبن الحجرة وليّس عليه بطين ذلك اللبن. ثم عند الشروع في إعادة بناء الحجرة اقتضى رأيهم إدخال الأسطوان المتقدم وصفه خلف جدار الحجرة الشامي لتشققه فزادوا في عرض ذلك الجدار من الرحبة المثلاثة الشكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 المتقدم وصفها بين الجدارين، وكان الشروع في إعادة بناء الحجرة في سابع عشر شعبان المذكور، فابتدؤوا بالجدار المذكور، وأوصلوه بالجدار الغربي، وأعادوا ذلك بأحجار الحجرة التي نقضوها منها، ثم رأوا أن إحكام القبة التي عزموا عليها يقتضي تربيع محلها، بحيث لا يزيد طوله على عرضه. وقد قدمنا في ذرع الحجرة ما يقتضي عدم ذلك، فعقدوا قبوا على نحو ثلث الحجرة الذي يلي المشرق والأرجل الشريفة، وجعلوا الجدار الخارج من جهة المشرق متصلا بجدار الحجرة الداخل، فأدخلوا ما كان بينهما في جدار القبو المذكور إلى نهاية ارتفاعه، وكذا فعلوا فيما كان بين الجدار القبلي الداخل والخارج، سدّوه أيضا بالبناء حتى لم يبق حول البناء الداخل فضاء إلا ما بقي من الرحبة المثلاثة الشكل في جهة الشام وصار علو القبة المذكور فضاء أيضا بين القبة وبين الجدار الظاهر في جهة المشرق وعقدوا القبة المذكورة على ما بقي من الحجرة، وهو ما يلي المغرب منها في جهة الرؤوس الشريفة، وحاول بعض الناس أن يكون عقد القبة بالآجر، فكرهت ذلك لما لا يخفى، فاجتنبه متولي العمارة جزاه الله تعالى خيرا، وعقدها بالأحجار المنحوتة من الحجر الأسود، وكملها بالأبيض، وأخبروني أن ارتفاع القبة المذكورة من داخل أرض الحجرة الشريفة إلى محدّب القبة المذكورة- وهو أعلاها المغروز فيه هلالها- اثنا عشر ذراعا بذراع العمل؛ فيكون بالذراع المتقدم وصفه ثمانية عشر ذراعا وربع ذراع. ومن أرض الحجرة أيضا إلى نهاية القبو الذي بنى عليه أحد حوائط القبة المذكورة ثمانية أذرع وشيء بذراع العمل، وذلك نحو أحد عشر ذراعا بالذراع المتقدم وصفه، وارتفاع حائط القبة الشرقي- وهو الذي يلي القبو المتقدم وصفه- عن طرف القبور الذي بنى عليه الحائط المذكور ذراع وثلثان بذراع العمل، وذلك ذراعان ونصف راجح بالذراع المتقدم وصفه، وصار ما بين حائط القبة المذكور وبين حائط الحجرة الظاهر في جهة المشرق- أعني سطح القبو المذكور وما اتصل به- كما كان بين الجدارين، وأدخل في عرض الجدار رحبة واحدة تحيط بها من المغرب حائط القبة المتقدم وصفه، ومن المشرق حائط الحجرة الظاهر، ومن القبلة حائط الحجرة الظاهر أيضا، ومن الشام سترة بنيت له فيما بين جدار القبة الذي يليه وجدار الحجرة الظاهر في المشرق. وذرع هذه الرحبة المذكورة بسطح القبو المذكور طولا من القبلة إلى الشام سبعة أذرع ونصف سدس ذراع بذراع العمل، وذلك أحد عشر ذراعا بالذراع المتقدم وصفه. وذرعها عرضا مختلف: فمما يلي القبلة ذراعان ونصف بذراع العمل، ومما يلي الشام نحو الثلاثة. وأما جدار القبة الشامي فقد تقدم أنهم زادوا في عرضه من الرحبة خلفه وجعلوه أيضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 متفاوت العرض؛ فجعلوا ما يلي المشرق منه- وهو الموضع المحاذي للأسطوانة التي وقعت الزيادة في العرض لأجل إدخالها وإدعامها بذلك- أزيد من الجهة التي تلي المغرب منه بنحو نصف ذراع؛ فإنهم جعلوا عرض الجدار في هذه الجهة من أسفل عقد القبة نحو ثلاثة أذرع بذراع اليد، وعرضه في الجهة الآخرى دون ذلك بنحو نصف ذراع، بحيث صارت جهة الأسطوان المذكور بارزة عن بقية ذلك الجدار في الرحبة المذكورة كما سيأتي تصويره. وقد جعلوا على رأس هذا الجدار بناء يسيرا مما بقي من اللبن الذي أخرج من بعض جدار الحجرة كما تقدم وصفه، بعد أن تفرق اللبن المذكور، وأخذ الكثير منه. وتركوا في نحو وسط هذا الجدار خوخة، فلما لم يبق إلا هي أدخلوا منها شيئا كثيرا من الحصباء جاؤوا بها من عرصة العقيق من جنس حصباء المسجد بعد غسلها بالماء ليضعوها على القبور الشريفة، وكنت قد ذكرت لبعضهم أن موضع القبر الشريف النبوي مما يلي الجدار القبلي، وأنه يستنبط مما قدمناه في مسمار الفضة المحاذي للوجه الشريف أن أول القبر الشريف من جهة المغرب على نحو ذراعين بذراع اليد من الحائط الغربي؛ لأنا إذا أسقطنا عرض الجدارين الغربيين- وهما الجدار الداخل والخارج، وهو نحو ثلاثة أذرع مما بين المسمار وأول الجدار الظاهر الغربي وهو نحو خمسة أذرع كما تقدم- كان الباقي نحو الذراعين إلى الرأس الشريف، فاستحسن ذلك، فحضر معهم لما دخلوا من الخوخة المذكورة لوضع الحصباء على القبور الشريفة، فوضعوا ذلك على المحل الشريف المذكور كما وصفت، وأخذوا بالهيئة المشهورة في كيفية القبور الشريفة من أن رأس أبي بكر رضي الله عنه خلف منكب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورأس عمر رضي الله عنه خلف منكب أبي بكر، فوضعوا الحصباء عليهما كذلك وكان بعض المباشرين لذلك حنفيا- وهو صهر متولي العمارة- فجعلها مسنّة، وذلك بعد أن أكثروا في الموضع المذكور من البخور بالعود والعنبر وغيرهما من أنواع الروائح، وعرف المحل الشريف على ذلك كله راجح فائح، ولله در القائل: بطيب رسول الله طاب نسيمها ... فما المسك ما الكافور ما المندل الرّطب وألقى جماعة من الناس من تلك الخوخة أوراقا كتبوا فيها التشفع بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ومارب يسألونها بالحجرة الشريفة، ثم سدوا الخوخة المذكورة، وأحكموا بناءها كبقية الجدار، وبيضوا القبة المذكورة وجميع جدرانها من خارجها بالجص، وجاءت حسنة فاض عليها أنس المحل الشريف، ونصبوا بأعلاها هلالا من نحاس يظنه الرائي ذهبا، وهو قريب من سقف المسجد الأول؛ فإن القبة المذكورة تحته، ثم سدوا ما بقي من نقب الجدار الظاهر، وحضرت معهم في ذلك الوقت، وحضرت أيضا بعض بناء الحجرة الشريفة، وتبركت بالعمل فيه، ولم أحضر غير ذلك طلبا للسلامة، وأنشدت في ذلك المحل الشريف قصيدتي التي تطفلت بها على واسع كرم الجناب الرفيع الحبيب الشفيع الحالّ بذلك الحمى المنيع، التي أولها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 قف بالديار لحي في ذرى الحرم ... وحيّ هذا المحيّا من ذوي إضم وكان الفراغ من ذلك وختم بناء الجدار الظاهر في يوم الخميس المبارك سابع شوال من السنة المذكورة، وأصرفوا في ذلك وفي غيره من عمارات المسجد وإعادة منارة مسجد قباء وتجديد بعض سقفه وإحكام مصرف المياه التي كانت تجتمع حول المسجد عند كثرة الأمطار مالا جزيلا، ومن أعظم ذلك نفعا ما جعل لمصرف المياه المذكورة كما سيأتي وصفه فقد عم نفعه، وذلك كله في الصحائف الشريفة السلطانية الأشرفية، أعز الله أنصارها، وأعلى في سلوك العدل منارها، على يد متولي العمارة الجناب الشمسي المتقدم ذكره ضاعف الله تعالى حسناته. وهذا تصوير ما استقر عليه الأمر من هذه العمارة في صورة الحجرة المشرفة والقبور الشريفة بها: ثم حدث بعد الحريق الثاني عند إنشاء القبة الثانية التي جعلوها بدلا عن القبة الزرقاء المتقدم ذكرها تأسيس دعامة وعقد في جهة المغرب عند مقام جبريل عليه السلام متصل بجدار الحجرة الظاهر من أعلاه وأسطوان وعقد في مقابلة ذلك في المشرق متصل بالجدار الظاهر أيضا في جهة المغرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 الفصل التاسع والعشرون في الحريق الحادث في زماننا بعد العمارة السابقة وما ترتب عليه ألحقته هنا مع إلحاق ما تقدمت الإشارة إليه في الفصول السابقة، لحدوثه بعد الفراغ من مسودة كتابنا هذا لأني توجّهت إلى مكة المشرفة للاعتمار أول شهر رمضان عام ست وثمانين وثمانمائة، فورد علي بها عدة كتب من الصادقين في الخبر، وشافهني من شاهد الأمر والأثر، بما حصل من الخطب العظيم، والرزء الجسيم، باحتراق المسجد النبوي أول الثلث الأخير من ليلة الثالث عشر من شهر رمضان، وذلك أن رئيس المؤذنين وصدر المدرسين الشمسي شمس الدين محمد بن الخطيب قام يهلّل حينئذ بالمنارة الشرقية اليمانية المعروفة بالرئيسية، وصعد المؤذنون بقية المنائر، وقد تراكم الغيم فحصل رعد قاصف أيقظ النائمين، فسقطت صاعقة أصاب بعضها هلال المنارة المذكورة، فسقطت في المسجد وله لهب كالنار، وانشق رأس المنارة، وتوفي الريس المذكور لحينه صعقا ففقد من كان على بقية المنائر صوته، فنادوه فلم يجب، فصعد إليه بعضهم فوجده ميتا، وأصاب ما نزل من الصاعقة سقف المسجد الأعلى بين المنارة الرئيسية وقبة الحجرة النبوية فثقبه ثقبا كالترس، وعلقت النار فيه وفي السقف الأسفل، ففتح الخدام أبواب المسجد قبل الوقت المعتاد وقبل إسراجه، ونودي بالحريق في المسجد، فاجتمع أمير المدينة وأهلها بالمسجد الشريف، وصعد أهل النجدة منهم بالمياه لإطفاء النار، وقد التهبت سريعا في السقفين، وأخذت لجهة الشمال والمغرب، فعجزوا عن إطفائها، وكلما حاولوه لم تزدد إلا التهابا واشتعالا، فحاولوا قطعها بهدم بعض ما أمامها من السقف، فسبقتهم لسرعتها، وتطبق المسجد بدخان عظيم، فخرج غالب من كان به، ولم يستطيعوا المكث؛ فكان ذلك سبب سلامتهم، وهرب من كان بسطح المسجد إلى شماليه، ونزلوا بما كان معهم من حبال الدلاء التي استقوا بها الماء بخارج المسجد على الميضأة والبيوت التي هناك وما حول ذلك، وسقط بعضهم فهلك، ونزل طائفة منهم إلى المسجد من الدرج فاحترق بعضهم ولجأ بقيتهم إلى صحن المسجد مع من حالت النار بينه وبين أبواب المسجد ممكن كان أسفل، ومنهم صاحبنا الشيخ العالم صدر المدرسين الشمسي شمس الدين محمد بن المسكين المعروف بالعوفي، فمات بعد أيام لضيق نفسه بسبب الدخان مع توعك سابق، رحمه الله تعالى! واحترق من الخدام الزيني شند نائب خازن دار الحرم، تغمده الله برحمته! ومات جماعة تحت هدم الحريق من الفقراء وسودان المدينة، وجملة من مات بسبب ذلك بضع عشرة نفسا، وكانت سلامة من بقي بالمسجد على خلاف القياس؛ لأن النار عظمت جدّا حتى صارت كبحر لجي من نار، ولها زفير وشهيق وألسن تصعد في الجو، وصار لفحها يؤثر من البعد حتى أثرت في النخلات التي بصحن المسجد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وعلق منها شيء بالمنارة الرئيسية فاحترقت، ووصلت النار لثياب الريس شمس الدين محمد رحمه الله تعالى فاحترقت بعد موته، وصارت النار ترمي بشرر كالقصر فتسقط بالبيوت المجاورة للمسجد، ومع ذلك فلا تؤثر فيها، حتى سقط بعض الشرر على سعف فلم يحترق، وحمل بعض خزائن الكتب من تحت سقف المسجد إلى صحنه فأصابها الشرر فأحرقها. ونقل عن جمع كثير أنهم شاهدوا حينئذ أشكال طيور بيض كالإوز يحومون حول النار كالذي يكفها عن بيوت الجيران. وأخبر أمير المدينة الشريفة السيد الشريف زين الدين فيصل الجمازي أن شخصا من العرب صادق الكلام رأى في المنام ليلة ثاني عشر من شهر رمضان أن السماء فيها جراد منتشر، ثم عقبته نار عظيمة، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم النار وقال: أمسكها عن أمتي، فجزاه الله عن أمته- خصوصا عن جيرانه- أفضل ما جزى نبيّا عن أمته. وحكى أيضا عن بواب رباط السبيل أنه ذكر مثل تلك الرؤيا عن غيره، كتب لي بذلك صاحبنا العلامة شيخ المحدثين بالحرم النبوي الشيخ شمس الدين بن شيخنا العلامة ناصر الدين العثماني أمتع الله به. هذا ما حصل لأهل المدينة الشريفة من الدهشة العظيمة والحيرة لما شاهدوا من هول هذه النار ومنظرها الفظيع، حتى أيقن بعضهم بالهلاك، وانتقل بعض أهل الدور منها لما وصل إليهم الشرر، وخرج بعضهم من باب المدينة الذي يلي البقيع، وبعضهم من بابها الذي يلي المصلى، وظنوا أن النار محيطة بهم. قال الشمس العثماني: وصار لجميع المدينة من جميع جهاتها بالبكاء ضجيج، وبالدعاء عجيج، قال: وأمر هذه النار عجيب، وليس الخبر كالمعاينة، وصار المسجد كالتنور، ولم يمض إلا أقل من عشر درج وقد استولى الحريق على جميع سقف المسجد وحواصله وأبوابه وما فيه من خزائن الكتب والربعات والمصاحف، غير ما وقعت المبادرة لإخراجه أولا وهو يسير، وغير القبة التي بصحن المسجد، وسبق ذكر سلامتها في الحريق الأول، وكنت تركت كتبي بالخلوة التي كنت أقيم بها في مؤخر المسجد، فكتب إلّي باحتراقها، ومنها أصل هذا التأليف وغيره من التاليف والكتب النفيسة نحو ثلاث مائة مجلد، فمنّ الله تعالى عليّ ببرد الرضى والتسليم، وفراغ القلب عن ذلك، حتى ترجحت هذه النعمة عندي على نعمة تلك الكتب لما كنت أجده قبل من التعلق بها؛ فلله الحمد والشكر على ذلك. هذا، مع ما منّ الله به علي من غيبتي عن هذا الأمر المهول؛ فإن وقوعه كان في ليلة الوصول إلى الحرم المكي، ولم يتفق لي منذ سكنت المدينة الخروج منها في رمضان، بل كنت ألازم المسجد النبوي فيه من أوله إلى آخره ليلا ونهارا، فكان ذلك سبب النجاة من هذا الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 ولما اشتعلت النار في السقف المحاذي للحجرة الشريفة ذاب الرصاص من القبة التي بسقف المسجد الأعلى، واحترقت أخشابها وما يحاذيها من السقف الأسفل والشباك الدائر على حائز عمر بن عبد العزيز الذي تعلق الكسوة بأعلاه، وسقط ما سقط من ذلك على القبة السفلى التي تقدم تجديدها، فلما أصبحوا بدأوا بطفي ما سقط على القبة المذكورة، واستمروا في ذلك إلى آخر النهار، فسلمت القبة المذكورة مع أن بعضها من الحجر الأبيض الذي يسرع تأثره بالنار، وذلك من المعجزات النبوية؛ لأن كثيرا من أساطين المسجد الشريف سقطت لما ذاب بعض رصاصها وتهشمت وهي من الحجر الأسود، ومع ذلك تفتت كأنه أحجار النورة، وعدة ما سقط منها مائة وبضع وعشرون أسطوانا، وما بقي منها فقد أثرت فيه النار أثرا بينا، وسلمت الأساطين اللاصقة بجدار الحجرة أيضا؛ فالحمد لله على حماية الحجرة المنيفة، الحاوية للقبور الشريفة، واحترقت المقصورة التي كانت حول الحجرة الشريفة والمنبر الشريف وما كان أمام المصلى المنيف بالروضة الشريفة من الصندوق وما عليه من المحراب المتقدم وصفه، وسقطت أكثر عقود المسجد، وما بقي منها فهو آيل إلى السقوط، وسقط علو المنارة الرئيسية، ثم خشوا من سقوط بعض ما بقي منها فهدموا نحو ثلثها، وكتبوا إلى سلطان مصر مولانا الأشرف سلطان الحرمين الشريفين قايتباي أيد الله أنصاره بذلك سادس عشر رمضان، واقتضى رأي نائب الناظر سد أبواب حواصل المسجد حتى القبة التي بوسطه المرصد فيها زيت مصابيحه، وترك الردم على حاله حتى ترد الأوامر الشريفة فتضرر الناس بذلك، فاتفقت الآراء على تنظيف مقدم المسجد ما عدا ما جاور الحجرة الشريفة خوفا على ما سقط من حلية قناديلها، مع أنها يسيرة كما يؤخذ مما سبق، فجعلوا على ذلك حاجزا من الآجرّ، ونقلوا هدم مقدم المسجد إلى ما يلي باب الرحمة من مؤخره، وعمل في ذلك أمير البلد والقضاة والأشراف وعامة الناس حتى الكثير من النساء والأطفال تقربا إلى الله تعالى بغير أجرة، ولم يتأخر عن ذلك إلا المخدّرات من النساء. وبنوا في محل المنبر منبرا من آجر، وصلّوا بالمصلى النبوي من حينئذ، وعملوا لأبواب المسجد غير باب جبرائيل خوخا يدخل منها، وسدوا ما زاد على ذلك، ونصب الخدام خياما بالمسجد إذ لم يبق به ظل، وصار بعض أهل الخير يسرج قناديل متعددة من عنده في المسجد مع توفر الزيت بحاصله، لكن تعذر ذلك بسبب سدّه، واستمرت النار فيما لم ينقل هدمه من المسجد حتى فيما حول الحجرة الشريفة وموقف الزائرين تجاه الوجه الشريف، وأخبر بعضهم بمشاهدة الدخان يتصاعد من ذلك المحل الشريف بعد مدة، وفي أثناء شوال أخبر قاضي المالكية شمس الدين السخاوي حفظه الله تعالى أنه رأى في النوم من يقول له: أطفئوا النار من الحجرة الشريفة، يعني الموضع الذي تركوا تنظيفه حولها، فتفقدوا ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 فوجدوا النار في ثمانية مواضع، فأطفؤوا ذلك، ثم رأوا أن مادة هذه النار لا تنقطع إلا بتنظيف الردم، فاجتمعت الآراء على ذلك بعد توقّف تام من نائب الناظر، وعيّنوا لتعاطيه من يثقون به من الخدام والفقهاء والفقراء، وكان الصواب المبادرة لذلك أولا، ولكن على كل خير مانع، ولا يدري أحد أسرار ما الله في عباده صانع، ولما نظفوا ذلك وجدوا حلية الصندوق المجعول في جهة الرأس الشريف وجانبا من الكسوة وبعض البسط سالما لسقوط الردم عليه، ووجدوا القناديل التي كان التخوّف في تنظيف ذلك المحل لأجلها، وأداروا على الحجرة الشريفة جدارا من الآجر في موضع المقصورة المحترقة، وجعلوا فيها شبابيك وطاقات وأبوابا، وقام بمصروف ذلك بعض النساء المباركات وغيرها، وسامح البناؤون بنصف أجرهم مع توفر المصروف بحاصل المسجد الشريف، وأحضرت تلك المرأة أيضا وغيرها كسوة للحجرة الشريفة من القماش الأبيض فجعلت عليها. وفي ذلك كله عبرة تامة وموعظة عامة لأولي الأبصار، وهو منذر بأمر عظيم، ولهذا اختص به هذا المحل المنسوب إلى النذير صلّى الله عليه وسلّم، وقد ثبت أن أعمال الأمة تعرض عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلما ساءت منا الأعمال المعروضة ناسب ذلك الإنذار بإظهار عنوان النار المجازي بها في موضع عرضها، ولم أزل في وجل مما يعقب ذلك حيث لم يحصل الاتعاظ والانزجار، وقد قال تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء: 59] ، وقال تعالى: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: 16] وكأن لسان القدرة ينادي: ألا تتعظون بما ترون وتسمعون؟ ألا تنتهون وتنزجرون؟ ألا ترون إلى هذا المحل الشريف مع عظيم نسبته وعلو رتبته ومكانته لما تلوّث باثاركم معشر المذنبين، وتدنّس بأقذاركم كافة الغافلين، أرسلت عليه بحرا من النار السماوية تطهره من تلك الآثار، وتزجركم عن التمادي على الإصرار، وموالاة اتباع الأوزار، وتشهد بصائركم عموم القدرة، فترسلون من الأبصار سوابق العبرة، تأسفا على ما اجترحتموه قبل هذه العبرة، فمن لم ينته بهذا الزاجر الفعلي عن إصراره، ولم يقتبس من هذه النار العظيمة قبسا يهتدي بأنواره، فلينظر فيما حدث عقيب حريق المسجد القديم، ويتفكر في ضعفه عن احتمال العذاب الأليم، حمانا الله من ذلك، وسلك بنا أجمعين أحسن المسالك. ومن العجائب أنه لم يتأتّ إخراج ردم هذا الحريق بعد نقله لمؤخر المسجد حتى حضر الحجّاج من سائر الآفاق للزيارة، وشاهدوا هذه العبرة العظيمة، ورأوا ما اجتمع من الردم كالآكام والتلول الجسيمة، ثم قبيل دخول الحاج مكة بالقعدة الحرام من العام الثاني أرسل الله سيلا عظيما بمكة المشرفة ملأ ما بين الجبلين وعلا جدار أبواب المعلى، ودخل جوف الكعبة الشريفة، وارتفع فيها أزيد من قامة وهدم دورا كثيرة يقال إنها تزيد على ألفي دار، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وذهب بسبب ذلك من الأموال والأنفس ما لا يحصيه إلا الله تعالى، حتى أنهم ضبطوا من وجد تحت الردم بالمسجد الحرام فقط عند تنظيفه فكانت عدتهم نحو الثمانين، وقيل أزيد من مائة، ولم أقف فيما نقل من سيول الجاهلية والإسلام على مثل ذلك، ولما نظفوا ذلك الردم- وهو أتربة ونقض هدم حملها السيل- لم يتأتّ إخراجه قبل وصول الحجاج وصار ذلك كالآرام والتلول العظيمة في المسجد الحرام، فحضر الحجاج كلهم وشاهدوا ذلك، فسبحان من بيده الخلق والأمر لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ولما وصل خبر الحريق لرودس من بلاد النصارى أظهروا بذلك فرحا واستبشارا، وتظاهروا بالزينة وضرب النواقيس، فلم يمض ذلك اليوم إلا وقد أرسل الله عليهم زلازل عظيمة هدمت عليهم جانبا من سور البلد والكنيسة وكثيرا من دورهم، وهلك منهم بذلك خلائق لا يحصون، ودامت الزلازل عليهم، أياما، شاهدت ذلك في كتب وردت من ثغر إسكندرية بخط من يعتمد عليه، وذكروا أن المخبر لهم بذلك أهل المراكب الواردة من رودس المذكورة، وأنهم سافروا والزلازل مستمرة بها، وهم يخرجون الموتى من تحت الهدم بعد انتقال من بقي إلى خارج البلد، فتأمل هذه المعجزات النبوية، والآيات الربانية. ولما وصل القاصد إلى مصر المحروسة، واتصل علم الحريق المذكور بسلطانها، عظم ذلك عليه، وبرزت أوامره الشريفة بالمبادرة إلى تنظيف المسجد الشريف، ورأى أن في تأهيل الله تعالى له لعمارة ذلك مزيد التشريف، وكمال التعريف، وأنه كرامة من الله تعالى أكرمه بها، وذخيرة يرجو الفوز بسببها، فاستقبل أمر العمارة بهمة تعلو الهمم العلية، ورسم بإبطال عمائره المكية، وبتوجه شادها السيفي الأمير سنقر الجمالي صحبة الحاج الأول بزيادة على مائة صانع من البنائين والنجارين والنشارين والدهانين والحجارين والنحاتين والحدادين والمرخّمين وغيرهم، وكثير من الحمير والجمال، وصحبته وصحبة أخيه المقر الأشرفي الشجاعي شاهين والأمير قاسم الفقيه شيخ الحرم الشريف مبلغ عشرين ألف دينار، وشرع السلطان في تجهيز الآلات والمؤن حتى كثرت في الطّور والينبع والمدينة الشريفة. ثم جهّز متولي العمارة الأولى بالمدينة الشريفة- وهو الجناب العالي الخواجكي الشمسي شمس الدين بن الزمن- في أثناء ربيع الأول وصحبته أكثر من مائتي جمل ومن مائة حمار وأزيد من ثلثمائة من الصناع أهل الصنائع الأولى وغيرهم من الحمالين والمبيضين والسباكين والجباسين، وأصرفوا لهم شيئا من الأجرة قبل سفرهم، وقد صارت أحمال المؤن متواصلة قلّ أن تنقطع برا وبحرا، واستقبلوا أمر العمارة بجد واجتهاد، فهدموا المنارة الرئيسية التي أصابها الحريق إلى أساسها، وهدموا من سور المسجد من ركن المنارة التي بباب السلام إلى آخر جدار القبلة وما يليه من المشرق إلى باب جبريل، وما يلي المنارة من المغرب أيضا إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 باب الرحمة، وأعادوا المنارة الرئيسية وسور المسجد المذكور، وزادوا في عرضه يسيرا، ووسعوا المحراب العثماني، وسقفوا مقدم المسجد سقفا واحدا، بعد أن قصروا أساطينه وجعلوا عليها عقودا من الآجر فوقها أخشاب السقف، وكانت الأساطين المذكورة قبل ذلك واصلة إلى سقف المسجد كهيئة ما بقي من أساطينه في بقية المشرق والمغرب والشام، وجعلوا على المحراب العثماني قبة على رؤوس الأساطين، بعد أن قرنوا إلى كل أسطوانة ثانية، وجمعوا في بعضها بين خمس أساطين؛ ليتأتى لهم عقد القبة المذكورة، وأزالوا الأسطوانة التي كانت في محاذاة الأسطوانة التي إليها المصلّى النبوي بينها وبين المحراب العثماني، وجعلوا على ما يحاذي الحجرة الشريفة وما حوله قبة عظيمة على دعائم بأرض المسجد وعقودا من الآجر بدلا عن القبة الزرقاء التي كانت قبل الحريق، وكانت تلك على رؤوس السواري كما سبق في الفصل السابع والعشرين، وقدمنا هناك ما حصل من ضيق المسجد من جهة المشرق بسبب ابتناء بعض تلك الدعائم هناك، فخرجوا بجدار المسجد الشرقي- أعني ما حاذى ذلك منه- بنحو عرض الجدار في البلاط الشرقي، وأبقوا الباب المعروف بباب جبريل في محله. ثم أحدثوا أسطوانا في جانب مثلث الحجرة ليشتدّ به العقد الذي عليه القبة في تلك الناحية، وحفروا لذلك أساسا عظيما ظهر بسببه القبر المنسوب في أحد الأقوال لفاطمة الزهراء رضي الله عنها، وزادوا دعامتين وعقدا إلى جانب الأسطوانتين اللتين في جهة الوجه الشريف، ولم يبالوا بما حدث بسبب ذلك من الضيق في الموضع المواجه للوجه الشريف داخل المقصورة وغيره لخشيتهم من سقوط القبة المذكورة، وكانوا قد وجدوا في جدار المنارة الرئيسية عند هدمها خزانة وضع الأقدمون بها أوراق المصاحف المحترقة في الحريق الأول وسدوا عليها، فأخرجوا تلك الأوراق ووضعوها في أعلى القبة المذكورة عند ختمها، فبدأ في القبة تشقّق، فقيل لهم: إن ذلك بسبب وضع الأوراق المذكورة بها؛ لأن الله تعالى يقول: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21] فأخرجوا تلك الأوراق منها، فقضيت العجب من ذلك. ومن الغريب أني كنت قد عزمت على التوجه إلى أرض مصر لزيارة والدتي وأهلي قبل الشروع في العمارة المذكورة، فلم أحضر شيئا من ذلك، ومن الله تعالى بالوصول إلى الوالدة والأهل، فتوفيت الوالدة بعد قدومي بعشر ليال، وكانت مدة غيبتي عن أهلي ستة عشر سنة، ثم منّ الله تعالى بالعود إلى المدينة الشريفة بعد تعويض ما تدعو الحاجة إليه من الكتب المحترقة، فوجدتهم قد عمروا القبة المذكورة ومقدم المسجد وعقدوا العقود المتصلة بهذه القبة من المشرق والشام، وجعلوها قبوا بدل السقف، واتخذوا فيما بين الحجرة الشريفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 والجدار القبلي قبة لطيفة، وحولها ثلاثة أخر تسمى مجاريد، وجعلوا بين عقود هذه القباب وبين المنارة الرئيسية التي أعادوها بادهنجا للضوء والهواء، وكان باب المنارة المذكورة من جهة المغرب، فنقلوه إلى جهة الشام، وأحدثوا أمامه أربع درجات بأرض المسجد، وإلى جانبها خزانة، وجعلوا موضع بابها الأول خلوة للخطيب يجلس بها إلى أن يخرج للخطبة يوم الجمعة، وكان جلوسه في الأعصار الخالية هناك مع وجود باب المنارة به، واتخذوا أيضا قبتين أمام باب السلام من داخله، وبنوا الباب المذكور بالرخام الأبيض والأسود وزخرفوه زخرفة عظيمة، وكذلك القباب المذكورة، وخفضوا أرض مقدم المسجد حتى ساوت أرض المصلى الشريف، واتخذوا له محرابا في محل الصندوق الذي كان هناك وزخرفوه بالرخام وكذا المحراب العثماني زخرفة عظيمة، وأعادوا ترخيم الحجرة الشريفة وما حولها وترخيم الجدار القبلي، وأزالوا البناء الذي عمله أهل المدينة في موضع المقصورة المستديرة بالحجرة الشريفة، وأبدلوا ما يلي القبلة من ذلك بشبابيك من النحاس، وبأعلاها شبكة من شريط النحاس كهيئة الزّرد، وجعلوا لبقيتها مما يلي الشام مشبكا مشاجرا من الحديد وفاصلا عن يمين مثلث الحجرة ويساره فيه بابان كما سبق بسط كل ذلك في محله، وعملوا المنبر ودكة المؤذنين من رخام، وجعلوا فيما يلي باب الرحمة وباب النساء إلى مؤخر المسجد دكتين إحداهما بالمسقف الغربي والآخرى بالمسقف الشرقي، وجعلوهما أخفض من الدكاك الشامية يسيرا، وردموهما من أتربة المسجد، واتخذوا فيما أعادوه من الجدار الشرقي خزائن للكتب وطاقات كبارا كالأبواب المقنطرة في أعالي الجدار وطاقات متسعة مستديرة أيضا تكثيرا للضوء، ولم يكن بأعالي الجدار المذكور أولا غير شباك واحد، وجعلوا نظير تلك الطاقات في الجدار القبلي أيضا، وبنو الجدار من ابتداء تلك الطاقات بالآجر، وسبب الاحتياج إلى ذلك أن أساطين مقدم المسجد الشريف كانت واصلة إلى سقفه كما سبق، ولم يكن بذلك قناطر من العقود سوى ما يلي الرحبة من الرواقين اللذين جدّدهما الناصر كما سبق، وكان الساقط من الأساطين بمقدم المسجد هو الأكثر لسقوط العقود التي كانت بين السقفين عليها وقت الحريق واشتعال النار المذيبة للرصاص الذي بين خرز الأساطين، فاقتضى رأيهم إعادة تلك الأساطين قصيرة وتكميلها إلى السقف بعقود القناطر، فأخذت القناطر حصة من الضوء، فعوّضوا ذلك بتلك الطاقات، وأكد عندهم فتحها أخذ متولي العمارة للدور التي في قبلة المسجد المعروفة بدور العشرة ليجعلها مدرسة للسلطان، وعرض الجدار القبلي يسيرا منها، وجعل فيها فتحات لشبابيك متعددة أيضا، ثم صرف الله تعالى عزمه عن ذلك وسد فتحات الشبابيك المذكورة كلها بفصوص الأحجار كنسبة بناء الجدار، وسدّ أيضا الطاقات التي بالجدار القبلي إلا ما يحاذي القبة التي على المحراب العثماني، فجعل لها ولما بقي من الطاقات قمريات من الزجاج وشبكات من شريط النحاس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 ثم استبدل متولي العمارة الرباط المعروف بالحصن العتيق وما في شاميه من المدرسة الجوبانية والدار التي كانت تعرف بدار الشباك- وذلك كله فيما بين باب الرحمة وباب السلام- عند هدم هذا الجانب من الجدار الغربي ليتخذ في ذلك مدرسة ورباطا لسلطان زماننا الأشرف أدام الله تعالى تأييده وتسديده، واتخذ في الجدار المذكور فتحات لشبابيك كثيرة في ثلاث طبقات عدتها ثلاثون فتحة، لأن الفتحة الثالثة من على يسار الداخل من باب السلام في موضع باب خوخة أبي بكر الصديق الآتي ذكرها في أبواب المسجد، جعلوه بابا ينفذ إلى المسجد، وكذا الفتحتان اللتان بينها وبين باب السلام جعلوا لهما بابين إلى المسجد فقط، وصارت هذه الأبواب الثلاثة في المسجد دون المدرسة من أصل حاصل المسجد الذي كان هناك، والفتحة الخامسة- وهي الثالثة من خوخة أبي بكر- جعلوها بابا ينفذ من المسجد إلى أسفل المدرسة، وجعلوا على الفتحات التي في الطبقة العليا شبكة من شريط النحاس شبه الزرد؛ لأنها جعلت لمجرد الضوء، وقد تكلم الناس مع متولي العمارة في أمر الشبابيك واتخاذها بجدار المسجد الشريف القبلي قبل انتقاله إلى هذه الجهة، وكثر الكلام في ذلك، فكاتب السلطان فاستفتى علماء مصر في ذلك فأفتاه جماعة منهم بذلك، فقلدهم فيه، وعوض ما فات من المصاحف والربعات، وبعث بعض ذلك على يدي بحيث اجتمع من ذلك أكثر مما فات، وكذلك الكتب بعث بجانب منها ووعد بإرسال ما يحتاج إليه، وكان من التوفيق بعثه للأمير الكبير الفخري قاسم الفقيه ناظرا على المسجد الشريف وشيخا لخدامه، وهو محب للعلم وأهله، مغرم بتلاوة القرآن الشريف، لم ير على طريقته مثله في هذا الباب؛ فصار يباشر أمر الرّبعات والمصاحف بنفسه ومماليكه، واتخذ لها كراسيّ صغارا يوضع عليها بالروضة الشريفة في أوقات الصلوات النهارية، فيقرأ هو والناس فيها؛ فعم نفعها. ولما قارب المسجد التمام أخذوا في عمارة الرباط والمدرسة المذكورين، وأسسوا لهما منارة في ناحيتهما التي تلي باب الرحمة، وشرعوا أيضا في عمارة رباط آخر بدل رباط الحصن العتيق، وفي حمام قبالة الرباط المذكور استأجروا أرض الحمام من الناظر على الميضأة التي بباب السلام فإنها منها، وشرعوا أيضا في عمارة سبيل وفرن وطاحون ومطبخ للدشيشة ووكالة ذات حواصل في الدور التي اشتروها قبل ذلك للسلطان من دور العباس وما يلي ذلك في جهة القبلة، وذلك أن السلطان أعز الله تعالى أنصاره بعد رجوعه من الحج شرع في شراء أماكن وجعلها وقفا ليحمل ريعها إلى المدينة الشريفة ليفرّق منه على أهلها ويعمل منه سماط كسماط الخليل عليه السلام، وأبرز لذلك ستين ألف دينار كما ذكرناه في الفصل الثالث والثلاثين، فاتخذوا هذه الأماكن لذلك، وهو أمر لم يسبق إليه، فسح الله تعالى في أجله، وبلغه من الخير غاية سؤاله وأمله، ولم يكن بالمدينة الشريفة حمام قبل ذلك من مدة مديدة، وكذا الطاحون، وإنما يستعملون الأرحاء التي تدار بالأيدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 ثم كتب إلى بعض الثقات بتكامل تحصيل تلك الأماكن، وأن متحصلها سبعة آلاف إردب وخمسمائة إردب من الحبّ في كل سنة، وأن السلطان أدام الله نصره أنجز وقفها وشرع في عمارة أماكن بمصر تقوية للوقف، ورسم بإبطال المكوس بالمدينة وتعويض أميرها. وقد كملت سقف المسجد النبوي كلها في أواخر شهر رمضان عام ثمان وثمانين وثمانمائة، وتمت عمارة المسجد الشريف عقب ذلك، ولم يبق سوى اليسير من العمائر السابق ذكرها وإكمال ترخيم المدرسة الأشرفية. وفي عام تسع وثمانين حضر جماعة من الدهانين بعث بهم السلطان الأشرف أعز الله أنصاره من مصر لمحو ما بلغه أنه جعل في بعض سقف المسجد الشريف من الدهان بالنيلة وإبداله باللازورد، وجهّز معهم أساقيل لذلك، فعملوه على أحسن وجه، ثم جهز؟ الأشرف عين الأعيان ونخبة الزمان البهائي بهاء الدين أبا البقاء بن الجيعان عظم الله شأنه وأسبغ عليه نعمه وإحسانه في ركب مع جماعة من خواصه، فوصل إلى المدينة الشريفة سابع ذي القعدة الحرام من العام المذكور، ومعه أحمال من كتب العلوم الشرعية موقوفة بالمدرسة الأشرفية، وأحمال كثيرة من الحبّ والدقيق والقدور النحاس التي جعلت برسم السّماط المتقدم ذكره، وبقايا آلات العمارة مما جهز في المراكب الشريفة إلى الينبع، فقرر أمر السماط، فصرف لكل شخص من المقيمين من الحب ما يكفيه على حسب عدة عياله، لكل نفر سبع إردب مصري بتقديم السين على الموحدة، وسوّى في ذلك بين الصغير والكبير والحر والعبد، وجعل للآفاقيين ما يكفيهم من الخبز وطعام الجشيشة في كل يوم، وقرر أمر المدرسة، وصرف للمرخمين وغيرهم من أرباب الصنائع مصروف بقية عملهم، وأحسن النظر في ذلك حتى زاد جماعة منهم من ماله وتلطف بهم وأحسن، فانطلقت الألسن بالدعاء له، أحسن الله له الجزاء، وجعل نصيبه من خيري الدارين من أوفر الأجزاء. وقد قارن هذه العمارة من السعد وتسهيل الأمور ما لا يوصف، ويسر الله تعالى لهم من آلات العمارة ما لم نكن نظن حصوله بنواحي المدينة الشريفة، خصوصا أخشاب الدّوم، فقطعوا من الموضع المعروف بالشقرة ومن الصويدرة ومن الفرع وغير ذلك ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وكذلك أخشاب السّمر. وقد أخبرني بعض المباشرين لهذه العمارة الميمونة أن المصروف فيها وفيما شرعوا فيه من عمارة المدرسة وتوابعها نقدا وأثمان آلات وبهائم وغير ذلك مائة وعشرون ألف دينار، ومع ذلك فلم يتم بعد. ثم بعد أن منّ الله تعالى بإتمامها بلغ السلطان الأشرف أن متولي العمارة تسمح في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 استعمال مؤن غير صالحة، وأن القبة التي سبق اتّخاذها على أعلى ما يحاذي الحجرة الشريفة قد تشققت ثم رمّت ثم تشققت، ولم يفد الترميم فيها، وأن المنارة الرئيسية قد مالت، مع أمور أخرى، فتغير خاطره على متولي العمارة، ثم انتخب لذلك المقر الشجاعي شاهين الجمالي لما اشتمل عليه من الفضل والنبل وإصابة الرأي، وفوض إليه أيضا مشيخة الحرم ونظره ونظر السماط، فورد المدينة الشريفة في موسع عام أحد وتسعين وثمانمائة، وجمع الناس للنظر في ذلك، وراجع فيه أهل الخبرة، فاقتضى الحال هدم المنارة الرئيسية وهدم أعالي القبة المذكورة، ولما هدم المنارة المذكورة ظهر أن الخلل من عدم المبالغة في حفر أساسها، فحفر أساسها حتى بلغ به الماء، واتخذ لها أحجارا من الحجر الأسود متقنة، وأحكم بناءها مع الحسن الفائق، بحيث لم ير قبلها بالمدينة الشريفة مثلها، وجعل بابها من المغرب في محله الأول، وأبطل تلك الدرج المحدثة بأرض المسجد على ما سبق، وأما القبة فاتخذ في الطاقات المحيطة بجوانبها سقفا يمنع من سقوط ما يهدم منها إلى أرض الحجرة الشريفة، ثم شرع في هدمها وإعادتها، بحيث لم يرفع كسوة الحجرة الشريفة ولم يتخذ المسجد طريقا للعمال في ذلك، بل اتخذ أساقيل يمشي عليها إلى سطح المسجد في ناحيته الشرقية، واتخذ حاجزا لمحل المنارة يحول بينها وبين المسجد بحيث يظن الظان أن المسجد لا عمارة به، وصانه أيضا من الامتهان بعمل أرباب الصنائع، فجزاه الله تعالى خير الجزاء، وجعل ثوابه على ذلك من أوفر الأجزاء. وقد جاءت القبة حسنة مع الإتقان، حتى إنه استصحب في هذه العمارة الجبس من مصر المحروسة، واستعمله في البناء، وحرص على إتقان الآجر، وزاد العمال فيه على عادتهم، ولم يوفق متولي العمارة قبله لشيء من ذلك، سامحه الله، وكل ميسّر لما خلق له. وقد ذكر ابن النجار ما كان عليه الخلفاء من الاهتمام بعمارة المسجد النبوي فقال: ولم يزل الخلفاء من بني العباس ينفذون الأمراء على المدينة الشريفة، ويمدونهم بالأموال لتجديد ما ينهدم من المسجد النبوي، فلم يزل ذلك متصلا إلى أيام الناصر لدين الله، أي الخليفة في زمنه، قال: فإنه ينفذ في كل سنة من الذهب العين الإمامي ألف دينار لعمارة المسجد، وينفذ عدة من النجارين والبنائين والنقاشين وأرباب الحرف، وتكون مادتهم مما يأخذونه من الديوان ببغداد من غير هذه الألف، وينفذ من الحديد والصناع والرصاص والحبال والآلات شيئا كثيرا، ولا تزال العمارة متّصلة في المسجد حتى إنه ليس به موضع أصبع إلا وهو عامر، انتهى. قلت: وعقب وفاة ابن النجار بيسير انتقل أمر المدينة الشريفة إلى ملوك مصر، ولم يزل ملوكها يهتمون بعمارة هذا المسجد الشريف، ومن أعظمهم همة في ذلك، وأحبهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 سلوك هذه المسالك، سلطان زماننا الملك المالك لصفوة الممالك الأشرف أبو النصر قايتباي، أعزّ الله أنصاره، وضاعف اقتداره؛ فلذلك أجرى الله على يديه هذه العمارة، وآثره بهذه الأثارة، ومن تأمل ما قدمناه في الفصل السادس والعشرين في الحريق الأول عن المؤرخين من عمل سقف المسجد على يد من سبق وطول مدته وصفته، وأحاط علما بما أسلفناه عن سلطان زماننا في عمارته، حكم يقينا بعلو همته، وفخار منقبته ومرتبته، واختصاصه بما لم يفز به من سبقه؛ فكان هو سابقا، وإن عد في الزمان لاحقا، وقد ذكرنا ما له بالحجاز الشريف من الآثار الجميلة، وبعض مناقبه الجليلة، في الفصل الثالث والثلاثين في خوخة آل عمر رضي الله عنه لما خصه الله به من حسم مادة المفاسد المترتبة عليها في زماننا، وأمره بسدّ طابقها، شكر الله صنيعه، وحصّنه من العداة بحصونه المنيعة. خاتمة فيما نقل من عمل نور الدين الشهيد لخندق حول الحجرة الشريفة مملوء بالرصاص، وذكر السبب في ذلك، وما ناسبه اعلم أني قد وقفت على رسالة قد صنّفها العلامة جمال الدين الأسنوي في المنع من استعمال الولاة للنصارى، وسماها بعضهم «بالانتصارات الإسلامية» ورأيت عليها بخط تلميذه شيخ مشايخنا زين الدين المراغي ما صورته «نصيحة أولي الألباب، في منع استخدام النصارى كتاب» لشيخنا العلامة جمال الدين الأسنوي، ولم يسمه، فسميته بحضرته، فأقرني عليه، انتهى. فرأيته ذكر فيها ما لفظه: وقد دعتهم أنفسهم- يعني النصارى- في سلطنة الملك العادل نور الدين الشهيد إلى أمر عظيم ظنوا أنه يتم لهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وذلك أن السلطان المذكور كان له تهجّد يأتي به بالليل، وأوراد يأتي بها، فنام عقب تهجده، فرأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في نومه وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول: أنجدني أنقذني من هذين، فاستيقظ فزعا، ثم توضأ وصلى ونام فرأى المنام بعينه، فاستيقظ وصلى ونام فرآه أيضا مرة ثالثة، فاستيقظ وقال: لم يبق نوم، وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي، فأرسل خلفه ليلا، وحكى له جميع ما اتفق له، فقال له: وما قعودك؟ اخرج الآن إلى المدينة النبوية، واكتم ما رأيت، فتجهز في بقية ليلته، وخرج على رواحل خفيفة في عشرين نفرا، وصحبته الوزير المذكور، ومال كثير، فقدم المدينة في ستة عشر يوما، فاغتسل خارجها ودخل فصلى بالروضة، وزار، ثم جلس لا يدري ماذا يصنع، فقال الوزير وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد: إن السلطان قصد زيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأحضر معه أمولا للصدقة، فاكتبوا من عندكم، فكتبوا أهل المدينة كلهم، وأمر السلطان بحضورهم، وكل من حضر ليأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها النبي صلّى الله عليه وسلّم له فلا يجد تلك الصفة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 فيعطيه ويأمره بالانصراف، إلى أن انقضت الناس، فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ شيئا من الصدقة؟ قالوا: لا، فقال: تفكروا وتأملوا، فقالوا: لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئا، وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج، فانشرح صدره وقال: علّي بهما، فأتي بهما فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهما بقوله: أنجدني، أنقذني من هذين، فقال لهما: من أين أنتما؟ فقالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجّين فاخترنا المجاورة في هذا العام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: اصدقاني، فصمّما على ذلك، فقال: أين منزلهما؟ فأخبر بأنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة، فأمسكما وحضر إلى منزلهما، فرأى فيه مالا كثيرا وختمتين وكتبا في الرقائق، ولم ير فيه شيئا غير ذلك، فأثنى عليهما أهل المدينة بخير كثير وقالوا: إنهما صائمان الدهر ملازمان الصلوات في الروضة الشريفة وزيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم وزيارة البقيع كل يوم بكرة وزيارة قباء كل سبت، ولا يردان سائلا قط بحيث سدّا خلة أهل المدينة في هذا العام المجدب، فقال السلطان: سبحان الله! ولم يظهر شيئا مما رآه، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه، فرفع حصيرا في البيت، فرأى سردابا محفورا ينتهي إلى صوب الحجرة الشريفة، فارتاعت الناس لذلك، وقال السلطان عند ذلك: اصدقاني حالكما وضربهما ضربا شديدا، فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زيّ حجاج المغاربة، وأمالوهما بأموال عظيمة، وأمروهما بالتحيل في شيء عظيم خيّلته لهم أنفسهم، وتوهموا أن يمكنهم الله منه، وهو الوصول إلى الجناب الشريف ويفعلوا به ما زيّنه لهم إبليس في النقل وما يترتب عليه، فنزلا في أقرب رباط إلى الحجرة الشريفة، وفعلا ما تقدم، وصارا يحفران ليلا، ولكل منهما محفظه جلد على زي المغاربة، والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته، ويخرجان لإظهار زيارة البقيع، فيلقيانه بين القبور، وأقاما على ذلك مدة، فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت، وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاع تلك الجبال، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة. واتفق إمساكهما واعترافهما، فلما اعترفا وظهر حالهما على يديه، ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره بكى بكاء شديدا، وأمر بضرب رقابهما، فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة، وهو مما يلي البقيع، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقا عظيما إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها، وأذيب ذلك الرصاص، وملأ به الخندق، فصار حول الحجرة الشريفة سورا رصاصا إلى الماء، ثم عاد إلى ملكه، وأمر بإضعاف النصارى، وأمر ألايستعمل كافر في عمل من الأعمال، وأمر مع ذلك بقطع المكوس جميعا، انتهى. وقد أشار إلى ذلك الجمال المطري باختصار، ولم يذكر عمل الخندق حول الحجرة وسبك الرصاص به، لكن بيّن السنة التي وقع فيها ذلك مع مخالفة لبعض ما تقدم، فقال في الكلام على سور المدينة المحيط بها اليوم: وصل السلطان نور الدين محمود بن زنكي بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 اقسنقد في سنة سبع وخمسين وخمسمائة إلى المدينة الشريفة بسبب رؤيا رآها ذكرها بعض الناس وسمعتها من الفقيه علم الدين يعقوب بن أبي بكر المحترق أبوه ليلة حريق المسجد عمن حدثه من أكابر من أدرك أن السلطان محمودا المذكور رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات في ليلة واحدة وهو يقول في كل واحدة: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين الأشقرين تجاهه، فاستحضر وزيره قبل الصبح فذكر له ذلك، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس له غيرك، فتجهز وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى دخل المدينة على غفلة من أهلها والوزير معه، وزار وجلس في المسجد لا يدري ما يصنع، فقال له الوزير: أتعرف الشخصين إذا رأيتهما؟ قال: نعم، فطلب الناس عامة للصدقة، وفرق عليهم ذهبا كثيرا وفضة، وقال: لا يبقيّن أحد بالمدينة إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب التي تعرف اليوم بدار العشرة، فطلبهما للصدقة فامتنعا وقالا: نحن على كفاية ما نقبل شيئا، فجدّ في طلبهما، فجيء بهما، فلما رآهما قال للوزير: هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا: لمجاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: اصدقاني، وتكرر السؤال حتى أفضى إلى معاقبتهما فأقرّا أنهما من النصارى، وأنهما وصلا لكي ينقلا من في هذه الحجرة الشريفة باتفاق من ملوكهم، ووجدهما قد حفرا نقبا تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي، وهما قاصدان إلى جهة الحجرة الشريفة، ويجعلان التراب في بئر عندهما في البيت الذي هما فيه، هكذا حدثني عمن حدثه، فضرب أعناقهما عند الشباك الذي في شرقي حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم خارج المسجد، ثم أحرقا بالنار آخر النهار وركب متوجها إلى الشام، انتهى. وقد ساق المجد هذه الواقعة على الوجه الذي ذكره المطري فقال: ومن الحوادث في المسجد الشريف ما نقله جماعة من مشايخ المدينة وعلمائها، وذكر ما تقدم، وكذلك الزين المراغي ذكر ما تقدم عن المطري نقلا عنه، وزاد أن وزير السلطان نور الدين الذي استحضره وذكر له القصة هو الموفق خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر، قال: وكان موفقا، انتهى. ومأخذه في ذلك- كما رأيته في حاشية بخطه على كتابه- أن الذهبي قال في ترجمة الموفق هذا: موفق الدين، أبو البقاء، صاحب الخط المنسوب، وكان صدرا، نبيلا، وافر الحشمة، وزر للسلطان نور الدين، توفي بحلب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، انتهى. وقد خالف الزين في ذلك ما قدمناه عن شيخه الأسنوي من تسمية الوزير المذكور بجمال الدين الموصلي، ولا يلزم من كون الموفق وزر للسلطان نور الدين أن يكون هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 الوزير عند وقوع الرؤيا المذكورة، لاحتمال أنه وزر له بعد ذلك أو قبله، وجمال الدين الموصلي هذا هو الجواد الأصفهاني، وقد تقدم ذكره في ترخيم الحجرة، ووصفه بأنه وزير بني زنكي؛ لأنه كان وزير والد نور الدين الشهيد الذي هو زنكي ثم وزر لولده غازي، وأدرك دولة نور الدين الشهيد وزمان هذه الواقعة؛ فالظاهر أنه وزر له، وأنه المراد في هذه الواقعة. والعجب أني لم أقف على هذه القصة في كلام من ترجم نور الدين الشهيد مع عظمها، وهي شاهدة لما ذكره الإمام اليافعي في ترجمته من أن بعض العارفين من الشيوخ ذكر أنه كان في الأولياء معدودا من الأربعين وصلاح الدين نائبه من الثلاثمائة، انتهى. وقال ابن الأثير: طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، انتهى. وقد اتفق بعد الأربعمائة من الهجرة ما يقرب من قصة رؤيا نور الدين الشهيد المتقدمة على ما نقله الزين المراغي عن تاريخ بغداد لابن النجار، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن المبارك المقري، عن أبي المعالي صالح بن شافع الجلي، أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن محمد المعلم، ثنا أبو القاسم عبد الحليم بن محمد المغربي أن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي صاحب مصر بنقل النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه من المدينة إلى مصر، وزيّن له ذلك، وقال: متى تم لك ذلك شدّ الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر، وكانت منقبة لسكانها، فاجتهد الحاكم في مدة وبنى بمصر حائزا، وأنفق عليه مالا جزيلا. قال: وبعث أبا الفتوح لنبش الموضع الشريف، فلما وصل إلى المدينة الشريفة وجلس بها حضر جماعة المدنيين وقد علموا ما جاء فيه، وحضر معهم قارئ يعرف بالزلباني، فقرأ في المجلس وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 12- 13] فماج الناس، وكادوا يقتلون أبا الفتوح ومن معه من الجند، وما منعهم من السرعة إلى ذلك إلا أن البلاد كانت لهم. ولما رأى أبو الفتوح ذلك قال لهم: الله أحق أن يخشى، والله لو كان علي من الحاكم فوات الروح ما تعرضت للموضع، وحصل له من ضيق الصدر ما أزعجه كيف نهض في مثل هذه المخزية، فما انصرف النهار ذلك اليوم حتى أرسل الله ريحا كادت الأرض تزلزل من قوتها حتى دحرجت الإبل بأقتابها والخيل بسروجها كما تدحرج الكرة على وجه الأرض، وهلك أكثرها وخلق من الناس، فانشرح صدر أبي الفتوح وذهب روعه من الحاكم لقيام عذره من امتناع ما جاء فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 قلت: ونقل ابن عذرة في كتاب «تأسي أهل الإيمان، فيما جرى على مدينة القيروان» لابن سعدون القيرواني ما لفظه: ثم أرسل الحاكم بأمر الله إلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من ينبش قبر النبي، فدخل الذي أراد نبشه دارا بقرب المسجد وحفر تحت الأرض ليصل إلى قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فرأوا أثوارا، وسمع صائح: إن بنيكم ينبش، ففتش الناس فوجدوهم وقتلوهم، انتهى. ومما يناسب ذلك ما ذكره المحب الطبري في الرياض النضرة في فضائل العشرة، قال: أخبرني هارون بن الشيخ عمر بن الزعب- وهو ثقة صدوق مشهور بالخير والصلاة والعبادة- عن أبيه، وكان من الرجال الكبار- قال: كنت مجاورا بالمدينة وشيخ خدام النبي صلى الله عليه وسلّم إذ ذاك شمس الدين صواب اللمطي، وكان رجلا صالحا كثير البر بالفقراء والشفقة عليهم، وكان بيني وبينه أنس فقال لي يوما: أخبرك بعجيبة، كان لي صاحب يجلس عند الأمير ويأتيني من خبره بما تمس حاجتي إليه، فبينما أنا ذات يوم إذ جاءني فقال: أمر عظيم حدث اليوم، قلت: وما هو؟ قال: جاء قوم من أهل حلب وبذلوا للأمير بذلا كثيرا، وسألوه أن يمكنهم من فتح الحجرة وإخراج أبي بكر وعمر رضي الله عنهما منها، فأجابهم إلى ذلك، قال صواب: فاهتمت لذلك هما عظيما، فلم أنشب أن جاء رسول الأمير يدعوني إليه، فأجبته، فقال لي: يا صواب يدقّ عليك الليلة أقوام المسجد، فافتح لهم، ومكنهم مما أرادوا ولا تعارضهم، ولا تعترض عليهم، قال: فقلت له: سمعا وطاعة، قال: وخرجت ولم أزل يومي أجمع خلف الحجرة أبكي لا ترقأ لي دمعة ولا يشعر أحد ما بي، حتى إذا كان الليل وصلينا العشاء الآخرة وخرج الناس من المسجد وغلقنا الأبواب فلم ننشب أن دقّ الباب الذي حذاء باب الأمير، أي باب السلام، فإن الأمير كان سكنه حينئذ بالحصن العتيق. قال: ففتحت الباب، فدخل أربعون رجلا أعدهم واحدا بعد واحد، ومعهم المساحي والمكاتل والشموع وآلات الهدم والحفر. قال: وقصدوا الحجرة الشريفة، فو الله ما وصلوا المنبر حتى ابتلعتهم الأرض جميعهم بجميع ما كان معهم من الآلات، ولم يبق لهم أثر. قال: فاستبطأ الأمير خبرهم، فدعاني، وقال: يا صواب ألم يأتك القوم؟ قلت: بلى، ولكن اتفق لهم ما هو كيت وكيت، قال: انظر ما تقول، قلت: هو ذلك، وقم فانظر هل ترى منهم باقية أو لهم أثرا، فقال: هذا موضع هذا الحديث، وإن ظهر منك كان يقطع رأسك، ثم خرجت عنه، قال المحب الطبري: فلما وعيت هذه الحكاية عن هارون حكيتها لجماعة من الأصحاب فيهم من أثق بحديثه فقال: وأنا كنت حاضرا في بعض الأيام عند الشيخ أبي عبد الله القرطبي بالمدينة والشيخ شمس الدين صواب يحكي له هذه الحكاية سمعتها بأذني من فيه، انتهى ما ذكره الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 قلت: وقد ذكر أبو محمد عبد الله بن أبي عبد الله بن أبي محمد المرجاني هذه الواقعة باختصار في تاريخ المدينة له، وقال: سمعتها من والدي، يعني الإمام الجليل أبا عبد الله المرجاني، قال: وقال لي: سمعتها من والدي أبي محمد المرجاني سمعها من خادم الحجرة، قال أبو عبد الله المرجاني: ثم سمعتها أنا من خادم الحجرة الشريفة، وذكر نحو ما تقدم، إلا أنه قال: فدخل خمسة عشر- أو قال عشرون- رجلا بالمساحي والفاف، فما مشوا غير خطوة أو خطوتين وابتلعتهم الأرض ولم يسم الخادم، والله أعلم. الفصل الثلاثون في تحصيب المسجد الشريف وذكر البزاق فيه، وتخليقه، وإجماره، وذكر شيء من أحكامه أول تحصيب المسجد النبوي روى أبو داود في سننه عن أبي الوليد قال: سألت ابن عمر عن الحصباء الذي في المسجد، فقال: مطرنا ذات ليلة، فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصباء في ثوبه ويبسطه تحته، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلاة قال: ما أحسن هذا؟ وهو صريح في جعل الحصباء في المسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم. ويؤيده ما رواه أصحاب السنن من حديث أبي ذر: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصباء، وكذا ما رواه أحمد من حديث حذيفة قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كل شيء حتى عن مسح الحصى، فقال: واحدة أو دع، وكذا ما رواه أبو داود بإسناد جيد عن أبي هريرة، قال أبو بدر: أراه رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: إن الحصاة تناشد الذي يخرجها من المسجد، لكن قد سئل الدارقطني عن هذا الحديث فذكر أنه روي موقوفا على أبي هريرة، وقال: رفعه وهم من أبي بدر. وروى يحيى عن بعض السلف أنه كان إذا خرج بالحصاة من المسجد في ثوبه أو نعله أمر بردّها إلى المسجد. وروى ابن شبة عن سليمان بن يسار قال: الحصاة إذا أخرجت من المسجد تصيح حتى ترد إلى موضعها. وذكر البرهان بن فرحون أن مالكا سئل عن الرجل يخرج من المسجد فيجد شيئا من حصى المسجد قد تعلّق بوجهه، أيلزمه ردّه إلى المسجد؟ فقال: لا يلزمه ذلك، وأرخص له في طرحه، فقال السائل: يا أبا عبد الله إنهم يقولون إذا أخرجت الحصاة من المسجد تصيح حتى ترد إلى المسجد، فقال له مالك: دعها تصيح حتى ينشق حلقها، فقال: أولها حلق؟ قال: فمن أين تصيح؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وروى ابن شبة عن ابن عباس أنه قال لنفيع في الحصاة: ردّها وإلا خاصمتك يوم القيامة. وحكى الأقشهري عن شيخ الخدام ظهير الدين بن عبد الله الأشرفي قال: أتاني عام خمسة عشر وسبعمائة رجل من الشام في موسم الحاج وقال: كنت حججت عام أول وحملت شيئا من تراب المسجد وحصبائه، فلم أزل أراه في المنام يقول لي: ردّني إلى موضعي، عذّبتني عذبك الله، فها أنا أتيت به، قال: فأخرج صرة فيها ما ذكره، فصببناها في المسجد، انتهى. والذي يقتضيه كلام المؤرخين أن تحصيب المسجد إنما حدث في زمان عمر بن الخطاب؛ فقد روى يحيى عن عبد الحميد بن عبد الرحمن الأزهري قال: قال عمر بن الخطاب حين بنى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما ندري ما نفرش في مسجدنا، فقيل له: افرش الخصف والحصر، قال: هذا الوادي المبارك فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «العقيق واد مبارك» قال: فحصبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وروى ابن زبالة عن عبيد الله بن عمر قال: قدم سفيان بن عبد الله الثقفي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم غير محصوب، فقال: أما لكم واد؟ فقال عمر: بلى، قال: فاحصبوه منه، فقال عمر: احصبوه من هذا الوادي المبارك، يعني العقيق. قال المطري: رمل المسجد الشريف- أي الذي يحصب به- يحمل من وادي العقيق، من العرصة التي تسيل من الجماء الشمالية إلى الوادي، وليس بالوادي رمل أحمر غير ما يسيل من الجماء، وهو رمل أحمر يغربل ثم يفرش في المسجد، انتهى. وروى ابن زبالة من طريق الضحاك عن بشر بن سعيد أو سليمان بن يسار- شكّ الضحاك- أنه حدّث أن المسجد كان يرش في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم وزمان أبي بكر وعامة زمان عمر، وكان الناس يتنخمون فيه ويبصقون حتى عاد زلقا، حتى قدم ابن مسعود الثقفي، فقال لعمر: أليس قربكم واد؟ قال: بلى، قال: فمر بحصباء تطرح فيه فهو أكف للمخاط والنخامة، فأمر عمر بها، وهذه الرواية مع ضعفها قد اشتملت على أنهم كانوا يبصقون في المسجد. حكم البزاق في المسجد وفي الصحيحين عن أنس مرفوعا «البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها» . وقد رواه ابن زبالة، وروى أيضا عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى نخامة في المسجد فقال: «من فعل هذا جاء يوم القيامة وهي في وجهه» . وعن عبد الله بن قسيط مرفوعا: «لا يبصق في مسجدي هذا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وحديث ابن عمر رواه البزار وابن خزيمة في صحيحه، وروى أحمد عن أبي أمامة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «البصاق في المسجد سيئة، ودفنه حسنة» . ورواه ابن شبة بمعناه. وروى أيضا عن أبي هريرة قال: «إن المسجد لينزوى من النخامة كما ينزوي الجلد من النار» ولهذا جزم النووي في التحقيق وشرح المهذب بتحريمه. ووقع في عبارة بعض أصحابنا التعبير بالكراهة، وحملها بعضهم على كراهة التحريم، وقال بعض العلماء: إنما يكون البزاق في المسجد خطيئة لمن لم يدفنه لأنه يقذر المسجد ويتأذى به. قال القرطبي: ويدل على صحة هذا التأويل حديث أبي ذر الذي رواه مسلم وغيره: «ووجدت في مساوي أعمالها- أي: الأمة- النخامة تكون في المسجد لا تدفن» فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد، بل بذلك وببقائها غير مدفونة. قلت: الرواية الأولى بينت أن الفعل خطيئة، وأن الدفن يكفرها كما يكفر الجلد معصية الزنى، فلتحمل الرواية الآخرى عليها؛ لأن الإخبار فيها عما استقر عليه الأمر، لكن روى ابن شبة من طريق الفرج بن فضالة عن أبي سعيد قال: رأيت واثلة بن الأسقع دخل مسجد دمشق فصلى فيه، فبزق تحت رجله اليسرى ثم عركها، فلما انصرفت قلت له: أنت صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبزق في المسجد؟ فقال: هكذا رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم صنع. ورواه أبو داود من الطريق المذكورة بنحوه، وفرج بن فضالة ضعّفه الدارقطني وغيره، وقواه أحمد، واقتصر الحافظ ابن حجر في التقريب على تضعيفه. وروى ابن شبة أيضا بإسناد فيه ضعف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من دخل مسجدي هذا فبزق أو تنخم فليحفر فليبعد وليدفنه، فإن لم يفعل فليبزق في ثوبه حتى يخرج به» وهذا لو صح كان حجة لهذا المذهب. فإن قيل: يعضده حديث البخاري عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا؟ وكذا ما رواه ابن شبة بإسناد جيد عن أبي نضرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «رأى نخامة في قبلة المسجد، فغضب غضبا شديدا حتى كاد يدعو على صاحبها، ثم قال: لا يبزق أحدكم في قبلته؛ فإن ربه مستقبلة، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، ولكن عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، فإن كان على يساره أحد فليبزق في ثوبه» وفي رواية: «فإن اكن عن يساره أحد يكره أن يبزق نحوه فليبزق في ثوبه، وبزق النبي صلّى الله عليه وسلّم في ثوبه وحكّ بعضه ببعض» فاقتضى ذلك جواز البصاق في المسجد فيما عدا القبلة واليمين حالة الصلاة، وهو مقيد بالدفن لما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 قلنا: مساق الحديث لبيان أدب المصلي في كيفية البصق، من غير تعرض لكونه في مسجد، والبصاق في المسجد قد بينه منطوق الحديث السابق؛ فلا يترك بهذا، وأفاد القفال في فتاويه- وقد ذكر حديث النخامة في المسجد- فائدة حسنة فقال: هذا الخبر محمول على ما إذا نزلت النخامة من الرأس، أما إذا كانت من الصدر فهي نجسة؛ فلا يجوز دفنها في المسجد» . وروى أبو داود من حديث ابن عمر قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوما إذ رأى نخامة في قبلة المسجد، فتغيظ على الناس، ثم حكّها، وأحسبه قال: فدعا بزعفران فلطّخه به، وقال: إن الله قبل وجه أحدكم فلا يبزقن بين يديه. وروى ابن شبة عن شيخه خلاد بن يزيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة ذات يوم، فرأى في قبلة المسجد نخامة، فلما قضى صلاته أخذ عودا فحكها، ثم دعا يخلوق فخلّق مكانها، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إذا صلى أحدكم فلا يتفل أمامه ولا عن يمينه؛ فإنه يستقبل الرب عز وجل بوجهه. مبدأ تخليق المسجد وروى ابن شبة أيضا بسند جيد إلى أبي الوليد قال: قلت لابن عمر: ما بدء الزعفران- يعني: في المسجد- فقال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخامة في المسجد، فقال: ما أقبح هذا! من فعل هذا؟ فجاء صاحبها فحكها وطلاها بزعفران، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا أحسن من ذلك. ورواه يحيى بلفظ: قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن ألا تخبرني ما كان بدء هذه الصفرة التي في قبلة المسجد؟ قال: نعم، صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا انصرف رأى نخامة في القبلة، وذكره، وقال: فسارع الناس إليه، فكان هذا بدأه. وروى النسائي وابن ماجه عن أنس قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخامة في قبلة المسجد، فغضب حتى احمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكتها، فجعلت مكانها خلوقا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أحسن هذا! وروى ابن شبة أيضا بسند جيد عن أبي نضرة أن ذلك الذي بزق في قبلته جاء بشيء من زعفران فطلى ذلك المكان، فأعجب ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروي أيضا بسند لا بأس به قال: أبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حائط المسجد بزاقا، فحكه على خرقة، وأخرجه من المسجد، فجعل مكانه شيئا من طيب أو زعفران أو ورس. وعن إبراهيم بن قدامة عن أبيه أن عثمان بن مظعون تفل في القبلة، فأصبح مكتئبا، فقالت له امرأته: ما لي أراك مكتئبا؟ قال: لا شيء إلا أني تفلت في القبلة وأنا أصلي، فعمدت إلى القبلة فغسلتها ثم عملت خلوقا فخلّقتها، فكانت أول من خلّق القبلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وروي أيضا برجال ثقات عن جابر عن عبد قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجدنا هذا وفي يده عرجون ابن طاب، فرأى في قبلة مسجدنا نخامة فحكها بالعرجون، ثم أقبل علينا فقال: أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟ قلنا: لا أينا يا رسول الله، قال: فإن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق قبل يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل هكذا بثوبه، ثم طوى بعضه على بعض، أروني عبيرا، فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله فجاء بخلوق في راحته، فأخذه النبي صلّى الله عليه وسلّم على رأس العرجون ثم لطخ به على أثر النخامة، قال جابر رضي الله عنه: فمن هنالك جعلتم الخلوق في مساجدكم. وقد رواه أبو داود بنحوه وجابر هو من بني حرام بطن من بني سلمة، ومسجدهم كان بمنازلهم التي في غربي بطحان ومساجد الفتح، وليس هو مسجد القبلتين كما وقع للمطري وجماعة حتى جعلوا أمر الخلوق له لما سنبينه. وسيأتي ما رواه ابن زبالة من حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى في مسجد بني حرام بالقاع، وأنه رأى في قبلته نخامة، وكان لا يفارقه عرجون ابن طاب يتخصر به، وذكر الحديث الآتي، وفيه «فكان أول مسجد خلّق» . وروى أبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي سهلة السائب بن خلاد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا أمّ قوما فبصق في القبلة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين فرغ: لا يصلى لكم، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: نعم، وحسبت أنه قال: إنك آذيت الله ورسوله. وفي رواية أوردها المجد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما رأى النخامة في المحراب قال: من إمام هذا المسجد؟ قالوا: فلان، قال: قد عزلته، فقالت امرأته: لم عزلك النبي صلّى الله عليه وسلّم من الإمامة؟ فقال: رأى نخامة في المحراب، فعمدت إلى خلوق طيب فخلقت به المحراب، فاجتاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: من فعل هذا؟ فقالوا: امرأة الإمام، قال: وهبت ذنبه لامرأته ورددته إلى إمامته. قلت: واختلاف هذه الروايات صريح في أنها وقائع متعددة؛ فلا تعارض فيها، نعم هي متضمنة للرد على ما رواه ابن شبة عن جابر بن عبد الله قال: كان أول من خلق المسجد ورزق المؤذنين عثمان رضي الله عنه، وتقدم في الفصل الرابع من رواية يحيى عن جابر بنحوه، إلا أن يحمل على أن المراد أنه اتخذ له الخلوق من بيت المال. ونقل ابن زبالة عن ابن عجلان أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله على المدينة أن لا يخلق إلا القبلة، وأن يغسل الأساطين، قال: فلم تكن الأساطين تخلّق في سلطانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 تخليق القبر وقدمت الخيزران أم موسى في سنة سبعين ومائة، فأمرت بالمسجد فخلّق وولي ذلك من تخليقه مؤنسة جاريتها، فقام إليها إبراهيم بن الفضل بن عبد الله مولى هشام بن إسماعيل فقال: هل لكم أن تسبقوا من بعدكم وأن تفعلوا ما لم يفعل من كان قبلكم؟ قالت له مؤنسة: وما ذلك؟ قال: تخلقون القبر كله، ففعلوا، وإنما كان يخلق منه ثلثاه أو أقل، وأشار عليهم فزادوا في خلوق أسطوان التوبة والأسطوان التي هي علم عند مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخلقوهما حتى بلغوا بهما أسفلهما، وزادوا في الخلوق في أعلاهما. وروى بعضهم عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ [البقرة: 125] الآية، قال: طهرا بيتي نظفاه وبخراه وخلقاه. تجمير المساجد وروى يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن علي بن حسن بن حسن بن حسن- وكان من خيار الناس- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بإجمار المسجد، قال: ولا أعلمه إلا قال: يوم الجمعة. وروى ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسلّ سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمّروها في الجمع. وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب. وروى يحيى من طريق محمد بن يحيى عن محمد بن إسماعيل عن أبيه أنه قدم على عمر بن الخطاب بسفط من عود، فلم يسع الناس، فقال عمر: أجمروا به المسجد لينتفع به المسلمون، فبقيت سنة في الخلفاء إلى اليوم، يؤتى كل عام بسفط من عود يجمر به المسجد ليلة الجمعة ويوم الجمعة عند المنبر من خلفه إذا كان الإمام يخطب. وعن سعد القرظ قال: قدم على عمر بعود، فقسمه بين المهاجرين، ثم قسم للمسجد حظا، فكان يجمره في الجمع، فجرى ذلك إلى اليوم، وولاه سعد القرظ؛ فكان الذي يجمر. وقد تقدم من رواية يحيى أيضا في الكلام على حكم قناديل الحجرة أن عمر أتى بمجمرة من فضة، وأنه دفعها إلى سعد جد المؤذنين وقال: أجمر بها في الجمعة وشهر رمضان، وكان سعد يجمر بها في الجمعة، وكانت توضع بين يدي عمر بن الخطاب. وروى ابن زبالة عن نعيم المجمر عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: تحسن تطوف على الناس بالمجمرة تجمرهم؟ فقال: نعم، فكان عمر يجمرهم يوم الجمعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وفي مسند أبي يعلى الموصلي عن ابن عمر أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل جمعة. فرش المساجد قال أصحابنا: ويستحب فرش المسجد، وقد ترجم البخاري للصلاة على الخمرة، وروي عن ميمونة أنها كانت تصلي عليها، وقال ابن زيد: الخمرة هي السجادة، وقال الطبري: هي مصلى صغير ينسج من سعف النخل ويرسل بالخيوط، وقال البخاري في صحيحه: وصلّى أنس على فراشه، وقال: كنا نصلي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فيسجد أحدنا على ثوبه، وقال يحيى: حدثنا أبو مصعب قال: حدثنا مالك عن عمه أبي إسماعيل بن مالك عن أبيه أن طنفسة لعقيل بن أبي طالب كانت تطرح يوم الجمعة إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ثم يرجع بعد صلاة الجمعة فقيّل قائلة الضحى، ورواه ابن زبالة أيضا، وروى يحيى عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: تفقدوا نعالكم عند أبواب مساجدكم. وعن موسى بن يعقوب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم اتبع غبار المسجد بجريدة. ورواه ابن أبي شيبة عن يعقوب بن زيد، ولفظه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتبع غبار المسجد بجريدة. وقد ذكرنا في آخر الكلام على فضل المسجد شيئا مما جاء في النهي عن قربان المسجد لمن أكل الثوم أو البصل، وذكرنا في زيادة عمر رضي الله عنه في الكلام على البطيحاء ما جاء في النهي عن رفع الصوت فيه، وما يتعلق بإنشاد الشعر فيه، وذكرنا في زيادة الوليد ما يتعلق بالصلاة على الجنائز فيه، وروى ابن شبة عن شيبة بن قصاح مرسلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأى أحدكم القملة في ثوبه وهو في المسجد فليحفر لها فليدفنها، وليبصق عليها، فإن ذلك كفارتها. ورواه ابن زبالة ثم روى عن محمد بن المنكدر قال: أخبرني من رأى أبا هريرة يدفن قملة في المسجد، وروى يحيى عن يوسف بن ماهك قال: رأيت عبيد بن عمير أخذ من ثوب ابن عمر قملة فدفنها في المسجد، وعن أبي بكر بن المنكدر قال: رأيت عمي محمد بن المنكدر يأخذ القملة وهو في المسجد فيقتلها في المسجد فيبزق عليها، وعن جعفر بن محمد قال: لا بأس بأن يدفن القملة في المسجد. قلت: وهذه الأشياء لا تقوم الحجة بها. وقد روى أحمد في مسنده عن أيوب قال: وجد رجل في ثوبه قملة فأخذها ليطرحها في المسجد، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تفعل ردّها في ثوبك حتى تخرج من المسجد» وروى ابن شبة بسند جيد عن يحيى بن أبي كثير اليماني عن الحضرمي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا أبصر أحدكم القملة وهو يصلي في المسجد فليصرها في ثوبه ولا يقتلها في المسجد. وروى يحيى عن ابن عمر قال: إذا وجد أحدكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 القملة في ثوبه وهو في المسجد فليجعلها في ثوبه حتى يخرج بها. قال النووي: فإن قتلها لم يجز إلقاؤها في المسجد؛ لأنها ميتة، وكره مالك قتلها في المسجد، ونقل ابن العماد عن كتب المالكية أنه يحرم طرح القمل حيا، بخلاف البرغوث؛ لأن البرغوث يعيش بأكل التراب، بخلاف القمل ففي طرحه تعذيبه بالجوع، انتهى. وقد جاءت أحاديث في النهي عن البيع والشراء وإنشاد الضالة في المسجد، وروى ابن أبي عدي الحافظ من حديث علي بن أبي طالب قال: صليت العصر مع عثمان أمير المؤمنين، فرأى خياطا في ناحية المسجد، فأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه يكنس المسجد، ويغلق الأبواب، ويرش أحيانا، فقال عثمان: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: جنبوا صناعكم من مساجدكم. قلت: ومن المنكرات في زماننا ما يتساهل فيه المتكلمون في أمر العمارة من استعمال النشارين والنجارين والحجارين بالمسجد النبوي للعمل في آلاته واكتساب أولئك العمال بذلك، مع ما يتولد من ذلك من الدق العنيف وتشعيث المسجد بما ينشر من النشارة والنجارة وغير ذلك، مع إمكان عمل ذلك خارج المسجد الشريف والإتيان به مهيأ. وقد قدمنا أن عائشة رضي الله عنها كانت تسمع الوتد أو المسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بالمسجد فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن عليا ما صنع مصراعي داره إلا بالمناصع توقيا لذلك، وفي خبر رواه المقدسي في «مثير الغرام» عن كعب الأحبار أن سليمان عليه السلام قال للعفريت الذي أحضره لقطع الرخام لعمارة بيت المقدس: هل عندك من حيلة أقطع بها الصخر؟ فإني أكره صوت الحديد في مسجدنا هذا، والذي أمرنا الله به من ذلك هو الوقار والسكينة، فقال: ابتغ لي وكر عقاب فإني لا أعلم في السماء طيرا أشد منه ولا أكثر حيلة، فوجدوا وكر عقاب، فغطى عليه ترسا غليظا من حديد، فجاءه العقاب فلم يقدر عليه، فحلق في السماء متطلعا فلبث يومه وليلته ثم أقبل ومعه قطعة من السامور، فتفرقت له الشياطين حتى أخذوه منه، فأتوا به سليمان عليه السلام، فكان يقطع به الصخر، انتهى. وكذلك إدخالهم البغال والحمير الحاملة لتلك الآلات مع إمكان حمل الرجال لها من باب المسجد، والله الموفق. وإذا سمع شخص من ينشد ضالة في المسجد فليقل له: أيها الناشد غيرك الواجد، وما أشبهه مما ورد، إلا أن يسأل الإنسان جلساءه فليس بذلك بأس، ولا يبلغ بذلك الصوت كما نقله ابن زبالة عن مالك، ومن باع فيه قيل له: لا أربح الله تجارته، كما ورد مرفوعا. قال الزين المراغي: والقياس أن يقال للسائل فيه: لا فتح الله عليه، كما قاله بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 شيوخنا. وفي العتبية أن مالكا كره المراوح في المسجد، ويجوز النوم فيه من غير كراهة عندنا، وكره بعضهم لغير الغريب الذي لا موضع له غيره، وروي في ذلك أحاديث. وأسند أحمد بن يحيى البلاذري عن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: كان عمر بن الخطاب يعس في المسجد بعد العشاء، فلا يرى أحدا إلا أخرجه إلا رجلا قائما يصلي، فمر بنفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم أبي بن كعب فقال: من هؤلاء؟ فقال أبي: نفر من أهلك يا أمير المؤمنين، قال: ما خلّفكم بعد الصلاة؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، فجلس معهم، ثم قال لأدناهم: خذ في الدعاء فدعا، فاستقرأهم رجلا رجلا حتى انتهى إلي وأنا بجنبه، فقال: هات، فحصرت وأخذني الخجل، فقال: قل ولو أن تقول: اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا، ثم أخذ عمر في الدعاء، فما كان أحد أكثر دمعة ولا أشد بكاء منه، ثم قال: تفرقوا الآن، انتهى. الحدث في المسجد ولا يحرم إخراج الريح من الدبر في المسجد، لكن الأولى اجتنابه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» قال الزركشي: وقال بعض المتكلمين على الحديث من القدماء: الحدث في المسجد خطيئة يحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعاءهم المرجو بركته. وروى ابن عدي في الكامل من طريق حمزة بن أبي حمزة الضبي عن أبي الزبير عن جابر قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يمر باللحم في المسجد، قال ابن عدي: وهذا منكر بهذا الإسناد، لا يرويه عن أبي الزبير غير حمزة، وحمزة يضع الحديث. قلت: وقد روى ابن شبة نحوه، غير أنه منقطع الإسناد، ويغني عنه ما ورد من النهي عن اتخاذ المسجد طريقا، والله أعلم. القراءة في المصحف بالمسجد وقال مالك: لم تكن القراءة في المصحف بالمسجد من أمر الناس القديم، وأول من أحدثه الحجاج بن يوسف. وقال أيضا: أكره أن يقرأ في المصحف في المسجد، وأرى أن يقاموا من المساجد إذا اجتمعوا للقراءة. قلت: الذي عليه السلف والخلف استحباب ذلك، وفي الصحيح «إنما بنيت- يعني المساجد- لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن» وهو عام في المصاحف وغيرها، وقد روى ابن شبة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: إن أول من جمع القرآن في مصحف وكتبه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم وضعه في المسجد، فأمر به يقرأ كل غداة. وعن محرز ابن ثابت مولى سلمة بن عبد الملك عن أبيه قال: كنت في حرس الحجاج بن يوسف، فكتب الحجاج المصاحف، ثم بعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى المدينة، فكره ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 آل عثمان، فقيل لهم: أخرجوا مصحف عثمان يقرأ، فقالوا: أصيب المصحف يوم مقتل عثمان. قال محرز: وبلغني أن مصحف عثمان صار إلى خالد بن عمرو بن عثمان، قال: فلما استخلف المهديّ بعث بمصحف إلى المدينة؛ فهو الذي يقرأ فيه اليوم، وعزل مصحف الحجاج فهو في الصندوق الذي دون المنبر، انتهى. بعث المصاحف إلى المساجد وقال ابن زبالة: حدثني مالك بن أنس قال: أرسل الحجاج بن يوسف إلى أمهات القرى بمصاحف، فأرسل إلى المدينة بمصحف منها كبير، وهو أول من أرسل بالمصاحف إلى القرى، وكان هذا المصحف في صندوق عن يمين الأسطوانة التي عملت علما لمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان يفتح في يوم الجمعة والخميس، ويقرأ فيه إذا صليت الصبح، فبعث المهدي بمصاحف لها أثمان فجعلت في صندوق ونحى عنها مصحف الحجاج، فوضعت عن يسار السارية، ووضعت منابر لها كانت تقرأ عليها، وحمل مصحف الحجاج في صندوقه فجعل عند الأسطوانة التي عن يمين المنبر، انتهى. قلت: ولا ذكر لهذا المصحف الموجود اليوم بالقبة التي بوسط المسجد المنسوب لعثمان رضي الله تعالى عنه في كلام أحد من متقدمي المؤرخين، بل فيما قدمناه ما يقتضي أنه لم يكن بالمسجد حينئذ، بل ولا ذكر له في كلام ابن النجار، وهو أول من أرّخ من المتأخرين، وقد ترجم لذكر المصاحف التي كانت في المسجد، ثم ذكر ما قدمناه عن ابن زبالة ثم قال: وأكثر ذلك دثر على طول الزمان، وتفرقت أوراقه، قال: وهو مجموع في يومنا هذا في جلال في المقصورة أي المحترقة إلى جانب باب مروان. ثم ذكر أن بالمسجد عدة مصاحف بخطوط ملاح موقوفة مخزونة في خزائن ساج بين يدي المقصورة خلف مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال: وهناك كرسي كبير فيه مصحف مقفل عليه نفذ به من مصر، وهو عند الأسطوانة التي في صف مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإلى جانبه مصحفان على كرسيين يقرأ الناس فيهما، وليس في المسجد ظاهر سواهما، انتهى. ولم أر نسبة المصحف الموجود اليوم لعثمان رضي الله عنه إلا في كلام المطري ومن بعده عند ذكر سلامة القبة التي بوسط المسجد من الحريق كما قدمناه. نعم ذكر ابن جبير في رحلته ما حاصله أن أمام مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم- وقد عبر عنه بالروضة الصغيرة- صندوقا، وأن بين المقام وبين الحجرة- أي بجانب المقام من جهة المشرق- محمل كبير عليه مصحف كبير في غشاء مقفل عليه هو أحد المصاحف الأربعة التي وجّه بها عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى البلاد، انتهى. وهذا المصحف الذي أشار إليه ينطبق في الوصف على المصحف الذي ذكر ابن النجار أنه نفذ به من مصر، ولم يصفه بما ذكره ابن جبير من نسبته لعثمان، مع أن ابن جبير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 مصرّح بأنه من المصاحف التي بعث بها عثمان إلى الآفاق، لا أنه الذي قتل وهو في حجره، وقد قال ابن قتيبة: كان مصحف عثمان الذي قتل وهو في حجره عند ابنه خالد، ثم صار مع أولاده وقد درجوا. قال: وقال لي بعض مشايخ أهل الشام: إنه بأرض طوس، انتهى. وقال الشاطبي ما حاصله: إن مالكا رحمه الله قال: إنما يكتب المصحف على الكتابة الأولى، لا على ما استحدثه الناس. قال: وقال: إن مصحف عثمان رضي الله عنه تغيب فلم يجد له خبرا بين الأشياخ. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه في القراآت: رأيت المصحف الذي يقال له الإمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، استخرج لي من بعض خزائن الأمراء، وهو المصحف الذي كان في حجره حين أصيب، ورأيت آثار دمه في مواضع منه. ورده أبو جعفر النحاس بما تقدم من كلام مالك. قال الشاطبي: وأباه المنصفون لأنه ليس في قول مالك «تغيّب» ما يدل على عدم المصحف بالكلية بحيث لا يوجد؛ لأن ما تغيب يرجى ظهوره. قلت: فيحتمل أنه بعد ظهوره نقل إلى المدينة، وجعل بالمسجد النبوي. لكن يوهن هذا الاحتمال أن بالقاهرة مصحفا عليه أثر الدم عند قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 137] الآية كما هو بالمصحف الشريف الموجود اليوم بالمدينة، ويذكرون أنه المصحف العثماني، وكذلك بمكة، والمصحف الإمام الذي قتل عثمان رضي الله عنه وهو بين يديه لم يكن إلا واحد، والذي يظهر أن بعضهم وضع خلوقا على تلك الآية تشبيها بالمصحف الإمام، ولعل هذه المصاحف التي قدمنا ذكرها مما بعث به عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق، كما هو مقتضى كلام ابن جبير في المصحف الموجود بالمدينة، وفي الصحيح من حديث أنس في قصة كتابة عثمان رضي الله عنه للقرآن من الصحف التي كانت عند حفصة «وأنه أمر بذلك زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وأنه أرسل إلى كل أفق بمصحف كما نسخوا» . مصاحف عثمان التي أرسلها إلى الآفاق واختلف في عدة المصاحف التي ارسل بها عثمان إلى الآفاق؛ فالمشهور كما قال الحافظ ابن حجر أنها خمسة. وأخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف من طريق حمزة الزيات قال: أرسل عثمان أربعة مصاحف، وبعث منها إلى الكوفة بمصحف، فوقع عند رجل من مراد فبقي حتى كتبت مصحفي عليه. قال ابن أبي داود: وسمعت أبا حاتم السجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف، وأرسلها إلى مكة، وإلى الشام، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا، انتهى. وليس معنا في أمر المصحف الموجود اليوم سوى مجرد احتمال، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 تعليق المصابيح في المسجد وصف عام ويستحب تعليق المصابيح في المسجد وقد قدمنا ما يقتضي أن تميما الداري أول من فعل ذلك في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: أول من فعله عمر بن الخطاب، لما جمع الناس في التراويح على إمام واحد. وروى ابن زبالة عن يوسف بن مسلم قال: كان زيت قناديل المسجد يحمل من الشام، حتى انقطع ذلك في ولاية جعفر بن سليمان الأخيرة على المدينة، فجعله على سوق المدينة. قال: ثم لما طرح ما يؤخذ من العنب عن الناس في ولاية داود بن عيسى على المدينة سنة ثمان وتسعين ومائة أخرج من بيت المال. قال: ولم يزل رزق صاحب زيت المسجد ثلاثة دنانير تجرى عليه في كل شهر من بيت المال، وعليه فيها ما تكسر من القناديل، انتهى. وقال ابن النجار: وفي يومنا هذا يصل الزيت من مصر من وقوف هناك، ومقداره سبعة وعشرون قنطارا بالمصري، ويصل معه مائة وستون شمعة بين كبار وصغار، وعلبة فيها مائة مثقال ند لتجمير المسجد، انتهى. قلت: وفي زماننا يحمل له من الزيت من مصر والشام زيادة على مائة قنطار بعضها من أوقاف تحت نظر قاضي الشافعية بمصر وبعضها تحت نظر الإمام بمصر، والله أعلم. الفصل الحادي والثلاثون فيما احتوى عليه المسجد من الأروقة والأساطين والبالوعات والسقايات والدروع، وغير ذلك مما يتعلق به من الرسوم وصف عام قال ابن جبير: إن المسجد النبوي مستطيل يحفه من جهاته الأربع بلاطات مستديرة به، ووسطه كله صحن، فجهة القبلة منها- يعني المسقف القبلي- خمس بلاطات، يعني أروقة، وقد قدمنا أنه زيد فيه رواقان آخرون فصار سبعة أروقة آخذة من المشرق إلى المغرب، قال: والجهة الشامية خمسة أروقة أيضا. قلت: وهذا موافق لما قدمناه في زيادة المهدي عن ابن زبالة من أنه جعل خمس أساطين في السقائف الشامية، وقدمنا أن الموجود به اليوم أربع فقط، وذلك أربعة أروقة، فكأنه لما زيد بعد الحريق الأول الرواقان في مسقف القبلة اختصروا رواقا من المسقف الشامي فأدخلوه في صحن المسجد، ولم أر من نبه على ذلك من المؤرخين، وهذا المسقف هو المسمى اليوم بالدكاك؛ لارتفاعه على بقية أرض المسجد، ولم أعلم وقت حدوث ذلك، ولم يتعرض ابن جبير لذكر ارتفاعه مع ذكره لما دون ذلك، وقد كانت رحلته قبل حريق المسجد الأول فلعل ذلك مما حدث بعده، كما حدثت الدكتان اللتان بجنبتي المسجد في الحريق الثاني كما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 جدران المسجد وحدث في زماننا قبيل ذلك عند طرف الدكاك القبلي مما يلي المغرب دكة بارزة هناك، وهي الدكة التي وضع بها ما أخرج من جوف الحجرة الشريفة من الهدم في العمارة التي أدركناها. وفي كلام ابن زبالة ما يؤخذ منه تسمية المسقف الشامي بسقائف النساء. قال ابن جبير: والجهة الشرقية ثلاثة أروقة آخذة من القبلة إلى الشام، والجهة الغربية أربعة كذلك، هذا ما ذكره ابن جبير إلا أنه عبر في الجميع بالبلاطات بدل الأروقة، وكذا صنع ابن عبد ربه في العقد، وهو مطابق لما عليه المسجد اليوم، إلا ما أشرنا إليه في المسقف القبلي والشامي. قال ابن جبير: ونصف جدار القبلة الأسفل رخام موضوع إزارا على إزار، أي: وزرة فوق أخرى، مختلف الصنعة واللون، مجزع أبدع تجزيع، والنص الأعلى من الجدار منزل كله بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء قد أنتج الصناع فيه نتائج من الصنعة غريبة تضمنت تصاوير أشجار مختلفات الصفات مائلة الأغصان بثمرها، والمسجد كله على تلك الصنعة، لكن الصنعة في جدار القبلة أحفل، والجدار الناظر إلى الصحن من جهة القبلة كذلك، ومن جهة الشام أيضا، والغربي والشرقي الناظران إلى الصحن مجددان أيضا ومقرنصان قد زينا برسم يتضمن أنواعا من الأصبغة، إلى ما يطول وصفه، انتهى. ووصف ابن عبد ربه في «العقد» ما في جدار القبلة من وزارت الرخام وطرر الذهب والفسيفساء، ثم قال: وحيطان المسجد كلها من داخله مزخرفة بالرخام والذهب والفسيفساء أولها وآخرها. وذكر أيضا أن رؤوس الأساطين مذهّبة عليها أكف منقشة مذهّبة، وكذلك أعتاب الأبواب مذهبة أيضا. قلت: وقد زال ذلك كله بسبب الحريق الأول، وبقي من آثاره شيء يسير في مؤخر المسقف الغربي بجدار المسجد مما يلي الدكاك، وشيء يسير بالمأذنة الغربية الشمالية مما يلي بابها فيه شيء من الفسيفساء. وأما جدار القبلة فليس به اليوم إلا لوح يتضمن صور أشجار عن يمين مستقبل المحراب الشريف، وهو من الآثار القديمة، وكان يقابله في جهة يسار المستقبل لوح مثله سقط قريبا، ثم زال ذلك كله في الحريق الثاني. وبالجدار المذكور اليوم وزرة رخام أول من أحدثها بعد الحريق الأول الظاهر جقمق كما قدمناه مع بيان أن المحراب العثماني وما حوله كان مرخما قبل ذلك، وبقية المسجد مبيض أحسن بياض. وفي جدار القبلة عصابتان من طراز تقدم ذكرهما أيضا، وكان قد انقشر من العليا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 منهما شيء يسير، فقلع متولي العمارة التي أدركناها ذلك وما حوله، وجعله طرازا باسم سلطاننا الأشرف قايتباي أعز الله أنصاره، ووصله ببقية العصابة المذكورة. وتقدم أيضا ذكر الطراز الآخر من جهة السقف إلى قرب العصابة المذكورة، وبيان أن الذي ترجح عندي أنه جعل لتمييز المسجد النبوي عما زيد فيه، وقد زال ذلك كله بعد الحريق الثاني، وأعادوا منه ترخيم جدار القبلة كما سبق. عدد أساطين المسجد وأما عدد الأساطين فذكر ابن زبالة أنها مائتان وستة وتسعون أسطوانا، منها في جدار القبر الشريف ستة. وذكر ابن النجار أيضا ما يؤخذ منه ذلك. وقال ابن جبير: عدتها مائتان وتسعون أسطوانا، ولا مخالفة بينهما؛ لأن ابن جبير لم يعتبر الأساطين الست التي في جدار القبر الشريف، وليس فيه خلل إلا بأسطوان واحد؛ لأن الذي اقتضاه تحريرنا أن جملة الأساطين التي كانت في ذلك الزمان بما في جدار القبر مائتان وخمسة وتسعون أسطوانا؛ لأن المسقف الغربي أربعة صفوف، فإذا اعتبرتها من الجدار القبلي إلى الجدار الشامي كان كل صف ثمانية وعشرين أسطوانا، فجملة هذا المسقف مائة أسطوان واثنا عشر أسطوانا، والمسقف الشرقي ثلاثة صفوف كل صف منها ثمانية وعشرون أيضا إلا الصف الأوسط فإنه ينقص أسطوانا كما ظهر لنا عند انكشاف الحجرة؛ لأن الأسطوانة الملصقة إلى جدار الحجرة الشامي الذي في جوف الجدار الظاهر التي تقدم أن متولي العمارة أدخلها في عرض ذلك الجدار في الصف المذكور إنما يقابلها فيه الأسطوان الداخل بعضها في الجدار الظاهر من جهة القبلة، وكان مقتضى وضع الأساطين في مقابلة بعضها بعضا من كل جانب أن تكون بينها أسطوانة أخرى في موازاة الأسطوانة التي بين مربعة القبر وأسطوان الصندوق الداخلة في الجدار الظاهر، لكن لم يتأتّ ذلك؛ لكونها تكون حينئذ في جوف الحجرة الشريفة، فسقط بسبب ذلك في هذا الصف أسطوان، وخفي ذلك على من لم يشاهد الحجرة الشريفة. وحينئذ فجملة أساطين المسقف الشرقي من جدار القبلة إلى الجدار الشامي ثلاثة وثمانون أسطوانا، والباقي بعد ذلك في المسقف القبلي ما يوازي صحن المسجد فقط، وهو خمسة صفوف كل صف عشرة أساطين فجملة ذلك خمسون أسطوانا، والباقي أيضا في المسقف الشامي خمسة صفوف تقابل ذلك وجملتها خمسون أسطوانا، فجملة أساطين المسجد بما دخل في جدار القبر مائتان وخمسة وتسعون أسطوانا- بتقديم التاء- وفي مؤخر المسقف الغربي أسطوانتان ملتصقتان إلى الجدار الغربي لم تدخلا في هذه العدة. وأما عدد أساطين المسجد اليوم فقد تقدم أنه زيد في المسقف القبلي من ناحية صحن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 المسجد رواقان ونقص من المسقف الشامي من ناحية الصحن رواق، فيزيد على ما تقدم عشرة أساطين، وذلك خارج عن الأساطين التي أحدثت لأجل السقف البارز في رحبة المسجد أمام الباب الشامي من المقصورة المستديرة على الحجرة الشريفة. وحدث في العمارة المتجددة بعد الحريق إسقاط أسطوان كانت بين الأسطوان التي إليها المصلّى النبوي وبين المحراب العثماني، وضم بعض أساطين أخرى إلى الأساطين التي هناك، وفيما حول الحجرة الشريفة، وإبدال بعضها بدعائم على ما سبقت الإشارة إليه في الفصل التاسع والعشرين مع ما حدث من التغيير في أساطين المسقف القبلي، وكانت أساطين المسجد كلها- كما قال ابن جبير في وصفها- أعمدة متصلة بالسمك دون قسي ينعطف عليها، فكأنها دعائم قوائم، وهي من حجر منحوت قطعا ململمة مثقبة، يوضع أنثى في ذكر، أي بأعمدة الحديد، ويفرغ بينها الرصاص إلى أن يتصل عمودا قائما، ويكسى بغلالة جيار، ويبالغ في صقلها ودلكها، فتظهر كأنها رخام أبيض. قلت: وأراد بالقسي ما نسميه اليوم بالقناطر المعقودة حول صحن المسجد، وأما الأساطين الداخلة في الأروقة فإنها متصلة بالسقف، سوى الرواقين اللذين يليان رحبة المسجد من المسقف القبلي، ثم جعل المسقف القبلي كنسبتهما بعد العمارة المتجددة بعد الحريق الثاني كما سبق. وقد عبر ابن النجار- تبعا لمن قبله- عن تلك العقود بالطاقات، فقال: وأما طاقاته أي المحيطة بالصحن ففي القبلة إحدى عشرة طاقة، وفي الشامي مثلها، وفي المشرق والمغرب- أي كل جانب منهما- تسع عشر طاقة، وبين كل طاق وطاق أسطوان، ورأس الطاقات مسدود بشبابيك من خشب. قلت: وهو موافق لكلام ابن زبالة فيما يلي المشرق والمغرب، مخالف له فيما يلي القبلة والشام؛ فإنه قال: وعدد طاقاته مما يلي القبلة اثنتا عشرة طاقة، ومما يلي الشام اثنتا عشرة، ومما يلي المشرق تسع عشرة، ومما يلي المغرب تسع عشرة، فذلك اثنتان وستون طاقة، انتهى. وهذا لا يتم إلا على تقدير أن يكون المسقف الغربي ثلاثة أروقة فقط كالمسقف الشرقي، فتكون العقود التي تلي القبلة والشام اثني عشر، وما تقدم في عدد الأساطين ينافيه؛ فالصواب ما ذكره ابن النجار. وعدد قناطره المحيطة برحبته اليوم من جهة القبلة والشام موافق لما ذكره ابن النجار؛ فإنها من كل جانب إحدى عشرة، غير أن باب المقصورة الشامي وما أحدث له من السقف أمامه سد واحدة من تلك القناطر القبلية. وأما عدد قناطره من المشرق والمغرب فقد نقصت واحدة من كل جهة؛ لما تقدم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 زيادة الرواقين بالمسقف القبلي، ونقص رواق من المسقف الشامي، فصار عدد القناطر في كل جانب منهما ثماني عشرة قنطرة. والمسدود اليوم بالشبابيك من رؤوس القناطر إنما هو رؤوس القناطر القبلية وبعض ما يليها من القناطر الشرقية، ثم زال ذلك في الحريق الثاني، وقد ذكر ابن زبالة عن محمد بن إسماعيل قال: أدركت المسجد كان يضيق عن الناس يوم الجمعة حتى يصلي بعضهم في دار القضاء، وهي يومئذ مبنية، وفي دار ابن مكمل، وفي دار النحامين، وفي دار عاتكة، قال: فلما قدم أبو جعفر المنصور المدينة سنة أربعين ومائة أمر بستور فستر بها صحن المسجد على عمد لها رؤوس كقريات الفساطيط، وجعلت في الطّيقان- أي القناطر المتقدم ذكرها- فكانت الريح تدخل فيها، فلا يزال العمود يسقط على الإ، سان، فغيّرها وأمر بستور هي أكثف من تلك الستور وبحبال، فأتى بها من جدة من حبال السفن القنبار، وجعلت على سبيك حبالها اليوم، فكانت تجعل على الناس كل جمعة، فلم يزل كذلك حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، فأمر بها فقطعت درارع لمن كان يقاتل معه، فتركت حتى كان زمان هرون أمير المؤمنين فأحدث هذه الأستار، ولم يكن يعني صحن المسجد يستر زمان بني أمية. قلت: وهذا شيء قد انقطع قديما لعدم الاحتياج إليه لما قلّ الناس بالمدينة، حتى إن كثيرا من الأروقة لا يمتلئ بالناس. وبالمسجد اليوم ستارة بالقرب من باب الحجرة الشامي ترخى على ما يليه من القناطر الشرقية لتقي من يجلس هناك من خدام المسجد حر الشمس. وقال ابن زبالة ويحيى: وكان ماء المطر إذا كثر في صحن المسجد يغشى السقائف التي في القبلة، وكانت حصباء تلك الناحية تسيل إلى صحن المسجد، فجعل بين القبلة والصحن لاصقا بالسواري حجاب من حجارة من المربعة التي في غربي المسجد إلى المربعة التي في شرقيه على القبر، فمنع الماء من الصحن أن يغشى القبلة ومن حصباء القبلة أن يصير إلى الصحن. وعبارة يحيى: فأمر أبو البحتري بحجارة فجعلت ردا لذلك الماء الذي كان يدخل والحصباء التي كانت تسيل فيما بين المربعة التي كانت عند القبر والمربعة التي في غربي المسجد، وجعل ذلك لاصقا بالسواري. قلت: والمراد أنه جعل أحجار الحجاب المذكور فيما بين السواري التي تلي رحبة المسجد من المشرق إلى المغرب، وقد كانت مربعة القبر أول السواري المذكورة من جهة المشرق؛ لأنها في صف أسطوان الوفود كما قدمناه، وذلك الصف كان آخر المسقف القبلي، وكانت المربعة الغربية في آخر السواري المذكورة مما يلي المغرب، وهي الأسطوان المثمنة اليوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 التي بينها وبين ركن صحن المسجد الغربي اليوم أسطوانتان بسبب زيادة الرواقين المتقدم ذكرهما في مؤخر المسقف المذكورة، وهذا الحجاب المذكور قد اندفن اليوم فلا يظهر منه شيء، والظاهر أنه كان بين السواري المطيفة بصحن المسجد من المشرق والمغرب حجاب مثل ذلك، وكانت بقاياه ظاهرة فيما يلي الدكاك من المسقفين المذكورين قبل حدوث ما سبق من الدكاك بهما، والمسقف القبلي اليوم أرضه عالية على ما يليه من الصحن يسيرا؛ فلا يغشاه مياه الأمطار، لكن وطأه متولي العمارة بعد الحريق الثاني حتى ساوى به أرض المصلى الشريف كما سبق، فاحتاج إلى عمل حجاب من الأحجار بين السواري التي تلي رحبة المسجد من جهة القبلة وما حولها. عدد بالوعات المسجد وأما عدد البالوعات بصحن المسجد فقد ذكر ابن زبالة ويحيى أن به أربعا وستين بالوعة لماء المطر عليها أرحاء لها صمائم من حجارة يدخل الماء من خلالها. قلت: ولا يظهر به اليوم غير بالوعة واحدة لها فوّهتان، وهي عند الحجرين المتقدم ذكرهما في تجديد المسجد، وإحدى الفوهتين إلى جانب الحجرين من القبلة، والثانية إلى جانبهما من جهة الشام، ويجتمعان في بئر واحدة هناك، وعليهما حجران كالأرحاء، وفي أسفل ما على فوهتيهما من ذلك مشبك يدخل الماء من خلاله ليمنع نزول الحصباء هناك، ومع ذلك فقد بحروها في العمارة المتقدم ذكرها أولا، فخرج منها شيء كثير من الحصباء. سقايات المسجد وأما السقايات التي كانت به فذكر ابن زبالة أنه كان في صحن المسجد في زمنه تسع عشرة سقاية، وذلك في صفر سنة تسع وتسعين ومائة، منها ثلاث عشرة أحدثتها خالصة، وهي أول من أحدث ذلك، ومنها ثلاث سقايات لزيد البربري مولى أمير المؤمنين، ومنها سقاية لأبي البحتري وهب بن وهب، ومنها سقاية لشجن أم ولد هارون أمير المؤمنين، ومنها سقاية لسلسبيل أم ولد جعفر بن أبي جعفر. وقد أورد ذلك ابن النجار مترجما عليه بذكر السقايات التي كانت في المسجد، ثم قال: وأما الآن فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه. قال: وفيه بركة كبيرة مبنية بالآجر والجص والخشب ينزل إليها بدرج أربع في جوانبها، والماء ينبع من فوارة في وسطها تأتي من العين، ولا يكون الماء فيها إلا في أيام المواسم إذا جاء الحاج، وبقية السنة تكون فارغة. عملها بعض الأمراء بالشام، واسمه شامة. قال: وعملت الجهة أم الخليفة الناصر لدين الله في مؤخر المسجد سقاية كبيرة فيها عدة من البيوت، وحفرت لها بئرا، وفتحت لها بابا إلى المسجد في الحائط الذي يلي الشام، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 قلت: الذي يظهر من كلام ابن زبالة أنه أراد بالسقايات ما يجعل لأجل الشرب، وظاهر ما ذكره ابن النجار أن المراد بذلك ما يجعل للوضوء. وذكره لما عملته أم الخليفة الناصر لدين الله صريح في ذلك، فإنه يعني بذلك الميضأة التي بابها في حائط المسجد الشامي، وكان لها باب آخر من خارج سد قديما، وهو ظاهر فيما يلي المسجد من المغرب. وقوله «فيها عدة بيوت» أي عدد الأخلية التي بها. وقوله أولا «فأما الآن فليس في المسجد سقاية إلا في وسطه» الظاهر أنه يريد السقاية التي كانت للشرب بوسط المسجد. وقد ذكرها البدر بن فرحون فقال: ولقد كان في وسط المسجد سقاية يحمل إليها الماء من العين بناها شيخ الخدام في ذلك الوقت، ووقف عليها أوقافا من ماله وكانت متقدمة على النخل تقديرها خمسة عشر ذراعا في مثلها، وجعل في وسطها مصرفا للماء مرخما، ونصب فيها مواجير للماء وأزيارا ودوارق وأكوازا، وحجّرها بالخشب والجريد، وجعل لها غلقا من حديد، واستمرت السنين العديدة، فكثر الشر فيها، والتزاحم عندها، وصار يدخلها من يتوضأ فيها فربما يزيل فيها الأذى، من استقرب المدى، ثم تعدى الحال وزاد شرها. وذكر فتنة اتفقت للخدام مع بعض الأشراف بسببها، قال: فلما غلبت مفسدتها على مصلحتها أزيلت عن اجتماع من القاضي شرف الدين الأميوطي والشيخ ظهير الدين، انتهى. وأما البركة التي ذكرها ابن النجار فإنها مذكورة في كلام المطري، واقتضى كلامه نسبتها لابن أبي الهيجاء، فإنه ذكر ما سيأتي عنه في الكلام على العين الزرقاء من أن ابن أبي الهيجاء في حدود الستين وخمسمائة أمدّ منها شعبة وأوصلها إلى الرحبة التي عند المسجد من جهة باب السلام، يعني سوق المدينة اليوم. ثم قال: وكان قد جعل منها شعبة صغيرة تدخل إلى صحن المسجد، وجعل لها منهلا بدرج عليه عقد يخرج الماء من فوارة يتوضأ منها من يحتاج إليه، فحصل بذلك انتهاك حرمة المسجد الشريف من كشف العورات والاستنجاء في المسجد، فسدّت لذلك، انتهى. قلت: وقد رأيت آثار درجها في غربي النخيل التي بصحن المسجد قريبا منها، وليس بالمسجد اليوم شيء من السقايات إلا ما يحمل إليه من الدوارق المسبّلة فيشربها الناس في أوقات مخصوصة، إلا أن خزانة الخدام الآتي ذكرها لا يزال بها ماء لأجل شربهم. ثم لما عمر سلطان زماننا الأشرف مدرسته التي بين باب الرحمة وباب السلام جعل فيها سبيلا مما يلي باب الرحمة له شباك إلى المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 حواصل المسجد وأما الحواصل والخزائن التي بالمسجد الشريف ففيه القبة التي بصحنه، وقد مر ذكرها، وغالب ما يوضع فيها اليوم زيت وقود المسجد، وتقدم أن المصحف المنسوب إلى عثمان رضي الله تعالى عنه موضوع بها. وبالمسجد أيضا أمام كل من المنارات الأربع خزانة، إلا أن ما أمام المنارتين القبليتين من ذلك أصلي، بخلاف المنارتين الشاميتين فإنه محدث، ولذلك قال البدر بن فرحون: وما أحق بالإزالة ما أحدث بالمنارتين الشاميتين؛ إذ قدم بابهما على بابيهما الأصليين، وجعل ما بين البابين في كل منارة خلوة اقتطع بها جانب من المسجد كبير لا شك في تحريمه، انتهى. وفي جهة المغرب أيضا إلى جانب باب المنارة الشمالية الغربية المعروفة بالخشبية- سميت بذلك لأن حد الخشبتين كان يؤذن بها- خزانة صغيرة يضع بعض الخدام فرشهم فيها، وربما أقام بها من يريد الاعتكاف بالمسجد ويليها في جهة المغرب أيضا حاصلان كبيران يوضع فيهما القناديل الزجاج وبعض آلات المسجد، وفي الأول منهما مما يلي الخزانة المذكورة وضعت كتبي، وكنت أجلس به للمطالعة والاعتكاف فإنه من المسجد، واتفق لي في سبب الإقامة به أمر ليس هذا محل ذكره. ويقابل ذلك في جهة المشرق مما يلي المنارة المعروفة بالسنجارية خلوة كبيرة فيها فرش الخدام أيضا، وإلى جانبها خزانتان إحداهما بيد من تكون له النوبة من الفراشين يضع فيها فوانيس المسجد ونحوها، والثانية بيد الخدام أيضا، وفي جهة المشرق قريبا من باب جبريل بينه وبين باب النساء خزانة يضع فيها الخدام الماء لشربهم وبعض فرشهم وأمتعتهم، وهي المذكورة في كلام ابن جبير حيث قال: وفي الجهة الشرقية بيت مصنوع من عود هو موضع مبيت بعض السّدنة الحارسين للمسجد المبارك، قال: وسدنته فتيان أحابيش وصقالبة ظراف الهيئة نظاف الملابس والشارات، انتهى، وإلى جانب الخزانة المذكورة صندوق يوضع فيه ما يستخرج من القبة من الزيت للوقود في كل ليلة. وفي غربي المسجد بين باب الرحمة وباب السلام حاصل يوضع فيه النورة، يعرف بابه بخوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فإنها كانت في محاذاته كما تقدم، فلما زيد في المسجد جعلوا هناك خوخة في المسجد تحاذي الخوخة الأولى وقد جعل لذلك ثلاثة أبواب عند عمارة المدرسة الأشرفية، ومحل الخوخة من ذلك الباب الثالث من على يسارك إذا دخلت من باب السلام. قناديل المسجد وأما عدد قناديله فذكر ابن زبالة أنها مائتان وتسعون قنديلا في زمانه، وجملتها في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 زماننا مائتا قنديل وستة وخمسون قنديلا، هذه الدائمة، ونحو المائة قنديل يسرجونها في بعض الأوقات، ويجعلون في كل قنطرة من القناطر التي تلي صحن المسجد من مقدمه وجنبتيه ثلاثة قناديل، ويقتصرون في بعض الأوقات على واحد في كل قنطرة كما في القناطر التي في مؤخر المسجد، سيما إذا قلّ عندهم الزيت، وحدث بعد الحريق الثاني زيادة سلاسل كثيرة معدة لتعليق القناديل بها، وبصحن المسجد أربعة مشاعيل اثنان في جهة القبلة واثنان في جهة الشام، وكل واحد كالأسطوانة، وبأعلاه مسرجة عظيمة تشعل في ليالي الزيارات المشهورة، ولا أدري ابتداء حدوث ذلك، ويزيدون تنانير وبزاقات في مقدم الروضة وما حولها، ويحتفلون بذلك سيما في ليلة سبع وعشرين من رمضان، ويسرجون في كل ليلة منه نحو أربعين شمعة، ويضعونها على شمعدانات كبار في قبلة الروضة والحجرة، وفي غربي المنبر، وبعضها في محراب الحنفية الآتي ذكره. وللمسجد فوانيس عدتها ستة، يطوف بها الخدام بعد صلاة العشاء الآخرة لإخراج الناس من المسجد عند غلق أبوابه، ولا يدعون به إلا الخدام ومن له نوبة من أرباب وظائفه. وذكر البدر بن فرحون في ترجمته شبل الدولة كافورا المظفري شيخ الخدام المعروف بالحريري أن من آثاره الحسنة تبطيل الطوف بالشعل من جريد النخل وتبديلها بالفوانيس التي يطوفون بها اليوم كل ليلة، وذلك أنهم كانوا قبل الحريري وصدرا من ولايته يأخذ عبيد الخدام وبعض الفراشين شعلا من سعف النخل فيطوفون بها عوض الفوانيس اليوم يجرون بها كأشد ما يكون من الجري، فإذا وصلوا باب النساء خرجوا بها وخبطوا ما بقي معهم منها، وكانت تسود المسجد وتسود بابه أيضا، وفيها من البشاعة ما لا يخفى، فأمر بالفوانيس عوضها رحمه الله تعالى. في صحن المسجد نخيل مغروسة وبصحن المسجد نخيل مغروسة، ولم أدر ابتداء حدوث ذلك، إلا أن ابن جبير قال في رحلته عند ذكر القبة التي بصحن المسجد ما لفظه: وبإزائها في الصحن خمس عشرة نخلة، انتهى. وقال البدر ابن فرحون: إن أول من أدرك من مشايخ الخدام الشيخ عزيز الدولة، قال: وفي أيامه غرس كثير من هذا النخل الذي بالمسجد اليوم، وكان منه شيء قبل العزيزي، ومات أكثره، انتهى. وذكر المجد عزيز الدولة وقال: إن غرس أكثر هذا النخل كان في زمانه، ثم قال: وكأنه لم يتعرض أحد لإنكار هذه البدعة إجلالا لشأنه، أو خوفا من لسانه، أو تمكينا له من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 الاقتداء بمن غرسه قبله وخنق في عنقه من هذا المنكر حبله، وقد انجعفت تلك النخيل لهبوب عاصفة هبت في أواخر مشيخة ياقوت الرسولي، ثم أعيد الغراس، ووقع الإنكار من بعض الناس، لكن لم يصادف كلامه محلا من الإشارة والإفادة، ولعله سوغ حملا على احتمال أنه لم يغرس أولا إلا بنوع من الاستحقاق، لكن لا يخفى ما في اعتماد الاحتمال البعيد من قلة التقى. قلت: وقد أراد طوغان شيخ أن يزيد فيه سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة، فأنكرت ذلك، وقام بعض أهل الخير في المنع منه، فبطل ذلك ولله الحمد. أئمة المسجد ولم يزل المسجد النبوي بإمام واحد يصلي بالناس في مقام النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويتقدم أيام الموسم إلى المحراب العثماني، حتى سعى طوغان شيخ المذكور في إحداث محراب للحنفية في دولة الأشرف إينال، فقام أهل المدينة في منعه، وساعدهم على ذلك من أرباب الدولة المصرية صاحب الشيم المرضية جمال الدين يوسف ناظر الخواص الشريفة، تغمده الله برحمته، فلم يتم لطوغان المذكور ذلك، فلما توفي المشار إليه أعاد طوغان السعي في الدولة المذكورة، فبرزت المراسيم به بعد الستين وثمانمائة، واستمر إلى زماننا فيصلي إمامه الصلوات الخمس عقب انصراف إمام المحراب النبوي، وهو إمام الشافعية، إلا في التراويح فيصليان معا، وهذا الأمر دبّ إلى المدينة الشريفة من مكة المشرفة. وقد قال الزركشي: إن السبب في حدوث ذلك بها أن الإمام كان في ذلك الوقت مبتدعا، فعندما امتنع الناس من إقامة الجماعة مع إمامهم الذي أقاموه سمحوا للناس في اتخاذ أئمة لأنفسهم، واستمر الأمر عليه، وكذا جرى مثله في بيت المقدس وجامع مصر قديما، انتهى. وقد بينا حكم ذلك في كتابنا الموسوم «بدفع التعرض والإنكار، لبسط روضة المختار» . عرض جدار المسجد وقال ابن زبالة ويحيى: وعرض منقبة جدار المسجد مما يلي المغرب ذراعان ينقصان شيئا، وعرض منقبته مما يلي المشرق ذراعان وأربعة أصابع، وإنما زيد فيه لأنها من ناحية السيل. قلت: وهذا لأن السيل كان يغشى المسجد من تلك الجهة، ولهذا سقط جدار الحجرة الشرقي كما قدمناه، وسقط أيضا جدار المسجد من الناحية المذكورة كما قدمناه من قول ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 زبالة «أخاف المسجد من شرقيه في سلطان محمد بن عبد الله الربعي من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب من ناحية موضع الجنائز فأمر به فبنى» انتهى. وقد قدمنا في زيادة الوليد ما رواه يحيى من طريق ابن زبالة في ذرع عرض المسجد، وبينا فساده، والصواب ما ذكره ابن زبالة في أواخر الكلام على المسجد؛ فإنه ذكر ذرع مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم الأول عرضا وطولا، ثم قال: وذرع مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليوم ذرع عرضه من مقدمه في القبلة بين المشرق والمغرب مائة وخمسة وستون ذراعا، ينقص مؤخره عن مقدمه خمسة وثلاثين ذراعا، وطوله من اليمن إلى الشام مائتان وأربعون ذراعا. قلت: وقد حررت ذرعه فكان عرضه من مقدمه في القبلة مائة ذراع وسبعة وستين ذراعا ونصفا، فيزيد على ما ذكره ابن زبالة ذراعين ونصفا، وذلك لاختلاف الأذرعة أو لرخاوة الحبل الذي وقع القياس به، ونحو ذلك. وكان عرضه من مؤخره في الشام مائة وخمسة وثلاثين ذراعا فيزيد على ما ذكره خمسة أذرع. وكان طوله من القبلة إلى الشام مائتي ذراع وثلاثة وخمسون ذراعا، فيزيد على ما ذكره ابن زبالة ثلاثة عشر ذراعا. وقد ذكر ابن النجار ما يوافق ذرعنا هذا مع مخالفة يسيرة فقال: طول المسجد اليوم من قبلته إلى الشام مائتا ذراع وأربعة وخمسون ذراعا وأربعة أصابع، ومن شرقيه إلى غربيه- يعني في مقدمه- مائة ذراع وسبعون ذراعا صافية، انتهى. قال ابن زبالة: وطول رحبة المسجد- يعني صحنه- من اليمن إلى الشام مائة وخمسة وستون ذراعا، وعرضها بين المشرق والمغرب ثمان وتسعون ذراعا، انتهى. وذكر ابن النجار أن طولها مائة وتسعة وخمسون ذراعا وثلاثة أصابع، وعرضها سبع وتسعون ذراعا راجحة. قلت: وطول رحبة المسجد اليوم من القبلة إلى الشام مائة ذراع واثنان وخمسون ذراعا ونصف ذراع، فإذا أضفت لذلك عرض الرواق الذي زيد في الرحبة على ما قدمناه من أنه زيد فيها رواقان من ناحية ونقص رواق من ناحية والرواق نحو تسعة أذرع فيكون جملة ذلك مائة وأحدا وستين ذراعا ونصفا، وذلك نحو ما ذكره ابن النجار. وأما عرض الرحبة اليوم من مقدم المسجد فخمسة وتسعون ذراعا بتقديم التاء على السين، والله تعالى أعلم. وذكر ابن النجار أن طول المسجد في السماء خمسة وعشرون ذراعا، ومراده ارتفاعه من أرضه إلى أعلى شرفاته؛ لأنه ذكر في موضع آخر ما يقتضي أن ارتفاعه من أرض المسجد إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 سقفه أحد وعشرون ذراعا، فيكون سمك السقف والحائط الذي عليه الشراريف حول صحن المسجد أربعة أذرع، والذي بين أرض مقدم المسجد وسقفه بعد خفض أرضه عقب الحريق الثاني اثنان وعشرون ذراعا، وتقدم في زيادة عمر رضي الله عنه ما يقتضي أنه كان بينهما في زمانه أحد عشر ذراعا، ولم أقف على ذكر ما جعله عثمان رضي الله تعالى عنه بينهما، وذرع ما بين الأرض المحيطة بالمسجد من خارجه وأعلى سترة جداره من جهة المغرب ثمانية وعشرون ذراعا؛ فهذا سمك المسجد من خارجه، والله أعلم. وقد تقدم ذكر منابر المسجد وذرعها في زيادة الوليد. الفصل الثاني والثلاثون في أبواب المسجد وما سد منها، وما بقي، وما يحاذيها من الدور قديما وحديثا أبواب المسجد تقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل للمسجد الشريف ثلاثة أبواب: بابا في مؤخره، والباب الذي يدعى باب عاتكة ويقال له باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو باب آل عثمان. وقد اقتضى كلام المؤرخين أن هذين البابين لم يحولا عن مكانهما، بل لما زيد في المسجد من جهتهما جعلا في محاذاة محلهما الأول. وقد قدمنا في زيادة عمر رضي الله عنه أنه جعل الأبواب ستة: بابين عن يمين القبلة، وبابين عن يسارها، وبابين خلف القبلة، وأنه لم يغير باب عاتكة ولا باب عثمان، بل زاد في جهة باب عاتكة الباب الذي عند دار مروان وهو باب السلام، وزاد بعد باب عثمان الباب المعروف بباب النساء، فهذان البابان هما المزيدان في المغرب والمشرق. وسبق أيضا أن عثمان رضي الله تعالى عنه أقر هذه الأبواب على حالها، ولم يزد فيها شيئا. ولم يذكر ابن زبالة ولا يحيى ولا رزين ما زاده الوليد من الأبواب، ولا ما زاده المهدي حين زاد في المسجد، إلا أن ابن النجار قال: وأما أبواب المسجد فكانت بعد زيادة المهدي فيه، وذكر تسعة عشر بابا غير باب خوخة أبي بكر رضي الله عنه، كما سيأتي، وبين أماكنها كما سنشير إليه. وقال المطري وتبعه المراغي والمجد: لما بنى الوليد بن عبد الملك المسجد ووسعه جعل له عشرين بابا، وذكر الأبواب المذكورة بعينها مع الخوخة المذكورة، وهذا وهم؛ لأن المنقول في هذه الأبواب أنها إنما كانت في زيادة المهدي، وهي التي استقر عليها الحال في أمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 المسجد، وأيضا فما سيأتي في وصف الأبواب التي في جهة الشام وما يليها من جهة المشرق والمغرب لا يتصور أن يكون في زمن الوليد؛ لما تقدم من أن المهدي هو الذي زاد ذلك، والمطري موافق عليه، فكيف يذكر وصف تلك الأبواب فيما نسبه للوليد، وسيأتي أيضا أن أحد هذه الأبواب- وهو باب زياد- إنما فتحه زياد في ولاية أبي العباس المنصور. والحاصل من كلام من كان قبل المطري من المؤرخين أن الذي استقر عليه أمر المسجد بعد انتهاء زياداته كانت شارعة في رحبة دار القضاء ولا ينافي ذلك قول ابن زبالة. وفي المسجد- يعني في زمنه- أربعة وعشرون بابا لأنه قال في تفصيلها: منها ثمانية من ناحية المشرق، ومما يلي القبلة: باب يدخل منه الأمراء من ناحية باب مروان إلى المقصورة، وعن يسار القبلة الباب الذي تدخل منه المقصورة من موضع الجنائز، وعن يمين القبلة باب بحذائه سواء في الطرف الآخر أي في مقابلته يدعى باب زيت القناديل، ذكروا أن مروان عمله، وخوخة آل عمر تحت المقصورة، ومما يلي المغرب ثمانية أبواب منها الخوخة التي تقابل يمين خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومما يلي الشام أربعة، انتهى كلام ابن زبالة؛ فغيره لم يعد الباب الذي كان في القبلة شارعا في دار مروان؛ لأنه باب دار، وكذا خوخة آل عمر؛ لأنها للدار لا للمسجد، وكذا باب زيت القناديل؛ لأنه باب خزانة للمسجد لا يدخل منه عامة الناس، وكان موضعه عند زاوية الجدار الغربية مما يلي القبلة وجدوه عند عمارة المنارة التي بباب السلام وسد بجدارها. وأما الباب الذي ذكره عن يسار القبلة فيؤخذ من كلامه أنه كان في المشرق مقابلا لباب زيت القناديل وأنه خاص بالمقصورة، ولو كان بابا عاما لعده في الأبواب التي في جهة المشرق، وقد ظهر هذا الباب عند هدم المنارة الشرقية بعد الحريق الذي أدركناه، وهو باب صغير وجد مسدودا عند زاوية جدار المسجد الشرقية، وكأن الدخول كان منه إلى الخزانة التي تحت المنارة الشرقية اليمانية ثم منها إلى المقصورة، ولهذا لما بسط ابن زبالة الكلام على أبواب المسجد في موضع آخر لم يذكر هذه الأبواب الأربعة، بل اقتصر على العشرين. فلنذكر ما ذكره وغيره فيها وما زاده المطري في بيانها مما يعرف بمحلها ثم نفرد خوخة آل عمر بالكلام عليها، فنقول: باب النبي صلّى الله عليه وسلّم الأول: وهو مبتدأ أبواب جهة المشرق مما يلي القبلة، باب النبي صلّى الله عليه وسلّم، سمي بذلك لكونه في مقابلة حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها التي بها قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا لكونه دخل منه؛ إذ لا وجود له في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وقد سد عند تجديد الحائط الشرقي، وجعل مكانه شباك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 يقف الإنسان عنده من خارج، فيرى الحجرة الشريفة، كذا قاله المطري ومن بعده، وسيأتي ما يخالفه. باب علي الثاني: باب علي رضي الله عنه، كان يقابل بيته الذي خلف بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد سد أيضا عند تجديد الحائط، وما ذكرنا من أن باب النبي صلّى الله عليه وسلّم مقدم على هذا الباب للقبلة صرح به المطري ومن تبعه، وهو الذي تقتضيه المناسبة التي ذكروها للتسمية بذلك، لكن صرح ابن النجار بخلافه، فقال في عدّ أبواب جهة المشرق: باب علي، ثم باب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم باب عثمان، ثم باب مستقبل دار ريطة، إلى آخر الترتيب الآتي، ومأخذه في ذلك أن ابن زبالة ويحيى ذكرا ما كان مكتوبا على جدارات المسجد فقالا: وفي الزيادة الشرقية في جوف المسجد بين باب علي وباب النبي صلّى الله عليه وسلّم مكتوب، وذكرا ما كان مكتوبا. ثم قالا: وبين باب النبي صلّى الله عليه وسلّم وباب عثمان مكتوب، وذكرا ما كان مكتوبا. ثم ذكر أيضا في الكتابة من خارج الجدار على الأبواب نحو هذا، وقالا أيضا: إن في القبلة من خارج المسجد في موضع الجنائز حيث يصلي على الموتى عند باب علي بن أبي طالب مكتوب بعد البسملة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 190] الآية فاقتضى ذلك أن باب علي هو أول أبواب هذه الجهة، وأن باب النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الثاني منها، والذي حمل المطري ومن تبعه على مخالفة ذلك ما قدمناه عنه من رعاية تلك المناسبة، ويحتمل: أن بيت علي رضي الله عنه كان ممتدّا في شرقي حجرة عائشة رضي الله عنها إلى موضع الباب الأول فسمي باب علي بذلك، ويدل له ما تقدم عن ابن شبة في الكلام على بيت فاطمة رضي الله عنها من أنه كان فيما بين دار عثمان التي في شرقي المسجد وبين الباب المواجه لدار أسماء، ويكون تسمية الباب الثاني بباب النبي صلّى الله عليه وسلّم لقربه من بابه، والله أعلم. باب عثمان باب جبريل الثالث: باب عثمان، وهو الباب الذي وضع قبالة الباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد قدمنا عن ابن زبالة ويحيى أن الباب الذي كان يدخل منه النبي صلّى الله عليه وسلّم هو باب آل عثمان ولذا أطلق عليه في رواية ليحيى في زيادة عثمان أنه باب النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد ظهر درج عند باب مقصورة الحجرة الشامي في مقابلة الباب المذكور بسبب الحفر للدعامة التي هناك، والظاهر أنه درج الباب المذكور قبل تحويله؛ لكونه في موازاة جدار المسجد الأول كما يؤخذ مما سبق من حدوده، وسمي بذلك لمقابلته لدار عثمان بن عفان، وسيأتي أنها كانت من الطريق التي تسلك إلى البقيع التي عن يسار الخارج من هذا الباب إلى الطريق التي في شامي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 المدرسة الشهابية، والذي يقابل هذا الباب اليوم من دار عثمان رباط أنشأه جمال الدين محمد بن أبي المنصور الأصفهاني المعروف بالجواد وزير بني زنكي. قال المطري: وقفه على فقراء العجم، وجعل له فيه تربة لها شباك في جهة الشباك المتقدم ذكره في مقابلة القبر الشريف. ولما مرض وهو في السجن قال للشيخ أبي القاسم الصوفي: كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر، يعني أنه فرح بأن يأتيه الموت وهو على تلك الحالة، وقال له: إن بيني وبين أسد الدين شركوه- يعني عم صلاح الدين بن أيوب- عهدا أن من مات قبل صاحبه حمله صاحبه الحي إلى المدينة الشريفة فدفنه فيها في التربة التي عملها، فإن أنا مت فامض إليه فذكره، فلما توفي سار الشيخ إلى أسد الدين في هذا المعنى، فأعطاه مالا صالحا ليحمله به إلى مكة والمدينة الشريفتين، وأمر أن يحج معه جماعة من الصوفية، ومن يقرأ بين يدي تابوته عند النزول والرحيل وقدوم مدينة تكون في الطريق، وينادى بالصلاة عليه في البلاد، فلما كان في الحلة اجتمع الناس للصلاة عليه، فإذا شاب قد ارتفع على موضع عال ونادى بأعلى صوته: سرى نعشه فوق الرقاب، وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله يمرّ على الوادي فتثني رماله ... عليه، وبالنادي فتثنى أرامله فلم ير باك أكثر من ذلك اليوم، ثم وصلوا به إلى مكة فطافوا به حول الكعبة، وصلوا عليه بالحرم، وحملوه إلى المدينة فصلوا عليه ودفنوه بتربته المذكورة. وكانت وفاته في سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وكان له آثار حسنة سيما بالحرمين الشريفين، وعمل للمدينة الشريفة السور الآتي ذكره، وسنذكر هناك شيئا من ترجمته. وفي قبلة رباطه من دار عثمان أيضا تربة اشترى أرضها أسد الدين شيركوه بن شاذي عم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي، وحمل إليها هو وأخوه نجم الدين أيوب والد صلاح الدين بعد موتهما ودفنا فيها سنة ست وسبعين وخمسمائة، وتوهم الذهبي أنهما دفنا بالبقيع فجزم به في العبر. وبقية دار عثمان من القبلة دار إلى جانب هذه التربة موقوفة على خدام الحرم الشريف يسكنها مشايخهم، وهذه دار عثمان الكبرى المقابلة لهذا الباب، وسيأتي ذكر داره الصغرى التي في موضعها رباط المغاربة. ويعرف هذا الباب أيضا بباب جبريل عليه السلام. قلت: ولم يبينوا سبب تسميته بذلك، ولعل سببها ما سبق في الفصل الرابع والعشرين من قول أبي غسان: إن علامة مقام جبريل التي يعرف بها اليوم أنك تخرج من الباب الذي يقال له باب آل عثمان فترى على يمينك إذا خرجت من ذلك الباب على ثلاثة أذرع وشبر وهو من الأرض على نحو من ذراع وشبر حجرا أكبر من الحجارة التي بها جدار المسجد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 مع ما قدمناه أيضا من أن الأصل في ذلك أن جبريل عليه السلام في غزوة بني قريظة أتى على فرس عليه اللأمة حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز، ولم يكن ثم حينئذ غير الباب المذكور وروى ابن زبالة عن المطلب بن عبد الله أن حارثة بن النعمان مرّ والنبي صلّى الله عليه وسلّم مع جبريل في موضع الجنائز، فمر ولم يسلم، فقال جبريل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أهو ممن شهد بدرا؟ قال: نعم، قال: فكيف هو في أمتك؟ أيرون لهم به؟ قال: نعم، قال: ما زالت الملائكة الذين شهدوا بدرا معك يرى لهم، قال: فجاء حارثة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل رأيت الرجل الذي كان معي؟ قال: نعم وشبهته بدحية الكلبي، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإنه جبريل، وقد قال لو سلم لرددنا عليه، فقال: ما منعني من السلام إلا أني رأيتك تحدّث معه فكرهت أن أقطعه عنك، وروى البيهقي في الدلائل عن حارثة بن النعمان قال: مررت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه جبريل جالس في المقاعد، فسلمت عليه ومررت، فلما رجعنا وانصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لي: هل رأيت الذي كان معي؟ قلت: نعم، قال: فإنه جبريل عليه السلام، وقد ردّ عليك السلام. وكان مكتوبا على هذا الباب من خارجه بعد البسملة لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] الآيتين. باب ريطة (باب النساء) الرابع: باب ريطة بفتح الراء ابنة أبي العباس السفاح، كان يقابل دارها، ويعرف بباب النساء، وسبب تسميته بذلك ما رواه أبو داود من طريق عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو تركنا هذا الباب للنساء، قال: نعم، فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. ثم قال أبو داود عقبه: وقال غير عبد الوارث، وهو أصح، ثم رواه من طريق إسماعيل عن أيوب عن نافع عن ابن عمر «قال قال عمر» بمعناه، قال: وهو أصح. ثم رواه أيضا من طريق بكير عن نافع قال: إن عمر بن الخطاب كان ينهى أن يدخل من باب النساء، وهذا هو المعتمد؛ لما تقدم من أنه لم يكن في زمنه صلّى الله عليه وسلّم في شرقي المسجد غير باب آل عثمان. وقد روى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن ابن عمر قال: سمعت عمر حين بنى المسجد يقول: هذا باب النساء، فلم يدخل منه ابن عمر حتى لقي الله، وكان لا يمر بين أيدي النساء وهن يصلين. ودار ريطة التي كانت مقابلة لهذا الباب قال المطري: كانت دار أبي بكر الصديق، ونقل أنه توفي فيها، وهي الآن مدرسة للحنفية بناها يازكوح أحد أمراء الشام، وعمل له فيها مشهدا نقل إليه من الشام، والطريق إلى البقيع بينها وبين دار عثمان، نقل ذلك ابن زبالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 قلت: وما ذكره من نسبة الدار المذكورة لأبي بكر الصديق سيأتي مستنده مع بيان ما فيه. وفي أعلى هذا الباب من خارجه لوح من الفسيفساء مكتوب فيه آية الكرسي من بناء المسجد القديم، وقد زال عند الحريق الثاني. الخامس: باب كان يقابل دار أسماء بنت الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنهم، كانت من جملة دار جبلة بن عمرو الساعدي، ثم صارت لسعد بن خالد بن عمر بن عثمان، ثم صارت لأسماء المذكورة، وهي اليوم رباط للنساء، وقد سدّ هذا الباب أيضا عند تجديد الحائط الشرقي من المنارة الشرقية الشمالية إلى هذا الباب المذكور في أيام الناصر لدين الله سنة تسع وثمانين وخمسمائة، كذا قاله المطري ومن تبعه، وظاهر كلام ابن جبير أن سد هذا الباب وغيره من الأبواب كان قبل الثمانين وخمسمائة؛ لأن رحلة ابن جبير كانت قبل الثمانين كما قدمناه، وقد قال فيها: وللمسجد المبارك تسعة عشر بابا أي غير خوخة أبي بكر لم يبق منها مفتوحا غير أربعة، في المغرب منها اثنان، وفي المشرق اثنان، انتهى. لكنه قال بعد ذلك: وفي القبلة باب واحد صغير مغلق، يعني باب دار الإمارة. ثم قال: وفي المغرب خمسة مغلقة أيضا، وفي المشرق خمسة أيضا مغلقة، وفي الشام أربعة مغلقة أيضا، انتهى. فتبين أنها كانت في زمنه غير مسدودة لكنها مغلقة، فيكون سدّها حدث في التاريخ الذي ذكره المطري، والله أعلم. باب سادس السادس: باب كان يقابل دار خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، وقد دخل في بناء الحائط المذكور، والدار المذكورة اليوم رباط الرجال، ومعها في جهة الشمال دار عمرو ابن العاص كما سيأتي بيانه، ويعرف الرباط المذكور اليوم برباط السبيل، وكذا رباط النساء المتقدم ذكره يعرف بذلك أيضا، والرباطان المذكوران بناهما القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري رحمه الله تعالى. وذكر ابن زبالة ويحيى أنه كتب على نجاف هذا الباب من داخل «مما أمر به المهدي محمد أمير المؤمنين مما عمل البصريون سنة اثنتين وستين ومائة ومبتدأ زيادة المهدي في المسجد. قلت: وكتابة ذلك عليه تقتضي أنه الذي أحدثه وما بعده، وأنه أول زيادته كما تقدم. باب سابع السابع: باب كان يقابل زقاق المناصع دخل أيضا في الحائط بعد تجديده، وزقاق المناصع كان بين دار عمرو بن العاص وأبيات الصوافي، وعبر عنها المطري بدار موسى بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي لأمر توهمه من كلام ابن زبالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 كما سنوضحه إن شاء الله تعالى، والزقاق اليوم ينفذ إلى دار الحسن بن علي العسكري، وتعرف اليوم بحوش الحسن، وكان الزقاق المذكور ينفذ إلى المناصع خارج المدينة، وهو كان متبرزا للنساء بالليل على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأبيات الصوافي هذه التي عبر عنها المطري بدار موسى بن إبراهيم سيأتي أن بعضها اليوم رباط للرجال أنشأه القاضي محيي الدين أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن اللخمي البيساني، ودخل هذا الباب أيضا في الحائط عند تجديده. باب ثامن الثامن: باب كان يقابل أبيات الصوافي دخل في الحائط أيضا عند تجديده، وأبيات الصوافي تقدم أن بعضها الذي يلي دار عمرو بن العاص هو رباط الفاضل، وبعضها الآخر وهو الذي كان يقابل هذا الباب هو المعروف اليوم بدار الرسام التي وقفها الشيخ صفي الدين السلامي على أقاربه ثم على الفقراء، وفي شاميها الباب الذي يدخل منه إلى رباطي النخلة، وهما رباطا السلامى، وقد عبر المطري عن ذلك بقوله: «وهي- يعني أبيات الصوافي- في دور كانت بين موسى بن إبراهيم المخزومي وبين عبيد الله بن الحسين الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم» قال: وموضع هذه الدور اليوم دار اشتراها الشيخ صفي الدين أبو بكر بن أحمد السلامي رحمه الله ووقفها على قرابته السلاميين، انتهى. وسيأتي أن أبيات الصوافي هي الدور التي كان فيها قهطم، وأنها كانت بين دار عمرو بن العاص ودار موسى بن إبراهيم المخزومي المشتركة بينه وبين عبيد الله بن الحسين، وأن هذه الدار المشتركة كانت أول الدور في جهة المشرق مما يلي الشام، فأبيات الصوافي هي دار قهطم، وفي موضعها ما قدمناه من رباط الفاضل ودار السلامي. وأما الدار المشتركة ففي موضعها اليوم الميضأة المعطلة وبيت الرئيس إبراهيم الذي بين الميضأة والزقاق الذي يلي دار المضيف كما سيأتي بيانه، ودار المضيف هي آخر الدور التي في جهة الشام، والدار المشتركة كانت ملاصقة لها، وسيأتي بيان منشأ ما وقع للمطري، وهذا الباب آخر الأبواب التي كانت في جهة المشرق. أبواب المسجد الشامية وقد طوى المطري الكلام على الأبواب الشامية، فقال: وفي شمالي المسجد أربعة أبواب سدت أيضا عند تجديد الحائط الشمالي، وليس في شمالي المسجد اليوم باب إلا باب سقاية عمرتها أم الإمام الناصر. وسبب عدم كلام المطري على الأبواب الشامية أن ابن زبالة لم يذكر ما يقابلها من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 الدور، لكن ظهر لي أنه يؤخذ من كلامه وكلام ابن شبة في الدور المطيفة بالمسجد، فلنذكر ما استنفدنا منهما في ذلك، فنقول: باب تاسع التاسع: باب كان في دبر المسجد، وهو أول أبواب الشام مما يلي المشرق، وكان يقابل دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وهي دار جده عبد الرحمن التي كان ينزل بها ضيفان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما سيأتي، وبقية دار ابن مسعود، وفي موضعهما الدار المعروفة بدار المضيف وما في غربيها من رباط الظاهرية. باب عاشر العاشر: باب كان يقابل دار أبي الغيث بن المغيرة، وفي موضعها اليوم الرباط المعروف برباط الظاهرية والشرشورة. الباب الحادي عشر الحادي عشر: باب كان يقابل ما يلي دار أبي الغيث من أبيات خالصة مولاة أمير المؤمنين، وموضع ذلك المارستان الذي أنشأه أبو جعفر المنتصر بالله سنة سبع وعشرين وستمائة. الباب الثاني عشر الثاني عشر: باب كان في مقابلة بقية أبيات خالصة وفي موضع ذلك اليوم بيت وزقاق يتوصل منه إلى الرباط الذي أنشأه الشيخ شمس الدين الشستري. وهذا الباب آخر الأبواب التي كانت في جهة الشام، وكلها اليوم مسدودة كما تقدم، وما يوجد اليوم من الدور والأبنية الملاصقة لجدار المسجد المذكور كلها حادثة كما يؤخذ من كلام متقدمي المؤرخين، ولم أقف على ابتداء حدوث ذلك. الباب الثالث عشر الثالث عشر: وهو أول أبواب المغرب مما يلي الشام باب كان يقابل دار منيرة وكانت من دور عبد الرحمن بن عوف، ثم صارت لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ثم صارت لمنيرة مولاة أم موسى، وفي موضعها اليوم الدار التي صارت لشيخنا العارف بالله سيدي عبد المعطي المغربي نزيل مكة المشرفة، ثم انتقلت للسيد الشريف العلامة محيي الدين قاضي الحنابلة بالحرمين الشريفين، وما في قبلتها إلى الباب الذي يدخل منه إلى دور القياشين التي للخواجا قاوان، وهذا الباب مسدود كما هو مشاهد من خارج المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الباب الرابع عشر الرابع عشر: باب كان يقابل دار منيرة أيضا كما صرح به ابن زبالة ويحيى، ووهم المجد فجعله الذي بعده، وموضع ما يقابله اليوم من دار منيرة الدار الموقوفة على الخدام التي في قبلة الزقاق الذي يدخل منه إلى دور القياشين، وهذا الباب مسدود اليوم كما يظهر من خارج المسجد أيضا، وبذلك يعلم أن محلهما من ذلك الجدار لم يجدد. الباب الخامس عشر الخامس عشر: باب كان يقابل دار نصير صاحب المصلى وهو مولى المهدي وكانت هذه الدار منزلا لسكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم، وفي موضعها اليوم الدار التي عن يسار الداخل من زقاق دور القياشين والدار التي تعرف اليوم بدار تميم الداري، وقد آلت إليّ ثم وقفتها، وهي الآن منزلي، ولم أقف على أصل في تسميتها بذلك، وهذا الباب في مقابلة الدار المعروفة بدار تميم من دار نصير، وهو مسدود اليوم، وبقيت منه قطعة تظهر من خارج المسجد، ودخل باقيه عند تجديد الحائط من باب عاتكة إليه. الباب السادس عشر والسادس عشر: باب كان يقابل دار جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك، وقد دخل في داره هذه فارغ أطم حسان بن ثابت كما قاله ابن زبالة، وفي موضعها اليوم المدرسة الكلبرجية التي أنشأها السلطان شهاب الدين أحمد سلطان كلبرجة من بلاد الهند في سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة، وهذا الباب دخل في الحائط عند تجديده، وأسقطه المطري مع أنه مذكور في كلام ابن زبالة ويحيى، ولما أسقطه زاد بدله بابا لا وجود له في كلام من قبله، على ما سيأتي التنبيه عليه. باب عاتكة (باب السوق) (وباب الرحمة) السابع عشر: باب عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية، كان يقابل دار عاتكة المذكورة، ثم صارت هذه الدار ليحيى بن خالد البرمكي والد جعفر، ودخلت في دار جعفر المتقدم ذكرها، وتوهم الزين المراغي من نسبتها لجعفر بن يحيى ومن كون أطم حسان دخل في دار جعفر بن يحيى أنها محل أطمه، وليس كذلك لما قدمناه، وفي موضعها اليوم دار من أوقاف الخدام في قبلة المدرسة الكلبرجية تواجه يمين الخارج من باب المسجد المذكور، وقد استبدلها الشيخ الزيني بن مزهر بإزالة ديوان الإنشاآت وما غربيها من الدور، واتخذ ذلك مدرسة ورباطا وأروقة على يد صاحبنا العلامة الشيخ نور الدين المحلي نفع الله به، ويعرف هذا الباب قديما أيضا بباب السوق، كما يؤخذ مما سيأتي في باب زياد، لأن سوق المدينة كانت في المغرب في جهته. ويعرف قديما أيضا بباب الرحمة؛ فإن يحيى ذكر في بناء النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 صلّى الله عليه وسلّم لمسجده أنه صلّى الله عليه وسلّم جعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويقال باب الرحمة، هذا لفظه. وأطبق على وصفه بذلك من بعده من المؤرخين، حتى صار في زماننا هو الأغلب عليه، ومع ذلك فلم أر في كلام أحد بيان السبب في تسميته بذلك، وسألت عنه من لقيته من المشايخ فلم أجد عند أحد منهم علما من ذلك، ثم ظهر لي معناه بحمد الله تعالى، وذلك أن البخاري روى في صحيحه عن أنس بن مالك أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، ولما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبعا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة- يعني الثانية- ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم يخطب- الحديث- بطوله، وسنبين في باب زياد- وهو الذي يلي هذا- أن دار القضاء كان محلها بين باب الرحمة وباب السلام، وقد تقرر أنه لم يكن للمسجد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الجهة إلا الباب المعروف بباب الرحمة؛ فظهر أن هذا الرجل الطالب لإرسال المطر وهو رحمة إنما دخل منه، وقد أنتج سؤاله حصول الرحمة، وأنشأ الله السحاب الذي كان سببا فيها من قبله أيضا؛ لأن سلعا في غربي المسجد، فسمي والله أعلم بباب الرحمة لذلك، لكن في رواية البخاري عن أنس أيضا أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ومقتضاها أنه دخل من الباب الذي كان في شامي المسجد؛ لقرب إطلاق مواجهته للمنبر عليه، لكن ذلك الباب ليس نحو دار القضاء، فليجمع بين الروايتين بأن الواقعة متعددة كما اقتضاه كلام بعضهم، أو بأنه وقع التجوز في إطلاق كون ذلك الباب وجاه المنبر، أو بأن باب الرحمة كان كما قدمناه في آخر جهة المغرب مما يلي الشام، فجاء ذلك الداخل من جهته ودخل منه، ثم رأى أن قيامه بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو على المنبر لا يتم له إلا بتخطي الصفوف، فعرج إلى الباب الآخر المواجه للمنبر، لغلب إطلاق باب الرحمة على الباب الذي في جهة مجيئه؛ لاعتضاده بما تقدم من مجيء السحاب من قبله، والله أعلم. باب زياد (باب القضاء) والثامن عشر: باب كان يعرف بباب زياد وقد سد أيضا عند تجديد الحائط الذي هو فيه وكان بين خوخة أبي بكر الآتي ذكرها وبين الباب الذي قبله وسمي بذلك لما رواه ابن شبة عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن عمه قال: كانت رحبة القضاء لعمر رضي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 عنه- يعني دارا له- وأمر حفصة وعبد الله ابنيه رضي الله عنهما أن يبيعاها عند وفاته في دين كان عليه، فإن بلغ ثمنها دينه وإلا فاسألوا فيه بني عدي بن كعب حتى تقضوه، فباعوها من معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وكانت تسمى دار القضاء، قال ابن أبي فديك: فسمعت عمي يقول: إن كانت لتسمى دار قضاء الدين. قال: وكان معاوية اشتراها عند ولايته، فلم تزل حتى قدم زياد بن عبد الله المدينة سنة ثمان وثلاثين ومائة، فهدمها وجعلها رحبة للمسجد، وفتح فيها الباب الذي إلى جنب الخوخة الصغيرة، وجعل هدمها على أهل السوق، قال محمد بن إسماعيل بن أبي فديك: فأخذ مني في هدمها أربعة دوانق، قال ابن أبي فديك: وأخبرني أيضا كما أخبرني عمي عبيد الله بن عمر ابن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال: وأشار لي عبيد الله إلى صندوق في بيته وقال: في هذا الصندوق إبرا آت من ذلك الدين. وروى أيضا عن عبد العزيز بن مروان أن دار القضاء كانت لعبد الرحمن بن عوف، قال: وهي اليوم رحبة لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غربيه مما يلي دار مروان. وروي عن سهلة بنت عاصم أنها إنما سميت دار القضاء لأن عبد الرحمن اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضي الأمر فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية، فصارت بعد في الصوافي، وكانت الدواوين فيها وبيت المال، فهدمها أبو العباس أمير المؤمنين وصيّرها رحبة للمسجد، فهي اليوم كذلك. وروى ابن زبالة خبر ابن أبي فديك الأول مقتصرا عليه من طريق محمد بن إسماعيل- يعني ابن أبي فديك- عن ابن عمر أن عمر توفي وترك عليه ثمانية وعشرين ألفا، فدعا عبد الله وحفصة فقال: إني قد أصبت من مال الله شيئا، وأنا أحب أن ألقى الله وليس في عنقي منه شيء، فبيعا فيه حتى تقضياه، فإن عجز عنه مالي فسلا فيه بني عدي، فإن بلغ وإلا فلا تعدوا قريشا، فخرج عبد الله بن عمر إلى معاوية فباع منه دار عمر التي يقال لها دار القضاء، وباع ماله بالغابة، فقضى دينه؛ فكان يقال: «دار قضاء دين عمر» وهي رحبة القضاء. قال محمد بن إسماعيل: فهدم زياد بن عبيد الله إذ كان واليا لأبي العباس على المدينة في سنة ثمان وثلاثين ومائة دار القضاء، وكانت تكرى من تجار أهل المدينة، فهدمها زياد وجعلها رحبة للمسجد، وفتح الباب الذي إلى جنب الخوخة- الخبر المتقدم. قلت: وما تضمنه هذا الخبر من تاريخ هدم الدار وعمل الباب المذكور فيها ربما يخالف ما ذكره ابن زبالة ويحيى فيما كتبا على أبواب المسجد، فإنهما قالا: وعلى باب زياد في لوح من ساج مضروب بمسامير مكتوب من خارج، ثم ذكرا من جملة المكتوب: أمر عبد الله أمير المؤمنين أكرمه الله بعمل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمارة هذه الرحبة توسعة لمسجد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولمن حضره من المسلمين في سنة إحدى وخمسين ومائة ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، إلى آخر ما ذكراه. قلت: وزياد هذا هو زياد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي خال السفاح، وكانت ولايته على المدينة ومكة من قبل أبي العباس المنصور في سنة ثمان وثلاثين ومائة؛ فقول ابن أبي فديك في رواية ابن شبة «فلم يزل حتى قدم زياد بن عبيد الله سنة ثمان وثلاثين» مبيّن لتاريخ قدومه فقط، وقوله «فهدمها» يعني في مدة ولايته؛ فليس فيه تعرض لأن الهدم كان في ذلك التاريخ؛ فلا يخالف ما كتب على الباب المذكور، وليحمل أيضا قوله في رواية ابن زبالة «فهدم زياد بن عبيد الله إذ كان واليا في سنة ثمان وثلاثين ومائة» على أن المراد بيان ابتداء ولايته، لا تاريخ الهدم، جمعا بين الكلامين، والرواية الأولى أقرب إلى التأويل من هذه. وقد ذكر ابن زبالة في روايته المتقدمة عن محمد بن إسماعيل أنه قال: إن زياد بن عبيد الله جعل السّتور على الأبواب الأربعة: باب دار مروان أي المعروف بباب السلام، والخوخة أي المجعولة في محاذاة خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وباب زياد أي المذكور، وباب السوق أي وهو باب الرحمة كما يؤخذ من كلام يحيى. وقال المجد في ترجمة دار القضاء: هي دار مروان بن الحكم، وكانت لعمر بن الخطاب فبيعت في قضاء دينه، وقد زعم بعضهم أنها دار الإمارة، وهو محتمل لأنها صارت لأمير المدينة. قلت: دار مروان هي الآتية في قبلة المسجد، وليست هذه بلا شك، ولعل المراد أن مروان ملك دار القضاء فنسبت إليه، وهو غير معروف، إلا أن الحافظ بن حجر نقل عن ابن شبة أنها صارت لمروان وهو أمير المدينة، قال: فلعل ذلك شبهة من قال «إنها دار الإمارة» فلا يكون غلطا، وقال في المشارق: وقد غلط فيها بعضهم فقال يعني دار الإمارة. قلت: والذي رأيته في ابن شبة إنما هو صيرورتها لمعاوية كما قدمناه، مع أن المشهور قديما بدار الإمارة إنما هي دار مروان التي في قبلة المسجد، وتقدم أن الأمراء كانوا يدخلون من باب منها إلى المقصورة، وتوهم البرهان ابن فرحون أنها رحبة دار القضاء، فقال: قال ابن حبيب: وما كان من مضى- يعني من القضاة- يجلسون في رحاب المسجد، بل إما عند موضع الجنائز، يريد خارج باب جبريل، وإما رحبة دار مروان التي تسمى رحبة القضاء، وقد جعل ذلك في هذا الوقت ميضأة، انتهى. وهو وهم؛ لأن الذي جعل ميضأة هو نفس دار مروان كما سيأتي، وبالجملة فلا خلاف في كون دار القضاء هي الرحبة التي كانت في غربي المسجد إلى باب مروان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 ويؤخذ مما تقدم أن هذه الرحبة كانت في محاذاة باب زياد وما بعد، إلى باب السلام. ويؤخذ مما سيأتي في الدور المطيفة بالمسجد أنها كانت ممتدة إلى باب الرحبة أيضا، وهو مقتضى ما أخبر به بعض مشايخ المدينة أنه لم يزل يسمع أنه لم يكن بين باب الرحمة وباب السلام دار تلاصق المسجد. قلت: فموضع هذه الرحبة اليوم دار الشباك الملاصقة لباب الرحمة، وما يليها من المدرسة الجوبانية والحصن العتيق. ودار الشباك أنشأها شيخ الخدام كافور المظفري، المعروف بالحريري، بعد السبعمائة، وجعل لها شباكا إلى المسجد، وليس حول المسجد دار لها شباك في جدار المسجد إلا هي، والذي يظهر أن باب زياد كان في موضع شباكها أو إلى جانبه القبلي. وأما المدرسة الجوبانية فابتناها جوبان أتابك العساكر المغلية في سنة أربع وعشرين وسبعمائة، وجعل له فيها تربة ملاصقة لجدار المسجد بين دار الشباك والحصن العتيق، وهي- أعني التربة- من جملة رحبة القضاء، واتخذ فيها شباكا في جدار المسجد، وهو مسدود اليوم، ولم يدفن فيها بعد أن حمل إليها في تابوت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة من بغداد بأمر السلطان أبي سعيد فدخلوا به مكة وطافوا به حول البيت كما فعل بالجواد الأصفهاني، وذلك صحبة الحاج العراقي، فلما وصلوا به المدينة منعهم أميرها من ذلك حتى يشاور السلطان الناصر، كذا قاله بعضهم، وقال الصلاح الصفدي: لما بلغ الملك الناصر أمر تجهيزه ليدفن في المدينة جهز الهجن إلى المدينة، وأمرهم ألايمكن من الدفن في تربته، فدفن في البقيع. وذكر لي بعض الناس أن علة المنع من دفنه بتربته أنه إذا وضع فيها للقبلة كانت رجلاه إلى الجهة الشريفة؛ لأن تربته في غربي المسجد، بخلاف الجواد وغيره ممن دفن في شرقي المسجد، فإن رؤوسهم إلى جهة الأرجل الشريفة، والله أعلم. وأما الحصن العتيق فإنه كان منزلا لأمراء المدينة، ثم انتقل إلى السلطان غياث الدين سلطان بنجالة أبي المظفر أعظم ابن السلطان اسكندر، وابتناه مدرسة في سنة أربعة عشرة وثمانمائة، وتوفي في تلك السنة، ويقال: إن غيره سبقه إلى جعله رباطا قبل ذلك. ثم اقتضى رأي متولي العمارة بعد الحريق الحادث في زماننا استبدال دار الشباك المذكورة وما يليها من الجوبانية وجميع الحصن العتيق عند هدم ما يلي ذلك من جدار المسجد الغربي، وعمل ذلك مدرسة ورباطا للسلطان الأشرف فيما بين باب السلام وباب الرحمة كما سبق في الفصل التاسع والعشرين. واعلم أن المطري زاد هنا بابا بدل الباب الذي أسقطه قبل باب عاتكة فقال: إنه كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 بين باب عاتكة وخوخة أبي بكر الآتية بابان سدّا عند تجديد الحائط، وتبعه على ذلك من بعده، والذي اقتضاه كلام ابن زبالة ويحيى وابن النجار أنه ليس بين باب عاتكة وبين الخوخة سوى باب زياد، ولهذا لما أسقط ابن النجار ذكر الخوخة من الأبواب وجعل أبواب هذه الجهة سبعة قال: الخامس باب عاتكة، السادس باب زياد، السابع باب مروان، انتهى. وبه يعلم أن الصواب ما قدمناه، والله أعلم. خوخة تجاه خوخة أبي بكر التاسع عشر: الخوخة المجعولة تجاه خوخة أبي بكر رضي الله عنه لما زيد في المسجد، وهو معنى ما تقدم عن ابن زبالة حيث قال في عدد الأبواب: ومما يلي المغرب ثمانية أبواب، ومنها الخوخة التي تقابل يمنى خوخة أبي بكر. قلت: وكانت شارعة في رحبة دار القضاء كما قدمناه من كلام ابن زبالة وقدمنا أيضا في زيادة عمر رضي الله عنه عن أبي غسان قال: أخبرني محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أن عمه أخبره أن الخوخة الشارعة في دار القضاء في غربي المسجد خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أي: المجعولة في محاذاة خوخته. قال ابن زبالة في ذكر الكتابة على أبواب المسجد: وليس على الخوخة لا من داخل المسجد ولا من خارجه كتابة، وقد قدمنا أن لهذه الخوخة اليوم بابا مما يلي المسجد، وأنه باب حاصل يعرف بحاصل النورة، وهي معروفة بخوخة أبي بكر، ويؤخذ مما تقدم أن ذلك الحاصل من دار القضاء، وبابه اليوم هي الفتحة الثالثة من الفتحات التي على يسار الداخل من باب السلام، جعل باب في موضع الخوخة يدخل منه للمسجد، وبعده شباك، ثم باب يدخل منه للمدرسة الأشرفية. العشرون: باب مروان، سمي بذلك لملاصقته لداره التي كانت في قبلة المسجد مما يلي الباب المذكور، وبعضها ينعطف على المسجد من جهة المغرب، وفي موضعها اليوم الميضأة التي أنشأها المنصور قلاوون الصالحي عام ست وثمانين وستمائة، ويعرف الباب المذكور أيضا بباب السلام، وباب الخشوع، قاله المطري. وفي رحلة ابن جبير أنه يعرف بباب الخشية، اه. والزوار غالبا إنما يدخلون منه؛ لكونه أقصد إلى طريقهم من باب المدينة، فلا يخفى مناسبة تسميته بذلك كله. قال المطري: ولم يكن في القبلة حتى إلى اليوم باب إلا خوخة آل عمر، أو خوخة لمروان عند داره في ركن المسجد الغربي، شاهدناها عند بناء المنارة الكبيرة المستجدة، كان يدخل من داره إلى المسجد منها، وقد انسدت بحائط المنارة الغربي. قال الزين المراغي: وينبغي الاعتراض على من أطلق أن مروان كان يدخل منها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 للمسجد؛ لأن مروان قتلته زوجته أم خالد بن يزيد آمنة بنت علقمة، ويقال: فاختة بنت هاشم، وقيل: مات مطعونا، وقيل: مطعونا، في نصف رمضان سنة خمس وستين. وكانت مدة خلافته تسعة أشهر، وذلك قبل أن يزيد ولد ولده الوليد بن عبد الملك ابن مروان في المسجد بنحو من ثلاثين سنة، ولا شك أنها خوخة آل مروان؛ فالصواب أنه كان يدخل من مثلها، لا منها، وكأن هذا الباب هو المراد بقول ابن زبالة: وباب في قبلة المسجد يخرج منه السلطان إلى المقصورة. قلت: أما ما ذكره المطري من أنه لم يكن في قبلة المسجد باب- يعني فيما مضى إلى زمنه- إلا خوخة آل عمر؛ فمردود بما قدمناه عن ابن زبالة؛ فإنه فصل الأبواب الزائدة على العشرين فجعل منها الباب الذي كان في القبلة يدخل منه الأمراء من ناحية دار مروان، ثم ذكر البابين اللذين عن يمين القبلة وعن يسارها يدخل منهما إلى المقصورة، والباب الذي عن يمين القبلة هو هذا الذي أدركه المطري؛ فلا يصح ما ذكره الزين المراغي من حمل كلام ابن زبالة في الباب الذي ذكره في القبلة عليه؛ لأنه قد غاير بينهما، وأما استدراك المراغي على القول بأن مروان كان يدخل من الباب الذي ذكره المطري فصحيح، وقد تقدم عن ابن زبالة أنه يسمى باب بيت زيت القناديل. والذي يظهر كما قال المراغي أنه جعل في مقابلة باب اتخذه مروان هناك أيضا؛ لأن ابن زبالة روى أن مروان لما بنى داره جعل لها خوخة في القبلة، ثم قال: أخشى أن أمنعها، أي لكونها في القبلة، فجعل لها بابا على يمينك حين تدخل: أي وهو الباب المتقدم وصفه، ثم قال: أخشى أن أمنع المسجد، فجعل الباب الثالث الذي يلي باب المسجد، يعني الملاصق لباب السلام من خارجه، وفي موضعه اليوم السقاية المقابلة لباب مدرسة الحصن العتيق، وهذا سبب المناسبة في تسمية رحبة القضاء برحبة دار مروان؛ لمقابلتها لبابه هذا. وروى ابن زبالة عن إسحاق بن مسلم أن عمر بن عبد العزيز لما بنى المسجد أراد أن يجعل في الأبواب حلقا، ويجعلها في الدروب؛ لئلا يدخلها الدواب، فعمل الحلقة التي في باب المسجد مما يلي دار مروان، ثم بدا له فتركها. قلت: المراد بذلك السلسلة الحديد المجعولة بجنبتي عقد باب السلام تمنع الدواب من الدخول. وفي باب الرحمة اليوم آثار سلسلة كانت هناك، وسلسلة باب السلام ترفع في أيام الموسم؛ لأنه اتفق في سنة أربع وخمسين وثمانمائة ازدحام الناس عندها فهلك جماعة، وكان أمام باب السلام من داخله درابزين شبيه بالدرابزين الذي كان من داخل باب جبريل، وكان الناس لا ينزعون نعالهم إلا عنده، وكذلك كان مثله أمام باب الرحمة من داخله أيضا؛ فجعل الأمير بردبك المعمار أيام عمارته للظاهر جقمق هذه الأحجار المصفوفة إفريزا عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 طرف عقد باب السلام مما يلي باب الحصن العتيق، وجعل ما أمام الباب مما يحاذي العقد المذكور رحبة بالمسجد، وصار الناس ينزعون النعال عندها، وعمل عند عقد باب الرحمة مثل ذلك، ورفع ذلك الدرابزين، وكان ما بين الدرابزين وباب الرحمة منخفضا عن أرض المسجد فسواه بأرض المسجد كما هو اليوم، فاحتاج إلى رفع عتبته، فزاد العتبة المتخذة فوق العتبة الأصلية، وقصر شيئا من أسفل الباب، وذلك ظاهر فيه اليوم، وحصل بذلك صيانة للمسجد، واتخذ أيضا الرحبة التي أمام باب النساء، ورفع الدرابزين الذي كان من داخله، واتخذ لباب جبريل الرحبة التي أمامه، ولم يرفع الدرابزين؛ لأن الناس لم يكونوا يمشون بنعالهم إليه، ثم أزيل درابزينه أيضا عند عمارته بعد الحريق الثاني، والله سبحانه وتعالى أعلم. الفصل الثالث والثلاثون في خوخة آل عمر رضي الله تعالى عنه المتقدم ذكرها، وما يتعين من سدّها في زماننا تحديد موضع خوخة آل عمر اعلم أنها اليوم هي التي يتوصّل إليها من الطابق الذي بالرواق الثاني من أروقة القبلة، وهو الرواق الذي يقف الناس اليوم فيه للزيارة أمام الوجه الشريف بالقرب من الطابق المذكور. والذي يتلخص مما قدمناه في زيادة عثمان رضي الله عنه والوليد والمهدي أن الأصل في ذلك أنه لما احتيج لدار حفصة- يعني حجرتها- قالت: كيف بطريقي إلى المسجد، فقيل لها: نعطيك أوسع من بيتك، ونجعل لك طريقا مثل طريقك، فأعطيت دار عبيد الله بن عمر، أي التي صارت إليه بعد حفصة، وكانت مربدا، هذا ما رواه ابن زبالة. وقد قدمنا في زيادة الوليد من رواية ابن زبالة أن عمر بن عبد العزيز بعث إلى رجال من آل عمر، وأخبرهم أن أمير المؤمنين كتب إليه أن يبتاع بيت حفصة، وكان عن يمين الخوخة أي من داخل المسجد، فقالوا: ما نبيعه بشيء، قال: إذا أدخله في المسجد، قالوا: أنت وذاك، فأما طريقنا فإنا لا نقطعها، فهدم البيت، وأعطاهم الطريق ووسّعها لهم. وقدمنا أيضا ما رواه يحيى عن مالك بن أنس من أن الحجّاج الثقفي هو الذي ساوم عبيد الله بن عبد الله بن عمر في هذا البيت وهدمه. وفي رواية ليحيى أن عمر بن عبد العزيز لما وصل في العمارة إلى دار حفصة قال له عبيد الله: لست أبيع هذا هو حق حفصة، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسكنها، فقال عمر: ما أنا بتارككم أو أدخلها المسجد، فلما كثر الكلام بينهما قال لهم عمر: أجعل لكم في المسجد بابا تدخلون منه، وأعطيكم دار الرقيق، وما بقي من الدار فهو لكم، ففعلوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وقال المطري: إن الوليد لما حج وطاف في المسجد رأى هذا الباب في القبلة فقال لعمر: ما هذا الباب؟ فذكر له ما جرى بينه وبين آل عمر في بيت حفصة، وكان جرى بينه وبينهم فيه كلام كثير، وجرى الصلح على ذلك، فقال له الوليد: أراك قد صانعت أخوالك. وقد قدمنا من رواية ابن زبالة الإشارة إلى هذا، وقدمنا من روايته أيضا عن عبد العزيز بن محمد أنه كان يسمع عبيد الله بن عمر يقول: لا أماتني الله حتى أراني سدها. وتقدم أن تلك الخوخة لم تزل طريق آل عمر إلى دارهم حتى عمل المهدي المقصورة على الرواق القبلي. قال المطري: فمنعوهم الدخول من بابهم، فجرى في ذلك أيضا كلام كثير تقدمت الإشارة إليه، اصطلحوا على سدّ الخوخة من أعلاها في جدار المسجد، وأن يخفضوها في الأرض ويجعلوا على أعلاها في موضع الباب الأول شباك حديد في القبلة، وحفروها كالسرب، فتخرج خارج المقصورة في الرواق الثاني من أروقة القبلة، ولها ثلاث درجات عند بابها في جوف السرب بالمسجد، وهو الطابق الموجود اليوم، وعليه قفل من حديد، ولا يفتح إلا أيام قدوم الحاج للزيارة، قال المطري: وهي طريق آل عمر إلى دارهم التي تسمى اليوم دار العشرة، وإنما هي دار آل عبد الله بن عمر، انتهى. قلت: وعلى هذا السرب من خارج المسجد باب في جدار المسجد أيضا، وأمامه دهليز يتوصل منه إلى شارع فيه دور كثيرة سنشير إلى بعضها في ذكر الدور المطيفة بالمسجد. اتخاذ بعض الناس بابا وسيلة للتدجيل وقد اختلقوا لتلك الدور أسماء، حتى قالوا في بعضها: هو بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبعضها نسبوه إلى فاطمة ابنته رضي الله تعالى عنها. ويتخذ بعض أهل تلك الدور على ما بلغني كحلا في نقرة من الجدار ويقولون للحجاج: هذه مكحلة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، ويشيرون أيضا إلى رحا عندهم فيقولون: هذه رحا فاطمة الزهراء، أخبرني بذلك من لبّسوا عليه الأمر وأخبروه بهذه الأكاذيب حتى أعطاهم شيئا. ويجلس عند ذلك الطابق بالمسجد شخص ليس هو اليوم من ذرية آل عمر؛ لأن من كان بيدهم مفتاح هذا الطابق من آل عمر قد انقرضوا، وبقيت منهم زوجة هذا الشخص الذي يجلس عند هذا الطابق، ثم توفيت وتركت أولادا منه، فاستمر المفتاح بيده، فيستنيب من يجلس عند هذا الطابق ويفتحه أيام الموسم، ويقف عنده جماعة يزوّرون الحجاج ويأخذون من الداخلين منه شيئا شبيها بالمكس؛ فإن الجالس عنده لا يمكن أحدا من الدخول منه إلا ببذل شيء يرضيه، وما حال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 الحاج الغريب إذا رأى مثل هذا الباب بدرج تحت الأرض في المسجد وقيل له: إنه يصل إلى بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيت ابنته؟ وقد اشتهر ذلك عند أهل المدينة حتى إن أحدا منهم لا يكره، فيود الغريب المسكين لو بذل روحه في الوصول لذلك، وربما لم يكن معه شيء، فيتجشم المشقة في الوصول لذلك، فقد أخبرني صاحبنا الشيخ المبارك أبو الجود بركات الجيعاني أنه قدم المدينة قديما قبل أن يجاور بها، قال: فلم أملك نفسي أن دخلت في هذا الطابق فطبقه الجالس عنده على ظهري حتى كاد يقصمه لأنه لم يعطه شيئا. وأخبرني هو وغيره ممن أثق به أنه يقع في أسفله من الإزدحام واختلاط النساء بالرجال ما لا يوصف مع ضيقه، حتى إن الماشي فيه يحتاج إلى الانحناء. وأخبرني بعضهم: أنه رأى فيه منكرا شينعا، وهو أن بعض الأحداث يمشي خلف النساء مع الازدحام، وكون المشي على تلك الهيئة؛ فيقع ما لا يرضي الله ولا رسوله بين يديه صلّى الله عليه وسلّم. وكيف يتمادى الناس على إقرار ذلك الآن؟ وهو ليس إلا لمجرد ما ذكرناه، فإنه كان بابا لدار، ولأن من هو بيده لا يملك شيئا من تلك الدور، ولو كان مالكها فليس وضعه لسوى دخول أهل تلك الدور منه، فإنه لم يجعل إلا ليدخل منه آل عمر إلى المسجد، لا لأن يأخذوا فلوسا على من يخرج من المسجد مارا منه، فقد كانوا منزهين عن ذلك. ثم لو سلمنا أن تلك الدور مستحقة للزيارة فزيارتها متيسرة من خارج المسجد، وكيف يتخذ المسجد طريقا، ويخص منه ما يكون بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم على تلك الحالة المنكرة لأجل شيء خسيس من الدنيا؟ ونحن نفديه صلّى الله عليه وسلّم بأنفسنا فضلا عن أموالنا، وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب التي كانت شارعة في المسجد إلا خوخة أبي بكر وإلا باب علي كما قدمناه، مع أن أهل تلك الأبواب إنما كان قصدهم بها التوصل إلى المسجد، فكيف يبقى باب بين يديه صلّى الله عليه وسلّم لا نفع له إلا أخذ شيء من الحطام على المرور منه؟ هذا ما لا يرضاه مؤمن يرى تعظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. ثم إن هذا الطابق له قفل، وما حوله من الخشب فيه نوع نتوء، فقد رأيت من لا أحصيه من الخلق يتعثرون به، وربما سقط بعضهم لوجهه، ثم إنه إذا كثر الدوس عليه في ليالي الزيارات كليلة النصف من شعبان ونحوها يرتج تحت الأرجل حتى تزلزل الأرض زلزالها، وذلك يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد قدمنا أن عائشة رضي الله عنها كانت تسمع الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بالمسجد فترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قالوا: وما عمل عليّ مصراعي داره إلا بالمناصع- وهو متبرز النساء ليلا خارج سور المدينة- توقيا لذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وروى يحيى في كتابه عن محمد بن يحيى بن زيد النوفلي عن أبيه عن الثقة عنده أن عائشة رضي الله عنها ذكرت أن بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم دعت نجارا فعلّق ضبة لها، وأن النجار ضرب المسمار في الضبة ضربا شديدا، وأن عائشة رضي الله عنها صاحت بالنجار كلمته كلاما شديدا وقالت: ألم تعلم أن حرمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ميتا كحرمته حيّا؟ فقالت الآخرى: وماذا سمع من هذا؟ قالت: إنه ليؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوت هذا الضرب اليوم ما يؤذيه لو كان حيا. حج السلطان قايتباي ولم أزل منذ قدمت المدينة أنكر هذا الأمر بالقلب واللسان وكتابة البنان، ولكن لم أجد على ذلك معينا، لرسوخ الطباع العامية في التمسك بالعوائد الماضية من غير روية، وقد نبهت على إنكار ذلك في كتابي «الوفا، بما يجب لحضرة المصطفى» صلّى الله عليه وسلّم، ثم شافهت في أمره مولانا الهمام، سلطان ممالك الإسلام، ذا الشجاعة التي شاعت عجائبها، والشهامة التي ذاعت غرائبها، سلطان الإسلام والمسلمين، ووجهة القاصدين والآملين، السلطان الملك الأشرف قايتباي، جعل الله الممالك منظومة في سلك ملكه، وأقطار الأرض جارية في حوزه وملكه، فإنه لما حج سنة أربع وثمانين وثمانمائة بدأ بالمدينة النبوية لزيارة التربة المصطفوية على الحال بها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، فقدمها طلوع الفجر من يوم الجمعة الميمون الثاني والعشرين من ذي القعدة الحرام، فلبس لدخولها حلل التواضع والخشوع، وتحلى بما يجب لتلك الحضرة النبوية من الهيبة والخضوع، فترجّل عن جواده عند باب سورها، ومشى على أقدامه بين رباعها ودورها، حتى وقف بين يدي الجناب الرفيع، الحبيب الشفيع، صلّى الله عليه وسلّم، وناجاه بالتسليم، وفاز من ذلك بالحظ الجسيم، ثم ثنى بضجيعيه رضي الله تعالى عنهما بعد أن صلّى بالروضة الشريفة التحية، وعفّر وجهه في ساحتها السنية، وعرض عليه الدخول إلى المقصورة المستديرة حول جدار القبور الشريفة، المعروفة اليوم بالحجرة المنيفة، فتعاظم ذلك، وقال: لو أمكنني أن أقف في أبعد من هذا الموقف وقفت، فالجناب عظيم، ومن ذا الذي يقوم بما يجب له من التعظيم؟ ثم صلّى صبح الجمعة في الصف الأول بين فقراء الروضة عند أسطوان المهاجرين بالقرب من مصلاي، كان بيني وبينه إمامه شيخ الشيوخ الإمام العلامة نادرة الزمان وعين الأعيان برهان الدين الكركي، فسح الله في أجله، وأدام النفع به، ولم يكن بيني وبينه سابق معرفة، حتى إني لم أبدأه بسلام ولا كلام، وكذلك السلطان أعزه الله أنصاره وضاعف اقتداره، لم أتعرف إليه، ولم يكن ذلك في خلدي ولا عزمت عليه، ثم توجه السلطان بجماعته لزيارة عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمزة بن عبد المطلب ومن يليه من شهداء أحد رضوان الله عليهم، فمشى مترجلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 كعادته، حتى خرج من باب المدينة، ولم يزل ذلك دأبه، فلم يركب بالمدينة جوادا حتى خرج منها، فلما كان وقت صلاة الجمعة حضر في ذلك المصلى فكان بيني وبينه إمامه المشار إليه أيضا، ثم قرأ شخص على شيخ المحدثين العلامة شمس الدين ابن شيخنا أبي الفرج العثماني مجلس ختم البخاري، وكأن الإمام المشار إليه تفرّس فيّ الاتصاف بطلب العلم، ففاتحني الكلام في بعض المسائل العلمية المتعلقة بذلك، فجاريته فيها، فرأيت كماله واضح البرهان، وفضله ظاهر العنوان، مع كمال الإنصاف في البحث، فانتسجت المودة حينئذ، ثم قام الإمام المشار إليه، واستمر السلطان جالسا، ثم بدأنا بالملاطفة، وشرفنا بالمحادثة، وخاض في شيء من العلم، فرأيت من تواضعه وحلمه وثقوب فهمه ما فاق الوصف، فأنشدته قول بعضهم: كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر ثم التقينا، فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري وأنهيت إليه أمر الطابق المذكور، وقلت في نفسي: لعل الله تعالى أرسل هذا السلطان المسعود وجمعني به من غير قصد ليفوز بتنزيه الحضرة الشريفة من ذلك، ويكون ذلك في صحائفه، وقد قدمنا ما حاوله الملوك الماضون من سدّه مع أن المفاسد التي قدمناها لم تكن موجودة في زمنهم، وإنما تركوه كما قدمناه لمانع، ولا مانع من سده اليوم بحمد الله تعالى، فوعد بذلك. ثم وقع الاجتماع بالإمام المشار إليه فكلمته في ذلك، وقلت له: بلغني أن من بيده مفتاح الطابق المذكور يجتمع له في كل سنة نحو عشرة دنانير من هذا الطابق، ولي معلوم في جهة هذا قدره في كل سنة، فأنا أنزل عنه لمن بيده ذلك المفتاح تطييبا لخاطره، فذكر ذلك للسلطان، فقال: نحن نرضيه من عندنا، ثم إنه نصره الله تعالى حضر لصلاة المغرب، فتفضل بالبداءة بالكلام، ولم يكن إمامه حاضرا، ولكنه سبق منه التربية التامة عنده، فسألني عن الآية المنقوشة في المصلى الشريف، وهي قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] الآية هل نزلت قبل المعراج وفرض الصلاة أم بعد ذلك؟ وكيف كان الاستقبال قبل نزولها؟ فشرعت في الجواب، فأقيمت الصلاة في أثناء ذلك، فلما قضى صلاته تنفل بست ركعات، ثم أقبل عليّ طالبا للجواب، فذكرت له تاريخ نزولها بالمدينة، وما فيه من الخلاف، وأن فرض الصلاة ليلة في المعراج كان بمكة، وما ذكروه في أمر استقبال بيت المقدس، وما حكي من الخلاف في تعدد نسخ القبلة، وصلاته صلّى الله عليه وسلّم بمكة بين الركنين اليمانيين جاعلا الكعبة بينه وبين بيت المقدس، إلى غير ذلك من الفوائد التي قدمناها في محلها من كتابنا هذا، واستمريت معه كذلك حتى صلينا العشاء الآخرة، فحصل منه في ذلك المجلس من الإكرام ما أرجو له به كمال المجازاة من صاحب الحضرة الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وفرق بالمدينة الشريفة مالا جزيلا ستة آلاف دينار أو أكثر، ودفع إليّ على يد إمامه المشار إليه من ذلك جزآ وافرا، وتكلمات معه في رفع مكوس المدينة وتعويض أميرها عن ذلك شيئا، فأفهم الوعد به، وسألني عن أمر دار العباس التي اشتريت له، وكانت سببا في قتل القضائي الزكوي تغمده الله تعالى برحمته لعدم السياسة في أخذها، فأخبرته بحقيقة الحال، فقال: لم لم تكتب إلّي بهذا؟ فاعتذرت له بعذر قبله، وتبرأ من جميع ما فعلوا فيها، ووعد بما يكون فيه صلاح أمرها، ثم وفى بذلك بعد عوده، فزادهم مبلغا كثيرا رضوا به، وتفضل بالتشريف بطلب الكتابة إليه بما يكون فيه صلاح أحوال المدينة والتنبيه على من يردها من المحتاجين. ثم توجه في الرابع والعشرين من الشهر المذكور مصحوبا بالسلامة إلى مكة المشرفة ماشيا على أقدامه بين فقراء المدينة وفقهائها حتى خرج من باب المدينة، فوقف هناك، وقرأنا له الفاتحة، ثم ركب جواده، أدام الله تأييده وحرسه من الردى، وأنار له طرق الحق والهدى. ثم قدمت مكة صحبة الحاج الشامي فوجدته قد سلك بها مسلك التواضع أيضا، وتصدق فيها بمال جزيل أكثر مما تصدق بالمدينة الشريفة. ولما اجتمعت بإمامه المشار إليه بمكة المشرفة تذاكرنا الصدقة الشريفة بالمدينة الشريفة وعمومها، وما حصل بها من النفع، فذكرت له أن أربعة من فقراء المغاربة لم يأخذوا شيئا لملازمتهم لرباطهم، وعدم إتيانهم لمن كان يفرق، وأن شخصا آخر مستحقا كنت أود لو حصل له أكثر مما دفع له، فبلغ ذلك السلطان، فلما كان في أوسط أيام منى توجهت لوداع الإمام المشار إليه، فأشار بموادعة السلطان، فقلت له: أخشى أن يتوهم أن المجيء لقصد آخر، فقال: لا بد من موادعته، فتوجهنا إليه فحصل منه من الإكرام ما أطلب له الجزاء عليه من أكرم الأكرمين، ثم قال: أنتم ذكرتم للإمام كيت وكيت، فلم ينس ما تقدم ذكره من أمر جماعة الفقراء، فقلت له: نعم، فأمر لهم بمائة دينار أقسمها عليهم لكل واحد عشرون دينارا، ثم قال: هل بقي أحد؟ فقلت له: ما أستحضر أحدا، ورأيت له اهتماما تاما بتعميم جيران الحضرة الشريفة، ووادعني قائما وسأل عن أمر الطابق المذكور لما قدمنا مكة، وأمر بأن لا يفتح، وأن يسد بعد ذلك، فلما بلغ شيخ الخدام بالمدينة الشريفة منع من فتحه عند قدوم الحاج المصري في هذا العام، ولكن بقي سده، فإن الطريق في قطع الشر قلع أصوله، وقد وعد بسده. وقف السلطان قايتباي لأهل المدينة المنورة ثم إن السلطان أيده الله تعالى رجع إلى مصر مصحوبا بتأييد الله ونصره، فبلغنا أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 أبرز بعد وصوله ستين ألف دينار ليشتري بها أماكن تكون أوقافا يحمل ريعها إلى الحضرة الشريفة، ويعمل بها سماط كسماط الخليل عليه السلام، وهذا أمر لم يسبقه إليه أحد من ملوك الإسلام، والمسؤول من الله تعالى أن ييسر له ذلك. وقد ألحقنا في الفصل التاسع والعشرين ما برزت به المراسيم الشريفة من إبطال المكوس، وتعويض أمير المدينة الشريفة عنها، وأنه وقف أماكن كثيرة يتحصل منها نحو سبعة آلاف وخمسمائة إردب من الحب كل سنة لعمل السماط المذكور، وليصرف من ذلك كفاية أرباب البيوت بالمدينة الشريفة، ثم وصول البهائي أبي البقاء بن الجيعان عظم الله شأنه بجملة من ذلك والصرف والتقرير وعمل السماط على الوجه السابق، والمرجو من الله تعالى دوام ذلك له؛ فإن الله تعالى قد أجرى على يديه من الخيرات ما لم يجتمع لأحد من الملوك قبله فمن ذلك ما تقدم من العمارة بالمسجد النبوي والحجرة الشريفة، وإبطال هذا الطابق المتقدم وصفه، ومن العجب أن من كان بيده هذا الطابق توجه إليه بمصر وسأل أن يمكّن من فتحه، فلم يجبه لذلك، وقرر له في الذخيرة بضعة عشر دينارا كل سنة عوضا عما كان يحصل له منه، ثم وردت المراسيم الشريفة بالإخبار بذلك، والأمر بسده، ولكن شق على بعض أهل الحظوظ النفسية تمام هذا الأمر والمتسبب فيه الفقير الحقير، فتسبب في تأخيره، فمات شيخ الخدام إنال الإسحاقي ولم يسده، فلما قدمت مصر عام سبع وثمانين وثمانمائة أنهيت للسلطان أن الطابق لم يسد، وخشيت أن يغضب بسبب ذلك على بعض الناس، فاعتذرت بأن موجب التأخير وفاة شيخ الحرم، فبرزت مراسيمه الشريفة لشيخ الحرم ومتولي العمارة الشمس بن الزمن بسده بالبناء، بحيث لا يفتح أبدا، وكان المعاكس في هذا الغرض قد أمال متولي العمارة إليه مع ما سبق في الفصل الثامن والعشرين من إيغار صدره مني، وكان هذا الطابق قد احترق وارتدم بعد أمر السلطان بسده في حريق سنة ست وثمانين وثمانمائة، وأثرت النار في قبوه تأثيرا عظيما، فأعاده متولي العمارة وأحكمه، وجعل له بابا، فلما وردت عليه المراسيم الشريفة بما سبق على يديّ أجاب بأنه يراجع السلطان في ذلك لأن تلك الدور صارت له. ثم إن شيخ الحرم أنهى إلى السلطان ذلك، فبرزت المراسيم الشريفة بسده واللوم على تأخيره مع تكرر الأمر بذلك، فأمره متولي العمارة بتأخير ذلك ليراجع السلطان فيه، وقال: إنه يجعل تلك الدور مزارات ليتم له ما أراده من بقاء ذلك الطابق، وتعجب الناس من إقدامه عليه، ثم بلغ السلطان ذلك مع أمور يطول شرحها؛ فغضب غضبا شديدا وبرز مرسومه بسده والوعيد التام على تأخيره، فسده شيخ الحرم بالبناء المحكم من خارج المسجد، ونزع باب طابقه، وردمه بالأتربة حتى ساوى أرض المسجد، ولم يبق له أثر، وذلك في رابع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وثمانمائة، وسرّ أهل الخير بذلك، وتضاعفت أدعيتهم للسلطان نصره الله تعالى، وهذا من أعظم محاسنه. من آثار قايتباي بالحرمين الشريفين ومن ذلك إجراء عين خليص بعد انقطاعها مرة بعد أخرى، وهي من أحسن مناهل الحج وأعذبها، وكذلك بركة الروحاء. ومن ذلك عمارة مسجد الخيف بعد أن تهدم بأجمعه، وإنشاء المنارة والسبيل اللذين عند بابه، وإجراء المعلوم لمن يؤذّن بتلك المنارة ولمن يؤم بالمسجد المذكور. ومن ذلك إحداث الظل بمقدم مسجد نمرة المنسوب لإبراهيم الخليل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وقد كان الحجاج يقاسون به شدة من حر الشمس في ذلك اليوم، فالله تعالى يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله. ومن ذلك إجراء عين عرفة من بطن نعمان، بعد أن دثرت وانمحت معالمها واندرست، وعمارة بركها ومجاريها، حتى فاضت الأنهار بأقاصيها وأدانيها، وأوصلها إلى مسجد نمرة، وأنشأ به صهريجا يجتمع فيه الماء، فأذهب بذلك عن الحج الأعظم الظمأ، وقد كنت أرى الفقراء في كل سنة في ذلك اليوم لا يسألون غالبا إلا الماء، وكان من أعز الأشياء هناك، فلم يبق له طالب، ولله الحمد، سقاه الله بذلك من حوض الكوثر. ومن ذلك المدرسة والرباط اللذان عمر هما بمكة المشرفة، ولا نظير لهما فيها. ومن ذلك حجه في هذا العام، فإن ذلك لم يقع لأحد من ملوك مصر من نحو مائة وخمسين سنة، وكان آخر من حج منهم الملك الناصر محمد بن قلاوون، حج ثلاث حجات: أولاها سنة عشر وسبعمائة، وثانيتها سنة عشرين، وثالثتها سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، ولم يحج أحد بعد ذلك من سلاطين مصر، وأرجو أن يفسح الله في أجل سلطاننا هذا حتى يدرك ذلك، ويتم له ما نواه من الخير بالحضرة النبوية. وقد أنشأ بثغر اسكندرية برجا عظيما لم يسبق إليه، وشحنه بالأسلحة والجند. ولما توجهت إلى زيادة بيت المقدس رأيت له فيه وفيما بين مصر وبينه من الآثار العظيمة ما لم أره من غيره من الملوك من المدارس والمساجد والقناطر، وهذا المحل لا يحتمل بسط ذلك، وإنما ذكرنا من آثاره الجميلة ما يتعلق بالحجاز لأنه محل الغرض. وهو ملك مطاع، محظوظ، صبور، غير عجل، كثير الحياء والوقار والمهابة، إذا حاول أمرا لا يسرع فيه، بل يتأنى كثيرا، ويعظم أهل العلم ويجلهم. وإنما أمتعنا بذكر ذلك هنا ليكون سببا في حث الواقف على ذلك على الدعاء لهذا الملك السعيد بإنجاح المطالب، ونيل المارب، ولتنبعث همة من جاء بعده من الملوك على أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 يقتدي به في الخير فيصنع مثل ما صنعه، ونسأل الله تعالى أن يفسح في أجله، فقلّ أن يأتي بعده مثله. الفصل الرابع والثلاثون فيما كان مطيفا بالمسجد الشريف من الدور، وما كان من خبرها، وجلّ ذلك من منازل المهاجرين رضي الله تعالى عنهم رسول الله يخط دور المدينة روى ابن سعد في طبقاته عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطّ الدور بالمدينة، فخط لبني زهرة في ناحية مؤخر المسجد، فكان لعبد الرحمن بن عوف الحش، والحش: نخل صغار لا يسقى. وعنه أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خط الدور؛ فخط لبني زهرة في ناحية مؤخر المسجد؛ فجعل لعبد الله وعتبة ابني مسعود هذه الخطة عند المسجد. وقال ياقوت: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا إلى المدينة أقطع الناس الدور والرّباع؛ فخط لنبي زهرة في ناحية من مؤخر المسجد، وكان لعبد الرحمن بن عوف الحش المعروف به، وجعل لعبد الله وعتبة ابني مسعود الهذليّين الخطة المشهورة بهم عند المسجد، وأقطع الزبير ابن العوام بقيعا واسعا، وجعل لطلحة بن عبيد الله موضع دوره، ولأبي بكر الصديق موضع داره عند المسجد، وأقطع كل واحد من عثمان بن عفان وخالد بن الوليد والمقداد وغيرهم مواضع درهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطع أصحابه هذه القطائع، فما كان في عفائن الأرض فإنه أقطعهم إياه، وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له فكان يقطع من ذلك ما شاء، وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان وهب له ذلك وأقطعه صلّى الله عليه وسلّم، انتهى. دار آل عمر بن الخطاب فأول الدور الشوارع حول المسجد من القبلة دار عبد الله بن عمر بن الخطاب التي فيها الخوخة المتقدم وصفها، وليست الدار المذكورة اليوم بيد أحد من آل عمر كما قدمناه، وقدمنا أن موضع هذه الدار كان مربدا أعطيته حفصة رضي الله تعالى عنها بدل حجرتها لما احتيج إلى إدخالها في المسجد، وفي رواية أن آل عمر أعطوا بدلها دار الرقيق وما بقي منها. وقال ابن غسان، فيما نقله ابن شبة: وأخبرني مخبر أن تلك الدار- يعني دار آل عمر- كانت مربدا يتوضأ فيه أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما توفي استخلصته حفصة رضي الله عنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 بثلاثين ألف درهم، فورثها عنها عبد الله بن عمر؛ فهي التي قال فيها عبد الله في كتاب صدقته: وتصدق عبد الله بداره التي عند المسجد التي ورث من حفصة. بيت لأبي بكر الصديق صار لآل عمر قال: وأخبرني مخبر قال: كان بيت أبي بكر الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سدوا عني هذه الأبواب- الحديث» بيد عبد الله بن عمر، وهو البيت الذي على يمينك إذا دخلت دار عبد الله من الخوخة التي في المسجد، فتلقاك هناك خوخة في جوف الخوخة التي هي الطريق مبوّبة، فتلك الخوخة خوخة أبي بكر. قال: وكانت حفصة ابتاعت ذلك المسكن من أبي بكر مع الدار التي فوق هذه، أي التي في قبلتها كما سنبينه، قال: وتصدقت بتلك الدار على ولد عمر. قلت: هذه الرواية الأخيرة ضعيفة كما قدمناه؛ ولذلك لم يبين قائلها، ولأنه في دور بني تيم لما ذكر دار أبي بكر التي ورد فيها الحديث المذكور لم يذكر هذه الرواية، بل اقتصر على الرواية المشهورة في أنها في غربي المسجد؛ فإن الخوخة الواردة فيها الحديث هي الشارعة في رحبة دار القضاء، ولذلك لما زادوا في المسجد أرادوا محاكاتها، فجعلوها خوخة شارعة هناك، ولم يجعلوها كبقية أبواب المسجد، ولأنه جزم في دور أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن عائشة رضي الله عنها اتخذت الدار التي يقال لها دار عائشة بين دار الرقيق وبين دار أسماء بنت أبي بكر فتصدقت بها. قلت: فإن كانت دار الرقيق هي بيت حفصة فبيت عائشة إلى جنبه، والمعروف عند الناس أن البيت الذي على يمين الخارج من خوخة آل عمر المذكورة هو بيت عائشة رضي الله عنها، فلعل الاشتباه في نسبته إلى أبي بكر رضي الله عنه نشأ من ذلك، مع أن الذي اقتضاه كلام المؤرخين أن البيت المذكور عن يمين الخوخة هو بيت آل عمر، وأن دار عائشة ليست في هذا المحل، وهذه الدار المذكورة- أعني التي على يمين الداخل من الخوخة- وقف ناظره شيخ الخدام، وبلغني أن واقفها اشترط ألايسكنها متزوج، وبابها اليوم شارع في القبلة، ولها شباك عن يمين الخوخة لعله كان في موضع بابها الأول لما كانت الخوخة شارعة في الدار المذكورة، وأما البيت الذي عن يسار الخوخة فوقفة أيضا ناظره شيخ الخدام، وبابه ليس شارعا عند الخوخة، بل بعيد منها في المغرب، وهو آخر الدور الآتي ذكرها، ومقتضى ما سيأتي عن ابن شبة وابن زبالة أن الدار المعروفة اليوم بدار عائشة والدارين اللتين إلى جانبها الغربي في قبلة المسجد من جملة دار آل عمر؛ لأنهما قالا: في الدور الشوارع من القبلة دار عبد الله بن عمر، ثم دار مروان الآتي ذكرها، وأما الدار الثانية التي تقدمت الإشارة إليها في كلام أبي غسان من دور حفصة فوق هذه فقد ذكرها بقوله: وكانت لحفصة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 الدار التي بين زقاق عبد العزيز بن مروان الذي أدخل في دار مروان دار الإمارة وبين زقاق عاصم بن عمر بابها شارع قبالة دير أطم بني النجار الذي يدعى فويرعا، فتصدقت بها على ولد عمر؛ فهي بأيديهم صدقة منها. قلت: وهذا الوصف منطبق اليوم على دار قاضي الشافعية أبي الفتح بن صالح وما لاصقها من جهة الشام؛ لأن زقاق عاصم هو الزقاق الشارع باب هذه الدار فيه الآخذ منها إلى جهة القبلة والميضأة، ولأن فويرعا كان فيما بينها وبين المدرسة الشهابية كما سيأتي بيانه، وعلى هذا فزقاق عاصم هو الذي في شاميها، دخل بعضه فيما حاذى دار مروان، وبقي منه ما يفرق بين دار آل عمر هذه والدار التي لها الخوخة، والله أعلم. دار مروان بن الحكم ثم يلي دار عبد الله بن عمر ذات الخوخة في قبلة المسجد من غربيها دار مروان بن الحكم، قال ابن زبالة: وكان بعضها للنحام- يعني نعيم بن عبد الله من بني عدي- وبعضها من دار العباس بن عبد المطلب، فابتاعها مروان فبناها وجعل فيها دارا لابنه عبد العزيز بن مروان، ثم ذكر خبر أبوابها المتقدم ذكره في أبواب المسجد. وروى ابن زبالة في ذيل زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد، عن غير واحد منهم محمد بن إسماعيل عن أبيه أنه كانت فيها نخلات، فابتاع مروان من آل النحام كل نخلة وموضعها بألف درهم، وكن ثمانيا أو اثنتي عشرة، فرأى الناس أن مروان قد أغلى، فلما وجب له البيع عقرهن وبناها دارا فغبطه الناس. ونقل ابن شبة عن بعضهم أن دار مروان بن الحكم التي ينزلها الولاة إلى جنب المسجد- يعني الدار المذكورة- كانت مربدا لدار العباس التي دخلت في المسجد، فابتاعها مروان، فسمعت من يقول: كانت القبة التي كانت في دار مروان وحجرتها التي تلي المسجد عن يسار من دخل الدار للنحام أخي بني عدي بن كعب، وكانت فيها نخلات، فابتاعها مروان من النحام بثلاثمائة ألف درهم، وأدخلها في داره، فذلك الموضع ليس من المربد الذي ابتاع من العباس. وذكر ابن شبة في موضع آخر أن دار مروان صارت في الصّوافي، أي: لبيت المال. قلت: وفي موضعها اليوم كما قدمناه الميضأة التي في قبلة المسجد عند باب السلام، وما في شرقيها إلى دور آل عمر، قال ابن زبالة وابن شبة: وإلى جنبها- يعني: دار مروان- في المغرب دار يزيد بن عبد الملك التي صارت لزبيدة، وكان في موضعها دار لآل أبي سفيان ابن حرب، كانت أشرف دار بالمدينة بناء وأذهبه في السماء. ودار كانت لآل أبي أمية بن المغيرة، فابتاعها يزيد، وأدخلها في داره، وهدمها، وكان بعض أهل المدينة وفد على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 يزيد ابن عبد الملك وقد فرغوا من بناء داره، فسأله عنها، فقال: ما أعرف لك أصلحك الله بالمدينة دارا، فلما رأى ما في وجهه قال: يا أمير المؤمنين، إنها ليست بدار، ولكنها مدينة، فأعجب ذلك يزيد. دار رباح ودار المقداد قلت: وفي موضع هذه الدار اليوم ما يقابل الميضأة في المغرب من دار الأشراف العباسا والدار الملاصقة لها في المغرب المشتراتين للسلطان، وقد أضافوا إليهما ما في قبلتهما من الدور. وقد ذكر ابن شبة أن رباحا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اتخذ دارا على زاوية دار يزيد بن عبد الملك الغربية اليمانية، وأن المقداد بن الأسود حليف بني زهرة اتخذ دارا بين بيت رباح مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين زقاق عاصم، فتكون هذه الدار على زاوية دار يزيد الشرقية اليمانية، فهما من جملة ما اشترى للسلطان اليوم. وبين الميضأة وبين هذه الدور زقاق لعله متصل بزقاق عاصم بن عمر، إلا أن ابن زبالة وابن شبة لم يذكراه، قالا: ثم وجاه دار يزيد دار أويس بن سعد بن أبي سرح العامري. قال ابن شبة في هذه الدار: أخبرت أنها كانت لمطيع بن الأسود فناقل بها العباس إلى الدار التي بالبلاط يقال لها دار مطيع، وزاده عشرة آلاف درهم، ثم باعها العباس من عبد الله بن سعد بن أبي سرح بثلاثين ألف درهم، فسكنها بنو أخيه؛ فهي الدار التي يقال لها دار أويس عند دار يزيد بن عبد الملك بالبلاط، وقد سمعنا من يذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقطع مطيعا داره تلك، فالله أعلم أي ذلك كان. قلت: وموضع دار أويس اليوم المدرسة الباسطية التي أنشأها القاضي عبد الباسط سنة بضع وأربعين وثمانمائة، وما في شرقيها من مؤخر المدرسة المعروفة اليوم بالحصن العتيق المتقدم ذكرها، فذلك كله يواجه دار يزيد المذكورة، ويفصل بينهما بلاط باب السلام. دار مطيع بن الأسود قالا: ثم إلى جنب دار أويس- أي في المغرب- دار مطيع بن الأسود العدوي، أي المتقدم ذكر قصتها وأنها كانت للعباس رضي الله تعالى عنه، قال ابن شبة: أي: المتقدم ذكر قصتها وأنها كانت للعباس رضي الله تعالى عنه، قال ابن شبة: ويقال لها دار أبي مطيع، وعندها أصحاب الفاكهة، وزاد في قصتها أنه بلغه أيضا أن حكيم بن حزام ابتاعها هي وداره التي من ورائها بمائة ألف درهم، فشركه ابن مطيع، فقاومه حكيم، فأخذ ابن مطيع داره بالثمن كله وبقيت دار حكيم في يده ربحا، فقيل لحكيم: خدعك، فقال: دار بدار ومائة ألف درهم، وكان يقال لدار أبي مطيع العنقاء، قال لها الشاعر: إلى العنقاء دار أبي مطيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وبين يدي دار أبي مطيع أبيات ليزيد بن عبد الملك فيها الغسالون، يقال: إن يزيد كان ساوم آل مطيع بدارهم، فأبوا أن يبيعوها، فأحدث عليهم تلك البيوت، فسدّ وجه دارهم، فهي تدعى أبيات الضّرار، وهي مما صار للخيزران. قلت: وموضع دار أبي مطيع اليوم الدار التي في غربي المدرسة الباسطية التي اشتراها وكيل الخواجا ابن الزمن، وفي غربيها سوق المدينة اليوم، وهو من البلاط، وموضعه عندها هو المراد بقول ابن شبة: وعندها أصحاب الفاكهة، فكأن الفاكهة كانت تباع فيه حينئذ. دار حكيم بن حزام وأما دار حكيم التي ذكر أنها من ورائها فمحلها اليوم الدار التي في شامي هذه الدور التي عندها درج العين بالسوق المذكور، قال ابن شبة في دور بني أسد: واتخذ حكيم بن حزام داره الشارعة على البلاط إلى جنب دار مطيع بن الأسود، بينها وبين دار معاوية بن أبي سفيان، يحجز بينها وبين دار معاوية الطريق، ومراده بالبلاط الموضع الذي به سوق المدينة اليوم أمام المدرسة الزمنية الممتد منها إلى الشام. وقوله «يحجز بينها- أي: دار حكيم ودار مطيع- وبين دار معاوية الطريق» أي: البلاط المذكور؛ فالظاهر: أن دار معاوية هذه هي المقابلة لها بين الدارين في المغرب، وهناك في مقابلتها اليوم رباط جدد أنشأه الفخر ناظر الجيوش بمصر سنة تسع عشرة وسبعمائة بابه شارع في سوق المدينة اليوم ودار خربة. وقال ابن شبة أيضا في دور بني عدي بن كعب: اتخذ النعمان بن عدي داره التي صارت لمحمد بن خالد بن برمك وبناها، وفي الشارعة عند الخياطين بالبلاط عند أصحاب الفاكهة ابتاعها من آل النحام وآل أبي جهم، وكانت صارت لهم مواريث، انتهى. دار عبد الله بن مكمل ومحل هذه الدار إما الدار الخربة التي إلى جانب الرباط الشارع في السوق، أو المدرسة الزمنية، والله أعلم. ولنرجع إلى ذكر الدور المطيفة بالمسجد. قال ابن شبة: وفي غربي المسجد دار عبد الله بن مكمل الشارعة في رحبة القضاء، وهي مما يتشاءم به، وذلك مما نشأ عن بنائها. وقال في دور بني زهرة: كان عبد الرحمن بن عوف وهبها لابن مكمل، فباعها آله من المهدي؛ فهي بأيدي ولده اليوم خراب إلى جنب المسجد، أي قبل أن تبنى رحبة القضاء. قال: وهي التي يقولون: إن أهلها قالوا: يا رسول الله، اشتريناها ونحن جميع فتفرقنا، وأغنياء فافتقرنا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اتركوها فهي ذميمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وقال ابن زبالة: هي التي يجلس إلى ركحها «1» صاحب الشرط، وإليها أصحاب الفاكهة، وهم يهابون بناءها ويتشاءمون بها؛ فهي على حال ما اشتريت عليه. وقد ترجم في الموطأ لما يتقى من الشؤم، وروى فيه عن يحيى بن سعيد أن امرأة جاءت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقلّ العدد وذهب المال، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوها ذميمة» ورواه البزار بنحوه عن ابن عمر، إلا أنه قال فيه: إن قوما جاؤوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وزاد فيه: فقالوا: يا رسول الله كيف ندعها؟ قال: «بيعوها أو هبوها» . وقال البزار: أخطأ فيه صالح بن أبي الأخضر، والصواب أنه من مرسلات عبد الله بن شداد، وروى الطبراني نحوه عن سهل بن حارثة الأنصاري، وفيه يعقوب بن حميد بن كاسب وثقه ابن حبان وغيره وضعفه جماعة. قلت: وفي موضع دار ابن مكمل اليوم المدرسة المعروفة بالجوبانية من بابها إلى آخر رباطها الذي في غربيها، بل يؤخذ مما سبق عن ابن زبالة من جلوس أصحاب الفاكهة إليها أنها كانت تمتد إلى سوق الصواغين اليوم؛ لما تقدم من بيان أصحاب الفاكهة، ولما سيأتي في الدار التي بعدها. دار النحام وفي المغرب أيضا دار النحام العدوي. وعبارة ابن زبالة وابن شبة: وفي غربي المسجد دار ابن مكمل ودار النحام، الطريق بينهما قدر ستة أذرع. وقال ابن شبة في دور بني عدي: واتخذ النحام نعيم بن عبد الله داره التي بابها وجاه زاوية رحبة دار القضاء، وشرقيها الدار التي قبضت عن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك التي كانت بيت عاتكة بنت يزيد بن معاوية فهي بيد ولده على حوز الصدقة. قال: وأخبرني مخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حازها له قطيعة منه. قلت: ودار جعفر المذكورة هي المواجهة لباب الرحمة؛ فعلم بذلك أن دار النحام هذه كانت في مقابلة باب المدرسة الجوبانية المتقدم ذكرها في بيان رحبة القضاء عند ذكر باب زياد، وأن الطريق التي بين دار النحام ودار ابن مكمل هي البلاط الآخذ من باب الرحمة إلى السوق، وعلم بذلك أن رحبة القضاء كانت تمتد من جهة باب الرحمة إلى باب الجوبانية. دار جعفر بن يحيى ثم إلى جنب دار النحام دار جعفر بن يحيى التي دخل فيها بيت عاتكة بنت يزيد بن معاوية. وأطم حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه المسمى بفارع.   (1) الرّكح: الرّكن. والناحية والجانب. والساحة والفناء. (ج) أركاح وركوح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 قلت: وقد تقدم بيان محلها في باب الرحمة، وأنه اليوم هو البيت المواجه لباب الرحمة، وهو كان موضع بيت عاتكة، وما في شامية من المدرسة الكبرجية وهو موضع الأطم. دار نصير ثم إلى دار جعفر بن يحيى دار نصير صاحب المصلى، كانت بيتا لسكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم، ثم إلى جنبها الطريق إلى دار طلحة بن عبيد الله ستة أذرع. قلت: وقد تقدم في أبواب جهة المغرب أن في محل دار نصير اليوم الدار المعروفة بتميم الداري، والتي في شاميها إلى الطريق التي تدخل منها إلى دور القياشين التي صارت للخواجا قاوان، وهذه الطريق هي المرادة هنا، وتلك الدور هي دور طلحة بن عبيد الله، وفي شرقيها دار منيرة الآتي ذكرها. قال ابن شبة في دور بني تيم: واتخذ طلحة بن عبيد الله داره بين دار عبد الله بن جعفر التي صارت لمنيرة وبين دار عمر بن الزبير بن العوام، ففرقها ولده من بعده ثلاثة أدور، فصارت الدار الشرقية اللاصقة بدار منيرة ليحيى بن طلحة، وصارت التي تليها لعيسى بن طلحة، وصارت الآخرى لإبراهيم بن محمد بن طلحة. قلت: ودار عمر بن الزبير التي في غربي دار طلحة ملاصقة لدار عروة بن الزبير، قال ابن شبة: اتخذهما الزبير وتصدق بهما عليهما وعلى أعقابهما، وهما متلازقتان عند خوخة القوارير، انتهى. وفي نهاية الطريق إلى دور القياشين خوخة كانت شارعة في المغرب عند سوق العطارين، الظاهر أنها المراد بخوخة القوارير. دار منيرة مولاة أم موسى ثم إلى جنب الطريق إلى دور طلحة دار منيرة مولاة أم موسى، كانت لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب. قلت: وقد بينا محلها في أول أبواب المسجد من جهة المغرب، ويستفاد منه أنها كانت من طريق دور القياشين إلى ما يحاذي نهاية المسجد. ثم إلى جنبها خوخة آل يحيى بن طلحة. قلت: وهناك اليوم زقاق لطيف خلف الفرن المحاذي لقرب مؤخر المسجد من المغرب، يعرف بزقاق عانقيني، هو المراد بذلك؛ لأن بعض الدور التي فيه يسلك منها إلى دور القياشين التي هي دور طلحة. حش طلحة ثم إلى جنب خوخة آل يحيى بن طلحة بن أبي طلحة الأنصاري وهو اليوم خراب صوافي عن آل ابن برمك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 قلت: والظاهر أن في محله اليوم الفرن المتقدم ذكره وما حوله. وقد قدمنا في زيادة المهدي ما ذكره ابن شبة في إدخاله صدر دار آل شرحبيل بن حسنة التي كانت لأم حبيبة رضي الله تعالى عنها في مؤخر المسجد. قال ابن شبة عقب ذلك: ثم باعوا بقيتها من يحيى بن خالد بن برمك فهدمها حين هدم حش طلحة، ثم صارت براحا في الصوافي، ثم بنى في موضعها الناس بأكثر من أصحاب الصوافي؛ فعلم بذلك أن حش طلحة كان ينعطف على المسجد من جهة الشام، وسيأتي في ذكر البلاط ما يصرح بذلك، والظاهر أن بقية دار شرحبيل من الحش المذكور هو ما حاذى الميضأة التي في شامي المسجد من المغرب، بدليل ما سيأتي، والله أعلم. ثم إلى جنب حش طلحة الطريق خمسة أذرع. قلت: وهذه الطريق هي التي في شامي الميضأة المتقدم ذكرها، يتوصل منها إلى رباط الشيخ شمس الدين الششتري. أبيات خالصة ثم إلى جنب الطريق أبيات خالصة مولاة أمير المؤمنين، وهي دار حباب مولى عتبة بن غزوان. قلت: وفي موضعها اليوم دار أحد رئيسي مؤذني المسجد، وما يليها من المارستان الذي أنشأه المنتصر بالله، وما يليه من رباط الظاهرية، كما تقدم في ذكر أبواب المسجد. دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف ثم إلى جنب أبيات خالصة دار أبي الغيث بن المغيرة بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، وهي صدقة. وذكر ابن شبة في دور بني زهرة أن من دور عبد الرحمن بن عوف التي اتخذها الدار التي يقال لها الدار الكبرى دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف بحش طلحة. قال: وإنما سميت الدار الكبرى لأنها أول دار بناها أحد من المهاجرين بالمدينة، وكان عبد الرحمن ينزل فيها ضيفان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكانت أيضا تسمى دار الضيفان، فسرق فيها بعض الضيفان، فشكا ذلك عبد الرحمن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد بنى فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده فيما زعم الأعرج، وهي بيد بعض ولد عبد الرحمن بن عوف. قلت: وهي غير دار عبد الرحمن بن عوف المعروفة بدار مليكة التي تقدم أنها دخلت في المسجد. وفي شامي المسجد اليوم مما يلي الشرق دار تعرف بدار المضيف، فلعل تسميتها بذلك لكونها في موضع دار الضيفان المذكورة، لكن ذكر الدار الآتية بعدها قبل جهة المشرق يبعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 ذلك، فكأن الجانب الغربي من دار المضيف وما حوله في المغرب من الساباط وبعض رباط الظاهرية في موضع الدار المذكورة. ثم إلى جنب دار أبي الغيث بقية دار عبد الله بن مسعود، كانت لجعفر بن يحيى، وقد قبضت صافية عنه. قلت: قد قدمنا أنها كانت تدعى دار القراء، وأن بعضها دخل في زيادة الوليد، وبقيتها في زيادة المهدي، فكأن المراد بعض بقيتها، بدليل ما هنا، ومع ذلك فأنا أستبعد أن يبقى منها بقية في جهة الشام، سيما إذا كان المهدي قد زاد مائة ذراع. ثم يضاف لذلك ما زاده الوليد منها، وعرض الرحبة التي في شامي المسجد، وأيّ دار يكون طولها هذا المقدار فضلا عن أن يبقى بعد ذلك منها بقية؟ وموضع ما وصفوه اليوم هو ما يلي المشرق من الدار المعروفة بدار المضيف المتقدم ذكرها، والله أعلم. دار موسى المخزومي قال ابن زبالة وابن شبة: ثم من المشرق دار موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، كان ابتاعها هو وعبيد الله بن حسين بن علي بن حسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، فتقاوماها، فظن عبيد الله أن موسى لا يريد إلا الربح، فأسلمها عبيد الله فصارت لموسى. قلت: وظاهر ذلك أن الدار المذكورة أول جهة المشرق مما يلي الشام، وفي موضعها اليوم- كما قدمناه في ذكر أبواب المسجد- بيت بعض رئيسي المؤذنين الذي يلي دار المضيف، وما يليه من الميضأة المعطلة اليوم، وبين ذلك وبين دار المضيف زقاق يعرف بخرق الجمل يتصل إلى الدور الملاصقة لسور المدينة، ولعله المعروف قديما بزقاق جمل؛ فإن ابن شبة ذكر أن فاطمة بنت قيس اتخذت دارا بين دار أنس بن مالك وبين زقاق جمل، ودار أنس بن مالك ذكر أنها في بني جديلة، وهي في شامي سور المدينة. ثم إلى جنب دار موسى أبيات قهطم دار موسى ودار عمرو بن العاص، وهي- يعني دار عمرو- صدقة من عمرو، وهي اليوم صوافي: أي أبيات قهطم، هذه عبارة ابن شبة. وعبارة ابن زبالة «وإلى جنبها أبيات فيها قهطم، وهو صوافي» . والطريق بين دار موسى بن إبراهيم وبين دار عمرو بن العاص السهمي، وهي اليوم لهم صدقة. أبيات الصوافي قلت: وأبيات قهطم هي التي سماها ابن زبالة في ذكر الكتابة على أبواب المسجد أبيات الصوافي، وسمى الطريق التي ذكرها هنا بزقاق المناصع، لكن كلام ابن شبة يقتضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 كون أبيات قهطم المذكورة بين دار موسى وبين دار عمرو بن العاص؛ فتكون الطريق المذكورة بين أبيات قهطم وبين دار عمرو بن العاص، فلنحمل كلام ابن زبالة على ذلك، ويكون قوله «والطريق بين دار موسى» يعني وما يليها من أبيات قهطم وبين دار عمرو بن العاص. دار خالد بن الوليد وقد قدمنا أن في محل أبيات الصوافي رباط الفاضل والدار المعروفة بدار الرسام وقف السلامي والباب الذي يدخل منه إلى رباط السلامي، وموضع دار عمرو بن العاص اليوم مؤخر رباط السبيل الذي يسكنه الرجال، وهو مما يلي الشام منه، والطريق التي بينه وبين رباط الفاضل هي زقاق المناصع، وليست اليوم نافذة كما تقدم؛ ويؤخذ مما قدمناه في زيادة المهدي أنه كان عندها رحبة تسمى برحبة المشارب، والله أعلم. ثم إلى جنب دار عمر ودار خالد بن الوليد. قال ابن شبة وابن زبالة: وهي بيد بني أتوب بن سلمة- يعني ابن عبد الله بن الوليد بن المغيرة- زاد ابن زبالة: أن أيوب بن سلمة اختصم فيها هو وإسماعيل بن الوليد بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة، يقول أيوب: هي ميراث وأنا أرثها دونكم بالقعد، أي لأنه أقرب عصوبة، ويقول إسماعيل: هي صدقة، أي فيدخل فيها القريب وإن بعد، فأعطيها أيوب ميراثا بالقعد، انتهى. وهذا لأن أيوب المذكور كما ذكر ابن حزم وارث آخر من بقي من ولد خالد بن الوليد، قال: لانقراض ولد عمه خالد بن الوليد كلهم. قال: وكان قد كثر ولد خالد بن الوليد حتى بلغوا نحو أربعين رجلا، وكانوا كلهم بالشام، ثم انقرضوا كلهم في طاعون وقع فلم يبق لأحد منهم عقب، انتهى. وروى ابن زبالة عن يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: شكا خالد بن الوليد ضيق منزله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «ارفع البناء في السماء وسل الله السّعة» ورواه ابن شبة، إلا أنه قال: فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اتسع في السماء» وذكر من رواية الواقدي أن خالد بن الوليد حبس داره بالمدينة لا تباع ولا توهب. قلت: وفي موضعها اليوم مقدم رباط السبيل المتقدم ذكره، وذلك يدل على صغرها، بخلاف غيرها من الدور، ولذلك شكا ضيقها، والله سبحانه وتعالى أعلم. دار أسماء بنت حسين ثم إلى جنبها دار أسماء بنت الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكانت من دار جبلة بن عمر الساعدي. قلت: وقد قدمنا ذكر حالها، وبيان محلها، في خامس أبواب المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 دار ريطة ثم إلى جنبها دار ريطة بنت أبي العباس، وكانت من دار جبلة ودار أبي بكر الصديق، قاله ابن زبالة. قلت: مراده أنه أدخل في دار ريطة من شرقيها ما يليها من دار أبي بكر الصديق [لا] أن دار أبي بكر كانت على سمتها في محاذاة المسجد، كما توهمه المطري فجعل دار ريطة هي دار أبي بكر، وأنها المدرسة المقابلة لباب النساء كما قدمناه عنه، والصواب أن دار أبي بكر كانت خلف المدرسة المذكورة في جهة المشرق؛ لأن ابن شبة قال في دور بني تيم: اتخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه دارا في زقاق البقيع قبالة دار عثمان رضي الله عنه الصغرى، وذكر أن دار عثمان الصغرى هي التي بنحو زقاق البقيع إلى جنب دار آل حزم الأنصاريين. وذكر في خبر مقتل عثمان رضي الله عنه ما يقتضي أن هذه الدار الصغرى كانت متصلة بداره الكبرى الآتي ذكرها، وأن قتلته تسوّروا ودخلوا عليه منها. وفي موضعها اليوم الرباط المعروف برباط المغاربة، ويعرف برباط سيدنا عثمان؛ فعلم بذلك أن دار أبي بكر كانت في مقابلة ذلك من جهة الشام؛ فتكون في محل الدور التي في شرقي المدرسة المذكورة إلى ما يحاذي الرباط المذكور، ولا يبعد أن يكون بعضها دخل في المدرسة المذكور، ودار أبي بكر هذه هي المرادة بما رواه ابن سعد في طبقاته عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه مرض مرضه الذي مات فيه وهو نازل يومئذ في داره التي قطع له النبي صلّى الله عليه وسلّم وجاه دار عثمان بن عفان ، أي الصغرى، والله أعلم. دار عثمان بن عفان ثم الطريق بين دار ريطة وبين دار عثمان- يعني العظمى- خمسة أذرع، قاله ابن زبالة وابن شبة. ونقل المطري عن ابن زبالة أن الطريق بينهما سبعة أذرع، والذي ذكره ابن زبالة ما قدمناه، وهي اليوم نحو ذلك، ويعرف بطريق البقيع. ثم دار عثمان رضي الله عنه. وروى ابن سعد في طبقاته عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: لما أقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدور بالمدينة خطّ لعثمان بن عفان داره اليوم، ويقال: إن الخوخة التي في دار عثمان اليوم وجاه باب النبي صلّى الله عليه وسلّم التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج منها إذا دخل بيت عثمان، هذا لفظ ابن سعد. قلت: وهذه الدار هي التي عبر عنها ابن شبة بقوله «واتخذ عثمان رضي الله عنه داره العظمى التي عند موضع الجنائز فتصدق بها على ولده فهي بأيديهم صدقة» وقد قدمنا أن في محلها اليوم رباط الأصفهاني وتربة أسد الدين شير كوه عم السلطان صلاح الدين بن أيوب ومعه فيها والد صلاح الدين أيضا، والدار التي يسكنها مشايخ الخدام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 دار أبي أيوب الأنصاري ثم بعد دار عثمان في القبلة الطريق خمسة أذرع، أو نحو ذلك، ثم منزل أبي أيوب الأنصاري الذي نزله النبي صلّى الله عليه وسلّم، وابتاعه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وجعل فيه ماءه الذي يسقى في المسجد. قلت: قد قدمنا في الفصل الرابع عشر من الباب الثالث شرح حال هذه الدار، وأن الملك المظفر شهاب الدين غازي اشترى عرصتها وبناها مدرسة ووقفها على المذاهب الأربعة. دار جعفر الصادق ثم إلى جنب منزل أبي أيوب دار جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم التي يسقى فيها الماء، التي تصدق بها جعفر، وكانت لحارثة بن النعمان الأنصاري. قلت: في موضعها اليوم العرصة الكبيرة التي في قبلة المدرسة الشهابية، وفيها محراب قبلة مسجد جعفر الصادق وأثر محاريب، وهي الآن ملك الأشراف المنايفة، ثم انتقلت منهم للشجاعي شاهين الجمالي شيخ الحرم، ابتناها مسكنا له. دار حسن بن زيد وقبالتها- أي: في المغرب- دار حسن بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وهو أطم كان حسن ابتاعه فخاصمه فيه أبو عوف النجاري، فهدمه حسن، فجعله دارا. قلت: وهو الأطم الذي يدعى بفويرع، وفي موضع هذه الدار اليوم بيت الأشراف المنايفة الذي عليه ساباط متصل بالمدرسة الشهابية، والبيت الذي في قبلته وما في غربيها إلى دار القضاة بني صالح. دار فرج الخصي والطريق خمسة أذرع بينها- أي: بين دار حسن المذكورة- وبين دار فرج الخصي أبي مسلم مولى أمير المؤمنين، وكانت دار فرج من دور إبراهيم بن هشام، وهي قبلة الجنائز، كان فيها سرب تحت الأرض يسلكه إبراهيم إلى داره دار التماثيل التي كان ينزل بها يحيى بن حسين بن زيد بن علي. قلت: أما الطريق المذكورة فهي الآخذة من باب المدرسة الشهابية إلى بيت بني صالح، ودار فرج المذكورة هي الرباط المعروف برباط مراغة، والطريق المذكورة بينه وبين دار المنايفة، وأما دار التماثيل التي كان يتوصل إليها ابن هشام بالسرب المذكور فلم يبينها ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 زبالة ولا ابن شبة، غير أنه كان شخص شرع في عمارة الميضأة التي بباب السلام المتقدم ذكرها في دار مروان فوجد سربا تحت الأرض مقبوا عند ركنها القبلي مما يلي المغرب، وعنده باب الخربة المعروفة بدار الخرازين، وشرعوا في عمارتها- أي دار الخرازين- بدلا من رباط الحصن العتيق. وقد دخلتها قبل هدمها، فرأيت فيها صناعات غريبة في البناء من صناعات الأقدمين، فترجّح عندي بقرينة وجود السرب عندها ووجود ذلك بها أنها المرادة بدار التماثيل، والله أعلم. دار عامر بن الزبير بن العوام ثم إلى جنب دار فرج الخصي دار عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام، وكان ابن هشام- حين بنى داره- أخذ بعض حق عامر، فقال له عامر: فأين طريقي؟ قال: في النار، قال عامر: تلك طريق الظالمين. قلت: وموضعها اليوم البيت الموقوف الذي بيد الخدام، وهو عن يسار الخارج من خوخة آل عمر، ويسمونه اليوم بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم. ثم ترجع إلى دار عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه من حيث ابتدأت. قلت: وذكر ابن شبة في دور بني هاشم أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه اتخذ الدار التي صارت لآل فرافصة الحنفيين ولآل وردان دبر زقاق عاصم بن عمر، اه. وقد تقدم في ذكر سدّ الأبواب إلا ما استثنى ما يقتضي أن حمزة رضي الله تعالى عنه كان له طريق إلى المسجد، وتقدم بيان زقاق عاصم؛ فتحصل من ذلك أن دار حمزة رضي الله تعالى عنه كانت في قبلة المسجد، وهي غير معلومة المحل، والله أعلم. الفصل الخامس والثلاثون في البلاط، وبيان ما ظهر لنا مما كان حوله من منازل المهاجرين تحديد مكان البلاط وقد بوّب البخاري في صحيحه لمن عقل بعيره على البلاط أو باب المسجد، وأورد فيه حديث جابر قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، فدخلت إليه، وعقلت الجمل في ناحية البلاط، وبوب أيضا للرجم بالبلاط، وأورد فيه حديث اليهوديين اللذين زنيا، قال ابن عمر: فرجما عند البلاط. وفي رواية لابن عمر: فرجما قريبا من موضع الجنائز. وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجم اليهوديين عند باب المسجد. وفي الحديث أن عثمان رضي الله تعالى عنه أتى بماء فتوضأ بالبلاط. وهذا كله مقتض لأن البلاط كان قديما قبل ولاية معاوية رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وفيما قدمناه ما يبين أنه كان في شرقي المسجد في ناحية موضع الجنائز، وظاهر كلام ابن زبالة وابن شبة أن أول حدوثه في زمن معاوية رضي الله عنه؛ فإنهما رويا عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله قال: بلّط مروان بن الحكم البلاط بأمر معاوية رضي الله عنه، وكان مروان بلط ممر أبيه الحكم إلى المسجد، وكان قد أسن وأصابته ريح، فكان يجر رجليه فتمتلئان ترابا، فبلطه مروان بذلك السبب، فأمره معاوية بتبليط ما سوى ذلك مما قارب المسجد ففعل، وأراد أن يبلط بقيع الزبير فحال ابن الزبير بينه وبين ذلك، وقال: تريد أن تنسخ اسم الزبير، ويقال: بلاط معاوية؟ قال: فأمضى مروان البلاط، فلما حاذى دار عثمان بن عبيد الله ترك الرحبة التي بين يدي داره فقال له عبد الرحمن بن عثمان: لئن لم تبلّطها لأدخيلنها في داري، فبلطها مروان. واقتصر عياض في بيان البلاط على ما في غربي المسجد منه، فقال: البلاط موضع مبلط بالحجارة بين المسجد والسوق بالمدينة، انتهى. وقد تبع في ذلك أبا عبيد البكري، وفيه نظر؛ لأن مقتضى الأحاديث المتقدمة إرادة ما في شرقي المسجد منه، ومع ذلك فهو في شرقي المسجد وغربيه والشام. وقال ابن شبة: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا من يوثق به من أهل العلم أن الذي بلط حوالي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أمر بذلك مروان بن الحكم، وولي عمله عبد الملك بن مروان، وبلط ما حول دار عثمان بن عفان الشارعة على موضع الجنائز. حدود البلاط وحدّ ذلك البلاط الغربي: ما بين المسجد إلى خاتم الزوراء عند دار العباس بن عبد المطلب بالسوق. وحده الشرقي إلى دار المغيرة بن شعبة رضي الله عنه التي في طريق البقيع من المسجد. وحده اليماني إلى حد زاوية دار عثمان بن عفان الشارعة على موضع الجنائز. وحده الشامي وجه حش طلحة خلف المسجد، وهو في المغرب أيضا إلى حد دار إبراهيم ابن هشام الشارعة على المصلي. وللبلاط أسراب ثلاثة تصب فيها مياه المطر؛ فواحد بالمصلى عند دار إبراهيم بن هشام، وآخر على باب الزوراء عند دار العباس بن عبد المطلب بالسوق، ثم يخرج ذلك الماء إلى ربيع في الجبانة عند الحطابين، وآخر عند دار أنس بن مالك في بني جديلة عند دار بنت الحارث، اه. ويؤخذ من ذلك أن البلاط كان من المغرب فيما بين المسجد وبين الدور المطيفة به. ويمتد البلاط الآخر من باب الرحمة إلى أن يصل إلى الصواغ وسوق العطارين اليوم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 ويستمر كذلك إلى حد سوق المدينة الأول عند أحجار الزيت ومشهد مالك بن سنان؛ فهناك خاتم الزوراء عند دار العباس، وهو خاتم البلاط، وذلك ما بين مشهد مالك بن سنان والدور المواجهة له كما سنبينه في ذكر سوق المدينة، وهو موجود اليوم في تلك الجهة. ويمتد أيضا البلاط الآخذ من باب السلام إلى أن يصل إلى المدرسة الزمنية، وينعطف لجهة الشام حتى يتصل بالبلاط الممتد من باب الرحمة لجهة سوق الصواغ والعطارين، وهذا الجانب منه هو الذي تقدمت الإشارة إليه بأن عنده أصحاب الفاكهة. وفي طبقات ابن سعد عن محمد بن عمرو في دار حكيم بن حزام المتقدم ذكرها فيه أنها عند بلاط الفاكهة عند زقاق الصواغين، انتهى. ثم يمتد البلاط الآخذ من باب السلام في الاستقامة من المدرسة الزمنية فيمر بالموضع المعروف اليوم بسويقة، فيجاوز باب المدينة المعروف بباب سويقة حتى يصل إلى المصلى، وهذا معنى قوله «وهو في المغرب أيضا إلى حد دار إبراهيم بن هشام الشارعة على المصلى» . وهذه الناحية من البلاط الغربي هي المسماة بخط البلاط الأعظم، وما كان عن يمين الماشي في هذا البلاط قاصدا باب السلام فهو الذي يعبر عنه بميمنة البلاط الأعظم، وما كان عن يساره فهو الذي يعبر عنه بميسرة البلاط الأعظم. وأما البلاط الشرقي فحده من القبلة ظاهر عند زاوية الدار التي يسكنها مشايخ الخدام من دار عثمان وزاوية رباط مراغة. ومن المشرق يمتد في زقاق البقيع إلى خارج باب رباط المغاربة عند ما يعطف من آخر الدور التي قدمنا أنها في محل دار أبي بكر رضي الله عنه المقابلة لرباط المغاربة، ولعل دار المغيرة بن شعبة هي التي تواجهك حين تعطف هناك، ثم تكون على يسارك وأنت ذاهب إلى البقيع في مقابلة الرباط المعروف برباط الصادر والوارد، ولعل البلاط كان متصلا بها. وقد قال ابن شبة في دور بني عبد شمس: إن عثمان رضي الله تعالى عنه اتخذ أيضا دار المغيرة بن شعبة التي بالبقيع فعارض المغيرة إلى دار عثمان بن عفان التي يقال لها دار عمرو ابن عثمان التي بين دار المغيرة بن شعبة اليوم وبين دار زيد بن ثابت من الأنصار، انتهى. فدار المغيرة التي ناقل بها عثمان ليست المرادة؛ لأنه قال فيها «إنها بالبقيع» وذكر في هذه التي حدد بها البلاط أنها بزقاق البقيع. وأيضا قد قدمنا قول محمد بن عقيل في خبره في سقوط جدار الحجرة «حتى إذا كنت عند دار المغيرة بن شعبة لقيتني رائحة لا والله ما وجدت مثلها قط» فإنه يدل على قرب دار المغيرة من المسجد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وأيضا فمن الشائع بين الناس اليوم نسبتهم إلى عثمان رضي الله تعالى عنه الدار التي في شرقي الدار التي قلنا لعلها دار المغيرة بينها وبينها ساباط، ولعلها التي كانت لعثمان وناقل بها المغيرة إلى داره التي بالبقيع، وقد قال في وصفها «إنها بين دار المغيرة اليوم ودار زيد بن ثابت» فتكون دار زيد بن ثابت هي التي تلي ذلك في المشرق أيضا على يسار الذاهب إلى البقيع، وما عن يمينه مما يلي رباط المغاربة دور آل حزم من الأنصار. وقد قال ابن شبة: إن عتبة بن غزوان حليف بني نوفل بن عبد مناف اتخذ داره التي بالبقيع إلى شرقي دور آل حزم الأنصار؛ فتكون على يمين الذاهب إلى البقيع بعد دور آل حزم. فأما البلاط الشامي فمحله ظاهر بين المسجد والدور التي قدمناها في شاميه، لكن حدث فيه دور لاصقة بالمسجد بعد سد الأبواب التي في تلك الجهة كما قدمناه. وأما ما ذكره ابن شبة من أن الماء الذي يصب في السرب الذي بالمصلى والسرب الذي عند دار العباس يخرج إلى ربيع في الجبانة عند الحطابين فالمراد أنه يخرج إلى الربيع المذكور في شامي سوق المدينة عند سوق الحطابين قرب ثنية الوداع، لما سيأتي في ترجمة الجبانة. وقوله «إن السرب الآخر عند دار أنس بن مالك في بني جديلة عند دار بنت الحارث» فأما دار أنس فلم يتحرر لي معرفتها، غير أنه سيأتي في بئره- وكانت في داره- ما ترجح عندنا في محلها؛ فيؤخذ منه أن داره كانت عند البئر المعروفة اليوم بالرباطين خلف الحديقة المعروفة بالرومية في شامي سور المدينة. وأما دار بنت الحارث فلم أعلم محلها، وعلى ما ذكرناه في دار أنس تكون في محل الحديقة المعروفة بالرومية أو ما حولها. ودار بنت الحارث هذه لها ذكر في أماكن كثيرة، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم ينزل بها الوفود، وجعل بها أسرى بني قريظة حتى خندق لهم الخنادق بالسوق وقتلوا. وروى ابن زبالة عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى نفر من أصحابه من قريش والأنصار وهم في دار بنت الحارث، فلما رأوه أوسعوا له- الحديث. وبنت الحارث: اسمها رملة. وهذه الأسراب الثلاثة لا يعرف منها شيء اليوم. وقد علا الكبس على كثير من البلاط، ولم يبق ظاهرا منه إلا ما حول المسجد النبوي وشيء من جهة بيوت الأشراف ولاة المدينة. وله بلاليع يجتمع الماء فيها، فإذا كثرت الأمطار تجتمع حول المسجد لامتلاء تلك البلاليع، فيصير أمام أبواب المسجد كالغدران الكبار، خصوصا في شرقي المسجد، فحفر الشمس بن الزمن متولي العمارة الشريفة البلّاعة التي في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 شرقي المسجد وتتبع ما حولها، فوجد سربا تحت الأرض آخذا من شرقي المسجد إلى جهة زقاق المناصع، وتتبعه حتى وصل إلى الحوش المعروف اليوم بحوش الحسن، فوجد الناس قد بنوا هناك، ولم يتمكنوا من تتبعه إلا بهدم الأبنية فتركوه، وهذا هو السرب الذي تقدم أنه كان يخرج عند دار أنس بن مالك في بني جديلة. ثم إن متولي العمارة حفر سربا لتلك البلاليع التي عند أبواب المسجد، وأوصلها بالسرب الذي يسير فيه وسخ العين؛ فحصل بذلك غاية النفع، وصار الماء لا يقف بعد ذلك بأبواب المسجد، ووجد البلاط الأول على أكثر من نصف قامة من الأرض فيما يلي الصاغة وسوق العطارين، وكذا في شامي المسجد. وأما الدور المطيفة بالبلاط الأعظم- وهو الآخذ من باب السلام إلى المصلى- ففي قبلة منازل بني زريق، وسيأتي من كلام ابن شبة نقلا عن أبي غسان أن ذرع ما بين مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي عنده دار مروان وبين المسجد الذي يصلي فيه العيد بالمصلى ألف ذراع، وقد ذرعناه فكان كذلك، لكن الذي يظهر أن البلاط لم يكن متصلا بمسجد المصلى؛ لأنه ذكر أن نهايته دار ابن هشام، ولم تكن الدور متصلة بنفس المسجد. بيان الدور المطيفة بالبلاط فأول الدور المطيفة بهذا البلاط مما يلي المصلى في ميسرته دار إبراهيم بن هشام المخزومي. وفي ميمنته في قبلتها جانحا إلى المغرب دار سعد بن أبي وقاص، والطريق بينهما. ودار سعد هذه قال ابن شبة: إنها هي التي في دبر دار جبى، ولها فيها طريق مسلمة. قال: وسمعت من يقول: كانتا دارا واحدة لسعد، وإن عمر بن الخطاب كان قاسمه إياها، وكانت دار جبى قسيمة هذه الدار حين قاسمه ماله مقدم سعد من العراق، فاشترى دار جبى عثمان بن عفان، ثم صارت لعمرو بن عثمان، وكانت جبى أرضعت عمرا فوهبها لها، فكانت بيدها، حتى سمعت نقيضا في سقف بيتها فقالت لجاريتها: ما هذا؟ قالت: السقف يسبح، قالت: ما سبح شيء قط إلا سجد! فخرجت، فاضطربت خباء بالمصلى، ثم باعت الدار من بعض ولد عمر بن الخطاب. قال: وسمعت من يقول: إن عثمان نفسه أقطعها إياها. ثم يليها في ميمنة البلاط المذكور دار لسعد بن أبي وقاص أيضا، وكانت لأبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فناقله أبو رافع إلى داريه بالبقال، وكانتا دارا لسعد. وفي ميسرة البلاط في مقابلة هذه الدار دار لسعد أيضا، والطريق بينهما عشرة أذرع، ودور سعد صدقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وقد ذكر ابن شبة كتاب وقفها. وبقي من دوره دار أخرى قال ابن شبة: واتخذ سعد أيضا دارا بالمصلى، بين دار عبد الحميد بن عبيد الكناني وبين الزقاق الذي يسلك في بني كعب عند الحمارين، وفتح في طائفة من أدنى داره بابا في الزقاق، حتى صارت كأنها داران. قلت: وسيأتي ذكر منازل بني كعب، وذكر الحمارين، ويعلم من مجموع ذلك أن زقاق الحمارين كان في قبلة البيوت التي بالمصلى والبيوت التي في قبلة البلاط ببين زريق. ثم يلي دار سعد التي كانت لأبي رافع في ميمنة البلاط المذكور دار آل خراش من بني عامر ابن لؤي، وتعرف بدار نوفل بن مساحق بن عمرو العامري وفي دبرها من جهة القبلة كتّاب عروة رجل من اليمن، كان يعلم. وفي كتاب عروة مسجد بني زريق، وعنده دار رفاعة بن رافع. ودار آل خراش هذه هي التي عناها ابن شبة بقوله: وقال- يعني أبا غسان-: وحدثني عبد العزيز أن رافع بن مالك الزرقي قتل بأحد فدفن في بني زريق، قال: وقيل: إن موضع قبره اليوم في دار آل نوفل بن مساحق التي في بني زريق في كتاب عروة، وصارت للعباس بن محمد. ثم يلي دار آل خراش في الميمنة أيضا دار الربيع التي يقال لها دار حفصة، وهي مولاة لمعاوية بن أبي سفيان، كانت تسكنها فنسبت إليها قبل، وكانت هذه الدار قطيعة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعثمان بن أبي العاص الثقفي، فابتاعها من ولده معاوية بن أبي سفيان وكانت معها لعثمان أيضا دار آل خراش المتقدمة إلى جنبها، ويقال: إنه ابتناها في قطيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم إياه أيضا. وفي الميسرة في شامي الدارين المذكورين مقابلا لهما دار نافع بن عتبة بن أبي وقاص التي ابتاعها الربيع مولى أمير المؤمنين من ولد نافع، وتعرف أيضا بدار الربيع. وفي دبر الدار المتقدمة التي يقال لها دار حفصة من القبلة دار عبد بن زمعة، قال ابن شبة: واتخذ عبد بن زمعة داره التي في كتاب عروة إلى حدها الشامي، فتكون دار حفصة بينها وبين البلاط بابها لازق في كتاب عروة، أي في غربيها. وفي قبلة دار عبد بن زمعة دار ابن مشنو، قال ابن شبة أيضا: واتخذ عبد الرحمن بن مشنو داره التي في كتاب عروة حدها من الشام دار عبد بن زمعة، وحدّها من المشرق كتاب إسحاق الأعرج بابها لاصق في كتاب عروة أي في غربيها أيضا، وهي صدقة منه. وفي قبلة دار ابن مشنو دار عمار بن ياسر فإنها حد دار ابن مشنو من القبلة، قال ابن شبة: واتخذ عمار ابن ياسر داره التي في بني زريق، وكانت من دور أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبابها وجاه دار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أي الذي في شرقيها، وكانت أم سلمة أعطته إياها، ولها خوخة شارعة في كتاب عروة أي في المغرب وهي خوخة عمار نفسه، انتهى؛ فهذه الدور الثلاثة مصطفة في القبلة خلف دار حفصة المذكورة، وخلف الدار الآتية بعدها، وبينهن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 المغرب كتاب عروة ومسجد بني زريق، ومن المشرق زقاق دار عبد الرحمن بن الحارث الآتي ذكره. وذكر ابن شبة ما حاصله أن دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي في بني زريق، فيما بين دار ابن أم كلاب الشارعة على المصلى إلى دار رفاعة بن رافع الأنصاري قبالة مسجد بني زريق. ثم يلي دار الربيع التي يقال لها دار حفصة في ميمنة البلاط دار أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. ثم يليها في الميمنة أيضا زقاق دار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وداره هي التي تقدم أنها تقابل دار عمار بن ياسر في الشرق، وبينها وبين البلاط الداران الآتي ذكرهما، وهذا الزقاق سيأتي له ذكر في رجوعه صلّى الله عليه وسلّم من صلاة العيد. وكذا دار أبي هريرة هذه، قال ابن شبة: اتخذ أبو هريرة الدوسي دارا بالبلاط بين الزقاق الذي فيه دار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وبين خط البلاط الأعظم، فباعها ولده من عمر بن بزيع. والذي ظهر لي بعد التأمل فيما ذكره ابن شبة في هذه الدور- بقرينة ما سنذكره إن شاء الله تعالى- أن زقاق عبد الرحمن بن الحارث هو أول زقاق يلقاك عن يمينك إذا دخلت من باب المدينة اليوم تريد المسجد، وظهر لي أيضا أن دار هشام والدار الثانية التي تليها في الميسرة وبعض الثالثة كنّ من خارج سور المدينة، وكذلك ما يقابل ذلك في الميمنة من داري سعد وبعض دار آل خراش. ثم يلي زقاق عبد الرحمن بن الحارث في ميمنة البلاط دار عبد الله بن عوف. ثم يليها في الميمنة زقاق أبي أمية بن المغيرة، قال ابن شبة في دور بني زهرة: واتخذ عبد الله بن عوف ابن عبد عوف دارا بالبلاط بين زقاق دار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وبين زقاق دار أبي أمية بن المغيرة، ويقال لها: دار طلحة بن عبد الله بن عوف؛ فهي صدقة بأيدي ولده إلا شيئا خرج منها صار لبكار بن عبد الله بن مصعب الزبيري. ويلي دار أبي أمية التي نسب إليها الزقاق المذكور في قبلتها دار الحويطب بن عبد العزى بينها وبين دار سعيد بن عمرو بن نفيل، وهما شارعتان في خط الحمارين الشارع إلى دار ابن عتبة ببني زريق شرقي دار أبي أمية، وفي شرقيها أيضا دار صهيب بن سنان، وكانت لأم سلمة رضي الله تعالى عنها، وكل هذه الدور في بني زريق. ولنرجع إلى جهة الميسرة فنقول: وفي الميسرة في مقابلة دار أبي هريرة وبعض التي قبلها دار حويطب بن عبد العزى، وهي غير داره السابقة، وتلك ليست في البلاط كما قدمناه، قال ابن شبة في دور بني عامر بن لؤي: واتخذ حويطب بن عبد العزى داره التي بين دار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 عامر ابن أبي وقاص وعتبة بن أبي وقاص، بالبلاط منها البيت الشارع على خاتمة البلاط بين الزقاق الذي إلى دار آمنة بنت سعد وبين دار الربيع مولى أمير المؤمنين، وهي صدقة منه على ولده، انتهى. ولم يذكر لعتبة بن أبي وقاص دارا بالمدينة. والذي انتقل إلى المدينة واتخذ بها الدار إنما هو ابنه نافع، وداره هي المتقدم ذكرها التي صارت للربيع؛ فهي المرادة. وقال في بيان دار عامر بن أبي وقاص الزهري: واتخذ عامر بن أبي وقاص داره التي في زقاق حلوة بين دار حويطب بن عبد العزى وبين خط الزقاق الذي فيه دار آمنة بنت سعد بن أبي سرح، انتهى. فيتلخص من ذلك أن دار حويطب المذكورة في شرقي دار الربيع المتقدمة في الميسرة وإلى جانبها خاتمة البلاط، وهو اليوم الزقاق الذي بين سور المدينة وبين البيوت المقابلة له ولمشهد سيدنا مالك بن سنان على يسارك عند ما تدخل من باب المدينة، وأن من دار حويطب بيتا خلفها من جهة جانبها الغربي شارعا على خاتمة البلاط المذكورة، وخلفه من جهة الشام الزقاق الذي فيه دار آمنة، وتكون دار عامر بن أبي وقاص خلف دار حويطب من جهة جانبها الشرقي، ويكون زقاق حلوة في شرقيهما، ولعله المعروف اليوم بزقاق الطول؛ لانطباق الوصف المذكور عليه، وسيأتي لزقاق حلوة ذكر في الآبار. ثم في الميسرة أيضا دار عبد الله بن مخرمة قال ابن شبة في دور بني عامر بن لؤي: اتخذ عبد الله بن مخرمة داره التي في البلاط الشارع بابها قبالة دار عبد الله بن عوف التي فيها بنو نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة، وخرج عنهم بعضها فهو في يد ورثة عمر بن بزيع مولى أمير المؤمنين. ولنرجع إلى جهة الميمنة فنقول: ثم إلى زقاق دار أبي أمية في الميمنة من شرقيه دار خالد بن سعيد الأكبر بن العاص التي يقال لها دار سعيد بن العاص الأصغر بن سعيد بن العاص، ويقال لها دار ابن عتبة، وإنما ورثها عبد الله بن عتبة عن عمه خالد بن سعيد. ويقابلها في الميسرة دار أم خالد التي لآل خالد بن الزبير بن العوام، ورثوها عن أمهم أم خالد بن سعيد بن العاص، وقيل: إنهما قطيعة من النبي صلّى الله عليه وسلّم. ثم يلي دار خالد بن سعيد في الميمنة دار أبي الجهم، ثم دار نوفل بن عدي، ثم دار آل المنكدر التّيمي. قال ابن شبة في دور بني عدي: واتخذ أبو الجهم داره التي بين دار سعيد بن العاص التي يقال لها دار ابن عتبة وبين دار نوفل بن عدي بابها شارع في البلاط. قلت: وهذه الدار هي المرادة بما رواه مالك في الموطأ عن عمه أبي سهل بن مالك بن أبي عامر عن أبيه: كنا نسمع قراءة عمر بن الخطاب ونحن عند دار أبي جهم بالبلاط، وكذا بما رواه البيهقي عن موسى بن عقبة أن رجال بني قريظة قتلوا عند دار أبي جهم التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 بالبلاط، ولم يكن يومئذ بلاط، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق. وقال ابن شبة في دور بني أسد: واتخذ نوفل بن عدي بن أبي حبيش دارين: إحداهما التي بالبلاط عند أصحاب الرباع بين دار المنكدر التيمي وبين دار آل أبي جهم العدويين، والدار الآخرى في بني زريق وجاه الكتاب الذي يقال له كتاب آل زيان بين منزل أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام الذي صار لبني عبيد بن عبد الله بن الزبير وبين حد الزقاق الذي عند الحمارين، دبرهما دار هانئ التي بأيدي آل جبر، انتهى. وهذه الأمور التي ذكرها في الدار الثانية حول ما خلف دار سعيد بن العاص المسماة دار ابن عتبة من جهة القبلة، والزقاق الذي ذكره هناك عند الحمارين يمتد في المغرب إلى المصلّى في قبلة دور سعد بن أبي وقاص. وقد ذكر ابن شبة أيضا أن دار رويشد الثقفي التي يقال لها القمقم في كتاب ابن زيان هي التي حرّقها عليه عمر بن الخطاب في الشراب، وكان رويشد حمارا، وفي غربي هذه الدار أدنى دار علي بن عبد الله بن أبي فروة، وشرقيها الطريق بينها وبين بيوت آل مصبح، ويمانيها دار الأويسيين التي لسكن خالد بن عبد الله الأويسي، وشاميها قبلة بيوت آل مصبح التي بينها وبين دار موسى بن عيسى، وبيوت آل مصبح ذكرها في دور بني عامر ابن لؤي فقال: واتخذ ابن أم مكتوم دارا هي البيوت التي للمصبحين بين دار آل زمعة بن الأسود وبين شرقي القمقم، انتهى. وهذه الأمور أيضا حول الدور المتقدمة في بني زريق. وقوله في دار نوفل الأولى وهي المقصودة لأنها التي في ميمنة البلاط وأنها عند أصحاب الرباع، لم أعلم المراد به، غير أن في طبقات ابن سعد أن دار حويطب بن عبد العزى المتقدم ذكرها في الميسرة عند أصحاب المصاحف، فإنه قال في ترجمته: وله دار بالبلاط عند أصحاب المصاحف، فلعل المراد بالرباع المصاحف؛ لأن المصحف يسمى ربعة؛ فيستفاد منه أن هذه الناحية من البلاط ميمنة وميسرة تسمى بذلك، لكن قال ابن شبة في دور العباس بن عبد المطلب ما لفظه: وقد سمعت من يذكر أن دار فضالة بن الحكم بن أبي العاص التي بالبلاط الخربة التي عند أصحاب الرباع على يمين من سلك إلى بني جديلة كانت مربدا للعباس رضي الله عنه، ويقال: إنها كانت مربدا لنعم الصدقة، انتهى. وهو يقتضي أن أصحاب الرباع ليسوا في البلاط الأعظم، لأنه ليس فيه مسلك إلى بني جديلة، وإنما يتوصل منه إلى بني جديلة بعد إتيان البلاط الآخر الذي هو موضع سوق المدينة اليوم عند درج العين، وقد تقدم أن ذلك يسمى بموضع الفاكهة، والله أعلم. هذا ما علمته من الدور التي بهذا البلاط، وفي الاقتصار عليها كفاية؛ لأن المقصود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 المهم لنا من ذلك ما يتعلق ببيان مسجد بني زريق، وبطريق النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذهابه إلى المصلى ورجوعه منها كما سيظهر لك. وأما البلاط الممتد في المغرب إلى سوق المدينة القديم فكان عند خاتمة دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كما تقدم. وقال ابن شبة في دور العباس: ومنها الدار التي بالزوراء سوق المدينة عند أحجار الزيت، أقطعها له عمر بن الخطاب، قال: وقد بلغني أن دار طلحة بن عمر بالبلاط كانت مربدا لدار العباس هذه، فابتاعها عمر من بعض بنيه. ويقوي ذلك أن المنصور أبا جعفر ابتاع تلك الدار من ولد طلحة بن عمر بأربعين ألف دينار. ثم ذكر للعباس دارا أخرى ليست في البلاط، لكنها في شامي هذه الدار، فقال: ومنها الدار التي إلى جنب دار آل قارط حلفاء بني زهرة، بينها وبين خطة بني ضمرة، وهي التي كان عبد الله بن عباس يسكن وجعلت المحررة هناك لطعام كان ابن عباس يطعمه. قلت: وإنما ذكرنا هاتين الدارين لما سيأتي من ذكرهما في الدار التي أخذ بها هشام بن عبد الملك سوق المدينة. ويستفاد مما سيأتي في ترجمة أحجار الزيت أن دار العباس التي عند خاتمة البلاط المذكور كانت بقرب مشهد سيدنا مالك بن سنان في شرقيه، وسيأتي أنه دفن عند مسجد أصحاب العباء، أي: الذين يبيعون العبي، وهنا لك كانت أحجار الزيت. الفصل السادس والثلاثون فيما جاء في سوق المدينة التي تصدق به النبي صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين، وذكر دار هشام بن عبد الملك التي أخذ بها السوق الرسول ينشئ السوق روى عمر بن شبة عن عطاء بن يسار قال: لما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل للمدينة سوقا أتى سوق بني قينقاع، ثم جاء سوق المدينة فضربه برجله وقال: هذا سوقكم؛ فلا يضيق، ولا يؤخذ فيه خراج. وروى ابن زبالة عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط أن السوق كانت في بني قينقاع حتى حول السوق بعد ذلك. أسواق المدينة في الجاهلية وقال ابن شبة: قال أبو غسان: وكان بالمدينة في الجاهلية سوق بزبالة من الناحية التي تدعى يثرب، وسوق بالجسر في بني قينقاع، وبالصفاصف بالعصبة سوق، وسوق يقوم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 موضع زقاق ابن حيين كانت تقوم في الجاهلية وأول الإسلام، وكان يقال لذلك الموضع: مزاحم. وروى ابن شبة أيضا عن صالح بن كيسان قال: ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبة في موضع بقيع الزبير فقال: هذا سوقكم. فأقبل كعب بن الأشرف فدخلها وقطع أطنابها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا جرم لأنقلنّها إلى موضع هو أغيظ له من هذا، فنقلها إلى موضع سوق المدينة، ثم قال: هذا سوقكم، لا تتحجروا، ولا يضرب عليه الخراج. وعن أبي أسيد أن رجلا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني قد رأيت موضعا للسوق، أفلا تنظر إليه؟ قال: فجاء به إلى موضع سوق المدينة اليوم- أي في زمنهم- قال: فضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم برجله وقال: هذا سوقكم؛ فلا ينقص منه، ولا يضربن عليه خراج. وروى ابن زبالة عن عباس بن سهل عن أبيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى بني ساعدة فقال: إني قد جئتكم في حاجة تعطوني مكان مقابركم فأجعلها سوقا، وكانت مقابرهم ما حازت دار ابن أبي ذئب إلى دار زيد بن ثابت، فأعطاه بعض القوم، ومنعه بعضهم، وقالوا: مقابرنا ومخرج نسائنا، ثم تلاوموا فلحقوه وأعطوه إياه، فجعله سوقا. قلت: وسيأتي ما يبين أن دار ابن أبي ذئب ودار زيد بن ثابت كانتا في شرقي السوق، الأولى عند أثنائه مما يلي الشام، والثانية عند أثنائه مما يلي القبلة؛ فليست المقابر المذكورة سوق المدينة كله، بل بعضه. وقد قدمنا في منازل بني ساعدة أن ابن زبالة نقل أن عرض سوق المدينة ما بين المصلى إلى جرار سعد، وهي جرار كان يسقي الناس فيها الماء بعد موت أمه، وقدمنا أن الذي يترجح أن المصلى حده من جهة القبلة، وأن جرار سعد حده من جهة الشام؛ فتكون جرار سعد قرب ثنية الوداع، وقد قوى الآن ذلك عندي جدّا، لما سيأتي في ذكر دار هشام. وروى ابن شبة أيضا وابن زبالة عن محمد بن عبد الله بن حسن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تصدق على المسلمين بأسواقهم. وروى ابن زبالة عن خالد بن الياس العدوي قال: قرئ علينا كتاب عمر بن عبد العزيز بالمدينة: إنما السوق صدقة فلا يضربن على أحد فيه كراء. وعن ابن أبي ذئب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ على خيمة عند موضع دار المنبعث فقال: ما هذه الخيمة؟ فقالوا: خيمة لرجل من بني حارثة كان يبيع فيها التمر، فقال: حرقوها، فحرقت. قال ابن أبي ذئب: وبلغني أن الرجل محمد بن مسلمة. وروى ابن شبة عن أبي مردود عبد العزيز بن سليمان أن عمر بن الخطاب رأى كير حداد في السوق، فضربه برجله حتى هدمه، وقال: أتنتقص سوق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وروى ابن زبالة عن حاتم بن إسماعيل عن حبيب قال: مر عمر بن الخطاب على باب معمر بالسوق، وقد وضع على بابه جرة، فأمر بها أن تقلع، فخرج إليه معمر فقال: إنما هذه جرة يسقي فيها الغلام الناس، قال: فنهاه عمر أن يحجر عليها أو يحوزها. قال: فلم يلبث أن مر عليها وقد ظلل عليها، فأمر عمر بالجرة والظل فنزعهما. وعن عبد الله بن محمد قال: كان الراكب ينزل بسوق المدينة فيضع رحله، ثم يطوف بالسوق ورحله بعينه يبصره، لا يغيبه عنه شيء. وروى أيضا قصة أخذ معاوية رضي الله تعالى عنه لدار النقصان من صحن سوق المدينة. وروى أيضا عن محمد بن طلحة وغيره قال: أحدث إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة في سلطان هشام بن عبد الملك، وهو يومئذ وال له على المدينة، دارا أخذ بها سوق المدينة، وسدّ بها وجوه الدور الشوارع في السوق، وكتب إلى هشام يذكر له عليها وعظيم قدرها، فكتب إليه هشام يأمره بإمضائها وإمضاء عين السوق، وكان أحدثها في سكك أهل المدينة، ودخلت في بعض منازلهم، فكتب إليه أن أمضها وإن كانت في بطونهم. قلت: ونقل ابن شبة عن أبي غسان أنه قال: كان الذي هاج هشام بن عبد الملك على بناء داره التي كانت بالسوق أن إبراهيم بن هشام بن إسماعيل كان خال هشام بن عبد الملك، وكان ولاه المدينة، فكتب إليه إبراهيم، فذكر أن معاوية بن أبي سفيان بنى دارين بسوق المدينة يقال لإحداهما دار القطران والآخرى دار النقصان، وضرب عليهما الخراج، وأشار عليه أن يا بني دارا يدخل فيها سوق المدينة، فقبل ذلك هشام، وبناها، وأخذ بها السوق كله، انتهى. وقال ابن زبالة عقب ما تقدم: فابتدأ الدار من خاتمة البلاط أي الذي عند دار العباس بالزوراء بقرب مشهد مالك بن سنان رضي الله عنه، فيكون هذا الجدار في شرقي السوق، وهذا أول الجدار المذكور مما يلي القبلة، وما سيأتي فيه دال على أنه استمر يمده إلى جهة الشام، وليس ابتداء هذا الجدار من القبلة أول السوق لما سيأتي، بل بقي منه بقية في جهة القبلة إلى المصلى سيأتي ذكرها. قال ابن زبالة عقب ذكره لابتداء الدار من خاتمة البلاط: فمضى بها حتى سد بها وجه دار العباس بن عبد المطلب، أي التي عند خاتمة البلاط ودار نخلة، وكانت لآل شيبة بن ربيعة، وإنما سميت دار نخلة لنخلة كانت فيها. ثم دار معمر العدوي التي كان يجلس صاحب السوق بفنائها. ثم دار خالد بن عقبة التي بفنائها أصحاب الرقيق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وجعل لبني ساعدة طريقا مبوبة، ثم أخذ وجه دار ابن جحش. ثم وجه دار ابن أبي فروة التي كانت لعمر بن طلحة بن عبيد الله، ثم وجد دار ابن مسعود، ثم وجه دار زيد بن ثابت، وجعل للطريق منفذا مبوبا. ثم وجه دار جبير بن مطعم التي فيها أصحاب العباء. ثم وجه دار القارظيين. ثم وجه دار العباس بن عبد المطلب، أي الثانية التي كان عبد الله بن عباس يسكنها، وجعل لبني ضمرة طريقا مبوبا. ثم وجه دار ابن أبي ذئب. ثم دار آل شويفع. ثم صدقة الزبير، وجعل لبني الديل طريقا مبوبا. قلت: وهذا الطريق عند نهاية هذا الجدار الشرقي مما يلي الشام قرب ثنية الوداع، والطرق المذكورة قبله كلها في الجدار المذكور خططها في المشرق. ثم بين ابن زبالة ما يقابل هذا الجدار في المغرب مبتدئا بما يقابله من جهة القبلة، ثم إلى الشام فقال عقب ما تقدم: ثم أخذ بها من الشق الآخر، فأخذ وجه الزوراء ووجه دار ابن نصلة الكناني. ثم على الطاقات حتى ورد بها خيام بني غفار، وجعل لمخرج بني سلمة من زقاق ابن جبير بابا مبوبا عظيما يغلق. ثم مضى بها على دار النقصان ودار نويرة، وجعل لسكة أسلم بابا مبوبا. ثم مضى بها على دار ابن أزهر ودار ابن شهاب ودار نوفل بن الحارث حتى جاوز بها دار حجارة، وكانت لعبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، حتى إذا جاوز بها دار حجارة جعل لها بابا عظيما يقابل الثنية. قلت: يعني ثنية الوداع، وهذا الباب في جهة الشام كما صرح به ابن شبة فقال، عقب ما تقدم: وجعل لها بابا شاميا خلف شامي زاوية دار عمر بن عبد العزيز بالثنية. ثم جعل بينها وبين دار عمر بن عبد العزيز عرضا ثلاثة أذرع، ثم وضع جدارا آخر وجاه هذا الجدار. ثم قاد الأساس بينه وبين الدور كلها ثلاثة أذرع حتى الزقاق الذي يقال له زقاق ابن جبير، جعل عليه بابا، وجعل على الزقاق الذي يقال له زقاق بني ضمرة عند دار آل أبي ذئب بابا. ثم جعل على الزوراء خاتم البلاط أي بابا؛ فيستفاد منه جعل باب هناك، وليس في كلام ابن زبالة تعرض له. ثم إن ابن زبالة ذكر ما بقي من شقي الدار الغربي والشرقي مما يلي القبلة إلى المصلى، فقال عقب كلامه السابق: ثم ساقها من الشقين جميعا الغربي والشرقي فسد بها وجوه الدور، وأخذ بها السوق فسد بها من الشق الشرقي وجه دار قطران، وكانت من دور معاوية. ثم وجه دار ابن جودان وتلك الدور. ومن الشق الغربي دار حجارة لكثير بن الصلت، وكانت قبله لربيعة بن دراج الجمحي. ثم وجه الربعة التي فيها دار آل أبي عثمان حلفاء أزهر بن عبد عوف. ثم جعل للسكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 منفذا. ثم وجه دار التمارين، وكانت لمعاوية بن أبي سفيان، وقبله لسعيد بن عبد الرحمن بن يربوع. فلما بلغ ابن هشام بالدار التمارين وقف، وجعل لها هنالك بابا عظيما يقابل المصلى. وقال ابن شبة عقب قوله فيما تقدم «وجعل على الزوراء خاتم البلاط» ما لفظه: ثم مد الجدار حتى جاء به على طيقان دار القطران الآخرى الغربي، حتى جاء بها إلى دار ابن سباع بالمصلى التي هي اليوم لخالصة، فوضع ثم بابا أي بالمصلى. قال: ثم بنى ذلك بيوتا؛ فجعل فيه الأسواق كلها، فكان الذي ولى ابن هشام أي على بنائها سعد بن عبد الرحمن الزرقي من الأنصار، فتم بناؤها إلا شيئا من بابها الذي بالمصلى. ونقلت أبوابها إليها معمولة من الشام، وأكثرها من البلقاء، انتتهى. وقال ابن زبالة عقب كلامه السابق: وفعل ذلك في بقيع الزبير، وضرب عليه طاقات، وأكراها، وسد بها وجوه دورهم، وجعل للسكك منفذا يغلق. قلت: ومراده أنه جعل في فضاء بقيع الزبير دارا كدار السوق، ولا يتوهم من ذلك أن بقيع الزبير من جملة السوق؛ لما سيأتي في ترجمته. قال ابن زبالة: وجعل لدار السوق حوانيت في أسفلها، وعلالي تكرى للسكن، وحملت أبوابها من البلقاء، فمنها بقية بالمدينة مكتوب فيها البلقاء. هدم الدار التي وضعت مكان السوق قال: فبينا الناس لا يدرون بموت هشام إلى أن جاء ابن المكرم الثقفي من الشام بريدا بموته رسولا للوليد بن يزيد، ويبشرهم بالعطاء، فصاح حين دخل الثنية: ألا إن هشاما الأحول قد مات، فوثب الناس على الدار فهدموها، وعلى عين السوق فقطعوها. وعبارة ابن شبة: فلم تزل- أي تلك الدار- على ذلك حياة هشام بن عبد الملك، وفيها التجار، فيؤخذ منهم الكراء، حتى توفي هشام، فقدم بوفاته ابن مكرم الثقفي، فلما أشرف على رأس ثنية الوداع صاح: مات الأحول، واستخلف أمير المؤمنين الوليد بن يزيد، فلما دخل دار هشام تلك صاح به الناس: ما تقول في الدار؟ قال: اهدموها، فوقع الناس فهدموها، وانتهبت أبوابها وخشبها وجريدها، فلم يمض ثالثة حتى وضعت إلى الأرض. فقال أبو معروف أحد بني عمرو بن تميم: ما كان في هدم دار السوق إذ هدمت ... سوق المدينة من ظلم ولا حيف قام الرجال عليها يضربون معا ... ضربا يفرق بين السور والتحف ينحطّ منها ويهوي من مناكبها ... صخر تقلب في الأسواق كالخلف وذكر ابن زبالة هذه الأبيات عن أبي معروف، إلا أنه زاد قبلها ثلاثة أخرى فقال: وقال أبو معروف: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 قل للوليد أبي العبّاس قد جمعت ... أيمان قومك بالتسليم في الصحف ما زلت ترمي ويرمي الناس عن هدف ... حتى وضعت نصال النبل في الهدف أعطاك ربّك طوعا من قلوبهم ... نصحا تبين قبل الظن والحلف ما كان في هدم دار السوق إذ هدمت ... الأبيات المتقدمة بيت أم كلاب وروى ابن زبالة من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برواية الخمر التي أهدى له الدوسي فأهريقت بالسوق عند بيت أم كلاب حيث يهراق الشراب اليوم، وسيأتي في ترجمة أحجار الزيت قول ابن أبي فديك: أدركت أحجار الزيت ثلاثة مواجهة بيت ابن أم كلاب، وهو اليوم يعرف ببيت بني أسد، انتهى، وكأنه غير بيت ابن أم كلاب الذي له ذكر في بني زريق، فهذا السوق هو المراد بما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج بأسرى بني قريظة إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم ضرب أعناقهم في تلك الخنادق، ويظهر مما قدمناه ومما سيأتي في ترجمة الزوراء أن مقدم سوق المدينة مما يلي خاتمة البلاط وما حول ذلك كان يسمى بالزوراء. البطحاء وروى ابن شبة عن بعضهم أنه قال: أدركت سوقا بالزوراء يقال له سوق الحرص، كان الناس ينزلون إليها بدرج. قلت: ورأيت في الأم للشافعي رضي الله تعالى عنه ما يقتضي تسمية سوق المدينة بالبطحاء؛ فإنه روي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة، وكان لهم سوق يقال لها البطحاء، كانت بنو سليم يجلبون إليها الخيل والإبل والغنم والسمن، فقدموا فخرج إليهم الناس- الحديث. بقيع الخيل وروى ابن شبة من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت في حديث ساقه: كان يقال لسوق المدينة بقيع الخيل، وهذا الحديث تقدم من رواية ابن زبالة في ذكر دعائه صلّى الله عليه وسلّم للمدينة وسؤاله نقل وبائها، وفيه: ثم عمد إلى بقيع الخيل- وهو سوق المدينة- فقام فيه ووجهه إلى القبلة، فرفع يديه إلى الله فقال: اللهم حبّب إلينا المدينة- الحديث. والبقيع هنا بالموحدة التحتية؛ فهو المراد بقول ابن عمر في حديثه الذي رواه الأربعة والحاكم: إني أبيع الإبل بالبقيع بالدنانير، وآخذ مكانها الدراهم- الحديث ولما خفي هذا على كثير من الناس قال بعضهم: إن الظاهر أن المراد النقيع بالنون أي حمى النقيع، قال: لأنه أشبه بالبيع من البقيع الذي هو مدفن، وقال النووي: ليس كما قال، بل هو بقيع الغرقد- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 بالباء- ولم يكن ذلك الوقت كثرت فيه القبور، انتهى، ولم يذكر أحد من مؤرخي المدينة أنه كان ببقيع الغرقد سوق، مع اعتنائهم بذكر أسواق المدينة في الجاهلية والإسلام؛ فالمعتمد ما قدمناه، والمسمى بالبقيع هنا ما يلي المصلى من سوق المدينة، ويسمى بقيع المصلى أيضا كما سيأتي، ولهذا روى أحمد والطبراني عن أبي بردة بن نيار قال: انطلقنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بقيع المصلى فأدخل يده في طعام ثم أخرجها فإذا هو مغشوش، أو مختلف، فقال: ليس منا من غشنا، ورواه الطبراني أيضا عن أبي موسى قال: انطلقت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سوق البقيع، فأدخل يده في غرارة، فأخرج طعاما- الحديث، فعبر عن بقيع المصلى بسوق البقيع. وروى ابن زبالة أيضا في ذكر سوق المدينة عن محمد بن طلحة قال: رأيت عثمان بن عبد الرحمن وإسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد ومحمد بن المنكدر، وزيد بن حصفة يقومون بفناء بركة السوق اليوم قبل أن تكون، يقومون مستقبلين فسألت عثمان بن عبد الرحمن عن ذلك، فقال: قد اختلف علينا في ذلك؛ فقائل يقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو هنالك، وقائل يقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول هنالك فينظر الناس، إذا انصرفوا من العيد، قال: وكان عامر بن عبد الله بن الزبير يقف عند التبانين فيدعو، وسيأتي في ذكر المصلى ما رواه الشافعي في الأم من طريق عبد الرحمن التيمي عن أبيه عن جده أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم رجع من المصلى يوم عيد فسلك على التمارين من أسفل السوق، حتى إذا كان عند مسجد المصلى الذي هو عند موضع الدار التي بالسوق قام فاستقبل فجّ أسلم فدعا ثم انصرف. بركة السوق قلت: وهذا بين أن بركة السوق في شامي فج أسلم، وسيأتي في منازل أسلم ما يبين أن منازلهم في شامي الثنية التي عليها حصن أمير المدينة اليوم، وتقدم في ذكر دار السوق حيث قال فيها في جهة المغرب: وجعل لسكة أسلم بابا ما يبين ذلك، وحينئذ فبركة السوق هي المنهل الذي ينزل إليه بالدرج عند مشهد النفس الزكية من عين المدينة على يسار المار إلى ثنية الوداع، وفي كلام ابن زبالة ما يومئ أن الذي أحدث العين هناك إنما هو إبراهيم بن هشام، وسيأتي في ترجمة أحجار الزيت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء، والله أعلم. وروى ابن شبة عن أبي هريرة أنه كان يقول: لا يذهب الليل والنهار حتى يخسف برجل بصحن هذا السوق، قال ابن أبي فديك: وكنت أسمع من المشايخ أنه قال والله أعلم: إن ذلك يكون على باب بيت البرادين، ويقال: هو بفناء دار ابن مسعود. وعن عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد عن جده قال: خرجت مع أبي هريرة حتى إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 كنا عند دار ابن مسعود قال: يا أبا الحارث، إن حبي أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم أخبرني أنه رب يمين بهذه البقعة لا يصعد إلى الله، قال: قلت له: أنّى ذلك يا أبا هريرة؟ قال: أما أني أشهد ما كذبت، قلت: وأنا أشهد. وروى ابن زبالة عن عبد الرحمن بن يعقوب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جاء السوق فرأى حنطة مصبرة فأدخل يده فيها، فناله بلل في جوفها، فقال: ما هذا؟ لصاحب الطعام، قال: أصابني مطر فهو هذا البلل الذي ترى، قال: ألا جعلته على رأس الطعام حتى يراه الناس؟ من غش فليس مني، من غش فليس مني، وأصل الحديث رواه أبو داود وغيره، ولفظه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ برجل يبيع طعاما، فسأله كيف تبيع؟ فأخبره فأوحى إليه أن أدخل يدك فيه، فأدخل يده فإذا هو مبلول، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس منا من غش. وعن ابن المغيرة قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجل يبيع طعاما في السوق بسعر هو أرفع من سعر السوق، فقال: تبيع في سوقنا بسعر هو أرفع من سعرنا؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: صبرا واحتسابا؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: أبشروا فإن الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، وإن المحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله. قلت: وقوله «بسعر هو أرفع» أي بزيادة في المسعر وهو المبيع، ويدل لذلك ما رواه ابن شبة عن ابن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة قال: كان أبي وعثمان بن عفان شريكين يجلبان التمر من العالية إلى السوق، فمر بهم عمر بن الخطاب، فضرب الغرارة برجله وقال: يابن أبي بلتعة زد في السعر وإلا فاخرج من سوقنا. وروى ابن زبالة عن القاسم بن محمد أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعره، فسعّر له مدّين بدرهم، فقال عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا وهم إذا وضعوا إلى جنبك غدا اعتبروا بسعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك في البيت فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه في الظهر، ثم خرج فأتى حاطبا في منزله فقال: إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير فحيث شئت فبع. الفصل السابع والثلاثون في منازل القبائل من المهاجرين، ثم اتخاذ السور على المدينة منازل بني غفار قال عمر بن شبة: نزل بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة القطيعة التي قطع لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي ما بين دار كثير بن الصلت التي تعرف بدار الحجارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 السوق إلى زقاق ابن جبين إلى دار أبي سبرة إلى منازل آل الماجشون بن أبي سلة، وبهذه الخطة مسجد بني غفار صلّى فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو خارج من منزل أبي رهم بن الحصين الغفاري. قلت: ودار كثير بن الصلت هذه تقدم بيانها في غربي السوق مما يلي القبلة شامي المصلى، وأما زقاق ابن حبين، ففي غربي السوق أيضا مما يلي الشام بالقرب من حصن أمير المدينة، وابن حبين كان مولى للعباس بن عبد المطلب. وأما دار أبي سبرة فلم أعرفها؛ فالظاهر أنها كانت في جهة غربي سوق التمارين. وأما منازل آل الماجشون، فذكر هو في موضع آخر أنها في زقاق الجلادين، وسيأتي في منازل بني كعب أنه شارع على المصلى، والله سبحانه وتعالى أعلم. واتخذ سباع بن عرفطة الغفاري خطة بالمصلى وهي الدار التي يقال لها دار عبد الملك بن مروان بالمصلى وجهها شارع قبالة الحجامين. قلت: وذلك في شامي المصلى مما يلي السوق والمغرب لأن ابن شبة قال: إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب اتخذ دارا بالمصلى في موضع الحجامين، ثم ابتاعها معاوية، فزادها في مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم أدخلها بعد هشام بن عبد الملك في داره التي أخذ بها السوق ثم هدمت. ونزل سائر بني غفار محلتهم وهي السائلة من جبل جهينة إلى بطحان وما بين خط دار كثير بن الصلت ببطحان إلى بني غفار؛ فنزلت بنو غفار منزلهم من خط دار كثير بن الصلت إلى أن يفضي إلى جهينة. قلت: وجبل جهينة لم أعرفه، فإما أن يكون أراد به ما يلي جبيل سلع في مقابلة المصلى ونسبه إلى جهينة لنزولهم عنده، وهناك سائلة تسيل من سلع إذا حصل المطر، وإما أن يكون أراد به أحد الجبلين اللذين في غربي مساجد الفتح لما سيأتي في منازل جهينة. وأما دار كثير بن الصلت ببطحان فقد ذكر في موضع آخر ما يبين أنها كانت على شفير وادي بطحان بالعدوة الغربية، وأن عقبة بن أبي معيط لما جلده عثمان بن عفان في الشراب حلف لا يساكنه إلا وبينهما بطن واد، فناقل كثير بن الصلت بداره هذه إلى دار الوليد بن عقبة التي في قبلة مصلى العيد الذي يصلي به الإمام اليوم، والله أعلم. منازل بني ليث بن بكر ونزل بنو أبي عمرو بن نعيم بن مهان من بني عبد الله بن غفار شامي وغربي بني مبشر بن غفار، ومعهم بنو خفاجة بن غفار. ونزل بنو ليث بن بكر ما بين خط بني مبشر بن غفار إلى خط بني كعب بن عمرو بن خزاعة الذي يسلكك إلى دور الغطفانيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 قلت: يؤخذ مما سيأتي في منازل بني كعب أن منازل بني ليث كانت في قبلة خط بني مبشر، وشامي بني كعب؛ فتكون جهة منازل بني ليث في شامي التمارين وغربيهم، ولعل قول ابن زبالة في دار السوق في جهة المغرب قبل ذكر دار التمارين ثم جعل للسكة منفذا يريد به طريق بني ليث ومن يشركهم في ذلك. وقد قال ابن شبة في دور بني مخزوم: واتخذ أبو شريح الخزاعي حليف بني مخزوم دارا غربيها شارع على بطحان، وشاميها شارع إلى الزقاق الذي يدعى زقاق بني ليث، والله أعلم. ونزل بنو أحمر بن يعمر بن ليث ما بين مسجدهم إلى سوق التمارين، واتخذوا المسجد الذي في محلتهم يدعى مسجد بني أحمر. ونزل بنو عمر بن معمر بن ليث ما بين مسجدهم الذي يدعى مسجد بني كدل إلى بطحان إلى منزل بني مبشرين غفار إلى زقاق الجلادين الذي فيه دار الماجشون إلى دار أبي سبرة بن خلف إلى التمارين. ونزل آل قسيط بن يعمر بن ليث ما بين شامي بني كعب من منازل آل نضلة بن عبيد الله ابن خراش إلى خط كتاب النصر إلى الشارع إلى المصلى إلى بطحان. ونزل بنو رجيل بن نعيم بطرف المصلى بين غربي دار كثير بن الصلت أي التي هي قبلة المصلى إلى دار آل قليع الأسديين الشارعة على بطحان. ونزل بنو عتوارة بن ليث- وهم بنو عضيدة- ما بين طرف دار الوليد بن عقبة اليماني ببطحان إلى الحرة إلى زقاق القاسم بن غنام من دار الوليد بن عقبة. منازل بني ضمرة بن بكر ونزل بنو ضمرة بن بكر إلا بني غفار محلتهم التي يقال لها بنو ضمرة، وهي شرقي ما بين دار عبد الرحمن بن طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر بالثنية إلى محلة بني الديل بن بكر إلى سوق الغنم الشارع إلى دار ابن أبي ذئب العامري، واتخذوا في محلتهم مسجدا. منازل بني الديل ونزل بنو الديل بن بكر في محلتهم- وهي ما بين ضمرة إلى الدار التي يقال لها دار الخرق- حدها زقاق الحضارمة، ويدعى الخط العظيم لها بني ضمرة، إلى جبل في مربد أبي عمار بن عبيس من بني الديل يقال له المستندر إلى دار الصلت بن نوفل النوفلي التي بالجبانة. قلت: الجبل الذي ذكر أنه يسمى بالمستندر هو الجبل الصغير الذي في شرقي مشهد النفس الزكية بمنزلة الحاج الشامي؛ لانطباق الوصف المذكور عليه، والله أعلم. ونزل أبو نمر بن عويف من بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة على بني ليث بن بكر فاتخذوا الدار التي يقال لها دار أبي نمر، وهي في خط بني أحمر بن ليث المتقدم ذكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 منازل ابني أفصى منازل أسلم ومالك ابني أفصى- نزل بنو أسلم ومالك ابني أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر منزلين؛ فنزلت بنو مالك بن أفصى وأمية وسهم ابني أسلم ما بين خط زقاق ابن حبين مولى العباس بن عبد المطلب الشامي من زاوية يقصان التي بالسوق إلى خط جهينة إلى شامي ثنية عثعث. قلت: قد علم مما سبق في دار السوق أن زقاق ابن حبين في غربي سوق المدينة، وسيأتي في ترجمة ثنية عثعث أنها منسوبة إلى جبل يقال له سليع عليه بيوت أسلم بن أفصى؛ فهي الثنية التي عند الجبيل الذي عليه حصن أمير المدينة اليوم، والمراد من بيوت أسلم منزل هؤلاء، والله أعلم. ونزلت سائر أسلم، وهم آل بريدة بن الخصيب وآل سفيان- ما بين زقاق الحضارمة إلى زقاق القنبلة. قلت: وذلك في شرقي مؤخر سوق المدينة مما يلي الشام، وفي جهة زقاق الحضارمة اليوم حديقة تعرف بالحضرمية شامي سور المدينة، وفي شاميها جهة زقاق القنبلة. ونزلت هذيل بن مدركة ما بين شامي سائلة أشجع وزاوية دور يحيى بن عبد الله بن أبي مريم إلى دار حرام بن مزيلة بن أسد بن عبد العزى بالثنية زاويتها اليمانية، وذلك مجتمعها ومجتمع أسلم. منازل مزينة ومن حل معها منازل مزينة ومن حل معها من قيس عيلان بن مضر- ونزل بنو هدبة بن لاطم بن عثمان بن عمرو، إلا بني عامر بن نور بن لاطم بن عثمان، وعثمان نفسه الذي يقال له مزينة، وهي أمه- ما بين زاوية بيت القروي المطل على بطحان الغربية إلى زاوية بيت ابن هبار الأسدي الذي صار لبني سمعان الشرقية إلى خط بني زريق إلى دار الطائفي التي بشق بطحان الشرقي. ونزل معها في هذه المحلة بنو شيطان بن يربوع من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس وبنو سليم بن منصور وعدوان بن عمرو بن قيس. وعن شرقي خطة مزينة هذه سليم بن منصور إلى دار خلدة بن مخلد الزرقي، وأدنى دار أم عمرو بنت عثمان بن عفان إلى بيوت نفيس بن محمد مولى بني المعلى في بني زريق من الأنصار، إلى أن تلقى بني مازن بن عدي بن النجار؛ فهؤلاء الذين نزلوا مع مزينة، ودخل بعضهم في بعض، وإنما نزلوا جميعا لأن دارهم في البادية واحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 قلت: فمنازل مزينة ومن حل معها في غربي مصلى العيد اليوم إلى عدوة بطحان الشرقية ثم في قبلة الدور التي بالمصلى ثم في قبلة بني زريق إلى بني مازن بن النجار. وقد نزلت بنو ذكوان من بني سليم مع أهل راتج من اليهود، ما بين دار قدامة إلى دار حسن بن زيد بالجبانة. قلت: ودار قدامة هي المرادة بقول ابن شبة في دور بني جمح «واتخذ قدامة بن مظعون الدار التي فيها المجزرة على فوهة سكة بني ضمرة ودبر دار آل أبي ذئب على يمينك وأنت ذاهب إلى بني ضمرة» والله أعلم. ونزل بنو أوس بن عثمان بن مزينة بطرف السورين، ما بين دار أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق إلى مفضى السورين إلى الحمارين، الزقاق الذي فيه قصر بني يوسف مولى آل عثمان إلى البقال. قلت: وهذه الأمور بقرب البقيع، كما سيأتي في تراجمها. ونزل بنو عامر بن ثور بن ثعلبة بن هدبة بن لاطم ما بين بيت أم كلاب الذي في خط بني رزيق الشارع على المصلى إلى دار مدراقيس الطبيب إلى دار عمرو بن عبد الرحمن بن عوف ودار عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ودار هشام بن العاص المخزومي. قلت: ودار مدراقيس الطبيب لها ذكر في دور بني محارب بن فهر. قال ابن شبة: واتخذ معمر بن عبد الله بن عامر دارا في بني زريق بين الدار التي يقال لها دار مدراقيس الطبيب ودار أم حسان التي صارت لعمر بن عبد العزيز العمري، وهذه الأماكن في قبلة ما تقدم مما يلي الدور التي في قبلة البلاط في الميمنة وما حولها، ولعل دار أم حسان المذكورة هي الموضع المعروف اليوم بدار حسان في قبلة الدور التي بالبلاط الموالية لدرب سويقة، والله أعلم. منازل جهينة وبلى- ونزل جهينة بن زيد بن السود بن الحارث بن قضاعة وبلى بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة ما بين خط أسلم الذي بين أسلم وجهينة، إلى دار حرام بن عثمان السلمي الأنصاري التي في بني سلمة إلى الجبل الذي يقال له جبل جهينة إلى يماني ثنية عثعث التي عليها دار ابن أبي حكيم الطيب. قلت: ذكر دار حرام بن عثمان في بني سلمة يرجح أن المراد بجبل جهينة أحد الجبلين اللذين في غربي مساجد الفتح، وهناك منازل بني حرام من بني سلمة، وقد تقدم بيان ثنية عثعث، وأنها منسوبة إلى الجبل الذي عليه حصن أمير المدينة اليوم، والله أعلم. منازل قيس بن عيلان- نزلت أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس الشعب الذي يقال له شعب أشجع، وهو ما بين سائلة أشجع إلى ثنية الوداع إلى جوف شعب سلع، وخرج إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأحمال التمر فنثره لهم، واتخذت أشجع في محلتها مسجدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 قلت: وما ذكره منطبق إما على شعب سلع الذي في شرقيه، فتكون منازلهم بين خط أسلم الذي في شامي ثنية عثعث وبين جبل سلع وهكذا إلى ثنية الوداع، وإما على شعب سلع الذي في شاميه، وقال عروة بن الزبير: قدمت أشجع في سبعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة فنزلوا شعبهم، فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأحمال التمر، فقال: يا معشر أشجع، ما جاء بكم؟ قالوا: يا رسول الله جئناك لقرب ديارنا منك، وكرهنا حربك، وكرهنا حرب قومنا لقلتنا فيهم؛ فأنزل الله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ إلى قوله تعالى: سَبِيلًا [النساء: 90] . ونقل ابن شبة في تأديب عمر بن الخطاب الرعية في أمر دينهم أن رجلا من أشجع يقال له بقيلة كان غازيا، فبلغه أن جعدة بن عبد الله السلمي يحدث النساء، وأن جواري يخرجن إلى سلع فيحدثهن، ثم يعقل الجارية ويقول: قومي في العقال فإنه لا يصبر على العقال إلا حصان، فتقوم ساعة ثم تسقط، فربما تكشفت، فكتب الأشجعي إلى عمر: ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري فما قلص تقمن معقّلات ... قفا سلع لمختلف النّجار قلائص من بني سعد بن بكر ... أو اسلم أو جهينة أو غفار يعقّلهنّ جعدة من سليم ... معيدا يبتغي سقط العذاري قلائصنا هداك الله إنا ... شغلنا عنهم زمن الحصار يعقّلهن أبيض شيظميّ ... فبئس معقّل الذود الطّواري فدعا عمر بجعدة فقال: أنت لعمري كما وصف أبيض شيظمي، وسأله فأقرّ فضربه مائة معقولا، وغرّبه إلى الشام، فكلّم فيه، فأذن له على ألايدخل المدينة، ثم أذن له أن يجمع، ثم أذن له أن يدخل في الجمعة مرتين. وقال ابن إسحاق: الذي كتب بالشعر رجل من هوازن يدعى خيثمة. منازل بني جشم ونزلت بنو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس محلتها التي يقال لها بنو جشم، وهي ما بين الزقاق الذي يقال له زقاق سفين إلى الأساس الذي يقال له أساس إسماعيل بن الوليد إلى خوخة الأعراب إلى دور ذكوان مولى مروان بن الحكم. قلت: ولم أعرف شيئا مما ذكره، غير أنه ذكر في دور بني جمح أن محمد بن حاطب اتخذ الدار التي تدعى دار قدامة في بني زريق شرقيها الدار التي يقال لها دار الأعراب، فلعل خوخة الأعراب وما ذكر معها في تلك الجهة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 ونزلت بنو مالك بن حماد وبنو زنيم وبنو سكين من فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ذئب ابن غطفان المحلة التي يقال لها بنو فزارة، وهي إلى حمام الصعبة إلى سوق الحطابين الذي بالجبانة، ولم ينزلها أحد من بني عدي بن فزارة. قلت: والذي علمنا جهته من ذلك سوق الحطابين بالجبانة قرب مسجد الراية وثنية الوداع كما سيأتي في ترجمة الجبانة، والله أعلم. منازل بني كعب بن عمرو، وإخوتهم من بني المصطلق نزل بنو كعب بن عمرو بن عدي بن عامر ما بين يماني بني ليث بن بكر إلى دار شريح العدوي إلى موضع التمارين بالسوق إلى زقاق الجلادين الشارع على المصلى يمنة ويسرة إلى بطحان إلى زقاق كدام، وكدام: سقاط كان هناك، إلى دار ابن أبي سليم الشارعة على شامي المصلى. ونزلت بنو المصطلق بن سعد بن عمرو وأخوه كعب بن عمرو رهط جويرية بنت الحارث زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ظاهرة حرة بني عضدة إلى أدنى دار عمر بن عبد العزيز إلى الدار التي يقال لها دار الخرازين. قلت: وذلك بالحرة الغربية. سعة المدينة في عهد النبي ومن تأمل ما ذكر في دور المهاجرين ومنازل القبائل منهم- مع ما سبق في منازل الأنصار- رأى أمرا عظيما فيما كان من عمارة المدينة وسعتها، واتصال بعضها ببعض، وآثار ما كان من العمارة شاهد بذلك اليوم، واسم المدينة صادق على ذلك كله، وسيأتي في ترجمة قباء أنها كانت مدينة كبيرة متصلة بالمدينة الشريفة، أي بما بينها من النخيل، ولهذا لم تكن الجمعة تقام بغير المسجد النبوي، ولو كانت قباء وغيرها من القرى المنفصلة اليوم منفصلة في زمنه صلّى الله عليه وسلّم وبها تلك القبائل من الناس لوجب إقامة الجمعة في كل قرية بها أربعون كما تقرر في موضعه، فقد كانت كلها في حكم البلد الواحد، فسبحان من يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. اتخاذ سور المدينة ولما طرق المدينة الشريفة الخراب في أطرافها جعلوا لها سورا، قال المجد الفيروزبادي: سور المدينة الشريفة بناه أولا عضد الدولة بن بويه بعد الستين وثلاثمائة في خلافة الطائع لله بن المطيع لله، ثم تهدم على طول الزمان وتخرب لخراب المدينة، ولم يبق إلا آثاره ورسمه. وقال المطري في الكلام على مسجد جهينة: إن ناحية جهينة معروفة غربي حصن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 صاحب المدينة والسور القديم، بينها وبين جبل سلع، وعندها أثر باب للمدينة معروف بدرب جهينة إلى تاريخ كتابه، وهو سنة ست وستين وسبعمائة. قلت: قد قدمنا ما يخالف ما ذكره في ناحية جهينة؛ لأنا وإن لم نر الباب الذي أشار إليه، لكن رأينا آثار السور القديم قبلي جبل سلع، وقرب الحصن المذكور. ويظهر من حاله أن غالب منازل جهينة وغيرها من المنازل المتقدمة كانت في جوفه، وأنه كان في جهة المغرب على شفير بطحان بالعدوة الشرقية؛ لأن الأقشهري نقل في روضته عن صاحب سور الأقاليم أنه قال: المدينة أقل من نصف مكة، وهي في حرة سبخة الأرض، وبها نخل كثير، ومياه نخيلهم وزرعهم من الآبار يسقي منها العبيد، وعليها سور، والمسجد في نحو من وسطها. ثم ذكر صفة المسجد والقبر الشريف، ثم قال: ومصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يصلي فيه الأعياد من غربي المدينة داخل الباب، انتهى. فكون المصلى داخل الباب شاهد لما ذكرنا، وقد صرح بنحوه الإمام أبو عبد الله الأسدي فإنه ذكر المساجد الخارجة عن المدينة، ثم ذكر المساجد التي بالمدينة فقال: وداخل المدينة مصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. سور آل زنكي وقال المطري بعد ذكره لما تقدم من باب هذا السور القديم: ونقل ابن خلكان أن سور هذا الباب القديم بناه عضد الدولة بن بويه بعد الستين وثلاثمائة من الهجرة في أيام الطائع لله ابن المطيع، ثم تهدم على طول الزمان وخرب لخراب المدينة، ولم يبق إلا آثاره حتى جدد لها جمال الدين محمد بن أبي منصور- يعني الجواد الأصبهاني وزير بني زنكي- سورا محكما حول المسجد الشريف على رأس الأربعين وخمسمائة من الهجرة، ثم كثر الناس من خارج السور، ووصل السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في سنة سبع وخمسين وخمسمائة إلى المدينة الشريفة بسبب رؤيا رآها، وذكر ما قدمناه عنه في خاتمة الفصل التاسع والعشرين. ثم قال: إنه لما ركب متوجها إلى الشام صاح به من كان نازلا حول السور واستغاثوا وطلبوا أن يا بني عليهم سورا يحفظ أبناءهم وماشيتهم، فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم، فبنى في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وكتب اسمه على باب البقيع؛ فهو باق إلى تاريخ هذا الكتاب. قلت: وهو باق على باب البقيع إلى أن كتبنا كتابنا هذا، وصورته في صفحات الحديد المصفح بها الباب: هذا ما أمر بعمله العبد الفقير إلى الله تعالى محمود بن زنكي بن أقسنقر، غفر الله له، سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وهذا لا يدل على أنه أنشأ السور. وعبارة البدر بن فرحون عند ذكره لمحاسن نور الدين الشهيد رحمه الله ما لفظه: وبنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 أيضا سور بعلبك، وكمل بناء سور المدينة، وهو سورها الموجود اليوم، واسمه مكتوب على باب البقيع، وأما السور الذي داخل المدينة فإنما أحدثه الوزير جمال الدين محمد بن أبي منصور، وكان وزيرا لوالد الملك العادل يعني زنكي ثم استوزره بعد زنكي ولده غازي بن زنكي يعني أخا الملك العادل؛ فهذا يقتضي أن الملك العادل إنما كمل بناء السور الموجود اليوم فقط، ويبعده ما ذكره من بناء الجواد لسوره؛ فإنه لو كان السور المذكور موجودا لكان هو أكمله ولم ينشئ سورا غيره، ومدة بناء السورين المذكورين متقاربة كما يعلم مما قدمناه. من ماثر الجواد الأصفهاني وقال المجد: إن الشيخ شهاب الدين عبد الرحمن بن أبي شامة قال في كتابه ما صورته: ومن أعظم الأعمال التي عملها نفعا- يعني وزير الموصل جمال الدين الجواد- أنه بنى سورا على مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنها كانت بغير سور ينهبها الأعراب، وكان أهلها في ضنك وضر معهم. قال ابن الأثير: رأيت بالمدينة إنسانا يصلي الجمعة، فلما فرغ ترحم على جمال الدين ودعا له، فسألناه عن سبب ذلك، فقال: يجب على كل مسلم بالمدينة أن يدعو له؛ لأننا كنا في ضر وضيق ونكد عيش مع العرب، لا يتركون لأحدنا ما يواريه ويشبع جوعته، فبنى علينا سورا احتمينا به ممن يريدنا بسوء، فاستغنينا، فكيف لا ندعو له؟ قال عقبه: قلت: وهذا السور الذي بناه جمال الدين هو السور الثاني، والسور الذي بناه الملك العادل نور الدين هو السور الثالث، أي بحسب الزمان، وعلى كل منهما اسم بانيه على الأبواب، وأما السور الأول الذي بناه عضد الدولة فلم يبق منه أثر يعرف به مكانه، انتهى. هكذا نقلته من تاريخ المجد. وبقوله انتهى ظهر أن قوله قلت إلى آخره من كلام ابن أبي شامة، ويحتمل أن يكون من كلام ابن الأثير. وقال المجد عقبه: قال: وكان الخطيب بالمدينة يقول في خطبته «اللهم صن حريم من صان حرم نبيك بالسور محمد بن علي بن أبي منصور» فلو لم يكن له إلا هذه المكرمة لكفاه فخرا، فكيف وقد أصابت صدقته تخوم الأرض شرقا وغربا وبرا وبحرا؟ وأما شدة عنايته بأهل المدينة فكانت عظيمة، قال ابن الأثير: حكى لي بعض الصوفية ممن كان يصحب الشيخ عمر التشاي شيخ شيوخ الموصل قال: أحضرني الشيخ فقال لي: انطلق إلى مسجد الوزير بظاهر الموصل واقعد هناك، فإذا أتاك شيء فاحفظه إلى أن أحضر عندك، ففعلت، فإذا قد أقبل جمع كثير من الحمالين يحملون أحمالا من النصافي والخام، وإذا نائب جمال الدين قد جاء مع الشيخ ومعهما قماش كثير وثمانية عشر ألف دينار وعدة كثيرة من الجمال، فقال لي: تأخذ هذه وتسير إلى الرحبة وتوصل هذه الرزمة وهذا الكتاب إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 متوليها فلان، فإذا حضر لك فلان العربي فتوصل إليه هذه الرزمة الآخرى وهذا الكتاب وتسير معه، فإذا أوصلك إلى فلان العربي توصل إليه هذه الرزمة وهذا الكتاب، وهكذا إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فتوصل إلى وكيلي فلان هذه الأحمال، وهذه الكسوات والمال الذي عليه اسم المدينة ليخرجها بمقتضى هذه الجريدة، ثم تأخذ الباقي الذي عليه اسم مكة فتسير إليها فيتصدق به وكيلي بموجب الجريدة الآخرى، فسرنا بذلك إلى وادي القرى، فرأينا هناك جمالا كثيرة تحمل الطعام إلى المدينة، وقد منعهم خوف الطريق، فلما رأونا ساروا معنا إليها فوصلناها والحنطة بها كل صاعين بدينار مصري، والصاع- أي: في ذلك الزمان- خمسة عشر رطلا بالبغدادي، فلما رأوا المال والطعام اشتروا كل سبعة آصع بدينار، فانقلبت المدينة بالدعاء له. قلت: وقد قدمنا كيفية نقله إلى المدينة الشريفة بعد موته ودفنه بتربته التي برباطه المجاور للمسجد الشريف عند ذكر باب عثمان وهو باب جبريل لمقابلته له، وتقدم ذكره أيضا في ترخيم الحجرة الشريفة. ومن أعماله الحسنة: تجديد مسجد الخيف، وإجراء عين عرفة، وبناء جدار الحجرة وترخيمه، وتجديد باب الكعبة، وكان النعش الذي حمل فيه هو باب الكعبة القديم، وفيه يقول أبو المجد بن قسيم: أغرّ تبصر منه الناس في رجل ... واللّيث في بشر، والبدر في غصن سما بهمته في المكرمات إلى ... علياء تقصر عنها همّة الزّمن إلى أن قال فيه: صان المدينة تسويرا وصوّرها ... في الحسن غادة ملك الشام واليمن وصان بالمال أهليها فما بقيت ... هزلاء إلّا تشكّت كثرة السّمن أبواب السور ولسور المدينة اليوم أربعة أبواب غير باب حصن أمير المدينة المعروف بباب السر، وهو باب عظيم كله من الحديد. وأما الأبواب الأربعة: فأحدها: [يعرف بدرب المصلى] الباب الذي غربي المدينة في جهة المصلى عند منزلة الحاج المصري، ويعرف بدرب المصلى، ودرب سويقة، وذرع ما بينه وبين عتبة باب السلام ستمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا، وكان عليه باب متقن أحرقه بعض صبيان الأمير ضغيم سنة عزله، فأخذ أمير المدينة باب الحوش الذي عمره الأمير ضغيم وجعله عليه، ثم عمل باب متقن كالأول في عمارة المسجد المتجددة بعد الحريق الثاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 ثانيها: [يعرف بالدرب الصغير] الباب الذي في جهة المغرب أيضا عند رحبة حصن أمير المدينة يعرف بالدرب الصغير. ثالثها: [يعرف بالدرب الكبير] الباب المعروف بالدرب الكبير، وبالدرب الشامي. رابعها: [يعرف بدرب البقيع] الباب المعروف بدرب البقيع في شرقي المدينة، ويعرف بدرب الجمعة، وعليه باب متقن مغشى بصفائح الحديد، والظاهر أنه باق من زمن نور الدين الشهيد لما قدمناه من الكتابة عليه. وذرع ما بينه وبين عتبة باب المسجد المعروف بباب جبريل أربعمائة ذراع وثلاثة وثلاثون ذراعا. وفي قبلة سور المدينة موضع باب مسدود اليوم، وكان يعرف بدرب السوارقية. ولم يزل الملوك يهتمون بعمارة سور المدينة، ويصلحون ما وهى منه. وقد ذكر الزين المراغي أنه جدّد في سنة خمس وخمسين وسبعمائة في أيام الملك الصالح صالح أحد أولاد الناصر محمد بن قلاوون. وذكر البدر بن فرحون أن الأمير سعد بن ثابت بن حماد ابتدأ في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة عمل الخندق الذي حول السور المذكور، ومات ولم يكمله، وأكمله الأمير فضل بن قاسم بن حماد في ولايته بعده، والله سبحانه وتعالى أعلم. تم- بحمد الله تعالى وحوله- الجزء الثاني من كتاب «وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى» صلّى الله عليه وسلّم. ويليه- إن شاء الله- الجزء الثالث، وأوله «الباب الخامس، في مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأعياد» نسأله- جلت قدرته- أن يعين على إكماله، بمنه وفضله وتيسيره، إنه لا ييسر إلى الخير سواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 فهرس الجزء الثاني الفصل الرابع الروايات في حنين الجذع 3 صانع المنبر 5 موضع الجذع 6 شهرة حديث حنين الجذع 7 الموضع الذي دفن فيه الجذع 7 بدعة اصطنعها الناس بسبب الجذع 7 عود إلى الاختلاف في صانع المنبر 8 أراد معاوية أن ينقل المنبر إلى الشام 10 رفع المنبر ست درجات 10 عدد درجات المنبر 11 مساحة المنبر 12 كسوة المنبر 20 ستور الأبواب كسوة الحجارة 20 الفصل الخامس في فضائل المسجد الشريف 20 المسجد الذي أسس على التقوى 21 فضل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 21 فضل الصلاة في مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم 22 هل فضل الصلاة في المساجد الثلاثة يختص بالفرض؟ 26 مرجع مضاعفة فضل الصلاة 27 هل يختص التضعيف بالصلاة؟ 27 الفصل السادس في فضل المنبر المنيف، والروضة الشريفة 29 معنى كون المنبر على الحوض 31 معنى أن الروضة من رياض الجنة 31 الفصل السابع في الأساطين المنيفة 38 الأسطوان المخلق 38 أسطوان القرعة 39 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 أسطوان التوبة 40 أسطوان السرير 44 أسطوان المحرس 45 أسطوان الوفود 45 أسطوان مربعة القبر 46 أسطوان التهجد 46 الفصل الثامن في الصّفة وأهلها، وتعليق الأقناء لهم بالمسجد 48 وصف الصفة وموضعها 48 أهل الصفة 49 مبدأ تعليق الأقناء 51 الفصل التاسع في الحجرة الشريفة، وبيان إحاطتها بالمسجد الشريف إلا من جهة المغرب 52 المشربة 55 الفصل العاشر في حجرة فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنها 57 الفصل الحادي عشر في الأمر بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد الشريف 60 الفصل الثاني عشر في زيادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد 67 بين عمر والعباس 68 الفصل الثالث عشر في البطيحاء التي بناها عمر رضي الله عنه بناحية المسجد، ومنعه من إنشاد الشعر ورفع الصوت فيه، وما جاء في ذلك 78 الفصل الرابع عشر في زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه 81 الفصل الخامس عشر في المقصورة التي اتخذها عثمان رضي الله عنه في المسجد وما كان من أمرها بعده 87 الفصل السادس عشر في زيادة الوليد بن عبد الملك على يد عمر بن عبد العزيز 89 الفصل السابع عشر فيما اتخذه عمر في المسجد في زيادة الوليد من المحراب والشّرفات والمنائر، واتخاذ الحرس، ومنعهم من الصلاة على الجنائز فيه 98 أول من أحدث المحراب والشرفات 98 عثمان أول من خلق المسجد ورزق المؤذنين 102 اتخاذ حرس للمسجد 102 الصلاة على الجنائز في المساجد 102 الشيعة غير الأشراف 103 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 الفصل الثامن عشر في زيادة المهدي 105 الفصل التاسع عشر فيما كانت عليه الحجرة الشريفة الحاوية للقبور المنيفة في مبدأ الأمر 108 أول من بنى جدارا على بيت عائشة 109 الفصل العشرون فيما حدث من عمارة الحجرة بعد ذلك، والحائز الذي أدير عليها 111 الفصل الحادي والعشرون فيما روي من الاختلاف في صفة القبور الشريفة، بالحجرة المنيفة 115 رواية نافع في وضع القبور 115 رواية القاسم بن محمد 116 رواية عثمان بن نسطاس 117 رواية المنكدر بن محمد 117 رواية عمرة عن عائشة 118 رواية أخرى عن القاسم بن محمد 118 رواية عبد الله بن محمد بن عقيل 119 بقي بعدها موضع قبر 121 الملائكة يحفون بالقبر 122 لا ينبغي رفع الصوت في المسجد 122 سنة أهل المدينة في أعوام الجدب 123 الفصل الثاني والعشرون فيما ذكروه من صفة الحجرة الشريفة، والحائز المخمس الدائر عليها، وبيان ما شاهدناه مما يخالف ذلك 123 الفصل الثالث والعشرون في عمارة اتفقت بالحجرة الشريفة على ما نقله الأقشهري عن ابن عاث، وما وقع من الدخول إليها عند الحاجة له وتأزيرها بالرخام 130 الفصل الرابع والعشرون في الصندوق الذي في جهة الرأس الشريف، والمسماة الفضة المواجه للوجه الشريف، ومقام جبريل من الحجرة الشريفة، وكسوتها، وتخليقها 133 كسوة الحجرة النبوية 138 الفصل الخامس والعشرون في قناديل الذهب والفضة التي تعلق حول الحجرة الشريفة، وغيرها من معاليقها 140 القناديل 140 حكم معاليق المسجد النبوي 145 الفصل السادس والعشرون في الحريق الأول القديم المستولي على تلك الزخارف المحدثة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 بالحجرة الشريفة والمسجد وسقفهما، وما أعيد من ذلك، وما تجدد من توسعة المسقف القبلي بزيادة الرواقين فيه، وغير ذلك 150 سبب الحريق وتاريخه 150 حكمة الله في الحريق 151 الشروع في العمارة بعد الحريق 152 الفصل السابع والعشرون في اتخاذ القبة الزرقاء التي جعلت على ما يحاذي سقف الحجرة الشريفة بأعلى سقف المسجد، تمييزا لها، وإبدالها بالقبة الخضراء والمقصورة الدائرة بالحجرة الشريفة 157 القبة الزرقاء 157 المقصورة الدائرة على الحجرة 159 الفصل الثامن والعشرون فيما تجدد من عمارة الحجرة الشريفة في زماننا على وجه لم يخطر قط بأذهاننا، وما حصل بسببه من إزالة هدم الحريق الأول من ذلك المحل الشريف، ومشاهدة وضعه المنيف، وتصوير ما استقر عليه أمر الحجرة في هذه العمارة 164 الفصل التاسع والعشرون في الحريق الحادث في زماننا بعد العمارة السابقة وما ترتب عليه 175 خاتمة فيما نقل من عمل نور الدين الشهيد لخندق حول الحجرة الشريفة مملوء بالرصاص، وذكر السبب في ذلك، وما ناسبه 185 الفصل الثلاثون في تحصيب المسجد الشريف وذكر البزاق فيه، وتخليقه، وإجماره، وذكر شيء من أحكامه 190 أول تحصيب المسجد النبوي 190 حكم البزاق في المسجد 191 مبدأ تخليق المسجد 193 تخليق القبر 195 تجمير المساجد 195 فرش المساجد 196 الحدث في المسجد 198 القراءة في المصحف بالمسجد 198 بعث المصاحف إلى بالمسجد 199 مصاحف عثمان التي أرسلها إلى الآفاق 200 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 تعليق المصابيح في المسجد وصف عام 201 الفصل الحادي والثلاثون فيما احتوى عليه المسجد من الأروقة والأساطين والبالوعات والسقايات والدروع، وغير ذلك مما يتعلق به من الرسوم 201 وصف عام 201 جدران المسجد 202 عدد أساطين المسجد 203 عدد بالوعات المسجد 206 سقايات المسجد 206 حواصل المسجد 208 قناديل المسجد 208 في صحن المسجد نخيل مغروسة 209 أئمة المسجد 210 عرض جدر المسجد 210 الفصل الثاني والثلاثون في أبواب المسجد وما سد منها، وما بقي، وما يحاذيها من الدور قديما وحديثا 212 أبواب المسجد 212 باب النبي صلّى الله عليه وسلّم 213 باب علي 214 باب عثمان باب جبريل 214 باب ريطة (باب النساء) 216 باب سادس 217 باب سابع 217 باب ثامن 218 أبواب المسجد الشامية 218 باب تاسع 219 باب عاشر 219 الباب الحادي عشر 219 الباب الثاني عشر 219 الباب الثالث عشر 219 الباب الرابع عشر 220 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 الباب الخامس عشر 220 الباب السادس عشر 220 باب عاتكة (باب السوق) (وباب الرحمة) 220 باب زياد (باب القضاء) 221 خوخة تجاه خوخة أبي بكر 225 الفصل الثالث والثلاثون في خوخة آل عمر رضي الله تعالى عنه المتقدم ذكرها، وما يتعين من سدّها في زماننا 227 تحديد موضع خوخة آل عمر 227 اتخاذ بعض الناس بابا وسيلة للتدجيل 228 حج السلطان قايتباي 230 وقف السلطان قايتباي لأهل المدينة المنورة 232 من آثار قايتباي بالحرمين الشريفين 234 الفصل الرابع والثلاثون فيما كان مطيفا بالمسجد الشريف من الدور، وما كان من خبرها، وجلّ ذلك من منازل المهاجرين رضي الله تعالى عنهم 235 رسول الله يخط دور المدينة 235 دار آل عمر بن الخطاب 235 بيت لأبي بكر الصديق صار لآل عمر 236 دار مروان بن الحكم 237 دار رباح ودار المقداد 238 دار مطيع بن الأسود 238 دار حكيم بن حزام 239 دار عبد الله بن مكمل 239 دار النحام 240 دار جعفر بن يحيى 240 دار نصير 241 دار منيرة مولاة أم موسى 241 حش طلحة 241 أبيات خالصة 242 دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف 242 دار موسى المخزومي 243 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 أبيات الصوافي 243 دار خالد بن الوليد 244 دار أسماء بنت حسين 244 دار ريطة 245 دار عثمان بن عفان 245 دار أبي أيوب الأنصاري 246 دار جعفر الصادق 246 دار حسن بن زيد 246 دار فرج الخصي 246 دار عامر بن الزبير بن العوام 247 الفصل الخامس والثلاثون في البلاط، وبيان ما ظهر لنا مما كان حوله من منازل المهاجرين 247 تحديد مكان البلاط 247 حدود البلاط 248 بيان الدور المطيفة بالبلاط 251 الفصل السادس والثلاثون فيما جاء في سوق المدينة التي تصدق به النبي صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين، وذكر دار هشام ابن عبد الملك التي أخذ بها السوق 256 الرسول ينشئ السوق 256 أسواق المدينة في الجاهلية 256 هدم الدار التي وضعت مكان السوق 260 بيت أم كلاب 261 البطحاء 261 بقيع الخيل 261 بركة السوق 262 الفصل السابع والثلاثون في منازل القبائل من المهاجرين، ثم اتخاذ السور على المدينة 263 منازل بني غفار 263 منازل بني ليث بن بكر 264 منازل بني ضمرة بن بكر 265 منازل بني الديل 265 منازل ابني أفصى 266 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 منازل مزينة ومن حل معها 266 منازل بني جشم 268 منازل بني كعب بن عمرو، وإخوتهم من بني المصطلق 269 سعة المدينة في عهد النبي 269 اتخاذ سور المدينة 269 سور آل زنكي 270 من ماثر الجواد الأصفهاني 271 أبواب السور 272 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 الجزء الثالث بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الباب الخامس في مصلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأعياد، وغير ذلك من المساجد التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، مما علمت عينه أو جهته، بالمدينة وما حولها، وما جاء في مقبرتها ومن دفن بها، والمشاهد المعروفة، وفضل أحد والشّهداء به. وفيه سبعة فصول: الفصل الأول في المصلّى في الأعياد، وفيه أطراف [الطرف] الأول: في الأماكن التي صلّى فيها النبي ص العيد. أول عيد صلاه النبي بالمصلى قال الواقديّ: أول عيد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصلّى سنة اثنتين من مقدمه المدينة من مكة، وحملت له العنزة وهو يومئذ يصلي إليها في الفضاء، وكانت العنزة للزبير بن العوام، أعطاه إياها النّجاشي فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان يخرج بها بين يديه يوم العيد، وهي اليوم بالمدينة عند المؤذنين، يعني يخرجون بها بين يدي الأئمة في زمانهم. وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله قال: لما رجعنا من بني فينقاع ضحينا أول أضحى في ذي الحجة صبيحة عشر، فكان أول أضحى رآه المسلمون، وذبح أهل اليسر من بني سلمة، فعددت في بني سلمة سبع عشرة أضحية. مكان مصلى العيد وروى ابن زبالة وابن شبة عن أبي هريرة قال: أول فطر وأضحى صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بالمدينة بفناء دار حكيم بن العداء عند أصحاب المحامل. وروى الثاني عن ابن أبي فروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ذلك المكان. وروى الأول عنه ما يقتضيه؛ فإنه روى عن إبراهيم بن أبي أمية قال: أدركت مسجدّا في زمان عثمان عند حرف زاوية أبي يسار عند أصحاب المحامل، وليس ثم مسجد غيره، وذلك المسجد هو الذي صلّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أضحى، وضحّى هناك هو وأصحابه حتى احتملت ضحاياهم من عنده. قال: وأخبرني من رأى الأنصار يحملون ضحاياهم من هناك، ثم روى عن ابن أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 فروة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في ذلك المسجد وهو خلف المجزرة التي بفناء دار العداء بن خالد، وبقال لها: دار أبي يسار. قلت: فالروايات المذكورة متّفقة على الصلاة بالمحلّ المذكور، ودار حكيم بن العداء هي دار أبيه العداء بن خالد بن هوذة بن بكر بن هوازن؛ فلا مخالفة في ذلك، ولم أعلم محل داره، غير أن الظاهر من قوله «عند أصحاب المحامل» أنه موضع بأعلى السوق مما يلي المصلى، وفي أول الروايات المذكورة بيان أن الصلاة فيه كانت في أول الأمر. تعدد موضع صلاة العيد وروى ابن زبالة أيضا ما يخالف بالنسبة إلى الأولية عن إبراهيم بن أبي أمية عن شيخ من أهل السنّ والثقة قال: أول عيد صلّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في حارة الدوس عند بيت ابن أبي الجنوب، ثم صلى العيد الثاني بفناء دار حكيم عند دار حفرة داخلا في البيت الذي بفنائه المسجد، ثم صلى العيد الثالث عند دار عبد الله بن درة المزني داخلا بين الدارين دار معاوية ودار كثير بن الصّلت، ثم صلى العيد الرابع عند أحجار كانت عند الحناطين بالمصلى، ثم صلى داخلا في منزل محمد بن عبد الله بن كثير بن الصلت، ثم صلى حيث يصلي الناس اليوم. وروى ابن شبة من طريق إبراهيم بن أبي أمية مولى بني عامر بن لؤي قال: سمعت ابن باكية يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد عند دار الشفّاء، ثم صلى في حارة الدوس، ثم صلى في المصلى؛ فثبت يصلّى فيه حتى توفاه الله تعالى. وروى أيضا عن ابن شهاب قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد في موضع آل درة، وهم حي من مزينة، ثم صلى دون ذلك في مكان أطم بني زريق عند أذنه اليسرى. قلت: قوله «ثم صلى في المصلى فثبت يصلي فيه حتى توفاه الله تعالى» هو بمعنى قوله في الرواية التي قبلها «ثم صلى حيث يصلي الناس اليوم» يعني بالمسجد المعروف بمسجد المصلى. بين مصلى العيد وباب السلام ألف ذراع وقد نقل ابن شبة عن شيخه أبي غسّان وهو الكناني من أصحاب مالك أنه قال: ذرع ما بين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عنده دار مروان بن الحكم وبين المسجد الذي يصلي فيه العيد بالمصلى ألف ذراع. قلت: وقد اختبرته فكان كذلك، وهذا المسجد هو المراد بقوله في حديث ابن عباس في الصحيح «إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى في يوم عيد إلى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت الحديث» وكأنهم كانوا قبل اتخاذ المسجد بذلك المحل جعلوا الصلاة الشريف شيئا يعرف به، وهو المراد بالعلم بفتحتين. وقال ابن سعد: كانت دار كثير بن الصلت قبلة المصلي في العيد، وهي تطل على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 بطحان الوادي في وسط المدينة، انتهى. وليس المراد أنها متصلة بوادي بطحان، بل بينهما بعد. ودار كثير هذه كانت قبله للوليد بن عقبة، ثم اشتهرت بكثير بن الصلت، وهو من التابعين، ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فوقع التعريف بداره ليقرب إلى ذهن السامع فهم ذلك، وليس كثير بن الصلت هو الذي اختطها، خلافا لما وقع في كلام الحافظ ابن حجر حيث قال: وإنما بنى كثير بن الصلت داره بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة، لكنها لما كانت شهيرة في تلك البقعة وصف المصّلى بمجاورتها، انتهى. ومأخذنا فيما قدمناه قول ابن شبة في دور بني عبد شمس ونوفل: واتخذ الوليد بن عقبة بن أبي معيط الدار التي في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم التي صلى إليها العيد، وهي يصلي إليها اليوم لآل كثير بن الصلت الكندي، فجلد عثمان الوليد في الشراب، فحلف لا يساكنه إلا وبينهما بطن واد، فعارض كثير بن الصلت بداره هذه إلى دار كثير ببطحان التي يقال لها دار الوليد بن عقبة في شفير الوادي، أي من العدوة الغربية كما بينه في موضع آخر. تحديد المواضع التي صلى فيها العيد وأما الموضع المذكور لصلاة العيد أولا عند أصحاب المحامل- وهم الذين يبيعون المحامل ويصنعونها- فيظهر أنه المسجد المعروف اليوم بمسجد علي رضي الله تعالى عنه الآتي ذكره. وأما الموضع المذكور في الرواية الآخرى عند دار بن أبي الجنوب فلم أعلم محله، غير أن دار ابن أبي الجنوب كانت بالحرّة الغربية التي غربي وادي بطحان كما يؤخذ مما سيأتي في الخندق ومسجد الشجرة والمغرس. وأما الموضع المذكور في قوله «عند دار عبد الله بن درة المزني إلى آخره» فقد تقدم أن منازل مزينة كانت في غربي المصلى وفي قبلتها. وتقدم أن دار كثير بن الصّلت كانت قبلة المصلى، ودار معاوية رضي الله تعالى عنه كانت في مقابلتها، وسيأتي في بيان طريقه صلى الله عليه وسلم إلى قباء أنه كان يمر على المصلى ثم يسلك في موضع الزقاق بين الدارين المذكورتين؛ فيكون ذلك المحل في قبلة المصلى اليوم: إما من المغرب، وإما من المشرق، والأول هو الأقرب. وأما بقية المواضع المذكورة فلم أعرف جهاتها، غير أن الذي يظهر أنها حول المصلى، وبعضها بسوق المدينة، لذكر الحناطين فيها، وسيأتي في مشهد مالك بن سنان أنه بطرف الحناطين، والظاهر أن من هذه المواضع المسجد المعروف اليوم بمسجد أبي بكر رضي الله تعالى عنه بالحديقة المعروفة بالعريضية، كما سيأتي عن المطري. وأما ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أضحى إلى البقيع فصلى ركعتين ثم أقبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 علينا بوجهه وخطب وقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر- الحديث؛ فظاهره أن المراد بقيع الغرقد، لكني أستبعده؛ لأن المتقدمين من مؤرخي المدينة لم يذكروا ذلك مع اشتهار هذا الحديث، وكذلك المطري ومن تبعه. وأغرب الحافظ ابن حجر فقال في الكلام على ترجمة البخاري للرجم بالمصلّى: المراد المكان الذي كان يصلى عنده العيد والجنائز، وهو من ناحية بقيع الغرقد، اه. ومأخذه في ذلك ظاهر هذا الحديث، مع ما ورد من رواية أخرى من الرجم عند موضع الجنائز، وقد تقدم أن موضع الجنائز في شرقي المسجد عند باب جبريل، وليس هو من البقيع، وأما المصلي حيث أطلقت فإنما يراد بها الموضع المعروف الذي قدمناه في غربي المدينة، وبقيع الغرقد في شرقيها، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في موضع آخر على الصواب كما سيأتي عنه في الطرف الثاني، وعلى تقدير أن يكون المراد من حديث البراء المتقدم بقيع الغرقد فهو من المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض السنين، وليس هو المراد إذا أطلق المصلى جزما. والذي يترجح عندي أن المراد بالبقيع في حديث البراء سوق المدينة؛ لما قدمناه فيه من أنه كان يسمى بقيع الجبل، وهو أحد الأماكن المتقدم ذكرها لصلاة العيد، وكذلك هو المراد من حديث ابن عمر «أني أبيع الإبل بالبقيع بالدراهم وآخذ مكانها الدنانير» كما قدمناه. وقال الجمال المطري عقب نقله لما قدمناه عن ابن زبالة: ولا يعرف من المساجد التي ذكر لصلاة العيد إلا هذا المسجد الذي يصلي فيه اليوم، ومسجد شمالية وسط الحديقة المعروفة بالعريضي المتصلة بقبة عين الأزرق، ويعرف اليوم بمسجد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ولعله صلى فيه في خلافته، ومسجد كبير شمالي الحديقة متصل بها يسمى مسجد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ولم يرد أنه رضي الله عنه صلى بالمدينة عيدا في خلافته؛ فتكون هذه المساجد الموجودة اليوم من الأماكن التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد سنة بعد سنة وعيدا بعد عيد؛ إذ لا يختص أبو بكر وعلي رضى الله عنهما بمسجدين لأنفسهما ويتركان المسجد الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. قلت: ما ذكره من أنه لم يرد أن عليا رضي الله تعالى عنه صلى بالمدينة عيدا في خلافته، أي فلا تظهر نسبة المسجد المذكور إليه، وكأنه لم يقف على ما رواه ابن شبة عن سعد بن عبيد مولى ابن أزهر قال: صليت العيد مع علي رضي الله عنه وعثمان رضي الله عنه محصور؛ فصلى ثم خطب بعد الصلاة. وروى أيضا عن الزهري قال: صلى سهل بن حنيف وعثمان محصور الجمعة، وصلى يوم العيد علي بن أبي طالب؛ فالظاهر أنه صلى حينئذ بذلك المكان لكونه أحد المصليات التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه ابتكر الصلاة فيه، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 مصلى العيد بالصحراء ولم يكن المصلي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مسجدّا، بل كانت صحراء لا بناء بها، ونهى صلى الله عليه وسلم عن البناء بها كما سيأتي، ولهذا وقع الرجم بها. وذهب بعض العلماء إلى أن المصلى يثبت لها حكم المسجد، وإن لم يوقف، وهو مردود؛ فإن من شاهد مصلا صلى الله عليه وسلم وما ذكر من امتدادها إلى سوق المدينة كما قدمناه فيه وما بها من الدور والشوارع علم عدم صحة ذلك، وحمل الرجم المذكور في الحديث على أنه وقع بالقرب منها خلاف مقتضى اللفظ والمسجد المتخذ بها اليوم إنما هو في بعضها، وهو المحل الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك المسجدان الآخران، والظاهر أن بناء الثلاثة كان في زمن عمر بن عبد العزيز. وقد قدمنا ذكر الأول منها، وهو المعروف اليوم بمسجد المصلى فيما نقله ابن شبة عن أبي غسان من الذّرع؛ لما بينه وبين المسجد النبوي. والثاني المنسوب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالحديقة المذكورة عن يساره مخزن لدواب الحديقة المذكورة، ومدخل الدواب من باب المسجد الذي في شاميه، فيمتهنه أهل الحديقة بمرور البهائم منه، وربما حبسوها فيه، فدخلته مرة فوجدته كالمزبلة، وهو في غاية الامتهان قد امتلأ بروث الدواب وبولها، ولم أجد موضعا للصلاة فيه فتكلمات مع شيخ الخدام الأمير إينال الناظر على الحديقة المذكورة في أن يغير باب المخزن المذكور، ويجعله من خارج المسجد، فأمر فقيهه الفقيه الشهاب أحمد النوسي بالنظر في ذلك، فجعل على الموضع المسقف من المسجد المذكور الذي فيه المحراب جدارا في شاميه يمنع من وصول البهائم إليه، وكان في جدار المسجد الغربي مما يلي القبلة هيئة بابا مشبك، فجعله باب لذلك المحل، وبقيت رحبة المسجد التي في شاميه دهليزا للدواب، فكلمته في ذلك فذكر أنه قيل له: إن المسجد هو ذلك المسقف فقط، وجدران المسجد شاهدة بخلاف ذلك، فليتنبه له. والمسجد الثالث المنسوب لعلي رضي الله تعالى عنه كان قد تهدّم ودثر حتى صار بعض الحجاج يدفن فيه من يموت في زمن الموسم، فإنه إلى جانب منزلة الحجاج، فجدد بناءه الأمير زين الدين ضغيم المنصوري أمير المدينة الشريفة سنة إحدى وثمانين وثمانمائة. وأما المسجد الأول المعروف اليوم بمسجد المصلى فلم يزل مصونا، وكان بابه لا يزال مفتوحا فربما يقع له انتهاك، فأمر شيخ الخدام بغلقه، وعمارته الموجودة اليوم لا أدري لمن تنسب، إلا أني رأيت على بابه حجرا قد انمحى بعض الكتابة منه، وفيه «أمر بتجديد هذا المسجد المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم بعد خرابه وذهاب عز الدين شيخ الحرم الشريف النبوي، وذلك في أيام السلطان الملك الناصر حسن بن السلطان محمد بن قلاون الصالحي» وما بعد ذلك قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 انمحى. وابتداء ولاية السلطان حسن المذكور في سنة ثمان وأربعين، واستمر إلى أثناء سنة اثنتين وستين وستين وسبعمائة، وهذا المسجد بابه في حائطه الشامي قريبا من محاذاة محرابه، ومن خارج بابه على يمين الداخل منه درج يصعد إلى موضع لطيف على ميمنة الباب المذكور، وقد أصلح ما تشعّث من هذا المسجد الأمير بردبك المعمار سنة إحدى وستين وثمانمائة في دولة الأشرف إينال، وأحدث لذلك الموضع المتقدم وصفه في ميمنة الباب المذكور درجة أخرى يتوصل بها إليه من داخل المسجد، وذلك الموضع هو الذي يقوم عليه الخطيب في يوم العيد، وأحدث الأمير بردبك أيضا أمام ذلك الموضع من خارج المسجد مسقفا ليجلس عليه المبلغون أمام الخطيب، وفي يوم العيد يجتمع أهل السنة من أهل المدينة وأعيانهم بالمصلى المذكور، بحيث لا يبقى خارجه من أهل السنة إلا اليسير مع شيخ الخدام وجماعته، لأن العادة جرت بأن يكون صفهم أمام الخطيب في الجمعة والعيد؛ لما ذكره البدر ابن فرحون من أن أول قاض ولي لأهل السنة القاضي الإمام العلامة السراج عمر بن أحمد الخضر سنة اثنتين وثمانين وستمائة في دولة المنصور قلاوون الصالحي، وكان القضاة قبل ذلك من الشيعة آل سنان، وكانت الخطابة بأيديهم، فانتزع السلطان المشار إليه ذلك منهم للسراج، فكانوا يؤذونه أذى شديدا. قال ابن فرحون: أدركت من أذاهم له أنهم كانوا يرجمونه بالحصباء وهو يخطب على المنبر، فلما كثر ذلك منهم تقدم الخدام وجلسوا بين أيديهم أمام المنبر، فذلك هو السبب في إقامة صفّ الخدام قبالة الخطيب، وخلفهم غلمانهم وعبيدهم. اه. وقد استمر ذلك إلى اليوم، فإذا صلى الإمام بأهل المسجد المذكور صلاة العيد انصرف، وخرج من بابه المذكور مخترقا للصفوف متخطّيا للرقاب إلى أن يصعد في أعلى تلك الدرج، فيستدبر القبلة ويستقبل جهة الشام على عادة الخطباء، ثم يخطب هناك، فيصير جميع من في المسجد خلف ظهره، ثم إن أهل المسجد يستدبرون القبلة ويستقبلون ظهره وغالب من يصلي خارج المسجد لا يشاهده أيضا لحيلولة المسقف المحدث أمام ذلك الموضع، وهذا كله مخالف للسنة، ولما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم في هذا المحل من قيامه في مصلاه مستقبلا للناس وهم على صفوفهم كما سنوضحه، ومن زعم أن هذا الوضع في محل قيام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه صلى بذلك المحل على هذه الصفة الموجودة اليوم فقد أخطأ خطأ عظيما وأساء الأدب، فكيف يظن به صلى الله عليه وسلم أنه ينصرف عن أصحابه حتى يستدبرهم أو الكثير منهم ثم يخطب لهم؟ وتترك الصحابة رضي الله تعالى عنهم طلعته البهية ويرضون باستدباره صلى الله عليه وسلم مع قيامه لمخاطبتهم، وهم أعظم الناس أدبا وحرصا على رؤيته الشريفة، وكيف يتفق علماء الإسلام على أن السنة خلاف ذلك كما سيأتي؟ فالمتعين تغيير هذه الهيئة، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 الطرف الثاني: فيما جاء من أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بالمصلى على غير منبر مستقبلا للناس. كيف صلى الرسول العيد؟ قال البخاري في صحيحه، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، ثم روى فيه حديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف، فقال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، وإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذته بثوبه، فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له: غيرتم والله، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة، هذا لفظ رواية البخاري. قال الحافظ ابن حجر: المراد بقوله إلى المصلى المصلى المعروف بالمدينة بينه وبين باب المسجد ألف ذراع، قاله عمر بن شبة عن أبي غسان صاحب مالك، وفي رواية ابن حبان من طريق داود: فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه. قلت: وهذا معنى قوله في رواية البخاري «ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس» يعني أنه يستدبر القبلة ويقف في مصلاه، وقد ترجم البخاري لاستقبال الإمام الناس في خطبة العيد، وأورد فيه طرفا من حديث أبي سعيد المذكور، وقد صرح الأئمة بأن ذلك هو السنة. قال الزين ابن المنير: وإنما أعاد البخاري هذه الترجمة مع أنه قدم نظيرها في الجمعة لدفع احتمال توهم أن العيد يخالف الجمعة في ذلك، وأن استقبال الإمام في الجمعة يكون ضروريا لكونه يخطب على منبر، بخلاف العيد فإنه يخطب فيه على رجليه لحديث أبي سعيد المذكور، فأراد أن يبين أن الاستقبال سنّة على كل حال. من أحدث منبر المصلى العيد قال الحافظ ابن حجر: وهذا يقتضي أنه لم يكن في المصلّى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم منبر إلى أن اتخذ لمروان، ويدل عليه قول أبي سعيد «فلم يزل الناس إلى آخره» . ووقع في المدونة لمالك، ورواه ابن شبة عنه قال: أول من خطب الناس في المصلى على منبر عثمان بن عفان، كلمهم على منبر من طين بناه كثير بن الصلت، وهذا معضل، وما في الصحيحين أصح؛ فقد رواه مسلم بنحو رواية البخاري، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان، ولم يطلع على ذلك أبو سعيد، انتهى. قلت: لكن روى أبو داود وغيره في حديث ذكر أنه غريب وأن سنده جيد عن عائشة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 رضي الله تعالى عنها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له بالمصلى. وفي رواية للترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الاستسقاء حتى أتى المصلى فرقى على المنبر؛ فهذا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في الاستسقاء بالمصلى على منبر، وكأن ذلك هو المستند لمن أحدث المنبر في خطبة العيد قياسا على الاستسقاء، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم خصّ الاستسقاء بذلك لتيسر رؤيته لعامة الناس فيها، فيقتدون به في تحويل الرداء عند تحويله، وفي كيفية رفع اليدين في الدعاء، ونحو ذلك مما يختص بخطبة الاستسقاء. قال الحافظ ابن حجر: وقول أبي سعيد «غيرتم والله» صريح في أنه هو المنكر ووقع في رواية مسلم «فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، قال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه» فيحتمل أن يكون المنكر أبو مسعود الذي وقع في رواية عبد الرزاق أنه كان معهما، ويحتمل أن يكون القصة تعددت، ويدل على ذلك المغايرة بين روايتي عياض ورجاء، ففي رواية عياض أن المنبر بني له بالمصلى، وفي رواية رجاء أن مروان أخرج المنبر معه، ولأن إنكار أبي سعيد كان بينه وبينه، وإنكار الآخر وقع على رؤوس الناس. وقوله: «إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة» يشعر بأن ذلك باجتهاد من مروان. أول من خطب قبل صلاة العيد وقد اختلف في أول من خطب قبل الصلاة، فرواية الصحيحين عن أبي سعيد مصرحة بأنه مروان. وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس ثم خطبهم، يعني على العادة، فرأى ناسا لم يدركوا الصلاة، ففعل ذلك، أي صار يخطب قبل الصلاة. وهذه العلة غير التي اعتلّ بها مروان؛ لأن عثمان رضي الله تعالى عته راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم للصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في استماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون ترك سماع خطبته لما فيها من سبّ من لا يستحق السب، والإفراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه. ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانا، بخلاف مروان فواظب عليه فلذلك نسب إليه. وقد أوردنا بقية كلام الحافظ ابن حجر وغيره من الفوائد المتعلقة بذلك في كتابنا الموسوم «بالوفا، بما يجب لحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم» وبينا فيه أن الدرج الموجودة التي يقوم عليها الخطيب اليوم ليست في الموضع الذي بني لمروان؛ لأن مروان وإن قدّم الخطبة على الصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 فلما له في ذلك من المقصد. وأما جعله المنبر على خلاف السنة وجعله القوم أو بعضهم خلف ظهره فلا ثمرة له، وأيضا فيبعد إقرار من جاء بعده على ذلك، وأيضا لو كان ذلك من فعله لأنكر عليه كما أنكر عليه ما تقدم، ولو سلم أن تلك الدرج في موضع منبر مروان فالسنة تغيير ذلك واتباع ما صح من فعله صلى الله عليه وسلم، كما خولف في أمر الخطبة واتبع بها فعله صلى الله عليه وسلم حيث جعلت بعد الصلاة، والتشبث باستمرار أفعال الناس إنما يكون في شيء لم يعلم حكمه من جهة الشرع، أما ما علم حكمه فالواجب اتباع الشرع فيه، واعتقاد حدوث ما عليه الناس، وتقديره بأقرب زمان، وقد ذم الله تعالى قوما تمسكوا في جحد الحق بفعل سلفهم حيث قال حكاية عنهم: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] فمن الواجب تطهير هذا المحل الشريف المنسوب للمصطفى صلى الله عليه وسلم عن هذه البدعة الشنعاء، ولذلك بينا بعض الدرج عن يمين القائم في محراب المسجد المذكور كما ذكر العلماء أنه السنة، وتكون مرتفعة بحيث يرى القائم عليها من خارج المسجد، والذي يظهر أن تلك الدرج إنما جعلت للمبلغ، وأن الخطيب إنما كان يقوم فيه على الأرض؛ لأنه الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم، فكأن بعض الخطباء قام عليها بعد ذلك فاستمر الأمر على ذلك، والله أعلم. الطرف الثالث: فيما جاء في فضل المصلى الشريف، والدعاء به، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن تضييقه والبناء به. أورد ابن شبة في ترجمة المصلى عن جناح النجار قال: خرجت مع عائشة بنت سعد بن أبي وقاص إلى مكة، فقالت لي: أين منزلك؟ فقلت لها: بالبلاط، فقالت لي: تمسك به فإني سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما بين مسجدي هذا المسجد ومصلاي روضة من رياض الجنة» . وقوله في هذه الرواية: «ما بين مسجدي هذا المسجد- إلى آخره» يدفع تأويل من أوّل حديث الأوسط للطبراني بلفظ «ما بين حجرتي ومصلّاي» والحديث الذي رواه ابن زبالة من طريق عائشة بنت سعد عن أبيها بلفظ «ما بين منبري والمصلى» بأن المراد مصلاه الذي يصلي فيه في المسجد؛ لأنه لا يصح أن يقال: ما بين هذا المسجد والمصلى الذي فيه، ولهذا استدلّت به عائشة بنت سعد على الحث على التمسك بالدور التي بالبلاط، يعني الآخذة من باب السلام إلى المصلى؛ لأنها فيما بين المسجد ومصلى العيد، وإذا كان ما بين المسجدين المذكورين روضة فهما روضة من باب أولى؛ لأن ذلك الفضل إنما حصل لما بينهما بحصوله صلى الله عليه وسلم في ذلك وتردده صلى الله عليه وسلم فيما بينهما، فكيف بمحلّ سجوده وموقفه الشريف؟ وروى ابن شبة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فمر بالمصلّى استقبل القبلة ووقف يدعو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وعن أبي عطاء عن أبيه قال: قال لي سعيد بن المسيب: يا أبا محمد، أتعرف موضع دار كثير بن الصلت؟ قلت: نعم، قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حتى انتهى إلى ذلك الموضع فقام وصفّ أصحابه خلفه فصلى على النجاشي حين مات في أرض الحبشة. وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يستسقي، فبدأ بالخطبة، ثم صلى وكبر واحدة افتتح بها الصلاة وقال: هذا مجمعنا ومستمطرنا ومدعانا لعيدنا ولفطرنا وأضحانا؛ فلا يا بنى فيه لبنة على لبنة ولا جهة، ورواه ابن زبالة إلا أنه قال: ثم قال: هذا مجتمعنا ومستمطرنا ومدعانا لعيدنا لفطرنا وأضحانا، الحديث. وروى يحيى عن داود بن أبي الفرات قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فقال: هذا مستمطرنا ومصلّانا لأضحانا وفطرنا، لا يضيق، ولا ينتقص منه شيء. وسيأتي في ترجمة أحجار الزيت أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى عندها قريبا من الزوراء. [الطرف الرابع:] بيان طريقي ذهاب النبي للمصلى ورجوعه الطرف الرابع: فيما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم: كان يذهب إلى هذا المصلى الشريف من طريق ويرجع في أخرى، وبيان كل من الطريقين. روينا في صحيح البخاري في باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق. وروى ابن شبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يوم العيد في طريق ورجع في طريق آخر، وفي رواية «كان يأخذ يوم العيد في طريق ويرجع في طريق آخر» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد في طريق لم يرجع فيه. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا خرج إلى العيد رجع في غير الطريق الذي أخذ فيه» . وعنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: ركن باب داري هذا أحبّ إليّ من زنتها ذهبا، سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على داري إلى العيد، فجعلها يسارا، فمر على عضادة داري مرتين في غداة واحدة. قلت: ولا مخالفة بين هذا وبين الرواية الأولى لأن دار أبي هريرة كانت بالبلاط عند زقاق عبد الرحمن بن الحارث كما قدمناه في الدور المحيطة بالبلاط الأعظم، وبعدها إلى جهة المصلى قريبا منها دار سعد بن أبي وقاص. وقد روى ابن شبة عن يحيى بن عبد الرحمن عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يأتي العيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 ماشيا على باب سعد بن أبي وقاص، ويرجع إلى أبي هريرة» وحينئذ فيمر على دار أبي هريرة في ذهابه ثم في رجوعه؛ لأن الشافعي روى في الأم ومنها نقلت عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم، فإذا رجع رجع من الطريق الآخرى على دار عمار بن ياسر» . ورواه ابن زبالة عن محمد بن عمار بلفظ «كان يخرج إلى المصلى من الطريق العظمى على أصحاب الفساطيط، ويرجع من الطريق الآخرى على دار عمار بن ياسر» وقد قدمنا أن دار عمار بن ياسر في زقاق عبد الرحمن بن الحارث الذي يسلك إلى البلاط عند دار أبي هريرة بابها يقابل دار عبد الرحمن بن الحارث، ولها خوخة في كتّاب عروة، فصحّ مروره صلى الله عليه وسلم عليها مرتين في غداة واحدة مع ذهابه من طريق ورجوعه في أخرى. وسيأتي في ذكر طريقه صلى الله عليه وسلم إلى قباء ذهابا وإيابا ما يصرح بأنه إذا رجع يمر على مسجد بني زريق من كتّاب عروة حتى يخرج إلى البلاط، يعني من الزقاق المذكور؛ لما قدمناه في وصف البلاط. والطريق العظمى: - كما قال المطري- هي طريق الناس اليوم من باب المدينة: أي الدرب المعروف بدرب سويقة إلى مسجد المصلى، ولم يتعرض لبيان الطريق الآخرى، وقد منّ الله سبحانه وتعالى ببيانه فله الحمد على ذلك. وهذه الطريق هي المرادة بما رواه ابن زبالة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يذبح أضحيته بيده إذا انصرف من المصلى على ناحية الطريق التي كان ينصرف منها» وتلك الطريق أو المكان الذي كان يذبح فيه مقابل المغرب مما يلي طريق بني زريق، أي أنه إذا انصرف من المصلّى أتى موضعا في غربي طريق بني زريق فذبح، ثم سلك في تلك الطريق، وهي سالكة في بني زريق آخذة من قبلة المصلى إلى أن يمر بدار أبي هريرة كما تقدم، ولهذا روى الواقدي عن عائشة وابن عمر وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم «كان يذبح عند طرف الزقاق عند دار معاوية» أي المتقدم ذكرها. وسور المدينة اليوم مانع من سلوك هذه الطريق في الرجوع. ويستفاد من هذا أن المخالفة بين الطريقين لم تكن في جميعهما، إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وصل إلى محل البلاط الذي عند دار أبي هريرة لم يسلك في بقية الطريق العظمى، وهي الشارعة اليوم إلى باب السلام، بل يأخذ في ميسرة البلاط إلى الشام؛ لأن الظاهر أن غالب تلك الأماكن كانت براحا ثم يعرج إلى جهة داره بعد ذلك. على أن ما ذكرناه في وصف هذه الطريق مقتض لأن طريقه صلى الله عليه وسلم في ذهابه أقصر من طريق رجوعه كما لا يخفى؛ فيعكر على القول بأن المستحب أن يذهب في أطول الطريقين ويرجع في أقصرهما. وقد روى الشافعي رحمه الله تعالى في الأم عقب ما قدمناه عنه وصف طريق أخرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 الرجوع فيها أبعد من الذهاب أيضا بكثير جدّا؛ فإنه روى عقب ذلك عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه عن جده أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجع من المصلّى يوم عيد فسلك على التمارين من أسفل السوق، حتى إذا كان عند مسجد الأعرج الذي هو عند موضع البركة التي بالسوق قام فاستقبل فج أسلم فدعا ثم انصرف. قال الشافعي عقبه: وأحبّ أن يصنع الإمام مثل هذا، وأن يقف في موضع فيدعو الله مستقبل القبلة، وإن لم يفعل فلا كفارة ولا إعادة عليه، هذا لفظ الأم ومنها نقلت. ويؤيد هذا ما رواه يحيى عن محمد بن طلحة بن طويل قال: رأيت عثمان بن عبد الرحمن ومحمد ابن المنكدر ينصرفان من العيد فيقومان عند البركة التي بأسفل السوق، قال: وسألت عثمان بن عبد الرحمن عن ذلك فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عند ذلك المكان إذا انصرف من العيد. وقد قدمنا عن ابن زبالة في سوف المدينة أن محمد بن المنكدر وعثمان بن عبد الرحمن وجماعة كانوا يقومون بفناء بركة السوق مستقبلين، وأن عثمان بن عبد الرحمن قال: قد اختلف علينا في ذلك؛ فقائل يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هنالك، وقائل يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم هنالك فينظر إلى الناس إذا انصرفوا من العيد. قلت: وقد بينت رواية الشافعي المذكور أنه كان يدعو هنالك إذا انصرف من العيد، ولا مانع من كونه مع ذلك ينظر إلى الناس المنصرفين من العيد أيضا فلا اختلاف. وقد بينا هناك ما يقتضي أنه كان يسلك على سوق التمارين، وهو في شامي المصلى مما يلي المغرب، وبينا أيضا أن منازل أسلم كانت في غربي سوق المدينة إلى الشام بعد التمارين، وذلك عند حصن أمير المدينة وما سفل منه إلى جهة الشام مما يلي غربي سوق الشاميين عند منزل الحاج الشامي بالموسم، وبينا بركة بركة السوق هي المنهل المدرج الذي على يسار المتوجه إلى ثنيّة الوداع عند مشهد النفس الزكية، والقائم عندها إذا استقبل فجّ أسلم كان مستقبلا للقبلة، ولعل مسجد الأعرج الذي أشار الشافعي في روايته إلى أنه عندها هو الموضع الذي هو قبلة مشهد النفس الزكية، فإنه مسجد، وهو عند موضع البركة، وما علمت المرأة بالأعرج الذي نسب إليه المسجد المذكور. وقد أنشأ قاضي الحرمين السيد الشريف العلامة محيي الدين عبد القادر الحنبلي الفاسي المكي مسجدّا بمنزلة الحاج الشامي بالقرب من المنهل المذكور في جهة قبلته. إذا علمت ذلك فهذه الطريق تزيد على الطريق العظمى إلى المصلى بنحو ضعفها، ويمكن سلوكها اليوم في الرجوع من المصلى، بخلاف الطريق السابقة؛ لحيلولة السور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وأهل المدينة اليوم يذهبون من الطريق العظمى، ويرجعون في بعض تلك الطريق السابقة؛ لأنهم يأخذون من جهة قبلة المصلّى إلى المشرق خارج سور المدينة، فيدخلون من درب البقيع، وطريقهم هذه في الرجوع أطول من الذهاب أيضا، ولو سلكوا الطريق المذكورة في رواية الشافعي الثانية لكان أولى، وليحصل الدعاء بذلك المحل الشريف اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن تقدم ذكره من السلف الصالح. وقد فعلت ذلك في عامنا هذا، فسلكت في الذهاب إلى المصلّى من الطريق العظمى، ورجعت من أسفل السوق إلى أن قمت بفناء بركته المذكورة، ثم انصرفت فدخلت المدينة من الباب الذي يلي حصن أمير المدينة، والخير كله في الاتباع ومجانبة الابتداع، وأي بركة أعظم من ذهاب الإنسان إلى المصلى في ذلك اليوم السعيد في طريق ذهب منها النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ ثم صلاته بمصلّاه الشريف، ثم رجوعه في طريقه التي رجع منها. وقد قال المجد: وإذا ثبت بما رويناه- يعني من الأحاديث المتقدمة- أن المصلّى الموجود هو مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأعياد، فالصلاة فيه تزداد فضلا ومزية على كل مصلى أيّ ازدياد، ويخص الفائزون بالصلاة فيه من الله تعالى بأسبغ نعم وأياد، ويمنح الحائزون فضل الحضور إليها فواضل قصرت عنها معالي معد وأيادي إياد. قلت: وأخبرني جماعة من المشايخ منهم شيخنا الكمال أبو الفضل محمد ابن العلامة نجم الدين المرجاني وأخته المسندة أم كمال كماليه والمسندة أم حبيبة زينب ابنة الشهابي أحمد الشونكي وغيرهم إذنا عن المجد المشار إليه قال عقب ما تقدم عنه: أنشدني أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم الحموي كتابة عن أبي البركات أيمن بن محمد بن محمد بن محمد الغرناطي لنفسه: إنّ عيدا بطيبة وصلاة ... بمصلّى الرسول في يوم عيد نعم ضاق واسع الشكر عنها ... فهي بشرى لكل عبد سعيد كم تمنيتها فنلت التمني ... آخر العمر من مكان بعيد وإذا كان في البقيع ضريحي ... وتوسّدت طيب ذاك الصعيد فاشهدوا لي بكلّ خير وبشر ... عند ربي ومبدئي ومعيدي والمسؤول من فضل الله تعالى أن يكمل لأهل هذا المصلى الشريف عظيم منته بجعل منبره المنيف على طريقته صلى الله عليه وسلم وسنته، بمنه وكرمه، آمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 الفصل الثاني في مسجد قباء، وفضله ، وخبر مسجد الضّرار [مسجد قباء، وفضله] تأسيس مسجد قباء تقدم تأسيس النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء في الفصل العاشر من الباب الثالث، عند مقدمه صلى الله عليه وسلم قباء، وبسطنا ذلك هناك، فراجعه وذكرنا هناك ما جاء من أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل فيه بنفسه، وأنه أسّسه وجبريل يؤمّ به البيت، وأنه كان يقال: إنه أقوم مسجد قبلة، وأنه صلى الله عليه وسلم أسسه ثانيا بعد تحويل القبلة، وقدمنا أيضا قول عروة في الصحيح في حديث الهجرة الطويل «فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى» . وفي رواية عبد الرزاق عنه قال «الذين بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف» وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عابد ولفظه «ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال، واتخذ مكانه مسجدّا فكان يصلي فيه، ثم بناه بنو عمرو بن عوف، فهو الذي أسس على التقوى» وقدمنا أيضا أنه أول مسجد بناه النبي صلى الله عليه وسلم وصلى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا. قال الحافظ ابن حجر: اختلف في المراد بقوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة: 108] فالجمهور على أن المراد مسجد قباء، وهو ظاهر الآية، وتقدم في فضل المسجد النبوي حديث مسلم المشتمل على أن أبا سعيد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال «هو مسجدكم هذا» وفي رواية لأحمد والترمذي عنه: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد المدينة، فسألاه عن ذلك، فقال: هو هذا، وفي ذلك- يعني مسجد قباء- خير كثير، وقدمنا أيضا الجمع بأن كلا من المسجدين قد أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه، وأنهما المراد من الآية، وأن السر في اقتصاره صلى الله عليه وسلم على ذكر مسجد المدينة دفع توهم اختصاص ذلك بمسجد قباء، كما هو ظاهر ما فهمه السائل وتنويها بمزية مسجده الشريف. قال الحافظ ابن حجر: والحق أن كلا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية الآية فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة: 108] يؤيد كون المراد مسجد قباء. وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا في أهل قباء، قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية. قال الحافظ ابن حجر: فالسر في جوابه صلى الله عليه وسلم بما تقدم دفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافا؛ لأن كلا منهما أسس على التقوى وكذا قال السهيلي وزاد أن قوله تعالى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يقتضي مسجد قباء؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم حلّ النبي صلى الله عليه وسلم بدار الهجرة. روى أحمد وابن شبة، واللفظ لأحمد، عن أبي هريرة قال: انطلقت إلى مسجد التقوى أنا وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لنا: انطلق نحو مسجد التقوى، فانطلقنا نحوه، فاستقبلنا يداه على كاهلي أبي بكر وعمر، فثرنا في وجهه فقال: من هؤلاء يا أبا بكر؟ فقال: عبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وسمرة. وروى ابن شبة من طرق ما حاصله أن الآية لما نزلت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قباء، وفي رواية أهل ذلك المسجد، وفي رواية بني عمرو بن عوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فما بلغ من طهوركم؟ قالوا: نستنجي بالماء» . وذكر أبو محمد المرجاني الجمع بأن كلا من المسجدين أسّس على التقوى، ثم قال: فقد روي عن عبد الله بن بريدة في قول الله عز وجل فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ قال: إنما هي أربعة مساجد، لم يبنهنّ إلا نبي: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبيت أريحاء بيت المقدس، بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة مسجد قباء اللذين أسّسا على التقوى، بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وقال يحيى بن الحسين في أخبار المدينة: حدثنا بكر بن عبد الوهاب أنبأنا عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «المسجد الذي أسّس على التقوى من أول يوم هو مسجد قباء، قال الله جل ثناءه فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108] وبكر بن عبد الوهاب هو ابن أخت الواقدي صدوق، وعيسى بن عبد الله يظهر لي أنه عيسى بن عبد الله بن مالك وهو مقبول؛ فيكون جده حينئذ عبد الله بن مالك، وهو شيخ مقبول يروى عن علي وابن عمر؛ فالحديث حسن؛ فتعين الجمع بما تقدم، والله أعلم. ما جاء في أن الصلاة فيه تعدل عمرة روى الترمذي عن أسيد بن حضير الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» قال الترمذي: وفي الباب عن سهل بن حنيف، وحديث أسيد حديث حسن غريب، ولا يعرف لأسيد شيء يصح غير هذا الحديث. قلت: وأخرجه البيهقي وابن ماجه من طريق أبي بكر بن شيبة بإسناد الترمذي، وهو جيد، بلفظ «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» . وأخرج ابن حبّان في صحيحه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه شهد جنازة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 بالأوساط في دار سعد بن عبادة، فأقبل ماشيا إلى بني عمرة بن عوف بفناء بني الحارث بن الخزرج، فقيل له: أين تؤم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أهل هذا المسجد في بني عمرو بن عوف؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من صلى فيه كان كعدل عمرة» . ورواه ابن زبالة موقوفا، ولفظه أن عبد الله بن عمر شهد جنازة في الأوساط من بني الحارث بن الخزرج، ثم خرج يمشي، فقالوا له: أين تريد يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أريد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء؛ أنه من صلى فيه ركعتين كان كعدل عمرة. وأخرج ابن ماجه وعمر بن شبة بسند جيد عن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة» . ورواه أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد. ورواه يحيى من طريقين فيهما من لم أعرفه بلفظ «من توضأ فأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له عدل عمرة» . ورواه الطبراني في الكبير عن سهل من طريق موسى بن عبيدة- وهو ضعيف- بلفظ «من توضأ فأحسن الوضوء ثم دخل مسجد قباء فيركع فيه أربع ركعات كان ذلك عدل رقبة» . ورواه ابن شبة عن سهل من طريق موسى بن عبيدة المذكور بلفظ «من توضأ فأحسن وضوءه ثم جاء مسجد قباء فركع فيه أربع ركعات كان له عدل عمرة» . ورواه أيضا بسند فيه يوسف بن طهمان- وهو ضعيف- عن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما من مؤمن يخرج على طهر إلى مسجد قباء لا يريد غيره حتى يصلي فيه إلا كان بمنزلة عمرة» . وروى الطبراني في الكبير بسند فيه يزيد بن عبد الملك النوفلي- وهو ضعيف- عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من توضّأ فأسبغ الوضوء ثم عمد إلى مسجد قباء لا يريد غيره، ولا يحمله على الغدوّ إلا الصلاة في مسجد قباء، فصلى فيه أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بأم القرآن كان له كأجر المعتمر إلى بيت الله» . وقال عمر بن شبة: حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا أيوب بن صيام عن سعيد بن الرقيش الأسدي قال: جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ثم سلم وجلس وجلسنا حوله، فقال: سبحان الله ما أعظم حقّ هذا المسجد، لو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه لصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 قال ابن شبة: قال أبو غسان: ومما يقوّي هذه الأخبار ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة قول عبد الرحمن بن الحكم في شعر له: فإن أهلك فقد أقررت عينا ... من المتعمرات إلى قباء من اللاتي سوالفهنّ غيد ... عليهنّ الملاحة بالبهاء تفضيل الصلاة في مسجد قباء على بيت المقدس ما جاء في تفضيل الصلاة فيه على بيت المقدس، ومغفرة ذنوب من صلى فيه مع المساجد الثلاثة. روى ابن شبة بسند صحيح من طريق عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي يقول: «لأن أصلّي في مسجد قباء ركعتين أحبّ إليّ من أن آتى بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل» . ورواه الحاكم عن عامر بن سعد وعائشة بنت سعد سمعا أباهما يقول: لأن أصلي في مسجد قباء أحبّ إليّ من أن أصلي في مسجد بيت المقدس، قال الحاكم: وإسناده صحيح على شرطهما. وهذا شاهد لما روي عن محمد بن مسلمة المالكي أنه قال: إن إتيان مسجد قباء يلزم بالنذر، وجمهور العلماء أن ذلك وإن كان قربة لا يلزم بالنذر. وعن عاصم قال: أخبرنا أن من صلى في المساجد الأربعة غفر له ذنبه، فقال له أبو أيوب: يا ابن أخي أدلّك على ما هو أيسر من ذلك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر، غفر له ما تقدم من ذنبه» أخرجه أبو حاتم وقال: المساجد الأربعة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الأقصى، ومسجد قباء. إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم مسجد قباء ما جاء في إتيان النبي صلى الله عليه وسلم له راكبا وماشيا، وصلاته فيه، وتعيين الأيام التي كان صلى الله عليه وسلم يأتي قباء فيها هو وغيره من الصحابة. روينا في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور قباء، أو يأتي قباء، راكبا وماشيا. زاد في رواية لهما: فيصلي فيه ركعتين. وروى ابن شبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسجد قباء، فصلى فيه، فجعلت الأنصار يأتون وهو يصلي، فيسلّمون عليه، فخرج عليّ صهيب فقلت: يا صهيب كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردّ على من سلم؟ قال: يشير بيده. وفي رواية للبخاري والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا وماشيا» وكان عبد الله يفعله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وفي رواية لابن حبّان في صحيحه «كل يوم سبت» . وفيها رد على من قال: إن المراد بالسبت الأسبوع. وروى ابن شبة عن سعيد بن عمرو بن سليم مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يطرح له على حمار أنبجانّي لكل سبت، ثم يركب إلى قباء» . ورواه ابن زبالة بنحوه، وزاد «ويمشي حوله أصحابه» . وروى ابن شبة عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يأتي قباء يوم الإثنين» . وعن محمد بن المنكدر مرسلا قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان» . ورواه يحيى عن ابن المنكدر عن جابر متصلا. وفي كتاب رزين عن ابن المنكدر قال: أدركت الناس يأتون مسجد قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان. وروى يحيى عن ابن المنكدر نحوه أيضا. وعن أبي غزية قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يأتي قباء يوم الإثنين ويوم الخميس، فجاء يوما من تلك الأيام فلم يجد فيه أحدا من أهله، فقال: والذي نفسي بيده لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في أصحابه ننقل حجارته على بطوننا، يؤسّسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وجبريل يؤم به البيت، ومحلوف عمر بالله لو كان مسجدنا هذا بطرف من الأطراف لضربنا إليه أكباد الإبل، ثم قال: اكسروا لي سعفه واجتنبوا العواهن، أي ما يلي القلب من السّعف، فقطعوا السعفة، فأتى بها، فأخذ رزمة فربطها فمسحه، قالوا: نحن نكفيك يا أمير المؤمنين، قال: لا تكفو نيه. وفي رواية لرزين عقب قوله: «وجبريل يؤم به البيت» ثم أخذ أي عمر رضي الله تعالى عنه جرائد فجعل يمسح جدرانه وسطحه، فقيل له: نكفيك يا أمير المؤمنين، فقال: لا تكفونيه، أنا أريد أن أكفيكم أنتم مثل هذا، وإن شئتم اعملوا مثل ما أعمل. وقد استشكل الزين المراغي قوله «وجبريل يؤم به البيت» بأن ذلك كان قبل تحويل القبلة، وقد أشرنا فيما تقدم لجوابه. وأسند ابن زبالة عن شيخ من بني عمرو بن عوف قال: أتانا عمر بن الخطاب بقباء فقال لخياط بسدّة الباب: انطلق فأتني بجريدة وإياك والعواهن، فأتاه بجريدة، فقشرها وترك لها رأسا فضرب به قبلة المسجد حتى نفض الغبار. ورواه ابن شبة، إلا أنه قال: عن شيوخ من بني عمرو بن عوف أن عمر رضي الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 تعالى عنه جاءهم بقباء نصف النهار، فدخل مسجد قباء، فأمر رجلا يأتيه بجريدة رطبة، الخبر بنحوه. وروى ابن زبالة عن زيد بن أسلم قال: الحمد لله الذي قرّب منا مسجد قباء، ولو كان بأفق من الآفاق لضربنا إليه أكباد الإبل. وفي صحيح البخاري: كان سالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهما يؤم المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فيهم أبو بكر وعمر. ورواه ابن شبة عن ابن عمر، ولفظه: وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار في مسجد قباء، فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعامر بن ربيعة رضوان الله عليهم. وروى أيضا عن أبي هاشم قال: جاء تميم بن زيد الأنصاري إلى مسجد قباء وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يصلي بهم، فجاء صلاة الفجر وقد أسفر فقال: ما يمنعكم أن تصلوا؟ ما لكم قد حبستم ملائكة الليل وملائكة النهار؟ قالوا: يمنعنا أنا ننتظر صاحبنا، قال: فما يمنعكم إذا احتبس أن يصلي أحدكم؟ قالوا: فأنت أحقّ من يصلي بنا، قال: أترضون بذا؟ قالوا: نعم، فصلى بهم، فجاء معاذ فقال: ما حملك يا تميم على أن دخلت عليّ في سربال سربلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما أنا بتاركك حتى أذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن هذا تميم دخل في سربال سربلتنيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما تقول يا تميم؟ فقال مثل الذي قال لأهل المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا فاصنعوا مثل الذي صنع تميم بهم، إذا احتبس الإمام. وروى ابن زبالة عن عويم بن ساعدة أن سعد بن عويم بن قيس بن النعمان كان يصلي في مسجد قباء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زمان عمر بن الخطاب فأمر عمر مجمع بن حارثة أن يصلي بهم بعد أن ردّه، وقال له: كنت إمام مسجد الضّرار، فقال يا أمير المؤمنين كنت غلاما حدثا، وكنت أرى أن أمرهم على أحسن ذلك، وقدّموني لما معي من القرآن، فأمره فصّلى بهم. المكان الذي كان الرسول يصلي فيه بمسجد قباء ما جاء في تعيين مصلّاه صلى الله عليه وسلم منه، وصفته وذرعه. روى ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى الأسطوان الثالثة في مسجد قباء التي في الرحبة. ونقل ابن شبة عن الواقدي أنه قال: عن مجمع بن يعقوب عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش قال: كان المسجد في موضع الأسطوان المخلّقة الخارجة في رحبة المسجد. وعن ابن رقيش قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، وقدّم القبلة إلى موضعها اليوم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 وقال: جبريل يؤم بي البيت. قال ابن رقيش: فحدثني نافع أن ابن عمر كان بعد إذا جاء مسجد قباء صلى إلى الأسطوان المخلّقة يقصد بذلك مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الأول. قال ابن شبة: قال أبو غسان: وأخبرني من أثق به من الأنصار من أهل قباء أن موضع قبلة مسجد قباء قبل صرف القبلة أن القائم كان يقوم في القبلة الشامية فيكون موضع الأسطوان الشارعة في رحبة مسجد قباء التي في صف الأسطوان المخلقة المقدمة التي يقال لها إن مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرفها. قال: وأخبرني أيضا أن مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء بعد صرف القبلة كان إلى حرف الأسطوان المخلّق كثير منها المقدمة إلى حرفها الشرقي، وهي دون محراب مسجد قباء عن يمين المصلى فيه. وروى ابن زبالة عن عبد الملك بن بكر بن أبي ليلى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد قباء إلى الأسطوان الثالثة في الرحبة إذا دخلت من الباب الذي بفناء دار سعد بن خيثمة. قلت: والباب المذكور هو المسدود اليوم يظهر رسمه من خارج المسجد في جهة المغرب، وكان شارعا في الرواق الذي يلي الرحبة من المسقف القبلي؛ فالأسطوان الثالثة في الرحبة هي الأسطوان التي عندها اليوم محراب في رحبة المسجد؛ لانطباق الوصف المذكور عليها؛ فهي المراد بقول الواقدي «كان المسجد في موضع الأسطوان المخلقة الخارجة في رحبة المسجد وهي التي كان ابن عمر يصلي إليها. ومقتضى ما تقدم عن أبي غسان أن هذه الأسطوانة عندها مصّلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول قبل تحويل القبلة، وأن مصلاه بعد التحويل كان إلى الأسطوانة التي في صفّ هذه الأسطوانة مما يلي القبلة، وهي الثالثة من أسطوان الرحبة المذكورة؛ فإنها الموصوفة بما ذكره من كونها دون المحراب على يمين المصلى فيه، والمصلى إلى حرفها الشرقي يكون محاذيا لمحراب المسجد؛ فالرواق القبلي مزيد في المسجد، وجعلوا المحراب به في محاذاة المصلى الشريف من الأسطوان المذكورة. لكن قوله في الرواية الآخرى «وقدم القبلة إلى موضعها اليوم» يقتضي أنه لم يزد أحد في جهة القبلة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فينبغي أن ينبرك بالصلاة عند محراب القبلة، وعند المحلين من الأسطوانتين المذكورتين. وقد اقتصر يحيى في بيان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم على الأسطوان التي في الرحبة؛ فذكر رواية ابن زبالة، ثم روى عن معاذ بن رفاعة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى الأسطوان الخارجة، وهي في صفّ المخّلقة، وإنما كان موضعها يومئذ كهيئة العريش. ثم ذكر أن موسى بن سلمة حدثه أنه رأى أبا الحسن علي بن موسى الرضي يصلي إلى هذه الأسطوانة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 الخارجة. ثم قال يحيى: ورأيت غير واحد من أهل بيتي منهم عبد الله وإسحاق ابنا موسى بن جعفر وحسين بن عبد الله بن عبد الله بن حسين يصلون إلى هذه الأسطوانة الخارجة إذا جاؤوا قباء، ويذكرون أنه مصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ورأيت من أهل بيتي من يأتي قباء فيصلي إليها ممن يقتدى به ممن لا أبالي أن لا أرى غيره في الفقه والعلم، انتهى. وعن يمين مستقبل الأسطوانة المذكورة هيئة محاريب في رحبة المسجد لم أعلم أصلها، وبالرواق الذي يلي الرحبة قريبا من محاذاة محراب المسجد دكّة مرتفعة عن أرض المسجد يسيرا أمامها محراب فيه حجر منقوش فيه قوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة: 108] الآية، وبعدها ما لفظه: هذا مقام النبي صلى الله عليه وسلم، جدّد هذا المسجد في تاريخ سنة إحدى وسبعين وستمائة، ولم يتبين اسم من جدد المسجد. وظاهر حال من صنع ذلك في هذا المحل أنه محلّ المصّلى الشريف، وفيما قدمناه ما يرده، وقد اغترّ المجد بذلك فجزم بأن تلك الدكة هي أول موضع صلّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه حين ألّف كتابه كان غائبا عن المدينة، فوصف تلك الدكة بقوله: وفي صحنه مما يلي القبلة شبه محراب على مصطبة هو أول موضع ركع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه وصفها بأنها في صحن المسجد ليجامع ما تقدم عن المؤرخين في وصف المصلى الشريف. ولا يصح القول بأنها كانت أولا في رحبة المسجد؛ لاحتمال أنه زيد بعده في المسقف القبلي رواق؛ لما سنبينه من أن أروقة المسجد ورحبته كانت على ما هي عليه اليوم، لم يزد فيها شيء بعد ما ذكره المؤرخون. ثم رأيت ما ذكره المجد بحدوثه في رحلة ابن جبير، وكانت عام ثمان وسبعين وخمسمائة، فتلك الدكة التي يعنيها ابن جبير كانت في صحن المسجد عند الأسطوانة التي إليها اليوم المحراب في رحبة المسجد، فيوافق ما أطبق عليه الناس وكأنها دثرت على طول الزمان، ثم أعيدت في غير محلها فإنه ذكر أنها بصحن المسجد مما يلي القبلة، ووصف أروقة المسجد بما هي عليه اليوم؛ فليست الدكة الموجودة اليوم لحدوثها بعده. وأما الحظيرة التي بصحن المسجد فلم أر في كلام المتقدمين تعرضا لذكرها، والشائع على ألسنة أهل المدينة أنها مبرك ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وبه جزم المجد تبعا لابن جبير في رحلته؛ فقال: وفي وسط المسجد مبرك الناقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعليه حظيرة قصيرة شبه روضة صغيرة يتبرك بالصلاة فيه، انتهى. وهو محتمل؛ لأن أصل مسجد قباء كان مربدا لكلثوم بن الهدم، وعليه نزل النبي صلى الله عليه وسلم على ما أسلفناه، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسّسه مسجدّا. وقيل فيه غير هذا مما قدمناه. وقال ابن زبالة: حدثنا عاصم بن سويد عن أبيه قال: وكان مسجد قباء على سبع أساطين، وكانت له درجة لها قبة يؤذن فيها يقال لها النعامة، حتى زاد فيه الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 قلت: وعدد كل صف من أساطينه اليوم بين المشرق والمغرب سبع أيضا. وقال الزين المراغي عقب نقل ذلك عن ابن زبالة: فيحتمل أن هذه- يعني الصفة المذكورة في كلام ابن زبالة- صفة بناته عليه الصلاة والسلام، ويؤكده قولهم «ولم يزل مسجد قباء على ما بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن بناه عمر بن عبد العزيز» أي زمن الوليد. قلت: وما أيد به الاحتمال المذكور لم أره في كلام أحد من المؤرخين غير المطري ومن تبعه. وقد روى ابن شبة ما يصرح بخلافه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: إن ما بين الصومعة إلى القبلة زيادة زادها عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. قلت: والصومعة هي المنارة التي في ركنه الغربي مما يلي الشام، وسيأتي في ترجمة غرة أنه اسم أطم لبني عمرو بن عوف ابتنيت المنارة في موضعه. وقال ابن النجار: كان النبي صلى الله عليه وسلم نزل بقباء في منزل كلثوم بن الهدم، وأخذ مربده فأسسه مسجدّا وصلى فيه، ولم يزل ذلك المسجد يزوره صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه أهل قباء، فلما توفي صلى الله عليه وسلم لم تزل الصحابة تزوره وتعظمه. تجديد مسجد قباء ولما بنى عمر بن عبد العزيز مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء ووسّعه، وبناه بالحجارة والجص، وأقام فيه الأساطين من الحجارة بينها عواميد الحديد والرصاص، ونقشه بالفسيفساء، وعمل له منارة، وسقفه بالساج، وجعله أروقة، وفي وسطه رحبة، وتهدّم على طول الزمان حتى جدّد عمارته جمال الدين الأصفهاني وزير بني زنكي الملوك ببلاد الموصل. قلت: وكان تجديد الجواد لمسجد قباء في سنة خمس وخمسين وخمسمائة، كما قاله المطري. وفيما قدمناه من صورة ما كتب في محراب الدكة التي بالرواق الذي يلي الرحبة ما يقتضي أنه جدد بعد ذلك في سنة إحدى وسبعين وستمائة. وبالمسجد منقوش أيضا ما يقتضي أن الناصر بن قلاوون جدّد فيه شيئا سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وجدد غالب سقفه الموجود اليوم الأشرف برسباي على يد ابن قاسم المحلى أحد مشايخ الخدّام سنة أربعين وثمانمائة. وقد سقطت منارته سنة سبع وسبعين وثمانمائة، فجدّدها متولي العمارة في زماننا الجناب الخواجكي الشمسي بن الزمن- عامله الله بلطفه- في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة في أثناء عمارته السابقة بالمسجد النبوي بعد هدمها إلى الأساس، وهدم الأسطوانة التي كانت لاصقة بها، وكانت تلك الأسطوانة محكمة بالرصاص، وأعيدت بغير رصاص، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وأبدلوا من أحجارها ما قدمنا أنهم أدخلوه في أسطوان الصندوق التي في جهة الرأس الشريف بالمسجد النبوي. وهدم متولى العمارة أيضا ما يلي المنارة المذكورة من سور المسجد إلى آخر بابه الذي يليها في المغرب، وأعاد بناء ذلك، وجدد بعض سقفه، وبنى السبيل والبركة المقابلين للمسجد في المغرب بالحديقة المعروفة بالسراج العيني الموقوفة على قرابته، وقد كانت المنارة الأولى ألطف من هذه فزاد في طولها؛ فإن ابن النجار قال: وطول منارته من سطحه إلى رأسها اثنان وعشرون ذراعا، وعلى رأسها قبة طولها نحو عشرة أذرع، قال: وعرض المنارة من جهة القبلة عشرة أذرع شافّة، ومن المغرب ثمانية، وذكر قبل ذلك أن ارتفاع المسجد في السماء عشرون ذراعا؛ فيكون جملة طول المنارة الأولى اثنين وخمسين ذراعا من أعلاها إلى أسفل الأرض، وهو يقرب لما نقله ابن شبة في وصف المنارة المذكورة، فإنه قال: وطول منارته خمسون ذراعا، وعرضها تسعة أذرع وشبر في تسعة أذرع، انتهى. وذرع هذه المنارة المجددة اليوم من الأرض الخارجة عن المسجد إلى أعلى قبتها أحد وستون ذراعا، وعرضها تسعة أذرع في المشرق والقبلة، وهناك بابها. ونقل ابن شبة عن أبي غسان أن طول مسجد قباء وعرضه سواء، وهو ست وستون ذراعا. قال: وطول ذرعه في السماء تسعة عشر ذراعا، وطول رحبته التي في جوفه- يعني صحنه- خمسون ذراعا، وعرضها ستة وعشرون ذراعا. وذكر ابن النجار نحوه، فقال: طول ثمانية وستون ذراعا تشف قليلا، وعرضه كذلك. قلت: وقد اختبرت ذلك فكان ذرع طوله من المشرق إلى المغرب مما يلي الشام ثمانية وستين ذراعا ونصفا، وكان عرضه من القبلة إلى الشام تسعة وسبعين ذراعا، وذرع طوله بين المشرق والمغرب مما يلي جدار القبلة أرجح من سبعين ذراعا بيسير، وطول ذرعه في السماء من أرض المسجد إلى سقفه تسعة عشر ذراعا، وطوله من خارجه من البلاط الذي في غربيه إلى أعلى شراريفه أربعة وعشرون ذراعا، وذرع طول صحنه من المشرق إلى المغرب أحد وخمسون ذراعا، وعرض صحنه من القبلة إلى الشام ستة وعشرون ذراعا وربع، وهذا الصحن هو الذي عبر عنه أبو غسان بالرحبة في جوفه؛ فصح بذلك أن رحبة المسجد اليوم على ما كانت عليه في زمن أبي غسان وغيره من المؤرخين الذين قدمنا كلامهم، وأن ما قدمناه في بيان مصلّى النبي صلى الله عليه وسلم بكونه عند المحراب الذي بجانب الأسطوانة التي في رحبة المسجد اليوم صحيح، وأن ما قاله المجد من كون تلك الدكة المتقدم وصفها بصحن المسجد غير صحيح. وقال ابن جبير في رحلته: إن مسجد قباء سبع بلاطات، يعني أروقة كما هو في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 زماننا، وبيانه أن المسقف القبلي ثلاثة أروقة، والشامي اثنان، وفي المغرب رواق واحد يلي باب المسجد اليوم، وفي المشرق في مقابلته رواق واحد أيضا. وذكر ابن النجار في عدد أساطينه ما يوافق كونه على سبعة أروقة أيضا؛ فقال: وفي المسجد تسعة وثلاثون أسطوانا، بين كل أسطوان وأسطوان سبعة أذرع شافّة. قلت: وعددها اليوم كذلك؛ لأن جهة القبلة ثلاثة صفوف كل صف سبعة أساطين بين المشرق والمغرب، وجهة الشام صفان كل صف سبعة أيضا، وفيما يلي الرحبة من المغرب أسطوانتان، وفيما يليها من المشرق أسطوانتان، وجملة ذلك ما ذكره. ووقع فيما نقله ابن شبة عن ابن عساكر في النسخة التي وقعنا عليها تصحيف في عدد الأساطين، وما قدمناه هو الصواب. قال ابن النجار: وفي جدرانه طاقات نافذة إلى خارج في كل جانب ثمان طاقات، إلا الجانب الذي يلي الشام فإن الثامنة فيها المنارة. قلت: ولما أعادوا بناء ما هدموه مما حول المنارة المذكورة في زماننا سدّوا من الجهة الشامية طاقة أخرى مما يلي المنارة المذكورة، وسدّوا مما يليها من جهة المغرب ثلاث طاقات أيضا، فإنهم جعلوا الجدار في بنائهم مصمتا كله، والله أعلم. بيان ما ينبغي أن يزار بقباء من الآثار تتميما للفائدة دار سعد بن خيثمة منها: دار سعد بن خيثمة، وقد تقدم أن باب مسجد قباء المسدود في المغرب بفناء دار سعد بن خيثمة، وهي في قبلة مسجد قباء، والجانب الذي يلي هذا الباب المسدود منها يدخله الناس للزيارة ويسمونه مسجد علي رضي الله تعالى عنه، وكأنه المراد بما سيأتي في الفصل الرابع في مسجد دار سعد بن خيثمة. وروى ابن شبة عن أبي أمامة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم «اضطجع في البيت الذي في دار سعد بن خيثمة بقباء» وعن ابن وقش أن النبي صلى الله عليه وسلم «دخل بيت سعد بن خيثمة بقباء، وجلس فيه» وروى ابن زبالة عنه أنه قال: يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من المهراس الذي يلي دار سعد بن خيثمة بقباء. دار كلثوم بن الهدم ومنها: دار كلثوم بن الهدم، وهي إحدى الدور التي قبلى المسجد أيضا، يدخلها الناس للزيارة والتبرك. وقد قدمنا نزوله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم بداره لمّا قدم قباء، وكذلك أهله وأهل أبي بكر حين قدموا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 بئر أريس ومنها بئر أريس، وسيأتي ما جاء فيها في الآثار، قال ابن جبير في رحلته: وبإزائها دار عمر، ودار فاطمة، ودار أبي بكر، رضي الله تعالى عنهم. ولعله يريد أماكن نزولهم قبل التحوّل إلى المدينة، والله أعلم. ما جاء في بيان طريقه صلى الله عليه وسلم إلى قباء ذاهبا وراجعا طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلي قباء ذاهبا وراجعا قال أبو غسان فيما نقله ابن شبة: أخبرني الحارث بن إسحاق قال: كان إسحاق بن أبي بكر بن إسحاق يحدث أن مبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركبه إلى قباء أن يمر على المصلى، ثم يسلك في موضع الزقاق بين دار كثير بن الصّلت ودار معاوية بالمصلى، ثم يرجع راجعا على طريق دار صفوان بن سلمة التي عند سقيفة محرق، ثم يمر على مسجد بني زريق من كتّاب عروة حتى يخرج إلى البلاط، قال: فذكر إسحاق أنه رأى الوليد بن عبد الملك سلك هذه الطريق على هذه الصفة في مبدئه ورجعته من قباء. قلت: وهو يقتضي أن طريقه صلى الله عليه وسلم كانت من جهة الدّرب المعروف اليوم بدرب سويقة في الذهاب والرجوع؛ لأن المصلى ومسجد بني زريق في جهته، وقد سبق في المصلى أن دار كثير بن الصّلت كان قبلة المصلى، وسبق ما يؤخذ منه أن دار معاوية رضي الله عنه كانت مقابلها. وقوله «حتى يخرج إلى البلاط» أي الآخذ من باب السلام إلى جهة درب سويقة؛ لما سبق في الكلام على المصلي من رجوعه صلى الله عليه وسلم على مسجد بني زريق من كتّاب عروة حتى يخرج إلى البلاط من زقاق دار عبد الرحمن بن الحارث المتقدم بيانه في الدور التي في ميمنة البلاط المذكور، وكثير من الناس اليوم يسلكون إلى قباء من طريق درب البقيع؛ لكونها أقصد يسيرا. ذرع الطريق وقد ذرعت الطريق من هذه الجهة فكان بين عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب جبريل وعتبة باب مسجد قباء سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع بذراع اليد المتقدم تحريره يشفّ يسيرا، وذلك ميلان وخمسا سبع ميل. وسيأتي في ترجمة قباء ما وقع للناس من الخبط في بيان هذه المسافة، فإن أسقطت حصة ما بين باب جبريل وباب درب البقيع من ذلك كانت المسافة بين باب سور المدينة المذكور وباب مسجد قباء ميلين إلا مائتي ذراع وثلاثا وثلاثين ذراعا، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 [مسجد الضّرار] ما جاء في مسجد الضّرار مما ينوّه بقدر مسجد قباء بناة مسجد الضرار روى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً [التوبة: 107] هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدّا فقال لهم أبو عامر: ابنو مسجدكم، واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فات بجند من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا فرغنا من بناء مسجدنا فنحبّ أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فأنزل الله عز وجل: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة: 108] يعني مسجد قباء أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ إلى قوله: عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ يعني قواعده وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة: 109] . وروى ابن شبة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها لية، كانت تربط حمارا لها فيه، فابتنى سعد بن خيثمة مسجدّا، فقال أهل مسجد الضرار: أنحن نصلي في مربط حمار لية؟ لا، لعمر الله، لكنّا نبني مسجدّا فنصلي فيه حتى يجئ أبو عامر فيؤمّنا فيه، وكان أبو عامر فرّ من الله ورسوله فلحق بمكة، ثم لحق بعد ذلك بالشام فتنصر فمات بها، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً الآيات. وعن سعيد بن جبير أن بنى عمرو بن عوف ابتنوا مسجدّا، وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوه ليصلي فيه، ففعل فأتاهم فصلّى فيه، فحسدهم إخوتهم بنو فلان بن عمرو بن عوف، يشك، فقالوا: لا، نبني نحن مسجدّا وندعو النبيّ صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه كما صلى في مسجد إخوتنا، ولعل أبا عامر يصلي فيه، وكان بالشام، فابتنوا مسجدّا، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي، فقام ليأتيهم، وأنزل القرآن وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 107 لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ 108 أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 109 لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [التوبة: 107- 110 ] ، قال: قال عكرمة: إلى أن تقطع قلوبهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 110] . حرق مسجد الضرار وأسند الطبري فيما قاله ابن عطية عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم «أقبل من غزوة تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 أصحاب مسجد الضّرار قد كانوا أتوه وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدّا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما قفل ونزل بذي أوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ابن الدخشم ومعن بن عدي، أو أخا عاصم بن عدي، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه واحرقاه، فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه بنار في سعف. وفي رواية ذكرها البغوي أن الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وإحراقه انطلقوا سريعا حتى أتوا سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: انظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهالي، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخيل، فأشعل فيه نارا ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه، وتفرق عنه أهله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقي فيها الجيف والنتن والقمامة. وقال ابن النجار: هذا المسجد بناه المنافقون مضاهاة لمسجد قباء، وكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي صلى الله عليه وسلم، ويستهزئون به. أسماء بناة مسجد الضرار قال ابن إسحاق: وكان الذين بنوه اثنى عشر رجلا: خدام بن خالد، وهو من بني عبيد بن زيد بن مالك ومن داره أخرجه، وثعلبة بن حاطب من بني أمية بن زيد أي أحد بني عمرو بن عوف، ومعتّب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأذعر، وعياد بن حنيف من بني عمرو بن عوف، وجار بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، ومخرج ومجاد بن عثمان، سبعتهم من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت من بني أمية بن زيد، انتهى. وقال بعضهم: إن رجالا من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف كان فيهم نفاق حسدوا قومهم بني عمرو بن عوف، وكان أبو عامر المعروف بالراهب- وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالفاسق- منهم. قلت: وهو من بني ضبيعة أحد بني عمرو بن عوف من الأوس، وتقدم أن بني غنم ابن عوف وبني سالم بن عوف من الخزرج وليسوا بقباء، ففي هذا القول نظر. قال: فكتب أبو عامر وهو بالشام إلى المنافقين من قومه أن يبنوا مسجدّا مقاومة لمسجد قباء وتحقيرا له، فإني ساتي بجيش أخرج به محمدا وأصحابه من المدينة فبنوه وقالوا: سيأتي أبو عامر ويصلي فيه، ونتخذه متعبدا، وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: 107] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً [التوبة: 108] كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد، وهذا مما يؤيد ما قدمناه من أن المراد من قوله تعالى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى [التوبة: 108] مسجد قباء. وقال ابن عطية: روى عن ابن عمر أنه قال: المراد بالمسجد المؤسّس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد يعني بقوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ [التوبة: 109] هو مسجد قباء، وأما البنيان الذي أسّس على شفا جرف هار فهو مسجد الضّرار بالإجماع. وقوله «فانهار به في نار جهنم» قال ابن عطية: الظاهر منه ومما صح من خبرهم وهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدهم أنه خارج مخرج المثل لهم: أي حالهم كمن ينهار بنيانه في نار جهنم. وقيل: بل ذلك حقيقة، وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم، قاله قتادة وابن جريج. وروى عن جابر بن عبد الله وغيره أنه قال: رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه حين انهار حتى بلغ الأرض السابعة، ففزع لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أنهم لم يصلّوا فيه أكثر من ثلاثة أيام، وانهار في الرابع. قال ابن عطية: وهذا كله بإسناد لين، والأول أصح. واسند الطبري عن خلف بن يامين أنه قال: رأيت مسجد المنافقين الذين ذكر في القرآن، ورأيت فيه مكانا يخرج منه الدخان، وذلك في زمن أبي جعفر المنصور. وقيل: كان الرجل يدخل فيه سعفة فتخرج سوداء محترقة، ونقل عن ابن مسعود أنه قال: جهنم في الأرض، ثم تلا فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [التوبة: 109] . الخلاف في موضع مسجد الضرار قال الجمال المطري: وأما مسجد الضّرار فلا أثر له، ولا يعرف له مكان فيما حول مسجد قباء، ولا غير ذلك. قلت: وهو كذلك، لكن بالنسبة إلى زمنه وزمننا؛ فقد قال ابن جبير في رحلته: وهذا المسجد مما يتقرب الناس إلى الله برجمه وهدمه وكان مكانه بقباء عارض به اليهود مسجد قباء. وقوله «اليهود» صوابه المنافقون. وقال ابن النجار: وهذا المسجد قريب من مسجد قباء، وهو كبير، وحيطانه عالية، وتؤخذ منه الحجارة، وقد كان بناؤه مليحا، انتهى. وهذا يقتضي وجوده في زمن ابن النجار على تلك الحالة، وقد قال المطري: إنه وهم لا أصل له، وتعقبه المجد بأنه لا يلزم من وجوده زمان ابن النجار كذلك استمراره، وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 تبع ابن النجار في ذلك غيره إن لم يكن شاهده، فهذا البشاري يقول: ومنها مسجد الضّرار يتطوّع العوام بهدمه، وتبعه ياقوت في معجمه، وابن جبير في رحلته، انتهى. وقال ابن النجار أيضا، في ذكر المساجد المعروفة في زمنه ما لفظه: واعلم أن بالمدينة مساجد خرابا فيها المحاريب وبقايا الأساطين وتنقض وتؤخذ حجارتها: منها مسجد بقباء قريب من مسجد الضّرار فيه أسطوان قائمة. قلت: وهذا غير معروف اليوم، وهو صريح في اشتهار مسجد الضرار في زمنه بقباء حتى عرف به المسجد المذكور. ووقع في كلام عياض في المشارق، وتبعه المجد، ما يقتضي أن مسجد الضّرار بذي أوان؛ فإنه قال في ذروان: إن روايته بلفظ ذي أوان وهم. قال: وهو موضع خر على ساعة من المدينة، هو الذي بنى فيه مسجد الضرار، هذا لفظه. ولعل مراده هو الذي وقع ذكر بنائه به في حديث مسجد الضرار؛ لما قدمناه من أن أصحابه جاؤوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بذي أوان، وأخبروه ببنائه، والله أعلم. الفصل الثالث في بقية المساجد المعلومة العين في زماننا بالمدينة الشريفة وما حولها اعلم أن الاعتناء بهذا الغرض متعين؛ فقد قال البغوي من الشافعية: المساجد التي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها لو نذر أحد الصلاة في شيء منها تعين كما تتعين المساجد الثلاثة، واعتناء السلف بتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم معلوم- سيما ما جاء في ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما- وقد استفرغنا الوسع في تتبعها. فمنها: مسجد الجمعة، ويقال «مسجد الوادي» قد تقدم في الفصل الحادي عشر من الباب الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من قباء مقدمه المدينة أدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في بطن الوادي، وادي ذي صلب- بضم أوله- وأن ابن إسحاق قال: إن الجمعة أدركته في وادي رانونا، يعني ببني سالم، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، وفي رواية لابن زبالة «فمر على بني سالم فصلى فيهم الجمعة في القبيب ببني سالم، وهو المسجد الذي في بطني الوادي» وفي رواية له «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول جمعة بالناس في القبيب» ببني سالم فهو المسجد الذي بناه عبد الصمد» . والمراد أن موضع المسجد يسمى بالقبيب، وسيأتي في أودية المدينة أن سيل ذي صلب وسيل رانونا يصلان إلى موضع مسجد الجمعة، فلا مخالفة بين هذه العبارات، وإن غلب اشتهار اسم رانونا على ذلك الموضع دون بقية الأسماء. وروى ابن شبة عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «جّمع في أول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 جمعة حين قدم المدينة في مسجد بني سالم في مسجد عاتكة» وعن إسماعيل بن أبي فديك عن غير واحد ممن يثق به من أهل البلد أن أول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم حين أقبل من قباء إلى المدينة في مسجد بني سالم الذي يقال له مسجد عاتكة. وقال المطري: في شمالي هذا المسجد أطم خراب يقال له «المزدلف» أطم عتبان بن مالك، والمسجد في بطن الوادي صغير جدّا، مبني بحجارة قدر نصف القامة، وهو الذي كان يحول السبيل بينه وبين عتبان بن مالك إذا سال؛ لأن منازل بني سالم بن عوف كانت غربيّ هذا الوادي على طرف الحرة، وآثارهم باقية هناك، فسأل عتبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي له في بيته في مكان يتخذه مصلى، ففعل صلى الله عليه وسلم. قلت: قصة عتبان المشار إليها مروية في الصحيح بلفظ أن عتبان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، الحديث. وسيأتي في المساجد التي لا تعلم عينها أن بني سالم لهم مسجد آخر هو مسجدهم الأكبر؛ فالذي يظهر أنه المراد من حديث عتبان، وأما هذا فهو مسجدهم الأصغر وقد تهدم بناؤه الذي أشار إليه المطري، فجرده بعض الأعاجم على هيئته اليوم، مقدّمه رواق مسقف فيه عقدان بينهما أسطوان، وخلفه رحبة، وطوله من القبلة إلى الشام عشرون ذراعا، وعرضه من الجدار الشرقي إلى الغربي مما يلي محرابه ستة عشر ذراعا ونصف، وكان سقفه قد خرب فجدده المرحوم الخواجا الرئيس الجواد المفضّل شمس الدين قاوان تغمده الله برحمته. ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت غسان ليس في الأطم المذكور، بل عند أصله كما سيأتي. مسجد الفضيخ ومنها: مسجد الفضيح- بفتح الفاء وكسر المعجمة بعدها مثناة تحتية وخاء معجمة- قال المطري: ويعرف اليوم بمسجد الشمس وهو شرقي مسجد قباء على شفير الوادي، على نشز من الأرض، مرضوم بحجارة سود، وهو مسجد صغير. وروى ابن شبة وابن زبالة ويحيى في عدة أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلى بمسجد الفضيخ» . وروى الأولان- واللفظ لابن شبة- عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: حاصر النبيّ صلى الله عليه وسلم بني النضير، فضرب قبته قريبا من مسجد الفضيخ، وكان يصلّي في موضع مسجد الفضيخ ستّ ليال، فلما حرمت الخمر خرج الخبر إلى أبي أيوب في نفر من الأنصار، وهم يشربون فيه فضيخا، فحلّوا وكاء السّقاء فهراقوه فيه؛ فبذلك سمي مسجد الفضيخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 قال الزين المراغي: وذلك قبل اتخاذ الموضع مسجدّا، أو كان الإعلام بنجاسة الخمر بعد ذلك لكن المشهور تحريم الخمر في شوال سنة ثلاث، ويقال أربع، وعليه يتمشى؛ لأن غزوة بني النّضير سنة أربع على الأصح. قلت: الحديث إنما تضمّن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك المحل في حصار بني النضير، ولا يلزم من ذلك اتخاذه مسجدّا حينئذ؛ فيجوز أن يكون بناؤه مسجدّا تأخر إلى أن حرّمت الخمر، على أن أحمد روى في مسنده من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يعني أتى بفضيخ في مسجد الفضيخ فشربه، فلذلك سمي مسجد الفضيخ. ورواه أبو يعلى ولفظه: أتى بجر فضيخ ينشّ» وهو في مسجد الفضيخ فشربه، فلذلك سمي مسجد الفضيخ، وفيه عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، صعفّه الجمهور، وقيل فيه: يكتب حديثه، وهو أولى بالاعتماد في سبب تسمية المسجد المذكور بذلك؛ لأن ابن زبالة ضعيف، وأما ابن شبة فرواه من طريق عبد العزيز بن عمران وهو متروك، ولم أر في كلام أحد من المتقدمين تسمية المسجد المذكور بمسجد الشمس. وقال المجد: لا أدري لم اشتهر بهذا الاسم، ولعله لكونه على مكان عال في شرقي مسجد قباء أول ما تطلع الشمس عليه، قال: ولا يظن ظانّ أنه المكان الذي أعيدت الشمس فيه بعد الغروب لعلي رضي الله تعالى عنه؛ لأن ذلك إنما كان بالصهّباء من خيبر، قال عياض في الشفاء: كان رأس النبي صلى الله عليه وسلم في حجر علي رضي الله تعالى عنه وهو يوحي إليه، فغربت الشمس ولم يكن عليّ صلى العصر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصلّيت يا علي؟ قال: لا، فقال: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس، قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعدما غربت، ووقعت على الجبال والأرض وذلك بالصهباء في خيبر، قال عياض: خرّجه الطحاوي في مشكل الحديث، وقال: إن أحمد بن صالح كان يقول: لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء؛ لأنه من علامات النبوة. قال المجد: فهذا المكان أولى بتسميته بمسجد الشمس دون ما سواه، وصرح ابن حزم بأن الحديث موضوع، قال: وقصة ردّ الشمس على عليّ رضي الله تعالى عنه باطلة بإجماع العلماء وسفه قائله. قلت: والحديث رواه الطبراني بأسانيد قال الحافظ نور الدين الهيتمي: رجال أحدها رجال الصحيح، غير إبراهيم بن حسن، وهو ثقة، وفاطمة بنت علي بن أبي طالب لم أعرفها، انتهى. وأخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس، وابن مردويه من   (1) ينش: يغلي ويفور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 حديث أبي هريرة، وإسنادهما حسن، وممن صححه الطحاوي وغيره، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، بعد ذكر رواية البيهقي له: وقد أخطأ ابن الجوزي بإيراده له في الموضوعات، انتهى. وهذا المسجد مربع ذرعه من المشرق إلى المغرب أحد عشر ذراعا، ومن القبلة إلى الشام نحوها. مسجد بني قريظة ومنها: مسجد بني قريظة، وهو شرقي مسجد الشمس، بعيد عنه، بالقرب من الحرّة الشرقية، على باب حديقة تعرف بحاجزة هي وقف للفقراء، قاله المطري وقد قدمنا في منازل يهود أن أطم الزبير بن باطا كان في موضع مسجد بني قريظة وعنده خراب أبيات من دور بني قريظة شمالي باب الحديقة المذكورة، وبقربه ناس نزول من أهل العالية، وقد روى ابن شبة من طريق محمد بن عقبة بن مالك عن علي بن رافع وأشياخ قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلّى في بيت امرأة من الخضر، فأدخل ذلك البيت في مسجد بني قريظة» فذلك المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم شرقي بني قريظة عند موضع المنارة التي هدمت، هذا لفظ ابن شبة؛ فينبغي الصلاة في مسجد بني قريظة مما يلي محل المنارة في شرقي المسجد. وقد روى ذلك ابن زبالة عن محمد بن عقبة، إلا أنه لم يعين المحل المذكور، بل قال: فأدخل الوليد بن عبد الملك حين بنى المسجد ذلك البيت في مسجد بني قريظة، ويحتمل: أنه صلى الله عليه وسلم صلى في مقدم المسجد أيضا، وإلا لجعلوا ما عند المنارة مقدمة. قلت: الظاهر أن هذا المسجد هو المذكور في حديث الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتى على حمار، فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار «قوموا إلى سيّدكم أو خيركم» ثم قال «إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك» فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبي ذريتهم، الحديث. فقوله «قريبا من المسجد» ليس المراد به مسجد المدينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن به حينئذ، ولذا قال الحافظ ابن حجر: وقوله «فلما بلغ قريبا من المسجد» أي الذي أعدّه النبي صلى الله عليه وسلم أيام محاصرته لبني قريظة للصلاة فيه، وأخطأ من زعم أنه غلط من الراوي لظنه أنه أراد بالمسجد المسجد النبوي بالمدينة فقال: إن الصواب ما وقع عند أبي داود من طريق شعبة بإسناد الصحيح بلفظ «فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم» انتهى. وإذا حمل على ما سبق لم يكن بين اللفظين اتفاق، والله سبحانه وتعالى أعلم. قال ابن النجار: وهذا المسجد اليوم باق بالعوالي، كبير، وفيه ست عشرة أسطوانة قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 سقط بعضها، وهو بلا سقف، وحيطانه مهدومة، وقد كان مبنيّا على شكل بناء مسجد قباء، وحوله بساتين ومزارع. وذكر في ذرعه شيئا الظاهر أنه تحريف فإنه قال: طوله نحو العشرين ذراعا وعرضه كذلك، وهذا لا يطابق ما عليه المسجد اليوم ولا ما قدّمه هو من الوصف ولعله خمن أن ذرعه كذلك في حال غيبته عنه، فقد قال المطري: إن ذرعه نحو من خمسة وأربعين ذراعا، وعرضه كذلك. قال: وكان فيه أساطين وعقود ومنارة في مثل موضع منارة قباء، فتهدّم على طول الزمان، ووقعت منارته، أثرها اليوم باق تعرف به، وأخذت أحجاره جميعا. قال المطري: وبقي أثره إلى العشر الأول بعد السبعمائة، فجدّد وبنى عليه حظير مقدار نصف قامة، وكان قد نسي فمن ذلك التاريخ عرف مكانه. قلت: وهو اليوم على الهيئة التي ذكرها المطري، وقد اختبرت ذرعه فكان من القبلة إلى الشام أربعة وأربعين ذراعا وربعا، ومن المشرق إلى المغرب ثلاثة وأربعين ذراعا، وقد جدّد بناء جداره الشجاعيّ شاهين الجمالي شيخ الحرم النبوي وناظره عام ثلاث وتسعين وثمانمائة. مشربة أم إبراهيم ومنها: المسجد الذي يقال له «مشربة أم إبراهيم عليه السلام» . وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه وابن شبة من طريق أبي غسان عن ابن أبي يحيى عن يحيى بن محمد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلّى في مشربة أم إبراهيم» . وروى ابن شبة فيما جاء في صدقات النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن شهاب أن تلك الصّدقات كانت أموالا لمخيريق، كما سيأتي، وعدّ منها مشربة أم إبراهيم، ثم قال: وأما مشربة أم إبراهيم فإذا خلفت بيت مدراس اليهود فجئت مال أبي عبيدة بن عبيد الله بن زمعة الأسدي فمشربة أم إبراهيم إلى جنبه، وإنما سميت مشربة أم إبراهيم لأن أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم ولدته فيها، وتعلّقت حين ضربها المخاض بخشبة من خشب تلك المشربة، فتلك الخشبة اليوم معروفة، انتهى ما رواه ابن شبة عن ابن شهاب. قال ابن النجار: وهذا الموضع بالعوالي من المدينة بين النخيل، وهو أكمة قد حوّط عليها بلبن، والمشربة: البستان، وأظنه قد كان بستانا لمارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: قال في الصحاح: المشربة بالكسر- أي: بكسر الميم- إناء يشرب فيه، والمشربة بالفتح: الغرفة، وكذلك المشربة بضم الراء، والمشارب: العلالي، وليس في كلامه إطلاق ذلك على البستان، والظاهر أنها كانت عليّة في ذلك البستان، وهو أحد صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يناسب ما تقدم من رواية ابن شبة في سبب تسميتها بذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 وقال ابن عبد البرفي الاستيعاب: ذكر الزبير أن مارية ولدت إبراهيم عليه السلام بالعالية في الماء الذي يقال له اليوم مشربة أم إبراهيم بالقف. وروت عمرة عن عائشة حديثا فيه ذكر غيرتها من مارية، وأنها كنت جميلة، قالت: وأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان، وكانت جارتنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة النهار والليل عندها، حتى قذعنا لها- والقذع الشتم- فحوّلها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدّ، ثم رزقها الله الولد وحرمناه منه. قال المجد: والمشربة المذكورة مسجد شماليّ بني قريظة قريب من الحرّة الشرقية في موضع يعرف بالدشت، بين نخل تعرف بالأشراف القواسم، من بني قاسم بن إدريس بن جعفر أخي الحسن العسكري، قال: وذرعته فكان طوله نحو عشرة أذرع وعرضه أقل من ذلك بنحو ذراع، وليس عليه بناء ولا جدار، وإنما هو عريصة صغيرة على رويبية، وقد حوّط عليها برضم لطيف من الحجارة السود، قال: وعلى شمالي المشربة دار متهدّمة لم يبق من معالمها سوى بعض الجدارن، يظن الناس أنه مكان دار أبي سيف القبر. والذي يغلب على ظني أن ذلك بقايا أطم بني زعوراء، فإن الزبير بن بكار قال ما نصه: وكان بنو زعوراء عند مشربة أم إبراهيم، ولهم الأطم الذي عندها، وبنو زعوراء من قبائل اليهود. قلت: دار أبي سيف القبر التي كان إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم مسترضعا فيها إنما هي في دار بني مازن بن النجار كما سيأتي. وما ذكره في وصف المسجد المذكور قريب مما هو عليه اليوم لكنّ ذرعه من القبلة إلى الشام أحد عشر ذراعا، ومن المشرق إلى المغرب أربعة عشر ذراعا راجحة، وفي جهة المشرق منه شقيفة لطيفة، وبالقرب منه في جهة المغرب نخيل تعرف بالزبيريات وسيأتي أنها المال الذي كان للزبير بن العوّام فتصدق به، وفيه مسجده الآني، والله أعلم. مسجد بني ظفر ومنها: مسجد بني ظفر من الأوس، ويعرف اليوم بمسجد البغلة، وهو بطرف الحرة الشرقية في شرقي البقيع، طريقه من عند القبة المعروفة بفاطمة بنت أسد أمّ علي رضي الله عنهما بأقصى البقيع، وقد روى يحيى عن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد بني معاوية» أي الآني «ومسجد بني ظفر» . وقال ابن زبالة: إن إبراهيم بن جعفر حدثه بذلك عن أبيه جعفر المذكور، وروى ابن شبة عن الحارث بن سعيد بن عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلى في مسجد بني حارثة مسجد بني ظفر» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وروى يحيى عن إدريس بن محمد بن يونس بن محمد الظفري عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «جلس على الحجر الذي في مسجد بني ظفر» وكان زياد بن عبيد الله أن أمر بقلعه حتى جاءته مشيخة بني ظفر وأعلموه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس عليه، فرده، قال: فقلّ امرأة نزر ولدها تجلس عليه إلا حملت. قال يحيى عقبه: مسجد بني ظفر دون مسجد بني عبد الأشهل، قال: وأدركت الناس بالمدينة يذهبون بنسائهم حتى ربما ذهبوا بهنّ بالليل فيجلسن على هذا الحجر. قلت: ولم أزل أتأمل في سر ذلك حتى اتضح لي بما رواه الطبراني برجال ثقات عن محمد بن فضالة الظفري، وكان ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتاهم في مسجد بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في مسجد بني ظفر اليوم ومعه عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأناس من أصحابه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ حتى أتى على هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه. فقال: «أي ربّ شهيد على من أنا بين ظهرابيه، فكيف بمن لم أر» ؟ قلت: ولم يزل الناس يصفون الجلوس على ذلك الحجر للمرأة التي لا تلد، ويقصدون ذلك المسجد لأجله، غير أني لم أر فيه حجرا يصلح للجلوس عليه، إلا أن في أسفل كتف بابه عن يسار الداخل حجرا مثبتا من داخله، فكأنه هو المراد، والناس اليوم إنما يقصدون حجرا من تلك الصخور التي هي خارجة في غربيه فيجلسون عليه، وهذا بعيد لأن الرواية المتقدمة مصرّحة بأنه في المسجد. وقال المطري: وعند هذا المسجد آثار في الحرة من جهة القبلة، يقال: إنها أثر حافر بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي غربيه أي غربي أثر الحافر أثر على حجر كأنه أثر مرفق يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اتّكأ عليه، ووضع مرفقه الشريف عليه، وعلى حجر آخر أثر أصابع، والناي يتبركون بها. قلت: ولم أقف في ذلك على أصل، إلا أن ابن النجار قال في المسجد التي أدركها خرابا ما لفظه: ومسجدان قريب البقيع، وذكر ما سيأتي عنه في مسجد الإجابة، ثم قال: وآخر يعرف بمسجد البغلة فيه أسطوان واحد، وهو خراب، وحوله كثير من الحجارة فيها أثر يقولون: إنه أثر حافري بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. وقد بني ما تهدّم منه بعد ابن النجار، إلا أنه لم يجعل له سقفا، فليس به شيء من الأساطين. ورأيت فيه حجر رخام عن يمين محرابه قد كتب فيه ما صورته: خلّد الله ملك الإمام أبي جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين. عمر سنة ثلاثين وستمائة، وذرعته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 فكان مربعا، طوله من القبلة إلى الشام أحد وعشرون ذراعا، ومن المشرق إلى المغرب مثل ذلك، والله أعلم. مسجد الإجابة ومنها: مسجد الإجابة، وهو مسجد بني معاوية بن مالك بن عوف من الأوس، كما قدمناه في المنازل مع بيان ما وقع للمطري ومن تبعه من الوهم في جعلهم من بني مالك بن النجار من الخزرج، وبيان منشأ الوهم، وما ناقض المطري به كلامه عند ذكره مسجد بني جديلة، وهو مسجد أبيّ الآتي في الفصل بعده. وقد روينا في صحيح مسلم من حديث عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربّه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بالسّنة فأعطاني، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، فسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها، فهذا سبب تسمية هذا المسجد بمسجد الإجابة. وروى ابن شبة بسند جيد، وهو في الموطأ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك قال: جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية، وهي قريبة من قرى الأنصار، فقال: تدرون أين صلّى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا؟ فقلت: نعم، وأشرت له إلى ناحية منه، قال: فهل تدرون ما الثلاث التي دعا بهن فيه؟ قلت: نعم، قال: فأخبرني، قلت دعا أن لا يظهر عليهم عدو من غيرهم، وأن لا يهلكهم بالسنين، فأعطيهما، ودعا أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعها، قال: صدقت، فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة. وعن سعد بن أبي وقاص أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فمرّ بمسجد بني معاوية، فدخل فركع فيه ركعتين، ثم قام فناجى ربّه، ثم انصرف. ونقل ابن شبة أيضا عن أبي غسان عن محمد بن طلحة أنه قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني معاوية على يمين المحراب نحوا من ذراعين. قلت: فينبغي أن يتحرّى بالصلاة ذلك المحل، وأن يكون الدعاء فيه قائما بعد الصلاة؛ للرواية المتقدمة. وهذا المسجد هو المراد بقول ابن النجار في المسجدين اللذين أدركهما خرابا قريب البقيع أحدهما يعرف بمسجد الإجابة وفيه أسطوانات قائمة ومحراب مليح وباقية خراب. قلت: ليس به اليوم شيء من الأساطين، وقد رمّم ما تخرب منه، وهو في شمالي البقيع على يسار السالك إلى العريض، وسط تلول هي آثار قرية بني معاوية، وذرّعته فكان من المشرق إلى المغرب خمسة وعشرين ذراعا ينقص يسيرا، وكان من القبلة إلى الشام عشرين ذراعا ينقص يسيرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 مسجد الفتح ومنها: مسجد الفتح، والمساجد التي حوله في قبلته، وتعرف اليوم كلها بمساجد الفتح، والأول المرتفع على قطعة من جبل سلع في المغرب غربيه وادي بطحان، وهو المراد بمسجد الفتح حيث أطلقوه، ويقال له أيضا «مسجد الأحزاب» و «المسجد الأعلى» . وروينا في مسند أحمد برجال ثقات عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم «دعا في مسجد الفتح ثلاثا يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين، فعرف البشر في وجهه» قال جابر: فلم ينزل بي أمر مهمّ غليظ إلا توخّيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة، ورواه ابن زبالة والبزار وغيرهما. وروينا في مسند أحمد أيضا بإسناد فيه رجل لم يسم عن جابر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم «أتى مسجد يعني، الأحزاب، فوضع رداءه وقام، ورفع يديه مدا يدعو عليهم، ولم يصل، ثم جاء ودعا عليهم وصلى» . وروى ابن شبة عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «قعد على موضع مسجد الفتح وحمد الله ودعا عليهم وعرض أصحابه وهو عليه» . وعن سعيد مولى المهديين قال: «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من الجرف، فأدركته صلاة العصر فصلاها في المسجد الأعلى» . وروى ابن زبالة ويحيى وابن النجار من غير طريقهما عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مرّ بمسجد الفتح الذي على الجبل وقد حضرت صلاة العصر، فرقي فصلى فيه صلاة العصر» . وروى ابن زبالة عن المطلب مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم «دعا في مسجد الفتح يوم الأحزاب حتى ذهبت الظهر وذهبت العصر وذهبت المغرب، ولم يصل منهن شيئا، ثم صلاهن جميعا بعد المغرب» . قلت: وفيه بيان الشغل الذي أخر لأجله تلك الصلاة؛ فإن المعروف تأخيرها أو تأخير العصر فقط كما في الصحيح من غير بيان هذا السبب، وذلك كان قبل مشروعية صلاة الخوف. وروى أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم «دخل مسجد الفتح فخطا خطوة ثم الخطوة الثانية، ثم قام ورفع يديه إلى الله حتى رؤي بياض إبطيه- وكان أعفر الإبطين فدعا حتى سقط رداؤه عن ظهره، فلم يرفعه حتى دعا ودعا كثيرا، ثم انصرف» . وعن جابر قال: «صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء مسجد الفتح نحو المغرب» . ورواه ابن شبة عنه بلفظ «دعا النبي صلى الله عليه وسلم على الجبل الذي عليه مسجد الفتح من ناحية المغرب، وصلى من وراء المسجد» أي في الرحبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 قال ابن شبة: قال أبو غسان: وسمعت غير واحد ممن يوثق به يذكر أن الموضع الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجبل هو اليوم إلى الأسطوان الوسطى الشارعة في رحبة المسجد. قلت: ويستفاد منه: أن الصلاة والدعاء هنالك يتحرّى بهما وسط المسجد في الرحبة مما يلي سقفه، ومقتضى الرواية الأولى أن تكون أقرب إلى جهة المغرب، وإذا ضممت إلى ذلك الرواية المتقدمة من أن صلى الله عليه وسلم «خطا خطوة ثم الخطوة الثانية، ثم قام ورفع يديه» ظهر لك أن طريقه صلى الله عليه وسلم كانت من جهة الدرجة الشمالية. وروى يحيى عن هارون بن كثير عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعا يوم الخندق على الأحزاب في موضع الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح» قال يحيى: فدخلت مع الحسين بن عبد الله مسجد الفتح، فلما بلغ الأسطوانة الوسطى من المسجد قال: هذا موضع مصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا فيه على الأحزاب، وكان يصلي فيه إذا جاء مسجد الفتح. وروى ابن شبة عن جابر قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد المرتفع، ورفع يديه مدا. وعن سالم أبي النصر قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق «اللهمّ منزّل الكتاب، ومنشئ السحاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» . وروى ابن زبالة من طريق عمر بن الحكم بن ثوبان قال: أخبرني من صلى وراء النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح ثم دعا فقال: «اللهم لك الحمد هديتني من الضلالة، فلا مكرم لمن أهنت، ولا مهين لمن أكرمت، ولا معزّ لمن أذللت: ولا مذلّ لمن أعززت، ولا ناصر لمن خذلت، ولا خاذل لمن نصرت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا رازق لمن حرمت، ولا حارم لمن رزقت، ولا رافع لمن خفضت، ولا خافض لمن رفعت، ولا خارق لمن سترت، ولا ساتر لمن خرقت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت» . وذكر القرطبي دعاء آخر في رواية يتضمن أن الدعاء وقع من النبي صلى الله عليه وسلم هناك في الليلة التي أرسل الله فيها الريح على الأحزاب، ولا مانع من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم دعا في تلك الليلة أيضا هناك، ولفظه: ولما اشتد الأمر على المسلمين وطال المقام في الخندق قام عليه الصلاة والسلام على التلّ الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي وتوقّع ما وعده الله من النصر. وقال: من يذهب ليأتينا بخبرهم؟ قال: فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول: «يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، ويا كاشف همي وغمي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي» فنزل جبريل فقال: إن الله سمع دعوتك وكفاك هول عدوك، فخرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، وبسط يديه، وأرخى عينيه، وهو يقول: شكرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 كما رحمتني ورحمت أصحابي، وأخبره جبريل بأن الله مرسل عليهم ريحا، فبشر أصحابه بذلك. قلت: فينبغي أن يدعى بذلك كله هناك، فيقول: اللهم يا صريخ المستصرخين والمكروبين، ويا غياث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين، ويا مجيب دعوة المضطرين، صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، واكشف عني كربي وغمي وحزني وهمي، كما كشفت عن حبيبك ورسولك صلى الله عليه وسلم كربه وحزنه وغمه وهمه في هذا المقام، وأنا أتشفع إليك به صلى الله عليه وسلم في ذلك، يا حنان يا منان يا ذا الجود والإحسان. ويقدم عليه ما في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يدعو عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السموات ورب الأرضين رب العرش الكريم» . وكذلك دعاء الشافعي رحمه الله تعالى الذي دعا به عند دخوله على الرشيد في محنته فقد روى أبو نعيم بإسناد من طريق الشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا به في يوم الأحزاب، ورفعه غير صحيح كما قال البيهقي، لكنه دعاء عظيم، وفي ألفاظه اختلاف، وقد جمعت بينها وهو «شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم» ثم قال «وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي وديعة لي عند الله يؤدّيها إلى يوم القيامة، اللهم إني أعوذ بنور قدسك وعظمة طهارتك وبركة جلالك من كل آفة وعاهة ومن طوارق الليل والنهار، وطارق الجن والإنس، إلا طارقا يطرق بخير، اللهم أنت غياثي فبك أغوث، وأنت ملاذي فبك ألوذ، وأنت عياذي فبك أعوذ، يا من ذلّت له رقاب الجبابرة، وخضعت له أعناق الفراعنة، أعوذ بجمال وجهك وكرم جلالك من خزيك وكشف سترك، ومن نسيان ذكرك، والاضراب عن شكرك، أنا في حرزك وكنفك وكلاءتك في ليلي ونهاري، ونومي وقراري، وظعني وأسفاري، وحياتي ومماتي، ذكرك شعاري، وثناؤك دثاري، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، تنزيها لاسمك وعظمتك، وتكريما لسبحات وجهك، أجرني من خزيك ومن شر عبادك، واضرب عليّ سرادقات حفظك، وقني سيئات عذابك، وجد علي، وعدني منك بخير يا أرحم الراحمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الكريم، والصلاة على النبي المرتضى محمد وآله وصحبه وسلم» . قلت: ومما يدل على اشتهار الاستجابة بهذا المسجد في يوم الأربعاء وقصد السلف له في ذلك اليوم حتى النساء ما حكاه الأديب شهاب الدين أبو الثناء محمود في كتابه «منازل الأحباب» من رؤية عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموع امرأة ممن يزور هذا المسجد في يوم الأربعاء مع نسوة المرة بعد الآخرى وذكر قصته في تزوجه بها، وإنشاده: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 يا للرّجال ليوم الأربعاء أما ... ينفكّ يحدث لي بعد النهي طربا ما إن يزال غزال فيه يظلمني ... يهوى إلى مسجد الأحزاب منتقبا يخبّر الناس أنّ الأجر همّته ... وما أتى طالبا للأجر محتسبا لو كان يبغي ثوابا ما أتى ظهرا ... مضمخا بفتيت المسك مختضبا وفي كلام الزبير بن بكار ما يقتضي نسبة هذه الأبيات مع زيادة فيها لعبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي، وأنه كان إمام المسجد المذكور فإنه قال: ولما ولي الحسن بن زيد المدينة منع عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي أن يؤمّ الناس في مسجد الأحزاب، فقال له: أصلح الله الأمير لم منعتني مقامي ومقام آبائي وأجدادي قبلي؟ قال: ما منعك منه إلا يوم الأربعاء، يريد قوله: يا للرّجال ليوم الأربعاء وذكر الأبيات الأربعة المتقدمة وزاد عقبها أربعة أخرى، وهي: فإن فيه لمن يبغي فواضله ... فضلا وللطالب المرتاد مطلبا كم حرّة درّة قد كنت آلفها ... تسدّ من دونها الأبواب والحجبا قد ساغ فيه لها مشي النهار كما ... ساغ الشراق لعطشان إذا شربا اخرجن فيه ولا ترعين ذا كذب ... قد أبطل الله فيه قول من كذبا قال المجد: وأما تسميته يعني المسجد الأعلى بمسجد الفتح فمحتمل أنه سمّي به لأنه أجيبت فيه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فكان فتحا على الإسلام أو أنزل الله عليه صلى الله عليه وسلم سورة الفتح هناك، انتهى. قلت: وبالثاني جزم ابن جبير في رحلته، لكن جاء في خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان قد تقنّع بثوبه يوم الخندق واضطجع لما أتاه أصحابه بخبر بني قريظة، ثم إنه رفع رأسه فقال: بشروا بفتح الله ونصره» كما في مغازي ابن عقبة، فلعل ذلك كان في موضع هذا المسجد، فسمي بذلك لوقوع البشارة بالفتح فيه. وأيضا فقد روى القرطبي ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل حذيفة ليأتيه بخبر الأحزاب كان بمحل هذا المسجد. وقد قال ابن عقبة: إن حذيفة لما رجع وجد النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي، ثم انصرف إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد فتح الله عز وجل لهم وأقر أعينهم، اه. وروى ابن شبة عن أسيد بن أبي أسيد عن أشياخهم أن النبي صلى الله عليه وسلم «دعا على الجبل الذي عليه مسجد الفتح، وصلّى في المسجد الصغير الذي بأصل الجبل على الطريق حين يصعد الجبل» . وروى ابن زبالة عن معاوية ابن عبد الله بن زيد، نحوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وعن معاذ بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد الفتح الذي على الجبل وفي المساجد التي حوله» . المساجد التي حول مسجد الفتح قلت: وظاهره أن المساجد حوله ثلاثة لأنه أقل الجمع، وهو ما صرح به ابن النجار فقال: إن مسجد الفتح على رأس جبل يصعد إليه بدرج، وقد عمر عمارة جديدة، أي عمارة ابن أبي الهيجاء الآتية فإنه أدركها. قال: وعن يمينه في الوادي نخل كثير، ويعرف ذلك الموضع بالسيحي، أي بالياء آخر الحروف. ومساجد حوله وهي ثلاثة- قبلة الأول منها خراب، وقد هدم وأخذت حجارته، والآخران معموران بالحجارة والجص، وهما في الوادي عند النخل، انتهى. وقال المطري: إن المسجدين اللّذين في قبلة مسجد الفتح تحته يعرف الأول منهما يعني الذي يلي مسجد الفتح بمسجد سلمان الفارسي، والثاني الذي يلي القبلة- يعني في قبلة مسجد سلمان- يعرف بمسجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم ذكر ما تقدم عن ابن النجار من أنه كان معهما مسجد ثالث، ثم قال: وهذا لم يبق له أثر. قلت: وفي قبلة المسجد المعروف بأمير المؤمنين جانحا إلى جهة المشرق يلحق طرف جبل سلع الذي في قبلة المساجد رضم من حجارة رأينا الناس يتبركون بالصلاة بينها. وقد تأملتها فوجدت في طرفها مما يلي المشرق حجرا من المقام الذي يجعل منه الأساطين، وهو مثبت في الأرض بالجص، فترجح عندي أنه أثر أسطوان، وأن ذلك هو المسجد الذي يشير إليه ابن النجار، وما ذكره المطري من نسبة المسجدين المذكورين لسلمان وعلي رضي الله تعالى عنهما شائع على ألسنة الناس، ويزعمون أن الثالث الذي ذكر المطري أنه لم يبق له أثر مسجد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وبعض العامة يسمى مسجد سلمان بمسجد أبي بكر رضي الله عنه، ولم أقف في ذلك كله على أصل. قال المطري: ويصعد إلى مسجد الفتح بدرجتين شمالية وشرقية، وكان فيه ثلاث أسطوانات من بناء عمر بن عبد العزيز، فلذلك قال في الحديث «موضع الأسطوانة الوسطى» . قلت: والمراد أنها ثلاث أساطين بين المشرق والمغرب فمسقفه رواق واحد فقط كما هو عليه اليوم، قال المطري: لكنه تهدّم على طول الزمان فجدّده الأمير سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء أحد وزراء العبيديّين ملوك مصر في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وكذلك جدد بناء المسجدين اللذين تحته من جهة القبلة في سنة سبع وسبعين وخمسمائة. قلت: واسمه اليوم مرسوم على مسن في أعلى قبلة مسجد الفتح، وفي أعلى قبلة المسجد الذي يليه. وفيه ذكر العمارة في التاريخ المذكور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 وأما المسجد الآخر- وهو الذي في قبلتهما، المنسوب لأمير المؤمنين عليّ- فتهدّم بناؤه، فجدّده الأمير زين الدين ضغيم بن حشرم المنصوري أمير المدينة الشريفة في سنة ست وسبعين وثمانمائة، وكان سقفه عقدا، وفيه مسن عليه اسم ابن أبي الهيجاء كالمسجدين الآخرين، فجعل سقفه خشبا على أسطوان واحد، وسقف كل من مسجد الفتح والذي في قبلته رواق واحد مقبوّ قبوا محكما، وفي كل منهما ثلاث قناطر آخذة من المشرق إلى المغرب، والظاهر أن الرحبة التي خف الرواق المذكور لم تغير عن حالها القديم. وذرع المسجد الأعلى من القبلة إلى الشام عشرون ذراعا ينقص يسيرا، ومن المشرق إلى المغرب مما يلي القبلة سبعة عشر ذراعا. وذرع المسجد الأسفل المنسوب لسلمان رضي الله تعالى عنه من القبلة إلى الشام أربعة عشر ذراعا شافة، ومن المشرق إلى المغرب مما يلي القبلة سبعة عشر ذراعا. وذرع المسجد الذي يليه- وهو المنسوب لعلي رضي الله عنه- من القبلة إلى الشام ثلاثة عشر ذراعا شافة، ومن المشرق إلى المغرب مما يلي القبلة ستة عشر ذراعا شافة. مسجد بني حرام الكبير وينبغي لقاصد مساجد الفتح أن يزور مسجد بني حرام الكبير، وهو غير مسجدهم الصغير الآتي ذكره، وهذا المسجد هو الذي اتخذوه لشعبهم من سلع لما تحوّلوا إليه على ما قدمناه في ذكر المنازل؛ لما فيه مما يقتضي أنهم تخلوا إليه بإذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وقد روى رزين عن يحيى بن قتادة بن أبي قتادة عن مشيخة من قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يأتي دور الأنصار فيصلي في مساجدهم» . وقدمنا هناك أيضا أن عمر بن عبد العزيز زاد فيه على بناء أهله له مدماكين من أعلاه، وطابق سقفه، وكان أولا بخشب وجريد، وجعل فيه زيت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى فيه، لكن تقدم أيضا ما يقتضي أن بنى حرام إنما انتقلوا للشعب المذكور في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وروى ابن شبة في ذكر المساجد التي يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى فيها، ويقال إنه لم يصل فيها، عن حرام بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ في مسجد بني حرام الأكبر، ثم روى ما قدمناه من الاختلاف في وقت تحوّلهم إلى ذلك المحل. فيتلخص من ذلك أنه مما اختلف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ولذلك لم يفرده بالذكر، وقد ظهر لي محله في قرية بني حرام بشعبهم غربي جبل سلع على يمين السالك إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية، وعلى يسار السالك إلى المدينة من مساجد الفتح، فإذا جاوزت البطن الذي فيه مساجد الفتح وأنت قاصد المدينة يلقاك بعد ذلك بطن متسع من سلع فيه آثار قرية هي قرية بني حرام، وذلك شعبهم، وقد انهدم المسجد بأجمعه، وبقي أساسه وآثار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 أساطينه من الخزر المكسر، وفيها آثار الرصاص وعمد الحديد وآثار الرمل بأرضه، ولعل الله تعالى يبعث له من يحييه. كهف بني حرام وينبغي لقاصد المسجد المذكور أن يزور كهف بني حرام قرب شعبهم المذكور؛ لما سيأتي في ذكر عين النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الملك بن جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم «توضّأ من العيينة التي عند كهف بني حرام» قال: وسمعت بعض مشيختنا يقول: قد دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الكهف. وفي رواية أنهم كانوا- يعني الصحابة- يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويخافون البيات، فيدخلونه كهف بني حرام فيبيت فيه، حتى إذا أصبح هبط، وإنه نقر العيينة التي عند الكهف. ولما روى ابن شبة عن يحيى بن النصر الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم «جلس في كهف سلع» والمراد به كف بني حرام. ولما روى الطبراني في الأوسط والصغير عن أبي قتادة قال: خرج معاذ بن جبل فطلب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجده، فطلبه في بيوته فلم يجده، فاتّبعه في سكة سكة حتى دلّ عليه في جبل ثواب، فخرج حتى رقي جبل ثواب فنظر يمينا وشمالا فبصر به في الكهف الذي اتخذ الناس إليه طريقا إلى مسجد الفتح، قال معاذ: فإذا هو ساجد، فهبطت من رأس الجبل وهو ساجد فلم يرفع حتى أسأت به الظن، فظننته أنه قد قبضت روحه، فقال: جاءني جبريل بهذا الموضع فقال: إن الله تبارك وتعالى يقرؤك السلام ويقول لك: ما تحبّ أن أصنع بأمتك؟ قلت: الله أعلم، فذهب ثم جاء إلي فقال: إنه يقول: لا أسوءك في أمتك، فسجدت فأفضل ما تقرب به إلى الله عز وجل السجود. قلت: وجبل ثواب لم أقف له على ذكر، ولكن يؤخذ من قوله في هذا الكهف إنه الذي اتخذ الناس إليه طريقا إلى مسجد الفتح أنه جبل سلع، والمراد اتخذ الناس إلى الكهف طريقا إلى طريق مسجد الفتح، فهو كهف بني حرام بقرينة ما سبق، والكهف كما في الصحاح: شبه البيت المنقور في الجبل، وهذا الكهف يظهر أنه الذي على يمين المتوجّه من المدينة إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية أيضا إذا قرب من البطن الذي هو شعب بني حرام في مقابلة الحديقة المعروفة اليوم بالنقبينة عن يساره. وكذلك الحصن المعروف بحصن حمل يكون في جهة يساره فهناك مجرى سائلة تسيل من سلع إلى بطحان، فإذا دخل في تلك السائلة وصعد يسيرا من سلع طالبا جهة المشرق كان الكهف المذكور على يمينه، وعنده أثر نقر ممتد في الجبل هو مجرى السائلة المذكورة، وإذا صعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 الإنسان من ذلك المجرى وكان في أعلاه وجد كهفا آخر، لكنه صغير جدّا، والأول أقرب إلى كونه المراد، ولعل ذلك النقر هو المراد فيما يتعلق بالعيينة، وإذا حصل المطر بسلع سالت تلك السائلة، ويبقى هناك مواضع يتحصل فيها الماء ثم يجري منها؛ فينبغي التبرك بها، والله أعلم. مسجد القبلتين ومنها: مسجد القبلتين، قال رزين: وهو مسجد بني حرام بالقاع، وتبعه ابن النجار فمن بعده، وزاد المطري وتبعه من بعده أنه الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم النخامة في قبلته فحكّها بعرجون كان في يده، ثم دعا بخلوق فجعله على راس العرجون ثم جعله في موضع النخامة، فكان أوّل مسجد خلّق، وهذا كله مردود؛ لأن ابن زبالة قال كما قدمناه في المنازل: إن بني سواد بن غنم بن كعب نزلوا عند مسجد القبلتين، ولهم مسجد القبلتين ونزل بنو عبي بن عدي بن غنم بن كعب عند مسجد الخربة، ونزل بنو حرام بن كعب بن غنم بن كعب عند مسجد بني حرام الصغير الذي بالقاع، وابتنوا أطمأ يقال له جاعص كان في السهل بين الأرض التي كانت لجابر بن عتيك وبين العين التي عملها معاوية بن أبي سفيان، وحينئذ فلا يصح كون مسجد بني حرام الصغير هو مسجد القبلتين. وكان هؤلاء الجماعة فهموا من وصف مسجدهم هذا بالصغير أن مسجدهم الكبير هو مسجد القبلتين، وليس كذلك؛ لما قدمناه من أن مسجدهم الكبير نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ فيه، وأنه الذي بشعب سلع، وأيضا فقد صرح ابن زبالة بأن مسجد القبلتين لبني سواد، وأيضا فاسم القاع إنما يناسب ما قدمناه في بيان منازل بني حرام في غربي مساجد الفتح، فمسجد بني حرام هذا من المساجد التي لا تعلم اليوم عينها، ولكن تعلم جهتها. ومما يوضح المغايرة بين مسجد بني حرام وبين مسجد القبلتين، ويصرح بخطأ ما ذهب إليه من جعلهما متحدين أن ابن شبة روى عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد الخربة، وفي مسجد القبلتين، وفي مسجد بني حرام الذي بالقاع. ورواه أيضا ابن زبالة عن جابر بلفظ «صلّى في مسجد القبلتين وفي مسجد بني حرام بالقاع» ولم يذكر مسجد الخربة؛ فاتّضح بذلك ما قلناه، وتعين اجتناب ما عداه، وما ذكره المطري من كون مسجد القبلتين أول مسجد خلّق أخذه من ورود ذلك في مسجد بني حرام لظنه اتحادهما؛ فاجتنبه. وقال ابن زبالة: وحدثني موسى بن إبراهيم عن غير واحد من مشيخة بني سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد القبلتين» وقد قدمناه في الفصل الثالث من الباب الرابع الاختلاف في تعيين المسجد الذي وقع فيه تحويل القبلة وسنته والصلاة التي وقع ذلك فيها، وفي بعض تلك الروايات أن ذلك كان بمسجد القبلتين، وأن الواقديّ قال: إن ذلك هو الثابت عنده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وروى يحيى عن عثمان بن محمد بن الأخنس قال: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة- وهي أم بشر من بني سلمة- في بني سلمة، فصنعت له طعاما، قالت أم بشر: فهم يأكلون من ذلك الطعام إلى أن سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأرواح، فذكر حديثها في أرواح المؤمنين والكافرين، ثم قال: فجاءت الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مسجد القبلتين الظهر، فلما أن صلى ركعتين أمر أن يوجه إلى الكعبة، فاستدار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة واستقبل الميزاب؛ فهي القبلة التي قال الله تعالى «فلنولينك قبلة ترضاها» فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وفي رواية له: فلما صلى ركعتين أمر أن يولي وجهه إلى الكعبة، فاستدار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة والمسجد مسجد القبلتين، وكان الظهر يومئذ أربعا منها اثنتان إلى بيت المقدس وثنتان إلى الكعبة. قلت: وهذا ما أشار إليه ابن سعد بقوله: ويقال إنه صلى الله عليه وسلم زار أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعاما وحانت الظهر، فصلى بأصحابه ركعتين، ثم أمر أن يوجّه إلى الكعبة، فاستداروا إلى الكعبة، فسمي المسجد مسجد القبلتين. وتقدم ما قاله الزمخشري من صرف القبلة في هذا المسجد في صلاة الظهر، وإنه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم تحول في الصلاة وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال. وروى ابن زبالة عن محمد بن جابر قال: صرفت القبلة ونفر من بني سلمة يصلون الظهر في المسجد الذي يقال له مسجد القبلتين، فأتاهم آت فأخبرهم وقد صلوا ركعتين فاستداروا حتى جعلوا وجوههم إلى الكعبة، فبذلك سمّي مسجد القبلتين. قال المجد: فعلى هذا كان مسجد قباء أولى بهذه التسمية؛ لما ثبت في الصحيحين من وقوع نحو ذلك به. وقد أطنب المجد هنا فيما جاء في تخليق القبلة لتوهمه أن مسجد القبلتين هو المراد، وذلك وهم لما أسلفناه، وهذا المسجد- كما قال المطري- بعيد من مساجد الفتح من جهة المغرب على رابية على شفير وادي العقيق، يعني العقيق الصغير. قلت: وهو مرتفع عن شفير وادي العقيق كثيرا، وكأنه أراد بذلك بيان مناسبة ما ادّعاه من تسمية موضعه بالقاع، وقد جدد سقف هذا المسجد وأصلحه الشجاعي شاهين الجمالي شيخ الخدامين عام ثلاث وتسعين وثمانمائة، والله أعلم. مسجد السقيا ومنها: مسجد السقيا، سقيا سعد الآتي ذكرها في الآبار، في شامي البئر المذكورة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 قريبا منها جانحا إلى المغرب يسيرا في طريق المار إلى الرقيقين من طريق العقيق، وهذا المسجد ذكره أبو عبد الله الأسدي من المتقدمين في منسكه في المساجد التي تزار بالمدينة. وروى ابن شبة في ترجمة المواضع التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومساجده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: عرض النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين بالسقيا التي بالحرة متوجها إلى بدر وصلّى بها. وقد قدمنا في الفصل الرابع من الباب الثاني ما رواه الترمذي وقال حسن صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بحرّة السقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بوضوء، فتوضأ ثم قام فاستقبل القبلة فقال: اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك ودعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدّهم وصاعهم مثل ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين. وقدمنا أيضا أن ابن شبة رواه بنحوه إلا أنه قال: حتى إذا كنا بالحرة بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بوضوء، فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ثم كبر ثم قال، الحديث بنحوه. وتقدم أيضا رواية الطبراني له بسند جيد، وأن أحمد روى برجال الصحيح عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى بأرض سعد بأصل الحرّة عند بيوت السقيا، ثم قال: إن إبراهيم خليلك وعبدك ونبيك دعاك لأهل مكة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثلي ما دعاك به إبراهيم لمكة، أن تبارك لهم في صاعهم ومدّهم وثمارهم، اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، واجعل ما بها من وباء بخم، اللهم إني حرّمت ما بين لابتيها كما حرمت على لسان إبراهيم الحرم» . وقال الواقدي في غزوة بدر: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بيوت السّقيا، فحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى عند بيوت السّقيا ودعا يومئذ لأهل المدينة: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، الحديث. وروى أيضا عن سعد بن أبي وقّاص قال: خرجنا إلى بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا سبعون بعيرا، وكانوا يتعاقبون الثلاثة والأربعة والاثنان على بعير، وكنت أنا من أعظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غنّى وأرجلهم رجلة وأرماهم بسهم لم أركب خطوة ذاهبا ولا راجعا. وقال صلى الله عليه وسلم حين فصل من يثرب للسقيا: اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك، قال: فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عاريا، وأصابوا طعاما من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسرى فأغنى به كل عائل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 وروى ابن زبالة عن عمر بن عبد الله الديناري وعمار بن حفص أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض جيش بدر بالسقيا، وصلّى في مسجدها، ودعا هنالك لأهل المدينة أن يبارك لهم في صاعهم ومدّهم، وأن يأتيهم بالرزق من ها وهنا. قال: واسم البئر السقيا، واسم أرضها الفلجان. قلت: ولم يكن هذا المسجد معروفا، ولم يذكره المطري، بل تردد في البئر بين البئر التي في المحل المذكور وبين البئر المعروفة بزمزم، ومال إلى ترجيح أنها التي في المحل المذكور، فاتفق أني جئت إلى ذلك المحل وتطلبت المسجد، فرأيت محله رضما، فأرسلت إليه بعض المعلمين وأمرته أن يتتبع الأساس بالحفر من داخله فظهر محراب المسجد وتربيعه وبناؤه بالحجارة المطابقة بالجص، وقد بقي منه في الأرض أزيد من نصف ذراع فيه بياض المسجد بالقصّة بحيث يعلم الناظر أنه من البناء العمري، وخرج الناس أفواجا لرؤيته والتبرك به، ثم بنى ولله الحمد على أساسه الأول، وهو مربع، مساحته نحو سبعة أذرع في مثلها. مسجد ذباب (الراية) ومنها: مسجد ذباب، ويعرف اليوم بمسجد الراية، ولما لم يعرفه المطري قال: وليس بالمدينة مسجد يعرف غير ما ذكر إلّا مسجدّا أعلى ثنية الوداع عن يسار الداخل إلى المدينة من طريق الشام، ومسجدّا آخر على طريق السافلة، ولم يرد فيهما نقل يعتمد عليه. قال الزين المراغي في بيان المسجد الأول: وكأنه يريد به المسجد المعروف بمسجد الراية. قلت: هو مراده؛ لوجوده في زمنه، ولم يعدّه في المساجد وأطلق على محل ثنية الوداع لقربه منها، وهو مبني بالحجارة المطابقة على صفة المساجد العمرية، وكان قد تهدم فجدده الأمير جانبك النيروزي رحمه الله تعالى سنة خمس أو ست وأربعين وثمانمائة، وقد اتضح لنا ما جاء في هذا المسجد بحمد الله تعالى لأن الإمام أبا عبد الله الأسدي في المتقدمين لما عدد في كتابه الأماكن التي تزار في المدينة الشريفة قال: مسجد الفتح على الجبل، ومسجد ذباب على الجبل، انتهى. وذباب: اسم الجبل الذي عليه المسجد المذكور كما سنوضحه. وقد روى ابن زبالة وابن شبة عن عبد الرحمن الأعرج أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى على ذباب. وروى الثاني عن ربيع بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم قبّته على ذباب. وعن الحارث بن عبد الرحمن قال: بعثت عائشة رضي الله تعالى عنها إلى مروان بن الحكم حين قتل ذبابا وصلبه على ذباب تقول: موقف صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذته مصلبا. قال أبو غسان: وذباب رجل من أهل اليمن عدا على رجل من الأنصار، وكان عاملا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 لمروان على بعض مساعي اليمن، وكان الأنصاري عدا على رجل فأخذ منه بقرة ليست عليه، فتبع ذباب الأنصاريّ حتى قدم المدينة، ثم جلس له في المسجد حتى قتله، فقال له مروان: ما حملك على قتله؟ قال: ظلمني بقرة لي، وكنت امرأ خبيث النفس فقتلته، فقتله مروان وصلبه على ذباب. وتقدم من رواية ابن شبة في اتخاذ المقصورة في المسجد ما يقتضي أن الرجل الذي ظلمه ساعي مروان اسمه دب، وأنه إنما همّ بقتل مروان، فأخذه مروان، فذكر له السبب المتقدم وأنه حبسه ثم أمر به فقتل. وقال ابن شبة: قال أبو غسان: وأخبرني بعض مشايخنا أن السلاطين كانوا يصلبون على ذباب، فقال هشام بن عروة لزياد بن عبيد الله الحارثي: يا عجبا، يصلبون على مضرب قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفّ عن ذلك زياد وكفت الولاة بعده عنه. قلت: وقد جعل المطري في الكلام على الخندق مضرب قبّة النبي صلى الله عليه وسلم هو محل مسجد الفتح من سلع؛ لظنه أن الخندق لم يكن إلا في غربي سلع، وكأنه لم يطلع على ما هنا. ولم أر لما ذكره أصلا في كلام غيره، وقد غاير أبو عبد الله الأسدي بين مسجد الفتح ومسجد ذباب كما قدمناه، وسيأتي ما يؤخذ منه أن الخندق كان شامي المدينة بين حرّتيها الشرقية والغربية. وفي اتخاذ المسجد على هذا الجبل رد لما أوّل به الطبراني الصلاة عليه بالدعاء فإنه روى بسند فيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ذباب، قال الطبراني عقبه: بلغني أن ذبابا جبل بالحجاز وقوله «صلى» أي: بارك عليه. قلت: صرح ابن الأثير بأنه جبل بالمدينة، وفي الاكتفاء في غزوة تبوك ما لفظه: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب. وقد قال الكمال الدميري: إن في كتب الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلب رجلا على جبل يقال له ذباب، وإن البكري قال: هو جبل بجبّانة المدينة. وتقدم في منازل بني الديل حول ثنية الوداع ذكر الجبّانة، وكذا في ذكر البلاط. وقال الواقدي في كتاب الحرة: إنهم لما اصطفّوا لقتال جيش الحرّة على الخندق، وكان يزيد بن هرمز في موضع ذباب إلى مربد النّعم معه الدهم من الموالي، وهو يحمل رايتهم، وهو أميرهم، وقد صف أصحابه كراديس بعضها خلف بعض إلى رأس الثنية أي: ثنية الوداع. وهذا كله صريح في أن ذبابا هو الجبل المذكور، ولعل السبب في اشتهار مسجده بمسجد الراية ما ذكره الواقدي من أن يزيد بن هرمز كان في موضعه ومعه راية الموالي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وقد تقدم في منازل يهود قول ابن زبالة: وكان لأهل الشوط الأطم الذي يقال له السرعي، وهو الأطم الذي دون ذباب، وسيأتي في ترجمة الشوط أنه قريب من منازل بني ساعدة، وقد رأيت لذباب ذكرا في أماكن كثيرة جدّا، وكلها متفقة على وصفه بما يدل على أنه الجبل الذي عليه مسجد الراية، بحيث زال الشك عندي في ذلك. ويؤخذ مما سيأتي في ترجمة الخندق أن الصخرة- التي خرجت- من بطن الخندق وهم يحفرونه، وضربها النبي صلى الله عليه وسلم بالمعول الحديث كانت تحته، لكنه سمي في تلك الرواية ذو باب بزيادة واو، والله أعلم. مسجد القبيح ومنها: المسجد اللاصق بجبل أحد على يمينك وأنت ذاهب إلى الشعب الذي فيه المهراس، وهو صغير قد تهدم بناؤه. قال الزين المراغي: ويقال: إنه يسمّى مسجد القبيح. قلت: وهو مشهور بذلك اليوم، ويزعمون أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ الآية [المجادلة: 11] نزلت فيه، ولم أقف على أصل لذلك. وقال المطري: يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى فيه الظهر والعصر يوم أحد، بعد انقضاء القتال، وكأنه لم يقف فيه على شيء. وقد روى ابن شبة بسند جيد عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الصغير الذي بأحد في شعب الحرار على يمينك لازق بالجبل. مسجد في ركن جبل عينين ومنها: مسجد في ركن جبل عينين الشرقي على قطعة منه، وهذا الجيل كان عليه الرّماة يوم أحد، وهو في قبلة مشهد سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه، وقد تهدم غالب هذا المسجد. قال المطري: يقال: إنه هو الموضع الذي طعن فيه حمزة رضي الله تعالى عنه. قلت: وكذا هو مشهور اليوم، وقد ذكر المجد هذا المسجد والذي بعده وقال: ينبغي اغتنام الصلاة فيهما؛ لأنهما لم يبنيا إلا علما للزائرين، ومشهدا للقاصدين، وقول من قال إن الأول طعن مكانه حمزة والثاني صرع فيه فوقع لم يثبت فيه أثر، وإنما هو قول مستفيض. ثم قال: ويذكر بعض الناس أن المسجد الأول- يعني هذا- كسر في مكانه ثنيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما كان من ابتلاء الله تعالى صفيه وخليله عليه الصلاة والسلام، كل ذلك مقالات يذكرها أهل المدينة لم يرد بها نقل. قلت: وكلامه وكلام المطري صريح في أنهما لم يقفا على ما جاء فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وسيأتي في قبر حمزة رضي الله تعالى عنه ما رواه ابن شبة من أنه لما قتل أقام في موضعه تحت جبل الرّماة وهو الجبل المذكور، ثم أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فحمل عن بطن الوادي، وهذا هو محل المسجد الثاني. وأما هذا المسجد فقد روى ابن شبة فيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر يوم أحد على عينين الظرب الذي بأحد عند القنطرة، وكأنه يعني بالقنطرة قنطرة العين التي كانت قديما هناك. وأشار إليها المطري بقوله عقب ذكر هذا المسجد: وقد تجدّدت هناك عين ماء، جدّدها الأمير بدر الدين ودي بن جماز صاحب المد، مفيضها بالقرب من هذا المسجد، انتهى. والعين اليوم دائرة، وقد تقدم في غزوة أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى أحد بات بالشيخان «1» وأدلج في السحر فانتهى إلى موضع القنطرة، فحانت الصلاة فصلّى بأصحابه الصبح صفوفا عليهم السلاح؛ فيحتمل: أن المراد بذلك هذا المسجد، ويحتمل- وهو الأظهر-: أن يراد به المسجد الآتي ذكره عقبه؛ لأن في رواية ابن شبة ذكر صلاة الظهر وأن الموضع من نفس الجبل عند القنطرة، وفي هذه الرواية صلاة الصبح وأن ذلك في موضع القنطرة، والله أعلم. مسجد العسكر ومنها: مسجد في شمالي المسجد المذكور قبله قرب عينين أيضا، على شفير الوادي، قد تهدم أكثره، وكان مبنيا بالحجارة المنقوشة المطابقة على هيئة البناء العمري، وفيه بقايا آثار الأساطين، ولم أقف فيه على شيء سوى ما قدمته من الاحتمال الثاني في الرواية المتقدمة. وذكر المطري أنه يقال: إنه مصرع حمزة رضي الله تعالى عنه، وإنه مشى بطعنته من الموضع الأول إلى هناك فصرع رضي الله تعالى عنه. وقد أشرنا فيما سبق إلى أصل ما جاء في أن الموضع الثاني مكان مقتله، وإنما أثبتّه في المساجد- مع ما قدمته من أني لم أقف فيه على شيء صريح- لأن ابن شبة قال ما لفظه: قال أبو غسان: وقال لي غير واحد من أهل العلم من أهل البلد: إن كل مسجد من مساجد المدينة ونواحيها مبنيّ بالحجارة المنقوشة المطابقة فقد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن عمر بن عبد العزيز حين بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم سأل والناس يومئذ متوافرون عن المساجد التي صلّى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بناها بالحجارة المنقوشة المطابقة، انتهى. وقد ذكر هذا المسجد أبو عبد الله الأسدي من المتقدمين، وسماه مسجد العسكر، فقال   (1) الشيخان: موضع بالمدينة، وهو معسكر الرسول عليه الصلاة والسلام، يوم أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 في تعديد المساجد: ومسجد العسكر، ومسجد يمين هذا في أصل الجبل، انتهى؛ فيتأيد ذلك الاحتمال الثاني المذكور في الرواية المتقدمة لتسميته بمسجد العسكر، على أنه قد ورد من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة وقد قتل ومثّل به فلم ير منظرا كان أوجع لقبله منه، فقال: رحمك الله أي عمّ، فلقد كنت وصولا للرحم، فعولا للخيرات، فو الله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثّلنّ بسبعين منهم، فما برح حتى نزل: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى نصبر. وروى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة وصلّى عليه حينئذ. قلت: فهذا ما جاء في أن الموضع المذكور مقتل حمزة كاف في إثباته في المساجد، وسيأتي في بيان المشاهد الخارجة عن البقيع عند ذكر مشهد حمزة رضي الله تعالى عنه بيان أن الحجر المثبت على قبره اليوم أخطأ واضعه، وأنه إنما نقل من هذا المسجد عند تهدّمه، وفيه مكتوب بعد البسملة إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: 18] الآية هذا مصرع حمزة بن عبد المطلب ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمره حسين بن أبي الهيجاء سنة ثمانين وخمسمائة، وكأنه جدده فلما تهدم وسقط ذلك المسن نقل إلى المشهد المذكور كما سنوضحه. وأما المسجد المقابل لمشهد سيدنا حمزة في شرقيه وعند بابه فمحدث، لم يذكره المطري ولا غيره، وليس له أصل في المساجد المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم. مسجد أبي ذر الغفاري ومنها: مسجد صغير جدّا طوله ثمانية أذرع في ثمانية أذرع على يمين طريق السالك إلى أحد من طريق الأسواق، فإذا جاوز البقيع المعروف ببقيع الأسواق قليلا كان على يمينه طريق إذا مشى فيها يسيرا وجد هذا المسجد عند النخيل المعروفة بالبحير، وهو ثاني المسجدين اللذين ذكرهما المطري بقوله: وليس بالمدينة مسجد يعرف غير ما ذكر إلا مسجدّا على ثنية الوداع ومسجدّا آخر صغيرا جدّا على طريق السابلة، وهي الطريق اليمنى الشرقية إلى مشهد حمزة رضي الله تعالى عنه، يقال: إنه مسجد أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه، ولم يرد فيهما نقل يعتمد عليه. قلت: روى البيهقي في شعب الإيمان عن مولى لعبد الرحمن بن عوف قال: قال عبد الرحمن: كنت نائما في رحبة المسجد، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا من الباب الذي يلي المقبرة، قال: فلبثت شيئا ثم خرجت على أثره فوجدته قد دخل حائطا من الأسواق، فتوضأ ثم صلى ركعتين فسجد سجدة أطال فيها، فلما تشهد تبدأت له، فقلت: بأبي وأمي حين سجدت أشفقت أن يكون الله قد توفّاك من طولها، فقال: إن جبريل عليه السلام بشّرني أنه من صلّى عليّ صلى الله عليه، ومن سلم عليّ سلم الله عليه. قال البيهقي: وقد رويناه من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وجه آخر عن محمد بن جبير عن عبد الرحمن، ومن وجه آخر عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الرحمن لم يذكر فيه الركعتين، بل ذكر السجود فقط، فزاد عبد الواحد في حديثه: فسجدت لله شكرا. ورواه ابن زبالة بالطريق الأولى بلفظها، إلا أنه قال: فقلت بأبي وأمي لقد سجدت سجدة أشفقت إلى آخره. ورواه ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والبزار، إلا أن في روايتهم: فجئته وقد خرج، فاتبعته فدخل حائطا من حيطان الأسواق، فصلى فأطال السجود، فقلت: قبض الله روح رسوله صلى الله عليه وسلم لا أراه أبدا، فحزنت وبكيت، فرفع رأسه، فدعاني فقال: ما الذي بك؟ أو ما الذي وراءك؟ فقلت: يا رسول الله أطلت السجود فقلت قبض الله رسوله لا أراه أبدا، فحزنت وبكيت، قال: سجدت هذه السجدة شكرا لربي فيما أبلاني في أمتي أنه قال: من صلّى عليك منهم صلاة كتب له عشر حسنات، وهذا اللفظ للبزار. قلت: والأسواق قريبة من موضع هذا المسجد جدّا، ويحتمل أن محل السجدة المذكورة، بل هو الظاهر؛ فلذلك أثبتناه. وحديث عبد الرحمن هذا أخرجه الإمام أحمد بلفظ: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجّه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة، فخر ساجدّا فأطال السجود حتى ظننت أن الله قبض نفسه فيها، فدنوت منه، فرفع رأسه وقال: من هذا؟ قلت: عبد الرحمن، قال: ما شأنك؟ قلت: يا رسول الله سجدت سجدة ظننت أن يكون الله قد قبض نفسك فيها، فقال: إن جبريل أتاني فبشرني فقال: إن الله عز وجل يقول: من صلّى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، قال البيهقي في الخلافيات عن الحاكم قال: هذا صحيح، ولا أعلم في سجدة الشكر أصح من هذا الحديث، انتهى. وقوله «نحو صدقته» ينبغي حمله على الرواية المتقدمة، ولا يمتنع أن يكون بعض حوائط الأسواق كان من صدقة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن بالقرب منه موضعا يعرف قديما وحديثا بالصدقة، أو أن القصة متعددة، والله أعلم. مسجد أبيّ بن كعب (بني جديلة) (البقيع) ومنها: مسجد على يمين الخارج من درب البقيع على ما ذكره البرهان بن فرحون فإنه قال عقب ذكر المسجد المتقدم قبل هذا: إنه لم يرد فيه شيء يعتمد، ثم قال: وكذلك المسجد في أول البقيع على يمين الخارج من درب الجمعة، انتهى. قلت: يعني الموضع الذي في غربي مشهد عقيل وأمهات المؤمنين، وبه اليوم أسطوان قائمة، وبلغني أنه كان به عقدان سقطا، وبقاياه شاهدة بأنه كان مبنيا بالحجارة المنقوشة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 والقصّة كالبناء العمري، وقد اتخذ بعض الأشراف الوحاحدة رحبته التي في شامي الأسطوان مقبرة. وقد ذكر المرجاني أيضا مسجدّا بالبقيع، وذكر من عند نفسه أنه موضع مصلّى النبي صلى الله عليه وسلم العيد بالبقيع، ولعله يعني هذا المسجد، وقد قدمنا في ذكر المصلى ما يرده. والذي ظهر لي: أن هذا المسجد هو مسجد أبي بن كعب رضي الله عنه، ويقال له: مسجد بني جديلة؛ لأنا قدمنا في منازل بني النجار أن بني جديلة ابتنوا اطما يقال له مشعط كان في غربي مسجدهم الذي يقال له مسجد أبي، وفي موضع الأطم بيت يقال له بيت أبي نبيه، وسيأتي في ذكر قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وابنته الزهراء رضي الله تعالى عنهن بالبقيع ما يقتضي أن في أوله مما يلي هذه الجهة زقاقا يعرف بزقاق نبيه، وخوخة تعرف بخوخة آل نبيه. وفي كلام ابن شبة ما يقتضي مجاورة البقيع لبني جديلة واتصالهم به؛ فنرجّح عندي أنه مسجد أبيّ رضي الله تعالى عنه، وسيأتي عن المطري ذكر مسجد أبي فيما علمت جهته ولم تعلم عينه من المساجد. وروى عمر بن شبة عن يحيى بن سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إلى مسجد أبي فيصلي فيه غير مرة ولا مرتين، وقال: لولا أن يميل الناس، إليه لأكثرت الصلاة فيه. وعن أبي بكر بن يحيى بن النضر الأنصاري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ في مسجد مما حوته المدينة إلا مسجد أبيّ بن كعب، ثم ذكر مساجد ستأتي. وروى ابن زبالة عن يوسف الأعرج وربيعة بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني جديلة، وهو مسجد أبيّ بن كعب. وفي شامي مشهد عقيل أسفل الكومة مسجد صغير طريقه من بين الترب التي هناك أسفل محرابه موجود، ولم يتعرض لذكره في المساجد وليس هو على هيئات البناء العمري، والله أعلم. مساجد المصلى ومنها: مساجد المصلّى الثلاثة التي ذكرناها في الفصل الأول فراجعه. مسجد ذي الحليفة ومنها: مسجد ذي الحليفة ميقات أهل المدينة، والمسجد الذي في قبلته، وسيأتيان في المساجد التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين الحرمين مع بيان محلهما من وادي العقيق الكبير. مسجد مقمل ومنها مسجد مقمل، ذكره المجد هنا، والصواب ذكره في المساجد الخارجة عن المدينة؛ لأنه كما سيأتي على يومين منها، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 الفصل الرابع في المساجد التي علمت جهتها، ولم تعلم عينها بالمدينة الشريفة مسجد أبيّ بن كعب منها: مسجد أبيّ بن كعب ببني جديلة، ويقال: مسجد بني جديلة من بني النجار، على ما تقدم في المسجد الذي بالبقيع عن المطري من أن هذا المسجد لا تعرف عينه، قال: ومنازل بني جديلة عند بئر ماء شامي سور المدينة. مسجد بني حرام ومنها: مسجد بني حرام من بني سلمة من الخزرج، قد تقدم في مسجد القبلتين توهيم من جعله إياه، وما ورد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بكل منهما. وروى ابن زبالة عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني حرام الذي بالقاع، وأنه رأى في قبلته نخامة، وكان لا يفارقه عرجون ابن طاب يتخصّر به، فحكّه ثم دعا بخلوق فجعله على رأس العرجون، ثم جعله على موضع النخامة، فكان أول مسجد خلّق. ومنازل بني حرام بالقاع في غربي مساجد الفتح ووادي بطحان عند جبل بني عبيد والعين التي أجراها معاوية رضي الله تعالى عنه. مسجد الخربة ومنها: مسجد الخربة لبني عبيد من بني سلمة، وتقدم أن منازلهم كانت عند مسجدهم هذا إلى الجبل الذي يقال له جبل الدويخل جبل بني عبيد، وذلك قرب منازل بني حرام في المغرب، والقاصد إلى مسجد القبلتين من جهة مساجد الفتح يمر بمنازلهما، وقد تقدم في مسجد القبلتين ما روى من صلاته صلى الله عليه وسلم بهذا المسجد. وروى ابن زبالة عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن مشيخته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي السلافة أم البراء بن معرور في المسجد الذي يقال له مسجد الخربة دبر القرصة، وصلى فيه مرارا. قلت: وسيأتي أن هناك نخل جابر بن عبد الله المذكورة قصته في قضاء دينه هناك، ولم يتعرض المطري ومن تبعه لذكر هذا المسجد. وقد روى يحيى بن الحسن في كتابه خبر ابن زبالة المذكور، ورأيته في النسخة التي رواها طاهر بن يحيى عن أبيه يحيى لفظ: دبر القرصة، ثم قال عقبة ما لفظه: قال لنا طاهر بن يحيى: هذا في بني حارثة، وكانت القرصة ضيعة، وهي عند بيت سعد بن معاذ، انتهى. وهو مخالف لما تقدم عن ابن زبالة في المنازل، والله أعلم. مسجد جهينة ومنها: مسجد جهينة وبلى، وروى ابن شبة عن معاذ بن عبد الله بن أبي مريم الجهني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد جهينة، وعن يحيى بن النضر الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في مسجد مما حوته المدينة إلا مسجد أبيّ، ثم قال: ومسجد جهينة، إلى آخر ما ذكره، وعن جابر بن أسامة الجهني قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بالسوق فقلت: أين تريدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: نخطّ لقومك مسجدّا، فرجعت فإذا قومي قيام وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خطّ لهم مسجدّا وغرز في القبلة خشبة أقامها فيها، وعنه أيضا قال: خطّ النبي صلى الله عليه وسلم مسجد جهينة لبلّى. وروى ابن زبالة عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّ المسجد الذي لجهينة ولمن هاجر من بلّي، ولم يصل فيه. وعن خارجة بن الحارث بن رافع بن مكيث الجهني عن أبيه عن جده قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه من جهينة من بني الربعة يقال له أبو مريم، فعاده بين منزل بني قيس العطار الذي فيه الأراكة وبين منزلهم الآخر الذي يلي دار الأنصار، فصلى في ذلك المنزل، قال: فقال نفر من جهينة لأبي مريم: لو لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته أن يخطّ لنا مسجدّا، فقال: احملوني، فحملوه فلحق النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مالك يا أبا مريم؟ فقال: يا رسول الله لو خططت لقومي مسجدّا، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم مسجد جهينة، وفيه خيام لبلّي، فأخذ ضلعا أو محجنا فخطّ لهم، قال: فالمنزل ليلّي، والخطة لجهينة. قال الجمال المطري: وهذه الناحية اليوم معروفة غربي حصن صاحب المدينة، والسور القديم بينها وبين جبل سلع، وعنده آثار باب من أبواب المدينة خراب، ويعرف على تاريخه وهو سنة أربعين وسبعمائة- بدرب جهينة، والناحية من داخل السور بينه وبين حصن صاحب المدينة، انتهى. قلت: قوله «من داخل السور» إن أراد به السور الموجود اليوم فليس بصحيح؛ لأن ما كان داخل هذا السور فيما بينه وبين حصن صاحب المدينة فهو من السوق كما تقدم بيانه ومنازل هؤلاء كانت في غربي السوق قبلي ثنية عثمث المنسوية إلى سليع- وهو الجبل الذي عليه حصن أمير المدينة ويمتد في جهة المغرب إلى بني سلمة- وإن أراد أن الناحية المذكورة من داخل السور القديم فصحيح، غير أن الداخل فيه بعضها لا كلها. مسجد بني غفار ومنها: المسجد الذي عند بيوت المطرفي، وهو المتقدم ذكره في منازل بني غفار. روى ابن زبالة عن أنس بن عياض عن غير واحد من أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي عند بيوت المطرفي، عند خيام بني غفار، وأن تلك المنازل كانت منازل آل أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المطري: وليست الناحية معروفة اليوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 قلت: عرف مما تقدم في منازل بني غفار وفي دار السوق أنها في غربي سوق المدينة بالقرب من منزل جهينة الذي يلي ثنية عثعث من جهة القبلة. مسجد بني زريق ومنها: مسجد بني زريق- بتقديم الزاي كزبير- من الخزرج. روى ابن زبالة عن عمر بن حنظلة أن مسجد بني زريق أول مسجد قرئ فيه القرآن، وأن رافع بن مالك الزّرقي لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل عليه في العشر سنين التي خلت، قال: فقدم به رافع المدينة، ثم جمع قومه فقرأه عليهم في موضعه، وهو يومئذ كوم، قال: وعجب النبي صلى الله عليه وسلم من اعتدال قبلته. وعن مروان بن عثمان بن المعلى قال: أول مسجد قرئ فيه القرآن مسجد بني زريق. وعن يحيى بن عبد الله بن رفاعة قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وعجب من اعتدال قبلته، ولم يصل فيه. وروى ابن شبة عن معاذ بن رفاعة الزّرقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل في مسجد بني زريق، وتوضأ فيه، وعجب من قبلته، ولم يصل فيه، وكان أول مسجد قرئ فيه القرآن. قلت: تقدم في المنازل أن محل قرية بني زريق في قبلة المصلى وما والاها في المشرق داخل السور وخارجه، وتقدم في ذكر الدور المحيطة بالبلاط الممتدّ من باب المدينة المعروف بدرب سويقة إلى باب السلام ما يبين أن هذا المسجد كان في قبلة الدور التي عن يمين السالك من درب سويقة المذكور قريبا منه وهو المذكور في حديث السباق بين الخيل التي لم تضمر، قال عياض: وبينه وبين ثنية الوداع ميل أو نحوه. قلت: وبين ثنيّة الوداع وبين الموضع الذي ذكرناه نحو الميل، وهو قريب من جهة محاذاة ثنية الوداع في جهة القبلة. وقد حدث في جهة قبلة المصلّى مما يلي المغرب مسجدان، أحدثهما شمس الدين محمد بن أحمد السلاوي بعد الخمسين وثمانمائة: الأول منهما على شفير وادي بطحن على عدوته الشرقية، والثاني بعده في جهة القبلة على رابية مرتفعة من الوادي أيضا في غربيه في مقابلة المطرية، وكان موضعه في تلك الرابية فكان يطبخ فيه الآجرّ، وإنما نبهت على ذلك لئلا يتقادم العهد بهما فيظن أن أحدهما مسجد بني زريق؛ لكون ذلك بالناحية المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم. مسجدان لبني ساعدة ومنها: مسجدان لبني ساعدة من الخزرج، وسقيفتهم. روى ابن شبة عن المطلب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني ساعدة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وجلس في سقيفتهم القصوى. وعن العباس بن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني ساعدة في جوف المدينة. وعن سعد بن إسحاق بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني ساعدة الخارج من بيوت المدينة. وعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في سقيفة بني ساعدة القصوى. وعن عبد المنعم بن عباس عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في السّقيفة التي في بني ساعدة، وسقاه سهل بن سعد في قدح. وروى ابن زبالة حديث سهل بن سعد المتقدم، ثم روى عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفته التي عند المسجد، ثم استسقاني فخضت له وطبة، فشرب ثم قال: زدني، فخضت له أخرى فشرب، ثم قال: كانت الأولى أطيب من الآخرة، فقلت: هما يا رسول الله من شيء واحد. قوله: «فخضت له» كذا هو في نسخة ابن زبالة. ورواه المطري كذلك، وكذا كان في خط الزين المراغي، ثم رأيته مصلحا «فمخضت له» وكأن الذي ألحق الميم أخذ ذلك من كون الوطب سقاء اللبن؛ فالمناسب له المخض، ولا مانع من إطلاق الخوض على المخض. وقد تلخص من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجدي بني ساعدة، وجلس في سقيفتهم، والجلوس في سقيفتهم مذكور في الصحيح، وهي السقيفة التي وقعت بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فيها، والظاهر أنها كانت عند دار سعد بن عبادة، ويدل على ذلك ما في الصحيح من حديث الجوينية- وهي العائذة- من حديث سهل بن سعد حيث ذكر دخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وخروجه من عندها، ثم قال: فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثم قال: اسقنا يا سهل، فخرجت لهم بهذا القدح فسقيتهم فيه، الحديث. فطلبه صلى الله عليه وسلم من سهل بن سعد أن يسقيه وقد جلس في سقيفتهم دالّ على قرب منزله منها، ويدل لذلك أيضا اجتماع الأنصار بها عند سعد رضي الله تعالى عنه يوم السقيفة، وكان سعد مريضا، وقد أسلفنا في منازل بني ساعدة أنهم افترقوا في أربعة منازل؛ فمنزلهم الأول في شرقي سوف المدينة وفيه بئر بضاعة هو المراد بحديث الصلاة في مسجدهم الذي في جوف المدينة. وأما مسجدهم الخارج عن بيوت المدينة فيظهر أنه في منزلهم الرابع، وأنه في شامي ذباب الجبل الذي عليه مسجد الراية؛ لما سيأتي في ترجمة الشوط من أن في رواية لابن سعد أن الجوينية أنزلت بالشوط من وراء ذباب في أطم. وفي رواية أخرى: «فنزلت في أجم بني ساعدة» . سقيفة بني ساعدة وأما سقيفة بني ساعدة فيظهر أنها في منزلهم الثالث، وهو منزل بني أبي خزيمة بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 ثعلبة بن طريف؛ لأنهم رهط سعد، ولأن جراره التي كان يسقي فيها الماء بعد وفاة أمه كانت لها، وهو قريب من منزلهم الرابع، كما يؤخذ مما قدمناه في المنازل، وذلك في شامي سوق المدينة قرب ذباب. وقد ترجّح عندي الآن خطأ ما قدمته هناك من احتمال أن تكون جرار سعد عند الموضع المعروف اليوم بسقيفة بني ساعدة قرب مقعد الأشراف الوحاحدة من سويقة. وقد قدمنا قول المطري إن قرية بني ساعدة عند بئر بضاعة، والبئر وسط بيوتهم، قال: وشمالي البئر اليوم إلى جهة المغرب بقية أطم من آطام المدينة نقل أنه في دار أبي دجانة الصغرى التي عند بئر بضاعة، وأبو دجانة من بني ساعدة، ذكر ذلك في بيان مسجد بني ساعدة وسقيفتهم مقتصرا على مسجد واحد، وقال: إنه مسجد بني ساعدة رهط سعد بن عبادة، وليس ما ذكره منزل رهط سعد؛ لما قدمناه. وأغرب رزين العبدري فزعم أن سقيفة بني ساعدة معروفة بقباء، وهو وهم وروى ابن زبالة عن هند ابنة زياد زوجة سهل بن سعد الساعدي قالت: لما دخلت على سهل رأيت المسجد في وسط البيت فقلت: ألا إلى العريش أو إلى الجدار، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ها هنا، وهو البيت الذي صار لابن حمران. مسجد بني خدارة ومنها: مسجد بني خدارة إخوة بني خدرة من الخزرج. روى ابن شبة عن شيخ من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني خدارة، وحلق رأسه فيه. وعن هشام بن عروة أنه صلى الله عليه وسلم صلّى به. وعن عمرو بن شرحبيل أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على الحجر الذي في أجم سعد بن عبادة عند جرار سعد، وصلّى في مسجد بني خدارة. قلت: قد تقدم ذكر جرار سعد في منزل بني ساعدة الثالث، وبيان أنها كانت حدّ سوق المدينة من جهة الشام قرب ثنية الوداع، وأن منازل بني خدارة كانت بجرار سعد وقال المطري: هذه الدار قبلي دار بني ساعدة وبئر بضاعة مما يلي سوق المدينة. وإذا تأملت ما قدمناه في منازل بني ساعدة علمت أن هذه هي دارهم الثالثة التي بها رهط سعد، وعندها السقيفة، وليس بها لبني ساعدة مسجد، وينبغي أن لا يغافل عما قدمناه من حدوث مسجد في منزلة الحاج الشامي قبليّ المنهل الذي عند مشهد النفس الزكية، أنشأه قاضي الحرمين العلامة محيي الدين الحنبلي هناك؛ فلا يتوّهم أنه أحد هذه المساجد، والله أعلم. مسجد راتج ومنها: مسجد راتج؛ لم يتعرض المطري ومن تبعه لذكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وقد روى ابن شبة عن خالد بن رياح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد راتج، وشرب من جاسوم، وهي بئر هناك. وروى ابن زبالة صلاته صلى الله عليه وسلم في مسجد راتج عن خالد بن رباح عن رجل من بني حارثة. وسيأتي أن جاسوم بئر أبي الهيثم بن التيهان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في حائطه. وراتج تقدم في المنازل أنه أطم سميت به الناحية، وأن بني الشطية كانوا إحدى قبائل راتج الثلاث، وأن ممن كان به بني زعوراء إخوة بني عبد الأشهل ومنهم أبو الهيثم بن التّيهان؛ ولهذا نقل الأقشهري عن المحب الطبري أنه ذكر المساجد التي كانوا يصلون فيها بأذان بلال فقال: ومسجد بني راتج من بني عبد الأشهل. قلت: وصواب العبارة «مسجد راتج» وقد سبق ذكر راتج أيضا في منازل مزينة من المهاجرين حيث قال فيها: ونزلت بنو ذكوان من بني سليم مع أهل راتج من اليهود ما بين دار قدامة إلى دار حسن بن زيد بالجبانة. وسيأتي ذكر الجبانة في ترجمة ذباب. وسيأتي لراتج ذكر في ترجمة الخندق، ومنه يؤخذ أنه كان في شرقي ذباب الذي عليه مسجد الراية جانحا إلى جهة الشام، وبعده في المشرق منزل بني عبد الأشهل. وقال المطري: إن في غربي وادي بطحان من جهة مساجد الفتح جبلين صغيرين: أحدهما يقال له راتج، ويقال للذي إلى جنبه جبل أبي عبيد. قلت: وإن صحّ ما ذكره فليس هو المراد هنا؛ لأن تلك الجهة ليست في منازل بني عبد الأشهل وإخوتهم المذكورين. والذي صرح به ابن زبالة وغيره أنه اسم أطم كما قدمناه، فهو المعتمد والله أعلم. مسجد واقم ومنها: مسجد بني عبد الأشهل من الأوس، ويقال له: مسجد واقم. روى أبو داود والنسائي عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل فصلّى فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسجدون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت، وإسناده جيد، إلا أن فيه إسحاق بن كعب بن عجرة مجهول الحال. وروى ابن شبهة عن محمود بن لبيد قال: صلّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما فرغ من صلاته قال: صلّوا هاتين الركعتين في بيوتكم، ومحمود بن لبيد من صغار الصحابة، وجلّ روايته عن الصحابة، وفي إسناده عنعنة ابن إسحاق، ورواه أحمد برجال ثقات، ولفظه: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا فصلّى بنا المغرب، فلما سلّم منها قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم، للسبحة بعد المغرب، ورواه ابن ماجه عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عبد الأشهل، فصلّى بنا المغرب في المسجد، الحديث، وفي إسناده متروك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وروى ابن شبة وابن ماجه عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فصلّى بنا في بني عبد الأشهل، فرأيته واضعا يديه على ثوبه إذا سجد وعبد الله بن عبد الرحمن ليست له صحبة، قال الذهبي: وصوابه عن أبيه عن جده. وقد روى ابن ماجه عقبه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن ثابت بن الصامت عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في بني عبد الأشهل، وعليه كساء ملتف به يضع يديه عليه يقيه برد الحصى. ورواه ابن شبة بنحوه، وفي إسناد كل منهما ضعيف. وروى ابن شبة عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة- وهو ضعيف- عن أبيه معضلا قال: صلّى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد واقم في بني عبد الأشهل وعليه برنكان لم يفض بيديه من البرنكان إلى الأرض. وعن أمر عامر أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد بني عبد الأشهل أتى بعرق فتعرّقه، ثم صلى ولم يمسّ ماء. ورواه ابن زبالة إلا أنه قال: إنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق فتعرقه وهو في مسجد بني عبد الأشهل، ثم قام فصلى ولم يتوضأ. وروى يحيى عن بكر بن عبد الوهاب عن محمد بن عمر قال: قالوا: كان بالمدينة تسعة مساجد يسمعون فيها مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيصلون في مساجدهم، ولا يأتون مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا يوم الجمعة فإنهم كانوا يجمعون فيه، وربما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الظهر إلى مسجد بني عبد الأشهل فيصلي العصر والمغرب في مسجد بني عبد الأشهل، ولم تكن دار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لها غشيانا من دار بني عبد الأشهل قبل وفاة سعد بن معاذ وبعد وفاته. قلت: والأخبار في الصلاة في هذا المسجد كثيرة، وهو غير معروف اليوم، وتقدم أن المطري قال: إن دار بني عبد الأشهل قبلى دار بني ظفر مع طرف الحرة الشرقية المعروفة بحرّة واقم، وكأنه أخذه من قول يحيى في مسجد بني ظفر: إنه دون مسجد بني الأشهل، ولا دلالة في ذلك على ما قاله، والصواب ما قدمناه في منازلهم من أنها كانت في شامي بني ظفر بالحرّة المذكورة وما والاها بين بني ظفر وبني حارثة، وسيأتي في ترجمة الخندق ما يصرح بذلك. ويؤيده ما سيأتي في مسجد القرصة من أنها ضيعة لسعد بن معاذ، والقرصة معروفة اليوم بالجهة التي ذكرناها. وبنو عبد الأشهل هم رهط سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وقد رأيت قرب القرصة آثار منازل كثيرة الظاهر أنها منازلهم، ويؤيده أن فيما نقله الواقدي عن كتاب مسرف بن عقبة إلى يزيد بعد مقتلة الحرّة «إني فرقت أصحابي على أفواه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 خنادقهم؛ فوليت الحصين بن نمر ناحية ذباب وما والاها، ووجهت حبيش بن دلجة إلى ناحية بقيع الغرقد، وكنت ومن معي من قواد أمير المؤمنين في وجه بني حارثة، فأدخلنا عليهم الخيل حين ارتفع النهار من ناحية بني عبد الأشهل، فما صليت الظهر إلا في مسجدهم، وإنا أوقعنا بهم السيوف فقتلنا من أشرف لنا منهم، وتبعنا مدبرهم، وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناها ثلاثا» انتهى. وقد تقدم في الفصل الخامس عشر من الباب الثاني أن بعض بني حارثة فتح لأهل الشام طريقا من قبلهم، وأنهم أتوا من قبل بني حارثة. ونقل الواقديّ أن أول ما انتهبت والحرب بعد لم تنقطع دار بني عبد الأشهل، أي لأنها التي كانت تليهم بعد الدخول من بني حارثة، والله أعلم. مسجد القرصة ومنها: مسجد القرصة، روى رزين عن يحيى بن قتادة عن مشيخة قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي دور الأنصار فيصلي في مساجدهم، فصلى في مسجد القرصة، والقرصة: ضيعة لسعد بن معاذ، قال الزين المراغي: فلعلها القرصة المعروفة اليوم بطرف الحرة الشرقية من جهة الشمال؛ لأنها قريبة من منازل بني عبد الأشهل رهط سعد، غير أن المسجد لا يعرف فيها اليوم. قلت: رأيت بها قرب البئر على رابية أثر مسجد، والله أعلم. مسجد بني حارثة ومنها: مسجد بني حارثة من الأوس روى ابن شبة عن الحارث بن سعد بن عبيد الحارثي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني حارثة. وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني حارثة، وقضى فيه في شأن عبد الرحمن بن سهل، يعني المقتول بخيبر، أخي عبد الله بن سهل بني عم حويصة ومحيصة. وتقدم في المنازل أن بني حارثة تحوّلوا قبل الإسلام من دار بني عبد الأشهل إلى دارهم في سند الحرّة التي بها الشيخان شاميّ بني عبد الأشهل، خلاف ما ذكره المطري من أن منازلهم بيثرب. مسجد الشيخين (البدائع) ومنها: مسجد الشيخين، ويقال له: «مسجد البدائع» . روى ابن شبة عن المطلب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي عند الشيخين، وبات فيه، وصلّى فيه الصبح يوم أحد، ثم غدا منه إلى أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وعن ابن عباس عن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي عند البدائع عند الشيخين، وبات فيه حتى أصبح، والشيخان: أطمان. وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد البدائع بشواء، فأكله، ثم بات حتى غدا إلى أحد. وروى ابن زبالة عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي عند الشيخين، وأنه عدل من ثمّ يوم أحد إلى أحد. ورواه يحيى من طريق ابن زبالة، قال ابنه طاهر بن يحيى عقبه: ويعرف اليوم بمسجد العدوة. وروى يحيى أيضا عن محمد بن طلحة قال: المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة حين راح أي إلى أحد من ها هنا هو المسجد الذي على يمينك إذا أردت قناة، أي وادي الشطاة، صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم العصر والعشاء والصبح، ثم غدا إلى أحد يوم السبت. وسيأتي في الشيخين قول المطري: إنه موضع بين المدينة وجبل أحد على الطريق الشرقية مع الحرّة إلى جبل أحد. وتقدم قول ابن زبالة: وكان لبعض من هناك من اليهود الأطمان اللذان يقال لهما الشيخان بمفضاهما المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى أحد. مسجد بني دينار ومنها: مسجد بني دينار بن النجار من الخزرج روى ابن شبة عن يحيى بن النضر الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني دينار، وعن عبد الله بن عقبة بن عبد الملك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيرا ما يصلّي في مسجد بني دينار عند الغسالين. وروى ابن زبالة عن أيوب بن صالح الديناري أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه تزوّج امرأة منهم فاشتكى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فكلّموه أن يصلي لهم في مكان يصلون فيه، فصلى في المسجد الذي يا بني دينار عند الغسالين. وتقدم في المنازل عن المطري أن دارهم بين دار بني جديلة التي عند بيرحاء وبين دار بني معاوية أهل مسجد الإجابة، وأن ابن زبالة صرح بخلافه، حيث قال: نزلوا دارهم التي خلف بطحان الذي في شقه الغربي مما يلي الحرة. قلت: ويؤيده ما سيأتي في الخندق، أنهم خندقوا من مسجد القبلتين إلى دار ابن أبي الجنوب بالحرة، وذلك لأن منازلهم في تلك الجهة، ولأن ابن زبالة قال: إن بني سواد من بني سلمة نزلوا عن مسجد القبلتين إلى أرض ابن عبيد الديناري، وسيأتي أن نقب بني دينار هو طريق العقيق بالحرة الغربية، وبه السقيا كما قال الواقدي، فإنما كانوا بالحرة الغربية، وقد سمى الأسدي مسجدهم بمسجد الغسالين؛ لما تقدم من أنه كان عند الغسالين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وفي غربي وادي بطحان بالحرة موضع يعرف اليوم بالمغسلة، قال المجد: كان يغسل فيها، قال: وهي اليوم حديقة كثيرة النخيل من أقرب الحدائق إلى المدينة، انتهى. فلعل ذلك في موضع منازلهم. وقد رأيت هناك حجرا عليه كتابة كوفية فيها ما لفظه: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعنده آثار يظهر أنها من آثار المسجد، وقد بنى صاحب المغسلة هناك مسجدّا في تلك الآثار، وجعل الحجر فيه. مسجد بني عدي، ومسجد دار النابغة ومنها: مسجد بني عدي بن النجار، ومسجد دار النابغة في بني عدي أيضا روى ابن شبة عن يحيى بن عمارة المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في دار النابغة، واغتسل في مسجد بني عدي. وعن يحيى بن النضر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد دار النابغة ومسجد بني عدي. وعن هشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني عدي وفي بيت صرمة في بني عدي. ورواه ابن زبالة عند بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد دار النابغة وفي مسجد بني عدي. وتقدم عن المطري أن منازل بني عدي غربي المسجد النبوي، ولم أر لغيره ما يوافقه ولا ما يخالفه، إلا أن النضر والد أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم. وسيأتي في بئره ما يبين أن داره كانت شامي المسجد النبوي عند بني جديلة. ودار النابغة: هي المرادة بما رواه ابن شبة عن أبي زيد النجاري قال: قبر عبد الله بن عبد المطلب يعني والد رسول الله صلى الله عليه وسلم في- دار النابغة قال عبد العزيز: ووصفه لي محمد بن عبد الله بن كريم فقال: تحت عتبة البيت الثاني على يسار من دخل دار النابغة. وقال ابن عبد البر: توفي عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقبره بها في دار من دور عدي بن النجار، قال ابن الجوزي: هي دار النابغة. مسجد بني مازن ومنها: مسجد بني مازن بن النجار- روى ابن زبالة عن يعقوب بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم خطّ مسجد بني مازن ولم يصل فيه. وفي رواية عنه: وضع مسجد بني مازن بيده، وصلّى في بيت أم بردة في بني مازن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 قلت: أم بردة هذه هي مرضعة إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي عندها، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاته في بيتها، وظاهر ما سيأتي في بقيع الزبير من قول ابن شبة في بعض دوره على يسارك إذا أردت بني مازن، وكذا ما قدمناه عنه في منازل مزينة ومن حل معها أن منازل بني مازن قرب منازل بني زريق مما يلي القبلة والمشرق؛ لأنه قال بعد ذكر منازل بني زريق ما لفظه: إلى أن يلقى بني مازن بن عدي بن النجار، لكن قوله ابن عدي خطأ في النسخة لأن مازنا هو ابن النجار نفسه، وعدي أخوه. وتقدم عن المطري أن منازل بني مازن قبلي بئر البصة في الناحية المسماة اليوم بأبي مازن، قال: وكان إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم مسترضعا فيها عند امرأة أبي سيف العين. مسجد بني عمرو ومنها: مسجد بني عمرو بن مبذول بن مالك بن النجار روى ابن زبالة وابن شبة عن هشام بن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني عمرو بن مبذول. وروى ابن شبة عن يحيى بن النضر نحوه، ولم يذكر المطري ومن تبعه هذا المسجد، ولم يعد بني مبذول في بطون بني النجار. وتقدم في المنازل أن منزلهم كان عند بقيع الزبير؛ فتؤخذ جهته من المسجد بعده. مسجد بقيع الزبير ومنها: مسجد بقيع الزبير روى ابن زبالة عن عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الضحى في بقيع الزبير ركعتين، فقال له أصحابه: إن هذه الصلاة ما كنت تصليها، قال: إنها صلاة رغب ورهب فلا تدعوها. وسيأتي في بقيع الزبير أنه في شرقي بني زريق، مجاور لدور بني غنم إلى جانب البقال. مسجد صدقة الزبير ومنها: مسجد صدقة الزبير ببني محمم- روى ابن زبالة عن هشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي وضعه الزبير في بني محمم. ورواه ابن شبة عنه بلفظ: في صدقة الزبير في بني محمم. قلت: وذلك بالجزع المعروف بالزبيريات، غربي مشربة أم إبراهيم، وقبلتها بقرب خنافة والأعواف، وهما من أموال بني محمم. وقال الشافعي رحمه الله: وصدقة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة عندنا، وصدقة الزبير قريب منها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 ونقل ابن شبة عن أبي غسان أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير ماله الذي يقال له بنو محمم من أموال بني النضير، فابتاع إليه الزبير أشياء من أموال بني محمم، فتصدق بها على ولده. وفي سنن أبي داود عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير نخلا. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه، فأجرى فرسه حتى قام، ثم رمى سوطه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطوه حيث بلغ السوط. وفي الصحيح قصة الرجل الذي نازع الزبير في السقي بشراج الحرة، وسنبين أنها حرة بني قريظة. وروى الطبراني أن ذلك الرجل من بني أمية بن زيد، ومنازلهم وأموالهم عند هذه الحرة. وفي حديث أسماء في قصة حملها النوى من أرض الزبير أنها كانت على ميلين من المدينة، وكله مؤيد لكونها الموضع المعروف اليوم بالزبيريات. ويؤيده أيضا أن كثيرا منها بأيدي جماعة من ذرية الزبير بن العوام يعرفون اليوم بالكماة. مسجد بني خدرة ومنها: مسجد بني خذرة إخوة بني خدارة من الخزرج روى ابن زبالة عن هشام بن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني خدرة. وعن يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في بعض منازل بني خدرة؛ فهو المسجد الصغير الذي في بني خدرة مقابل بيت الحية. وروى ابن شبة عن ربيع بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في بيت إلى جنب مسجد بني خدرة. وروى هو وابن زبالة عن ربيع بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في مسجد بني خدرة. وتقدم في المنازل أن بني خدرة ابتنوا بدارهم أطما يقال له الأجرد، ويقال لبئره البصة، كان لجد أبي سعيد الخدري، قال المطري: وبعضه باق إلى اليوم قلت: وهو الذي ابتنى عليه الزكوى بن صالح المنزل الذي عند بئر البصة التي اتخذ لها الدرجة الآتي ذكرها. وقوله في رواية ابن زبالة «مقابل بيت الحية» كأنه يشير إلى البيت الذي اتفقت به قصة الحية المذكورة في صحيح مسلم عن أبي السائب أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 ناحية البيت، فالتفتّ فإذا هي حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إليّ أن أجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى إلى هذا البيت؟ فقلت: نعم، قال: كان فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق؛ فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها الرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفرش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه فما يدري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى، قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحيه لنا، فقال: استغفروا لصاحبكم، ثم قال: إن بالمدينة جنّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فاذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان. مسجد بني الحارث ومنها: مسجد بني الحارث بن الخزرج، ومسجد السنح- روى ابن شبة عن هشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني خدارة وبالحبلى وبالحارث بن الخزرج ومسجد السنح، ورواه ابن زبالة بلفظ: مسجد بني الحارث بن الخزرج ومسجد السنح. قلت: تقدم أن منازل بني الحارث شرقي بطحان وتربة صعيب، ويعرف اليوم بالحارث بإسقاط بني، وبالقرب منه السنح، كان على ميل من المسجد النبوي، وهو منازل جشم وزيد ابني الحارث بن الخزرج، وبه منزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه بزوجته بنت خارجة. مسجد بني الحبلى ومنها: مسجد بني الحبلى رهط عبد الله بن أبيّ بن سلول من الخزرج- روى ابن زبالة وابن شبة عن هشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني الحبلى. ورواه ابن شبة أيضا عن سعد بن إسحاق بن كعب. وتقدم عن المطري أن دارهم بين قباء وبين دار بني الحارث التي في شرقي بطحان، مع ما قاله ابن حزم في منازلهم فراجعه. مسجد بني بياضة ومنها: مسجد بني بياضة من الخزرج روى ابن شبة ويحيى عن سعيد بن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني بياضة. وروى ابن زبالة عنه نحوه، وعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت أخرج أقود أبي بعد أن عمي إلى المسجد يوم الجمعة، قال: فيسمع الأذان بالطريق، فإذا سمعه قال: يرحم الله أسعد بن زرارة، كان أول من جّمع بنا بهذه القرية، ونحن يومئذ أربعون في هزمة من حرة بني بياضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 وتقدم في الفصل الثامن من الباب الثالث نحوه من رواية أبي داود. وروى ابن زبالة أيضا عن ربيعة بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الحرة في الرحابة. وتقدم في منازل بني بياضة أن الرحابة مزرعة في شاميها أطمهم المسمى بعقرب، وكانت لآل عاصم بن عطية بن عامر بن بياضة. وذكر ابن زبالة أطما آخر كان بين المزرعتين الرحابة والحيرة. وتقدم أيضا أن دار بني بياضة شامي دار بني سالم أهل مسجد الجمعة إلى وادي بطحان قبلي دار بني مازن بن النجار، ممتدة في تلك الحرة وبعضها في السبخة. وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن عبد الله بن سعد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقعت هذه الليلة رحمة؟ فيما بين بني سالم وبني بياضة، فقالت بنو سالم وبنو بياضة: أننتقل إليها؟ قال: لا، ولكن أقبروا فيها. مسجد بني خطمة ومنها: مسجد بني خطمة من الأوس، ومسجد العجوز. روى ابن زبالة عن الحارث بن الفضل وهشام بن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني خطمة. ورواه ابن شبة عن هشام وعبد الله بن الحارث، وروى أيضا عن مسلمة بن عيد الله الخطمي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد العجوز في بني خطمة عند القبر، ومسجد العجوز الذي عند قبر البراء بن معرور، وكان ممن شهد العقبة، فتوفي قبل الهجرة، وأوصى للنبي صلى الله عليه وسلم بثلث ماله، وأمر بقبره أن يستقبل به الكعبة. وروى ابن زبالة عن أفلح بن سعيد وغيره من أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد العجوز ببني خطمة، وهي امرأة من بني سليم ثم من بني ظفر بن الحارث. وسيأتي في الآبار عن عبد الله بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من ذرع بئر بني خطمة التي بفناء مسجدهم، وصلى في مسجدهم. وتقدم عن المطري أن الأظهر عنده أن منازلهم في شرقي مسجد الشمس بالعوالي، وأن الأظهر عندنا أنهم كانوا بقرب الماجشونية؛ لقول ابن شبة في سيل بطحان: إنه يصبّ في جفاف، ويمر فيه حتى يفضي إلى فضاء بني خطمة والأغرس، وقوله في مذينب: إنه يلتقي هو وسيل بني قريظة بالمشارف فضاء بني خطمة، وسيأتي أن ذلك عند تنور النورة الذي في شامي الماجشونية، وقد رأيت آثار القرية والآطام هناك. مسجد بني أمية الأوسي ومنها: مسجد بني أمية بن زيد من الأوس- روى ابن شبة عن عمر بن قتادة أن النبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد لهم في بني أمية من الأنصار، وكان في موضع الكبابين الخربتان عند مال نهيك، وعن محمد بن عبد الرحمن بن وائل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في تلك الخربة، وكان قريبا من مصلّى النبي صلى الله عليه وسلم هناك أجم، فانهدم، فسقط على المكان الذي فيه، فترك وطرح عليه التراب حتى صار كباء. وروى ابن زبالة عن سعيد بن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في بني أمية في موضع الكباء عند مال نهيك بن أبي نهيك. قال المطري: ودارهم شرقي دار بني الحارث بن الخزرج، وفيهم كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نازلا بامرأته الأنصارية حين كان يتناوب النزول إلى المدينة هو وجاره من الأنصار. قلت: الذي يتحرر مما سبق في المنازل أنهم كانوا قرب النواعم وبئر العهن، وهي من أموالهم كما سنبينه في الآبار، ويمر سيل مذينب من بيوتهم ثم يسقي الأموال. وبالحرة الشرقية قريبا من الموضع المذكور آثار قرية يمر بها سيل مذينب الظاهر أنها قريتهم. ويشهد لذلك أن ابن إسحاق ذكر في مقتل كعب بن الأشرف- وكان في بني النضير- أن محمد بن مسلمة ومن معه انتهوا إلى حصنه في ليلة مقمرة فهتف به أبو نائلة، ثم ذكر قتله، وأن محمد بن مسلمة قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض. مسجد بني وائل الأوسي ومنها: مسجد بني وائل من الأوس- روى ابن زبالة عن الحارث بن الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني وائل. وروى ابن شبة عن سلمة بن عبد الله الخطمي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في بيت القعدة عند مسجد بني وائل، وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني وائل بين العمودين المقدمين خلف الإمام بخمسة أذرع أو نحوها، قال: وضربنا ثمّ وتدا. قال المطري: والظاهر أن منازلهم كانت في شرق مسجد الشمس. قلت: الظاهر أنها بقباء، وأن هذا المسجد هو المراد بقول ابن النجار: إن بالمدينة عدة مساجد خراب فيها المحاريب وبقايا الأساطين وتنقض وتؤخذ حجارتها فيعمر بها الدور: أحدها مسجد بقباء قريب من مسجد الضّرار فيه أسطوان قائمة، انتهى؛ فكأنه فيما بين زمان المطري وزمانه نقضت بقيته بحيث لم يدرك له المطري أثرا. مسجد بني واقف ومنها: مسجد بني واقف من الأوس- روى ابن زبالة عن الحارث بن الفضل أن النبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد بني واقف. قال المطري وتبعه من بعده حتى المجد: مسجد بني واقف موضع بالعوالي، كانت فيه منازل بني واقف من الأوس رهط هلال بن أمية الواقفي أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في تخلفهم عن غزوة تبوك، ولا يعرف مكان دارهم اليوم، إلا أنها بالعوالي. قلت: لا دار أعرف من دارهم؛ لما تقدم في المنازل من أنهم نزلوا عند مسجد الفضيخ، وابتنوا أطما كان موضعه في قبلة مسجد الفضيخ، وهذا من فوائد الاعتناء بذكر المنازل، والمطري لم يعتن بها، لكن العجب من المجد فإنه ذكر ما قدمناه في المنازل، ثم قلد المطري عند ذكر المساجد. مسجد بني أنيف ومنها: مسجد بني أنيف، تصغير أنف حي من بلى، ويقال: إنهم بقية من العماليق كما تقدم في منازل اليهود، وبينا في منازل بني عمرو بن عوف من الأوس أنهم كانوا حلفاء لهم. وروى ابن زبالة عن عاصم بن سويد عن أبيه قال: سمعت مشيخة بني أنيف يقولون: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان يعود طلحة بن البراء قريبا من أطمهم، قال عاصم: قال أبي: فأدركتهم يرشّون ذلك المكان ويتعاهدونه ثم بنوه بعده؛ فهو مسجد بني أنيف بقباء. قلت: طلحة بن البراء منهم. وقال المتكلمون في أسماء الصحابة: إنه من بلىّ وكان حليفا للأوس، وذلك هو السبب كما قدمناه فيما وقع للمطري ومن تبعه من أن بني أنيف بطن من الأوس، قال: ودارهم بين بني عمرو بن عوف بقباء وبين العصبة. قلت: المعتمد ما قدمناه، ودارهم بقباء عند المال المعروف اليوم بالقائم في جهة قبلة مسجد قباء من جهة المغرب، وعند بئر عذق كما سبق. مسجد دار سعد بن خيثمة ومنها: مسجد دار سعد بن خيثمة بقباء ذكر ابن زبالة فيما نقله المطري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي في دار سعد بن خيثمة رضي الله تعالى عنه بقباء، وجلس فيه، قال المطري: وبيت سعد بن خيثمة أحد الدور التي قبلي مسجد قباء، يدخلها الناس إذا زاروا مسجد قباء ويصلون فيها. وهناك أيضا دار كلثوم بن الهدم، وفي تلك العرصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلا قبل خروجه إلى المدينة، وكذلك أهله صلى الله عليه وسلم وأهل أبي بكر رضي الله تعالى عنه حين قدم بهم علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وهن: سودة، وعائشة وأمّها، وأختها أسماء، وهي حامل بعبد الله بن الزبير، فولدته بقباء قبل نزولهم المدينة، فكان أول مولود ولد من المهاجرين بالمدينة، انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 قلت: وفي قوله «إن عليا قدم ومعه من ذكر» نظر؛ فقد قدمنا أن عليا رضي الله تعالى عنه لحق النبي صلى الله عليه وسلم بقباء، وأنه صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة بعد ذلك فقدما عليه بأهله، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر. وحديث أسماء في ولادتها عبد الله بن الزبير متفق عليه. وفيه أنه كان أول مولود ولد في الإسلام، ففرحوا به؛ لأنه كان قد قيل لهم: إن اليهود سحرتكم فلا يولد لكم. وفيه دلالة على تأخر ولادته عن مقدم النبي صلى الله عليه وسلم بمدة. وقال الذهبي تبعا للواقدي: إن ولد في سنة اثنتين، وقال الحافظ ابن حجر: المعتمد أنه ولد في السنة الأولى؛ للحديث المتفق عليه، وسبق في سني الهجرة عن أبي حاتم ما يوافقه. وتقدم في ذكر مسجد قباء أن دار سعد بن خيثمة هي التي تلي المسجد في قبلته. مسجد التوبة ومنها: مسجد التوبة بالعصبة منازل بني جحجبا من بني عمرو بن عوف من الأوس- روى ابن زبالة عن أفلح بن سعد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد التوبة بالعصبة ببئر هجيم، قال المطري: وليست بمعروفة اليوم، يعني البئر. والعصبة: في غربي مسجد قباء فيها مزارع وآبار كثيرة. قلت: يستفاد مما ذكرناه في المنازل من أنهم ابتنوا أطما يقال له الهجيم عند المسجد الذي صلّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن بئر هجيم مضافة للأطم المذكور؛ فيطلب المسجد عند ذلك، وما علمت السبب في تسميته بمسجد التوبة. مسجد النور ومنها: مسجد النور- قال ابن زبالة: حدثنا محمد بن فضالة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في موضع مسجد النور. قال المطري: ولا يعلم اليوم مكانه. قلت: وما علمت سبب تسميته بذلك، ورأيت الأسدي في منسكه ذكر في المساجد التي تزار في ناحية مسجد قباء مسجد النور، ثم ذكر في المساجد التي تزار بناحية المدينة وما حولها مسجد النور أيضا، ولعل هذا المسجد هو الموضع الذي انتهى إليه أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وهما من بني عبد الأشهل، وكانا عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء، فتحدثا عنده حتى إذا خرجا أضاءت لهما عصا أحدهما، فمشيا على ضوئها، فلما تفرق بهما الطريق أضاءت لكل واحد منهما عصاه فمشى في ضوئها، كما أخرجه البخاري؛ فيكون المسجد المذكور بدار بني عبد الأشهل. وروى أحمد برجال الصحيح حديث قتادة بن النعمان الظفري في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم له العرجون في ليلة مظلمة فأضاء له من بين يديه عشرا ومن خلفه عشرا- الحديث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وروى أبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله تعالى عنه سهرا عند أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يتحدثان عنده، حتى ذهب ثلث الليل، ثم خرجا وخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه معهما في ليلة مظلمة ومع أحدهما عصا، فجعلت تضئ لهما وعليها نور حتى بلغوا المنزل. مسجد عتبان بن مالك ومنها: مسجد عتبان بن مالك بأصل أطمه المسمى بالمزدلف بدار بني سالم بن الخزرج روى ابن زبالة عن إبراهيم بن عبد الله بن سعد أن عتبان بن مالك قال: يا رسول الله إن السيل يحول بيني وبين الصلاة في مسجد قومي، قال: فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فهو المسجد الذي بأصل المزدلف. ورواه يحيى وقال: فهو المسجد الذي بأصل المزدلف أطم مالك بن العجلان. قلت: تقدّم في مسجد الجمعة أن المزدلف هو الأطم الخراب الذي في شامي مسجد الجمعة، عند عدوة الوادي الشرقية، وأن صلاته صلى الله عليه وسلم بدار عتبان في الصحيح، وأن الظاهر أن مسجد قومه الذي يحول السيل بينه وبينهم هو مسجدهم الأكبر الذي كان بمنازلهم بالحرة في عدوة الوادي الغربية. وروى ابن شبة عن عتبان بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في بيته سبحة الضحى، فقاموا وراءه فصلوا. وعن سعد بن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في مسجد بني سالم الأكبر. وروى ابن زبالة نحوه عن كعب بن عجرة. مسجد ميثب (صدقة النبي صلى الله عليه وسلم) ومنها: مسجد ميثب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم- روى ابن زبالة وابن شبة ويحيى عن محمد بن عقبة بن أبي مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد صدقته ميثب، وسيأتي في الصدقات أن الميثب مجاور لبرقة وغيره من الصدقات الآتية. مسجد المنارتين ومنها: مسجد المنارتين روى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن حرام بن سعد بن محيصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد الذي بأصل المنارتين في طريق العقيق الكبير، قال المطري: وهذا المسجد لا يعرف، وهو يلي طريق العقيق كما ذكر. قلت: روى ابن زبالة عن عبد الله بن البولا أن أربعة رهط من المهاجرين الأولين كلهم يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «خرج إلى الجبل الأحمر الذي بين المنارتين، فإذا بشاة ميتة قد أنتنت، فأمسكوا على أنفهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترون كرامة هذه الشاة على صاحبها؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 فقالوا: يا رسول الله ما تكرم هذه على أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للدّنيا أهون على الله من هذه على صاحبها» . وعن إبراهيم بن محمد عن أبيه أن اسم الجبل الأنعام، وهو الجبل الذي بنى عليه المزني وجابر بن علي الزمعي ثم أورد قول الشاعر: لمن الديار غشيتها بالأنعام البيت الآتي في الأنعام. قلت: وهو الجبل الأحمر الذي على يسارك إذا مررت من أوائل الرقيقين قاصدا العقيق؛ لانطباق الوصف عليه، ولأني خرجت إليه وصعدته فرأيت عليه أساس البناء الذي أشار إليه، وظهر بذلك أن المنارتين بقربه عند الرقيقين؛ فهناك موضع هذا المسجد. مسجد فيفاء الخبار ومنها: مسجد فيفاء الخبار قال ابن إسحاق في غزوة العشيرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلك على نقب بني دينار من بني النجار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها «ذات الساق» فصلّى عندها فثمّ مسجد، وصنع له طعام عندها، فأكل منه وأكل الناس معه، فموضع آثاره في البرمة معلوم هناك، واستسقى له من ماء يقال له المشيرب، انتهى. والمشيرب: تصغير مشرب ما بين جبال في شامي ذات الجيش. قال المطري: وفيفاء الخبار غربي الجماوات، وهي أي الجماوات الأجبل التي في غربي وادي العقيق، وتوهم المجد أن الضمير في قوله «وهي» لفيفاء الخبار فقال فيه: الصحيح أنه الأجبل التي في غربي وادي العقيق، انتهى. وسيأتي في رابع فصول الباب السابع عن الهجري أن جمّاء أم خالد في مهبّ الشمال من جماء تضارع، وأن فيفاء الخبار من جماء أم خالد. ونقل ابن سعد عن ابن عقبة أن فيفاء الخبار من وراء الجماء، والخبار بفتح المعجمة والموحدة كسحاب- ما لان من الأرض واسترخى، والأرض ذات الجحرة والحفائر. والفيفاء بفائين بينهما مثناة تحتية- هي الصخرة الملساء. قال المطري: وبهذا الموضع كانت ترعى إبل الصدقة ولقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر قصة العرنيين التي قدمناها في محلها. وينبغي لمن تيسر له الوصول إلى هذه الجهة أن يتبرك بالجماوات؛ لما سيأتي فيها، وكذلك جبل عظم لما سيأتي فيه أيضا. مسجد بين الجثجاثة وبئر شداد ومنها: مسجد بين الجثجاثة وبئر شداد، بطرف وادي العقيق مما يلي البقيع؛ لأن ابن زبالة روى في سياق ذلك عن عمر بن القاسم وعبد الملك بن عمر قال: صلّى رسول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 صلى الله عليه وسلم في مسجد بين الجثجاثة وبين بئر شداد في تلعة هناك، قال: وكان عبد الله بن سعد بن ثابت قد اقتطع قريبا منه وبناه. وقال الهجري: الجثجاثة صدقة عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير، وبها قصور وميدا، واقتضى كلامه أنها بين ثنية الشريد والحليفة. وهذا آخر ما وقفنا عليه في مساجد المدينة التي لا تعلم بعينها في زماننا، وعدتها نحو الأربعين. الدور التي صلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم تتمة- تقدم ذكر بعض الدور التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، أو جلس ولم يتخذ محل لها، ولنذكر ما وقفنا عليه من بقيتها تتميما للفائدة: روى يحيى عن محمد بن طلحة بن طويل قال: سمعت غير واحد ممن أدركت يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء مربده، وهو مربد الحكم بن أبي العاص، فكان إذا خرج منه وقف عند بابه، ودعا. دار الشفاء قال محمد بن طلحة: وأخبرني محمد بن جعفر عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في دار الشفاء في البيت الذي على يمين من دخل الدار. دار الضمري قال محمد: وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار عمرو بن أمية الضمري عن يمين من دخل الدار. دار بسرة قال محمد: وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بسرة بنت صفوان. قلت: أما دار عمرو بن أمية الضمري فتقدم ما يبين جهتها في ذكر دار السوق وغيرها. وأما دار الشفاء فقال ابن شبة في دور بني عدي بن كعب: واتخذت الشفاء بنت عبد الله دارها التي في الحكاكين الشارعة في الخط، فخرجت طائفة من أيدي ولدها فصارت للفضل، وبقيت بأيديهم منها طائفة، انتهى. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي الشفاء هذه ويقيل عندها، وسبق في مصلى الأعياد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى العيد عند دار الشفاء؛ فالظاهر أنها كانت قرب سوق المدينة والمصلى. ودار بسرة لم أعرفها، وكذا المربد المذكور. وتقدم في ذكر البلاط ما جاء في دار بنت الحارث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وأخرج أبو داود والنسائي واللفظ له عن عبد الرحمن بن طارق عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جاز مكانا من دار يعلي استقبل القبلة ودعا، ولم أعرف جهة دار يعلي. دار أم سليم وفي صحيح البخاري عن ثمامة عن أنس أن أمّ سليم كانت تبسط لنبي الله صلى الله عليه وسلم نطعا فيقيل عندها على ذلك النّطع، قال فإذا قام صلى الله عليه وسلم أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سك، وقال: فلما حضرت أنس بن مالك الوفاة أوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك السك، قال: فجعل في حنوطه. وفيه أيضا حديث أنس في تكثير الطعام، ولفظه: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخرجت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي، ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدته في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم، فقال لمن معه: قوموا، فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئنا إلى أبي طلحة، فأخبرته، قال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا من نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي يا أم سليم ما عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتّ وعصرت أم سليم عكّة فأدمته، ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ائذن لعشرة، الحديث، وفي آخره: فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا. قلت: وأم سليم والدة أنس وزوجة أبي طلحة، فذلك إما في دار أنس وإما في دار أبي طلحة، وكلاهما بجهة بني جديلة. دار أم حرام وفي الصحيح من حديث أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل يوما فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ يضحك، الحديث. قلت: أم حرام هي خالة أنس أخت أم سليم المتقدم ذكرها، وزوجها عبادة بن الصامت، كان ببني سالم؛ لأنه من بني نوفل إخوة بني سالم، ويدل لذلك قوله «إذا ذهب إلى قباء» فإن بني سالم بطريق قباء، فيندفع ما توهمه بعضهم من أن دار أم سليم وأم حرام واحدة لكونهما أختين، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الفصل الخامس: خروج النبي ص ليلا إلى البقيع في فضل مقابرها، وإتيان النبي صلى الله عليه وسلم البقيع، وسلامه على أهله واستغفاره لهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلا إلى البقيع. روينا في صحيح مسلم والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما كان ليلتي التي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها عندي انفلت فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، فأخذ إزاره رويدا، وانتعل رويدا، وفتح الباب، فخرج، ثم أجافه رويدا، وجعلت درعي في رأسي، واختمرت، وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع فأقام، فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرته، فسبقته، فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: مالك يا عائش حشيا رابية، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأخبرته، قال: فأنت السّواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني، ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: نعم، قال: فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشيني، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قال: قلت كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين والمستأخرين. وفي رواية له أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد. وخرجه في الموطأ بلفظ: قالت عائشة: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فلبس ثيابه، ثم خرج، فأمرت جاريتي بريرة تتبعه، فتبعته حتى جاء البقيع، فوقف في أدناه ما شاء الله أن يقف، ثم انصرف فسبقته، فأخبرتني، فلم أذكر شيئا حتى أصبح، ثم ذكرت له، فقال: إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم. وفي رواية للنسائي: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا وإياكم متواعدون غدا ومواكلون. وفي رواية لابن شبة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي، فظننت أنه خرج إلى بعض نسائه، فتبعته، حتى جاء البقيع، فسلم ودعا ثم انصرف، فسألته: أين كنت؟ فقال: إني أمرت أن آتي أهل البقيع فأدعو لهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 وفي رواية له أنه قال في دعائه: اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنّا بعدهم. وفي رواية للبيهقي قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع عنه ثوبيه، ثم لم يستتم أن قام فلبسهما، فأخذتني غيرة شديدة ظننت أنه يأتي بعض صويحباتي، فخرجت أتبعه، فأدركته بالبقيع بقيع الغرقد يستغفر للمؤمنين والمؤمنات والشهداء، الحديث، وفيه بيان أن ذلك كان في ليلة النصف من شعبان وفي جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقبور أهل المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، ويغفر الله لنا ولكم، وأنتم لنا سلف ونحن بالأثر. وروى ابن شبة عن أبي موهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهبّني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل، فقال: إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى، ثم استغفر لهم طويلا. وفي رواية: ثم استغفر لهم، ثم قال: يا أبا موهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، فخيرات بين ذلك وبين لقاء ربي ثم الجنة، قلت: بأبي وأمي خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: لا والله يا أبا موهبة، لقد اخترت لقاء ربي ثم الجنة، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدئ به وجعه الذي قبض فيه. وعن عطاء بن يسار قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم البقيع فقال: السلام عليكم قوم موجلون، أتانا وأتاكم ما توعدون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد. وعن الحسن قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بقيع الغرقد فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، ثلاثا، لو تعلمون ما الذي نجاكم الله منه مما هو كائن بعدكم، قال: ثم التفت فقال: هؤلاء خير منكم، قالوا: يا رسول الله إنما هم إخواننا آمنّا كما آمنوا، وأنفقنا كما أنفقوا، وجاهدنا كما جاهدوا، وأتوا على أجلهم ونحن ننتظر، فقال: إن هؤلاء قد مضوا لم يأكلوا من أجورهم شيئا، وقد أكلتم من أجوركم، ولا أدري كيف تصنعون بعدي. وروى ابن زبالة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، قالوا: يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غرّ محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرّا محجّلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، وليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأناديهم: ألا هلم، ألا هلم، ألا هلمّ، فيقال: إنهم قد بدّلوا، فأقول: فسحقا، فسحقا، فسحقا. من فضل البقيع وروى الطبراني في الكبير ومحمد بن سنجر في مسنده وابن شبة في أخبار المدينة من طريق نافع مولى حمنة عن أم قيس بنت محصن، وهي أخت عكّاشة، أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، فقال: يحشر من هذه المقبرة سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، وكأن وجوههم القمر ليلة البدر، فقام رجل فقال: يا رسول الله وأنا، فقال: وأنت، فقام آخر فقال: يا رسول الله وأنا، قال: سبقك بها عكّاشة، قال: قلت لها: لم لم يقل للآخر؟ فقالت: أراه كان منافقا. وذكر الهيثمي تخريج الطبراني له وقال: في إسناده من لم أعرفه. وذكره الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، وسكت عليه. ودخول سبعين ألفا الجنة بغير حساب من هذه الأمة من غير تقييد بالبقيع موجود في الصحيح، بل جاء أزيد منه. فروى أحمد والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا: سألت ربي عز وجل، فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي، وذكر نحو رواية الصحيح، وزاد: فاستزدت ربي، فزادني مع كل ألف سبعين ألفا، قال الحافظ ابن حجر: وسنده جيد، قال: وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني، وعن حذيفة عند أحمد، وعن أنس عند البزار، وعن ثوبان عند أبي عاصم، قال: فهذه طرق يقوي بعضها بعضا في الزيادة المذكورة. قال: وجاء في أحاديث أخرى أكثر من ذلك أيضا، فأخرج الترمذي وحسّنه والطبراني وابن حبان في صحيحه عن أبي أمامة رفعه: وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعين ألفا، لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي. وفي صحيح ابن حبان والطبراني بسند جيد نحوه. ثم ذكر الحافظ ابن حجر ما يقتضي زيادة على ذلك أيضا، وأن مع كل واحد سبعين ألفا؛ فيتأيد بذلك رواية اختصاص البقيع بسبعين ألفا لا حساب عليهم؛ فالكرم عميم، والجاه عظيم. وروى ابن شبة عن ابن المنكدر رفعه مرسلا: يحشر من البقيع سبعين ألفا على صورة القمر ليلة البدر، كانوا لا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. قال: وكان أبي يخبرنا أن مصعب بن الزبير دخل المدينة من طريق البقيع ومعه ابن رأس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 الجالوت، فسمعه مصعب وهو خلفه حين رأى المقبرة يقول: هي هي، فدعاه مصعب فقال: ماذا تقول؟ فقال: نجد هذه المقبرة في التوراة بين حرّتين محفوفة بالنخل اسمها كفتة، يبعث الله منها سبعين ألفا على صورة القمر. وسيأتي من رواية ابن زبالة عن المقبري نحوه. وروى ابن زبالة عن جابر مرفوعا: يبعث من هذه المقبرة- واسمها كفتة- مائة ألف كلهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتداوون، وعلى ربهم يتوكلون. وعن المطلب بن حنطب رفعه مرسلا: يحشر من مقبرة المدينة- يعني البقيع- سبعون ألفا لا حساب عليهم، تضئ وجوههم غمدان اليمن. وجاء ما يقتضي أن هذا العدد يبعث من مقبرة بني سلمة، وهي عند منزل بني حرام منهم، فروى ابن شبة عن أبي سعيد المقبري أن كعب الأحبار قال: نجد مكتوبا في الكتاب أن مقبرة بغربي المدينة على حافة سيل يحشر منها سبعون ألفا ليس عليهم حساب. وقال أبو سعيد المقبري لابنه سعيد: إن أنا هلكت فادفنّي في مقبرة بني سلمة التي سمعت من كعب، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مقبرة بغربي المدينة يعترضها السيل يسارا يبعث منها كذا وكذا لا حساب عليهم، قال عبد العزيز بن مبشر: لا أحفظ العدد. وعن عقبة بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، وعن ابن أبي عتيق وغيرهما من مشيخة بني حرام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مقبرة ما بين سيلين غربية يضئ نورها يوم القيامة ما بين السماء إلى الأرض. وروى ابن زبالة عن سهل عن أبيه عن جده قال: دفن قتلى من قتلى أحد في مقبرة بني سلمة. وعن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة قال: أصيب أبو عمرة بن سكن يوم أحد، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقل، فكان أول من دفن في مقبرة بني حرام. وفي الكبير للطبراني- وفيه يعقوب بن محمد الزهري فيه كلام كثير، وقد وثق- عن سعد بن خيثمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت كأن رحمة وقعت بين بني سالم وبني بياضة، قالوا: يا رسول الله أفننتقل إلى موضعها، قال: لا، ولكن اقبروا فيها، فقبروا فيها موتاهم. قلت: وهذه المقبرة لا تعرف اليوم، وكذا مقبرة بني سلمة، لكن تعرف جهتهما مما تقدم في المنازل. وتقدم في الحث على الموت بالمدينة حديث «ما على الأرض بقعة أحبّ إلى من أن يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 قبري بها منها» يعني المدينة، يرجّعها ثلاث مرات، وحديث «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها» . وفي رواية «فإني أشهد لمن يموت بها» . وفي أخرى «فإنه من مات بها كنت له شهيدا، أو شفيعا، يوم القيامة» . ورواه رزين بنحوه، وزاد «وإني أول من تنشقّ عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي البقيع فيحشرون، ثم انتظر أهل مكة فأحشر بين الحرمين» . وفي رواية لابن النجار «فأخرج أنا وأبو بكر وعمر إلى البقيع فيبعثون، ثم يبعث أهل مكة. وروى ابن شبة وابن زبالة عن ابن كعب القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من دفن في مقبرتنا هذه شفعنا له، أو شهدنا له» وسيأتي في الفصل الأول من الباب الثامن قوله صلى الله عليه وسلم «ومن مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة» . وروى ابن زبالة عن أبي عبد الملك يرفعه قال: «مقبرتان يضيان لأهل السماء كما تضئ الشمس والقمر لأهل الدنيا، مقبرتنا بالبقيع بقيع المدينة، ومقبرة بعسقلان» . وعن كعب الأحبار قال: نجدها في التوراة كفتة محفوفة بالنخيل وموكل بها الملائكة، كلما امتلأت أخذوا بأطرافها فكفؤوها في الجنة. قال ابن النجار: يعني البقيع. وعن المقبري قال: قدم مصعب بن الزبير حاجا أو معتمرا ومعه ابن رأس الجالوت فدخل المدينة من نحو البقيع، فلما مر بالمقبرة قال ابن رأس الجالوت: إنها لهي، قال مصعب: وما هي؟ قال: إنا نجد في كتاب الله صفة مقبرة في شرقيها نخل وفي غربيها بيوت يبعث منها سبعون ألفا كلهم على صورة القمر ليلة البدر، فطفت مقابر الأرض فلم أر تلك الصفة حتى رأيت هذه المقبرة. وعن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: أقبل ابن رأس الجالوت فلما أشرف على البقيع قال: هذه التي نجدها في كتاب الله كفتة، لا أطؤها، قال: فانصرف عنها إجلالا لها. وفي كتاب الحرة للواقدي عن عثمان بن صفوان قال: لما حجّ مصعب بن الزبير ومعه ابن رأس الجالوت فانتهى إلى حرّة بني عبد الأشهل وقف ثم قال: بهذه الحرة مقبرة؟ فقالوا: نعم، فقال: هل من وراء المقبرة حرة أخرى سوى هذه الحرة؟ قالوا: نعم، قال: إنا نجد في كتاب الله أنها تسمى كفتة. قال الواقدي: يعني تسرع البلى- وكفيتة، يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفا كلهم وجوههم على صورة البدر ليلة أربع عشرة من الشهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 وروى ابن زبالة عن خالد بن عوسجة: كنت أدعو ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي باب الدار، فمر بي جعفر بن محمد يريد العريض معه أهله، فقال لي: أعن أثر وقفت هاهنا؟ قلت: لا، قال: هذا موقف نبي الله صلى الله عليه وسلم بالليل إذا جاء يستغفر لأهل البقيع. قلت: وسيأتي أن من دار عقيل الموضع المعروف بمشهده، وأن به قبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر على ما ذكره ابن النجار. وقال عقب إيراد هذا الخبر: ودار عقيل الموضع الذي دفن فيه، قال الزين المراغي: فينبغي الدعاء فيه. قال: وقد أخبرني غير واحد أن الدعاء عند ذلك القبر مستجاب، ولعل هذا سببه. أو لأن عبد الله بن جعفر كان كثير الجود فأبقى الله قضاء الحوائج عند قبره. ومن غريب ما اتفق ما أخبرني به من أثق بدينه أنه دعا في هذا المكان، وتذاكر مع رفيق له ذلك، فرأى ورقة على الأرض مكتوبة، فأخذها تفاؤلا لذلك، فإذا فيها وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] من جهتيها، انتهى. قلت: ولم أقف في كلام المتقدمين على أصل في دفن عبد الله بن جعفر هناك، بل اختلف في أنه دفن بالمدينة أو بالأبواء، والمعتمد في سبب الاستجابة هناك ما ذكر أولا، ولهذا يستحبّ الدعاء في جميع الأماكن التي دعا بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكلها مواطن إجابة. الفصل السادس في تعيين قبور بعض من دفن بالبقيع من الصحابة وأهل البيت، والمشاهد المعروفة بالمدينة. قبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان قبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونه عند قبر عثمان بن مظعون ، وجاء فيهما، ومن دفن عندهما. روى ابن شبة بإسناد جيد عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: مات إبراهيم- يعني ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ستة عشر شهرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادفنوه في البقيع، فإن له مرضعة في الجنة تتم رضاعه. وعن مكحول قال: توفي إبراهيم عليه السلام، فلما وضع في اللحد ورصف عليه اللبن بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرجة من اللبن، فأخذ بيده مدرة فناولها رجلا فقال: ضعها في تلك الفرجة، ثم قال: أما إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر بعين الحي. وعن محمد بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رشّ على قبر ابنه إبراهيم، وأنه أول من رش عليه، قال: ولا أعلم إلا أنه قال: وحثا عليه بيده من التراب، وقال حين فرغ من دفنه عند رأسه: السلام عليكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وروى الشافعي عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رشّ قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه الحصى. وروى أبو داود في المراسيل والبيهقي ورجاله ثقات مع إرساله نحوه عن محمد بن عمر بن علي، وزاد أنه أول قبر رش عليه، وقال بعد فراغه: سلام عليكم، ولا أعلمه إلا قال: حثا عليه بيده. وروى ابن زبالة عن قدامة بن موسى أن أول من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع عثمان بن مظعون، فلما توفي ابنه إبراهيم قالوا: يا رسول الله أين نحفر له؟ قال: عند فرطنا عثمان بن مظعون. وروى أبو غسان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: لما توفي إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يدفن عند عثمان بن مظعون، فرغب الناس في البقيع، وقطعوا الشجر، فاختارت كل قبيلة ناحية، فمن هنالك عرفت كل قبيلة مقابرها. وروى ابن شبة عن قدامة بن موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ادفنوا عثمان بن مظعون بالبقيع يكون لنا سلفا، فنعم السلف سلفنا عثمان بن مظعون» . وعنه أيضا: كان البقيع غرقدا، فلما هلك عثمان بن مظعون دفن بالبقيع، وقطع الغرقد عنه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للموضع الذي دفن فيه عثمان: هذه الرّوحاء، وذلك كل ما حازت الطريق من دار محمد بن زيد إلى زاوية دار عقيل اليمانية، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه الروحاء، للناحية الآخرى، فذلك كل ما حازت الطريق من دار محمد بن زيد إلى أقصى البقيع يومئذ. قلت: قد تلخص لنا أن دار عقيل كان بالمشهد المعروف به، ودار محمد بن زيد في شرقيها وشرقي مشهد سيدنا إبراهيم؛ فالروحاء الأولى ما بين المشهدين وتمتد إلى شرقي مشهد سيدنا إبراهيم، والثانية في شرقي الأولى إلى أقصى البقيع، والأولى هي المرادة بما سيأتي في قبر أسعد بن زرارة من قول أبي غسان، والروحاء: المقبرة التي وسط البقيع يحيط بها طرق مطرقة وسط البقيع، وكأنها اشتهرت بذلك دون ثانية لاقتصاره على الأولى. وروى ابن زبالة عن عبيد الله بن أبي رافع قال: بلغني أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات قالوا: يا رسول الله، أين ندفن إبراهيم؟ قال: عند فرطنا عثمان بن مظعون، ودفن عثمان بن مظعون عند كتاب بني عمرو بن عثمان. وروى ابن شبة عن محمد بن عبد الله بن سعيد بن جبير قال: دفن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزوراء موضع السقاية التي على يسار من سلك البقيع مصعدا إلى جنب دار محمد بن زيد بن عليّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وعن سعيد بن جبير قال: رأيت قبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في الزوراء؛ فيستفاد منه تسمية ذلك الموضع بالزوراء أيضا. وروى ابن زبالة عن سعيد بن محمد بن جبير أنه رأى قبر إبراهيم عند الزوراء. قال عبد العزيز بن محمد: وهي الدار التي صارت لمحمد بن زيد بن علي. وعن جعفر بن محمد أن قبر إبراهيم وجاه دار سعيد بن عثمان التي يقال لها الزوراء بالبقيع، فهدمت مرتفعا عن الطريق. وعن قدامة قال: دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم ابنه إلى جنب عثمان بن مظعون، وقبره حذاء زاوية دار عقيل بن أبي طالب من ناحية دار محمد بن زيد. قبر عثمان بن مظعون وروى ابن شبة عن سعد بن جبير بن مطعم قال: رأيت قبر عثمان بن مظعون عند دار محمد بن علي بن الحنفية. وعن محمد بن قدامة عن أبيه عن جده قال: لما دفن النبيّ صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون أمر بحجر فوضع عند رأسه، قال قدامة: فلما صفق البقيع وجدنا ذلك الحجر، فعرفنا أنه قبر عثمان بن مظعون. قال عبد العزيز بن عمران: وسمعت بعض الناس يقول: كان عند رأس عثمان بن مظعون ورجليه حجران. وعن شيخ من بني محزوم يدعى عمر قال: كان عثمان بن مظعون أول من مات من المهاجرين، فقالوا: يا رسول الله أين ندفنه؟ قال: بالبقيع، قال: فلحد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل حجر من حجارة لحده، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه عند رجليه، فلما ولي مروان بن الحكم المدينة مرّ على ذلك الحجر فأمر به فرمى به، وقال: والله لا يكون على قبر عثمان بن مظعون حجر يعرف به، فأتته بنو أمية فقالوا: بئس ما صنعت، عمدت إلى حجر وضعه النيس صلى الله عليه وسلم فرميت به، بئس ما عملت، فمر به فليرد، فقال: أما والله إذ رميت به فلا يرد. وسيأتي في قبر عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه من رواية ابن زبالة أن مروان جعل ذلك الحجر على قبر عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. وروى أبو داود بإسناد حسن عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، ولم يسم الصحابي الذي حدثه، قال: لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدفن، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بحجر فلم يستطع حمله، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسر عن ذراعيه- قال المطلب: قال الذي يخبرني: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حسر عنهما- ثم حمله فوضعه عند رأسه، وقال: أتعلم به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 ورواه ابن شبة وابن ماجه وابن عدي عن أنس والحاكم عن أبي رافع. وروى ابن زبالة عن عائشة بنت قدامة قالت: كان القائم يقوم عند قبر عثمان بن مظعون فيرى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ليس دونه حجاب. قبر رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم روى الطبراني برجال ثقات، وفي بعضهم خلاف، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حديث قال فيه: فلما ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون. ورواه ابن شبة، ولفظه: لما ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون، قال: وبكى النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال: دعهن يا عمر، وإياكن ونعيق الشيطان فإنه مهما يكن من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، ومهما يكن من اللسان ومن اليد فمن الشيطان، قال: فبكت فاطمة رضي الله تعالى عنها على شفير القبر، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح الدموع عن عينها بطرف ثوبه. قال ابن شبة عقبه: وروى خلافه، أي من حيث حضوره صلى الله عليه وسلم لذلك، ثم روى عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلّف عثمان بن عفان وأسامة بن زيد على رقية وهي وجعة أيام بدر. وعن الزهري أن يزيد بن حارثة جاء بشيرا بوقعة بدر، وعثمان قائم على قبر رقية يدفنها. قلت: هذا هو المشهور، والثابت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم حضر دفن ابنته أم كلثوم زوجة عثمان رضي الله تعالى عنه، فلعل الخبر الأول فيها، أو في زينب أختها، فإنها توفيت سنة ثمان بالمدينة، والظاهر أنهن جميعا عند عثمان بن مظعون؛ لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «وأدفن إليه من مات من أهلي» ويحتمل أن بعضهن هي التي وجد قبرها عند حفر الدعامة التي أمام المصلى الشريف، كما سيأتي في قبر فاطمة الزهراء، وحصل الوهم في نسبته لفاطمة، والله أعلم. قبر فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها أم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه روى ابن زبالة عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب قال: دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت مهاجرة مبايعة، بالرّوحاء مقابل حمام أبي قطيفة، قال: وثمّ قبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وقبر عثمان بن مظعون. وسيأتي ما نقله ابن شبة في قبر العباس من قول عبد العزيز بن عمران: إنه دفن عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دار عقيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 قلت: وهذا كله صريح في مخالفة ما عليه الناس اليوم من أن قبرها في المشهد الآتي ذكره، وأول من ذكر أنها بذلك المشهد ابن النجار، وتبعه من بعده، ولم أقف له على مستند في ذلك، والأثبت عندي ما هنا؛ إذ يبعد أن يدفنها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الموضع القاصي ويترك ما قرب من عثمان بن مظعون وقد قال: «وأدفن إليه من مات من أهلي» ، وأيضا فلا يظهر أن الموضع المعروف بمشهدها من البقيع؛ لأن مشهد عثمان كما سيأتي ليس من البقيع، وهذا المشهد بطرف زقاق في شاميه إلى المشرق. فإن قيل: النخيل التي تقابل هذا المشهد قال ابن النجار: إنها تعرف بالحمام، وقد قال في الرواية الأولى «مقابل حمام أبي قطيفة» . قلت: الظاهر أن ذلك منشأ الوهم في ذلك، وبقية الرواية المذكورة. وما نقله ابن شبة يدفع ذلك ويبين أن المراد موضع كان يعرف بحمام أبي قطيفة بجهة مشهد سيدنا إبراهيم، وكأن ابن النجار لم يقف إلا على صدر الرواية الأولى؛ فإنه قال: قبر فاطمة بنت أسد وعليها قبة في آخر البقيع، ثم ذكر صدر الرواية الأولى إلى قوله: مقابل حمام أبي قطيفة، ثم قال: واليوم يقابلها نخل يعرف بالحمام، انتهى. على أن النخيل التي بقرب هذا المشهد هي التي تقابله من جهة المشرق والشام، وإنما يعرف قديما وحديثا بالخضاري، وإنما يعرف بالحمام النخل الذي في شامي مشهد سيدنا إبراهيم عند الكومة، وهو بعيد من المشهد المعروف بفاطمة، وإن كان في جهة مقابلته من المغرب، ومن تأمل ذلك علم أن التعريف به لما هو في جهة مشهد سيدنا إبراهيم أقرب، فهو شاهد لنا، وأيضا فاسم الحمام مذكور لمواضع بالمدينة، ولهذا أضافه إلى أبي قطيفة. وقد روى ابن زبالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بموضع حمام عبيد الله بن حسين الذي اشترى محمد بن زيد، فقدمه إلى البقيع قليلا، فقال: نعم موضع الحمام. القبور التي نزلها الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل ابن شبة عن عبد العزيز بن عمران ما حاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل في قبر أحد قط إلا خمسة قبور، ثلاث نسوة ورجلين، منها قبر خديجة بمكة، وأربع بالمدينة: قبر ابن خديجة كان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته، وهو على قارعة الطريق بين زقاق عبد الدار وبين البقيع الذي يتدافن فيه بنو هاشم، وقبر عبد الله المزني الذي يقال له ذو البجادين، وقبر أم رومان أم عائشة بنت أبي بكر، وقبر فاطمة بنت أسد أم عليّ، فأما ذو البجادين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل مهاجرا وسلك ثنية الغابر وعرت عليه الطريق وغلظت، فأبصره ذو البجادين فقال لأبيه: دعني أدلهم على الطريق، فأبى، فنزع ثيابه وتركه عريانا، فاتخذ عبد الله بجادا من شعر فطرحه على عورته، ثم عدا نحوهم، فأخذ بزمام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر قدومه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة موته ودفنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 ثم قال: وأما قبر فاطمة بنت أسد أم عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما فإن عبد العزيز حدث، وذكر سنده إلى محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، قال: لما استقر بفاطمة وعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توفيت فأعلموني، فلما توفيت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقبرها فحفر في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة، ثم لحد لها لحدا، ولم يضرح لها ضريحا، فلما فرغ منه نزل فاضطجع في اللحد، وقرأ فيه القرآن، ثم نزع قميصه فأمر أن تكفّن فيه، ثم صلى عليها عند قبرها، فكبر تسعا وقال: ما أعفي أحد من ضغطه القبر إلا فاطمة بنت أسد، قيل: يا رسول الله ولا القاسم؟ قال: ولا إبراهيم، وكان إبراهيم أصغر هما. قلت: وقوله في موضع المسجد إلى آخره يقتضي أنه كان على قبرها مسجد يعرف به في ذلك الزمان. وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله قال: بينا نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه آت فقال: يا رسول الله، إن أم علي وجعفر وعقيل قد ماتت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى أمي، فقمنا وكأن على رؤوس من معه الطير، فلما انتهينا إلى الباب نزع قميصه فقال: إذا غسلتموها فأشعروها إياه تحت أكفانها، فلما خرجوا بها جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة يحمل، ومرة يتقدم، ومرة يتأخر، حتى انتهينا إلى القبر فتمعّك في اللحد ثم خرج فقال: ادخلوها باسم الله وعلى اسم الله، فلما أن دفنوها قام قائما فقال: جزاك الله من أم وربيبة خيرا، فنعم الأم ونعم الربيبة كنت لي، قال: فقلنا له أو قيل له: يا رسول الله لقد صنعت شيئين ما رأيناك صنعت مثلهما قط، قال: ما هو؟ قلنا: نزعك قميصك وتمعكك في اللحد، قال: أما قميصي فأريد أن لا تمسها النار أبدا إن شاء الله تعالى، وأما تمعكي في اللحد فأردت أن يوسّع الله عليها في قبرها. وروى ابن عبد البر عن ابن عباس قال: لما ماتت فاطمة أمّ علي بن أبي طالب ألبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه فقال: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ لي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها ليهون عليها. وفي الكبير والأوسط بسند فيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبّان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، عن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عند رأسها، فقال: رحمك الله يا أمي بعد أمي، وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده، قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاما أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه، ثم قال: الله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين، وكبر عليها أربعا، فأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم. قبر عبد الرحمن بن عوف روى ابن زبالة عن حميد بن عبد الرحمن قال: أرسلت عائشة إلى عبد الرحمن بن عوف حين نزل به الموت أن هلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أخويك، فقال: ما كنت مضيّقا عليك بيتك، إني كنت عاهدت ابن مظعون أينا مات دفن إلى جانب صاحبه، قالت: فمروا به عليّ، فمروا به عليها فصلّت عليه. وروى ابن شبة عن حفص بن عثمان بن عبد الرحمن نحوه. وعن عبد الواحد بن محمد عن عبد الرحمن بن عوف أنه أوصى إن هلك بالمدينة أن يدفن إلى عثمان بن مظعون، فلما هلك حفر له عند زاوية دار عقيل الشرقية، فدفن هناك، عليه ثوب حبرة من العصب، أتمارى أن يكون فيه لحمة ذهب أولا. قبر سعد بن أبي وقّاص روى ابن شبة عن ابن دهقان قال: دعاني سعد بن أبي وقاص فخرجت معه إلى البقيع، وخرج بأوتاد، حتى إذا جاء من موضع زاوية عقيل الشرقية الشامية أمرني فحفرت، حتى إذا بلغت باطن الأرض ضرب فيها الأوتاد ثم قال: إن هلكت فادللهم على هذا الموضع يدفنوني به، فلما هلك قلت ذلك لولده، فخرجنا حتى دللتهم على ذلك الموضع، فوجدوا الأوتاد، فحفروا له هناك ودفنوه. قبر عبد الله بن مسعود روى ابن سعد في طبقاته عن أبي عبيدة بن عبد الله أن ابن مسعود قال: ادفنوني عند قبر عثمان بن مظعون. وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: مات عبد الله بن مسعود بالمدينة، ودفن بالقيع، سنة اثنتين وثلاثين. قبر خنيس بن حذاقة السهمي كان زوج حفصة بنت عمر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من المهاجرين الأولين أصحاب الهجرتين، نالته جراحة يوم أحد، فمات بسببها بالمدينة. قال أبو عبد الله محمد بن يوسف الزرندي المدني في سيرته: توفي في السنة الثالثة من الهجرة، ودفن عند عثمان بن مظعون، قال: وكان عثمان بن مظعون توفي قبله في شعبان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 من السنة المذكورة، ونقل ابن الجوزي أن عثمان توفي في السنة الثانية، اه. وما قدمناه من موت خنيس بعد أحد من جراحة نالته يوم أحد هو ما جزم به ابن عبد البر، وتبعه عليه الذهبي، ويشكل عليه ما سبق في الفصل الثاني عشر من الباب الثالث من أن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور، وقيل: أربع، وأنه صلى الله عليه وسلم تزوج بحفصة بنت عمر في شعبان من السنة الثالثة على الأصح، وقيل: في الثانية؛ فلا يصح ما جزم به ابن عبد البر، إلا أن يكون خنيس قد طلقها كما أشار إليه الذهبي، لكن قد وهم الحفّاظ ابن عبد البر في قوله «إن خنيسا استشهد بأحد بسبب تلك الجراحة» وإنما توفي قبلها بالمدينة، قال ابن سيد الناس: المعروف أنه مات بالمدينة على رأس خمس وعشرين شهرا، وذلك بعد رجوعه من بدر، اه. قبر أسعد بن زرارة أحد بني غنم بن مالك بن النجار شهد العقبتين كما تقدم، وتوفي في الأولى من الهجرة والمسجد يا بنى قال ابن شبة: قال أبو غسان: وأخبرني بعض أصحابنا قال: لم أزل أسمع أن قبر عثمان بن مظعون وأسعد بن زرارة بالروحاء من البقيع، والروحاء: المقبرة التي بوسط البقيع يحيط بها طرق مطرقة وسط البقيع. قلت: فينبغي أن يسلّم على هؤلاء كلهم عند زيارة مشهد سيدنا إبراهيم بالبقيع. قبر فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم بيان قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنيها، ومن عرفت جهة قبره بالبقيع من بني هاشم، وأمها المؤمنين، وغيرهم. روى ابن شبة عن محمد بن علي بن عمر أنه كان يقول: إن قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زاوية دار عقيل اليمانية الشارعة في البقيع. وعن منبوذ بن حويطب والفضل بن أبي رافع أن قبرها وجاه زقاق نبيه، وأنه إلى زاوية دار عقيل أقرب. وعن عمر بن عليّ بن حسين بن عليّ أن قبرها حذو الزقاق الذي يلي زاوية دار عقيل، قال غسان بن معاوية بن أبي مزرّد: إنه ذرع من حيث أشار له عمر بن علي فوجده خمسة عشر ذراعا إلى القناة. وعن عمر بن عبد الله مولى عفرة أن قبرها حذو زاوية دار عقيل مما يلي دار نبيه. وعن عبد الله بن أبي رافع أن قبرها مخرج الزقاق الذي بين دار عقيل ودار أبي نبيه. وذكر إسماعيل راوية أنه ذرع الموضع الذي ذكر له أبوه فوجد بين القبر وبين القناة التي في دار عقيل ثلاثة وعشرين ذراعا، وبين القناة الآخرى سبعة وثلاثين ذراعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 قال أبو غسان: وأخبرني مخبر ثقة قال: يقال: إن المسجد الذي يصلي إلى جنبه شرقيا على جنائز الصبيان كان خيمة لامرأة سوداء يقال لها رقية، جعلها هناك حسين بن علي تبصر قبر فاطمة، وكان لا يعرف قبر فاطمة غيرها. قال: وأخبرني عبد العزيز بن عمران عن حماد بن عيسى عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دفن علي فاطمة ليلا في منزلها الذي دخل في المسجد، فقبرها عند باب المسجد المواجه دار أسماء بنت حسين بن عبد الله، أي وهو الباب الذي كان في شامي باب النساء في المشرق كما تقدم. قال ابن شبة عقبه: وأظن هذا الحديث غلطا؛ لأن الثبت جاء في غيره. ثم روى بسند جيد عن فائد مولى عبادل، وهو صدوق، أن عبيد الله بن علي أخبره عمن مضى من أهل بيته أن الحسن بن عليّ قال: ادفنوني في المقبرة إلى جنب أمي، فدفن في المقبرة إلى جنب فاطمة مواجه الخوخة التي في دار نبيه بن وهب، طريق الناس بين قبرها وبين خوخة نبيه، أظن الطريق سبعة أذرع. قال فائد: وقال لي منقد الحفار: إن في المقبرة قبرين مطابقين بالحجارة، قبر حسن بن علي وقبر عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن لا نحركها، فلما كان زمن حسن بن زيد وهو أمير على المدينة استعدى بنو محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب على آل عقيل في قناتهم التي في دورهم الخارجية في المقبرة، وقالوا: إن فاطمة رضي الله تعالى عنها عند هذه القناة، فاختصموا إلى حسن، فدعاني حسن فسألني فأخبرته عن عبيد الله بن أبي رافع ومن بقي من أهلي وعن حسن بن علي وقوله «ادفنوني إلى جنب أمي» ثم أخبرته عن منقد الحفار وعن قبر الحسن أنه رآه مطابقا، فقال حسن بن زيد: أنا على ما تقول، وأقر قناة آل عقيل. ثم ذكر ابن شبة أن أبا غسان حدثه عن عبد الله بن إبراهيم بن عبيد الله أن جعفر بن محمد كان يقول: قبر فاطمة في بيتها الذي أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد، قال: ووجدت كتابا كتب عن أبي غسان فيه أن عبد العزيز بن عمران كان يقول: إنها دفنت في بيتها، وصنع بها ما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها دفنت في موضع فراشها، ويحتج بأنها دفنت ليلا، ولم يعلم بها كثير من الناس. ثم أشار ابن شبة إلى رد ذلك بما حدثه أبو عاصم النبيل قال: حدثنا كهمس بن الحسن قال: حدثني يزيد قال: كمدت فاطمة رضي الله تعالى عنها بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم سبعين بين يوم وليلة، فقالت: إني لأستحيي من جلالة جسمي إذا أخرجت على الرجال غدا، وكانوا يحملون الرجال كما يحملون النساء فقالت أسماء بنت عميس أو أم سلمة: إني رأيت شيئا يصنع بالحبشة، فصنعت النعش، فاتخذ بعد ذلك سنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وسيأتي من رواية ابن عبد البر ما يؤيده. وروى ابن شبة عن سلمى زوج أبي رافع قالت: اشتكت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت يوما كأمثل ما كانت تكون، وخرج علي فقالت: يا أمتاه اسبكي لي غسلا، ثم قامت فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل ثم قالت: هات ثيابي الجدد، فأعطتها إياها، فلبستها ثم جاءت إلى البيت الذي كانت فيه فقالت: قدّمي الفراش إلى وسط البيت، فقدّمته فاضطجعت واستقبلت القبلة ووضعت يدها تحت خدها ثم قالت: يا أمتاه إني مقبوضة الآن، وإني قد اغتسلت فلا يكشفني أحد، قال: فقبضت مكانها، وجاء عليّ فأخبرته فقال: لا جرم والله لا يكشفها أحد، فحملها بغسلها ذلك فدفنها. ثم روى ابن شبة عقبه عن أسماء بنت عميس قالت: غسلت أنا وعلي ابن أبي طالب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى البيهقي بإسناد حسن عن أسماء بنت عميس أن فاطمة أوصت أن تغسلها هي وعلي، فغسلاها. ثم تعقبه بأن هذا فيه نظر؛ لأن أسماء في هذا الوقت كانت عند أبي بكر الصديق، وقد ثبت أن أبا بكر لم يعلم بوفاة فاطمة؛ لما في الصحيح أن عليا دفنها ليلا، ولم يعلم أبا بكر، فكيف يمكن أن تغسلها زوجته وهو لا يعلم؟ وأجاب في الخلافيات باحتمال أن أبا بكر علم بذلك، وأحبّ أن لا يرد غرض علي في كتمانه منه، قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يجمع بأن أبا بكر علم بذلك وظن أن عليا سيدعوه لحضور دفنها ليلا، وظن علي أنه يحضر من غير استدعاء منه. وقد احتج بحديث بنت عميس هذا أحمد وابن المنذر، وفي جزمهما بذلك دليل على صحته عندهما فيبطل ما روى أنها غسلت نفسها وأوصت أن لا يعاد غسلها. وقد رواه أحمد، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وأفحش القول في ابن إسحاق راويه. وتولى ردّ ذلك عليه ابن عبد الهادي في التنقيح. قلت: وعلى كل تقدير فحديث بنت عميس أرجح؛ للأدلة الدالة على وجوب غسل الميت مطلقا، وليس في حديث الصحيح أن أبا بكر ما علم بوفاة فاطمة، بل أن عليا دفنها ولم يعلمه. وقد روى ابن عبد البر خبر أسماء بأتمّ من ذلك، وفيه علم أبي بكر بموتها، وذلك من طريق عون بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أمه أم جعفر بنت محمد بن جعفر. وعن عمارة بن المهاجر عن أم جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لأسماء بنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 عميس: يا أسماء، إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها، قالت أسماء: يا ابنة رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبها، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله؟ تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا متّ فاغسليني أنت وعلي، ولا تدخلي عليّ أحدا، فلما توفيت جاءت عائشة تدخل فقالت أسماء: لا تدخلي فشكت إلى أبي بكر قالت: إن هذه الحثعمية تحول بيننا وبين بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعلت لها مثل هودج العروس فجاء أبو بكر فوقف على الباب فقال: يا أسماء، ما حملك على أن منعت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت لها مثل هودج العروس؟ فقالت: أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، وأريتها هذا الذي صنعت وهي حية فأمرتني أن أصنع ذلك لها، قال أبو بكر: فاصنعي ما أمرتك، ثم انصرف، وغسلها علي وأسماء رضي الله تعالى عنهما. وقد خرّج الدولابي معنى ذلك مختصرا، وفيه أنها لما أرتها النعش تبسمت، وما رؤيت متبسمة- يعني بعد النبي صلى الله عليه وسلم- إلا يومئذ. وخرج أيضا أن الوصية كانت إلى عليّ بأن يغسلها هو وأسماء، ويجوز أن تكون أوصت إلى كل منهما. قال ابن عبد البر: فاطمة أول من غطى نعشها من النساء في الإسلام على الصفة المذكورة في الخبر المتقدم، ثم بعدها زينب بنت جحش صنع بها ذلك. وتوفيت فاطمة يوم الثلاثاء لثلاث خلت من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وكانت أشارت على زوجها أن يدفنها ليلا. قلت: لعلها أرادت بذلك المبالغة في التستر، وهو السبب في عدم إعلام أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ويتأيد بذلك رواية دفنها بالبقيع، وهو مقتضى صنيع ابن زبالة في إيراد الروايات الدالة على ذلك. قبر بعض أبناء الإمام علي بن أبي طالب وقال المسعودي في مروج الذهب: إن أبا عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، ودفن بالبقيع مع أبيه وجده، قال: وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله مبيد الأمم، ومحيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء العالمين، وقبر الحسن بن علي، وعلي بن الحسين بن علي، وقبر محمد بن علي، وجعفر بن محمد، عليهم السلام، انتهى. وذكر ما يقتضي أنه حين ذكر هذا كان في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 المتوكل يأمر بهدم قبر الحسين بن علي وإنما أوجب عدم العلم بعين قبر فاطمة رضي الله تعالى عنها وغيرها من السلف ما كانوا عليه من عدم البناء على القبور وتجصيصها، مع ما عرض لأهل البيت رضي الله تعالى عنهم من معاداة الولاة قديما وحديثا، حتى ذكر المسعودي أن المتوكل أمر في سنة ست وثلاثين ومائتين المعروف بالزبرج بالمسير إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما ومحو أرضه وهدمه وإزالة أثره، وأن يعاقب من وجد به، فبذل الرغائب لمن يقدم على ذلك، فكل خشي عقوبة الله فأحجم، فتناول الزبرج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين، فحينئذ أقدم الفعلة على العمل فيه، وانتهوا إلى الحفيرة وموضع اللحد فلم يجدوا فيه أثر رمّة ولا غيرها، ولم يزل الأمر على ذلك حتى استخلف المنتصر، انتهى. ويتلخص مما تقدم أن المعتمد أن قبرها بالبقيع عند قبر الحسن، وقيل: في بيتها، ويتفرع عليه قولان: أحدهما ما تقدم عن عبد العزيز من أن محله من المسجد ما يقابل الباب الذي يواجه دار أسماء بنت حسين، يعني شامي باب النساء وهو بعيد جدّا، وثانيهما حكاه العز بن جماعة وقال: إنه أظهر الأقوال، وهو أنه في بيتها، وهو مكان المحراب الخشب الذي داخل مقصورة الحجرة الشريفة من خلفها، وقد رأيت خدّام الحجرة يجتنبون دوس ما بين المحراب المذكور وبين الموضع المزور من الحجرة الشريفة الشبيه بالمثلث، ويزعمون أنه قبر فاطمة رضي الله تعالى عنها. وقد سبق في الفصل التاسع والعشرين من الباب الرابع أنهم لما أسّسوا دعائم القبة الكبرى المحاذية لأعلى الحجرة الشريفة أسسوا أسطوانة هناك زادوها عند الصفحة الشرقية من الموضع الشبيه بالمثلث خلف الحجرة، فوجدوا قبرا بدا لحده وبعض عظامه، وحصل للناس في ذلك اليوم أمر عظيم ومشقة زائدة فيما أخبرني به شيخ الخدام السيفي قائم وغيره. وحكى ابن جماعة في قبر فاطمة رضي الله تعالى عنها قولين آخرين: أحدهما: أنه الصندوق الذي أمام مصلى الإمام بالروضة الشريفة، قال: وهو بعيد جدّا. قلت: لم أقف له على أصل، ولعله اشتبه على قائله بالمحراب المتقدم ذكره في بيتها؛ لأن عنده مصلى شبه حوض كالمصلى بالروضة، وأمامه صندوق هو المحراب المذكور، لكن سبق في الفصل الثالث من الباب الرابع أنهم لما أسسوا في محل الصندوق المحترق الدعامة التي بها محراب المصلى النبوي، وهو مصلى الإمام، وجدوا هناك قبرا بدا لحده مسدودا باللبن أخرجوا منه بعض العظام، وأن الأقدمين حرفوا أساس الأسطوانة التي عنده عنه، فالله أعلم. وثانيهما: أنه بالمسجد المنسوب إليها بالبقيع، يعني الذي بالقرب من قبة العباس رضي الله تعالى عنه من جهة القبلة جانحا إلى المشرق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وقد ذكر الغزالي هذا المسجد في زيارة البقيع فقال: ويستحب له أن يخرج كلّ يوم إلى البقيع بعد السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر القبور التي تزار، وقال عند ذكر قبر الحسن: ويصلي في مسجد فاطمة، وذكره أيضا غيره. وقال: إنه المعروف ببيت الحزن؛ لأن فاطمة رضي الله تعالى عنها أقامت به أيام حزنها على أبيها صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر دفنها به، والقول بذلك من فروع القول بدفنها بالبقيع، لكنه بعيد من الروايات السابقة لبعده جدّا من دار عقيل وعن قبر الحسن. وقال المحب الطبري في «ذخائر العقبى، في فضائل ذوي القربى» : أخبرني أخ لي في الله أن الشيخ أبا العباس المرسي رحمه الله تعالى كان إذا زار البقيع وقف أمام قبلة قبة العباس وسلم على فاطمة عليها السلام، ويذكر أنه كشف له عن قبرها هناك. قال الطبري: فلم أزل أعتقد ذلك لاعتقادي صدق الشيخ، حتى وقفت على ما ذكره ابن عبد البر من أن الحسن لما توفي دفن إلى جنب أمه فاطمة رضي الله تعالى عنها، فازددت يقينا. قلت: وهو أرجح الأقوال، والله أعلم. قبر ابنها الحسن بن علي، ومن معه وما روي من نقل بدن علي ورأس الحسين إلى البقيع رضي الله تعالى عنهم. وروى ابن شبة عن فائد مولى عبادل أن عبيد الله بن علي أخبره عمن مضى من أهل بيته أن حسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أصابه بطن، فلما حزبه وعرف من نفسه الموت أرسل إلى عائشة رضي الله تعالى عنهما أن تأذن له أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: نعم، ما كان بقي إلا موضع قبر واحد، فلما سمعت بذلك بنو أمية استلأموا هم وبنو هاشم للقتال، وقالت بنو أمية: والله لا يدفن فيه أبدا، فبلغ ذلك حسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، فأرسل إلى أهله أما إذا كان هذا فلا حاجة لي به، ادفنوني في المقبرة إلى جنب أمي فاطمة، فدفن في المقبرة إلى جنب فاطمة رضي الله تعالى عنها. وعن نوفل بن الفرات نحوه، وفيه أن الحسن قال للحسين: لعل القوم أن يمنعوك إذا أردت ذلك كما منعنا صاحبهم عثمان بن عفان، ومروان بن الحكم يومئذ أمير على المدينة، وقد كانوا أرادوا دفن عثمان في البيت فمنعوهم، فإن فعلوا فلا تلاحهم في ذلك وادفنّي في بقيع الغرقد، ثم ذكر منع مروان، وأن الحسين لما بلغه ذلك استلأم في الحديد واستلأم مروان في الحديد أيضا، فأتى رجل حسينا فقال: يا أبا عبد الله، أتعصى أخاك في نفسه قبل أن تدفنه؟ قال: فوضع سلاحه، ودفنه في بقيع الغرقد. وفي رواية لابن عبد البر أنهم لما استلأموا في السلاح بلغ ذلك أبا هريرة رضي الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 تعالى عنه، فقال: والله ما هو إلا ظلم، يمنع الحسن أن يدفن مع أبيه؟ والله إنه لابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق إلى الحسين وكلمه وناشده الله وقال له: أليس قد قال أخوك إن خفت أن يكون قتال فردوني إلى مقبرة المسلمين؟ فلم يزل به حتى فعل. تسمية من دفن مع الحسن وذكر ابن النجار أن مع الحسن رضي الله تعالى عنه في قبره ابن أخيه زين العابدين علي بن الحسين، وأبا جعفر الباقر محمد بن زين العابدين، وجعفرا الصادق ابن الباقر، رضوان الله عليهم أجمعين. وذكر الغزالي نحوه. دفن علي بالبقيع وروى الزبير بن بكار من طريق شريك بن عبد الله عن أبي روق قال: حمل الحسن بدن علي بن أبي طالب فدفنه بالبقيع. قلت: وقد اتفق في سنة بضع وستين وثمانمائة حفر قبر بمشهد الحسن والعباس أمام قبلته، فوجدوا فسقية فيها تابوت من خشب مغشّى بشيء أحمر يشبه اللباد الأحمر مسمر بمسامير لها بريق وبياض لم تصدأ، وتعجب الناس لكونها لم تصدأ ولعدم بلاء ذلك الغشاء. وأخبرني جمع كثير ممن شاهد ذلك، وأن على مدخل تلك الفسقية أحجارا من المسن، فلعله بدن علي رضي الله تعالى عنه. دفن رأس الحسين بن علي وذكر محمد بن سعيد أن يزيد بن معاوية بعث برأس الحسين رضي الله تعالى عنه إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وكان عامله على المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع عند قبر أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن ذكر ابن أبي الدنيا أنهم وجدوا في خزانة ليزيد رأس الحسين فكفنوه ودفنوه بدمشق عند باب الفراديس. وقيل غير ذلك، ولا بأس بالسلام على هؤلاء كلهم عند زيارة هذا المشهد. قبر العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قال ابن شبة فيما نقله عن أبي غسان: قال عبد العزيز: دفن العباس بن عبد المطلب عند قبر فاطمة بنت أسد بن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دال عقيل، فيقال: إن ذلك المسجد بني قبالة قبره، قال: وقد سمعت من يقول: دفن في موضع من البقيع متوسطا. قبر صفية بنت عبد المطلب رضي الله تعالى عنها قال عبد العزيز فيما نقله ابن شبة: توفيت صفية فدفنت في آخر الزقاق الذي يخرج إلى البقيع عند باب الدار التي يقال لها دار المغيرة بن شعبة التي أقطعه عثمان بن عفان لازفا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 بجدار الدار، قال عبد العزيز: فبلغني أن الزبير بن العوام اجتاز بالمغيرة وهو يا بني داره، فقال: يا مغيرة ارفع مطمرك عن قبر أمي، فأدخل المغيرة جداره، فالجدار اليوم منحرف فيما بين ذلك الموضع وبين باب الدار. قال عبد العزيز: وقد سمعت من يذكر أن المغيرة بن شعبة أبى أن يفعل ذلك مكانه من عثمان، فأخذ الزبير السيف ثم قام على البناء، فبلغ الخبر عثمان، فأرسل إلى المغيرة يأمره بالمصير إلى ما أمره به الزبير، ففعل. وروى ابن زبالة عن محمد بن موسى بن أبي عبد الله قال: كان قبر صفية بنت عبد المطلب عند زاوية دار المغيرة بن شعبة الوضوء عليه، فلما بنى المغيرة داره أراد أن يقيم المطمر عليه، قال: فقال الزبير: لا، والله لا تبني على قبر أمي، فكفّ عنه. قلت: والمعروف أن ذلك هو المشهد الآتي ذكره خارج باب البقيع، والله أعلم. قبر أبي سفيان بن عبد المطلب قبر أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وما قيل في قبر عقيل وابن أخيه عبد الله بن جعفر، رضي الله تعالى عنهم. قال ابن شبة: قال عبد العزيز: بلغني أن عقيل بن أبي طالب رأى أبا سفيان بن الحارث يجول بين المقابر، فقال: يا ابن عمّ مالي أراك هناك؟ قال: أطلب موضع قبر، فأدخله داره وأمر بقبر فحفر في قاعتها، فقعد عليه أبو سفيان ساعة ثم انصرف، فلم يلبث إلا يومين حتى توفي فدفن فيه. وقال الموفق بن قدامة: قيل عن أبي سفيان: إنه حفر قبره بنفسه قبل موته بثلاثة أيام، قال: وكان سبب موته أنه حجّ فلما حلق الحلاق رأسه قطع تؤلولا كان في رأسه، فلم يزل مريضا حتى مات بعد مقدمه من الحج سنة عشرين، ودفن في دار عقيل، وصلّى عليه عمر رضي الله تعالى عنهم. قلت: والظاهر أنه بالمشهد المنسوب اليوم لعقيل؛ لأن ابن زبالة وابن شبة لم يذكرا قبر عقيل بالبقيع، وكذا الغزالي لما ذكر في الإحياء من يزار بالبقيع لم يذكره، بل المنقول الذي ذكره ابن قدامة وغيره أن عقيلا توفي بالشام في خلافة معاوية، فكان سبب اشتهار ذلك المشهد به كون الدار التي هو بها له؛ ويحتمل على بعد أنه نقل من الشام ودفن بذلك المحل أيضا، وأول من رأيته ذكر أنه بذلك المشهد ابن النجار، فقال: وقبر عقيل بن أبي طالب أخي علي رضي الله تعالى عنهما في قبة أول البقيع، ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب، وهو الجواد المشهور رضي الله تعالى عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 قبر عبد الله بن جعفر الطيار وقد ذكر أبو اليقظان أن عبد الله بن جعفر الجواد كان أجود العرب، وأنه توفي بالمدينة وقد كبر، وقال غيره: توفي ودفن بالأبواء سنة تسعين، ويقال: إنه كان ابن عشر سنين حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهن روى ابن زبالة عن محمد بن عبيد الله بن علي قال: قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من خوخة نبيه إلى الزقاق الذي يخرج إلى البقال مستطيرة؛ وترجم ابن شبة لقبر أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روى عن زيد بن السائب قال: أخبرني جدي قال: لما حفر عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في داره بئرا وقع على حجر منقوش مكتوب فيه «قبر أم حبيبة بنت صخر بن حرب» فدفن عقيل البثر، وبنى عليه بيتا، قال ابن السائب: فدخلت ذلك البيت فرأيت فيه ذلك القبر. قلت: فهذا وما قبله أصل في زيارتهن بالمشهد المعروف بهن في قبلة مشهد عقيل رضي الله عنه، والظاهر أن خوخة نبيه في غربي المشهد المذكور، وكذا الزقاق الذي يخرج إلى البقال؛ لما سيأتي في ترجمته، فيكون بعضهن بقرب الحسن والعباس رضي الله تعالى عنهما، ولهذا روي ابن شبة عن محمد بن يحيى قال: سمعت من يذكر أن قبر أم سلمة رضي الله تعالى عنها بالبقيع حيث دفن محمد بن زيد عليّ قريبا من موضع فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان حفر فوجد على ثمانية أذرع حجرا مكسورا مكتوبا في بعضه «أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم» فبذلك عرف أنه قبرها. وقد أمر محمد بن زيد بن علي أهله أن يدفنوه في ذلك القبر بعينه، وأن يحفروا له عمقا ثمانية أذرع، فحفر كذلك ودفن فيه. وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن علي بن حسن الرافعي قال: حفر لسالم البانكي مولى محمد بن عليّ فأخرجوا حجرا طويلا فإذا فيه مكتوب «هذا قبر أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم» وهو مقابل خوخة آل نبيه بن وهب، قال: فأهيل عليه التراب وحفر لسالم في موضع آخر. وعن حسن بن علي بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن عليّ أنه هدم منزله في دار علي بن أبي طالب، قال: فأخرجنا حجرا مكتوبا فيه «هذا قبر رملة بنت صخر» قال: فسألنا عنه فائدا مولى عبادل فقال: هذا قبر أم حبيبة ابنة أبي سفيان، ويخالفه ما تقدم من أن قبرها في دار عقيل، ولعله تصحف بعلي. وفي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله تعالى عنها أوصت عبد الله بن الزبير لا تدفني معهم، تعني النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وادفني مع صواحبي بالبقيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وروى ابن زبالة عن فائد مولى عبادل قال: قال لي منقد الحفّار: في المقبرة قيران مطابقان بالحجارة: قبر حسن بن علي، وقبر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنحن لا نحركهما. قلت: وأمهات المؤمنين كلهن بالمدينة، إلا خديجة فبمكة، وإلا ميمونة فبسرف. قبر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وروى ابن شبة عن الزهري قال: جاءت أمّ حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فوقفت على باب المسجد، فقالت: لتخلّنّ بيني وبين دفن هذا الرجل أو لأكشفنّ ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلوها، فلما أمسوا جاء جبير بن مطعم وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير وأبو الجهم بن حذيفة وعبد الله بن حسل، فحملوه فانتهوا به إلى البقيع، فمنعهم من دفنه ابن بحرة، ويقال: ابن نحرة الساعدي، فانطلق به إلى حش كوكب، وهو بستان بالمدينة، فصلّى عليه جبير ودفنوه وانصرفوا. وعن عروة بن الزبير قال: منعهم من دفن عثمان بالبقيع أسلم بن أوس بن بحرة الساعدي، فانطلقوا به إلى حش كوكب، فصلى عليه حكيم بن حزام، وأدخل بنو أمية حش كوكب في البقيع. وعن عثمان بن محمد الأخنسي عن أم حكيمة قالت: كنت مع الأربعة الذين دفنوا عثمان بن عفان: جبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وحملوه على باب أسمع قرع رأسه على الباب كأنه دباة، ويقول: دب دب، حتى جاؤوا به حش كوكب فدفن به، ثم هد عليه الجدار وصلّى عليه هناك. قال: وحش كوكب: موضع في أصل الحائط الذي في شرقي البقيع الذي يقال له خضراء أبان، وهو أبان بن عثمان. قلت: ولذلك تسمى تلك الناحية إلى اليوم بالحضاري. وفي طبقات ابن سعد عن مالك بن أبي عامر قال. كان الناس يتوقّون أن يدفنوا موتاهم في حشّ كوكب، فكان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقول: يوشك أن يهلك رجل صالح فيدفن هناك فيأتسي الناس به، قال: فكان عثمان أول من دفن به. وروى ابن شبة عن عبد الله بن فروج قال: كنا مع طلحة فقال لي ولابن أخيه عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله: انطلقا فانظرا ما فعل الرجل، قال: فدخلنا فإذا هو مسجّى بثوب أبيض، فرجعنا إلى طلحة فأخبرناه، فقال: قوموا إلى صاحبكم فواروه، فانطلقنا فجمعنا عليه ثيابه كما يصنع بالشهيد، ثم أخرجناه ليصلي عليه، فقالت المصرية: والله لا يصلّي عليه، فقال أبو الجهم بن حذيفة: والله إن عليكم أن لا تصلوا عليه، قد صلّى الله عليه، فنغزوه ساعة بنعال سيوفهم حتى ظننت أن قد قتلوه، ثم أرادوا دفنه مع نبي الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 صلى الله عليه وسلم، وكان قد استوهب من عائشة رضي الله تعالى عنها موضع قبر فوهبت له، فأبوا، فدفن في مقبرة كان قد اشتراها فزادها في المقبرة، فكان أول من دفن فيها. وقيل: إن عمرو بن عثمان صلّى عليه يومئذ. وروى ابن زبالة عن ابن شهاب وغيره أن عثمان منع من البقيع، فدفن في حش كوكب، وكان عثمان بن مظعون أول من دفن بالبقيع، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل مهراس علامة على قبره ليدفن الناس حوله، وقال: لأجعلنّك للمتقين إماما، فلما استعمل معاوية مروان بن الحكم على المدينة في ملكه أدخل الحش في البقيع، وحمل المهراس فجعله على قبر عثمان، وقال: عثمان وعثمان، فدفن الناس حول عثمان رضي الله تعالى عنه. قبر سعد بن معاذ الأشهلي رضي الله تعالى عنه نقل ابن شبة عن عبد العزيز أنه أصيب يوم الخندق، فدعا فحبس الله عنه الدم، حتى حكم في بني قريظة، ثم انفجر كله؛ فمات في منزله في بني عبد الأشهل، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه في طرف الزقاق الذي بلزق دار المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو، وإنما تبنّاه الأسود بن عبد يغوث الزهري، وهي الدار التي يقال لها دار ابن أفلح في أقصى البقيع عليها جنبذة، انتهى. وهذا الوصف صادق بالمشهد المنسوب لفاطمة بنت أسد؛ لكونه بطرف زقاق في أقصى البقيع: وفي شرقيه ناحية بني ظفر وبني عبد الأشهل، فلعله قبره، ولكن وقع الاشتباه في نسبته لفاطمة رضي الله تعالى عنها لما قدمناه في قبرها، والله أعلم. قبر أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وروى ابن شبة عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قال لي أبي: يا بني، إني قد كبرت، وذهب أصحابي وحان مني، فخذ بيدي، فأخذت بيده حتى جئت إلى البقيع، فجئت أقصى البقيع مكانا لا يدفن فيه، فقال: يا بني، إذا هلكت فاحفر لي هاهنا، لا تبك عليّ باكية، ولا يضر بن عليّ فسطاط، ولا يمشي معي بنار، ولا تؤذنن أحدا، واسلك بي زقاق عمقة، وليكن مشيك بي خببا، وفي رواية ثم اتكأ علي فأتى البقيع حيث لا يدفن أحد، فقال: إذا مت فادفني هاهنا، واسلك بي زقاق عمقه، وزاد: ولا تبك عليّ نائحة، وامشوا بي الخبب، ولا تؤذنوا بي أحدا، قال: فيأتيني الناس متى يخرج، فأكره أن أخبرهم لما قال لي، فأخرجته في صدر النهار، فأتيت البقيع وقد ملئ ناسا. بيان المشاهد المعروفة اليوم بالبقيع وغيره من المدينة الشريفة أعلم أن أكثر الصحابة رضي الله عنهم- كما قال المطري- ممن توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته مدفنون بالبقيع، وكذلك سادات أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وسادات التابعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وفي مدارك عياض عن مالك أنه مات بالمدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف، وباقيهم تفرقوا في البلدان. وقال المجد: لا شك أن مقبرة البقيع محشوة بالجماء الغفير من سادات الأمة، غير أن اجتناب السلف الصالح من المبالغة في تعظيم القبور وتجصيصها أفضى إلى انطماس آثار أكثرهم، فلذلك لا يعرف قبر معينين منهم إلا أفرادا معدودة. قلت: وقد ابتنى عليها مشاهد: منها مشهد على يمينك إذا خرجت من باب البقيع قبلى المشهد المنسوب لعقيل بن أبي طالب وأمهات المؤمنين، تحوى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحسن بن علي، ومن تقدم ذكره معه، وعليهم قبة شامخة في الهواء، قال ابن النجار: وهي كبيرة عالية قديمة البناء وعليها بابان يفتح أحدهما في كل يوم، ولم يذكر الذي بناها، وقال المطري: بناها الخليفة الناصر أحمد بن المستضئ. قلت: وفيه نظر؛ لأن الناصر هذا كان معاصرا لابن النجار؛ لأنه توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ووفاة ابن النجار سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وقد قال ابن النجار: إن هذه القبة قديمة البناء، ووصفها بما هي عليه اليوم. ورأيت في أعلى محراب هذا المشهد: أمر بعمله المنصور المستنصر بالله، ولم يذكر اسمه ولا تاريخ العمارة، فلعله المنصور الذي هو ثاني خلفاء بني العباس، لكنه لا يلقب بالمستنصر بالله، ولم أر من جمع بين هذين اللقبين، وعلى ساح قبر العباس أن الآمر بعمله المسترشد بالله سنة تسع عشرة وخمسمائة، ولعل عمارة القبة قبله، وقبر العباس وقبر الحسن مرتفعان من الأرض متسعان مغشّيان بألواح ملصقة أبدع إلصاق مصفحة بصفائح الصفر مكوكبة بمسامير على أبدع صفة وأجمل منظر. وينبغي أن يسلم زائرهما على من قدمنا ذكر دفنه عندهما في قبر فاطمة والحسن رضي الله تعالى عنهما، وهناك قبور كثيرة لأمراء المدينة وأقاربهم من الأشراف يدفنون بهذا المشهد. وفي غربيه قبر ابن أبي الهيجاء وزير العبيديين، عليه بناء، وقبر آخر يعرف بابن أبي النصر عليه بناء أيضا. وفي شرقي المشهد بعيدا منه حظيرتان في إحداهما الأمير جوبان صاحب المدرسة الجوبانية، وفي الآخرى بعض الأعيان ممن نقل إلى المدينة، وإنما نبهت على ذلك خوفا من الالتباس على طول الزمان. ومنها: مشهد في قبلة المشهد المنسوب لعقيل متصل به، قال المطري: يقال: إن فيه قبور أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وقال ابن النجار- في القبور المعروفة في زمانه- ما لفظه: وقبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن أربعة قبور ظاهرة، ولا يعلم تحقيق من فيها منهن. قلت: باطن هذا المشهد كله أرض مستوية ليس فيها علامة قبور، وكان حظيرا مبنيّا بالحجارة كما ذكره المطري، فابتنى عليه قبة الأمير بردبك المعمار سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة. ومنها: مشهد عقيل بن أبي طالب على ما ذكره ابن النجار، وتبعه من بعده، قال: ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله الجواد بن جعفر الطيار، كما قدمناه عنه في قبر أبي سفيان بن الحارث، مع بيان أن ذلك المشهد من دار عقيل، وأن الذي نقل دفنه هناك إنما هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأن عقيلا مات بالشام خلاف قول المطري إن المنقول دفنه في داره، وجوزنا أن يكون نقل من الشام إليها، فينبغي السلام على الثلاثة المذكورين هناك، وتقدم استجابة الدعاء عند زاوية الدار المذكورة. ومنها: روضة بقرب مشهد عقيل، يقال: إن فيها ثلاثة من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قاله المجد، وجعله مما يعرف في زمنه بالبقيع، ولم أره في كلام غيره، ولولا ذكره لمشهد سيدنا إبراهيم قبل ذلك لحملنا كلامه عليه، وليس بقرب مشهد عقيل إلا القبة المتهدمة التي في غربي مشهد أمهات المؤمنين، ولا يعرف من بها، فلعلها مراده، أو القبة الآتي ذكرها في مشهد الإمام مالك رضي الله تعالى عنه في ركنه الشرقي الشمالي، فإن كلا منهما يصح وصفها بالقرب من مشهد عقيل، ثم تبين أن مراده الأولى التي في غربي مشهد أمهات المؤمنين، فإن ابن جبير ذكر في رحلته روضة عقيل، ثم روضة أمهات المؤمنين، ثم قال: وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، ويليها روضة العباس بن عبد المطلب، إلى آخره، فهذا مأخذ المجد. ومنها: مشهد سيدنا إبراهيم بن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبره على نعت قبر الحسن والعباس، وهو ملصق إلى جدار المشهد القبلي، وفي هذا الجدار شباك، قال المجد: وموضع تربته يعرف ببيت الحزن، يقال: إنه البيت الذي أوت إليه فاطمة رضي الله تعالى عنها، والتزمت الحزن فيه بعد وفاة أبيها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، انتهى. والمشهور ببيت الحزن إنما هو الموضع المعروف بمسجد فاطمة في قبلة مشهد الحسن والعباس، وإليه أشار ابن جبير بقوله: ويلي القبة العباسية بيت لفاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرف ببيت الحزن، يقال: إنه الذي أوت إليه والتزمت الحزن فيه عند وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم، انتهى. وفيه قبرها على أحد الأقوال كما قدمناه، وأظنه في موضع بيت علي بن أبي طالب الذي كان اتخذه بالبقيع، وفيه اليوم هيئة قبور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وفي شامي قبر سيدنا إبراهيم بمشهده صورة قبرين حادثين لم يذكرهما ابن النجار، ولا من تبعه، إنما ذكروا ما قدمناه من كونه إلى جانب عثمان بن مظعون وأن عبد الرحمن بن عوف أوصى أن يدفن هناك، وأنه ينبغي زيارتهما معه. قلت: وكذا كل من قدمنا ذكر دفنه هناك. ومنها: مشهد صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم الزبير بن العوام، على يسارك عند ما تخرج من باب البقيع، وهو بناء من حجارة لا قبّة عليه، قال المطري: وأرادوا عقد قبة صغيرة عليه فلم يتفق ذلك. ومنها: مشهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وعليه قبة عالية ابتناها أسامة بن سنان الصالحي أحد أمراء السلطان السعيد صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة إحدى وستمائة، قاله المطري، قال الزين المراغي: ونقل أبو شامة أن الباني لها عز الدين سلمة. قلت: ولم يذكر ابن النجار هذه القبة، مع ذكره لقبة الحسن والعباس وسيدنا إبراهيم وغيرهما مما كان في زمنه، وقد أدرك التاريخ الذي ذكره المطري وبعده بكثير. وبمشهد سيدنا عثمان قبر خلف قبره يقال: إنه قبر متولي عمارة القبة. وقد حدث في زماننا أمام المشهد في المغرب بناء مربع عليه قبو فيه امرأة كانت أم ولد لبعض بني الجيعان توفيت بالمدينة الشريفة، وإلى جانبه حظيرة فيها امرأة لبعض الأتراك، وبين هذا البناء وبين المشهد أيضا حظيرة أخرى بها أخت صاحبنا قاضي الحرمين العلامة محيي الدين الحنبلي متع الله به. ومنها: مشهد فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما بأقصى البقيع، على ما فيه مما تقدم في ذكر قبرها، وينبغي أن يسلم هناك على سعد بن معاذ لما سبق. مشهد مالك بن أنس الأصبحي ومنها: مشهد الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة إذا خرجت من باب البقيع كان مواجها لك عليه قبة صغيرة وإلى جانبه في المشرق والشام قبة لطيفة أيضا، لم يتعرض لذكرها المطري ومن بعده، فيحتمل أن تكون حادثة، ويقال: إن بها نافعا مولى ابن عمر. وفي كلام ابن جبير عند ذكر المشاهد المعروفة في زمنه ما يؤخذ منه أن بين مشهد سيدنا إبراهيم عليه السلام وبين مشهد مالك تربة عن يمين مشهد سيدنا إبراهيم، وأنها تربة ابن لعمر رضي الله عنه اسمه عبد الرحمن الأوسط، قال: وهو المعروف بأبي شحمة، وهو الذي جلده أبو الحدّ فمرض ومات، وما ذكره ينطبق على القبة المذكورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 مشهد إسماعيل بن جعفر الصادق ومنها: مشهد إسماعيل بن جعفر الصادق، وهو كبير يقابل مشهد العباس في المغرب، وهو ركن سور المدينة اليوم من القبلة والمشرق، بني قبل السور، فاتصل السور به، فصار بابه من داخل المدينة، قال المطري: بناه بعض العبيديين من ملوك مصر. قلت: على باب المشهد الأوسط الذي أمامه الرحبة التي بها البئر التي يتبرك بها حجر فيه أن حسين بن أبي الهيجاء عمره سنة ست وأربعين وخمسمائة، ولعله المطري نسب ذلك لبعض العبيديين؛ لأن ابن أبي الهيجاء كان من ورائهم. قال المطري: ويقال إن عرصة هذا المشهد وما حوله من جهة الشمال إلى الباب كانت دار زين العابدين، وبجانب المشهد الغربي مسجد صغير مهجور يقال: إنه مسجد زين العابدين. قلت: على يمين الداخل إلى المشهد بين الباب الأوسط والأخير حجر منقوش فيه وقف الحديقة التي بجانب المشهد في المغرب على المشهد: وقفها إن أبي الهيجاء، ونسبة المسجد الذي بطرف الحديقة بجانب المشهد لزين العابدين، وأن عرصة المشهد داره، وأن بئره تلك يتداوى بها. ويقال: إن ابنه جعفرا الباقر سقط بها وهو صغير، وزين العابدين يصلي، فلم يقطع صلاته. وفي كلام ابن شبة ما يصلح أن يكون مستندا في نسبة تلك العرصة لزين العابدين؛ لذكره دارا تقرب من وصفها، ونسبها لولده، فقال: واتخذت صفية بنت حيي دار زيد بن علي بن حسين بن علي، وقد صارت دارين، وهما جميعا دار واحدة، بنى زيد بن علي شقها الشرقي الذي يلي البقيع، وبنى آل أبي سويد الثقفي شقها الغربي الذي يلي دار السائب مولى زيد بن ثابت، فيحتمل أنه نسبها لولده لكونه بناها وكانت لأبيه، وقال أيضا: واتخذ جعفر بن أبي طالب دارا بين دار أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم بالبقيع وبين دار أسماء بنت عميس التي في شامي دار أبي رافع تحت سقيفة محمد بن زيد بن علي بن حسين. وبيّن ابن شبة أن دار أبي رافع ناقل بها سعد بن أبي وقاص أبا رافع فدفع لأبي رافع داره بالبقال. وقد تقدم ذكر الشارع الذي يخرج إلى البقال في قبور أمهات المؤمنين، وأنه في غربي المشهد المعروف بهن؛ لما سيأتي في ترجمة البقال، وقد جدد مسجد زين العابدين سنة أربع وثمانين وثمانمائة. وأما المشاهد المعرفة بالمدينة في غير البقيع فثلاثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 مشهد حمزة أحدها: مشهد سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنه. وسيأتي ذكره مع شهداء أحد في الفصل بعده، وعليه قبة عالية حسنة متقنة، وبابه مصفح كله بالحديد بنته أم الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضئ، كما قاله ابن النجار، وذلك في سنة تسعين وخمسمائة، قال: وجعلت على القبر ملبنا من ساج، وحوله حصباء، وباب المشهد من حديد، يفتح كل يوم خميس، وقريب منه مسجد يذكر أنه موضع مقتله، انتهى. وتبعه عليه من بعده. ووصفه القبر بأن عليه ملبن خشب، يعني أنه كهيئة قبر سيدنا إبراهيم، فإنه عبر فيه بذلك أيضا، وقبر سيدنا إبراهيم على ذلك الوصف اليوم، وكذلك الحسن والعباس. وأما قبر حمزة فإنه اليوم مبني مجصّص بالقصّة لا خشب عليه، وفي أعلاه من ناحية رأسه حجر فيه بعد البسملة: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 18] هذا مصرع حمزة بن عبد المطلب عليه السلام، ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم، عمره العبد الفقير إلى رحمة ربه حسين بن أبي الهيجاء، غفر الله له ولوالديه سنة ثمانين وخمسمائة، انتهى. وهذا قبل عمارة أم الناصر بعشر سنين، وابن النجار إنما قدم المدينة بعد ذلك؛ لأنه ألّف كتابه سنة مجاورته بها، ومولده سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، فمقتضى ذلك أن ابن النجار أدرك القبر وهو بهذه الهيئة من الكتابة، وقد صرح بخلافها، وأيضا فالتعبير في تلك الكتابة بمصرع حمزة وتصديره بالآية دليل الخطأ في إثبات ذلك المسن هناك، فالصواب أن ذلك المسن كان بالمسجد المعروف اليوم بالمصرع، وكأنه لما تهدّم نقل إلى المشهد لقربه منه، ثم لما تكسر الخشب الذي ذكر ابن النجار أنه كان على القبر بنوا القبر على هذه الهيئة، وظنوا أن ذلك المسن لوضعه بالمشهد يتعلق به، فأثبتوه بالقبر. ويؤيد ذلك أن نسبة عمارة القبة لأم الخليفة في التاريخ المذكور موجودة اليوم بالكتابة الكوفية نقشا في جدار المشهد بالجص، واقتلع الشجاعي شاهين شيخ الحرم المسنّ المذكور وأعاده إلى محله بالمصرع، ومقتضى ما سبق عن ابن النجار ومن تبعه أن أم الخليفة الناصر لدين الله هي أول من اتخذ المشهد المذكور على سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه، وسيأتي في الفصل بعده عند ذكر قبر حمزة رضي الله تعالى عنه عن عبد العزيز بن عمران أنه كان على قبر حمزة قديما مسجد، وذلك في المائة الثانية، فكأن أم الخليفة وسّعته وجعلته على هذه الهيئة الموجودة اليوم، وقد زاد فيه سلطان زماننا الأشرف فانتباي أعز الله نصره زيادة من جهة المغرب أدخل فيها البئر التي كانت خارجة في غربيه، واتخذ هناك أخلية لمن يريد الطهارة، وجعل بعضها بالسطح، فعمّ النفع بذلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 واحتفر بئرا خارجه بجهة المغرب أيضا يرتفق بها المارة، وذلك في شهر جمادى الأولى سنة تسعين وثمانمائة على يد الشجاعي شاهين الجمالي شيخ الحرم الشريف النبوي، وشاد عمائره، عظم الله شأنه. وأعلم أن القبر الذي بالمشهد عند رجلي سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه قبر رجل تركي اسمه سنقر، كان متولي عمارة المشهد، والقبر الذي بصحن المسجد قبر بعض أمراء المدينة من الأشراف، فلا يظن أنهما من قبور الشهداء رضوان الله عليهم، وسيأتي في قبر حمزة رضي الله تعالى عنه أنه ينبغي أن يسلم معه على مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش؛ لما سيأتي فيه. مشهد مالك بن سنان الخدري ثانيها: مشهد مالك بن سنان، والد أبي سعيد الخدري، في غربي المدينة ملاصقا للسور، وسيأتي ما جاء فيه في الفصل بعده، وعليه قبة قديمة البناء بها محراب، وعن يمينه باب خزانة صغيرة فيها بناء أصغر من صفة القبور يظن الناس أنه محل القبر، والظاهر أن القبر بالقبة المذكورة، لما سيأتي في ذكر من قيل إنه نقل من شهداء أحد من قول ابن أبي فديك إنه بالمسجد الذي عند أصحاب العباء في طرف الحناطين، لكن في رواية ابن زبالة أنه دفن عند مسجد أصحاب العباء: أي الذين يبيعون العبي، وذلك المحل من سوق المدينة القديم. مشهد النفس الزكية ثالثها: المشهد المعروف بالنفس الزكية، وهو السيد الشريف الملقب بالمهدي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضوان الله تعالى عليهم، قتل في أيام أبي جعفر المنصور، وهذا المشهد شرقي جبل سلع، وعليه بناء كبير بالحجارة السود، قصدوا أن يبنوا عليه قبة فلم يتفق، وهو داخل مسجد كبير مهجور، وفي قبلة المسجد منهل من عين الأزرق مدرج من شرقيه وغربيه. والعين تجري في وسطه، وتقدم في سوق المدينة أن ابن زبالة عبر عن ذلك ببركة السوق، ولعل ذلك المسجد هو المنسوب إلى الأعرج كما تقدم في مصلى العيد. وما ذكرناه من كون النفس الزكية بهذا المشهد ذكره المطري ومن تبعه، وهو المستفيض بين أهل المدينة، لكنه مخالف لما ذكره سبط ابن الجوزي في رياض الأفهام، فإنه ذكر خروجه على المنصور بعد حبسه لأبيه وأقاربه، فبايعه كثير من الناس، قال: فجهز إليه المنصور عيسى بن موسى عم المنصور في أربعة آلاف، فجاء ووقف على سلع وقال: يا محمد، لك الأمان، فصاح به: والله ما تفوز، والموت في عزّ خير من الحياة في ذل، فاغتسل هو ومن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 بقي من أصحابه وتحنّطوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر وحملوا على عيسى وأصحابه، فهزموا ثلاثا، ثم تكاثروا عليهم فقتلوهم، وأتوا عيسى بن موسى برأس محمد. ووارت أخته زينب وابنته فاطمة جسده بالبقيع، وكان قتله عند أحجار الزيت، وكان معه ذو الفقار سيف عليّ رضي الله تعالى عنه، فأخذه عيسى بن موسى، ثم انتقل إلى الرشيد. قال الأصمعي: أنا رأيته، وفيه ثماني عشرة فقارة، اه وقال محمد- أعني النفس الزكية- في يوم قتالهم لعبد الله بن عامر السلمي: تغشانا سحابة، فإن أمطرتنا ظفرنا، وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمي عند أحجار الزيت. قال عبد الله: فو الله لقد أظلتنا سحابة فلم تمطرنا، وتجاوزتنا إلى عيسى بن موسى وأصحابه، فظفروا، وقتلوا محمدا، ورأيت دمه عند أحجار الزيت، وبسبب محمد هذا ضرب عيسى بن موسى الإمام مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه، نقل ذلك المقريزي. الفصل السابع في فضل أحد والشّهداء به الأحاديث الواردة في فضل أحد روينا في الصحيحن وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد لما بدا له: هذا جبل يحبنا ونحبه. وفي رواية للبخاري بيان أن ذلك كان عند القدوم من خيبر، ولفظ رواية ابن شبة عنه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، فلما بدا لهم أحد قال، الحديث. وفي رواية له عن سويد الأنصاري قال. قفلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر، فلما بدا له أحد قال: الله أكبر، جبل يحبنا ونحبه. ورواه أحمد والطبراني برجال الصحيح إلا عقبة بن سويد، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا. وفي فضائل المدينة للجندي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم «طلع أحدا فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه» وفي رواية له «طلع علينا أحدا» وفي رواية أخرى للبخاري أن ذلك كان في رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحج. وفي رواية عن أبي حميد الساعدي قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، فلما أشرفنا على المدينة قال: «هذه طابة، وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه» ورواه ابن شبة أيضا. وفي رواية له قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من منزله، حتى إذا كنا بغرابات نظر إلى أحد فكبر ثم قال «جبل يحبنا ونحبه، جبل سائر ليس من جبال أرضنا» . وروى أيضا بإسناد جيد عن أبي قلابة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء من سفر فبدا له أحد قال: هذا جبل يحبنا ونحبه، ثم قال: آيبون نائبون ساجدون لربنا حامدون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وروى أيضا عن أبي هريرة قال: لما قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر بدا لنا أحد، فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه، إن أحدا هذا لعلي باب من أبواب الجنة. وروى الطبراني في الكبير والأوسط عن أبي عبس بن جبر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأحد: هذا جبل يحبنا ونحبه، على باب من أبواب الجنة، وهذا غير جبل يبغضنا ونبغضه، على باب من أبواب النار. وفي الأوسط- وفيه كثير بن زيد: تكلم فيه، ووثّقه أحمد وغيره من حديث أنس بن مالك مرفوعا «أحد جبل يحبنا ونحبه، فإذا جئتموه فكلوا من شجره ولو من عضاهه» ورواه ابن شبة بلفظ «أحد على باب من أبواب الجنة، فإذا مررتم به فكلوا من شجره، ولو من عضاهه» . وروى أيضا عن زينب بنت نبيط، وكانت تحت أنس بن مالك، أنها كانت ترسل ولائدها فتقول: اذهبوا على أحد فأتوني من نباته، فإن لم تجدن إلا عضاها فأتني به، فإن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «هذا جبل يحبنا ونحبه» قالت زينب: فكلوا من نباته ولو من عضاهه، قال: فكانت تعطينا منه قليلا قليلا فنمضغه. وعن رافع بن خديج قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتشّ أحد إلا يوما بيوم. وعن داود بن الحصين مرفوعا «أحد على ركن من أركان الجنة، وعير على ركن من أركان النار» . وعن إسحاق بن يحيى بن طلحة مرسلا رفعه «أحد وورقان وقدس ورضوى من جبال الجنة» . وروى أبو يعلى والطبراني في الكبير عن سهل بن سعد مرفوعا «أحد ركن من أركان الجنة» . وفي الكبير أيضا عن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أربعة أجبال من أجبال الجنة، وأربعة أنهار من أنهار الجنة، وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة، قيل: فما الأجبال؟ قال: أحد يحبنا ونحبه جبل من جبال الجنة، وورقان جبل من جبال الجنة، والطور جبل من جبال الجنة، ولبنان جبل من جبال الجنة، والأنهار الأربعة النيل والفرات وسيحان وجيحان، والملاحم بدر وأحد والخندق وحنين» . ورواه ابن شبة مختصرا، وروى عن أبي هريرة نحوه، وقال فيه: وسكت عن الملاحم، وعن أبي هريرة أيضا قال: خير الجبال أحد والأشعر وورقان. ونقل الحافظ ابن حجر اختلاف الروايات في الأجبل التي بنى منها البيت الحرام، وفي بعضها أنه أسس من ستة أجبل: أبي قبيس، والطور، وقدس، وورقان، ورضوى، وأحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 وروى ابن شبة عن أنس بن مالك مرفوعا «لما تجلّى الله عز وجل للجبل طارت لعظمته ستة أجبل، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، وقع بالمدينة أحد وورقان ورضوى، ووقع بمكة حراء وثبير وثور» . موقع أحد من المدينة المنورة قال أبو غسان راويه: فأما أحد فبناحية المدينة على ثلاثة أميال منها في شاميها، وأما ورقان فبالروحاء من المدينة على أربعة برد، وأما رضوى فبينبع على مسيرة أربع ليال، وأما حراء فبمكة وجاه بئر ميمون، وثور أسفل مكة هو الذي اختفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غاره. قلت: ولم يبين ثبيرا، وما ذكره من المسافة إلى أحد يقرب مما حررته، فإني ذرعت ما بين عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب جبريل وبين المسجد الملاصق لجبل أحد المعروف بمسجد الفتح فكان ذلك ثلاثة أميال وزيادة خمسة وثلاثين ذراعا، وأما ما بين باب المدينة المعروف بباب البقيع وبين أول جبل أحد فميلان وأربعة أسباع ميل يزيد يسيرا، وبين باب البقيع ومشهد سيدنا حمزة ميلان وثلاثة أسباع ميل وخمس سبع ميل، وأذرع يسيرة، وقد علم بذلك التسامح الذي في قول النووي في تهذيبه: أحد بجنب المدينة على نحو ميلين، وكذا قول المطري ومن تبعه: بين مشهد حمزة والمدينة ثلاثة أميال ونصف أو ما يقاربه، وإلى جبل أحد نحو أربعة أميال، وقيل: دون الفرسخ، انتهى. وجه تسمية أحد وحبه وقال السهيلي: سمي هذا الجبل أحدا لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، ولما وقع من أهله من نصر التوحيد. وللعلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم «يحبنا ونحبه» أقوال: أحدها: أنه على حذف مضاف، أي أهل أحد، وهم الأنصار؛ لأنهم جيرانه. ثانيها: أنه للمسرة بلسان الحال؛ لأنه كان يبشره إذا رآه عند القدوم بالقرب من أهله، وذلك فعل المحب. ثالثها: أن الحب من الجانبين على الحقيقة، وأنه وضع فيه الحبّ كما وضع في الجبال المسبحة مع داود، وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال الله فيها وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: 74] سيما وقد جاء أنه طار من الجبل الذي تجلى الله عز وجل له كما سبق، وهذا الثالث هو الذي صححه النووي، وقال الحافظ ابن حجر: إن الظاهر أن ذلك لكونه من جبال الجنة، كما ثبت في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعا «جبل أحد يحبنا ونحبه، وهو من جبال الجنة» أخرجه أحمد، ولا مانع في جانب الجبل من إمكان المحبة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 كما جاز التسبيح منها، وقد خاطبه صلى الله عليه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب «اسكن أحد» الحديث. وقال الحافظ المنذري: قال البغوي: الأولى إجراء الحديث على ظاهره، ولا ينكر وصف الجمادات بحب الأنبياء وأهل الطاعة كما حنّت الأسطوانة لمفارقته صلى الله عليه وسلم حتى سمع القوم حنينها، وكما أخبر أن حجرا كان يسلم عليه صلى الله عليه وسلم قبل الوحي؛ فلا ينكر أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبه وتحنّ إلى لقائه، قال المنذري: وهو جيد. قلت: ويرجحه قوله في الحديث المتقدم «فإذا جئتموه فكلوا من شجره» فإن عيرا يجاوره أهل قباء، ويظهر للقادم من جهة مكة قبل أحد، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وقال السهيلي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، والاسم الحسن، ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية، ومع ذلك فحركاته الرفع، وذلك مشعر بارتفاع دين الأحد، فتعلق الحب به من النبي صلى الله عليه وسلم لفظا ومعنى، فخص بذلك. وليضف إليه أن المحبة لما تعلقت من الجانبين، وكان المرء مع من أحب، كان هذا الجبل معه صلى الله عليه وسلم في الجنة إذا بسّت الجبال بسا. وأيضا لما انقسم أهل المدينة إلى محب موحّد وهم المؤمنون وإلى منافق مبغض وهم الجاهلون الجاحدون كأبي عامر الراهب وغيره من المنافقين، وكانوا ثلث الناس يوم أحد رجعوا مع ابن أبي ولم يحضروا أحدا؛ انقسمت بقاع المدينة كذلك، فجعل الله تعالى هذا الجبل حبيبا محبوبا كمن حضر به، وجعله معه في الجنة، وخصه بهذا الاسم، وجعل عيرا مبغوضا إن صح الحديث فيه، وجعل بجهته المنافقين من أهل مسجد الضرار فرجعوا من جهة أحد إلى جهته فكان معهم في النار، وخصه باسم العير الذي هو الحمار المذموم أخلاقا وجهلا، والله أعلم. وروى ابن شبة كما سبق في سكنى اليهود بالمدينة عن جابر بن عبد الله مرفوعا: خرج موسى وهارون عليهما السلام حاجّين أو معتمرين، حتى إذا قدما المدينة خافا اليهود فنزلا أحدا وهارون مريض، فحفر له موسى قبرا بأحد، وقال يا أخي ادخل فيه فإنك ميت، فدخل فيه، فلما دخل قبضه الله، فحثا موسى عليه التراب. زعموا أن هارون مدفون بأحد قلت: بأحد شعب يعرف بشعب هارون، يزعمون أن قبر هارون عليه السلام في أعلاه، وهو بعيد حسا ومعنى، وليس ثم ما يصلح للحفر وإخراج التراب. وفي أعلى أحد بناء اتخذه بعض الفقراء قريبا والناس يصعدون إليه، ولم يرد تعيين المحل الذي صعده النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، نعم ورد صلاته بالمسجد الملاصق به المعروف بمسجد الفتح كما سبق في المساجد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 مزاعم في مواضع من جبل أحد وقال ابن النجار: وفي جبل أحد غار يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم اختفى فيه، ومسجد يذكرون أنه صلى الله عليه وسلم فيه، وموضع في الجبل أيضا منقور في صخرة منه على قدر رأس الإنسان يذكرون أنه صلى الله عليه وسلم قعد- يعني على الصخرة التي تحته- وأدخل رأسه هناك، كل هذا لم يرد به نقل فلا يعتمد عليه. قلت: أما المسجد فقد ثبت النقل به من رواية ابن شبة كما سبق، لكن لم يقف عليه ابن النجار. وأما الغار فقال المطري: إنه في شماليّ هذا المسجد، والموضع المنقور والصخرة التي تحته بقرب المسجد، وروى ابن شبة عن المطلب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الغار بأحد. وسيأتي في ترجمة المهراس قول ابن عباس: ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كان تحت المهراس، ومقتضاه أن الغار بعد المهراس، وسيأتي في ترجمة شعب أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى يوم أحد إلى فم الشعب وأسند فيه. قال ابن هشام: وبلغني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الدرجة المبنيّة في الشعب، انتهى. وكأن من بناها ظن أن الصخرة التي نهض النبي صلى الله عليه وسلم ليعلوها، وجلس له طلحة بن عبيد الله كانت هناك، ولهذا أورده ابن هشام عند ذكرها. شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لشهداء أحد وروى يحيى أنه لما انكشف الناس يوم أحد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير فقال مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ إلى قوله وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] اللهم إن عبدك ونبيك يشهد أن هؤلاء شهداء، فأتوهم وسلموا عليهم، فلن يسلم عليهم أحد ما قامت السموات والأرض إلا ردّوا عليه، ثم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفا آخر فقال: هؤلاء أصحابي الذين أشهد لهم يوم القيامة، فقال أبو بكر: فما نحن بأصحابك؟ فقال: بلى، ولكن لا أدري كيف تكونون بعدي، إنهم خرجوا من الدنيا خماصا. ورواه الثعلبي المفسر إلا أنه قال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد مرّ على مصعب بن عمير، فوقف عليه، ودعا له، ثم قرأ، وذكر الآية وما بعدها بنحوه، إلى قوله ثم وقف. وروى أبو داود والحاكم في صحيحه حديث «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يكلوا عن الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آل عمران: 169] الآية» . وفي صحيح البخاري حديث «صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض» . وروى ابن شبة وأبو داود عن طلحة بن عبيد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نريد قبور الشهداء، حتى إذا أشرفنا على حرّة واقم، فلما تدلينا منها فإذا قبور بمحنية، فقلنا: يا رسول الله، أقبور إخواننا هذه؟ قال: قبور أصحابنا، فلما جئنا قبور الشهداء قال: هذه قبور إخواننا. زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه قبور الشهداء على رأس كل حول وروى ابن شبة عن عباد بن أبي صالح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قبور الشهداء بأحد على رأس كل حول فيقول: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، قال: وجاءها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، رضي الله تعالى عنهم، فلما قدم معاوية بن أبي سفيان حاجا جاءهم، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا واجه الشعب قال: سلام عليكم بما صبرتم فنعم أجر العاملين. وعن أبي جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تزور قبر حمزة رضي الله تعالى عنه ترمّه وتصلحه، وقد تعلمته بحجر. وروى رزين عنه أن فاطمة رضي الله تعالى عنها كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة. ورواه يحيى بنحوه عن أبي جعفر عن أبيه علي بن الحسين، وزاد: فتصلي هناك وتدعو وتبكي حتى ماتت. وروى الحاكم عن علي رضي الله تعالى عنه أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده. وروى ابن شبة عن ابن عمر أنه قال: من مر على هؤلاء الشهداء فسلّم عليهم لم يزالوا يردون عليه إلى يوم القيامة. وروى يحيى عن العطاف بن خالد قال: حدثتني خالة لي- وكانت من العوابد- قالت: ركبت يوما معي غلام حتى جئت إلى قبر حمزة، فصليت ما شاء الله، ولا والله ما في الوادي داع ولا مجيب يتحرك، وغلامي قائم آخذ برأس دابتي، فلما فرغت من صلاتي قمت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 فقلت: السلام عليكم، وأشرت بيدي فسمعت رد السلام عليّ من تحت الأرض، أعرفه كما أعرف أن الله خلقني، واقشعرت كل شعري مني، فدعوت الغلام فقلت: هات دابتي، فركبت. وروى البيهقي في الدلائل من طريق العطاف بن خالد عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم «زار قبور الشهداء بأحد، فقال: اللهم إن عبدك ونبيك يشهد أن هؤلاء شهداء، وأنهم من زارهم أو سلّم عليهم إلى يوم القيامة ردوا عليه» . وقال العطاف: وحدثتني خالتي أنها زارت الشهداء فسلمت عليهم، فسمعت رد السلام، وقالوا: والله إنا نعرفكم كما يعرف بعضنا بعضا، قالت: فاقشعررت. وذكر البيهقي أيضا رواية يحيى، وأن الواقدي قال: كانت فاطمة الخزاعية تقول: لقد رأيتني وغابت الشمس بقبور الشهداء ومعي أخت لي، فقلت لها: تعالي نسلم على قبر حمزة، فوقفنا على قبره، فقلنا: السلام عليكم يا عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا كلاما رد علينا: وعليكم السلام ورحمة الله، قالت: وما قربنا أحد من الناس. ثم روى البيهقي عن هاشم بن محمد العمري من ولد عمر بن عليّ قال: أخذني أبي بالمدينة إلى زيارة قبور الشهداء في يوم جمعة بين الفجر والشمس، فكنت أمشي خلفه، فلما انتهى إلى المقابر رفع صوته فقال: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، قال: فأجيب وعليك السلام يا أبا عبد الله، فالتفت أبي إليّ فقال: أنت المجيب؟ فقلت: لا، فجعلني على يمينه، ثم أعاد السلام، ثم جعل كلما سلم يرد عليه، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فخرّ ساجدّا شكرا لله تعالى. تسمية شهداء أحد وقد تقدم في غزوة أحد أن الذين أكرمهم الله بالشهادة يومئذ سبعون رجلا، وقيل: أكثر، وقيل: أقلّ، وقد سرد ابن النجار أسماءهم فتبعته ليسّلم عليهم من شاء بأسمائهم، فقال: حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وشمّاس بن عثمان، هؤلاء الأربعة من المهاجرين. ومن الأنصار: عمرو بن معاذ بن النعمان، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن، وسلمة بن ثابت بن وقش، وعمرو بن ثابت بن وقش، وثابت بن وقش، ورفاعة بن وقش، وحسيل بن جابر، وهو اليمان أبو حذيفة، وصيفي بن قيظي بن عمرو، والحباب بن قيظي، وعباد بن سهل، والحارث بن أوس بن معاذ، وإياس بن أوس بن عتيك، وعبيد بن التيهان، ويقال عتيك، وحبيب بن زيد بن تيم، ويزيد بن حاطب بن أمية ابن رافع، وأبو سفيان بن الحارث بن قبس بن زيد، وأنيس بن قتادة، وحنظلة الغسيل ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 أبي عامر، وأبو حبة بن عمرو بن ثابت أخو سعد بن خيثمة لأمه، وعبيد الله بن جبير بن النعمان وخيثمة أبو سعد بن خيثمة، وعبد الله بن مسلمة، وسبيع بن حاطب بن الحارث، وعمرو بن قيس بن زيد، وابنه قيس بن عمرو، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد، وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة، وعمرو بن مطرف بن علقمة، وأوس بن ثابت بن المنذر أخو حسّان بن ثابت، وأنس بن النضر، وقيس بن مخلد، وكيسان مولى بني النجار، وسليم بن الحارث، ونعمان بن عبد عمرو، وخارجة بن زيد، وسعد بن الربيع، وأوس بن الأرقم بن زيد، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وسعد بن سويد بن قيس، وعلبة بن ربيع بن رافع، وثعلبة بن سعد بن مالك، ونقيب بن فروة بن البدن، وعبد الله بن عمرو بن وهب، وضمرة الجهني حليف لبني طريف. ونوفل بن عبد الله، وعباس بن عبادة بن نضلة ونعمان بن مالك بن ثعلبة، والمحذر بن زياد، وعبادة بن الحسحاس، ورفاعة بن عمرو، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح، وابنه خلاد، وأبو أيمن مولاه، وعبيدة بن عمرو بن حديدة، ومولاه عنترة، وسهل بن قيس بن أبي كعب، وذكوان بن عبد قيس، وعبيد بن المعلى بن لوذان، ومالك بن نميلة، والحارث بن عدي بن خرشة، ومالك بن إياس، وإياس بن عديّ، وعمرو ابن إياس. فهؤلاء الشهداء السعداء الذين صدقوا القتال بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوا وقتلوا، رضوان الله عليهم أجمعين. ولنذكر ما علمناه من خبر قبورهم وتعيينها، فنقول: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ومصرعه قبر حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذكر أنه معه ... أخرج البخاري أن وحشيّا قال في خبر: فلما خرج الناس عام عينين، وعينين جبل بحيال أحد بينه وبينه واد، خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحادّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ ثم شدّ عليه فكان كأمس الذاهب، قال: وكمنت لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين وركيه، فكان ذلك آخر العهد به، ثم ذكر مجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم- يعني لما أسلم- وقوله له: أنت قتلت حمزة؟ قال: قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: فهل تستطيع أن تغيّب وجهك عني؟ وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة رضي الله تعالى عنه، وقد مثل به، جدع أنفه وأذناه وبقر بطنه عن كبده، فقال صلى الله عليه وسلم: «لولا أن تحزن صفية ويكون سنة من بعدي لتركته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ إليّ من هذا، ثم قال: جاءني جبريل وأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السّبع «حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله: وأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم فسجّي ببردة ثم صلى عليه فكبّر عليه سبعين ودفنه. واختلاف الروايات في الصلاة على شهداء أحد مشهور، والذي في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحد قدّمه في اللحد، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلّ عليهم ولم يغسلوا. ونقل ابن شبة عن عبد العزيز عن ابن سمعان عن الأعرج قال: لما قتل حمزة رضي الله تعالى عنه أقام في موضعه تحت جبل الرّماة، وهو الجبل الصغير الذي ببطن الوادي الأحمر، ثم أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فحمل عن بطن الوادي إلى الرّبوة التي هو بها اليوم، وكفنه في بردة، وكفن مصعب بن عمير في أخرى، ودفنهما في قبر واحد. قال عبد العزيز: وسمعت من يذكر أن عبد الله بن جحش بن رئاب قتل معهما، ودفن معهما في قبر واحد، وهو ابن أخت حمزة أمّه أميمة بنت عبد المطلب. قال عبد العزيز: والغالب عندنا أن مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش دفنا تحت المسجد الذي بني على قبر حمزة، وأنه ليس مع حمزة أحد في القبر. قلت: ينبغي أن يسلم عليهما مع حمزة بمشهده؛ لأنهما إن لم يكونا معه فبقربه، ولعل المشهد اليوم أوسع من ذلك المسجد، وسبق في المساجد ذكر المسجد الذي بمصرع حمزة رضي الله تعالى عنه، والمسجد الذي في جهة قبلته بطرف جبل الرّماة، وما جاء فيهما. عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام قبر عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله، ومن ذكر معهما. روى مالك بن أنس عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم السّلميين كانا في قبر واحد، وكانا ممن استشهد يوم أحد، وكان قبرهما مما يلي السيل، فحفر عنهما ليغيرا عن مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين يوم أحد ويوم حفر عنهما ست وأربعون سنة. وقال مالك: إن عمرو بن الجموع وعبد الله بن عمرو كفنا في كفن واحد وقبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 واحد، رواه ابن شبة، ثم روى بسند جيد عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: دفن مع أبي رجل يوم أحد في القبر فلم تطب نفسي حتى أخرجته فدفنته على حدة. قلت: يحتمل أن سبب الإخراج ما تقدّم من أمر السيل، ووافق ذلك ما في نفس جابر؛ فتكون القصة واحدة، لكن روى البخاري في صحيحه خبر جابر مطولا، وفيه ما لفظه «قال: ودفنت معه آخر في قبره، فلم تطب نفسي أن أتركه مع أحد، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير هنية عند أذنه» . فقوله: «بعد ستة أشهر» يقتضي أن ذلك ليس هو قصة أمر السيل؛ لأن المدة في تلك ست وأربعون سنة. وروى ابن شبة عن جابر أيضا قال: صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين، فأتيناهم فأخرجناهم رطابا تتثنّى أجسادهم، قال سعيد بن عامر أحد رواته: وبين الوقتين أربعون سنة. وقال ابن إسحاق: حدثني أبي عن رجال من بني سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- حين أصيب عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو يوم أحد- اجمعوا بينهما؛ فإنهما كانا متصافيين في الدنيا، قال أبي: فحدثني أشياخ من الأنصار قالوا: لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء استصرخنا عليهم، وقد انفجرت العين عليهما في قبورهما، فجئنا فأخرجناهما وعليهما بردتان قد غطّى بهما وجوههما، وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنيان تثنيا كأنهما دفنا بالأمس، نقله البيهقي في دلائل النبوة. وعن جابر من حديث طويل قال: فبينا أنا في النظارين إذا جاءت عمّتي بأبي وخالتي عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا إذ لحق رجل ينادي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمركم أن ترجعوا بالقتلى، فيدفنوا في مصارعهم حيث قتلوا، فرجعناهما، فدفنّاهما حيث قتلا، فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال: يا جابر، لقد أثار أباك عمال معاوية، فخرج طائفة منه، فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتال، فواريته، الحديث، رواه أحمد برجال الصحيح خلا نبيح الغنوي وهو ثقة. قلت: فهذه قصة ثالثة؛ فيؤخذ من مجموع ذلك أن جابرا حفر عن أبيه ثلاث مرات: الأولى: لعدم طيب نفسه بدفنه مع غيره، ولعله استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأذن له؛ لما يترتب عليه من ظهور ما يشهد لحياة الشهداء وسلامة أبدانهم، وكان دفنهم مجتمعين للضرورة واتساع الوقت ففعله، وكأنه لما أخرجه دفنه بإزاء قبر صاحبه وصهره محافظة على القرب من مصرعه، فقد جاء الأمر بدفنهم في مصارعهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 والثانية: لما أجرى معاوية رضي الله تعالى عنه العين، وكان في ذلك أيضا ظهور المعجزة بحياة الشهداء، فقد أسند ابن الجوزي في مشكله عن جابر قال: صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية رضي الله تعالى عنه العين، فأخرجناهم بعد أربعين سنة تتثنّى أطرافهم لينة أجسادهم، وفي بعض طرقه: كأنهم نوّم، حتى أصابت المسحاة قدم حمزة بن عبد المطلب فانبعث دم. والثالث: لحفر السيل عنه وعن صاحبه. وقد روى الواقدي أن قبرهما كان مما يلي السيل، فحفر عنهما وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرح في يده فيده على جرحه فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم، فردت إلى مكانها فسكن الدم، قال جابر: فرأيت أبي في حفرته فكأنه نائم، وبين ذلك ست وأربعون سنة. قال: ويقال: إن معاوية لما أراد أن يجري الكظامة نادى مناديه بالمدينة: من كان له قتيل بأحد فليشهد، فخرج الناس إلى قتلاهم، فوجدوهم رطابا يثنون، فأصابت المسحاة رجل رجل منهم فانبعث دم، فقال أبو سعيد الخدري: لا ينكر بعد هذا منكر، ووجد عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبر واحد فنقلا، وذلك أن القناة كانت تمر على قبرهما، ولقد كانوا يجهزون التراب فحفروا ثره من تراب فاح عليهم ريح المسك. قلت: وفيه مخالفة لما تقدم عن الصحيح؛ لاقتضائه بقائهما في قبر واحد حتى كان إجراء العين، وفي ذلك كله ظهور المعجزة، وهو السر في تكرر ذلك. وروى ابن شبة عن أبي قتاة قال: أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن قاتلت حتى أقتل في سبيل الله تراني أمشي برجلي هذه في الجنة؟ قال: نعم، وكانت عرجاء، فقتل يوم أحد هو وابن أخيه، فمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كأني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد. قال أبو غسان: قال الواقدي: مع عمرو في القبر خارجة بن زيد، وسعد بن الربيع، والنعمان بن مالك، وعبد الله بن الحسحاس، قال أبو غسان: وقبرهم مما يلي المغرب من قبر حمزة رضي الله تعالى عنه نحو خمسمائة ذراع. قال: وأما ما يعرف اليوم من قبور الشهداء فقبر حمزة بن عبد المطلب، وهو في عدوة الوادي الشامية مما يلي الجبل، وقبر عبد الله بن حرام أبي جابر ومعه عمرو بن الجموح أي في الموضع المتقدم وصفه، وقبر سهل بن قيس بن أبي كعب بن القين بن كعب بن سواد من بني سلمة وهو دبر قبر حمزة شاميا بينه وبين الجبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 قال: فأما القبور التي في الحظار بالحجارة بين قبر حمزة وبين الجبل فإنه بلغنا أنها قبور أعراب أقحموا زمن خالد إذ كان على المدينة فماتوا هناك فدفنهم، سؤّال كانوا يسألون عند قبور الشهداء. قال: وقال الواقدي: هم ماتوا زمن الرّمادة. قلت: زمن الرمادة عام جدب مشهور، كان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وأما زمن خالد فيعني به خالد بن عبد الملك بن الحارث، كان واليا لهشام بن عبد الملك فقحط المطر في ولايته سبع سنين، وفيها جلا الناس من بادية الحجاز إلى الشام، ولا يعرف اليوم من قبور الشهداء غير قبر حمزة رضي الله تعالى عنه كما قاله ابن النجار. قال: وأما بقية الشهداء فهناك حجارة مرصوصة يقال: إنها قبورهم. قلت: ينبغي أن يسلم على بقيتهم عند قبر حمزة وفي غربيه وشاميه على النحو المتقدم. وقال المطري ومتابعوه: وشمالي مشهد حمزة رضي الله تعالى عنه آرام من حجارة يقال: إنها من قبور الشهداء، ولم يثبت ذلك بنقل صحيح. وقد ورد في بعض كتب المغازي أن هذه القبور قبور أناس ماتوا عام الرّمادة، ولا شك أن قبور الشهداء رضي الله تعالى عنهم حول قبر حمزة؛ إذ لا ضرورة أن يبعدوا عنه، انتهى. قلت: قد تقدم النقل ببعد بعضهم عنه على نحو خمسمائة ذراع في المغرب، والمقتضى للبعد الأمر بدفنهم في مصارعهم، والقبور التي قيل إنها ليست قبورهم هي التي عليها حائز قصير من الأحجار قرب الجبل. من دفن بالمدينة من قتلى أحد ذكر قبور من قيل إنه نقل من شهداء أحد ودفن بقبره قال ابن إسحاق: وكان ناس من المسلمين قد احتملوا قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: ادفنوهم حيث صرعوا. وتقدم في فصل مقبرة بني سلمة ما روى من دفن بعض قتلى أحد بها، منهم أبو عمرو بن سكن. وتقدم في فصل قبل هذا أن خنيس بن حذافة تأخرت وفاته فمات بالمدينة، ودفن عند عثمان بن مظعون. وروى ابن شبة عن عبد الرحمن بن عمران عن أبيه قال: نقلنا عبد الله بن سلمة والمحذر بن زياد فدفناهما بقباء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 وقال عبد العزيز: إن رافع بن مالك الزرقي قتل بأحد فدفن في بني زريق، قال: وقيل: إن موضع قبره في دار آل نوفل بن مساحق التي في بني زريق التي في كتّاب عروة. وعن أبي سعيد الخدري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل من شهداء أحد إلى المدينة أن يدفنوا حيث أدركوا، فأدرك أبي مالك بن سنان عند أصحاب العباء فدفن، ثم قال ابن أبي فديك: فقبره في المسجد الذي عند أصحاب العباء في طرف الحناطين. ورواه ابن زبالة بنحوه، إلا أنه قال: فوافوه بالسوق، فدفن مالك عند مسجد أصحاب العباء، وهناك أحجار الزيت. قلت: وقد قدمنا بيان مشهده في المشاهد، ولكن روى الترمذي وقال حسن صحيح عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم، فجاءنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرنا بدفن القتلى في مصارعهم، فرددناهم، وليحمل على من لم يبلغوا به المدينة، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 الباب السادس في آبارها المباركات، والعين، والغراس، والصّدقات التي هي للنبي صلى الله عليه وسلم منسوبات، وما يعزى إليه صلى الله عليه وسلم من المساجد، والمواضع التي صلّى فيها في الأسفار والغزوات، وفيه خمسة فصول: الفصل الأول في آبارها المباركات ورتبتها على حروف المعجم، معتمدا للأول فالأول من الاسم الذي تضاف إليه البئر، وختمته بتتمة في العين المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والعين الموجودة اليوم، وغيرهما: بئر أريس- بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وإهمال آخره- نسبة إلى رجل من يهود يقال له أريس، ومعناه بلغة أهل الشام الفلّاح. روينا في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه توضأ في بيته، ثم خرج فقال: لألزمنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأكوننّ معه يؤمى هذا، فجاء إلى المسجد، فسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: خرج، وجّه هاهنا، قال: فخرجت على أثره أسأل عنه، حتى دخل بئر أريس، قال: فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسّط قفها «1» وكشف عن ساقيه ودلّاهما في البئر، قال: فسلمت عليه، ثم انصرفت فجلست عند الباب، فقلت: لأكوننّ بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فدفع الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رسلك، قال: ثم ذهبت فقلت يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، قال: فأقبلت حتى قلت لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، قال: فدخل أبو بكر وجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلّى رجليه في البئر كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وقلت: هذا عمر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فجئت عمر فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، قال: فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلّى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست فقلت: إن يرد الله بفلان خيرا يعني أخاه يأت به، فجاء إنسان فحرّك   (1) القف: ما ارتفع من الأرض وصلبت حجارته. والمراد حائط البئر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، قال: وجئت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه، فجئت فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك، قال: فدخل فوجد القف قد ملئ، فجلس وجاههم من الشق الآخر، قال شريك: فقال سعيد بن المسيب: فأوّلتها قبورهم. قلت: وسيأتي في ترجمة الأسواق واقعة مثل هذه كان البواب فيها بلالا. وروى أحمد والطبراني من وجوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قصة نحوها أيضا كان هو البواب فيها، وقال: بحشّ من حشان المدينة، وبعض أسانيدها رجاله رجال الصحيح، ولا مانع من تعدد ذلك. وقد غاير رزين بين بئر أريس وبين البئر التي وقع الجلوس بقفها، فقال في ذكر الآبار المعروفة بالمدينة: بئر أريس التي سقط فيها الخاتم، وبئر القف التي أدلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أرجلهم فيها، وذكر بقية الآبار. وروينا في صحيح البخاري من حديث أنس قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده وفي يد أبي بكر بعده وفي يد عمر بعد أبي بكر، قال فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، فأخرج الخاتم، فجعل يعبث به، فسقط، فقال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان، فنزح البئر فلم نجده، وفي مسند الحميدي عن ابن عمر أنه سقط مع معيقيب، وثبت ذلك من روايته في صحيح مسلم. ورواه ابن زبالة عنه في الشك، فقال: فهو الخاتم الذي سقط من عثمان أو من معيقيب في بئر أريس. وروى عنه النسائي وابن شبة واللفظ له حديث اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه من الورق، ونقشه فيه «محمد رسول الله» وصيرورته في يد عثمان سنين من عمله، ثم قال فيه: فلما كثرت عليه الكتب دفعه إلى رجل من الأنصار فكان يختم به، فخرج إلى قليب لعثمان فوقع فيها، فالتمس فلم يوجد، فأمر بخاتم من ورق فعمل عليه، ونقش «محمد رسول الله» . ومعيقيب دوسي من أصحاب الهجرتين، لكن قد يوصف المهاجري بالأنصاري بالمعنى الأعم، والجمع بأن نسبة السقوط إلى عثمان رضي الله تعالى عنه محاذية لنيابة معيقيب عنه بعيد جدّا؛ لقوله في رواية البخاري السابقة «فأخرج الخاتم فجعل يعبث به فسقط» . وكان سقوطه بعد ست سنين من خلافته، وكان فيه سر مما كان في خاتم سليمان عليه الصلاة والسلام؛ لذهاب ملكه عند فقده، ولما فقد عثمان الخاتم انتقض عليه الأمر، وخرج عليه من خرج، وكان ذلك مبتدأ الفتنة المتصلة إلى آخر الزمان. وروى ابن زبالة عن ابن كعب القرظي قال: سقط- يعني الخاتم- من عثمان في بئر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 الخريف التي في بئر أريس، فعلّق عليها اثني عشر ناضحا فلم يقدر عليه حتى الساعة، فاقتضى أنه لم يكن في بئر أريس نفسها، ولهذا نقل ابن شبة عن ابن غسان سقوط الخاتم في بئر أريس وأنه قال: وقد سمعت من يقول: إنما سقط في بئر في صدقته يقال لها بئر خريف أي من آبار المال المسمى ببئر أريس؛ لأن ابن شبة قال أيضا: قال أبو غسان: ابتاع عثمان بئر أريس وفيها مال يقال له الدومة، ابتاعه من حي من الأنصار وفيه سهمه الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير، وفيها كيدمة مال لعبد الرحمن بن عوف، ثم روى أن عبد الرحمن بن عوف باع كيدمة من عثمان بأربعين ألف دينار، وأمر عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح فدفعها إليه، وأنه تصدق بها على أمهات المؤمنين وغيرهن. وفي رواية أن عبد الرحمن أوصى بكيدمة لأمهات المؤمنين، فبعنها من عبد الله بن سعد بن أبي سرح. ثم قال: قال أبو غسان: وأما أريس الذي نسب إليه المال فإن عبد العزيز بن عمران حدثني عن عنبس العقبي قال: أريس رجل من يهود بني محمم، وكان له ذلك المال، وفيه بئر عاضر التي يقول فيها اليهودي: أمرت بلالا أن يعلق دلوه ... على الأعليين اليوم من بئر عاضر فجمعها عثمان رضي الله تعالى عنه في حظار واحد، وهي سبعة أموال، فتصدق بها، قال: فحدث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن إبراهيم بن عبد الله بن فروخ عن أبيه عن جده قال: دخل علينا عثمان بئر أريس، وقد لفقنا له عذقا منها، فقال: ما هذا؟ فقلنا: لفقناه لك يا أمير المؤمنين، قال: إنما تصدّقت بها على ذوي القربى والفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل، حتى العافية عافية الطير والسباع، قال: وقد كان لصدقة عثمان رضي الله تعالى عنه فيما بلغني ذكر في حجر منقوش على باب بئر أريس فطرحه بعض ولاة المدينة في بئر من تلك الآبار، انتهى ما نقله ابن شبة عن أبي غسان ملخصا. وسيأتي في ترجمة كيدمة أنها سهم عبد الرحمن بن عوف من بني النضير، وأن بقرب المشرية والجرع المعروف بالحسينات موضع يعرف بكيادم بلفظ الجمع، والدومة معروفة اليوم بالعالية قرب بني قريظة، وبقربها موضع يعرف بالدويمة أيضا. وهذا يشكل على ما هو معروف اليوم، وبه صرح ابن النجار كالغزالي، وتبعه من بعده، من أن بئر أريس هي المقابلة لمسجد قباء في غربيه، ويزيد الإشكال قوة أن بني النضير وبني محمم لم يكونوا بقباء، بل بجهة الدومة المذكورة وما والاها، كما يعلم مما تقدم في المنازل. وكنت قد أجبت عن ذلك باحتمال أن يكون بعض أموالهم كان بقباء وأن يكون منها ما يسمى بالدومة وبكيدمة في تلك الجهة ثم نسي تسميته بذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 ثم رأيت في كلام ابن زبالة ما يردّ ذلك، ويزيد الإشكال قوة فإنه قال في صدقات النبي صلى الله عليه وسلم ما لفظه: وأما الدلال والصافية فإنهما يشربان من سرح عثمان بن عفان الذي يشقّ من مهزور في أمواله، يأتي على أريس وأسفل منه حتى يتبطّن السورين، فصرفه- أي عثمان رضي الله تعالى عنه- مخافة على المسجد في بئر أريس، ثم في عقد أريم في بلحارث بن الخزرج، ثم صرفه إلى بطحان، انتهى. والموضع المعروف بقباء لا يمكن وصول شيء من مهزور إليه، كما يعلم مما سيأتي في وصف وادي مهزور، فالله أعلم. من فضل بئر أريس قال المجد: ومما يذكر في فضل بئر أريس ما رويناه عن زيد بن خارجة أنه عاش بعد الموت وذكر أمورا: منها ما يدل على فضل هذه البئر، وسياق الخبر عن النعمان بن بشير قال: لما توفي زيد بن خارجة انتظر به خروج عثمان، فكشف الثوب عن وجهه وقال: السلام عليكم، قال: وأنا أصلّي، فقلت: سبحان الله، فقال: أنصتوا أنصتوا، محمد رسول الله، كان ذلك في الكتاب الأول، صدق صدق صدق، أبو بكر الصديق، ضعيف في جسده قوي في أمر الله كان ذلك في الكتاب الأول، صدق صدق صدق، عمر بن الخطاب، قوي في أمر الله كان ذلك في الكتاب الأول، صدق صدق صدق، عثمان بن عفان، اثنتان وبقي أربع، وأبيحت إلا حمى بئر أريس وماء بئر أريس. وقد رويت هذه القصة من وجوه عن النعمان بن بشير، ذكره الذهبي في التذهيب. قلت: رواها ابن شبة بنحوه، إلا أنه قال في آخرها: بئر أريس اختلف الناس، ارجعوا إلى خليفتكم فإنه مظلوم. وقال في رواية أخرى: ثم قال: أخذت بئر أريس، ثم خفت الصوت. وروى البيهقي في دلائل النبوة هذه القصة من وجوه، وقال في بعضها: إسناده صحيح، وفسر قوله «اثنتان» بأن ذلك كان بعد مضي سنتين من خلافة عثمان، والأربع البواقي من خلافته، والأمر في بئر أريس سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بعد ست سنين من خلافة عثمان، فعند ذلك تغيرت علمه، وظهرت أسباب الفتن، انتهى. قال المجد: وفي الإحياء للغزالي أن النبي صلى الله عليه وسلم «تفل في بئر أريس» ولم أجد ذلك عند غيره، وأعاد المجد ذكر بئر أريس في ترجمة قباء وقال: إنها التي تفل فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم فعذبت بعد أن كان ماؤها أجاجا، ولم ينسبه للغزالي، وهو في ذلك متابع لابن جبير في رحلته. وقال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: إنه لم يقف على أصل الحديث في تفله صلى الله عليه وسلم في بئر أريس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 قلت: ومن الغريب قول ابن جماعة في مناسكه الكبرى في باب الفضائل «فضل بئر أريس: قد صحّ أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل فيها، وأنه سقط فيها خاتمه» انتهى. وخرج البيهقي من حديث إبراهيم بن طهمان عن يحيى بن سعيد أنه حدثه أن أنس بن مالك رضي الله عنه أتاهم بقباء يسأله عن بئر هناك، فدللته عليه، فقال: لقد كانت هذه وإنّ الرجل لينضح على حماره فتنزح فيستخرجها له، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بذنوب فسقي، فإما أن يكون توضأ منه أو تفل فيه، ثم أمر به فأعيد في البئر، فما نزحت بعد، فرأيته صلى الله عليه وسلم بال ثم جاء فتوضأ ومسح على خفّيه ثم صلّى، لكن سيأتي في بئر غرس ما يبين أنها المرادة بذلك، ولم يعد ابن شبة ولا ابن زبالة بئر أريس في الآبار التي كان استقى منها للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكرها ابن شبة في صدقة عثمان، وذكر سقوط الخاتم فيها مع ما تقدم. وهذه البئر المعروفة اليوم بقباء من أعذب آبار المدينة. ذرع بئر أريس وذكر ابن النجار أنه ذرع طولها فكان أربعة عشر ذراعا وشبرا، منها ذراعان ونصف ماء، وعرضها خمسة أذرع، قال: وطول قفها الذي جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه ثلاثة أذرع تشف كفا، قال: وهي تحت أطم عال، خراب من جهة القبلة، وقد بنى في أعلاه مسكن. قال المطري، عقب ذكره أن ذلك المسكن يسكنه من يقوم بالحديقة ويخدم مسجد قباء. قلت: وهو اليوم بيد المتكلم على الحديقة صاحبنا الشيخ برهان الدين القطان، ووقع بينه وبين صاحبنا الفخر العيني مشاجرة بسببه وسبب البئر؛ لأن الفخر بيده قطعة تحت الحصن المذكور وقطعة أخرى في مقابلة المسجد أنشأها بعض أقاربه هناك، ثم اصطلحا على السّقى بالبئر المذكورة واستمرار الحصن بيد البرهان، ثم رفعوا قف البئر عما أدركناه عليه نحو ثلاثة أذرع، وذلك لما بنى متولي العمارة السبيل والبركة المقابلين لمسجد قباء المتقدم ذكرهما فيه، وذلك ليتأتى وصول الماء إلى البركة، وصار طول هذه البئر اليوم على ما ذرعته تسع عشرة ذراعا ونصف ذراع، منها أربعة أذرع ماء، وذلك بعد تبحيرها. ولهذه البئر درجة ذكرها المطري، فقال: وقد حدّد الشيخ صفي الدين أبو بكر بن أحمد السلامي لهذه البئر درجا ينزل إليها منه من يريد الوضوء والشرب من الزوار سنة أربع عشرة وسبعمائة، انتهى. وهو مخالف لقول البدر ابن فرحون في ترجمة نجم الدين يوسف الرومي وزير الأمير طفيل: إنه هو الذي أنشأ الدرجة الموجودة اليوم لبئر أريس بقباء عمرها في سنة أربع عشرة وسبعمائة، قال: وكان الجماعة الحزازون قد ابتدؤوا في عمارتها فسألهم أن يتركوا ذلك له ليفوز بحسنتها، وكان الحامل لهم على ذلك أنهم كانوا إذا جاؤوا إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 مسجد قباء لا يجدون ما يتوضؤون به، إلا من الحديقة الجعفرية، فكانوا يتحرّجون من دخولها لما سمعوا أنها مغصوبة من ملاكها، انتهى. وجمع المجد بأنّ الظاهر أن نجم الدين المذكور أنشأ الدرجة وتشعثت، فأصلحها صفي الدين وجددها. قلت: ويرده اتخاذ التاريخ كما سبق. والذي يظهر: أن جماعة الخرازين- كما ترجمهم به البدر- كانوا يسعون في عمارة المساجد وغيرها، وكانوا فقراء؛ فيعينهم الخدم، وأهل الخير، وكان صفي الدين له دنيا عظيمة فتخلى عنها، وله معروف فكأنه هو الممد للخرازين بما صرفوا على عمارة الدرج، وكان المطري يصحب الجميع، فالظاهر أنه اطّلع على ذلك، ثم أتم نجم الدين عمارة تلك الدرجة والله أعلم. بئر الأعواف، أحد صدقات النبي صلى الله عليه وسلم الآتية روى ابن شبة عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفة بئر الأعواف صدقته، وسال الماء فيها، ونبتت ثابتة على أثر وضوئه صلى الله عليه وسلم، ولم تزل فيها حتى الساعة. وروى ابن زبالة عن عثمان بن كعب قال: طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم سارقا، فهرب منه، فنكبه الحجر الذي وضع بين الأعواف صدقة النبي صلى الله عليه وسلم وبين الشطبية مال ابن عتبة، فوقع السارق، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرّك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر ومسّه ودعا له، فهو الحجر الذي فيما بين الأعواف والشطبية يطلع طرفه يمسه الناس. قلت: والأعواف اليوم اسم لجرع كبير في قبلة المربوع، وفي شاميه خنافة، وفيه آبار متعددة؛ فلا تعرف البئر المذكورة منها، وكذلك الحجر؛ لأن الشطبية غير معروفة اليوم، ولعلها الموضع المعروف بالعتبى؛ لقوله في الرواية المتقدمة: مال ابن عتبة، والعتبى بجنب الأعواف من المشرق، فإن كان هو الشطبية فبئر الأعواف هي البئر التي فيها يلي خنافة من جرع الأعواف، وهي اليوم معطلة لا ماء بها، ويستأنس لذلك بما نقله ابن زبالة من أن الأعواف كانت لخنافة اليهودي جد ريحانة رضي الله تعالى عنها. ولم يذكر المطري ومن تبعه هذه البئر ولا الغلالة بعدها؛ لسكوت ابن النجار عنها. بئر أنا: بضم الهمزة وتخفيف النون كهنا، وقيل: بالفتح وكسر النون المشددة بعدها مثناة تحتية، وقيل: بالفتح والتشديد كحتّى، وضبطه في النهاية بفتح الهمزة وتشديد الباء الموحدة كحتى، ذكره في القاموس أيضا، وذكره ياقوت في المشترك له، وقال: كذا هو مضبوط بخط أبي الحسين بن الفرات، ثم قال: وذكر آخرون أنها بئر أنا بضم الهمزة والنون الخفيفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 روى ابن زبالة عن عبد الحميد بن جعفر قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبته حين حاصر بني قريظة على بئر أنا، وصلّى في المسجد الذي هناك، وشرب من البئر، وربط دابته بالسّدرة التي في أرض مريم ابنة عثمان. وقال ابن إسحاق: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها، وتلاحق به الناس، وهي بئر أنا. قلت: وهي غير معروفة اليوم، وناحية بني قريظة عند مسجدهم بئر أنس بن مالك بن النضر: وتضاف أيضا لأبيه. وروى ابن زبالة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى، فنزع له دلو من بئر دار أنس، فسكب على اللبن فأتى به فشرب، وعمر بين يديه وأبو بكر عن يساره، وأعرابي عن يمينه، الحديث، وهو في الصحيح عن أنس بلفظ: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا هذه، فاستسقى. فحلبنا شاة لنا ثم شبته من بئرنا هذه فأعطيته، الحديث. وروى ابن شبة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من بئر أنس التي في دار أنس. وخرج أبو نعيم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في بئر داره، فلم يكن بالمدينة بئر أعذب منها، قال: وكانوا إذا حوصروا استعذب لهم منها، وكانت تسمى في الجاهلية البرود. قلت: وهي غير معروفة اليوم، لكن تقدم عن ابن شبة في البلاط أنه كان له سرب يخرج عند دار أنس بن مالك في بني جديلة، وتقدم في بيان المحلّ الذي ضرب منه اللبن للمسجد النبوي أن البئر المعروف اليوم بالرباطية وقف رباط اليمنة في شامي الحديقة المعروفة بالرومية بقرب دار فحل يتبرك بها الفقراء، كما ذكره الزين المراغي، وقال: إنها تعرف ببئر أيوب، وكذلك البئر ذات الدرج التي في شرقيها في الحديقة المعروفة بأولاد الصفي تعرف ببئر أيوب أيضا. قلت: والمعروف اليوم ببئر أيوب إنما هي الثانية، والظاهر أنها بئر أبي أيوب الأنصاري، وأما الأولى فالظاهر أنها بئر أنس؛ لأنها في جهة السرب الذي ذكره ابن شبة قرب منازل بني جديلة، ولتبرك الناس بها قديما، ولأنها عذبة الماء بحيث يشرب منها كثير من أهل تلك الجهة أيام النقلة في الصيف، وسيأتي في بئر السقيا أنه كان يستعذب للنبي صلى الله عليه وسلم الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس. وروى ابن شبة عن أنس في ذكر بئره قال: كان في داري بئر تدعى في الجاهلية البرود، كان الناس إذا حوصروا شربوا منها. واعلم أن أنس بن مالك بن النضر بن عدي بن النجار قد روى أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ من العمر ستّ سنين خرجت به أمه إلى طيبة تزيره أخواله من بني عدي بن النجار، قال صلى الله عليه وسلم: فأحسنت العوم في بئرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 بئر إهاب: وفي نسخة لابن زبالة «بئر الهاب» والأول هو الصواب الذي اعتمده المجد. روى ابن زبالة عن محمد بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بئر إهاب بالحرة وهي يومئذ لسعد بن عثمان، فوجد ابنه عبادة بن سعد مربوطا بين القرنين يفتل، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يلبث سعد أن جاء فقال لابنه: هل جاءك أحد؟ قال: نعم ووصف له صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحقه وحلّه، فخرج عبادة حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس عبادة وبرك فيه، قال: فمات وهو ابن ثمانين وما شاب، قال: وبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئرها. قال: وقال سعد بن عثمان لولده: لو أعلم أنكم لا تبيعونها لقبرت فيها، فاشترى نصفها إسماعيل بن الوليد بن هشام بن إسماعيل، وابتنى عليها قصره الذي بالحرة مقابل حوض ابن هشام، وابتاع نصفها الآخر إسماعيل بن أيوب بن سلمة، وتصدقا بما ابتاعا من ذلك. قلت: وهي المذكورة في حديث أحمد المتقدم في بدء شأن المدينة وما يؤول إليه أمرها، لقوله فيه «خرج حتى أتى بئر الإهاب، قال: يوشك أن يأتي البنيان هذا المكان» . وفي حديث عبادة الزرقي أنه يصيد القطا فيرقى بئر إهاب، وكانت لهم، الحديث المتقدم في صيد الحرم، وهي بالحرة الغربية بئر، غير أنها لا تعرف اليوم بهذا الاسم، إلا أن حوض ابن هشام الذي في مقابلتها كان عند فاطمة بنت الحسين التي رجّح المطّري أنها المسماة اليوم بزمزم كما سيأتي أيضا في خبر بئر فاطمة المذكورة، فلما بنى إبراهيم بن هشام داره بالحرة بعد وفاة فاطمة وأراد نقل السوق إليها صنع في حفرته التي بالحوض مثل ما صنعت فاطمة، فلقي جبلا، فسأل إبراهيم بن هشام بن عبد الله بن حسن بن حسن أن يبيعه دار فاطمة، فباعه إياها، أي من أجل البئر التي احتفرتها فاطمة في دارها. وقال المطري: إن ابن زبالة ذكر عدة آبار أتاها النبي صلى الله عليه وسلم وشرب منها وتوضأ، لا نعرف اليوم شيئا منها. قال: ومن جملة ما ذكر بئر بالحرة الغربية في آخر منزلة النقاء، وذكر ما سيأتي في بئر السقيا. ثم قال ما لفظه: ومنها بئر أخرى إذا وقفت على هذه- يعني بئر السقيا- وأنت على جادّة الطريق وهي- يعني السقيا- على يسارك كانت هذه على يمينك، ولكنها بعيدة عن الطريق قليلا في سند من الحرة قد حوّط حولها ببناء مجصّص، وكان على شفيرها حوض من حجارة تكسر، ولم يزل أهل المدينة قديما وحديثا يتبركون بها، ويشربون من مائها، وينقل إلى الآفاق منها، كما ينقل من ماء زمزم، ويسمونها زمزم أيضا لبركتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 ثم قال: ولم أعلم أحدا ذكر فيها أثرا يعتمد عليه، والله أعلم أيتهما هي السقيا؟ الأولى لقربها من الطريق، أم هذه لتواتر التبرك بها؟ أو لعلها البئر التي احتفرتها فاطمة ابنة الحسين حين أخرجت من بيت جدتها فاطمة الكبرى، وذكر القصة الآتية في حفرها لبئرها، ثم قال: إن الظاهر أن هذه هي بئر فاطمة، والأولى هي السقيا. قلت: قوله «إن الأولى هي السقيا» هو الصواب كما سيأتي، وأما قوله «إن الثانية هي بئر فاطمة» فعجيب؛ لأن مقتضى قوله ومنها أنها من جملة الآبار التي ذكر ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها وشرب منها، وبئر فاطمة بنت الحسين هي التي احتفرتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكرها ابن زبالة في خبر بناء المسجد، وذكر في آبار النبي صلى الله عليه وسلم ما قدمناه في بئر إهاب مع بئر السقيا وغيرهما من الآبار، ثم أفردهما ثانيا في سياق ما جاء في الحرة الغربية، وأيضا فقد ذكر المطري أن البئر المذكورة لم تزل يتبرك بها قديما وحديثا، وينقل منها الماء إلى الآفاق، فكيف ترجّح أنها المنسوبه لابنة الحسين مع وجود بئر في تلك الجهة ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إتيانها والبصق فيها؟ فالذي ترجّح عندي أن هذه البئر المعروفة بزمزم هي بئر إهاب، وقد رأيت عندها مع طرف الجدار الذي بجانبها الدائر على الحديقة آثار قصر قديم كان مبنيّا عليها الظاهر أنه قصر إسماعيل بن الوليد الذي ابتناه عليها، وفي شاميها بئر أخرى في الحديقة المذكورة يحتمل أنها هي المنسوبة لابنة الحسين، ولعل حوض ابن هشام كان هناك، والله أعلم. بئر البصّة: - بضم الموحدة وفتح الصاد المشددة آخره هاء، كانها من بصّ الماء بصّا رشح، كذا قاله المجد- قال: وإن روى بالتخفيف فمن وبص يبص وبصا وبصة كوعد يعد وعدا وعدة إذا بلغ، أو من وبص لي من المال أي أعطاني. قلت: المعروف بين أهل المدينة التخفيف. وروى ابن زبالة وابن عدي من طريقه عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الشهداء وأبناءهم، ويتعاهد عيالاتهم، قال: فجاء يوما أبا سعيد الخدري فقال: هل عندك من سدر أغسل به رأسي فإن اليوم الجمعة؟ قال: نعم، فأخرج له سدرا، وخرج معه إلى البصة، فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فصب غسالة رأسه ومراقة شعره في البصة. قال ابن النجار: وهذه البئر قريبة من البقيع على طريق الماضي إلى قباء، وهي بين نخل، وقد هدمها السيل وطمّها، وفيها ماء أخضر، وقفت على قفّها، وذرعت طولها، فكان أحد عشر ذراعا، منها ذراعان ماء، وعرضها سبعة أذرع، وهي مبنية بالحجارة، ولون مائها إذا انفصل منها أبيض، وطعمه حلو، إلا أن الأجون غلب عليه. وذكر لي الثقة أن أهل المدينة كانوا يستقون منها قبل أن يطمّها السيل، اه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وقد أصلحت بعده، ولذا قال المطري: إنها في حديقة كبيرة محوط عليها محائط، وعندها في الحديقة أيضا بئر أصغر منها، والناس يختلفون فيهما أنهما بئر البصة، إلا أن ابن النجار قطع بأنها الكبرى القبلية، وذكر ما تقدم عنه في طولها وعرضها، ثم قال: والصغرى عرضها ستة أذرع، وهي التي تلي أطم مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما. قال: وسمعت من أدركت من أكابر الخدام وغيرهم من أهل المدينة يقولون: إنها الكبرى القبلية، وإن الفقيه الصالح القدوة أبا العباس أحمد بن موسى بن عجيل وغيره من صلحاء اليمن إذا جاؤوا للتبرك بالبصة لا يقصدون إلا الكبرى القبلية. قلت: الظاهر أن ذلك كله ناشئ عما ذكره ابن النجار في وصفها، لكن يرجّح أنها الصغرى كونها إلى جانب الأطم المذكور، وقد قال فيه ابن زبالة كما تقدم في المنازل: إنه المسمى بالأجرد، وإنه الذي يقال لبئره البصة، كان لمالك بن سنان، والكبرى بعيدة عن الأطم المذكور. وقد ابتنى قاضي المدينة زكي الدين بن أبي الفتح بن صالح تغمده الله برحمته على محلّ هذا الأطم منزلا حسنا، وجعل للبئر الصغرى درجا ينزل إليها منه، وعمر البئر الكبرى أيضا لما استأجر الحديقة لولده بعد أن أجرها هو وشريكه في النظر في الولاية السلطانية لغيره، وهي من جملة أوقاف الفقراء، وقفها شيخ الخدام عزيز الدولة ريحان البدري الشهامي على الفقراء الواردين والصادرين للزيارة على ما ذكره المطري، قال: وذلك بعد وفاته بعامين أو ثلاثة، ووفاته سنة سبع وتسعين وستمائة، اه. وفي غربي البئر الصغرى بجانب الحديقة من خارجها سبيل للدوابّ يملأ منها، وعليه موقوف قطعة نخل تعرف بالركبدارية شماليّ سور المدينة. بئر بضاعة: - بضم الموحدة على المشهور، وحكى كسرها، وبفتح الضاد المعجمة، وأهملها بعضهم، وبالعين المهملة، بعدها هاء- غربيّ برحاء إلى جهة الشمال، بينهما غلوة سهم سبقي. روينا في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو يقال له: إنه يستفي لك من بئر بضاعة، وهي بئر تلقي فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذر الناس- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الماء طهور لا ينجّسه شيء» . ورواه أحمد، وصححه النسائي، والترمذي وحسّنه، والدارقطني وقال فيه «من بئر بضاعة بئر بني ساعدة» وابن شبّة إلا أنه قال «وعذر النساء» بدل قوله «وعذر الناس» وابن ماجه وزاد «لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه ريحه وطعمه ولونه» . وفي رواية للنسائي عن أبي سعيد قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: أتتوضأ منها وهي يطرح فيها ما يكره من النتن؟ فقال «الماء لا ينجسه شيء» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وروى ابن شبة عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم «بصق في بضاعة» . وعنه أيضا سقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدي من بضاعة، ورواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات إلا أنه قال «من بئر بضاعة» وكذا رواه أحمد. وروى ابن زبالة وأبو يعلي عن محمد بن أبي يحيى عن أمه قالت: دخلنا على سهل بن سعد في نسوة فقال: لو أني سقيتكن من بئر بضاعة لكرهت ذلك، وقد والله سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي منها. وفي الكبير للطبراني عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم «برّك على بضاعة» . ورواه ابن زبالة عن أبي أسيد، لكن بلفظ «دعا لبئر بضاعة» . وفي الكبير للطبراني عن مالك بن حمزة بن أبي أسيد الساعدي عن أبيه عن جده أبي أسيد، وله بئر بالمدينة يقال لها بئر بضاعة، قد بصق فيها النبي صلى الله عليه وسلم فهي يتبشر بها ويتيمن بها. قال: فلما قطع أبو أسيد ثمر حائطه جعله في غرفة، فكانت الغول تخالفه إلى مشربته فتسرق ثمره وتفسده عليه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «تلك الغول يا أبا أسيد، فاستمع عليها، فإذا سمعت اقتحامها فقل: بسم الله، أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الغول: يا أبا أسيد، أعفني أن تكلفني أن أذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطيك موثقا من الله أن لا أخالفك إلى بيتك، وأن لا أسرق ثمرك، وأدلّك على آية تقرؤها على بيتك فلا يخالف إلى أهلك، وتقرؤها على إنائك فلا يكشف غطاؤه، فأعطته الموثق الذي رضي به منها، فقالت: الآية التي أدلّك عليها هي آية الكرسي، ثم حكت أسنانها تضرط، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقصّ عليه القصة حيث دلته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت وهي كذوب» قال الحافظ الهيتمي: رجاله وثقوا كلهم، وفي بعضهم ضعف. وقال المجد: وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم «أتى بئر بضاعة، فتوضأ من الدّلو وردّها إلى البئر، وبصق فيها، وشرب من مائها، وكان إذا مرض المريض في أيامه يقول: اغسلوني من ماء بضاعة، فيغسل فكأنما ينشط من عقال» . وقالت أسماء بنت أبي بكر: كنا نغسل المرضى من بئر بضاعة ثلاثة أيام فيعافون، اه. قال أبو داود في سننه: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: سألت قيّم بئر بضاعة عن عمقها أكثر ما يكون فيها الماء، قال: إلى القامة، قلت: وإذا نقص، قال: دون العورة، قال أبو داود عقبه: وقدّرت بئر بضاعة بردائي، مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه: هل غيّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماء متغير اللون. وقال ابن النجار: هذا البئر اليوم في بستان، وماؤها عذب طيب، ولونها صاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 أبيض، وريحها كذلك، ويستقى منها كثيرا، قال: وذرعتها فكان طولها أحد عشر ذراعا وشبرا، منها ذراعان راجحة ماء، والباقي بناء، وعرضها ستة أذرع كما ذكر أبو داود. قلت: وذرعتها فكان ذرعها كذلك لم يتغير، إلا أن قفّها مرتفع عن الأرض الأصلية ذراعا ونصفا راجحا، وهي- كما قال المطري- في جانب حديقة عند طرف الحديقة الشامي، والحديقة في قبلة البئر، ويستقي منها أهل حديقة أخرى شمالي البئر، وهي بينهما، وماؤها عذب طيب مع تعطّلها في زماننا وخراب قفّها، وهي المرادة بما في صحيح البخاري عن سهل بن سعد «إن كنا لنفرح بيوم الجمعة، كانت لنا عجوز تأخذ من أصول الصلق» وفي رواية له» ترسل إلى بضاعة» قال ابن سلمة أي شيخ البخاري: محل بالمدينة، الحديث. قال الإسماعيلي: في هذا بيان أن بئر بضاعة بئر بستان؛ فيدل على أن قول أبي سعيد «كانت تلقى فيها الحيض وغيرها» أنها كانت تطرح في البستان فيجريها المطر ونحوه إلى البئر. قلت: ومن شاهد بضاعة علم أنه كذلك لأنها في وهدة، وحولها ارتفاع، سيما في شاميها؛ إذا قدر اليوم هناك أقذار لسال بها المطر إليها، وتلقي الرياح فيها ما تلقي، وادعى الطحاوي أنها كانت سيحا، وروى ذلك عن الواقدي، وإن صحّ فلعل المراد به أن الأرض التي حولها كانت المياه تسيح فيها فتجرّ الأقذار إليها؛ لإطباق مؤرخي المدينة العالمين بأخبارها على تسميتها ببئر، لا كما قال بعض الحنفية: إنها كانت عينا جارية إلى بستانين، إذ المشاهدة تردّه كما قاله المجد، قال: ولو كان كذلك لما صلح أن يقول فيها المريض «اغسلوني من ماء بضاعة» لأن الجرية الأولى سارت ببصاق النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا فلو كانت قناة جارية وسدت لما خفي آثار مجاريها المنسدة، والمشاهدة مع الإطباق على أنها البئر المذكورة كافية في الرد. وقال المجد: بضاعة دار بني ساعدة، وبها هذه البئر، ونقله الحافظ ابن حجر عن بعضهم، ومقتضى كلام شيخ البخاري المتقدم أنها اسم للبستان الذي فيه البئر، والظاهر إطلاقها على الثلاثة، والله أعلم. بئر جاسوم: ويقال جاسم- بالجيم والسين المهملة- لم يذكرها والتي بعدها ابن النجار ومن بعده، وتقدم في مسجد راتج من رواية ابن شبة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد راتج، وشرب من جاسوم، وهي بئر هناك. وروي هو وابن زبالة أيضا عن خالد بن رباح أن النبي صلى الله عليه وسلم «شرب من جاسوم بئر أبي الهيثم بن التيهان» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وعن زيد بن سعد قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما إلى أبي الهيثم بن التيهان رضي الله تعالى عنه في جاسوم، فشرب من جاسوم، وهي بئر أبي الهيثم، وصلّى في غائطه. وروى الواقدي عن الهيثم بن نصر الأسلمي قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ولزمت بابه، فكنت آتيه بالماء من بئر جاسم، وهي بئر أبي الهيثم بن التيهان، وكان ماؤها طيبا، ولقد دخل يوما صائما ومعه أبو بكر على أبي الهيثم، فقال: هل من ماء بارد؟ فأتاه بشجب فيه ماء كأنه الثلج، فصبّ منه على لبن عنز له وسقاه ثم قال له: إن لنا عريشا باردا، فقل فيه يا رسول الله عندنا، فدخله وأبو بكر، وأتى أبو الهيثم بألوان من الرّطب، الحديث، وأشار الحافظ ابن حجر إلى أنه يؤخذ منه أن هذه القصة هي التي في الصحيح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان عندك ماء بائت هذه الليلة في شجب وإلا كرعنا، قال: والرجل يحول الماء في حائطه، فقال الرجل: يا رسول الله عندنا ماء بائت، فانطلق إلى العريش، قال: فانطلق بهما فسكب في قدح ثم حلب عليه من داجن له، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم شرب الرجل الذي جاء معه. قلت: وهذه البئر غير معروفة اليوم، وتقدم بيان جهتها في مسجد راتج. بئر جمل: بلفظ الجمل من الإبل- روى ابن زبالة عن ابن عبد الله بن رواحة وأسامة بن زيد قالا: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر جمل، وذهبنا معه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل معه بلال، فقلنا: لا نتوضأ حتى نسأل بلالا كيف توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالا: فسألناه، فقال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والخمار، وفي صحيح البخاري حديث «أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، فسلم عليه- الحديث» . وفي رواية للدار قطني «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل» . وفي أخرى له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذهب نحو بئر جمل ليقضي حاجته، فلقيه رجل مقبل فسلّم عليه» . وفي رواية النسائي «أقبل من نحو بئر الجمل» وهو من العقيق، قاله المجد، قال: وهي بئر معروفة بناحية الجرف بآخر العقيق، وعليها مال من أموال أهل المدينة، قال: ويحتمل أنها سميت بجمل مات فيها، أو برجل اسمه جمل حفرها. قلت: وهي غير معروفة اليوم، ولم أر من سبق المجد لكونها بالجرف غير ياقوت. وقوله «وهو من العقيق» لم أره في السنن الصغرى للنسائي، ويبعده سوق الروايات السابقة لقوله «ذهب نحو بئر جمل ليقضي حاجته» وفي أخرى أن الرجل توارى في السكة، والمعروف بقضاء الحاجة إنما هو ناحية بقيع الحجبة، وهو ناحية بئر أبي أيوب، وهناك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 الموضع المعروف بالمناصع، وتقدم بيان زقاق المناصع شرقي المسجد فيما يلي الشام، وسبق في الفصل الحادي عشر من الباب الثالث أن ناقته صلى الله عليه وسلم بركت بين أظهر بني النجار، أي شرقي المسجد النبوي، ثم نهضت حتى أتت زقاق الحبشي ببئر جمل فبركت، الحديث، وهو مؤيد لما قدمناه على أن عند مؤخر المسجد زقاقا يعرف اليوم بخرق الجمل، وبقرب درب سويقة بئر صغيرة في زقاق ضيق زعم أهل تلك الناحية أنها هي، وأظنه غلطا. وقال المطري عقب ذكر الآبار التي اقتصر عليها ابن النجار: إنها ست، والسابعة لا تعرف اليوم، إلا ما يسمع من قول العامة إنها بئر جمل، ولم تعلم أين هي، ولا من ذكرها غير ما ورد في حديث البخاري، وذكر ما قدمناه. ثم قال: ولم يذكر بئر جمل في السبع المشهورة، وكأنه لم يقف على ذكر ابن زبالة لها في الآبار وروايته لما تقدم. بير حاء: - روينا في صحيح البخاري عن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه ببرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخ، ذلك مال رايح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، وفي رواية له «فجعلها لأبيّ وحسان» وكانا أقرب إليه منّي، وفي رواية له أيضا عقب قوله «وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء» قال: وكانت حديقة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويستظل فيها، ويشرب من مائها، قال: فهي إلى الله وإلى رسوله أرجو بره وذخره، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخ يا أبا طلحة ذلك مال رايح، قد قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين» فتصدّق به أبو طلحة على ذوي قربى رحمه، قال: وكان منهم أبيّ وحسان، قال: فباع حسان حصته منه من معاوية، فقيل له: تبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعا من تمر بصاع من دراهم؟ وكانت تلك الحديقة في موضع قصر بني جديلة الذي بناه معاوية. قال الحافظ ابن حجر: وزاد ابن عبد البر في روايته: وكانت دار أبي جعفر والدار التي تليها إلى قصر بني جديلة حائطا لأبي طلحة يقال له بيرحاء، قال: ومراده بدار أبي جعفر الدار التي صارت إليه وعرفت به، وهو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي. وقصر بني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 جديلة هي حصّة حسان، بنى فيها معاوية بن أبي سفيان هذا القصر، وأغرب الكرماني فزعم أن معاوية الذي بنى القصر المذكور هو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أحد أجداد أبي طلحة. قلت: منشأ وهمه إضافة القصر إلى بني جديلة، وجديلة لقب معاوية المذكور وهو مردود، بل إضافته إليهم لكونه بمنازلهم. قال ابن شبة: وأما قصر بني جديلة فإن معاوية بن أبي سفيان بناه ليكون حصنا، وله بابان: باب شارع على خط بني جديلة، وباب في الزاوية الشرقية اليمانية عند دار محمد بن طلحة التّيمي، وهو اليوم لعبد الله بن مالك الخزاعي قطيعة، وكان الذي ولي بناءه لمعاوية الطفيل بن أبي كعب الأنصاري، وفي وسطه بيرحاء. ثم روى عقبه عن العطاف بن خالد قال: كان حسان يجلس في أجمة فارع، ويجلس معه أصحاب له، ويضع لهم بساطا يجلسون عليه، فقال يوما وهو يرى كثرة من يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب يسلمون: أرى الجلابيب قد عزّوا وقد كثروا ... وابن العريفة أمسى بيضة البلد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من لي من أصحاب البساط؟ فقال صفوان بن المعطل: أنا لك يا رسول الله منهم، فخرج إليهم واخترط سيفه، فلما رأوه مقبلا عرفوا في وجهه الشر، ففرّوا وتبدّدوا، وأدرك حسان داخلا بيته، فضربه، فعلق ثنّته، فبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم عوّضه وأعطاه حائطا، فباعه من معاوية بن أبي سفيان بعد ذلك بمال كثير، فبناه معاوية بن أبي سفيان قصرا. وروى أيضا في خبر الإفك عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التّيمي قصة ضرب صفوان لحسان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أحسن يا حسان في الذي أصابك، قال: هي لك يا رسول الله، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضا منها بيرحاء، وهي قصر بني جديلة اليوم بالمدينة، كانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدّق بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاها حسان في ضربته شيرين أمة قبطية. وروى ابن زبالة عن أبي بكر بن حزم أن أبا طلحة تصدّق بمال له كان موضعه قصر بني جديلة، فدفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردّه على أقاربه أبيّ بن كعب وحسان بن ثابت وثبيط بن جابر وشداد بن أوس أو أبيه أوس بن ثابت يعني أخا حسّان بن ثابت، فتقاوموه، فصار لحسان بن ثابت، فباعه من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم، قال: وكان معاوية قد بنى قصر خل ليكون حصنا لما كان يتحدّث أنه نصيب بني أمية، وذكر ما سيأتي في قصر خل، ثم قال: فلما اشترى بيرحاء بنى قصر بني جديلة في موضعها للذي كان يخاف من ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 وقال الحافظ ابن حجر: وبيع حسان لحصته من معاوية دليل على أن أبا طلحة ملّكهم الحديقة المذكورة، ولم يقفها عليهم، ويحتمل أنه وقفها وشرط أن من احتاج إلى بيع حصته جاز له كما قال بجوازه علي وغيره. قلت: وقد اشترط علي في صدقته كما حكاه ابن شبة عن نسخة كتاب الصدقة قال ابن النجار: وبيرحاء اليوم في وسط حديقة صغيرة جدّا، فيها نخيلات ويزرع حولها، وعندها بيت مبني على علو من الأرض، وهي قريبة من سور المدينة، وهي لبعض أهلها، وماؤها عذب حلو. وقال المطري: وهي شمالي سور المدينة بينهما الطريق، وتعرف الآن بالنورية اشتراها بعض النساء النوريين ووقفها على الفقراء والمساكين فنسبت إليها، قال ابن النجار: وذرعتها فكان طولها عشرين ذراعا، منها أحد عشر ذراعا ماء، والباقي بنيان، وعرضها ثلاثة أذرع وشبر. قلت: وهي اليوم على هذا النعت، وفي قبلتها مسجد ليس من بناء الأقدمين لم يذكره ابن النجار ولا المطري، وكأنه لما حدث بعدهما. وذكره المجد فقال: وفي بيرحاء بير قريبة الرشاء ضيقة القنا طيبة الماء، وأمامها إلى القبلة مسجد صغير في وسط الحديقة. قلت: وقوله في حديث الصحيح «وكانت مستقبلة المسجد» معناه أن المسجد في جهة قبلتها، فلا ينافي بعدها عنه على هذه المسافة الموجودة اليوم، والظاهر أن بعض أرضها كان داخل سور المدينة؛ لما تقدم من قسمتها وابتناء القصر في بعضها، ولم أر للفقراء أثرا هناك. وقد تقدم أن حش أبي طلحة الذي في شامي المسجد منسوب إلى أبي طلحة صاحبها، فربما كانت أمواله ممتدة إلى هناك. وأما دار محمد بن طلحة التيمي التي ذكر ابن شبة أنه أحد باني القصر المبني عليها عنده فيظهر أنها غير دار إبراهيم بن محمد بن طلحة التي هي من دار جده طلحة المتقدم ذكرها في الدور المطيفة بالمسجد، لنسبتها لإبراهيم بن محمد، ونسبة هذه لأبيه؛ فلا يقدح ذلك في كون بيرحاء هي المعروفة اليوم، والله أعلم. ضبط بيرحاء تنبيه: في ضبط بيرحاء، وقد أفرد له بعضهم مصنفا ذكر المجد ملخصه، وقد اختلف الناس في ضبطه، قال صاحب النهاية: بيرحاء بفتح الباء وكسرها، وبفتح الراء وضمها، وبالمد فيهما، وبفتحهما والقصر، قال الزمخشري: بيرحاء اسم أرض كانت لأبي طلحة، وكأنها فيعلى من البراح، وهي الأرض المنكشفة الظاهرة، وقال مرة: رأيت محدّثي مكة يقولون بيرحاء على الإضافة، وحاء: من اسم القبائل، وقيل: اسم رجل، وعلى هذا يكون منونا، قال ياقوت: بيرحا بوزن خيزلى، وقيل لي بيرحاء مضاف إليه ممدود، قال: ورواية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 المغاربة قاطبة الإضافة، وإعراب الراء بالرفع والجر والنصب، وحاء على لفظ الحاء من حروف المعجم. وقال أبو عبيد البكري: حاء- على وزن حرف الهجاء- بالمدينة، مستقبلة المسجد، إليها ينسب بيرحاء، فالاسم مركب. قال الحافظ ابن حجر: اختلف في حاء هل هو رجل أو امرأة أو مكان أضيف إليه البير، أو هي كلمة زجر للإبل، وكانت الإبل ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البير إلى اللفظة، قال الباجي: أنكر أبو بكر الأصم الإعراب في الراء، وقال: إنما هو بفتح الراء على كل حال، قال: وعليه أدركت أهل العلم بالمشرق. وقال أبو عبد الله الصوري: إنما هو بفتح الباء والراء في كل حال، بمعنى أنه كلمة واحدة، قال عياض: وعلى رواية الأندلسيين ضبطنا هذا الحرف عن أبي جعفر في كتاب مسلم بكسر الباء وفتح الراء، وبكسر الراء وبفتح الباء والقصر، ضبطناه في الموطأ عن أبي عنان وغيره، وبضم الراء وفتحها معا قيدناه عن الأصيلي، وقد رواه من طريق حماد بن سلمة بريحا، هكذا ضبطناه عن شيوخنا فيما قيدوه عن البدري وغيره، ولم أسمع فيه خلافا، إلا أني وجدت الحميدي ذكر في اختصاره عن حماد بن سلمة بيرحا، كما قال الصوري، ورواية الرازي في مسلم في حديث مالك بريحا، وهو وهم، وإنما هذا في حديث حماد، وإنما لمالك بيرحا كما قيد الجميع على اختلافهم. وذكر أبو داود في مصنفه هذا الحديث بخلاف ما تقدم فقال: جعلت أرضي باريحا، وهذا كله يدل على أنها ليست ببئر، انتهى كلام عياض. قال الحافظ ابن حجر: قول أبي داود باريحا بإشباع الموحدة، ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة فإن أريحاء من الأرض المقدسة، ويحتمل إن كان محفوظا أن تكون سميت باسمها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم «ذلك ما رابح، أو قال رايح» فالأول بالموحدة أي ذو ربح، والثاني بالمثناة التحتيّة، أي يروح نفعه لقربه، أي يصل إليك في الرواح، ولا يعزب، قال شاعر: سأطلب مالا بالمدينة؛ إنني ... إلى عازب الأموال قلت فوضله بئر حلوة: - بالحاء المهملة- لم يذكرها والتي بعدها ابن النجار ومن بعده، وذكرها ابن زبالة، فروي عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر عن أبيه قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا، فبعث إلى بعض نسائه منها بالكتف، فتكلمت في ذلك بكلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتنّ أهون على الله من ذلك» وهجرهن، وكان يقيل تحت أراكة على حلوة بئر كانت في الزقاق الذي فيه دار آمنة بنت سعد، وبه سمي الزقاق زقاق حلوة، ويبيت في مشربة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 له، فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، فقالت: يا رسول الله، إنك آليت شهرا، قال: إن الشهر تسع وعشرون. قلت: وهذه البئر غير معروفة اليوم بعينها، وتقدم بيان جملتها في الدور التي في ميسرة البلاط عند ذكر دار حويطب بن عبد العزى. بئر ذرع: - بالذال المعجمة- وهي بئر بني خطمة، وروى ابن زبالة حديث «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني خطمة فصلى في بيت العجوز، ثم خرج منه فصلى في مسجد بني خطمة، ثم مضى إلى بئرهم ذرع فجلس في قفّها، فتوضأ وبصق فيها» . وروى ابن شبة عن الحارث بن الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم «توضّأ من ذرع بئر بني خطمة التي بفناء مسجدهم» ، وفي رواية: «وصلى في مسجدهم» . وفي رواية عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم «بصق في ذرع بئر بني خطمة» . قلت: وهذه البئر غير معروفة اليوم، ويؤخذ بيان جهتها مما تقدم في مسجد بني خطمة. بئر رومة: - بضم الراء، وسكون الواو، وفتح الميم، بعدها هاء، وقيل رؤمة بعد الراء همزة ساكنة- روى ابن زبالة حديث: «نعم القليب قليب المزني فاشترها يا عثمان، فتصدق بها» وحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعم الحفيرة حفيرة المزني» يعني رومة، فلما سمع ذلك عثمان بن عفان ابتاع نصفها بمائة بكرة، وتصدّق بها، فجعل الناس يسقون منها، فلما رأى صاحبها أن قد امتنع منه ما كان يصيب عليها باع من عثمان النصف الثاني بشيء يسير فتصدق بها كلها. وروى ابن شبة عن عدي بن ثابت قال: أصاب رجل من مزينة بئرا يقال لها رومة، فذكرت لعثمان بن عفان وهو خليفة، فابتاعها بثلاثين ألف درهم من مال المسلمين، وتصدّق بها عليهم. قلت: في سنده متروك، ولذا قال الزبير بن بكار بعد روايته في عتيقة: وليس هذا بشيء، وثبت عندنا أن عثمان اشتراها بماله وتصدق بها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى. وقال ابن أبي الزناد: أخبرني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعم الصدقة صدقة عثمان» يريد رومة. وقال محمد بن يحيى: أخبرني غير واحد من أهل البلد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نعم القليب قليب المزني» . وروى ابن شبة أيضا عن أبي قلابة قال: لما كانوا بباب عثمان وأرادوا قتلة أشرف عليهم، فذكر أشياء، ثم ناشدهم الله فأعظم النّشدة: هل تعلمون أن رومة كان لفلان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 اليهودي لا يسقى منها أحدا قطرة إلا بثمن، فاشتريتها بمالي بأربعين ألفا، فجعلت شربي فيها وشرب رجل من المسلمين سواء، ما استأثرتها عليهم؟ قالوا: قد علمنا ذلك. وعن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يشتري رومة بشرب رواء في الجنة؟ فاشتراها عثمان رضي الله تعالى عنه من ماله فتصدق بها. وعن عبد الرحمن بن حبيب السلمي قال: قال عثمان رضي الله تعالى عنه: أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى بئر رومة فله مثلها من الجنة، وكان الناس لا يشربون منها إلا بثمن، فاشتريتها بمالي فجعلتها للفقير والغني وابن السبيل؟ فقال الناس: نعم. وعن أسامة الليثي قال: لما حصر عثمان رضي الله تعالى عنه أرسل إلى عمّار بن ياسر يطلب أن يدخل عليه روايا ماء، فطلب له ذلك عمار من طلحة، فأبى عليه، فقال عمار: سبحان الله اشترى عثمان هذه البئر- يعني رومة- بكذا وكذا ألفا، فتصدق به على الناس، وهؤلاء يمنعونه أن يشرب منها وروى النسائي والترمذي وحسّنه عن عثمان أنه قال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: من يشري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين- الحديث. وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن السلمي أن عثمان حيث حوصر أشرف عليهم وقال: أنشدكم بالله، ولا أنشد إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حفر بئر رومة فله الجنة؟ فحفرتها- الحديث، وفيه: وصدّقوه بما قال. وللنسائي من طريق الأحنف بن قيس أن الذين صدقوه بذلك علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص. ورواه ابن شبة من حديث الأحنف إلا أنه قال: أنشدكم الله الذي لا إله إلا هو، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يبتاع بئر رومة غفر الله له، فابتعتها بكذا وكذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن ابتعت بئر رومة، فقال: اجعلها سقاية للمسلمين، وآخرها لك؟ قالوا: نعم. وقال ابن بطال في الكلام على رواية البخاري قوله: «فحفرها عثمان» وهم في بعض الروايات، والمعروف أن عثمان اشتراها، لا أنه حفرها، قال الحافظ ابن حجر عقبه: المشهور في الروايات كما قال، لكن لا يتعين الوهم؛ فقد روى البغوي في الصحابة من طريق بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعينها بعين في الجنة، فقال يا رسول الله ليس لي وعيالي غيرها، ولا أستطيع ذلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 فبلغ ذلك عثمان، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي مثل الذي جعلت له عينا في الجنة إن اشتريتها؟ قال: نعم، قال: قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين، قال الحافظ ابن حجر: وإذا كانت أولا عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا، ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسّعها أو طولها فنسب حفرها إليه، انتهى. قلت: الإشكال ليس في ذكر وقوع حفر عثمان لها فقط، بل في كون الترغيب فيها بلفظ «من حفر» إلى آخره؛ فطريق الجمع أن يكون صلى الله عليه وسلم قال أولا: «من اشترى بئر رومة» فاشتراها عثمان، ثم احتاجت إلى الحفر فقال: «من حفر بئر رومة» فحفرها، وتسميتها في هذه الرواية عينا غريب جدّا، ولعله لاشتمال البئر على ما ينبع فيها مقابلة لها بعين في الجنة. وقال المجد: قال أبو عبد الله بن منده: رومة الغفاري صاحب بئر رومة، وروى حديثه، وساق السند إلى بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون، وساق الحديث المتقدم، ثم قال المجد: كذا قال رومة الغفاري، ثم قال: عين يقال لها رومة. وقال أبو بكر الحازمي أيضا: هذه البئر تنسب إلى رومة الغفاري، ولم يسمها عينا، والجمع بين هذا وبين قوله في الحديث المتقدم «نعم الحفير حفيرة المزني» يعني رومة أن الذي احتفرها كان من مزينة ثم ملكها رومة الغفاري، وذكر ابن عبد البر أنها كانت ركية ليهودي يبيع ماءها من المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم وله بها شرب في الجنة؟ فأتى عثمان اليهوديّ فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى عثمان نصفها باثني عشر ألف درهم، فجعله للمسلمين، فقال له عثمان: إن شئت جعلت لنصيبي قربين، وإن شئت فلي يوم ولك يوم، فقال: بل لك يوم ولي يوم، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال: أفسدت علي ركيتي، فاشتر النصف الآخر، فاشتراه بثمانية آلاف درهم. قلت: وهي بئر قديمة جاهلية؛ لما رواه ابن زبالة عن غير واحد من أهل العلم أن تبّعا اليماني لما قدم المدينة كان منزله بقناة، واحتفر البئر التي يقال لها بئر الملك، وبه سميت، فاستوبأ بئره تلك، فدخلت عليه امرأة من بني زريق يقال لها فكهة، فشكا إليها وباء بئره، فانطلقت فأخذت حمارين أعرابيين، فاستقت له من بئر رومة، ثم جاءته به، فشرب فأعجبه وقال: زيديني من هذا الماء، فكانت تصير إليه به مقامه، فلما خرج قال لها: يا فكهة إنه ليس معنا من الصفراء والبيضاء شيء، ولكن لك ما تركنا من أزوادنا ومتاعنا، فلما خرج نقلت ما بقي من أزوادهم ومتاعهم، فيقال: إنها كانت لم تزل هي وولدها أكثر بني زريق مالا حتى جاء الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وهذه البئر في أسفل وادي العقيق، قريبة من مجتمع الأسيال، في براح واسع من الأرض، وعندها بناء عال بالحجارة والجص قد تهدم. قال ابن النجار: قيل: إنه كان دارا لليهودي، وحولها مزارع وآبار كثيرة، وهي قبلى الجرف وشمالي مسجد القبلتين بعيدة منه، قال ابن النجار: وقد انقضت خرزتها وأعلامها، إلا أنها بئر مليحة جدّا، مبنية بالحجارة الموجّهة، قال: وذرعتها فكان طولها ثمانية عشر ذراعا، منها ذراعان ماء وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح فيها، وعرضها ثمانية أذرع، وماؤها طاف، وطعمه حلو، إلا أن الأجون غلب عليه. وقال المطري: وقد خرجت، ونقضت حجارتها، وانطمّت، ولم يبق منها اليوم إلا أثرها. قال الزين المراغي: وقد جددت بعد ذلك، ورفع بناؤها عن الأرض نحو نصف قامة، ونزحت فكثر ماؤها، أحياها كذلك القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن المحب الطبري قاضي مكة المشرفة في حدود الخمسين وسبعمائة، قال: فتناوله إن شاء الله تعالى عموم حديث «من حفر بئر رومة فله الجنة» انتهى. ومن الغريب قول عياض في مشارقه: بئر رومة بضم الراء بئران مشهوران بالمدينة، انتهى، ولم أقف له على أصل. بئر السقيا: - بضم السين المهملة، وسكون القاف، من سقاه الغيث وأسقاه- تقدم ذكرها في مسجد السقيا في حديث ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض جيش بدر بالسقيا، وصلّى في مسجدها، ودعا هناك، الحديث، وفيه واسم البئر السقيا، واسم أرضها الفلجان. وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله قال: قال أبي: يا بني إنا اعترضنا هاهنا بالسقيا، حين قاتلنا اليهود بحسيكة، فظفرنا بهم، ونحن نرجو أن نظفر، ثم عرضنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بها متوجها إلى بدر، فإن سلمت ورجعت ابتعتها وإن قتلت فلا تفوتنك، قال: فخرجت أبتاعها، فوجدتها لذكوان بن عبد قيس، ووجدت سعد بن أبي وقّاص قد ابتاعها وسبق إليها، وكان اسم الأرض الفلجان، واسم البئر السقيا. قال ابن شبة: قال محمد بن يحيى: وسألت عبد العزيز بن عمران عن حسيكة، وذكر ما سيأتي فيها، ثم قال: قال أبو غسان: وأخبرني عبد العزيز بن عمران عن راشد بن حفص عن أبيه قال: كان اسم أرض السقيا الفلج، واسم بئرها السقيا، وكانت لذكوان بن عبد قيس الزرقي، فابتاعها منه سعد بن أبي وقاص ببعيرين. وروى أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يستقي له الماء العذب من بئر السقيا» وفي رواية «من بيوت السقيا» ورواه أبو داود بهذا اللفظ، وسنده جيد، وصححه الحاكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وروى الواقدي من حديث سلمة امرأة أبي رافع قالت: كان أبو أيوب- حين نزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم- يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس، ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا، وكان رباح الأسود عنده صلى الله عليه وسلم يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة. وتقدم في رابع فصول الباب الثاني ما رواه الترمذي وقال حسن صحيح عن علي بن أبي طالب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بحرة السقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بوضوء، فتوضأ فقام ثم قام فاستقبل القبلة، الحديث. وتقدم أيضا حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى بأرض سعد بأرض الحرة عند بيوت السقيا- الحديث» . قلت: وبئر السقيا هذه هي التي ذكر المطري أنها في آخر منزلة النقاء على يسار السالك إلى بئر عليّ بالحرم، قال: وهي بئر مليحة، كبيرة، متنورة في الجبل، وقد تعطلت وخربت، وعلى جانبها الشمالي- يعني من جهة المغرب- بناء مستطيل مجصص. قلت: والظاهر أنه كان حوضا أو بركة لورود الحجاج، كانوا ينزلون بها أيام عمارة المدينة، ولهذا سمي المطري محلها منزلة النقاء، وما سيأتي عنه في النقاء مصرّح بذلك، وكان بعض فقراء العجم قد جدّدها وعمرها في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فصارت تعرف ببئر الأعجام، كما رأيته بخط الزين المراغي. قلت: وقد تهدمت وتشعّثت بعد ذلك، فجددها الجناب الخواجكي البدري بدر الدين بن عليبة سنة ست وثمانين وثمانمائة، تقبل الله منه وأثابه الجنة بمنه وكرمه. وتقدم في بئر إهاب أن المطري تردّد في أن هذه السقيا لقربها من الطريق أم هي البئر المعروفة اليوم بزمزم؛ لتواتر التبرك بها، ثم قال: إن الظاهر أن السقيا هي الأولى. قلت: وهو الصواب؛ لزوال التردد بما منّ الله به من الظّفر بمسجد السقيا عندها، كما تقدم فيه، والظاهر أنها المرادة بقول الغزالي في آداب الزائر: وليغتسل من بئر الحرة، انتهى، وذلك لكونها على جادّة الطريق، وكانت مجاورة لأول بيوت المدينة أيام عمارتها. وقال أبو داود عقب روايته لحديث استعذاب الماء من بيوت السقيا: قال قتيبة: السقيا عين بينها وبين المدينة يومان. قلت: وما ذكره صحيح كما سيأتي في ترجمتها، إلا أنها ليست المرادة هنا، وكأنه لم يطلع على أن بالمدينة بئرا تسمى بذلك، وقد اغترّ به المجد فقال: السقيا قريبة جامعة من عمل الفرع، ثم أورد حديث أبي داود، وقول صاحب النهاية: السقيا منزل بين مكة والمدينة، قيل: على يومين، ومنه حديث «كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا» ثم قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وقول أبي بكر بن موسى «السقيا بئر بالمدينة منها كان يستقى لرسول الله صلى الله عليه وسلم» محمول على هذا؛ لأن الفرع من عمل المدينة، ثم قال: وأما البئر التي على باب المدينة بينها وبين ثنيّة الوداع أي المدرج بها كما سيأتي عنه فيظنها أهل المدينة أنها هي السقيا المذكورة في الحديث، قال: والظاهر أنه وهم، قال: ومما يؤكد ذلك قوله في الحديث «من بيوت السقيا» ولم يكن عند هذا البئر بيوت في وقت، ولم ينقل ذلك، وأيضا إنما استعدب له صلى الله عليه وسلم الماء من السقيا لما استوخموا مياه آبار المدينة، قال: وهذه البئر التي ذكرناها- أي التي بين المدينة والمدرج- كانت لسعد بن أبي وقاص فيما حكاه المطري، قال يعني المطري: ونقل أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض جيش بدر بالسقيا التي كانت لسعد، وصلى في مسجدها، ودعا هنالك لأهل المدينة، وشرب صلى الله عليه وسلم من بئرها، ويقال لأرضها «الفلجان» بضم الفاء والجيم، وهي اليوم معطّلة، وكانت مطمومة فأصلمها بعض فقراء العجم، اه. قلت: حمله لكلام أبي بكر بن موسى على ما ذكره ونقله ما جاء في السقيا المذكورة عن المطري يقتضي أنه لم يقف على ما قدمناه عن ابن زبالة وابن شبة، وأنه لا يرى أن بالمدينة نفسها بئرا تسمى بالسقيا، وهو وهم مردود، مع أن المعتمد عندي أن السقيا التي جاء حديث الاستعذاب منها إنما هي سقيا المدينة، وذلك لوجوه: الأول: إيراد ابن شبة للحديث في ترجمة آبار المدينة التي كان يستقى له صلى الله عليه وسلم منها. الثاني: قرنه لذلك بحديث عرض جيش بدر بها، وإيراد ابن زبالة في سياق آبار المدينة، والسقيا التي من عمل الفرع ليست من طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر؛ لأن تلك الطريق معروفة، والسقيا المذكورة معروفة أيضا، وليست في جهتها كما سيأتي في بيان محلها، وأيضا ففي حديث جابر المتقدم أنهم اعترضوا بالسقيا عند قتال اليهود بحسيكة مع بيان أن حسيكة بالمدينة نفسها إلى الجرف. الثالث: ما تقدم أيضا من أنها كانت لبعض بني زريق من الأنصار، وتحريض والد جابر له على شرائها، وأن سعدا سبقه لذلك. الرابع: ما تقدم في رواية الواقدي من أنه كان يستقي له صلى الله عليه وسلم منها مرة ومن بئر غرس مرة، ويبعد كلّ البعد قرن السقيا التي هي على يومين بل أيام من المدينة كما سيأتي ببئر غرس التي هي بالمدينة. الخامس: ما في رواية الواقدي أيضا من أن المتعاطي لذلك أبناء أسماء أنس وهند وحارثة، ومثل هؤلاء إنما يستقون من المدينة وما حولها؛ لأن سقيا الفرع تحتاج إلى جمال ورجال. السادس: ما قدمناه في مسجد السقيا من إيراد الأسدي له في المساجد التي تزار بالمدينة، ثم ذكر في المساجد التي بين الحرمين مسجد السقيا التي هي من عمل الفرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 السابع: ما قدمناه من الظفر بمسجد بئر السقيا بالمدينة. الثامن: أن المجد نقل عن الواقدي في ترجمة بقع أنه بضم الموحدة من السقيا التي بنقب بني دينار، وسنبين في نقب بني دينار أنه الطريق التي في الحرة الغربية إلى العقيق. وأما قول المجد «إنه لم يكن عند هذه البئر بيوت في وقت، ولم ينقل ذلك» فمن العجائب؛ إذ من تأمل ما حول البئر المذكورة وما قرب منها علم أنه كان هناك قرى كثيرة متصلة، فضلا عن بيوت، كما يشهد به آثار الأساسات ونقض العمارات، وليت شعري أين هو من مسجد السقيا الذي أهمله تبعا لغيره ومنّ الله بوجوده بسبب التأمل في تلك الأساسات وآثار العمارات؟ ولما كشف التراب عن محله وجدنا من بنائه ومحرابه نحو نصف ذراع، وهو مجاور لهذه البئر كما سبق، وما ذكره من أن الاستعذاب من السقيا إنما كان لما استوخموا آبار المدينة فمردود، بل هو طلب الماء العذب، وأيضا أنهم لم يستوخموا كل آبارها. وفي الصحيح في قصة مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى أبي الهيثم بن التيهان قول زوجته «خرج يستعذب لنا الماء» ورواية الواقدي المتقدمة مصرّحة بوقوع الاستعذاب من بئر مالك بن النضر والد أنس، وكانت بدار أنس كما تقدم بيانه، كما سيأتي في بئر غرس الاستعذاب منها أيضا. ثم لو سلمنا أن المراد من حديث أبي داود في الاستعذاب العين التي ذكرها قتيبة فهو محمول على أنه كان يستعذب له صلى الله عليه وسلم منها، إذا نزل قربها في سفر حجه ونحوه، أما استعذابه منها إلى المدينة فلا أراه وقع أصلا، والله أعلم. بئر العقبة: - بالعين المهملة، ثم القاف- قال المجد: ذكرها رزين العبدري في آبار المدينة، وقال: هي التي أدلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أرجلهم فيها، ولم يعين لها موضعا، والمعروف أن هذه القصة إنما كانت في بئر أريس، اه. والذي رأيته في كتاب رزين في تعداد الآبار المعروفة بالمدينة ما لفظه: وبئر العين سقط فيها الخاتم، وبئر القف التي أدلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أرجلهم فيها، انتهى. وقد قدمنا في بئر أريس ما يقتضي تعدد الواقعة. بئر أبي عتبة: - بلفظ واحد العنب- قال ابن سيد الناس في خبر نقله عن ابن سعد في غزوة بدر، ما لفظه: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على بئر أبي عنبة، وهي على ميل من المدينة، فعرض أصحابه، وردّ من استصغره، اه. وهذا مستند ما نقله المطري في الكلام على بئر السقيا حيث قال بعد ذكر عرض جيش بدر بالسقيا: ونقل الحافظ ابن عبد الغني المقدسي أنه عرض جيشه على بئر أبي عنبة بالحرة فوق هذه البئر أي السقيا، إلى المغرب، ونقل أنها على ميل من المدينة. قلت: ولعل العرض وقع أولا عند مرورهم بالسقيا، ثم لما ضرب عسكره على هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 البئر أعاد العرض لرد من استصغر، ولعل هذه البئر هي المعروفة اليوم ببئر ودي؛ لانطباق الوصف المتقدم عليها، ولأنها أعذب بئر هناك. وقد روى ابن زبالة عن إبراهيم بن محمد قال: خرجنا نشيع ابن جريج حين خرج إلى مكة، فلما كنا عند بئر أبي عنبة قال: ما اسم هذا المكان؟ فأخبرناه، فقال: إن عندي فيه لحديثا، ثم ذكر حديث عاصم بن عمر حين اختصم فيه عمر وجدّته إلى أبي بكر، فقال عمر: يا خليفة رسول الله، ابني ويستقي لي من بئر أبي عنبة، فدل على أن الماء كان يستعذب منها، قال المجد: وقد جاء ذكر هذه البئر في غير ما حديث. بئر العهن: - بكسر العين المهملة، وسكون الهاء، ونون- ذكر المطري الآبار التي ذكرها ابن النجار- وهي: أريس، والبصّة، وبضاعة، ورومة، والغرس، وبيرحاء- ثم قال: والآبار المذكورة ست، والسابعة لا تعرف اليوم، ثم ذكر ما تقدم عنه في بئر جمل. ثم قال: إلا أني رأيت حاشية بخط الشيخ أمين الدين بن عساكر على نسخة من «الدرة الثمينة، في أخبار المدينة» للشيخ محب الدين بن النجار ما مثاله: العدد ينقص عن المشهور بئرا واحدة؛ لأن المثبت ست، والمأثور المشهور سبع، والسابعة اسمها «بئر العهن» بالعالية، يزرع عليها اليوم، وعندها سدرة، ولها اسم آخر مشهورة به. قال المطرطي عقبه: وبئر العهن هذه معروفة بالعوالي، وهي بئر مليحة جدّا، منقورة في الجبل، وعندها سدرة كما ذكر، ولا تكاد تعرف أبدا، وقال الزين المراغي عقب نقله، والسدرة مقطوعة اليوم. قلت: ولم يذكروا شيئا يتمسك به في فضلها ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يزل الناس يتبركون بها. والذي ظهر لي بعد التأمل أنها بئر اليسرة الآتي ذكرها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليها وتوضأ وبصق فيها؛ لأن اليسرة بئر بني أمية من الأنصار بمنازلهم كما سيأتي، وبئر العهن عند منازلهم، وقد أشار ابن عساكر إلى تسميتها باسم آخر، فأظنه الاسم المذكور، والله أعلم. بئر غرس: - بضم الغين المجمة كما رأيته في خط الزين المراغي، وهو الدائر على ألسنة أهل المدينة، ويقال «الأغرس» كما يؤخذ مما سيأتي في وادي بطحان أول الفصل الخامس، وقال المجد: بئر الغرس بفتح الغين وسكون الراء وسين مهملة، والغرس: الفسيل، أو الشجر الذي يغرس لينبت، مصدر غرس الشجر، قال: وضبطه بعض الناس بالتحريك مثال سحر، وسمعت كثيرا من أهل المدينة يضمون الغين، قال: والصواب الذي لا محيد عنه ما قدمته، أي من الفتح- وهي بئر بقباء في شرقي مسجدها، على نصف ميل إلى جهة الشمال، وهي بين النخيل، ويعرف مكانها اليوم وما حولها بالغرس، قال: وحولها مقابر بني حنظلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 قلت: وأظنه تصحيفا، والمذكور في جهتها بنو خطمة، وقد تقدم في بئر السقيا أن رباحا الأسود عبد النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة. وروى ابن حبان في الثقات عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: ائتوني بماء من بئر غرس؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب منها ويتوضأ. وفي سنن ابن ماجه بسند جيد عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أنا متّ فاغسلوني بسبع قرب من بئري بئر غرس» وكانت بقباء، وكان يشرب منها. ورواه يحيى عن عليّ بلفظ: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «يا علي، إذا أنا متّ فاغسلني من بئري بئر غرس بسبع قرب لم تحلل أوكيتهنّ» . وروى ابن سعد في طبقاته برجال الصحيح عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم قال: غسل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث غسلات بماء وسدر، وغسل في قميص، وغسل من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خيثمة بقباء، وكان يشرب منها. وروى ابن شبة بسند صحيح عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل من بئر سعد بن خيثمة بئر كان يستعذب له منها، وفي رواية: من بئر سعد بن خيثمة بئر يقال لها الغرس بقباء كان يشرب منها. وروى أيضا عن سعيد بن رقيش أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر الأغرس، وأهراق بقية وضوئه فيها. وروى ابن زبالة عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش قال: جاءنا أنس بن مالك بقباء فقال: أين بئركم هذه؟ يعني بئر غرس، فدللناه عليها، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم جاءها، وإنها لتسنى على حمار، بسحر، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بدلو من مائها، فتوضّأ منه ثم سكبه فيها، فما نزفت بعد. وعن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الليلة أني أصبحت على بئر من الجنة، فأصبح على بئر غرس، فتوضأ منها، وبزق فيها، وأهدى له عسل فصبه فيها، وغسل منها حين توفي. ورواه ابن النجار من طريق ابن زبالة، دون قوله «وأهدى له من عسل إلى آخره» . وقال المجد: وفي حديث ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد على شفير غرس: رأيت الليلة كأني جالس على عين من عيون الجنة، يعني بئر غرس. قال: وعن عاصم بن سويد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعسل فشرب منه، وأخذ منه شيئا فقال: هذا لبئري بئر غرس، ثم صبّه فيها، ثم إنه بصق فيها، وغسل منها حين توفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 قلت: وسبق في أوائل الفصل العاشر من الباب الرابع ما يقتضي أن هذه البئر عند مسجد قباء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أول مقدمه قباء أناخ على غدة عندها، وقدمنا أن الظاهر أن تصحيف؛ لمخالفته لما هو المعروف في محل هذه البئر. وقال ابن النجار: هذه البئر بينها وبين مسجد قباء نحو نصف ميل، هي في وسط الصحراء، وقد حربها السيل وطمّها، وفيها ماء أخضر، إلا أنه عذب طيب، وريحه الغالب عليه الأجون. قال: وذرعتها فكان طولها سبعة أذرع شافة منها ذراعان ماء وعرضها عشرة أذرع. قال المطري: وهي اليوم ملك لبعض أهل المدينة، وكانت قد خربت فجددت بعد السبعمائة، وهي كثيرة الماء، وعرضها عشرة أذرع، وطولها يزيد على ذلك، وماؤها يغلب عليه الخضرة، وهو طيب عذب. قلت: وقد خربت بعد ذلك، فابتاعها وما حولها صاحبنا الشيخ العلامة المقيد خواجا حسين بن الجواد المحسن الخواجكي الشيخ شهاب الدين أحمد القاواني، أثابه الله تعالى، وعمرها وحوط عليها حديقة، وجعل لها درجة ينزل إليها منها من داخل الحديقة وخارجها، وأنشأ بجانبها مسجدّا لطيفا، ووقفها، تقبّل الله منه، وذلك في سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة. بئر القراصة: لم يذكرها وما بعدها ابن النجار ومن بعده، ولم أر من ضبطها، ولعلها بالقاف وبالراء كما في بعض النسخ، وفي بعضها بالعين بدل القاف. وروى ابن زبالة عن جابر بن عبد الله قال: لما استشهد أبي عبد الله بن عمرو بن حرام عرضت على غرمائه القراصة، وكانت له، أصلها وثمرها بما عليه من الدين، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، إلا أن يقوّموها قيمة ويرجعوا عليه بما بقي من الدين، قال: فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعهم، حتى إذا كان جدادها فجدّها في أصولها، ثم ائتني فأعلمني، فلما حان جدادها جدّها في أصولها ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فبصق في بئرها، ودعا الله أن يؤدي عن عبد الله بن عمرو، وقال: اذهب يا جابر إلى غرماء أبيك فشارطهم على سعر وائت بهم فأوفهم، فخرج جابر فشارطهم على سعر، وقال: انطلقوا حتى أوفيكم حقوقكم، وكان أكبرهم اليهود، قال: فقال بعضهم لبعض: أما تعجبون من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن صاحبه، عرض أصله وثمره فأبينا، ويزعم أنه يوفينا من ثمره، قال: فجاء بهم حتى أوفاهم حقوقهم، وفضل منها مثل ما كانوا يجدون كل سنة. قلت: وهذه البئر غير معروفة اليوم، إلا أن جهتها جهة مسجد الخربة، وهي في غربي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 مساجد الفتح؛ لما تقدم فيه من أنه دبر القراصة، ويؤيده أن أصل حديث جابر في أرضه مذكور في الصحيح بطرق وفي بعضها: وكانت لجابر الأرض التي بطريق رومة، وهذه الجهة بطريق رومة. وروى أحمد عن جابر قال: قلت: يا رسول الله، إن أبي ترك دينا ليهودي فقال: يأتيك يوم السبت إن شاء الله تعالى، وذلك في زمن التمر مع استجداد النخل، فلما كان صبيحة يوم السبت جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليّ في مالي أتى الربيع فتوضّأ منه ثم قام إلى المسجد فصلى ركعتين، ثم دنوت به إلى خيمة لي فبسطت له بجادا من شعر، الحديث، والله أعلم. بئر القريصة: لم أر من ضبطها، وأظنها بالقاف والصاد المهملة مصغرة. روى ابن زبالة عن سعد بن حرام والحارث بن عبيد الله قالا: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بئر في القريصة بئر حارثة، أو شرب، وبصق فيها، وسقط فيها خاتمة فنزع. ثم روى عقبة سقوط الخاتم في بئر أريس. قلت: وهذه البئر لا تعرف اليوم، إلا أن في شرقي المدينة بقرب القراصة المتقدمة في مسجد القراصة بئرا تعرف بالقريصة مصغر القرصة، فإن صح الضبط المتقدم فهي المرادة. بئر اليسرة: من اليسر ضد العسر. روى ابن زبالة عن سعيد بن عمرو قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية بن زيد، فوقف على بئر لهم فقال: ما اسمها؟ قالوا: عسرة، قال: لا، ولكن اسمها اليسرة، قال: فبصق فيها وبرّك فيها. وروى ابن شبة عن محمد بن حارثة الأنصاري عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى بئر بني أمية من الأنصار اليسرة، وترّك عليها وتوضأ وبصق فيها. وروى ابن سعد في طبقاته عن عمر بن سلمة أن أبا سلمة بن عبد الأسد لما مات غسل من اليسرة، بئر بني أمية بن زيد بالعالية، وكان ينزل هناك حين تحوّل من قباء، غسل بين قرني البئر، وكان اسمها في الجاهلية العسرة، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم اليسرة. قلت: وهذه لبئر غير معروفة اليوم بهذا الاسم، والذي يظهر أنها بئر العهن؛ لما قدمناه فيها. وقد استقصينا هذا الغرض فبلغ كما ترى نحو عشرين بئرا، وما اقتضاه كلام بعضهم من انحصار المأثور من ذلك في سبع مردود؛ لكن الذي اشتهر من ذلك سبع، ولهذا قال في الإحياء: ولذلك تقصد الآبار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ منها ويغتسل ويشرب، وهي سبعة آبار، طلبا للشفاء، وتبركا به صلى الله عليه وسلم، انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: وهي أي السبعة المشار إليها: بئر أريس، وبيرحاء، وبئر رومة، وبئر غرس، وبئر بضاعة، وبئر البصة، وبئر السقيا، أو بئر العهن، أو بئر جمل؛ فجعل السابعة مترددة بين الآبار الثلاث، ثم ذكر نحو ما قدمناه في فضائل هذه الآبار إلا العهن فلم يذكر فيها شيئا؛ لأن الوارد فيها إنما هو باسمها الآخر ولم يشتهر. ثم قال: والمشهور أن الآبار بالمدينة سبعة. وقد روى الدارمي من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه ضبّوا عليّ سبع قرب من آبار شتى، وهو عند البخاري دون قوله «من آبار شتى» انتهى. قلت: ومن ذلك فلا دلالة فيه على أن تلك الآبار السبعة هي المرادة بذلك، والمشهور عند أهل المدينة أن السابعة هي العهن، ولهذا قال أبو اليمن ابن الزين المراغي فيما أنشدنيه عنه أخوه شيخنا العلامة أبو الفرج ناصر الدين المراغي: إذا رمت آبار النبيّ بطيبة ... فعدّتها سبع مقالا بلا وهن أريس، وغرس، رومة، وبضاعة ... كذا بصّة، قل بيرحاء مع العهن تتمة في العين المنسوبة للنبي ص ، وما يتصل بها من العين الموجودة في زماننا، وغيرها من العيون. عين كهف بني حرام روى ابن شبة عن عبد الملك بن جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من العين التي عند كهف بني حرام، قال: وسمعت بعض مشيختنا يقول: قد دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الكهف. وترجم ابن النجار لذكر عين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روى من طريق محمد بن الحسن وهو عن ابن زبالة عن موسى بن إبراهيم بن بشير عن طلحة بن حراش قال: كانوا أيام الخندق يخرجون برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخافون البيات، فيدخلونه كهف بني حرام، فيبيت فيه، حتى إذا أصبح هبط، قال: وبقر رسول الله صلى الله عليه وسلم العيينة التي عند الكهف، فلم تزل تجري حتى اليوم. قلت: وهو في كتاب ابن زبالة، إلا أنه قال فيه: عن طلحة بن حراش عن جابر بن عبد الله، قال ابن النجار عقبه: وهذه العين في ظاهر المدينة، وعليها بناء، وهي في مقابلة المصلى. قال المطري عقبه: أما الكهف الذي ذكره فمعروف في غربي جبل سلع، على يمين السالك إلى مسجد الفتح من الطريق القبلية، وعلى يسار المتوجه إلى المدينة مستقبل القبلة، يقابله نخل تعرف بالغنيمية، أي المعروفة اليوم بالنقيبية في بطن وادي بطحان غربي جبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 سلع، قال: وفي الوادي عين تأتى من عوالي المدينة تسقي ما حول المساجد من المزارع وتعرف بعين الخيف خيف شامي، وتعرف تلك الناحية بالسيح. قلت: وقد تقدم في مساجد الفتح إيضاح هذا الكهف، وأن عنده آثار نقر في الجبل، وليست عين الخيف التي ذكرها المطري بجارية في زماننا، بل هي منقطعة، ومجراها معلوم. وبيّن ابن النجار بما يأتي عنه في الخندق أنها تأتي من قباء، وأصلها فيما يقال معلوم غربي قباء، وقد شرع في إجرائها متولّي العمارة الجناب الشمسي ابن الزمن، فتتبّع قناتها إلى أن آل إلى الموضع الذي يقال إنه أصلها، ثم بالغوا في تنظيفه فلم يجر. قال المطري: فأما العين التي ذكر ابن النجار أنها مقابلة المصلى فهي عين الأزرق، وهو مروان بن الحكم، أجراها بأمر معاوية رضي الله تعالى عنه، وهو واليه على المدينة، وأصلها من قباء المعروف من بئر كبيرة غربي مسجد قباء في حديقة نخل، وتجري إلى المصلى، وعليها في المصلى قبة كبيرة مقسومة نصفين، يخرج الماء منها في وجهين مدرجين قبلي وشمالي، وتخرج العين من جهة المشرق، ثم تأخذ إلى جهة الشمال. قال: وأما عين النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكر ابن النجار فليست تعرف اليوم، وإن كانت كما قال عند الكهف المذكور فقد دثرت، وعفا أثرها. قلت: مراد ابن النجار أن أصلها عند الكهف، وأنها تجري إلى الموضع الذي عليه البناء في مقابلة المصلى، وقد وافق ابن النجار على ذلك ابن جبير في رحلته، فقال: وقبل وصولك سور المدينة من جهة المغرب بمقدار غلوة تلقى الخندق، وبينه وبين المدينة عن يمين الطريق العين المنسوبة إليالنبي صلى الله عليه وسلم، وعليها حلق عظيم، ومستدير، ومنبع العين وسط ذلك الحلق كأنه الحوض المستطيل، وتحته سقايات مستطيلات باستطالة الحلق، وقد ضرب بين كل سقاية وبين الحوض بجدارين، وهو يمدّ السقايتين، ويهبط إليها على أدراج نحو الخمس والعشرين درجة، وهما لتطهير الناس واستقائهم وغسل أثوابهم، والحوض المذكور لا يتناول منه لغير الاستسقاء خاصة صونا له، انتهى. قال المجد: وبشبه أنه اشتبه عليه عين الأزرق بعين النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: اتفاقه هو وابن النجار على ذلك يبعد الاشتباه، بل يحتمل أن عين النبي صلى الله عليه وسلم كانت تحرى إلى هذا الموضع، وكذا عين الأزرق، ثم انقطعت الأولى وبقيت الثانية التي هي عين الأزرق. قال المطري: وقد أخذ الأمير سيف الدين الحسين ابن أبي الهيجاء في حدود الستين وخمسمائة منها شعبة من عند مخرجها من القبة، فساقها إلى باب المدينة من باب المصلى، ثم أوصلها إلى الرحبة التي عند مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من جهة باب السلام، أي المقابلة لباب المدرسة الزمنية، وبها سوق المدينة اليوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 قال: وبنى لها هناك منهلا بدرج من تحت الدور، يستقي منه أهل المدينة، وجعل لها مصرفا من تحت الأرض بشق وسط المدينة على الموضع المعروف بالبلاط، أي سوق العطارين اليوم، وما والاه من منازل الأشراف أمراء المدينة، يخرج إلى ظاهر المدينة من جهة الشمال شرقي الحصن الذي يسكنه أمير المدينة. قال: وقد كان جعل منها شعبة صغيرة تدخل إلى صحن المسجد، وجعل لها منهلا بدرج عليه عقد يخرج الماء إليه من فوّارة يتوضأ منها من يحتاج إلى الوضوء، وحصل في ذلك انتهاك حرمة المسجد من كشف العورات والاستنجاء في المسجد، فسدّت لذلك. قلت: وقد سبق في الفصل الحادي والثلاثين من الباب الخامس عن ابن النجار في ذكر السقايات التي بالمسجد أن الذي عمل هذا المنهل بعض أمراء الشام واسمه شامة. ثم ذكر المطري وصف مسير العين من القبة التي بالمصلّى إلى جهة الشام فقال: وإذا خرجت العين من القبة التي في المصلّى سارت إلى جهة الشمال، حتى تصل إلى سور المدينة فتدخل تحته إلى منهل آخر بوجهين مدرجين: أي وهو الذي عند رحبة حصن الأمير، ثم تخرج إلى خارج المدينة فتصل إلى منهل آخر بوجهين مدرجين عند قبر النفس الزكية، ثم تخرج من هناك وتجتمع هي وما يتحصّل من مصلها في قناة واحدة إلى البركة التي ينزلها الحجاج، يعني حجاج الشام، وهي التي تقدم عنه في الباب الأول في أثرب أن الحجاج يسمونها عيون حمزة، أي لظنهم أنها عين الشهداء، وأنها تأتي من جهة مشهد سيدنا حمزة، وليس كذلك، إنما تأتي كما قال من قباء من البئر التي في الحديقة المعروفة بالجعفرية، وإذا جاوزت مشهد النفس الزكية وثنيّة الوداع مرّت من شامي سلع على المسجد المعروف بمسجد الراية، ولها هناك منهل آخر، ثم تسير في جهة المغرب فتمر في غربي الجبلين اللذين في غربي مساجد الفتح، وهكذا حتى تصل إلى مغيضها، وهو الموضع المسمى بالبركة، وقد زرع عليها هناك نخيل كثيرة هي اليوم بيد أمراء المدينة، وفقر قناتها ظاهرة في الأماكن التي أشرنا إليها، ولا مرور لها بالشهداء أصلا فعين الشهداء غير هذه العين، وهي المراد بما سبق في سابع فصول الباب الخامس في ذكر قبور الشهداء بأحد من قول جابر: صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين، وغيره من الأخبار المذكورة هناك، وحينئذ فكل من العينين المذكورتين تنسب إلى معاوية: عين الشهداء، وهي دائرة اليوم، ويحتمل: أنها التي كان مغيضها عند المسجد المعروف بمصرع حمزة رضي الله تعالى عنه المتقدم ذكرها في المساجد، وأن الأمير وديا كان قد جدّدها ثم دثرت، لكن أصلها من جهة العالية، وبعض قطرها ظاهر يشهد بذلك. وقال البدر بن فرحون في ترجمة نور الدين الشهيد: إنه أجرى العين التي تحت جبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 أحد، قال: وأظنها عين الشهداء، فإن العين التي أجراها معاوية رضي الله تعالى عنه مستبطنة الوادي وقد دثرت، ورسومها موجودة إلى اليوم، انتهى. والعين الموجودة اليوم المعروفة بعين الأزرق، وتسميها العامة الزرقاء، سميت بذلك لأن مروان الذي أجراها بأمر معاوية كان أزرق العينين فلذلك لقب بالأزرق. ومن الغرائب العجيبة ما ذكره المنورقي في جزء ألّفه في فضائل الطائف عن الفقيه أبي محمد عبد الله بن حمو البخاري عن شيخ الخدام بالحرم النبوي بدر الشهابي أنه بلغه أن ميضأة وقعت في عين الأزرق بالطائف، فخرجت في عين الأزرق بالمدينة. ويذكر أنه كان بالمدينة وما حولها عيون كثيرة تجددت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لمعاوية رضي الله تعالى عنه اهتمام بهذا الباب، ولهذا كثرت في أيامه الغلال بأراضي المدينة، فقد نقل الواقدي في كتاب الحرّة أنه كان بالمدينة على زمن معاوية صوافي كثيرة، وأن معاوية كان يجدّ بالمدينة وأعراضها مائة ألف وسق وخمسين ألف وسق، ويحصد مائة ألف وسق حنطة. الفصل الثاني في صدقاته صلى الله عليه وسلم، وما غرسه بيده الشريفة أصل صدقات الرسول صلى الله عليه وسلم روى ابن شبة فيما جاء في أمواله صلى الله عليه وسلم وصدقاته عن ابن شهاب قال: كانت صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالا لمخيريق اليهودي، أي بالخاء المعجمة والقاف مصغرا. قال عبد العزيز- يعني ابن عمران- بلغني أنه كان من بقايا بني قنيقاع، ثم رجّح حديث ابن شهاب قال: وأوصي مخيريق بأمواله للنبي صلى الله عليه وسلم، وشهد أحدا فقتل به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق سابق يهود، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة. أسماء صدقات الرسول صلى الله عليه وسلم ومواضعها قال: وأسماء أموال مخيريق التي صارت للنبي صلى الله عليه وسلم: الدلال، وبرقة، والأعواف، والصافية، والميثب، وحسنى، ومشربة أم إبراهيم. فأما الصافية وبرقة والدلال والميثب فمجاورات لأعلى الصورين من خلف قصر مروان بن الحكم، ويسقيها مهزور. وأما مشربة أم إبراهيم فيسقيها مهزور، فإذا بلغت بيت مدراس اليهود فحيث مال أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة الأسدي فمشربة أم إبراهيم إلى جنبه، وذكر ما قدمناه عنه في المساجد في سبب تسميتها بمشربة أم إبراهيم. ثم قال: وأما حسنى فيسقيها مهزور، وهي من ناحية القف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وأما الأعواف فيسقيها مهزور، وهي من أموال بني محمم. ثم قال: قال أبو غسان: وقد اختلف في الصدقات فقال بعض الناس: هي أموال بني قريظة والنضير. وروى عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كانت الدلال لامرأة من بني النضير، وكان لها سلمان الفارسي، فكاتبته على أن يحييها لها، ثم هو حر، فأعلم بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرج إليها فجلس على فقير، ثم جعل يحمل إليه الوديّ فيضعه بيده، فما عدت منها ودية أن طلعت. قال: ثم أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: والذي يظهر عندنا: أنها من أموال بني النضير، ومما يدل على ذلك أن مهزورا يسقيها، ولم يزل يسمع أنه لا يسقى إلا أموال بني النضير. قلت: فيه نظر؛ إذ المعروف ببني النضير إنما هو مذينب، ومهزور لبني قريظة. ثم قال: وقد سمعنا بعض أهل العلم يقول: إن برقة والميثب للزبير بن باطا، وهما اللتان غرس سلمان، وهما مما أفاء الله من أموال بني قريظة. والأعواف: كانت لخنافة اليهودي من بني قريظة، والله أعلم ما هو الحق من ذلك. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم أمواله ثم قال: قال الواقدي: وقف النبي صلى الله عليه وسلم الأعواف وبرقة وميثب والدلال وحسني والصافية ومشربة أم إبراهيم سنة سبع من الهجرة، قال: وقال الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن الزهري قال: هذه الحوائط السبعة من أموال بني النّضير: قال: وقال بسنده لعبد الله بن كعب بن مالك قال: قال مخيريق يوم أحد: إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراد الله، فهي عامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقال عن أيوب بن أبي أيوب عن عثمان بن وثاب قال: ما هي إلا من أموال بني النضير، لقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد ففرّق أموال مخيريق، اه ما أورده ابن شبة. وقال المجد: قال الواقدي: كان مخيريق أحد بني النضير حبرا عالما، فآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل ماله وهو سبع حوائط لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحوائط المتقدمة، ونقل الذهبي عن الواقدي سوى ذكر الحوائط، لكن في أوقاف الخصاف: قال الواقدي: مخيريق لم يسلم، ولكنه قاتل وهو يهودي، فلما مات دفن في ناحية من مقبرة المسلمين، ولم يصل عليه. وروى ابن زبالة عن محمد بن كعب أن صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أموالا لمخيريق اليهودي، فلما كان يوم أحد قال لليهود: ألا تنصرون محمدا صلى الله عليه وسلم؟ فو الله إنكم لتعلمون أن نصرته حق، قالوا: اليوم السبت، قال: فلا سبت لكم، وأخذ سيفه فمضى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراح، فلما حضرته الوفاة قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث يشاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 قال محمد بن طلحة راويه: قال عبد الحميد: وكان ذا مال كثير، فهي عامة صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير اليهود، قال: وهي الدلال، وذكر الحوائط المتقدمة، إلا أنه قال: والعواف بدل الأعواف. وروى أيضا عن بكر بن أبي ليلى عن مشيخة الأنصار قالوا: كانت أموال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير حشاشين ومزارع وإبلا، فغرسها الأمراء بعد، وعملوها، وهي سبعة أموال، وذكر الحوائط المتقدمة. وعن عثمان بن كعب قال: اختلف الناس في صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: كانت من أموال بني قريظة والنضير، قال عثمان بن كعب: وليس فيها من أموال بني النضير شيء، إنما صارت أموال بني النضير للمهاجرين نفلا، قال: وكانت برقة والميثب للزبير بن بطا. وقال بعضهم: كانت الدلال من أموال بني ثعلبة من يهود، وكانت مشربة أم إبراهيم من أموال بني قريظة، وكانت الأعواف لخنافة جد ريحانة، قال: ويقال: كانت الأعواف من أموال بني النضير. وروى أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن سلمان الفارسي كان لناس من بني النضير، فكاتبوه على أن يغرس لهم كذا وكذا وديّة حتى تبلغ عشر سعفات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضع عند كل فقير ودية، ثم غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه بيده، ودعا له، فما عطبت منها ودية، ثم أفاؤها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم فهي الميثب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. قلت: يتحصّل من مجموع ما تقدم أن نخل سلمان الذي غرسه صلى الله عليه وسلم هو الدلال، وقيل: برقة والميثب، وقيل: الميثب. وروى أحمد والطبراني برجال الصحيح إلا ابن إسحاق وقد صرح بالسماع عن سلمان الفارسي حديثه الطويل، وفيه ما يقتضي أنه بالفقير، وأنه أثمر من عامه، وأنه ذكر فيه عن سلمان أن يهوديا من بني قريظة ابتاعه من ابن عم له بوادي القرى، قال: فاحتملني إلى المدينة، ثم ذكر خبر إسلامه، وقال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل، ويعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقّر لها، فإذا فرغت فاثتني أكن أنا أضعها بيدي، قال: ففقّرت وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الوديّ ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغنا، فو الذي نفس سلمان بيدي ما ماتت منها ودية واحدة، قال: فأدّيت النخل وبقي على المال، وذكر خبره فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وذكر ابن عبد البر في خبر سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه من قوم من اليهود بكذا وكذا درهما، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل، يعمل فيها سلمان حتى يدرك، فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرسها؟ قالوا: عمر، فقلعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغرسها فأطعمت من عامها، وفي رواية أن تلك الودية التي لم تثمر غرسها سلمان. قلت: والفقير اسم الحديقة بالعالية قرب بني قريظة، وقد خفي ذلك على بعضهم فقال كما نقله ابن سيد الناس: قوله «بالفقير» الوجه إنما هو بالعفير، انتهى. والصواب أنه اسم لموضع، وليس هو من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن شبة في كتاب صدقة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الذي كان بيد الحسن بن زيد ما لفظه: والفقير لي كما قد علمتم صدقة في سبيل الله، لكنه سماه قبل ذلك في أخبار صدقاته بالفقيرين، مثنّى، فقال: وكان لي صدقات بالمدينة الفقيرين بالعالية وبئر الملك بقناة، فالظاهر أنه يسمى بكل من اسمين، وأهل المدينة اليوم ينطقون به مفردا بضم الفاء تصغير الفقير ضد الغني. وقد ذكره ابن زبالة مفردا فيما رواه عن محمد بن كعب القرظي قال: كانت بئر غاضر والبرزتان قبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأضيافه، وكانت لكعب بن أسد، وكان الفقير لعمر بن سعد، وصار لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. قال: وسمعت من يقول: كانت بئر غاضر والبرزتان من طعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير. قلت: وبئر غاضر اليوم غير معروفة، وأما البرزتان فحديقتان بالعالية متجاورتان يقال لإحداهما البرزه وللأخرى البريزة مصغرة، ووقع في النسخة التي وقفت عليها من كتاب ابن شبة: قال أبو غسان سمعت من يقول: كانت بئر غاضر والنويرتين من طعمه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهما من أموال بني قريظة بعالية المدينة، وقد قيل في ذلك إن بئر غاضر مما دخلت في صدقة عثمان في بئر أريس، انتهى. وأظن قوله «النويرتين» تصحيفا، وصوابه البرزتان كما في كتاب ابن زبالة لما قدمناه. تحديد مواضع الصدقات والمعروف منها وأما بيان مواضع صدقات النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة فقد تقدم أن الصافية وبرقة والدلال والميثب متجاورات بأعلى الصورين؛ فالصافية معروفة هناك اليوم، قال الزين المراغي: هي في شرقي المدينة الشريفة بجزع زهرة، ورأيته ضبط بخطه زهيرة بضم الزاي مصغرة زهرة لاشتهاره في زمنه بذلك، وإنما هو زهرة مكبر لما سيأتي في ترجمتها، وبرقة معروفة أيضا في قبلة المدينة مما يلي المشرق، ولناحيتها شهرة بها كما قال المراغي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 والدلال: جزع معروف أيضا قبلي الصافة بقرب المليكي، وقف فقهاء المدرسة الشهابية كما قاله الزين المراغي أيضا. والميثب: غير معروف اليوم، ويؤخذ من وصف هذه الأربعة بكونها متجاورات قربها من الأماكن المذكورة، ولعله بقرب برقة لما سبق من أنهما اللذان غرسهما سلمان، وكانا لشخص واحد. والأعواف: جزع معروف بالعالية بقرب المربوع، كما تقدم بيانه في بئر الأعواف من الفصل قبله. ومشربة أم إبراهيم: معروفة بالعالية كما تقدم بيانه في المساجد. وحسنى- ضبطها الزين المراغي كما في خطه بالقلم بضم الحاء وسكون السين المهملتين ثم نون مفتوحة- قال: وروايته كذلك في ابن زبالة بالسين بعد الحاء، قال: ولا يعرف اليوم، ولعله تصحيف من الحناء بالنون بعد الحاء، وهو معروف اليوم. قلت: حمل ذلك على التصحيف المذكور متعذر؛ لأني رأيته بحاء ثم سين ثم نون في عدة مواضع من كتاب ابن شبة ومن كتاب ابن زبالة وغيرهما، وإن أراد أن أهل زمانه صحّفوه بالحناء فلا يصح أيضا؛ لأن الموضع المعروف اليوم بالحناء في شرقي الماجشونية، لا يشرب بمهزور، وقد تقدم أن حسنى يسقيها مهزور، وأنها بالقف، وسيأتي في بيان القف ما يقتضي أنه ليس بجهة الحناء. والذي يظهر أن حسني هو الموضع المعروف اليوم بالحسينيات بقرب الدلال، فإنه بجهة القف، ويشرب بمهزور، وسيأتي في القف ما يؤيده. وهذه الأماكن السبعة هي صدقاته صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على أصل ما قاله رزين العبدري من أن الموضع المعروف بالبويرة بقباء صدقة النبي صلى الله عليه وسلم من النخل، قال: ولم تزل معروفة للمساكين، محبوسة عليهم، وعلى من مرّ بها إلى عهد قريب من تاريخ الخمسمائة كالعشرين سنة ونحوها، فتغّلب عليها بعض ولاة المدينة لنفسه، قال: وبها حصن النضير وحصون قريظة، انتهى. وهو مردود من وجهين: أحدهما: أن الآئمة المتقدم ذكرهم مع اعتنائهم بهذا الباب لم يذكروا هذا الموضع في صدقاته صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن ما ذكره من أن بهذا الموضع حصون قريظة والنضير مردود بما قدمناه في منازلهما، والموضع الذي ذكره في جهة قبلة المسجد إلى جهة المغرب من منازلهما، وسنبين في ترجمة البويرة أن هذا الموضع ليس هو البويرة المنسوبة لبني النضير، وكأن منشأ ما وقع له تسمية هذا الموضع بالبويرة، وأن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم من أموال النضير أو قريظة، على ما سبق من الخلاف، وظن أنه المراد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 طلب فاطمة من أبي بكر صدقات أبيها وهذه الصدقات مما طلبته فاطمة رضي الله تعالى عنها من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكذلك سهمه صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك. وفي الصحيح عن عروة بن الزبير أن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها أخبرته أن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث، ما تركنا صدقة» فغضبت فاطمة، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، قال: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك. وقال: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا إذا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانتا لحقوقه التي تعروه. ورواه ابن شبة، ولفظه: أن فاطمة رضي الله تعالى عنها أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله على رسوله، وفاطمة حينئذ تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال» وإني والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملنّ فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر، رضي الله تعالى عنهم. وفي رواية له أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر، وذكره مختصرا كما في رواية الصحيح أيضا، وقال فيه: فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك المال حتى ماتت، وكذا نقل الترمذي عن بعض مشايخه أن معنى قول فاطمة لأبي بكر وعمر «لا أكلمكما» أي في هذا الميراث، ولا يرده قوله «فهجرته» إذ ليس المراد الهجر الحرام، بل تركها للقائه، والمدة قصيرة، وقد اشتغلت فيها بحزنها ثم بمرضها، ويؤيد ذلك ما رواه البيهقي بإسناد صحيح إلى الشعبي مرسلا أن أبا بكر عاد فاطمة فقال لها علي: هذا أبو بكر يستأذن عليك، قالت: أتحبّ أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فرضّاها حتى رضيت عليه. أما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بما سبق فلاعتقادها تأويله، قال الحافظ ابن حجر: كأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله «لا نورث» ورأت أن المنافع لكل ما خلفه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 من أرض وعقار لا يمنع أن يورث، وتمسك أبو بكر بالعموم، فلما صمم على ذلك انقطعت عنه. قلت: بقي لذلك تتمة، وهي أنها فهمت من قوله «ما تركنا صدقة» الوقف ورأت أن حق النظر على الوقف وقبض نمائه والتصرف فيه يورث، ولهذا طالبت بنصيبها من صدقته بالمدينة، فكانت ترى أن الحق في الاستيلاء عليها لها وللعباس رضي الله تعالى عنهما، وكان العباس وعلي رضي الله تعالى عنهما يعتقدان ما ذهبت إليه، وأبو بكر يرى الأمر في ذلك إنما هو للإمام، والدليل على ذلك أن عليا والعباس جاءا إلى عمر يطلبان منه ما طلبت فاطمة من أبي بكر، مع اعترافهما له بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث، ما تركنا صدقة» لما في الصحيح من قصة دخولهما على عمر يختصمان فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من مال بني النضير، وقد دفع إليهما ذلك ليعملا فيه بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به وأبو بكر بعده، وذلك بحضور عثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد والزبير، قال في الصحيح: فقال الرّهط عثمان وأصحابه: يا أمير المؤمنين اقص بينهما وأرح أحدهما من الآخر، فقال عمر: على تيدكم، أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث، ما تركنا صدقة» يعني نفسه؟ فقال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل عمر على العباس وعلى عليّ فقال: أنشد كما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: قد قال ذلك، قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله عز وجلّ قد خّص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفئ بشيء لم يعطه أحدا غيره، ثم قرأ وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ إلى قوله قَدِيرٌ [الحشر: 6] فكانت هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم، قد أعطاكموها وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله، فعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم قال لعلي وعباس: أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم، قال عمر: ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أنا وليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها أبو بكر، فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم إنه فيها لصادق بارّ راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر فكنت أنا وليّ أبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي، والله يعلم إني فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني تكلمانّي وكلمتكما وحدة وأمركما واحد، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك وجاءني هذا- يريد عليا- يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث، ما تركنا صدقة» فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملانّ فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل فيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 أبو بكر وبما عملت فيها منذ وليتها، فقلتما: ادفعها إلينا، فبذلك دفعتها إليكما، فأنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط: نعم، الحديث من رواية مالك بن أوس، وهو صريح في مطالبتهما مع اعترافهما بحديث «لا نورث» فليس محله إلا ما تقدم من أنهما فهما أن ذلك من قبيل الوقف، وأن ورثة الواقف أولى بالنظر على الموقوف، سيما وما قبضاه من أموال بني النضير هو صدقة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ولهذا زاد شعيب في آخر الحديث المذكور: قال ابن شهاب: فحدثت بهذا الحديث عروة، فقال: صدق مالك بن أوس، أنا سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول، فذكر حديثها، قال: وكانت هذه الصدقة بيد علي منعها العباس فغلبه عليها، ثم كانت بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم بيد علي بن حسين والحسن بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسن، وهي صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مثله، وزاد: قال معمر: ثم كانت بيد عبد الله بن حسن حتى ولي هؤلاء، يعني بني العباس، فقبضوها، وزاد إسماعيل القاضي أن إعراض العباس عنها كان في خلافة عثمان. وفي سنن أبي داود عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر قصة بني النضير، وقال في آخرها: فكانت نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاها الله إياه، فقال وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ [الحشر: 6] الآية، قال: فأعطى أكثرها للمهاجرين، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة. وقال ابن شبة: قال أبو غسان: صدقات النبي صلى الله عليه وسلم اليوم بيد الخليفة: يولى عليها، ويعزل عنها، ويقسم ثمرها وغلتها في أهل الحاجة من أهل المدينة على قدر ما يرى من هي في يده. قال الحافظ ابن حجر، بعد نقل نحو ذلك عنه: وكان ذلك على رأس المائتين، ثم تغيرت الأمور، والله المستعان. قلت: قال الشافعي فيما نقله البيهقي: وصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي- قائمة عندنا، وصدقة الزبير قريب منها، وصدقة عمر بن الخطاب قائمة، وصدقة عثمان، وصدقة عليّ، وصدقة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقة من لا أحصي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأعراضها. وذكر المجد في ترجمة فدك ما يقتضي أن الذي دفعه عمر إلى علي والعباس رضي الله تعالى عنهم ووقعت الخصومة فيه هو فدك، فإنه قال فيها: وهي التي قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحلنيها، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أريد بذلك شهودا، فشهد لها عليّ، فطلب شاهدا آخر، فشهدت لها أم يمن، فقال: قد علمت يا بنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز إلا شهادة رجل وامرأتين، وانصرفت، ثم أدّى اجتهاد عمر لما ولي وفتحت الفتوح، وكان علي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها في حياته لفاطمة، وكان العباس يأبى ذلك، فكانا يختصمان إلى عمر، فيأبى أن يحكم بينهما، ويقول: أنتما أعرف بشأنكما، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة يأمره برد فدك إلى ولد فاطمة، فكانت في أيديهم أيامه، فلما ولي يزيد بن عبد الملك قبضها، فلم تزل في بني أمية حتى ولي أبو العباس السفاح الخلافة، فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكان هو القيم عليها يفرقها في ولد علي، فلما ولي المنصور وخرج عليه بنو حسن قبضها عنهم، فلما ولي ابنه المهدي أعادها عليهم، ثم قبضها موسى بن الهادي ومن بعده إلى أيام المأمون، فجاءه رسول بني عليّ فطالب بها، فأمر أن يسجّل لهم بها، فكتب السجل وقرئ على المأمون، فقام دعبل وأنشد: أصبح وجه الزمان قد ضحكا ... بردّ مأمون هاشم فدكا قلت: ورواية الصحيح السابقة عن عائشة ترد ما ذكره من دفع عمر فدك لعلي وعباس واختصامهما فيها؛ لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر، وكذلك ما ذكره من أن عمر بن عبد العزيز رد فدك إلى ولد فاطمة موافق لما نقله هو عن ياقوت من أن عمر بن عبد العزيز لما ولي خطب الناس، وقص قصة فدك وخلوصها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنفاقه منها ووضع الفضل في أبناء السبيل، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليّا رضوان الله عليهم فعلوا كفعله، فلما ولي معاوية أقطعها مروان بن الحكم، وأن مروان وهبها لعبد العزيز وعبد الملك ابنيه، قال: ثم صارت لي وللوليد وسليمان، وأنه لما ولي الوليد سألته فوهبها لي وسألت سليمان حصّته فوهبها لي، فاستجمعتها، وأنه ما كان لي مال أحبّ إليّ منها، وإني أشهدكم أني رددتها على ما كانت في أيام النبي صلى الله عليه وسلم والأربعة بعده، فكان يأخذ مالها هو ومن بعده فيخرجه في أبناء السبيل. قلت: وقيل إن الذي أقطع فدك لمروان عثمان رضي الله تعالى عنه، قال الحافظ ابن حجر: إنما أقطع عثمان فدك لمروان؛ لأنه تأول أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده، فاستغنى عثمان عنها بأمواله، فوصل بها بعض قرابته. وأما ما ذكره المجد من أن فاطمة رضي الله تعالى عنها ادّعت نحل فدك فروى ابن شبة ما يشهد له عن النمير بن حسان قال: قلت لزيد بن علي وأنا أريد أن أهجّن أمر أبي بكر: إن أبا بكر انتزع من فاطمة رضي الله تعالى عنها فدك فقال: إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان رجلا رحيما، وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتته فاطمة رضي الله تعالى عنها فقالت: إن رسول الله أعطاني فدك، فقال لها: هل لك على هذا بينة؟ فجاءت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 بعلي رضي الله تعالى عنه، فشهد لها، ثم جاءت بأم أيمن، فقالت: أليس تشهد أني من أهل الجنة؟ قال: بلى، قالت: فأشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فدك: فقال أبو بكر: فبرجل وامرأة تستحقينها أو تستحقين لها القضية؟ قال زيد بن علي: وأيم الله لو رجع لي الأمر لقضيت فيها بقضاء أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وروى ابن شبة أيضا عن كثير النوي قال: قلت لأبي جعفر: جعلني الله فداءك أرأيت أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما هل ظلماكم من حقكم شيئا أو ذهبا به؟ قال: لا والذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ما ظلمانا من حقنا مثقال حبة من خردل، قال: جعلت فداءك فأتولاهما؟ قال: نعم، ويحك! تولهما في الدنيا والآخرة، وما أصابك ففي عنقي، ثم قال: فعل الله بالمغيرة وبكيان فإنهما كذبا علينا أهل البيت. قلت: وبذلك الكذب تعلقت الرّوافض، ولم يفهموا الأحاديث المتقدمة على وجهها، والله أعلم. الفصل الثالث فيما ينسب إليه ص من المساجد التي بين مكة والمدينة، بالطريق التي كان يسلكها صلى الله عليه وسلم، وهي طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهي تفارق طريق الناس اليوم من قرب مسجد الغزالة كما سيأتي، فلا تمر بالخيف ولا بالصفراء، بل تمر بالحي وثنية هرشى ثم الجحفة كما سيتضح لك، ويكون طريق الناس اليوم على يمين السالك في هذا الطريق، فتمر على رابغ أسفل من الجحفة، ثم تلتقي مع هذه الطريق فوق الجحفة قرب طريق قديد. وفي الأخبار أن من أدب الزائر إلى المساجد التي بين الحرمين أن يصلي فيها، وهي عشرون موضعا. قلت: وهذا بالنسبة إلى هذه الطريق، مع أن أبا عبد الله الأسدي قد ذكر فيها أزيد من ذلك، وقد أضفنا إليه ما وجدناه في كلام غيره، وأوردناها على ترتيبها من المدينة إلى مكة، زادهما الله شرفا. مسجد الشجرة (ذي الحليفة) فمنها مسجد الشّجرة، ويعرف بمسجد ذي الحليفة أيضا، والحليفة: الميقات المدني، ويعرف اليوم ببئر علي. روينا في صحيح مسلم عن ابن عمر قال: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة مبدأه، وصلى في مسجدها. وروى يحيى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى مكة صلّى في مسجد الشجرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وروى ابن زبالة عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر، وفي حجته حين حج، تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الشجرة إلى الأسطوانة الوسطى، استقبلها، وكانت موضع الشجرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليها. وعن أنس بن مالك قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين. وعن ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة وصلى بها. قلت: المعنيّ بذلك موضع المسجد المذكور، فإنه كان موضع نزوله صلى الله عليه وسلم، وبنى في موضع الشجرة التي كانت هناك، وبها سمي «مسجد الشجرة» وهي السّمرة التي ذكر في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحتها بذي الحليفة كما في الصحيح. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلّ فقال: لبّيك اللهم لبيك، الحديث. وفي رواية له: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلّ بهؤلاء الكلمات. ويتحصل من صحيح الروايات أنه صلى الله عليه وسلم خرج لحجته نهارا، وبات بذي الحليفة، وأحرم في اليوم الثاني من عند المسجد، فيظهر أن صلواته صلى الله عليه وسلم في تلك المدة كانت كلها به، ولم أقف على اغتساله صلى الله عليه وسلم لإحرامه بذي الحليفة. وفي باب «ما يلبس المحرم» من البخاري عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجّل وادّهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه الحديث، وليس فيه تصريح بالاغتسال، لكن في طبقات ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم خرج في حجة الوداع من المدينة مغتسلا متدهنا مترجّلا متجرّدا في ثوبين سحاريين إزار ورداء، وذلك يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة. وفي كتاب التنبيهات للقاضي عياض: ظاهر المذهب أن المستحب الاغتسال بالمدينة، ثم يسير من فوره، وبذلك فسّره سحنون وابن الماجشون، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، كما استحب أن يلبس حينئذ ثياب إحرامه، وكذلك فعل عليه الصلاة والسلام، انتهى. قلت: ولم يتعرض أصحابنا لذلك، لكن قالوا: إن من اغتسل في التنعيم في الإحرام أجزأه عن الغسل لدخول مكة للقرب، فيؤخذ منه اعتبار القرب، وهو مناف لظاهر ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم، إذ لم يحرم من ذي الحليفة إلا في اليوم الثاني، فيحتمل أنه أعاد الغسل حينئذ بذي الحليفة. أما لو كان الإحرام عقب الوضوء إلى ذي الحليفة ونحوه فلا يبعد القول به عندنا، كما ذكروا في الغسل للجمعة من الفجر، وعدم اشتراطهم لاتصاله بالرّواح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 قال المطري، وتبعه من بعده، بعد بيان إحرامه صلى الله عليه وسلم عندما انبعثت به راحلته من عند المسجد: فينبغي للحاج إذا وصل إلى ذي الحليفة أن لا يتعدى في زاوية المسجد المذكور وما حوله من القبلة والمغرب والشام، بحيث لا يبعد عما حول المسجد، وإن كثيرا من الحجاج يتجاوزون ما حول المسجد إلى جهة المغرب، ويصعدون إلى البيداء، فيتجاوزون الميقات بيقين. قلت: لم يبين نهاية ذي الحليفة. وقوله «حول المسجد» لا ضابط له، ولا يلزم من نزوله صلى الله عليه وسلم بالمسجد وما حوله انحصار ذي الحليفة في ذلك، وسنشير إلى زيادة في ذلك في ترجمة ذي الحليفة، مع بيان المسافة التي بينها وبين المدينة. قال المطري: وهذا المسجد هو المسجد الكبير الذي هناك، وكان فيه عقود في قبلته، ومنارة في ركنه الغربي الشمالي، فتهدمت على طول الزمان. قال المجد: ولم يبق منه إلا بعض الجدران وحجارة متراكمة. قلت: جدد المقر الزيني زين الدين الاستدار بالمملكة المصرية تغمده الله برحمته هذا الجدار الدائر عليه اليوم، لما كان بالمدينة معزولا عام أحد وستين وثمانمائة، وبناه على أساسه القديم، وموضع المنارة في الركن الغربي باق على حاله، وجعل له ثلاث درجات من المشرق والمغرب والشام، في كل جهة منها درجة مرتفعة، حفظا له عن الدواب، ولم يوجد لمحرابه الأول أثر لانهدامه، فجعل المحراب في وسط جدار القبلة، ولعله كان كذلك، واتخذ أيضا الدرج التي للآبار التي هناك ينزل عليها من يريد الاستقاء. وطول هذا المسجد من القبلة إلى الشام اثنان وخمسون ذراعا، ومن المشرق إلى المغرب مثل ذلك. مسجد آخر بذي الحليفة قال المطري: وفي قبلته مسجد آخر أصغر منه، ولا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلّى فيه أيضا، بينهما مقدار رمية سهم أو أكثر قليلا، انتهى. قلت: ويؤخذ مما سيأتي عن الأسدي أنه مسجد المعرّس، والله أعلم. مسجد المعرس ومنها: مسجد المعرس- قال أبو عبد الله الأسدي في كتابة وهو من المتقدّمين يؤخذ من كلامه أنه كان في المائة الثالثة بذي الحليفة عدة آبار ومسجدان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسجد الكبير الذي يحرم الناس منه، والآخر مسجد المعرّس، وهو دون مصعد البيداء ناحية عن هذا المسجد، وفيه عرّس رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من مكة. قلت: ليس هناك غير المسجد المتقدم ذكره في قبلة مسجد ذي الحليفة على نحو رمية سهم سبقي منه، وهو قديم البناء بالقصّة والحجارة المطابقة؛ فهو المراد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وفي صحيح البخاري في باب المساجد التي على طريق المدينة والمواضع التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن نافع أن عبد الله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان ينزل بذي الحليفة» حين يعتمر، وفي حجته حين حج» - تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق أو حجّ أو عمرة هبط بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية فعرّس ثمّ حتى يصبح» ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد، وكان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فدحا فيه السيل بالبطحاء، حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه. قال الحافظ ابن حجر: قوله «بطن واد» أي وادي العقيق. قلت: ورواه ابن زبالة بلفظ «هبط بطن الوادي، فإذا ظهر من بطن الوادي أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية» . ورواه المطري من غير عزو، وقال فيه «هبط بطن الوادي وادي العقيق» وأظنه من الرواية بالمعنى، وهو يقتضي أن يكون المعرّس في شرقي وادي العقيق فلا يكون بذي الحليفة، فيتعين أن يكون المارد بطن واد في وادي العقيق؛ إذ المعرس ذو الحليفة. ففي الحج من صحيح البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس» وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلّى بذي الحليفة ببطن الوادي وبات حتى يصبح» . وفيه أيضا من طريق عقبة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أرى وهو في معرّسه بذي الحليفة ببطن الوادي قيل له: إنك ببطحاء مباركة، وقد أناخ بنا سالم يتوخّى المناخ الذي كان عبد الله ينيخ يتحرّى معرّس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق وسطا من ذلك. قلت: والمسجد المتقدم ذكره ببطن الوادي، فلعله المراد، ويكون المعرس بقربه من المشرق. وروى يحيى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له وهو بالمعرس نائم يعني معرس الشجرة: إنك ببطحاء مباركة. قلت: فيتأيد به ما تقدم لإضافته المعرس إلى الشجرة، ولا يشكل ذلك ببعد هذا المسجد عن الطريق التي تسلك اليوم إلى المدينة؛ لما تقدم من رواية ابن عمر في اختلاف طريق الشجرة وطريق المعرّس. وروى البزار بسند جيد عن أبي هريرة نحوه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وفي صحيح أبى عوانة حديث «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من طريق الشجرة إلى مكة، وإذا رجع رجع من طريق المعرس» . وروى بعضهم عن نافع أنه انقطع عن ابن عمر حتى سبقه إلى المعرّس، ثم جاء إليه فقال: ما حبسك عني؟ فأخبره، فقال: إني ظننت أنك أخذت الطريق الأخرى، ولو فعلت لأوجعتك ضربا، وهذا لحرصه على الاتباع في النزول هناك، وقد أميتت هذه السنة. وروى ابن زبالة عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا خرج إلى مكة يسلك على دار جبر بن علي، ثم على منازل بني عطاء، ثم في بطحان، ثم في زقاق البيت، حتى يخرج عند موضع دار ابن أبي الجنوب بالحرة» . قلت: وهذه الأماكن غير معروفة بأعيانها، والله أعلم. مسجد شرف الروحاء ومنها: مسجد شرف الرّوحاء- قال البخاري عقب ما تقدم من رواية نافع وأن عبد الله حدّثه أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلّى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الرّوحاء» . وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي فيه صلّى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلى، وذلك على حافة الطريق اليمنى وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك. ورواه يحيى بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى إلى جانب المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الرّوحاء» وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعواسج، يكون عن يمينك حين تقوم في المسجد، وباقيه كلفظ البخاري. وروى ابن زبالة عن ابن عمر قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرف الروحاء على يمين الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، وإلى يسارها وأنت مقبل من مكة. قلت: وهذا المسجد هو المعنى بقول الأسدي: وعلى ميلين من السيالة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مسجد الشرف، قال: وبين السيالة والرّوحاء أحد عشر ميلا، وبينها وبين ملل سبعة أميال، وهي لولد الحسين بن علي بن أبي طالب ولقوم من قريش، وعلى ميل منها عين تعرف بسويقية لولد عبد الله بن حسن، كثيرة الماء عذبة، وهي ناحية عن الطريق، قال: والجبل الأحمر الذي يسرة الطريق حين يخرج من السيالة يقال له ورقان، يسكنه قوم من جهينة يقال: إنه متصل إلى مكة لا ينقطع، وذكر آبارا كثيرة بالسيالة. وقوله «وعلى ميلين من السيالة» أراد من أولها، ولهذا قال المطري: شرف الروحاء هو آخر السيالة وأنت متوجه إلى مكة، وأول السيالة إذا قطعت شرف ملل، وكانت الصخيرات صخيرات التمام عن يمينك، وقد هبطت من ملل ثم رجعت عن يسارك واستقبلت القبلة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 فهذه السيالة وكانت قد تجدد فيها بعد النبي صلى الله عليه وسلم عيون وسكان، وكان لها وال من جهة والي المدينة ولأهلها أخبار وأشعار، وبها آثار البناء وأسواق، وآخرها الشرف المذكور، والمسجد عنده، وعنده قبور قديمة كانت مدفن أهل السيالة، ثم تهبط في وادي الروحاء مستقبل القبلة، ويعرف اليوم بوادي بني سالم، بطن من حرب عرب الحجاز؛ ثم ذكر ما سيأتي. قلت: وتلك القبور التي عند المسجد مشهورة بقبور الشهداء، ولعله لكون بعضهم دفن فيها ممن قتل ظلما من الأشراف الذين كانوا بالسيالة وبسويقة، كما يؤخذ مما سنشير إليه في ترجمة سويقة. مسجد عرق الظبية ومنها مسجد عرق الظّبية- قال المطري عقب قوله «ثم يهبط في وادي الروحاء مستقبل القبلة» ما لفظه: فتمشي مستقبل القبلة وشعب على يسارك، إلى أن تدور الطريق بك إلى المغرب وأنت مع أصل الجبل الذي على يمينك، فأول ما يلقاك مسجد على يمينك كان فيه قبر كبير في قبلته فتهدم على طول الزمان، صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف ذلك المكان بعرق الظبية، ويبقى جبل ورقان على يسارك، قال: وفي المسجد الآن حجر قد نقش عليه بالخط الكوفي عند عمارته الميل الفلاني من البريد الفلاني، انتهى. وقال الأسدي: وعلى تسعة أميال- يعني من السيالة- وأنت ذاهب إلى الرّوحاء مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم يقال له مسجد الظبية، فيه كانت مشاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال أهل بدر، وهو دون الروحاء بميلين، انتهى. وقال المجد في ترجمة الشرف: إن في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها «أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحد بملل على ليلة من المدينة، ثم راح فتعشى بشرف السيالة، وصلّى الصبح بعرق الظبية» . وروى ابن زبالة عن عمرو بن عوف المزني قال: أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه غزوة الأبواء، حتى إذا كان بالرّوحاء عند عرق الظبية قال: هل تدرون ما اسم هذا الجبل؟ يعني ورقان، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حمت جبل من جبال الجنة، اللهم بارك لنا فيه، وبارك لأهله فيه، تدرون ما اسم هذا الوادي؟ يعني وادي الروحاء، هذا سجاسج، لقد صلّى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيا، ولقد مرّ بها- يعني الروحاء- موسى بن عمران في سبعين ألفا من بني إسرائيل عليه عباءتان قطوانيتان على ناقة له ورقاء، ولا تقوم الساعة حتى يمر بها عيسى بن مريم حاجا أو معتمرا، أن يجمع الله له ذلك. ورواه الطبراني، وفيه كثير بن عبد الله حسّن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات، إلا أنه قال فيه عقب قوله «وبارك لأهله فيه» وقال للروحاء هو سجاسج وهذا واد من أودية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 الجنة، لقد صلّى في هذا الوادي قبلي سبعون نبيا، ولقد مر به موسى عليه السلام عليه عباءتان قطوانيتان على ناقة ورقاء في سبعين ألفا من بني إسرائيل حاجين البيت العتيق، ولا تقوم الساعة حتى يمر بها عيسى بن مريم عبد الله ورسوله. ورواه يحيى بنحوه، إلا أنه قال: لقد صلّى قبلي في هذا الموضع سبعون نبيا، ورواه الترمذي بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في وادي الروحاء، وقال: لقد صلّى في هذا المسجد سبعون نبيا. قلت: وآثار هذا المسجد موجودة هناك. مسجد آخر بالروحاء ومنها: مسجد بالروحاء، ذكره الأسدي، وغاير ما بينه وبين ما قبله وما بعده. وقال الواقدي في غزوة بدر: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الروحاء ليلة الأربعاء النصف من شهر رمضان، فصلى عند بئر الروحاء. وسيأتي في ترجمة الروحاء أنه كان بها آبار متعددة، فلم يبق منها اليوم سوى بئر واحدة، والله أعلم. مسجد المنصرف (الغزالة) ومنها: مسجد المنصرف، ويعرف اليوم بمسجد الغزالة، وهو آخر وادي الروحاء مع طرف الجبل، على يسارك وأنت ذاهب إلى مكة. قال المطري: ولم يبق منه اليوم إلا عقد الباب. قلت: وقد تهدم أيضا، ولم يبق إلا رسومه. وقال الأسدي: وعلى ثلاثة أميال من الروحاء، يعني وأنت قاصد مكة، مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سند الجبل، يقال له مسجد المنصرف، جبل على يسارك تنصرف منه في الطريق، انتهى. وقال البخاري: عقب ما قدمناه في مسجد الشرف من رواية نافع: وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابتنى ثمّ مسجد فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه ويصلي أمامه إلى العرق نفسه. قلت: توهّم بعضهم أن المراد عرق الظبية، وليس كذلك؛ لتغاير المحلين، ورأيت بخط بعضهم هنا: العرق جبل صغير. وروى ابن زبالة عن ابن عمر قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرف الروحاء، وبالمنصرف عند العرق من الروحاء. وفي رواية ليحيى عن ابن عمر أنه كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وذلك العرق أثناء طريقه على حافة الطريق، دون السبيل الذي دون ثنية المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة، قال نافع: كان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان فيصلي فيه الظهر. وقال المطري عقب ما تقدم عنه في هذا المسجد: إن عن يمين الطريق إذا كنت بهذا المسجد وأنت مستقبل البادية موضعا كان عبد الله بن عمر ينزل فيه، ويقول: هذا منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثمّ شجرة كان ابن عمر إذا نزل هذا المنزل وتوضأ صبّ فضل وضوئه في أصل الشجرة، ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، وودّ أنه كان يدور بالشجرة أيضا ثم يصبّ الماء في أصلها، اتباعا للسنة، وإذا كان الإنسان عند هذا المسجد المعروف بمسجد الغزالة كانت طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة على يساره مستقبل القبلة، وهي الطريق المعهودة قديما، ثم السقيا، ثم ثنية هرشى، وهي طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال: وليس بهذا الطريق اليوم مسجد يعرف غير هذا الثلاثة مساجد، يعني سوى مسجد ذي الحليفة. قلت: سببه هجران الحجّاج لهذا الطريق، وأخذهم من طرف الروحاء على البادية إلى مضيق الصفراء ثم إلى بدر، وذكر لي بعض الناس ممن سلك تلك الطريق أن كثيرا من مساجدها موجود، وسيأتي أني ظفرت برؤية مسجد طرف قديد الآتي ذكره، والله أعلم. مسجد الرويثة ومنها: مسجد الرويثة- قال البخاري عقب ما تقدم عنه من حديث نافع: وأن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين، وقد انكسر أعلاها، وانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة. وقوله «بريد الرويثة» أي: الموضع الذي ينتهي إليه البريد بالرويثة، وينزل فيه، وقيل: البريد سكة الطريق، ورواه ابن زبالة بنحوه، وفي رواية له «صلى دون الرويثة عند موضع السرحة» . وقال الأسدي: وفي أول الرويثة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وبين الرّوحاء والرويثة ثلاثة عشر ميلا، وقال في موضع آخر: ستة عشر ميلا ونصف، ووصف ما بالرويثة من الآبار والحياض، قال: ويقال للجبل المشرف عليها المقابل لبيوتها «الحمراء» وللذي في دبرها عن يسارها قبل المشرق «الحسناء» . مسجد ثنية ركوبة ومنها: مسجد ثنية ركوبة كما سيأتي من رواية ابن زبالة في مسجد مدلجة تعهن أنه صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 «صلّى في ثنية ركوبة، وبنى بها مسجدّا» . وسيأتي أن ركوبة ثنية قبل العرج للمتوجه من المدينة على يمين ثنية العابر وثنية العابر هي عقبة العرج، والعرج بعدها بثلاثة أميال كما سيأتي، ولم يذكر الأسدي هذا المسجد. مسجد الأثاية ومنها: مسجد الأثاية- بالمثلثة والمثناة التحتية- كالنواية على الراجح. روى ابن زبالة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى عند بئر الأثابة ركعتين في إزار ملتحفا به» . قال المطري: الأثاية ليست معروفة. قلت: عرفها الأسدي فقال، في وصف طريق الذاهب لمكة: إن من الرويثة إلى الحي أربعة أميال، ثم قال: وعقبة العرج على أحد عشر ميلا من الرويثة، ويقال لها: المدارج، بينها وبين العرج ثلاثة أميال، وبها أبيات، وبئر عند العقبة، وقبل العرج بميلين قبل أن ينزل الوادي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف بمسجد الأثاية، وعند المسجد بئر تعرف بالأثاية، انتهى. وقال المجد: الأثاية موضع في طريق الجحفة، بينه وبين المدينة خمسة وعشرون فرسخا، وفيه بئر، وعليها المسجد المذكور، وعندها أبيات وشجر أراك، وهو منتهى حد الحجاز، انتهى. وهو موافق لما ذكره الأسدي؛ فإن منتهى حد الحجاز مدارج العرج، وهي بقربها. وروى أحمد برجال الصحيح عن عمير بن سلمة الضمري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مرّ بالعرج فإذا هو بحمار عقير، فلم يلبث أن جاء رجل بهر، فقال: يا رسول الله، هذا رميتي فشأنكم فيها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه يقسمه بين الرفاق، ثم سار حتى أتى عقبة الأثاية فإذا بظبي فيه سهم وهو حاقف في ظل صخرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه فقال: قف هاهنا حتى يمر الرفاق لا يرميه أحد بشيء» . ومقتضى ما سبق من صنيع الأسدي أن يكون هذا في رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة، خلاف ما اقتضاه صنيع الهيتمي حيث ترجم عليه بجواز أكل لحم الصيد للمحرم إذا لم يصده أو يصد له. مسجد العرج ومنها مسجد العرج- روى ابن زبالة عن صخر بن مالك بن إياس عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد العرج، وقال فيه» يعني من القيولة، وأسقط المطري هذا المسجد، وجعله المجد الذي بعده، وهو مردود، ولم يتعرض له الأسدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 مسجد المنبجس ومنها: مسجد بطرف تلعة من وراء العرج، ووقع في نسخة المجد وخط الزين المراغي «بطريق تلعة» وهو تصحيف لأن الذي في صحيح البخاري وكتاب ابن زبالة طرف بالفاء. قال البخاري، عقب ما تقدم عنه في مسجد الرويثة من رواية نافع، وأن عبد الله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في طرف تلعة من وراء العرج، وأنت ذاهب إلى هضبة، وعند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، وعلى القبور رضم من حجارة عن يمين الطريق، عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة فيصلي الظهر في ذلك المسجد. ورواه ابن زبالة إلا أنه قال فيه: من وراء العرج وأنت ذاهب إلى رأس خمسة أميال من العرج في مسجد إلى هضبة. وقال الأسدي: وعلى ثلاثة أميال من العرج قبل المشرق مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مسجد المنبجس قبل الوادي، والمنبجس: وادي العرج، وعلى ثمانية أميال من العرج حوضان على عين تعرف بالمنبجس، انتهى. ولعله المسجد المذكور. مسجد لحي جمل ومنها: مسجد لحي جمل- قال الأسدي: وعلى ميل من الطلوب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع يقال له «لحى جمل» قال: والطلوب بئر غليظة الماء بعد العرج بأحد عشر ميلا، والسقيا بعد الطلوب بستة أميال، قال: وقبل السقيا بنحو ميل وادي العاند، ويقال له وادي القاحة، وينسب إلى بني غفار، اه. فتلخص أن هذا المسجد قبل السقيا والقاحة وبعد العرج بالمسافة المذكورة. ويؤيده أن ابن زبالة روى في سياق هذه المساجد حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «احتجم بمكان يدعى لحى جمل بطريق مكة وهو محرم» . وفي رواية له «احتجم بالقاحة وهو صائم محرم» ففيه بيان قرب ذلك من القاحة، ولكن رأيت يحيى ختم كتابه بحديث ابن عمر في هذه المساجد وبآخر النسخة ما صورته: نقل من خط أحمد بن محمد بن يونس الإسكاف في آخر الجزء: قلت: إنه لم يذكر في هذا الحديث المسجد الذي بين السقيا والأبواء الذي يقال له مسجد لحى جمل، انتهى. وهو يقتضي أنه بعد السقيا بينها وبين الأبواء، ويوافقه قول عياض: قال ابن وضاح: لحى جمل في عقبة الجحفة. وقال غيره: على سبعة أميال من السقيا. ورواه بعض رواة البخاري «لحيي جمل» أي بالتثنية، وفسره فيه بأنه ما يقال له لحيي جمل أي في حديث «احتجم النبي صلى الله عليه وسلم بلحيي جمل» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وقال المجد: هي عقبة على سبعة أميال من السقيا. وفي كتاب مسلم أنه ماء. مسجد السقيا ومنها: مسجد السقيا- روى ابن زبالة في سياق المساجد التي بطريق مكة من حديث عوف بن مسكين بن الوليد البلوي عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد بالسقيا» . وقال الأسدي، بعد ما تقدم عنه في المسافة بين الطلوب والسقيا: وبالسقيا مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجبل، وعنده عين عذبة، ثم ذكر أن بالسقيا أزيد من عشر آبار، وأن عند بعضها بركة. ثم قال: وفيها عين غزيرة الماء، ومصبها في بركة في المنزل، وهي تجري إلى صدقات الحسن بن زيد، عليها نخل وشجر كثير، وكانت قد انقطعت ثم عادت في سنة ثلاث وأربعين ومائتين ثم انقطعت في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، قال: وعلى ميل من المنزل موضع فيه نخل وزرع وصدقات للحسن بن زيد فيها من الآبار التي يزرع عليها ثلاثون بئرا، وفيها ما أحدث في أيام المتوكل خمسون بئرا، وماؤهن عذب، وطول رشائهن قامة وبسطة، وأقل وأكثر. ثم وصف ما بعد السقيا فقال: وعلى ثلاثة أميال من السقيا عين يقال لها تعهن انتهى. وفي حديث أبي قتادة في الصحيح بركة بتعهن، وهو مقابل السقيا، وسيأتي في ترجمة تعهن ما قيل من أنها قبل السقيا، مع بيان أن المعروف اليوم أنها بعدها. مسجد مدلجة تعهن ومنها: مسجد مدلجة عهن- روى ابن زبالة عن صخر بن مالك بن إياس عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى بمدلجة تعهن، وبنى بها مسجدّا، وصلّى في ثنية ركوبة، وبنى بها مسجدّا» . قلت: لم يذكره إلا الأسدي، وقد سبق عنه أن تعهن بعد السقيا بثلاثة أميال. مسجد الرمادة ومنها: مسجد الرمادة- قال الأسدي: ودون الأبواء بميليين مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم يقال له «مسجد الرّمادة» وذكر ما حاصله أن الأبواء بعد السقيا لجهة مكة بأحد وعشرين ميلا، وأن في الوسط بينهما عين القشيري، وهي عين كثيرة الماء، ويقال للجبل المشرف عليها الأيسر «قدس» وأوله في العرج، وآخره وراء هذه العين، والجبل الذي يقابلها يمنة يقال له «باقل» ويقال للوادي الذي بين هذين الجبلين «وادي الأبواء» انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 مسجد الأبواء ومنها: مسجد الأبواء- قال الأسدي بعد ما تقدم في وصف ما بين الأبواء والجحفة: إن الجحفة بعد الأبواء بثلاثة عشر ميلا، قال: وفي وسط الأبواء مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر بها آبارا وبركا، منها بركة بقرب القصر، قال: وإذا جزت وادي الأبواء بميلين كان على يسارك شعاب تسمى «نلعان اليمن» وذكر أن ودّان ناحية عن الطريق بنحو ثمانية أميال، ينزل به من لا ينزل إلا الأبواء، فمن أراده رحل من السقيا إليه، وبه عيون غزيرة عليها سبعة مشارع وبركة قديمة، ثم يرحل منه فيخرج عند ثنية هرشي بينها وبين ودّان خمسة أميال، وقد عمل لهذه الطريق أعلام وأميال أمر بها المتوكل. قلت: وكلا الطريقين عن يسار طريق الناس اليوم بأسفل ودّان وهي معطشة لا ماء بها إلا ما يحمل من بدر إلى رابغ. مسجد البيضة ومنها: مسجد يسمى بالبيضة- قال الأسدي: وعلى خمسة أميال وشيء من الأبواء مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له البيضة. مسجد عقبة هرشي ومنها: مسجد عقبة هرشى- قال الأسدي: وعلى ثمانية أميال من الأبواء عقبة هرشى، وعلم منتصف الطريق ما بين مكة والمدينة دون العقبة بميل، وفي أصل العقبة مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم حد الميل الذي مكتوب عليه سبعة أميال من البريد، انتهى. قال البخاري، عقب ما تقدم عنه في المسجد الذي بطرف تلعة من رواية نافع: وأن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عند سرحات عن يسار الطريق في مسيل دون هرشي، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشى، بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله بن عمر يصلي إلى سرحة هي أقبل السرحات إلى الطريق، وهي أطولهن. مسجد الجحفة ومنها: مسجدان بالجحفة- قال الأسدي، في وصف ما بين الجحفة وقديد، بعد ذكر ما بالجحفة من الآبار والبرك والعيون: وفي أول الجحفة مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له غورث، وفي آخرها عند العلمين مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مسجد الأئمة. مسجد غدير خم ومنها: مسجد بعد الجحفة، وأظنه مسجد غدير خم- قال الأسدي، بعد ما تقدم عنه: وعلى ثلاثة أميال من الجحفة بسرة عن الطريق حذاء العين مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينهما الغيضة، وهي غدير خم، وهي على أربعة أميال من الجحفة، انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وقال عياض: غدير خم تصب فيه عين، وبين الغدير والعين مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. وأخبرني مخبر أنه رأى هذا المسجد على نحو هذه المسافة من الجحفة، وقد هدم السيل بعضه. وفي مسند أحمد عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا الصّلاة جامعة، وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فصلى الظهر، وأخذ بيد علي وقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: فأخذ بيد علي وقال: اللهم من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، قال: فلقيه عمر بعد ذلك فقال: هنيئا يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة، وعن زيد بن أرقم مثله. مسجد طرف قديد ومنها: مسجد ذكر الأسدي أنه قبل قديد بثلاثة أمثال، وذكر أن خيمتي أمّ معبد الخزاعية وموضع مناة الطاغية في الجاهلية على نحو هذه المسافة. قلت: وقد عثرت في مسيري إلى مكة على مسجد قديم قرب طرف قديد، وهو مرتفع عن يمين الطريق، مبني بالأحجار والقصّة، يظهر أنه هذا المسجد. مسجد عند حرة خليص ومنها: مسجد عند حرة عقبة خليص قال الأسدي: من قديد إلى عين ابن بزيع وهي خليص على ثمانية أميال وشيء، وذكر آبارا كثيرة بقديد، قال: وعقبة خليص بينها وبين خليص ثلاثة أميال، وهي عقبة تقطع حرّة تعترض الطريق يقال لها ظاهرة البركة، والشجر ينبت في تلك الحرة، وعند الحرة مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. مسجد خليص ومنها: مسجد خليص قال الأسدي: خليص عين غزيرة كثيرة الماء، وعليها نخل كثير، وبركة، ومشارع، ومسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. مسجد بطن مر الظهران ومنها: مسجد بطن مرّ الظّهران قال البخاري، عقب ما تقدم عنه في مسجد عقبة هرشى من رواية نافع: وأن عبد الله بن عمر حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مرّ الظّهران قبل المدينة، حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الطريق إلا رمية بحجر» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 قال المطري، في وصف هذا المسجد: إنه بوادي مرّ الظهران حين يهبط من الصفراوات عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، قال: ومر الظهران هو بطن مرّ المعروف، وليس المسجد بمعروف اليوم، انتهى. وقال الزين المراغي: ويقال: إنه المسجد المعروف بمسجد الفتح، انتهى. وقال التقي الفاسي: المسجد الذي يقال له مسجد الفتح بالقرب من الجموم من وادي مر الظهران، يقال: إنه من المساجد التي صلّى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ما قاله المراغي. ثم قال: وممن عمر هذا المسجد على ما بلغني أي جدد عمارته أبو علي صاحب مكة، وممن عمره بعد ذلك الشريف حياش، قال: وبيضه في عصرنا ورفع أبوابه صونا له الشريف حسن بن عجلان، انتهى. وهذا المسجد ينظره الذاهب من الجموم إلى مكة عن يساره عند المسيل. وقال الأسدي: بين مكة وبطن مر سبعة عشر ميلا، وببطن مر مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبركة للسيل طولها ثلاثون ذراعا، وربما ملئت هذه البركة من عين يقال لها العقيق، قال: وبحضرة هذه البركة بئران. مسجد سرف ومنها: مسجد سرف- بفتح السين المهملة، وكسر الراء- وهذا المسجد به قبر ميمونة رضي الله تعالى عنها، شاهدته وزرته؛ إذ المرويّ أنها دفنت بسرف، بالموضع الذي بني عليها النبي صلى الله عليه وسلم فيه. وفي حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم «كان لا ينزل منزلا إلا ودّعه بركعتين» وقال الأسدي ما لفظه: ومسجد سرف على سبعة أميال من مر، وقبر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم دون سرف، اه. والمعروف ما قدمناه. قال التقي الفاسي: من القبور التي ينبغي زيارتها قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية، وهو معروف بطريق وادي مر، قال: ولا أعلم بمكة ولا فيما قرب منها قبر واحد ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم سوى هذا القبر؛ لأن الخلف تأثر ذلك عن السلف. مسجد التنعيم ومنها: مسجد بالتنعيم قال الأسدي: والتنعيم وراء قبر ميمونة بثلاثة أميال، وهو موضع الشجرة، وفيه مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه آبار، ومن هذا الموضع يحرم من أراد أن يعتمر. ثم قال: ميقات أهل مكة بالإحرام مسجد عائشة، وهو بعد الشجرة بميلين، وهو دون مكة بأربعة أميال، وبينه وبين أنصاب الحرم غلوة، اه. قلت: وبالتنعيم عدّة مساجد: اثنان منها اختلف في المنسوب منهما لعائشة رضي الله تعالى عنها، ولم يذكر التقي ولا غيره بالتنعيم مسجدّا للنبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 قال التقي في ذكر مسجد عائشة: وهذا المسجد اختلف فيه، فقيل: هو المسجد الذي يقال له مسجد الهليلجة، لشجرة هليلجة كانت فيه وسقطت من قريب، وهو المتعارف عند أهل مكة على ما ذكره سليمان بن خليل، وفيه حجارة مكتوب فيها ما يؤيد ذلك، وقيل: هو المسجد الذي بقربه بئر، وهو بين هذا المسجد وبين المسجد الذي يقال له «مسجد علي» بطريق وادي مر الظهران، وفي هذا أيضا حجارة مكتوب فيها ما يشهد لذلك، ورجّح المحبّ الطبري أنه المسجد الذي بقربه البئر، وهو الذي يقتضيه كلام إسحاق الخزاعي وغيره، قال: إن بين مسجد الهليلجة وأول الأعلام سبعمائة ذراع وأربعة عشر ذراعا بذراع الحديد، وذرع ما بينه وبين المسجد الآخر ثمانمائة ذراع واثنان وسبعون ذراعا بالذراع المذكور، اه. والأقرب لكلام الأسدي أن مسجد عائشة رضي الله تعالى عنها هو مسجد الهليلجة؛ لكونه أقرب إلى أعلام الحرم من الثاني، ولعل المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم هو مسجد عليّ أو المسجد الثاني. عمرات الرسول صلى الله عليه وسلم ورأيت عن بعضهم: روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة التنعيم، وعمرة الجعرانة. قلت: وذكر التنعيم غير معروف، والمعروف في الرابعة أنها التي مع حجّته، فلعل المراد من نسبتها إلى التنعيم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة فيها من جهته. مسجد ذي طوى ومنها: مسجد ذي طوى- قال البخاري، عقب ما تقدم عنه في مسجد بطن مرّ من رواية نافع: وأن عبد الله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان ينزل بذي طوى، ويبيت حتى يصبح يصلي الصبح حين يقدم مكة» ومصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة ليس في المسجد الذي بنى ثم، ولكن أسفل من ذلك، على أكمة غليظة، وأن عبد الله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم «استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النبي صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة، انتهى. قال المطري، وتبعه من بعده: وادي ذي طوى هو المعروف بمكة بين الثنيتين. قلت: ويعرف عند أهل مكة اليوم كما قال التقي بما بين الحجونين، وهو موافق لقول الأزرقي: بطن ذي طوى ما بين مهبط ثنية المقبرة التي بالمعلى إلى الثنية القصوى التي يقال لها الخضراء تهبط على قبور المهاجرين، انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 وقال الأسدي، في وصف ما بين مسجد عائشة رضي الله تعالى عنها ومكة: فج بعد مسجد عائشة رضي الله تعالى عنها بنحو ميلين، وعقبة المذنبين بعد فج بميل يسرة عن الطريق، وطريق ذي طوى إلى المسجد نحوا من نصف ميل، وقال في موضع آخر: يستحب الصلاة بمسجد ذي طوى، وهو بين مسجد ثنية المذنبين المشرفة على مقابر مكة وبين الثنية التي تهبط على الحصحاص، وذلك المسجد ثنية زبيدة، انتهى. الفصل الرابع في بقية المساجد التي بين مكة والمدينة بطريق الحاج في زماننا، وبطريق المشبان، وما قرب من ذلك، وما حل صلى الله عليه وسلم به من المواضع، وإن لم يبن مسجدّا دبّة المستعجلة فمنها: موضع بدبّة المستعجلة- بفتح الدال المهملة وتشديد الموحدة- وهو الكثيب من الرمل. روى ابن زبالة عن محمد بن فضالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بالدّبّة دبة المستعجلة من المضيق، واستقى له من بئر الشعبة الصابّة أسفل من الدبة، فهو لا يفارقها أبدا قال المطري: والمستعجلة هي المضيق الذي يصعد إليه الحاج إذا قطع النازية وهو متوجه إلى الصفراء، يعني من أعلى فركان خيف بني سالم. شعب سير قال: وذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بشعب سير وهو الشعب الذي بين المستعجلة والصفراء- وقسم به غنائم أهل بدر، ولا يزال فيه الماء غالبا، انتهى. قلت: الذي قاله ابن إسحاق كما في تهذيب ابن هشام: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له سير إلى سرحة، وقسم هناك النّفل. قلت: وهو صريح في أن سير بعد مضيق الصفراء للجائي من بدر، وبعده النازية، فإن كانت المستعجلة هي مضيق الصفراء فهو يقتضي أن سير بينها وبين النازية، فهو مخالف لما ذكره المطري من أنه بين المستعجلة والصفراء، فليحمل مضيق الصفراء على غير المضيق الذي هو المستعجلة، ويكون مضيق الصفراء هنا من ناحية أسفل الخيف؛ لأن الذي ذكره المطري في شعب سير هو المعروف اليوم، ولأني رأيت في أوراق لم أعرف مؤلفها أن شعب سير هو النزلة التي كانت للحاج إذا رجع عن المستعجلة ونزل في فركان الخيف. قال: وهناك بركة قديمة، وهو الشعب بين جبلين يعرف بجبال المضيق علو الصفراء، وبينه وبين المستعجلة نحو نصف فرسخ، انتهى. والبركة والموضع معروفان كما وصف، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 ولعل سير هذا هو المعبر عنه في رواية ابن زبالة بالدبة؛ لأنها مجتمع الرمل، وقد سماه ابن إسحاق كثيبا، ويؤخذ منه أن الخيف كله أعلاه، وأسفله هو مضيق الصفراء. ذكر عدة مساجد ومنها: مسجد بذات أجدال، ومسجد بالجيزتين من المضيق، ومسجد بذفران، وموضع بذنب ذفران المقبل. وروى ابن زبالة عن ابن فضالة قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجد بذات أجدال من مضيق الصفراء، ومسجد بالجيزتين من المضيق، ومسجد بذفران المدبر من البناء، وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنب ذفران المقبل الذي يصبّ في الصفراء، قال: فحفرت بئر هنالك يقال: إنها في موضع جبهة النبي صلى الله عليه وسلم، فلها فضل في العذوبة على ما حواليها. قلت: مضيق الصفراء تقدمت الإشارة إليه قريبا، وذفران: واد معروف قبل الصفراء بيسير، يصب سيله فيها، ويسلكه الحاج المصري في رجوعه من المدينة إلى ينبغ، فيأخذ ذات اليمين ويترك الصفراء يسارا. قال ابن إسحاق، في وصف مسيره صلى الله عليه وسلم إلى بدر: فلما كان بالمنصرف- أي عند مسجد الغزالة- ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية يريد بدرا، فسلك في ناحية منها حتى جزع- أي قطع- واديا يقال له رجفان بين النازية وبين مضيق الصفراء ثم على المضيق، ثم انصب حتى إذا كان قريبا من الصفراء، ثم ذكر أنه بعث من يتجسس له الأخبار. قال: ثم ارتحل، فلما استقبل الصفراء- وهي قرية بين جبلين- سأل عن جبليها: ما أسماؤهما؟ فقالوا: يقال لأحدهما المسلح، وقالوا للآخر: هذا مجرى، وسأل عن أهلهما فقيل: بنو النار وبنو حراق، بطنان من بني غفار، فكرههما صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما، فترك الصفراء يسارا، وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران. مسجد ذفران قلت: وبذفران اليوم مسجد يتبرك به على يسار من سلكه إلى ينبع، فأظنه مسجد ذفران، ورأيت قبل الوصول إلى طرف ذفران الذي يلي الصفراء على يمين السالك في طريق مكة يريد الصفراء، رأيت عليها مسجدّا مبنيا بالجص مرتفعا عن الطريق يسيرا، يتبرك الناس بالصلاة فيه، وليس بقربه مساكن؛ فالظاهر أنه أحد المساجد المذكورة، ورأيت أمام محرابه قبرا قديما محكم البناء، ولعله قبر عبيدة بن الحارث بن المطلب، فقد ذكر ابن إسحاق وغيره أنه مات بالصفراء من جراحته التي أصابته في المبارزة ببدر، ولم يذكروا محل دفنه، إلا أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 ابن عبد البر قال عقبه: ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مع أصحابه بالنازيين قال له أصحابه: إنا نجد ريح مسك، فقال: وما يمنعكم وهاهنا قبر أبي معاوية؟ يعني عبيدة بن الحارث، انتهى. والنازيين غير معروف اليوم. وقال المطري، عقب ذكر وفاة عبيدة بالصفراء: فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وكان أسنّ بني عبد مناف يومئذ، وأظن مستنده في ذكر الدفن بها موته بها مع قول هند بنت أثائة في رثائه على ما نقله ابن إسحاق: لقد ضمّن الصّفراء مجدّا وسوددا ... وحلما أصيلا وافر اللّبّ والعقل عبيدة، فابكيه لأضياف غربة ... وأرملة تهوى لأشعث كالجدل وقال الزين المراغي: إنه مات بالصفراء من جراحته، فإن قبره بذفران، هكذا رأيته بخطه، ولم أقف على مستنده في ذلك، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسلك ذفران في رجوعه من بدر؛ لأنه رجع على الصفراء، لكنه مرّ بطرف ذفران الذي يصب فيها. مسجد الصفراء ومنها: مسجد بالصفراء روى ابن زبالة عن طلحة بن أبي جدير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد الصفراء. قلت: ذكر لي بعض الناس أن هذا المسجد معروف بالصفراء يتبرك به. مسجد ثنية مبرك ومنها: مسجد بثنية مبرك- روى ابن زبالة عن الأصبغ بن مسلم وعيسى بن معن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى مطلعه من ثنية مبرك، في مسجد هناك بينه وبين دعان ستة أميال أو خمسة. قلت: ثنية مبرك: معروفة تسلك إلى ينبغ في المغرب من جهة أسفل خيف بني سالم من ذات اليمين، وطريق الصفراء ذات اليسار. مسجد بدر ومنها: مسجد بدر- كان العريش الذي بنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر عنده، وهذا المسجد معروف اليوم بقرب بطن الوادي بين النخيل، والعين قريبة منه، وبقربه في جهة القبلة مسجد آخر يسميه أهل بدر، مسجد النصر، ولم أقف فيه على شيء. مسجد العشيرة ومنها: مسجد العشيرة- معروف ببطن ينبع، وهو مسجد القرية التي ينزلها الحاج المصري ينبع، في ورده وصدره. روى ابن زبالة عن عليّ بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد ينبع بعين بولا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 قلت: والعين اليوم جارية عنده، لكن لا تعرف بهذا الاسم. قال المجد: وهذا المسجد اليوم من المساجد المقصودة المشهورة، والمعابد المشهودة المذكورة، تحمل إليه النذور، ويتقرب إلى الله بالزيارة له والحضور، ولا يخفى على النفس المؤمنة روح ظاهرة على ذلك المكان، وأنس يشهد له بأنه حضرة سيد الإنس والجان. مساجد الفرع ومنها: مساجد ثلاثة بالفرع- بضم الفاء- يمر بها من سلك طريقها إلى مكة. روى ابن زبالة عن أبي بكر بن الحجاج وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الأكمة من الفرع، فقال في مسجدها الأعلى، ونام فيه، ثم راح فصلى الظهر في المسجد الأسفل من الأكمة، ثم استقبل الفرع فبرّك فيها، وكان عبد الله بن عمر ينزل المسجد الأعلى فيقيل فيه، فيأتيه بعض نساء أسلم بالفراش، فيقول: لا، حتى أضع جنبي حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنبه، وأن سالم بن عبد الله كان يفعل ذلك، وروى أيضا عن عبد الله بن مكرم الأسلمي عن مشيخته أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في موضع المسجد بالبرود من مضيق الفرع، وصلّى فيه. مسجد الضيقة ومنها: مسجد بالضيقة وكهف أعشار- روى ابن زبالة عن أبي بكر بن الحجاج وسليمان بن عاصم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في مسجد في الضيقة مخرجه من ذات حماط. وذكر الزبير ذات الحماط في الأودية التي تصبّ في وادي العقيق في القبلة مما يلي المغرب قرب البقيع، ثم روى هذا الحديث. وذكر أيضا في هذه الأودية كهف أعشار، كما سيأتي عنه، ثم روي عن أبي بكر بن الحجاج وسليمان بن عاصم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق نزل في كهف أعشار وصلى فيه. مسجد مقمل ومنها: مسجد مقمل، بوسط النقيع حمى النبي صلى الله عليه وسلم، على يومين من المدينة في جهة درب المشبان. روى ابن زبالة عن محمد بن هيصم المزني عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على مقمل ظرب وسط النقيع، وصلّى عليه، فمسجده هنالك. قال أبو هيصم المدني: وكان أبو البحتري وهب بن وهب في سلطانه على المدينة بعث إليّ بثمانين درهما فعمرته بها. قال أبو علي الهجري: إن مقملا على ظرب صغير، على غلوة من برام، عليه المسجد المذكور، ووهم المجد فعدّه في مساجد المدينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 الفصل الخامس في بقية المساجد والمواضع المتعلقة به ص مسجد العصر فمنها: مسجد العصر، وعصر سيأتي أنه على مرحلة من المدينة. قال ابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى خيبر سلك على عصر، فبني له فيها مسجد، ثم على الصهباء. قال المطري: مسجد عصر من مشهوري المساجد التي صلّى فيها النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى خيبر. مسجد الصهباء ومنها: مسجد بالصهباء، وهي على روحة من خيبر. روى مالك عن سويد بن النعمان رضي الله تعالى عنه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء- وهي من أدنى خيبر- نزل فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأكل وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ، قال المطري: والمسجد بها معروف. قلت: وقد قدمنا قصة رد الشمس عنا عند ذكر مسجد الفضيخ من مساجد المدينة. مسجدان قرب خيبر ومنها: مسجدان بقرب خيبر أيضا قال الإقشهري، ومن خطه نقلت وبنى له صلى الله عليه وسلم مسجد بالحجارة حين انتهى إلى موضع بقرب خيبر يقال له المنزلة، عرّس بها ساعة من الليل فصلى فيها نافلة، فعادت راحلته تجرّ زمامها، فأدركت لترد فقال: دعوعا فإنها مأمورة، فلما انتهت إلى موضع الصخرة بركت عندها، فتحوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة، وتحوّل الناس إليها، وابتنى هنالك مسجدّا، فهو مسجدهم اليوم. مسجد بين الشق ونطاة ومنها: مسجد بين الشق والنطاة من خيبر روى ابن زبالة عن حسن بن ثابت بن ظهير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتى خيبر، ودليله رجل من أشجع، فسلك به صدور الأودية، فأدركته الصلاة بالقرقرة، فلم يصل حتى خرج منها، فنزل بين أهل الشق وأهل النطاة، وصلّى على عوسجة هناك، وجعل حولها الحجارة. مسجد شمران ومنها: مسجد بشمران- روى ابن زبالة عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جبل بخيبر يقال له شمران، فثم مسجده من ناحية سهم بني النذار، قال المطري: ويعرف هذا الجبل اليوم بشمران. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 مساجد تبوك ومنها: مساجد غزوة تبوك- قال ابن رشد، في بيانه: بنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بين تبوك والمدينة نحو ستة عشر مسجدّا، أولها بتبوك وآخرها بذي خشب، وذكر ابن زبالة نحو هذه العدة، وقال ابن إسحاق: كانت المساجد معلومة مسماة، وسردها أربعة عشر مسجدّا، وخالف في تعيين بعض مواضعها لما ذكره ابن زبالة، وذكرها الحافظ عبد الغني وزاد عن الحاكم مسجدّا. وقد اجتمع لنا من مجموع ذلك عشرون مسجدّا: فالأول: بتبوك، قال ابن زبالة: ويقال له مسجد التوبة، قال المطري: وهو من المساجد التي بناها عمر بن عبد العزيز، قال المجد: دخلته غير مرة، وهو عقود مبنية بالحجارة. الثاني: بثنية مدران- بفتح الميم وكسر الدال المهملة- تلقاء تبوك. الثالث: بذات الزراب- بكسر الزاي- على مرحلتين من تبوك. الرابع: بالأخضر، على أربع مراحل من تبوك. الخامس: بذات الخطمى، كذا في تهذيب ابن هشام، ومشى عليه المجد، وفي كتاب المطري «بذات الخطم» بفتح الخاء المعجمة ثم طاء مهملة على خمس مراحل من تبوك. السادس: ببألى- بالموحدة المفتوحة، ثم همزة ولام مفتوحتين- على خمس مراحل أيضا منها، قاله المطري، وكذا هو في تهذيب ابن هشام، وفي نسخة ابن ربالة بنقيع بولا. السابع: بطرف البتراء، تأنيث أبتر، قال ابن إسحاق: من ذنب كواكب وقال أبو عبيدة البكري: إنما هو كوكب جبل هناك ببلاد بني الحارث بن كعب. الثامن: بشق تاراء- بالمثناة الفوقية والراء- زاد ابن زبالة: من جويرة. التاسع: بذي الحليفة، قاله ابن زبالة وغيره أيضا، وهو غريب لم يذكره أصحاب البلدان. العاشر: بذي الخليفة، لم أر من جمعه مع الذي قبله إلا المجد، وقال: إنه بكسر الخاء المعجمة، وقيل بفتحها، وقيل بجيم مكسورة، وقيل بحاء مهملة مفتوحة، واقتصر في أسماء البقاع على كسر الجيم، والذي في تهذيب ابن هشام ذكر هذا المسجد بدل الذي قبله، وعكس ابن زبالة. الحادي عشر: بالشوشق، قاله الحافظ عبد الغني عن الحاكم، قال المجد: وكأنه تصحيف. الثاني عشر: بصدر حوضي- بالحاء المهملة، والضاد المعجمة، مقصور كما وجد بخط ابن الفرات، واقتصر عليه المطري، وقال المجد- مع ذكره لذلك في أسماء البقاع: إنه بفتح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 الحاء والمد موضع بين وادي القرى وتبوك قال: وهناك مسجده صلى الله عليه وسلم، انتهى. وهو مخالف لما ذكره هناك من المغايرة بين مسجد ذي الحليفة وبين مسجد صدر حوضي في ذنب حوضي ومسجد آخر في ذي الحليفة من صدر حوضي، والمغايرة هي التي في تهذيب ابن هشام، ولعله صدر حوضي هو المعبر عنه بسمنة في رواية ابن زبالة، فإنه كما سيأتي ماء قرب وادي القرى، وفي نسخة المجد في حكاية روايته: ومسجد بذنب حويضي بدل قوله بسمنة. الثالث عشر: بالحجر، وذكر ابن زبالة بدله العلاء، وكلاهما بوادي القرى. الرابع عشر: بالصعيد صعيد قزح. الخامس عشر: بوادي القرى، وقال الحافظ عبد الغني، في مسجد الصعيد: وهو اليوم مسجد وادي القرى. قلت: فهذا والذي قبله بوادي القرى، وفي رواية ابن زبالة: ومسجدان بوادي القرى أحدهما في سوقها والآخر في قرية بني عذرة، فلعل هذا هو الذي بقرية بني عذرة، والذي قبله هو الذي بالسوق، لكن المجد غاير بين الثلاثة أخذا بظاهر العبارة، ولأن في رواية أخرى لابن زبالة «صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي بصعيد قزح من الوادي، وتعلمنا مصلاه بأحجار وعظم، فهو المسجد الذي يجتمع فيه أهل الوادي» . السادس عشر: بقرية بني عذرة، لم يذكره ابن إسحاق، وذكره ابن زبالة كما تقدم. السابع عشر: بالرقعة، على لفظ رقعة الثوب، قال أبو عبيد البكري: أخشى أن يكون بالرقمة- بالميم- من الشقة شقة بني عذرة، وقال ابن زبالة بدله: بالسقيا، قال المجد في أسماء البقاع: والسقيا من بلاد عذرة قريبة من وادي القرى. الثامن عشر: بذي المروة، قال المطري: وهو على ثمانية برد من المدينة، كان بها عيون ومزارع وبساتين أثرها باق إلى اليوم. قلت: وسيأتي في ترجمتها ما جاء في نزوله صلى الله عليه وسلم بها. التاسع عشر: بالفيفاء فيفاء الفحلتين، قاله المطري، كان بها عيون وبساتين لجماعة من أولاد الصحابة وغيرهم. قلت: وسيأتي في ترجمة الفحلتين أنهما قنتان تحتهما صخر على يوم من المدينة. العشرون: بذي خشب على مرحلة من المدينة، ولفظ رواية ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى تحت الدومة التي في حائط عبيد الله بن مروان بذي خشب، فهنالك يجتمعون. وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في موضع المسجد تحت دومة، فأقام ثلاثا، ثم خرج إلى تبوك، وإن جهينة لحقوه بالرحبة، فقال لهم: من أهل ذي المروة؟ قالوا: بنو رفاعة من جهينة، فقال: قد قطعتها لبني رفاعة، فاقتسموها، فمنهم من باع ومنهم من أمسك فعمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وسنتكلم على هذه الأماكن بأوفى من هذا في محلها إن شاء الله تعالى. مسجد الكديد ومنها: موضع مصلّاه بنخل، ومسجد على ميل من الكديد- روى ابن زبالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بنخل تحت أثلة لرجل من أشجع من بني نعيم في مزرعة له في وسطها نخل، وصلى تحتها، فأضرّ الناس بتلك المزرعة، فقطع صاحب المزرعة تلك الأثلة، قال: ثم أصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطن نخل حتى جاوز الكديد بميل، فنزل تحت سرحة وصلّى تحتها، فموضع مسجده اليوم معروف، وأنه صلى الله عليه وسلم صلّى بالجبل من بلاد أشجع. قلت: نخل موضع بنجد كما سيأتي في محله، والكديد: موضع بقربه، لا الكديد الذي بين خليص وعسفان، وذكر الأسدي هذا المسجد في وصف الطريق بين فيد والمدينة، فقال بعد ذكر ذي أمر: إن الكديد واد، والطريق يقطعه، فلما يفارقه ماء عذب مستنقع، وفيه مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه خيام أعراب من بني كنانة، والنخيل قريب منها، وذكر أن بين النخيل وبئر السائب اثنين وأربعين ميلا؛ فعبر عن نخل بالنخيل مصغرا، وذلك هو المعروف اليوم قرب الكديد. مسجد الشجرة بالحديبية ومنها: مسجد بالحديبية يقال له مسجد الشجرة- وهو غير معروف، بل قال المطري: لم أر في أرض مكة من يعرف اليوم الحديبية إلا الناحية لا غير، انتهى. وهو الموضع الذي نزل به النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية يريد مكة فعاقه المشركون. قال ابن شبة، فيما نقل عن ابن شهاب: الحديبية واد قريب من بلدح، وقال صاحب المطالع: هي قرية ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة، وقال التقي الفاسي: يقال إن الحديبية الموضع الذي فيه البئر المعرف ببئر شميس بطريق جدة. مسجد ذات عرق ومنها: مسجد دون ذات عرق بميلين ونصف- قال الأسدي في وصف طريق ذات عرق من جهة نجد والعراق: إن بركة أو طاس يسرة عن الطريق بائنة عن المحجة، وبعدها مسجد يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ودون ذات عرق بملين ونصف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ميقات الإحرام، وهو أول تهامة، فإذا صرت عند الميل الثامن رأيت هناك بيوتا في الجبل خرابا يمنة عن الطريق، يقال: إنها ذات عرق الجاهلية، وأهل ذات عرق يقولون: الجبل كله ذات عرق، وبعض أهل العلم كان يحب أن يحرم من ذات عرق الجاهلية. مسجد الجعرانة ومنها: مسجد بالجعرانة- عن محرس الكعبي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلا معتمرا، وجاء مكة ليلا، فقضى عمرته، ثم خرج من ليلته وأصبح في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 الجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد خرج في بطن شرف حتى جامع الطريق، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس، رواه أحمد والترمذي وحسّنه. وذكر الواقدي أن إحرامه صلى الله عليه وسلم من الجعرانة كان ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، وأنه أحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى، وكان مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالجعرانة به، فأما الأدنى فبناه رجل من قريش، واتخذ الحائط عنده، ولم يجز رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلا محرما. وعن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة، وإني لا أعرف من اتخذ هذا المسجد على الأكمة، بناه رجل من قريش، واشترى مالا عنده ونخلا. وبيّن في رواية أخرى أن المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان بالجعرانة، وأن المسجد الأدنى بناء رجل من قريش، رواه الأزرق. مسجد لية ومنها: مسجد لية، وبين وادي لية ووادي الطائف نحو ثمانية أميال. قال ابن إسحاق: سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من حنين متوجها إلى الطائف على نخلة اليمانية، ثم على قرن وهو مهلّ أهل نجد، ثم على المليج، ثم على بحرة الرّغا من لية، فابتنى بها مسجدّا وصلى فيه. قال المطري: وهو معروف اليوم وسط وادي لية، رأيته وعنده أثر في حجر يقال به أثر خف ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق عن حديث عمرو بن شعيب له: إنه صلى الله عليه وسلم أقاد يومئذ ببحرة الرّغا، وحين نزلها ندم، وهو أول دم أقيد به في الإسلام، رجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل، فقتله به. مسجد الطائف ومنها: مسجد بالطائف- قال ابن إسحاق بعد ما تقدم عنه: ثم سلك صلى الله عليه وسلم في طريق يقال له الضيقة، وسأل عن اسمها فقيل: الضيقة، فقال بل هي اليسرى، ثم خرج منها على نخب- وهي عقبة في الجبل- حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة، قريبا من مال رجل من ثقيف، ثم مضى حتى نزل قريبا من الطائف، فقتل ناس من أصحابه بالنبل لاقتراب عسكره من حائط الطائف، فوضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم، فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، ومعه امرأتان من نسائه إحداهما أمّ سلمة، فضرب لهما قبّتين، ثم صلّى بين القبتين، فلما أسلمت ثقيف بنى على مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية بن وهب مسجدّا، وكانت في ذلك المسجد سارية فيما يزعمون لا تطلع الشمس عليها يوما من الدهر إلا سمع لها نقيض، انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 وذكر الواقدي بناء عمرو بن أمية للمسجد على مصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكان فيه سارية لا تطلع الشمس عليها يوما من الدهر إلا يسمع لها نقيض أكثر من عشر مرار، فكانوا يرون أن ذلك تسبيح. قال المطري: وهو جامع كبير، فيه منبر عال عمل في أيام الناصر أحمد بن المستضئ، وفي ركنه الأيمن القبلي قبر عبد الله بن عباس بن عبد المطلب في قبة عالية، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحن هذا الجامع بين قبتين صغيرتين يقال: أنهما بنيتا في موضع قبتي زوجتيه عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما. قلت: قال التقي الفاسي: إن المسجد الذي ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم هناك في مؤخر المسجد الذي فيه قبر عبد الله بن عباس؛ لأن في جداره القبلي من خارجه حجرا فيه: أمرت أمّ جعفر بنت أبي الفضل أمّ ولاة عهد المسلمين بعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف. وفيه أن ذلك سنة اثنتين وسبعين ومائة، قال: والمسجد الذي فيه قبر ابن عباس أظن أن المستعين العباسي عمره مع ضريح ابن عباس، انتهى. فإن كان المسجد الذي ذكر الفاسي أنه في مؤخر الجامع المذكور في صحنه فلا مخالفة فيه لما ذكره المطري، وإلّا فيخالفه. قال المطري: ورأيت بالطائف شجرات من شجر السّدر يذكر أنهن من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينقل ذلك خلف أهل الطائف عن سلفهم، فمنهن واحدة دور جذرها خمسة وأربعون شبرا، وأخرى أزيد على الأربعين، فأخرى سبعة وثلاثون، وأخرى يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بها وهو على راحلته فانفرق جذرها نصفين، وأن ناقته دخلت من بينهما وهو ناعس، قال: رأيتها قائمة كذلك سنة ست وتسعين، وأكلت من ثمرها، وحملت منه للبركة، ثم في سنة تسع وعشرين وسبعمائة رأيتها وقعت ويبست وجذرها ملقى لا يغيره أحد لحرمته بينهم، انتهى. وكأنه بقي منها بقية؛ فإن التقي الفاسي ذكرها، وقال: إنها انفرجت للنبي صلى الله عليه وسلم نصفين لما اعترضته وهو سائر وسنان ليلا في غزوة الطائف وثقيف على ساقين، على ما ذكر ابن فورك فيما حكى عنه عياض في الشفاء، وبعض هذه السّدرة باق إلى الآن، والناس يتبركون به، انتهى. وقال المرجاني: ورأيت بوجّ من قرى الطائف سدرة محاذية للجبر قريبة أيضا يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تحتها حين أتاه عديس بالطبق العنب وأسلم، وقالوا: سحره محمد، والقصة مشهورة، قال: ورأيت في جبل هناك عند آخر الحبرة تحته العين يذكر أنه صلى الله عليه وسلم جلس فيه، انتهى. وعن الزبير قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلية- قال الحميدي: مكان بالطائف- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 حتى إذا كنا في السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند طرف القرن الأسود عندها، فاستقبل نخبا قال الحميدي: مكان بالطائف ببصره، ثم وقف حتى اتفق الناس، ثم قال: إن صيدوج وعضاهه حرم محرم لله عز وجل، وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا، كذا في نسخة العيسوي عن الحميدي ومسند أحمد وسنن أبي داود أيضا، وضعفه النووي. وختم ابن زبالة الكلام على المساجد بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا «من بنى لله مسجدّا بنى الله له بيتا في الجنة، ولو مثل مفحص القطاة» قالت: فقلت: يا رسول الله والمساجد التي بين مكة والمدينة؟ قال: نعم، ورواه البزار. وفيه كثير بن عبد الرحمن، ضعفه العقيلي، وذكره ابن حبان في الثقات، ولفظه «من بنى لله مسجدّا بنى الله له بيتا في الجنة، قلت: وهذه المساجد التي في طريق مكة؟ قال: وتلك، والحديث في الصحيح عن عثمان بدون هذه الرواية، ولفظه «من بنى مسجدّا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة» . قلت: فينبغي الاعتناء بما دمر من المساجد التي بالمدينة وغيرها وعمارتها، والله الموفق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 الباب السابع في أوديتها، وأحمائها، وبقاعها، وجبالها، وأعمالها، ومضافاتها، ومشهور ما في ذلك من المياه والأودية، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك، وفيه ثمانية فصول الفصل الأول في فضل وادي العقيق، وعرصته، وحدوده ما ورد من الأحاديث في فضل وادي العقيق روينا في الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بوادي العقيق: «أتاني الليلة آت فقال: صلّ في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجة» . وتقدم في مسجد المعرس في رواية له «أرى وهو في معرّسه بذي الحليفة ببطن الوادي قيل له: إنك ببطحاء مباركة» . وروى ابن شبة عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا «العقيق واد مبارك» . وعن هشام بن عروة قال: اضطجع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعقيق، فقيل له: إنك في واد مبارك. وروى ابن زبالة عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نام بالعقيق، فقام رجل من أصحابه يوقظه، فحال بينه وبينه رجل من أصحابه آخر، وقال: لا توقظه فإن الصلاة لم تفته، فتدارآ حتى أصاب بعض أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظه، فقلن: ما لكما؟ فأخبراه. فقال: لقد أيقظتماني وإني لأراني بالوادي المبارك» وعن زكريا بن إبراهيم بن مطيع قال: بات رجلان بالعقيق، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين بتما؟ فقالا: بالعقيق، فقال: لقد بتّما بواد مبارك. وتقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: احصبوا هذا المسجد- يعني مسجد المدينة- من هذا الوادي المبارك، ورواه صاحب الفردوس مرفوعا. وقال أبو غسان: أخبرني غير واحد من ثقات أهل المدينة أن عمر رضي الله تعالى عنه كان إذا انتهى إليه أن وادي العقيق قد سال قال: اذهبوا بنا إلى هذا الوادي المبارك، وإلى الماء الذي لو جاءنا جاء من حيث جاء لتمسّحنا به. وروى ابن زبالة عن عامر بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ركب إلى العقيق، ثم رجع فقال: يا عائشة جئنا من هذا العقيق، فما ألين موطأه، وأعذب ماءه، قالت: فقلت: يا رسول الله أفلا ننتقل إليه؟ قال: وكيف وقد ابتنى الناس؟» . وعن خالد العدواني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في عرصة العقيق «نعم المنزل العرصة لولا كثرة الهوام» . وعن محمد بن إبراهيم التيمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «خرج في بعض مغازيه، فأخذ على الشارعة حتى إذا كان بالعرصة قال: هي المنزل لولا كثرة الهوام» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 وروى السيد أبو العباس العراقي في ذيله علي ابن النجار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي العقيق، فقال: يا أنس خذ هذه المطهرة املأها من هذا الوادي فإنه يحبنا ونحبه، فأخذتها فملأتها، الحديث. وروى ابن شبة عن سلمة بن الأكوع قال: كنت أصيد الوحش وأهدي لحومها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففقدني فقال: يا سلمة أين كنت تصيد الوحش؟ فقلت: يا رسول الله تباعد الصيد فأنا أصيد بصدور قناة نحو ثيب، فقال: لو كنت تصيد بالعقيق لشيّعتك إذا خرجت وتلقيتك إذا جئت، إني أحب العقيق، ورواه الطبراني بنحوه، قال الهيتمي: وإسناده حسن. وروى ابن زبالة عن جابر قال: كان سلمة يصيد الظباء فيهدي لحمومها لرسول الله صلى الله عليه وسلم جفيفا وطريّا، فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا سلمة مالك لا تأتي بما كنت تأتي به؟ فقال: رسول الله تباعد علينا الصيد فإنما نصيد بثيب وصدور قناة، فقال: أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت ونلفيتك إذا جئت، فإني أحب العقيق. قلت: ومحمله إن صح على ما قبل تحريم المدينة، أو أن المراد من الصيد بالعقيق طرفه الخارج عن الحرم، جمعا بين الأدلة. حد العقيق ونقل ابن زبالة والزبير بن بكار عن هشام بن عروة أنه كان يقول: العقيق ما بين قصر المراجل فهلم صعدا إلى النقيع، وما أسفل من ذلك- أي من قصر المراجل- فمن زغابة. وعن المنذر بن عبد الله الحمراني أنه سمع من أهل العلم أن الجرف ما بين محجة الشام إلى القصاصين، أي أصحاب القصة، وأن وطيف الحمار ما بين سقاية سليمان إلى الزغابة، وأن العرصة ما بين محجة بين إلى محجة الشام، وأن العقيق من محجة بين فاذهب به صعدا إلى النقيع. قلت: محجة بين تباين آخر الجروف، أي طريقها، وأظنها طريق درب العصرة، ومن سلكها مغربا كانت الجماوات عن يساره. قال: وحدثني آخرون أن العقيق من العرصة أبدا إلى النقيع. قال الزبير: ولم أزل أسمع أهل العلم والسنن يقولون: إن العقيق الكبير مما يلي الحرة ما بين أرض عروة بن الزبير إلى قصر المراجل، ومما يلي الجماء ما بين قصور عبد العزيز بن عبد الله العثماني إلى قصر المراجل، ثم اذهب بالعقيق صعدا إلى منتهى النقيع، ويقولون لما أسفل من المراجل إلى متهى العرصة العقيق الصغير، فأعلى أودية العقيق النقيع. وقالت الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن الشّريد السّلمية تبكي أخاها صخر بن عمرو وقد مات بالنقيع من جراحة فدفن فيه على رأس برام: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 أفيقي من دموعك واستفيقي ... وصبرا إن أطقت، ولن تطيقي وقولي: إن خير بني سليم ... وغيرهم ببطحاء العقيق وروى بنقعاء العقيق. ونقل أبو علي الهجري أن النقيع يبتدئ أوله من برام، والعقيق ببتدئ أوله من حضير إلى آخر منتهاه من العقيق الصغير، ثم يصب في زغابة. ونقل أيضا أن حضيرا آخر النقيع وأول العقيق، وآخر العقيق زغابة، قال: وزغابة مجتمع السيول غربي قبر حمزة رضي الله تعالى عنه، وهو أعلى وادي إضم. قلت: فهي منتهى العقيق والعرصة، ومبتدؤه حضير، وهي مزارع معروفة بقرب النقيع على أزيد من يوم عن المدينة. وقال عياض: النقيع صدر العقيق، والعقيق واد عليه أموال أهل المدينة، قيل: على ميلين منها، وقيل: على ثلاثة، وقيل: ستة أو سبعة، وهما عقيقان، أدناهما عقيق المدينة، وهو أصغر وأكبر، فالأصغر فيه بئر رومة، والأكبر فيه بئر عروة. والعقيق الآخر على مقربة منه، وهو من بلاد مزينة، وهو الذي أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث، وأقطعه عمر الناس، فعلى هذا تحمل المسافات لا على الخلاف. والعقيق الذي جاء فيه «إنك بواد مبارك» هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة، وهو الأقرب منهما- أي من العقيقين- المنقسم أحدهما إلى الكبير والصغير فلا ينافي كون ما يلي الحرة من العقيق أقرب. على أنه سيأتي ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث كلّ العقيق بعيده وقريبه، وأن الذي أقطعه عمر الناس هو الأدنى من المدينة، وهو المنقسم إلى كبير وصغير، وكلام الزبير وغيره صريح فيّ ذلك، والصواب أن مهبط الثنية المعروفة بالمدرج أول شاطئ وادي العقيق، على ميلين من المدينة أيام عمارتها، كما اقتضاه اختباري لمساحة ما بين المسجد النبوي ومسجد ذي الحليفة، وبه صرح الأسدي من المتقدمين، فقال: إن العقيق علي ميلين من المدينة، الميل الأول خلف أبيات المدينة، والثاني حين ينحدر من العقبة في آخره يعني المدرج، وكأنّ من عبّر بالثلاثة اعتبر المسافة من المسجد النبوي إلى أول بطن الوادي بعد القصر المعروف بحصن أبي هشام، ومن عبر بالستة اعتبرها إلى طرفه الأبعد وهو الذي به ذو الحليفة، فأدخل بطن الوادي في المسافة، أو هو مفرع علي القول بأن الميل ألفا ذراع، والراجح الموافق لاختبارنا أنه ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع. وقال المطري: وادي العقيق أصل مسيله من النقيع قبلى المدينة الشريفة على طريق المشبان، وبينه وبين قباء يوم ونصف، ويصل إلى بئر عليّ العليا المعروفة بالخليفة- بالقاف والخاء المعجمة- ثم يأتي علي غربي جبل عير، ويصل إلى بئر علي بذي الحليفة المحرم، ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 يأتي مشرقا إلى قريب الحمراء التي يطلع منها إلى المدينة، ثم يعرج يسارا، ومن بئر المحرم يسمى العقيق، فينتهي إلى غربي بئر رومة، انتهى. وقوله: «ومن بئر المحرم يسمى العقيق» أي في زمنه كزماننا، وهو العقيق الأدنى في كلام عياض. وقال عقب قوله «والعقيق الذي جاء فيه إنك بواد مبارك هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة وهو الأقرب منهما» ما لفظه: وهو الذي جاء فيه أنه مهلّ أهل العراق من ذات عرق، اه. وهو خطأ، إلا أن يحمل علي ما ذكره بعضهم من أن عقيق ذات عرق يتصل واديه بعقيق المدينة، والمعروف قديما امتداده إلى النقيع كما سبق، قال الزبير: سألت سليمان بن عياش السعدي: لم سمّي العقيق عقيقا؟ قال: لأن سيله عق في الحرة، وكان سليمان من أففه من رأيت في كلام العرب. وقوله «عق» أي شقّ وقطع في الحرة، ولما شخص تبّع عن منزله بقناة ومر بالعرصة وكانت تسمى السليل قال: هذه عرصة الأرض، فسميت العرصة، ومر بالعقيق فقال: هذا عقيق الأرض، فسمي العقيق، وقيل: سمي بذلك لحمرة موضعه. الفصل الثاني في أقطاعه، وابتناء القصور به، وطريف أخبارها رسول الله ص يقطع بلالا العقيق روى ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق كلّه، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعكه لتحجره، وأقطعه عمر الناس. وقال ابن شبة: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا من نثق به من آل حزم وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني العقيق، وكتب له فيه كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله بلال بن الحارث، أعطاه من العقيق ما أصلح فيه معتملا. وكتب معاوية، قال: فلم يعمل بلال في العقيق شيئا، فقال له عمر في ولايته: إن قويت على ما أعطاك رسول الله صلى الله عليه وسلم من معتمل العقيق فاعتمله، فما اعتملت فهو لك كما أعطاكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تعتمله أقطعته بين الناس ولم تحجره عليهم، فقال بلال: تأخذ مني ما أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشترط عليك فيه شرطا، فأقطعه عمر رضي تعالى عنه بين الناس، ولم يعمل فيه بلال شيئا؛ فلذلك أخذه عمر رضي الله تعالى عنه، ورواه الزبير بن بكار، وأسند نسخة القطيعة المذكورة عن هشام بن عروة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 وروى عن محمد بن سلمة المخزومي قال: أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية والعقيق، فبلغنا أنه باع رومة من عثمان بن عفان، وانتزع منه عمر بقية العقيق وأقطعه للناس، وقال: إنما أعطاك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمر ولم يعطك تحجر. وعن هشام بن عروة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحارث العقيق، فلم يزل على ذلك حتى ولي عمر فدعا بلالا فقال: قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنع شيئا سئله، وإنك سألته أن يعطيك العقيق فأعطاكه، فالناس يومئذ قليل لا حاجة لهم، وقد كثر أهل الإسلام واحتاجوا إليه، فانظر ما ظننت أنك تقوى عليه فأمسكه واردد إلينا ما بقي نقطعه، فأبى بلال، فترك عمر بيد بلال بعضه وأقطع ما بقي للناس. وذكر في رواية مع العقيق «معادن القبلية وحيث يصلح الزرع من قدس» وهي في سنن أبي داود بدون ذكر العقيق. وروى ابن شبة عن عبد الله بن أبي بكر أن عمر لما ولي قال: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا طويلة عريضة، فأقطعها لك، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنع شيئا سئله، وإنك لا تطيق ما في يدك، فقال: أجل، فقال: فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تطق فادفعه إلينا نقسمه، فأبى، فقال عمر: والله لنفعلنّ، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين. خبر قصر عروة، وبئره عن عروة بن الزبير قال: لما أخذ عمر بن الخطاب من بلال بن الحارث ما أخذ من العقيق وقف في موضع بئر عروة بن الزبير التي عليها سقايته، وقال: أين المستقطعون؟ فنعم موضع الحفيرة، فاستقطعه ذلك خوّات بن جبير الأنصاري، ففعل، قال مصعب بن عثمان: فقرأت كتاب قطيعته أرض عروة بن الزبير بالعقيق في كتب عروة ما بين حرة الوبرة إلى ضفيرة المغيرة بن الأخنس. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما أقطع عمر العقيق فدنا من موضع قصر عروة وقال: أين المستقطعون منذ اليوم؟ فو الله ما مررت بقطيعة شبه هذه القطيعة، فسألها خوّات، فأقطعها له، وكان يقال لموضعها «خيف حرة الوبرة» فلما كانت سنة أحد وأربعين أقطع مروان بن الحكم عبد الله بن عياش بن علقمة ما بين الميل الرابع من المدينة إلى ضفيرة أرض المغيرة بن الأخنس بالعقيق إلى الجبل الأحمر الذي يطلعك على قباء، قال هشام: فاشترى عروة موضع قصره وأرضه وبثاره من عبد الله بن عياش، وابتنى واحتفر وحجر وضفر، وقيل له: إنك لست بموضع مدر، فقال: يأتي الله به من النقيع، فجاء سيل فدخل في مزارعه فكساها من خليج كان خلجه، وكان بناه جنابذ- أي جمع جنبذ بضم الجيم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 وهو ما ارتفع واستدار كالقبة- قال: وكان لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الناحية الأخرى المراجل وقصر أمية والمنيف والآبار التي هناك والمزارع، فاستفتى عبد الله عبد الله ابن عبد الله بن عمرو علي عروة وقال: إنه حمل على حق السلطان، فهدم عمر بن عبد العزيز جنابذه وضفائره، وسد بئاره، فقدم رجل من آل خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية يريد الوليد، فسأل عن عروة، فأخبر قصته، فقدم على الوليد فسأله عن عروة وحاله، فأخبره، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز ما عروة ممن يتّهم فدعه وما انتقص من حق السلطان، فبعث إليه عمر وقال: كتبت فيّ إلى أمير المؤمنين؟ فقال: ما فعلت، فقال: اذهب فاصنع ما بدا لك فقال عروة: جزعوا من جنابذ نبنيها، والله لأبنينه بناء لا يبلغونه إلا بشقّ الأنفس، فبنى قصره هذا البناء، وهيل بثاره، فقال له ابنه عبد الله: يا أبتاه لو تبدّلت بثارا فاحتفرتها لكان أهون في العزم، فقال: لا والله إلا هي بأعيانها وأنشأ عروة يقول: بنيناه فأحسنّا بناه ... بحمد الله في خير العقيق نراهم ينظرون إليه شزرا ... يلوح لهم على وضج الطّريق فساء الكاشحين وكان غيظا ... لأعدائي وسرّ به صديقي يراه كلّ مرتفق وسار ... ومعتمر إلى بيت العقيق وعن مصعب بن عثمان قال: لما كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في ذلك ولي عروة عمر بن عبد الله بن عروة بناء قصره، فلما كثرت النفقة فيه لقيه عمه يحيى بن عروة فقال: يا ابن أخي، كم أنفقت في القصر؟ قال: كذا وكذا، قال: هذه نفقة كثيرة لو علم أبي بها لاقتصر في بنائه، فأخبره بذلك، فأخبر عمر جده، فقال: لقيك يحيى؟ قال: نعم، قال: إنما أراد أن يعوق عليّ بنائي، أنفق ولا تحسب، فأنفق ولم يحسب حتى فرغ، وحفر بئارا إحداهن بئر السقاية، وبئر يدعى العسيلة، وبئر القصر. وقال مصعب: وسبب هدم عمر بن عبد العزيز وتهوره البئر أن عروة أراد أن يرفع في رأس عينه محلا فمنعه عبد الله بن عمرو بن عثمان إلا أن يسأله ذلك، وكان له حقيق به، فقال عروة: مثلى يكلّف ذلك؟ وتركها، فلما بنى عبد الله قصره المراجل وعمل مزارعه عمل له خليجا، فلما بلغ به مزارع عروة حال بينه وبين ذلك، فاستفتى عبد الله بن عبد الله عمر بن عبد العزيز على عروة، وقال: بنى وحفر في غير حقه، وكانت جنابذه سبعا، وكانت الركبان ينزلون على بئر مروان، فلما حفر عروة بئره وأعذب اختاروا السهل والعذوبة فتركوا النزول على بئر مروان وكان في نفس عمر بن عبد العزيز شيء من ذلك، مع ما كان في نفسه على جميع بني الزبير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وعن ابن أبي ربيعة أنه مرّ بعروة وهو يبني قصره بالعقيق فقال: أردت الحرب يا أبا عبد الله؟ قال: لا، ولكن ذكر لي أنه سيصيبها عذاب، يعني المدينة، فقلت: إن أصابها كنت منتحيا عنها. وعن عروة مرفوعا: يكون في آخر أمتي خسف وقذف ومسخ، وذلك عند ظهور عمل قوم لوط، قال عروة: فبلغني أنه قد ظهر شيء منه، فتنحّيت عنها، وخشيت أن يقع وأنا بها، وبلغني أنه لا يصيب إلا أهل القصبة قصبة المدينة، وفي نسخة المجد «القصيبة» مصغرا، فأوردوه في ترجمة القصيبة، وهو وهم. وعن هشام قال: لما اتخذ عروة قصره قال له الناس: قد جفوت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني رأيت مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشبة في فجاجهم عالية، فكان فيما هناك عما هم فيه عافية. وتصدق عروة بقصره وأرضه وبئره على المسلمين، وأوصى بذلك إلى الوليد بن عبد الملك، فولاه ابنيه يحيى وعبد الله، ثم توفي يحيى وأقام عبد الله في القصر نحوا من أربعين سنة، ثم توفي عبد الله، ثم وليها هشام بن عروة بالسن، ثم عبد الله بن عروة، وقيل له: مالك تركت المدينة؟ قال: لأني بين رجلين حاسد لنعمة أو شامت بمصيبة، وهو القائل: لو كان يدري الشيخ عذري بالسحر ... نحو السقاية الّتي كان احتفر لفتية مثل الدّنانير غرر ... وقاهم الله النّفاق والضّجر بين أبي بكر وزيد وعمر ... ثمّ الحواريّ لهم جدّ أغر فهم عليها بالعشيّ والبكر ... يسثون من جاء ولا يؤذوا بشر لزاد في الشّكر وكان قد شكر ولما ولي إبراهيم بن هشام المدينة لهشام بن عبد الملك أراد أن يدخل في حقوق بني عروة بالفرع، فحال عبد الله ويحيى بينه وبين ذلك فهدم قصر عروة وشعّثه، وطرح في بئر عروة جملا مطليا بقطران، فكتب عبد الله إلى هشام بن عبد الملك بذلك، فكتب إلى ابن أبي عطاء عامله على ديوان المدينة أن يردّ ذلك على ما كان حتى يضع الوتد في موضعه، فكان غرم ذلك ألف دينار وثلاثين ألف درهم. وكان عبد الله يتحيّن ركوب ابن هشام، فإذا أشرف على الحرّة قال للناس: كبروا ولكم جزور، فيفعلون، فينحرها، فيغيظ بذلك ابن هشام ويبلغ منه. وقال في ذلك يحيى بن عروة أبياتا منها: ألا أبلغ مغلغلة بريدا ... وأبلغ إن عرضت أبا سعيد وأبلغ معشرا كانت إليهم ... وصايا ما أريد بني الوليد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 فإن لا نعتني قرباي منكم ... فودّى غير ذي الطمع الكدود ولما قدم الوليد بن يزيد في خلافة هشام بن عبد الملك ليدفع بالناس في الموسم وأقام عبد الله بن عروة بالعقيق، حتى قيل: هذا ولي العهد قد ركع في بركة مكة؟ فلقيه عبد الله وهو على ظهر الحرة، فلما نظر الوليد إلى قصور بني أمية عنبسة بن سعيد ومروان بن سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر جعل يقول لعبد الله بن عروة: لمن هذا؟ فيخبره، فلما نظر إلى قصر عروة قال: لمن هذا؟ قال: هذا قصر عروة، قال: عامر بن صالح في قصر عروة وبئره: حبّذا القصر ذو الظّلال وذو البئر ... ببطن العقيق ذات السّقاة ماء مزن لم يبغ عروة فيها ... غير تقوى الإله في المفظعات بمكان من العقيق أنيس ... بارد الظل طيّب الغدوات وقال أيضا: يا حّبّذا القصر لذي الإملاق ... ذو البئر بالوادي عليها الساقي وقال أيضا: ولقصر عروة ذو الظلال وبئره ... بشقا العقيق البارد الأفياء أشهى إليّ من العيون وأهلها ... والدور من فحلين والفرعاء وقال جابر الزمعي في بئر عروة: يعرضها الآني من الناس أهله ... ويجعله زادا له حين يذهب وقال الزبير بن بكار: رأيت الخرّاج من المدينة إلى مكة وغيرها ممن يمر بالعقيق يخففون من الماء حتى يتزودوه من بئر عروة، وإذا قدموا منها بماء يقدمون به على أهلهم يشربونه في منازلهم عند مقدمهم. وقال: ورأيت أبي يأمر به فيغلي، ثم يجعل في القوارير ثم يهديه إلى أمير المؤمنين هارون بالرقة. وعن نوفل بن عمارة قال: لما بنت أمي قصرها أرسل إليها هشام بن عروة يقول: إنك نزلت بين الطيبين بئر عروة وبئر المغيرة بن الأخنس، فأسألك برحمي إلا جعلت شرابك من بئر عروة ووضوءك من بئر المغيرة، فكانت أمي لا تشرب إلا من بئر عروة، ولا تتوضأ إلا من بئر المغيرة، حتى لقيت الله تعالى. وعن مرزوق بن والاة أنه قال لهشام بن عروة: رأيت أن عينا من الجنة تصب في بئر عروة. وقال السّريّ بن عبد الرحمن الأنصاري: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 كفنوني إن متّ في درع أروى ... واستقوا لي من بئر عروة مائي سخنة في الشتاء باردة الصيف سراج في الليلة الظلماء وقال علي بن الجهم: هضا العقيق فعدّ أي ... دي العيس عن غلوئها وإذا أصفت ببئر عر ... وة فاسقني من مائها إنا وعيشك ما ذمم ... نا العيش في أفنائها قال المجد: إنه لم يجد من يعرف هذه البئر من أهل المدينة. قلت: سيأتي في قصر عاصم أن جماء تضارع مشرفة على قصر عروة، وتسيل إلى بئره. وقال الأسدي: إن الميل الثالث من المدينة وراء بئر عروة بقليل؛ فيظهر أنها البئر المطمومة اليوم على يمينك وأنت متوجه إلى ذي الحليفة إذا جاوزت الحصن المعروف بأبي هاشم بنحو ثلث ميل وقريب من الجماء. قصر عاصم بن عمرو بن عمر بن عثمان بن عفان، وهو في قبل الجماء جماء تضارع المشرفة على قصر عروة وعلي الوادي يواجه بئر عروة بن الزبير، والجماء تسيل على قصر عاصم وعلى بئر عروة. وكان عبد الله الجعفري وعمر بن عبد الله بن عروة تعاونا في هجاء قصر عاصم، فقالا: ألا يا قصر عاصم لو تببن ... فتستعدي أمير المؤمنين فتذكر ما لقيت من البلايا ... فقد لاقيت حزنا بعد حين بنيت على طريق الناس طرا ... يسبّك كل ذي حسب ودين ولم توضع على غمض فتخفى ... ولم توضع على سهل ولين يرى فيك الدخان لغير شيء ... فقد سميت خدّاع العيون في أبيات آخرها: قبيح الوجه منعقد الأواسي ... خبيت الخلق مطرود بطين فاشترى عاصم قصة فطرّه بها وغرم فيه ألفي درهم، وقال يرد عليهما: بنوا وبنيت واتخذوا قصورا ... فما ساووا بذلك ما بنيت بنيت على القرار وجانبوه ... إلى رأس الشواهق واستويت على أفعالهم وعلى بناهم ... علوت وكان مجدّا قد حويت وتلك صلاصل قد فلستهم ... وذاك وديهم فيها يموت فليس لعامل فيها طعام ... وليس لضيفهم فيها مبيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وقيل: البيتان الأخيران لزيد بن عاصم، قال الزبير: وهو أشبه. وصلاصل: أرض كانت لعروة بحرة بطحان، ثم صارت لابنه يحيى، فوقفها في بنيه، وكان يقال لها المقتربة، فكانت فتاتان لبعض نساء بنيه تختصمان بها عند اجتناء الرطب، وتضرب إحداهما الأخرى، فغلب عليها اسم صلاصل لكثرة صلاصلهما بالخصومة، وفيها يقول عروة: مآثر أخوالي عديّ ومازن ... تخيرتها، والله يعطي الرغائبا فمن قال فيها قيل صدق فلم يقل ... ومن قال فيها غيره كان كاذبا ومر ابن أبي البداح- وكال أعلم الناس بالنخيل- على عروة وهو يغرسها ألوانا، فقال له: إن كنت ولا بد غارسا فعليك بعذق ابن عامر، فإنه ليس عذق أحسن للتنزه ولا أصبر على المالح منه. قصر المغيرة قصر أبي هاشم المغيرة بن أبي العاص وبئره- روى عنه الزبير: أنه قال: لما أردت أن أبني قصرا بالعقيق قلت: أبنيه بيتين، ثم مضيت للنزهة العشرة الأيام وما أشبهها، قال: فدخلت على مولاة لي فقالت: يا أبا هاشم، أردت بناء قصر بالعقيق؟ فقلت لها: نعم، فقالت: ابنه على أنه لم يبن بالعقيق مغيري غيرك، فبنيته هذا البناء، وغرمت فيه غرما كبيرا، قال: وهو القصر الذي يعرف بقصر بنت المرازقي. وعن عبد الله بن ذكوان قال: كانت بنو أمية تجري في الديوان ورقا على من يقوم على حوض مروان بن الحكم بالعقيق، في مصلحته وفيما يصلح بئر المغيرة من علقها ودلائها. قال: ومر هشام بن عبد الملك وهو يريد المدينة بحر هشام بن إسماعيل بالرابع فقيل له: يا أمير المؤمنين، جر جدك هشام، فأمر بمصلحتها وما يقيمها من بيت المال، فكانت توضع هنالك جرار أربع يسقى منهن الناس، وسيأتي ذكر الرابع في شعر في القصر الآتي. قصر عنبسة بن عثمان بن عفان قصر عنبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان، وهو إلى جنب الجمّاء بعد أن تجاوز المصعد تريد البطحاء، وهو الذي قيل فيه: يا قصر عنبسة الذي بالرابع ... لا زلت تؤهل بالحيا المتتابع فلقد بنيت على الوطاء، وبنيت ... تلك القصور على ربا ورفائع يا رب نعمة ليلة قد بتها ... بفنائك الحسن المنيف الواسع وقال شاعرهم: خذل ابن عنبسة بن عمرو وعده ... وكذبت حين أقول ما لم يفعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وبنى قصيرا بالعقيق ملعنا ... لا بالكريم ولا جميل المدخل ودعا المهندس فاختفى في جوفه ... بئرا فأنبطها كطعم الحنظل قصر عنبسة بن سعيد بن العاص قصر عنبسة بن سعيد بن العاص: بالعقيق الصغير- ركب هشام بن عبد الملك ومعه عنبسة بن سعيد، فمر بموضع قصر عنبسة، فقال: نعم موضع القصر يا أبا خالد، قد أقطعته لك، قال: يا أمير المؤمنين من يقوى على هذا؟ قال: فإني أعينك فيه بعشرين ألف دينار، فدفعها عنبسة إلى ابنه عبد الله وقال: إنك أنزلت بين الأشياخ، فانظر كيف تبني؟ وكان أول من قارب بين القصور، ونزل إلى جنب عبد الله بن عامر، فلما فرغ من القصر بنى ضفائره بالآجر المطبق، فقال له عنبسة: أما علمت أن متنزهي أهل المدينة يدقون عليه العظام، ابنه بالحجارة المطابقة، ففعل، وبعث إليه هشام بأربعين بختيا، فكان ينضح عليها في مزارعه وصهريجه. قلت: ولعل الموضع المعروف اليوم بالعنابس مزارع عنبسة هذا. وعن بعض ولد عنبسة قال: بينا عبد الله بن عنبسة نائم في قاعة القصر، وعنده خصي يذبّ عنه، وكان له غلام صغدي يسقيهم الماء، فدخل فرآه نائما، فنزع القربة وشد عليه بخنجر كان معه، وثار الخصي يحول بينهما، فقتل الخصي، وانتبه عبد الله واتقاه بوسادة، وتداعى عليه أهل القصر وأخذوه، وأمر به عبد الله فقتل وصلب بفناء القصر. وكان قصر عنبسة فيما أخذ من أموال بني أمية، ثم رد على ابن عنبسة. وكان جعفر بن سليمان إذ كان واليا بالمدينة نزله، وابتنى إليه أرباضا، وأسكنها حشمه، ثم تحول منه إلى العرصة فابتنى بها وسكنها حتى عزل فخرج منها، ولذلك يقول ابن المزكي: أوحشت الجماء من جعفر ... وطالما كانت به تعمر كم صارخ يدعو وذي كربة ... يا جعفر الخيرات يا جعفر أنت الذي أحييت بذل الندى ... وكان قد مات فلا يذكر ثم لعباس وصيّ الهدى ... ومن به في المحل يستمطر وقال شاعر: إني مررت على العقيق وأهله ... يشكون من مطر الربيع نزورا ما ضركم أن كان جعفر جاركم ... أن لا يكون عقيقكم ممطورا وقال محمد بن الضحاك: خرج أبي وابن عبد الله بن عنبسة في جماعة من لمتهم إلى قصر عنبسة بالعقيق الصغير، وخرج بي أبي معهم وأنا حدث السن، ونحروا جزورا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 فجعلوا يمزحون به فيما بينهم، يقول هذا بيتا وهذا بيتا، فكان مما حفظت من ذلك قول أحدهم: حبذا ثم حبذا ... في قصر ابن عنبسة ولمات تجمعوا ... وجزور مكردسه والتواليد عندنا ... كالرباط المورّسه قصر أبي بكر الزبيري المعروف بالمستقر قصر أبي بكر بن عبد الله بن مصعب الزبيري الذي يعرف بالمستقر اشتراه وهو بيت أو بيتان، فهدم ذلك، وبناه قصرا، ففيه يقول القائل: يا قصر لو كان خالدا أحد ... بالجود والمجد كان مولاكا ولو تفدى المنون ذا كرم ... كان أبو بكر الندى ذا كا وفيه يقول أيضا حين بيع في تركة أبي بكر: أوحش المستقرّ بعد أبي بكر ... فأضحى ينوح في كل حين بعد عز وبهجة وبهاء ... تاه يوما به على الثقلين فاعذروه يا هؤلاء؛ إن ذا ال ... شجو ليجري دموعه من معين قصر عبد الله بن أبي بكر العثماني قصر عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن عثمان بن عفان- قال محمد بن معاوية: كنت أنا ومحمد بن عبد الله البكري- وكان قاضيا على المدينة- متنزهين بالعقيق في قصر ابن بكير، فكتب محمد بن عبد الله في الجدار: أين أهل العقيق أين قريش ... أين عبد العزيز وابن بكير ولو أنّ الزمان خلد حيا ثم كتب تحته: من أتم هذا النصف فله سبق، قال: فتنزه عمر بن عبد الله بن نافع في قصر ابن بكير، فقرأ الكتابة، فأتم النصف، فكتب: كان فيه يخلد ابن الزبير قال محمد بن معاوية: فعاد محمد بن عبد الله للنزهة، فوجد البيت قد أتم، فسأل من أتمه، فقلت له: عمر بن عبد الله، فقال: لو كنت أكلمه وفيت له بسبقه، أحسن وصدق. وكان عمر بن عبد الله له هاجرا. وستأتي قصور أخرى في الجمّاوات، قال أبو علي الهجري: إن سيل الوادي يفضي إلى الشجرة التي بها محرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يلي ذلك مزارع أبي هريرة رضي الله تعالى، ثم تتابع القصور يمنة ويسرة بها منازل الأشراف فيها يبتدئون، منها منازل عن يمين الجائي من مكة بسفح عير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 جملة من القصور والآبار ومنها قصر لإسحاق بن أيوب المخزومي، وقصر لإبراهيم بن هشام، وقصر لآل طلحة بن عمر بن عبيد الله، ومنازل أسفل منها عن يمين الطريق أيضا لآل سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، ووجاه ذلك في قبالة جماء تضارع منازل لعبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، ثم يليها منازل لعبد الله بن بكير بن عمرو بن عثمان، وهو قصر طاهر بن يحيى ومنازل ولده. ووجاهها في صير حرة الوبرة مزارع عروة بن الزبير وبئره، وأسفل منها البئر التي تعرف ببئر المغيرة بن أبي العاص، وأسفل منها بئر زياد بن عبد الله المداني وحوضها، وضفائر قصر مراجل والزبيني قصر سكينة بنت حسين، وقصور فوق الزبيني لإسحاق بن أيوب متتابعة، وفوقها قصور كثيرة لغير واحد، ثم قصور ابنة المرازقي الزهرية، ثم منازل جعفر بن إبراهيم الجعفري، ثم يفضي إلى بئر رومة، وقصور كثيرة يمنة ويسرة منها قصور عبد الله بن سعيد بن العاص، وببطن الوادي بثار لعبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس والقصور يمنة ويسرة. ثم ذكر ما بالعرصة من القصور، وقال: ثم يفضي ذلك إلى الجرف، وفيه سقاية سليمان بن عبد الملك، وهي على ميمنة من خرج إلى السلام يعسكر بها الخارج من المدينة إليها، ثم الزغابة وبها مزارع وقصور أيضا، انتهى. الفصل الثالث في العرصة وقصورها، وشيء مما قيل فيها وفي العقيق من الشعر قصر خارجة: روى ابن زبالة أن بني أمية كانوا يمنعون البناء في العرصة حيالها، وأن سلطان المدينة لم يقطع فيها قطيعة إلا بإذن الخليفة حتى خرج خارجة بن حمزة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن العوام إلى الوليد بن عبد الملك، فسأله أن يقطعه موضع قصر فيها، فكتب إلى عامله بالمدينة أن أقطعه موضع قصر فيها وألحقه بالسواد، أي الحرة، فلم يزل بأيديهم حتى صار ليحي بن عبد الله بن حسين بن علي بن حسين. قصر عبد الله بن عامر برومة: قال الواقدي: إنه بناه هناك من أول ما بنى بذلك العقيق إلا قصرا بعرصة البقل، ولما قتل أهل الحرة وعسكر مشرف بالجرف أمر بالعسكر، فحول إلى عرصة البقل، وأمر بالأسرى فحبسوا هناك. وقال ابن أبي عوف: إنه بعد أن نهب المدينة خرج إلى قصر ابن عامر، وقتل من قتل. قصر مروان بن الحكم: روى الزبير أن مروان ابتنى بعرصة البقل، واحتفر وضرب لها عينا فازدرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 قصر سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية: أحد مشاهير الأجواد ابتنى سعيد بالعرصة قصرا في سرتها، واحتفر بها، وغرس النخل والبساتين، وكان نخلها أبكر شيء بالمدينة، وكانت تسمى عرصة الماء. وعن يحيى بن كعب مولى سعيد قال: كان نخل سعيد بالعرصة لا يطير حمامها، وكانت فيها بئار ثلاث، العليا منهن اليمانية تدعى الشمردلية، والتي تليها أسفل منها تدعى الواسطية، قال: وأنسيت السفلى، وبنى بالعرصة عند نخلة قصره الذي يقول فيه أبو قطيفة عمر بن الوليد بن عقبة: والقصر ذو النخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون وقال الهجري: ثم يفضى- يعني سيل العقيق- إلى العرصة عرصة البقل، وعرصة الماء، وعرصة جعفر بن سليمان بقبل الجماء العاقر مرتفعة في حصن الجبل. وبالعرصة الكبرى قصري سعيد بن العاص الذي امتدحه الشاعر بقوله، وذكر البيت المتقدم. والذي ذكره الزبير وغيره أن قصر سعيد بعرصة الماء- وهي العرصة الصغرى- لأنهم قالوا: وفي عرصة الماء يقول داود بن سلم: أبرزتها كالقمر الزاهر ... في عصفر كالشرر الطائر بالعرصة الصغرى إلى موعد ... بين خليج الواد والظاهر قالوا: إنما قال لها العرصة الصغرى لأن العقيق الكبير ينيفها من أحد جانبيها، وينيفها عرصة البقل من الجانب الآخر، وتختلط عرصة البقل بالجرف فيتسع، والخليج الذي ذكر خليج سعيد بن العاص، انتهى؛ فالعرصة الكبرى هي عرصة البقل، والصغرى هي عرصة الماء، فهي عرصة سعيد بن العاص، وأظنها التي فيها البناء المعروف اليوم بعقد الأرقطية، ولعله قصر سعيد بن العاص وموضع آباره وبستانه فيما يليه، ويلي ذلك عرصة البقل لجهة بئر رومة. وقال فضالة بن عثمان: لما حضر سعيد الموت قال لابنه عمرو وهو الأشدق: أوصيك بثلاث: عليّ دين عظيم، فأكثر فيه مالي حتى تؤديه، وانظر إخواني فإن فقدوا وجهي فلا يفقدوا معروفي، ولا تزوج بناتي إلا في الأكفاء، ثم مات، فركب عمرو إلى معاوية، فقال الحاجب له: عمرو بالباب، فقال معاوية: هلك والله سعيد، فأدخله، فنعى له سعيدا وأخبره بوصيته، فقال: نحن قاضون عنه الدين قال: إنما أوصى إليّ أن يكون من صلب ماله، فقال: يعني بعض ضياعه، وإني أكره إحن صدر مروان وذويه من قريش بقضاء دين أبيك، فباعه العرصة بألف ألف، فقالت قريش: أيخدع معاوية نفسه أو يكيدنا؟ وقال مروان: يا أمير المؤمنين ما دون الله يد تحجرك عن هواك، ولنحن أهون عليك فيما تريد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فعلام تخدع نحلك وتكيدها؟ هلا جعلت ما أعطيت عمرا صلة؟ فقال: إنك عاديت سعيدا حيّا وميتا، وما بلغ من إثماني لضيعته مكيدة قريش، ولقد علمت قريش أني أحفظ الميت في الحي وأصل الحي للميت، ولهو خير لكم أن أكون كذلك، فأخذ عمرو المال، فأتى به المدينة فقضى دين أبيه، ثم أمر بأخوال أبيه فدخلوا عليه، فوصلهم، ثم أدخل إخوانه، فوقع الشر بينه وبين مروان ومروان خاله، فقال: يكايدنا معاوية بن حرب ... ولسنا جاهلين بما يكيد في أبيات بلغت معاوية، فأنشد: ألا لله درّ غواة فهر ... أريد سوى الذي فهر تريد أراني كلما أخلقت ضغنا ... أتاني منهم ضغن جديد في أبيات، قال الزبير: ولم يصح عندي الشعران. وروي عن سعيد أنه قال لابنه: إن منزلي هذا بالعرصة ليس من العقد، إنما هو منزل نزهة، فبعه من معاوية، واقض ديني ومواعيدي، ولا تقبل من معاوية قضاء ديني. وعن نوفل بن عمارة أن سعيدا قال لابنه: إني موصيك بأربع، لا تنقلني من موضعي يعني قصره- حتى أموت فيه؛ فإنه أحب المواضع إليّ، وقليل لي من قومي في بري بهم أن يحملوني على رقابهم إلى موضع قبري، وذكر الوصايا الثلاث المتقدمة؛ فلما توفي حمله رجال قريش حتى دفنوه بالبقيع، وقصره على ثلاثة أميال من المدينة، ثم رحل ابنه إلى معاوية، فدخل وهو أشعث، فقال له معاوية: ما بالك؟ قال: هلك أبو عثمان، فترحّم عليه، ثم قال: حاجتك فذكر وصاياه، فسأله عن دينه، فقال: ثلاثة آلاف ألف، قال: هو عليّ، قال: إنه أمرني أن لا يكون إلا من صلب ماله، قال: فبعني، قال: بعتك العرصة، قال: قد أخذت القصر بألف ألف، والنخيل بألف ألف، والمزارع بألف ألف، ثم قال: يا أهل الشام، اكتبوا عليه لئلا يندم، وفي رواية أنه قال: أمرني أن أبيع في دينه ما استباع من أمواله، قال معاوية: فعرضني ما شئت قال: أنفسها وأحبها إلينا منزله بالعرصة، فقال: هيهات لا يبيعونه، انظر غيره، قال: تحب تعجيل قضاء دينه؟ قال: قد أخذته بثلاثمائة ألف، قال: اجعلها بالوافية يعني الدرهم زنة المثقال، قال: قد فعلت، قال: وتحملها إلى المدينة قال: ونفعل، فقدم عمرو فجعل يفرقها في الديوان، ويحاسبهم بما بين الدراهم الوافية وهي البغلية والدراهم الجواز، حتى أتاه فتى من قريش بذكر حق له من أديم فيه عشرون ألف درهم بخط مولى لسعيد وشهادة سعيد على نفسه، فعرف الخط وأنكر أن يكون لذلك الفتى الصعلوك ذلك، فقال: ما سبب مالك؟ قال: رأيته وهو معزول وهو يمشي وحده، فمشيت معه لباب داره، فوقف وقال: هل لك حاجة؟ قلت: رأيتك تمشي وحدك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 فأحببت أن أصل جناحك، فقال: وصلتك رحم، بعني قطعة أديم، فأتيته بهذه القطعة، فكتب غلامه هذا الكتاب وفيه شهادته، ثم قال: يا ابن أخي، ليس عندنا اليوم شيء، فخذ هذا الكتاب، فقال عمرو: لا جرم لا يأخذها إلا وافية، ودفعها إليه بغلية. ولما أضعت العرصتان عن بني أمية استقطع خنجر- وهو كثير بن العباس بن محمد- عرصة سعيد بن العاص، فأقطعه إياها أبو العباس المنصور، فقال زياد بن عبد الله الحارثي وكان واليا على المدينة بخ بخ يا خنجر، صارت لك عرصة سعيد، فقال: وما ينكر من ذلك؟ فأعجب منه دار معاوية بن سفيان بالبلاط لزياد بن أم زياد، واقتطع السلطان في سلطان بني هاشم في العرصة، وابتنوا عرصة الماء، وفي ذلك يقول ذؤيب الأسلمي: قد أقر الله عيني ... بغزال يا ابن عون طاف من وادي دجيل ... بفتى طلق اليدين بين أعلى عرصة الما ... ءإلى قصر زبين فقضاني في منامي ... كل موعود ودين وفيها يقول أبو الأبيض سهل بن أبي كثير: قلت من أنت فقالت ... بكرة من بكرات ترتعي نبت الخزامى ... تحت تلك الشجرات حبذا العرصة ليلا ... في ليال مقمرات طاب ذاك العيش عيشا ... وحديث الفتيات ذاك عيشي أشتهيه ... وحديثي مع لمات وفيها يقول بعض المدنيين: وبالعرصة البيضاء إن زرت أهلها ... مها مهملات ما عليهن سائس يدرن إذا ما الشمس لم يخش حرها ... خلال بساتين خلاهن يابس إذا الحر آذاهن لذن ببحرة ... كما لاذ بالظل الظباء الكواس وقال عامر بن صالح في العرصتين: أهوى البلاط فجانبيه كليهما ... فالعرصتين إلى نخيل قباء وقال حكيم بن عكرمة الديلي فيهما وفي العقيق وجوانب المدينة: لعمرك للبلاط وجانباه ... وحرة واقم ذات المنار فجماء العقيق فعرصتاه ... فمفضي السيل من تلك الحرار إلى أحد مدى حرض فمبنى ... قباب الحي من كنفي صرار أحبّ إلى من ريح وبصرى ... بلا شك علي ولا تماري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 ومن قريات حمص وبعلبك ... لو أنّي كنت أجعل بالخيار وفيهما وفي العقيق يقول الوليد بن زيد: لم أنس بالعرصتين مجلسنا ... بالسفح بين العقيق والسند وقال عبد الله بن مصعب في ذلك وفي الصلصل: أشرف على ظهر القديمة هل ترى ... برقا سرى في عارض متهلل نضح العقيق فبطن طيبة موهنا ... ثم استمر يؤم فضل الصلصل فكأنما ولعت مخائل برقه ... بمعالم الأحباب ليست تأتلي فالعرصتين فسفح عير فالربا ... من بطن خاخ ذي المحل الأشهل وقال سعيد المساحقي في ذلك وهو ببغداد، وذكر أنه ابتلى بعد أخيه بمحادثة غلامه زاهر: أرى زاهرا لما رأى من توحّشي ... وأن ليس لي من أهل ودي زائر فظل يعاطيني الحديث وإننا ... لمختلفان حين تبلى السرائر يحدثني مما يجمّع عقله ... أحاديث منها مستقيم وجائر وما كنت أخشى أن أراني راضيا ... يعلّلني بعد الأحبة زاهر وبعد المصلى والبلاط وأهله ... وبعد العقيق حيث يحلو التزاور إذا اعشوشبت قريانه وتزينت ... عراص بها نبت أنيق وزاهر وقال أيضا: ألا قل لعبد الله إما لقيته ... وقل لابن صفوان على النأي والبعد ألم تعلما أن المصلى مكانه ... وأن العقيق ذا الظلال وذا الورد وأن رياض العرصتين تزينت ... بنوارها المصفر والأشكل الوردي وأن بها لو تعلمان أصائلا ... وليلا رقيقا مثل حاشية البرد وأن غدير اللابتين مكانه ... وأن طريق المسجدين على العهد فهل منكما مستأذن فمسلم ... على وطن أو جاذب لذوي الود فما العيش إلا ما يسر به الفتى ... إذا لم يجد يوما سبيل ذوي الرشد فأجابه عبد الأعلى بن عبد الله بن محمد بن صفوان: أتاني كتاب من سعيد فشاقني ... وزاد غرام القلب جهدا على جهد وأذري دموع العين حتى كأنما ... بها رمد عنه المراود لا تجدي بأن رياض العرصتين تزينت ... وأن المصلى والبلاط على العهد وأن غدير اللابتين ونبته ... له أرج كالمسك في عنبر الهند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 فكدت لما أضمرت من لاعج الهوى ... ووجد بما قد قال أقضى من الوجد وقال إبراهيم بن موسى الزبيري: ليت شعري هل العقيق فسلع ... فقصور الجماء فالعرصتان فإلى مسجد الرسول فما حا ... ز المصلى فجانبا بطحان فبنو مازن على العهد أم ليس كعندي في سالف الأزمان وأنشد عبد السلام بن يوسف وهو في غاية العذوبة: على ساكني بطن العقيق سلام ... وإن أسهروني بالفراق وناموا حظرتم عليّ النوم وهو محلل ... وحللتم التعذيب وهو حرام إذا بنتم عن حاجر وحجرتم ... على السمع أن يدنو إليه كلام فلا ميّلت ريح الصبا فرع بانة ... ولا سجعت فوق الغصون حمام ولا قهقهت فيه الرعود، ولا بكى ... على حافتيه بالعشيّ غمام فمالي وما للربع قد بان أهله ... وقد قوضت من ساكنيه خيام ألا ليت شعري هل إلى الرمل عودة ... وهل لي بتلك البانتين لمام وهل نهلة من بئر عروة عذبة ... أداوي بها قلبا براه أوام ألا يا حمامات الأراك إليكم ... فما لي في تغريد كن مرام فوجدي وشوقي مسعد ومؤانس ... ونوحي ودمعي مطرب ومدام وقال أعرابي: أيا سرحتي وأدي العقيق سقيتما ... حيا غضة الأنفاس طيبة الورد ترويكما مج الثرى، وتغلغلت ... عروقكما تحت الندى في ثرى جعد ولا يهنين ظلاكما أن تباعدت ... بي الدار من يرجو ظلالكما بعدي وعن محمد الزهري قال: ركب عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن حسن بن حسن ومحمد بن جعفر بن محمد على بغلات لهم، حتى إذا كانوا بالعقيق أصابهم المطر، وهنالك سرحة عظيمة، فدخلوا تحتها، فقال عبد العزيز بن عمر: خبرينا يا سرح خصصت بالغيث ... بصدق فالصدق فيه شفاء هل يموت المحب من لاعج الحب ... ويشفي من الحبيب اللقاء ثم إن السماء أقلعت، فساروا ساعة، ثم رجعوا للسّرحة فإذا في أصلها كتاب فيه: إن جهلا سؤالك السرح عما ... ليس يوما به عليك خفاء فاستمع تخبر اليقين وهل ... يشفي من الشك نفسك الأنباء ليس للعاشق المحب من الحب ... سوى رؤية الحبيب شفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 وعن رجل من الأنصار أنه كان نازلا تحت سرحة ببطن العقيق إذ وقف عليه ابن عمر، فسلم، ثم قال: من دلّك عليها؟ قال: الذي دلّك عليها، قال ابن عمر: فهل تدري لم يستحب ظلال السرح: قال الرجل: إنه ظليل، وليس له شوك، قال ابن عمر: ولغيره، أرأيت إذا كنت بين الأخشبين من منى فإن بينك وبين مطلع الشمس واديا يقال له وادي سرر، سرّ به سبعون نبيا، وقد سر نبي منهم تحت سرحة فدعا للسرح، فهي لا تقيل كما يقيل الشجر. وعن محمد بن معن الغفاري قال: أراد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أن يخرج إلى مكة، فذكر ذلك لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال له عبد العزيز: هل لك أن تقيل عندي أنت وأصحابك ثم تروحون من عندنا وهو بالبطحان في قصر عمر بن عبد العزيز؟ فقال محمد: نعم، فهيأ لهم نزلا، فقال محمد: ما بقي شيء يبر به أحد أحدا إلا وقد أنزلتناه إلا طعام البادية، قال: وما هو؟ قال: التمر والزبد، قال: أما الغنم فإنها لعاصم بنت سفيان بن عاصم بن عبد العزيز، يعني امرأته، ولست مقدما على شيء منها إلا بإذنها، ولكني سأستطعمها لكم، وكتب إليها: إن عندي فدتك نفسي ضيوفا ... واجب حقّهم كهولا ومردا عمدوا جارك الذي كان قدما ... لا يرى من كرامة الضيف بدا فلديه أضيافه قد قراهم ... وهمو يشتهون تمرا وزبدا فلهذا جرى الحديث، ولكن ... قد جعلنا بعض المزاحة جدّا فقال له محمد: ما زال هذا العيش بينكما، قال: نعم والله ما مسست غيرها، ولا احتلمت بغيرها قط، ولا خالفتها في شيء هويته قط، فبعثت إليهم بتمر وزبد. وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال: كان عروة بن الزبير قائما بفناء قصره نصف النهار، إذ أقبل شيخ من أهل المدينة معه حمام، فوقف عند الميل، فمسح حمامه، وسوّى ريشه ثم أرسله، ثم أقبل على بئر عروة فشرب من مائها، فقال له عروة: جئت في مثل هذه الساعة كأنك صبي، فأرسلت حماما، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «شيطان يتبعه شيطان» فقال الشيخ: يا خليلي لا تكلم ... ليس فيه من ملام وعن عبد العزيز بن عبد الله قال: بينا أنا بالعقيق إذ أقبل رجل له موضع يحمل حماما، فقلت له: مثلك يحمل هذا الحمام؟ ولا أراك إلا قد راهنت به، قال: أجل، وما في ذلك؟ قلت: إنه حرام، قال: فهذه الخيل يراهن بها، قلت: تلك سنة، قال: وهذه رعلة، ثم انصرف، انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 والرعلة: نوع من تمر المدينة، وكذا السنة، فحمل السنة على ذلك. الفصل الرابع في جماواته، وأرض الشجرة، وثنية الشريد وغيرها من جهاته نقل ابن زبالة وغيره أن الجماوات ثلاثة: الأولى: جماء تضارع التي تسيل على قصر عاصم وبئر عروة، وقال الهجري: أول الجماوات جماء تضارع التي تسيل على قصر عاصم وهو منزل أبي القاسم طاهر بن يحيى وولده، وفيها يقول أحيحة بن الجلاح: إني والمشعر الحرام وما ... حجّت قريش له وما نحروا لا آخذ الخطة الدنيّة ما ... دام يرى من تضارع حجر وتحته المكيمن مكيمن الجماء. وعن محمد بن إبراهيم مرفوعا: إذا سألت تضارع فهو عام ربيع. وروى ابن شبة حديث «لا تسيل تضارع إلا عام ربيع» قال: وتضارع الجبل الذي بسفحه قصر ابن بكير العثماني، وقصور عبد العزيز بن عبد الله العثماني على ثلاثة أميال من المدينة، على يمين الذاهب إلى مكة. قلت: هذا الجبل هو الذي يقابلك وأنت بالمدرج تريد مكة، فإذا استبطنت العقيق صار عن يمينك، والجبل المعروف بمكيمن الجماء متصل به، آخذ منه على يمين الذاهب أيضا. جماء أم خالد الثانية: جماء أم خالد التي تسيل على قصر محمد بن عيسى الجعفري وما والاه، وفي أصلها بيوت الأشعث، وقصر يزيد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي، وفيفاء الخبار من جماء أم خالد، قاله الزبير. ونقل ابن شبة عن عبد العزيز بن عمران نحوه، إلا أنه قال: في أصلها بيوت الأشعث وفيفاء الخبار، وبينها وبين جماء العاقر طريق من ناحية بئر رومة وفيفاء الخبار من جماء أم خالد في مهبّ الشمال من الأولى مما يلي مسيل وادي العقيق منحدرا، وفيفاء الخبار منهما. وقال المجد: في أصل جماء أم خالد جبل يقال له سفر كما سيأتي في ترجمته. روى الزبير عن موسى بن محمد عن أبيه قال: وجد قبر آدمي على رأس جماء أم خالد مكتوب فيه: أنا أسود بن سوادة رسول رسول الله عيسى بن مريم إلى أهل هذه القرية. وعن ابن شهاب قال: وجد قبر على جماء أم خالد أربعون ذراعا في أربعين ذراعا، مكتوب في حجر فيه: أنا عبد الله من أل نينوى رسول رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام إلى أهل هذه القرية، فأدركني الموت، فأوصيت أن أدفن في جماء أم خالد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 قال عبد العزيز بن عمران: نينوى موضعان: أحدهما من أرض السواد بالطف حيث قتل الحسين رضي الله تعالى عنه. والآخر قرية بالموصل، وهي التي فيها يونس النبي صلى الله عليه وسلم، ولسنا ندري أي الموضعين عنى. وتقدم في أوائل الباب الثالث روايتان جاءتا في ذلك قال في إحداهما: فإذا فيه «أنا عبد الله الأسود رسول رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام إلى أهل قرى عرينة» وقال في الأخرى» وإذا فيه أنا عبد الله رسول نبي الله سليمان بن داود إلى أهل يثرب، وأنا يومئذ على الشمال» . جماء العاقر (العاقل) الثالثة: جماء العاقر- بالراء كما في كتاب ابن شبة وغيره، وفي بعض نسخ ابن زبالة والهجري ومعارف العقيق للزبير باللام- قال ابن شبة، عقب ما تقدم عنه: وجماء العاقر الجبل الذي خلفه المشاش، وإليه قصور جعفر بن سليمان بن علي بالعرصة، وقال الهجري: الثالثة جماء العاقل، فيها طريق إلى جماء أم خالد، تسيل على قصور جعفر بن سليمان، خلفها المشاش وهو واد يصبّ في العرصة، وقال الزبير: جماء العاقل طريق بينها وبين جماء أم خالد خلفها المشاش. وفي المشاش يقول عروة بن أذينة: إذ جرى شعب المشاش بهم ... ومضيف تلمة الرحمة ومن البطحاء قد نزلوا ... دار زيد فوقها العجمة وأورد ابن زبالة هنا حديث «لا تقوم الساعة حتى يقتل رجلان موضع فسطاطيها في قبل الجماء» وحديث «نعم الجماء المنزل لولا كثرة الأساود» . وقد قدمنا في الفصل الأول نحوه في العرصة، وقدمنا ما جاء في ذي الحليفة وبطحانها والمعرس ومسجد الشجرة، وروى البيهقي في المعرفة عن الشافعي قال: كان سعيد بن زيد وأبو هريرة يكونان بالسحر على أقل من ستة أميال فيشهدان الجمعة ويدعانها. وروى الزبير عن نافع أنه لما استصرخ على سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يوم الجمعة بعد ما ارتفع الضحى أتاه ابن عمر بالعقيق، وترك الجمعة. وعن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أن أروى بنت أويس أسعدت مروان بن الحكم على سعيد بن زيد في أرضه بالشجرة، فقالت: إنه أدخل ضفيرتي في أرضه، فقال: كيف أظلمها وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من اقتطع شبرا من الأرض طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة» ؟ وترك لها سعيد ما أدّعت، وقال: اللهم إن كانت أروى ظلمتني فأعم بصرها، واجعل قبرها في بئرها، فعميت أروى، وجاء سيل فأبدي عن ضفيرتها خارجا عن حق سعيد، فأقسم سعيد على مروان ليركبنّ معه وينظر إلى ضفيرتها، فركب والناس حتى نظروا إليها، ثم إن أروى خرجت لبعض حاجتها فوقعت في البئر فماتت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 وفي رواية أنها سألت سعيدا أن يدعو لها، وقالت: إني ظلمتك، فقال: لا أردّ على الله شيئا أعطانيه. قال إبراهيم بن حمزة: وكان أهل المدينة يدعو بعضهم على بعض فيقول: أعماك الله كما أعمى أروى، يريدونها، ثم صار الجهال يقولون: أعماك الله كما أعمى الأروى، يعني أروى الجبل، يظنونها شديدة العمى. وفي رواية أن سعيدا قال: اللهم إن كانت أروى كاذبة فلا تخرجها من الدنيا حتى تعمى، وتجعل منيتها في بئرها، فعميت، فكانت لها جارية تخرج بها تقودها، فتقول لها: أخبريني ما يعمل العمال، فتخبرها، فتقول لهم: أنتم تفعلون كذا وكذا، وتصيح عليهم، فغفلت الجارية عنها يوما، فخرجت إلى العمال فوقعت في بئرها فماتت، فلذلك يقولون: عمى أروى. وعن يحيى بن موسى قال: كان أبو هريرة نزل الشجرة قبل أن تكون مزدرعا، فمرّ به مروان وقد استعمله معاوية على المدينة فقال: مالي أراك هاهنا؟ قال: نزلت هذه البرية مع أبي أصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأقطعه مروان أرضه وضفرها له، فتصدق بها أبو هريرة على ولده، ولم يزل العقيق نخلا حتى عملت العيون. ثنية الشريد ونقل ابن زبالة أن ثنية الشريد كانت لرجل من بني سليم كان بقية أهل بيته، فقيل له: الشريد، وكانت أعنابا ونخلا لم ير مثلها، فقدم معاوية المدينة، فطلبها منه، فأبى، ثم ركب يوما فوجد عماله في الشمس، فقال: مالكم؟ فقالوا: نسجم البئار، فركب إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين إنه لم يزل في نفسي منعي إياك ما طلبت مني، فهو لك بما أردت، فكتب إلى ابن أبي أحمد أن يدفع إليه الثمن، قال: وسمعتهم يكثرونه جدّا، فقال له ابن أبي أحمد: إن أمير المؤمنين لم يسمك بها وهي على هذه الحال، فقال: إني رجوت حين صار أمري إليك التيسير علي، فدفع إليه الثمن. ومزارع ثنية الشريد من أرض المحرمين إلى أرض المنصور بن إبراهيم، وقال الهجري: إن سيل العقيق يفضي إلى ثنية الشريد، ومنها منازل وبئار كثيرة، وهي ذات عضاه وآكام، تنبت ضروبا من الكلأ، صالحة للمال، تحف الثنية شرقي عير الوادي وغربي جبل يقال له الفراء، ثم يفضي إلى الشجرة التي بها المحرم والمعرس. وقال ابن النجار عن أهل السير: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولى العقيق لرجل اسمه هيصم المزني، وأن ولاة المدينة لم يزالوا يولّون عليه، حتى كان داود بن عيسى فتركه في سنة ثمان وتسعين ومائة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 قلت: هذا إنما ذكره ابن زبالة والزبير في حمى النقيع كما سيأتي. وروى ابن زبالة عن يحيى بن سعيد أن رجلا كان لا يعرف والده كان يوما بالعقيق، فنهاه عمر بن عبد العزيز. وفي رواية: كان يصلي لهم الجمعة بالشجرة، فنهاه عمر بن عبد العزيز أن يؤمهم لأنه لا يعرف له أب، وهو يقتضي أن الجمعة كانت تقام بالعقيق، فآثار أبنية مكان العقيق موجودة إلى اليوم، وهي دالة على ما كان به من القصور الفائقة، والمناظر الرائقة، والآبار العذبة إحسان، والحدائق الملتفّة الأغصان، دثرت على طول الزمان، وتكرر الحدثان، وبقي هناك بعض الآبار، وبقايا الآثار، فترتاح النفوس برؤيتها، وتنتعش الأرواح بانتشاق نسمتها، فهي كما قال حبيب بن أوس: ما ربع ميّة معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب ولا الخدود وإن أدمين من نظر ... أشهى إلى ناظر من خدها الترب وقال أعرابي: ألا أيها الركب المحنّون هل لكم ... بأهل عقيق والمنازل من علم فقالوا: نعم تلك الطلول كعهدها ... تلوح، وما يغنى سؤالك عن علم خاتمة في سرد ما يدفع في العقيق من الأودية، وما به من الغدران قال في جزيرة العرب لأبي عبيدة رواية أبي عبد الله المازني عنه ما لفظه: والعقيق يشق من قبل الطائف، ثم يمر بالمدينة، ثم يلقى في إضم البحر، انتهى. وسيأتي في وادي قناة أنه من وجّ الطائف أيضا، ولكن قال الزبير وغيره: أعلى أودية العقيق النقيع، ثم ذو العش، ثم ذو الضرورة، ثم ذو القرى، ثم ذو الميت، ثم ذو المكبر، ثم ذات القطب، ثم حد المولى، ثم حد الأباني، ثم ذو تنقية، ثم القويع، ثم ذو الصواير، ثم الفلجة، ثم الوشيحة، ثم مخايل الوغائر، ثم مخايل الرمضة، وكلاهما يصب في حصين، ثم ذو العشيرة، ثم الرتاحة، ثم ذو سمر، ثم مرخى الحرة اليماني والشامي محتذيان جميعا، ثم يجتمع ذو سمر ومرخان فيقال لمجتمعهن: المجتمعة، ثم ذات السليم، ثم ذو الغصين، ثم شوظى، ثم خاخ، ثم المناصفة، ثم شعاب الحمري والفراء وعيرين. وقال الزبير: وأوديته مما يلي القبلة في المغرب أعلاها ذات الرابوقة ثم نفعا. وعن مشيخة مربية أن صدور العقيق ما يبلغ في النقيع من قدس وما قبل من الحرة وما دبر من النقيع وثنية عمق، فهو يصب في الفرع، وما قبل من الحرة مما يدفع في العقيق يقال له بطاويح، قال: ثم فرش موزد، ثم راية الأعمى، ثم راية الغراب، ثم الخائع، ثم ذو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 عاصم، ثم بلغة السرح، ثم بلغة برام، ثم بلغة رماد، ثم بلغة المعيرا، ثم بلغة الرمس، ثم نبعة العشرة، ثم نبعة الطوى، ثم الحنينة، ثم النبعة، ثم ضاف، ثم بلغة التمر، ثم نبع الأضاة، ثم الأتمة أتمة عبد الله بن الزبير، ثم ذات الحماط، وفي حديث تقدم أنه صلى الله عليه وسلم «صلّى في مسجد بالضيقة مخرجه من ذات الحماط» ثم هاوان، ثم فريقان، ثم الساهية، ثم أعشار، وتقدم في حديث نزوله صلى الله عليه وسلم بكهف أعشار وصلاته فيه، ثم ريم، ثم لاي، ثم ذو سلم النظيم، ثم ذو بدوم، ثم حفية، ثم قسبان، ثم الصهوة، ثم بقرة، ثم ذو سنية، وسنية: قوم من مزينة، ثم الرمامية، ثم الموقية، ثم ضبع، ثم مهر، ثم الملحاء، ثم المليحة، ثم النخيل، ثم الرديهة، ثم أنفة، ثم المنتقبة، ثم مراح الصحرة، ثم سائلة أبي يسار التي تسيل على قصر المخرمي، ثم شعاب الفراء، ثم ذات الجيش، وتقدم حديث الأعلام في حرم المدينة على شرف ذات الجيش، ثم وادي أبي كبير بن سعيد بن وهب بن عبد بن قصي، وذات الجيش يدفع فيه، وبه قصر الرماد لآل أبي كبير، وكانت لهم بئر بطرف الفراء يوردون عليها سبعين أو ثمانين بعيرا لهم، قال الزبير: وأنا رأيت بئر أحد طرف الفراء مكبوسة، وما قبل من الصلصلين يدفع إلى بئر أبي عاصية، ثم يدفع في ذات الجيش، ثم يدفع في وادي أبي كبير، وما دبر منهما يدفع في البطحاء، فطرف عظيم الغربي يدفع في ذات الجيش، وطرفه الشامي يدفع في البطحاء بين الجبلين في وادي العقيق، ثم الجماوات ثلاث، وتفصيل مسائلها كما قدمناه فيها. ثم ذكر مجتمع سيول المدينة بزغابة، وذلك أعلى وادي إضم، قال: وأعلى غدر مسيلات العقيق التي في درج الوادي مما يلي الحرة موكلان من أعلى ذي العش، ثم غدير سليم، ثم ذو التحاميم، ثم الأعوج، ثم غدير الجبال، ثم يماحم، ثم غدير الذباب، ثم غدير الحمير، ثم غدير فليج الأعلى، ثم غدير فليج الأسفل، وهذه الثلاثة تعرف بمنحنيات فليج الزبيري، ثم غدير السيالة، ثم الطويل، ويعد من منحنيات فليج أيضا، ثم غدير البيوت بيوت عبد الله العمري، ثم غدير رتيجة، ثم بكين، ثم غدير سلافة، ثم غدير الرعاء، ثم غدير الأحمى مقصورا والأحمى: طرب العدس في أصله، ثم غدير حصير، ثم الندبة من أسفل حصير، ثم العرابة على أعلى مرج، ثم مرج، ثم غدير السدر، ثم غدير الخم، ثم المستوجبة، ثم حليف، ثم حليف، ثم الحقن، ثم ذو الطفيتين، ثم ذو اللحيين، ثم ذو الابنة، ثم غدير مريم، ثم غدير المجاز، ثم غدير المرس، ثم رابوع، وقلما يفارقه ماء وإذا قل ماؤه احتسى، وهو أسفل شيء من غدران درج العقيق إلا غدير أسفل منه يقال له غدير السيالة، هذا كلام الزبير. ونقل ابن شبة أن سيل العقيق يأتي من موضع يقال له بطاويح، وهو حرس من الحرة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 وغربي شطاي حتى مضيا جميعا في النقيع وهو قاع كبير الدر، وهو من المدينة على أربعة برد في يمانيها، ثم يصب في غدير يلبن وبرام، ويدفع فيه وادي البقاع، ويصب فيه لقعا فيلتقين جميعا بأسفل من موضع يقال له نقع، ثم يذهب السيل مشرقا فيصب على رواوتين يعترضهما يسارا، ويدفع عليه واد يقال له هلوان، ثم يستجمعن فيلقاهن بوادي دبر بأسفل الحليفة العليا، ثم يصب على الأتمة وعلى الجام، ثم يفضي إلى وادي الحميراء فيستبطن واديها ويدفع عليه الحرتان شرقيا وغربيا حتى ينتهي إلى ثنية الشريد إلى أن يفضي إلى الوادي فيأخذ في ذي الحليفة حتى يصب بين أرض أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وبين أرض عاصم بن عدي بن العجلان، ثم يستبطن الوادي فيصب عليه شعاب الجماء ونمير حتى يفضي إلى أرض عروة بن الزبير وبئره، ثم يستبطن بطن الوادي فيأخذ منه شطيب إلى خليج عثمان بن عفان الذي حفر إلى أسفل العرصة التي يقال لها خليج بنات نائلة وهن بنات عثمان منها، وكان عثمان ساقه إلى أرض اعتملها بالعرصة، ثم يفترش سيل العقيق إذا خرج من حوافر عبد الله بن عنبسة بن سعيد يمنة ويسرة، ويقطعه نهر الوادي، ثم يستجمع حتى يصب في زغابة، انتهى. ونقل الهجري أن سيل العقيق إذا أفضى من النقيع أفضى إلى قراره أسفل قاع لا شجر فيه، وأسفل منه حصير، ثم يفضي إلى مرج، ثم إلى المستوجبة، ثم إلى غدير يقال له ديوا الضرس، ثم إلى غدير المجاز، ثم إلى غدير يقال له رواوة، ثم إلى غدير الطفيتين، ثم الابنة، ثم أسفل من ذلك رابوع، ثم يلقاه وادي بريم فإذا التقيا دفعا في الحليفة حليفة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، ثم سطح سيول النقيع والصحرة ومراج وأنفة عند جبل يقال له واسطة المسطح، ثم يفضي إلى الجبخانة صدقة عباد الزبيري، وله دوافع من الحرة مشهورة منها شوظي وروضة الجام، ثم يفضي إلى حمراء الأسد، ثم إلى ثنية الشريد، ثم إلى الشجرة التي بها المحرم، اه. الفصل الخامس في بقية أودية المدينة، وصدورها، ومجتمعها، ومغايضها وادي بطحاء فمنها وادي بطحان- روى ابن شبة والبزار عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن بطحان على ترعة من ترع الجنة» قال ابن شبة: وأما سيل بطحان- وهو الوادي المتوسط بيوت المدينة، أي في زمنه- فإنه يأخذ من ذي الحدر، والحدر قرارة في الحرة يمانية من حلبات الحرة العليا حرة معصم، وهو سيل يفترش في الحرة حتى يصب على شرقي ابن الزبير وعلى جفاف ومرفية والحساة حتى يفضي إلى فضاء بني خطمة والأعرس، ثم يستنّ حتى يرد الجسر، ثم يستبطن وادي بطحان حتى يصب في زغابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 وسيأتي في مذينب من رواية ابن زبالة أن بطحان يأتي من الحلابين حلابي مصعب على سبعة أميال من المدينة أو نحو ذلك، وفي رواية له أن بطحان يأتي من صدر جفاف. فيتلخص أنه يأتي من الحلابين فيصل أولا إلى وادي جفاف، ثم إلى بطحان، ولهذا استغنى ابن زبالة وغيره ببطحان عن إفراد جفاف بالذكر، وجعل المطري ومن تبعه الترجمة لجفاف، قالوا: ووادي جفاف على موضع في العوالي شرقي مسجد قباء، اه. ويفهم من أطراف كلام ابن شبة: أن ابتداء وادي بطحان من جسر بطحان، وذلك بقرب الماجشونية وآخره في غربي مساجد الفتح، ويشاركه رانونا في المجرى من الموضع الذي في غربي المصلى وما والاه من القبلة، لأنها تصبّ فيه كما سيأتي، والذي يقتضيه كلام غيره أن الماجشونية وتربة صعيب من بطحان. وادي رانونا ومنها: رانونا، ويقال: رانون- قال ابن شبة: وأما سيل رانون فإنه يأتي من مقمة في جبل في يماني عير ومن حرس شرقي الحرة، ثم يصب على قرين صريحه ثم سد عبد الله بن عمرو بن عثمان، ثم يفترق في الصفاصف فيصب في أرض إسماعيل ومحمد ابني الوليد بالقصبة، ثم يستبطن القصبة حتى يعترض قباء يمينا، ثم يدخل غوسا ثم بطن ذي خصب، ثم يجتمع ما جاء من الحرة وما جاء من ذي خصب، ثم يقترن بذي صلب، ثم يستبطن السرارة حتى يمر على قعر البركة ثم يفترق فرقتين؛ فتمر فرقة على بئر جشم تصب على سكة الخليج حتى تفرغ في وادي بطحان، وتصب الأخرى في وادي بطحان، اه. وفي رواية لابن زبالة عن عبد الله بن السائب قال: رانونا تأتي من بين سد عبد الله بن عمرو بن عثمان وبين الحرة وتلقى هي وواد آخر عند الجبل الذي يقال له مقمن أو مكمن. وقال ابن زبالة: وأما ذو صلب فيأتي من السد، وأما ذو ريش فيأتي من جوف الحرة، ثم قال في رواية أخرى: إن صدر سيل ذي صلب من رانونا، وصدر رانونا يأتي من التجنيب، ثم يسكب ذو صلب ورانونا في سد عبد الله بن عمرو بن عثمان، ثم في ساخطة وأموال العصبة، ثم في غوسا، ثم في بطحان، ثم يلتقي هو وبطحان عند دار الشواترة، وهي عداد بني زريق، ويزعمون أنهم من عاملة، اه. والسد موجود في تلك الجهة، ولكنه لا يضاف اليوم لعبد الله المذكور، قال المراغي: والسد لا يعرف اليوم بهذا الاسم، ولعله المعروف بسد عنتر؛ لانطباق الوصف عليه، وساخطة لا تعرف، ولعلها مزرعة السد، وغوسا غير معروفة، ولعله أراد حوسا- بالحاء المهملة- وهي معروفة بقباء، ويشرب من رانونا، ووقع في الاسم تغيير، اه. وقال نصر: عوسا قريب قباء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 قلت: وقرين صريحه ينطبق وصفه على القرين المعروف اليوم بقرين الصرطة، وقال المطري: إن رانونا ينتهي إلى مسجد الجمعة ببني سالم، ثم يصب في بطحان. قال المراغي: الذي رواه ابن زبالة أنه صلى الله عليه وسلم صلّى ببني سالم في ذي صلب، لا رانونا، وأن كلام ابن زبالة السابق يدل على المغايرة بينهما. قلت: هما وإن افترقا في بعض الأماكن فينتهيان إلى مجتمع واحد، ولذا قال ابن شبة: ثم يقترن بذي صلب، كما سبق، فيسمى برانونا لمرورها عليه، ولذا قال ابن إسحاق في أمر الجمعة: فأدركته في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانونا، فعبر به عن ذي صلب، بل فيما تقدم عن ابن زبالة أنه يأتي من جوف الحرة، فلعله المعنيّ بقول ابن شبة: ثم يجتمع ما جاء من الحرة- ويعني بالحرة حرة بني بياضة لما تقدم في منازلهم من أن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن عضب بن جشم ابتني الأطم الذي في أدنى بيوت بني بياضة الذي دونه الجسر الذي عند ذي ريش. وأما السرارة المذكورة في كلام ابن شبة فتقدم ذكرها أيضا في منازل بني بياضة، فليست هي الحديقة المعروفة اليوم بالسرارة. وأما بئر جشم فغير معروفة اليوم، ولعلها مضافة إلى جشم بن الخزرج الأكبر، كما حدثني مالك بن عضب، وهم ببني بياضة، وسأتي ما يرجّحه، ويحتمل أن تكون مضافة إلى جشم بن الحارث، ومنازلهم بالسنح، وهو بعيد. وادي قناة ومنها: وادي قناة سمي بذلك لأن تبّعا لما غزا المدينة نزل به، فلما شخص عن منزله قال: هذه قناة الأرض، فسميت قناة، وتسمى الشظاة، وفي القاموس أن هذا الوادي عند المدينة، أي ما حاذاها منه تسمى قناة، ومن أعلى منها عند السد أي الذي أحدثته نار الحرة تسمى بالشظاة. وقال ابن شبة: وادي قناة يأتي من وج أي وج الطائف. وعن شريح بن هانئ الشيباني أنه قدم على عمر بن الخطاب ومعه امرأته أم الغمر فأسلمت، ففرق بينهما عمر، فقال: يا أمير المؤمنين اردد عليّ زوجتي، فقال: إنها لا تحل لك إلا أن تسلم، فنزل شريح بقناة وقال: ألا يا صاحبيّ ببطن وجّ ... روادف لا أرى لكم مقاما ألا تريان أم الغمر أمست ... قريبا لا أطيق لها كلاما فجعل بطن قناة بطن وج لأن السيل يأتي منه. وقال المدائني: قناة واد يأتي من الطائف، ويصب في الأرخصية وقرقرة الكدر، ثم يأتي بئر معاوية، ثم يمر على طرق القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وقال ابن زبالة: إن سيول قناة إذا استجمعت تأتي من الطائف، قالوا: ومحول أودية العرب قناة وإضم، أي اللاتي في مجتمع السيول ووادي نخلة، وإنما سميت محولا لبعد صدورها وكثرة دوافعها، ويأتي وادي قناة من المشرق حتى يصل السد الذي أحدثته نار الحجاز المتقدم ذكرها آخر الباب الثاني، وتقدم هناك أن هذا الوادي كان قد انقطع بسبب ذلك، وانحبس السيل حتى صار بحرا مدّ البصر عرضا وطولا، كأنه نيل مصر عند زيادته، قال المطرطي: شاهدته كذلك سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وتقدم أنه انخرق من تحته سنة تسعين وستمائة، فجرى الوادي سنة، فملأ ما بين الجانبين، وسنة أخرى دون ذلك، ثم انخرق بعد السبعمائة فجرى سنة أو أزيد، ثم انخرق سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بعد تواتر الأمطار فكثر الماء وجاء سيل لا يوصف كثرة، ومجراه على مشهد سيدنا حمزة، وحفر واديا آخر قبلى الوادي والمشهد. وقبلى حبل عينين في وسط السيل، ومكثا نحو أربعة أشهر لا يقدر أحد على الوصول إليهما إلا بمشقة، ولو زاد مقدار ذراع في الارتفاع وصل إلى المدينة، ثم استقر في الواديين القبلي والشمالي قريبا من سنة، وكشف عن عين قديمة قبلى الوادي جدّدها الأمير ودي، وهذا الوادي هو المراد بقوله في حديث الاستنشاق من رواية الصحيح «وسال وادي قناة شهرا» وينتهي سيل قناة إلى مجتمع السيول ترعا أيضا. وادي مذينب ومنها: وادي مذينب، ويقال: مذينيب- قال ابن زبالة عن غير واحد من الأنصار: مذينب شعبة من سيل بطحان، يأتي مذينب إلى الروضة روضة بني أمية، ثم ينشعب من الروضة نحوا من خمسة عشر جزآ في أموال بني أمية، ثم يخرج من أموالهم حتى يدخل بطحان وصدير، مذينب وبطحان يأتيان من الحلابين حلابي صعب على سبعة أميال من المدينة أو نحو ذلك، ومصبهما في زغابة حيث تلتقي السيول، اه. وقوله «من سيل بطحان» يعني من أصله من الحلابين كما بينه أخيرا، وسبق بيان منازل بني أمية وأن من أموالهم بئر العهن. وسيأتي عن ابن شبة ما ظاهره المخالفة لهذا، حيث قال في مهزور: حتى حلاة بني قريظة، ثم يسلك منه شعيب فيأخذ على بني أمية بن زيد بين البيوت في واد يقال له مذينب، ثم يلتقي هو وسيل بني قريظة بالمشارف فضاء بني خطمة، ثم يجتمع الواديان مهزور ومذينب، فمقتضاه أن مذينب من أصل مهزور، ولهذا قال المجد: قال أحمد بن جابر: ومن مهزور إلى مذينب شعبة تصبّ فيه. قلت: لكن أعلى صدر سيل بطحان ومذينب ومهزور من حرة واحدة، فيصح تشعب مذينب من كل منهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 ولهذا نقل المجد عن أبي عبيدة أن اليهود لما نزلوا المدينة نزلوا بالسافلة، فاستوبؤوها، فبعثوا رائدا إلى العالية، فرأى بطحان ومهزورا يهبطان من حرة ينصبّ منها مياه عذبة، فرجع فقال: وجدت بلدا طيبا وأودية تنصب إلى حرة عذبة، فتحولوا؛ فنزل بنو النضير على بطحان، وقريظة على مهزور، اه. مع أن الذي تقدم في المنازل أن بني النضير نزلوا بمذينب، ومنازلهم النواعم، فمن أطلق نزولهم على بطحان راعى اتحاد الأصل وأن مذينب يصب في بطحان أيضا، كان في زماننا يشق في الحرة الشرقية قبلى بني قريظة، ويمر في وسط قرية قديمة كانت شرق العهن والنواعم، ويتشعب في تلك الأموال، ويخرج ما فضل منه من الموضع المعروف بنقيع الرديدي ومن الناصرية، فيصب في الوادي الذي يأتي من ضفاف شرقي مسجد الفضيخ، حتى يأتي الفضاء الذي عند بؤور النورة خلف الماجشونية فتلقاه هناك شعبة من مهزور، ثم يصبان جميعا في بطحان. وقال المطري: مذينب شرقي جفاف، يلتقي هو وجفاف فوق مسجد الشمس، ثم يصبان في بطحان، ويلتقيان مع رانونا ببطحان، فيمران بالمدينة غربي المصلى، اه. ومراده جفاف أصل مسيل بطحان. وادي مهزور ومنها: مهزور- نقل ابن زبالة أنه يأتي من بني قريظة، ثم قال في هذه الرواية ما لفظه: وأما معجب فيأتي سيله، وكان يمر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار: إنما الذي يمر في المسجد مهزور، ولم يبين أصل سيل معجب، وكذا ابن شبة، فقال: وأما بطن مهزور فهو الذي يتخوف منه الغرق على أهل المدينة فيما حدثنا به بعض أهل العلم، ثم ذكر رواية ابن زبالة السابقة. وقال ابن زبالة عقب ما تقدم عنه في مذينب، ما لفظه: وسيل مهزور وصدره من حرة سوران، وهو يصب في أموال بني قريظة، ثم يأتي بالمدينة فيسقيها، وهو السيل الذي يمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يسكب في زغابة، ويلتقي هو وبطحان بزغابة حيث تلتقي السيول، اه. واجتماعه في بطحان بزغابة من مجرى قناة، ولهذا قال ابن شبة: وسيل مهزور يأخذ من الحرة من شرقيها ومن هكر، وحرة صفة، حتى يأتي أعلى حلاة بني قريظة، ثم يسلك منه شعيب فيأخذ على بني أمية بن زيد بين البيوت في واد يقال له مذينب، ثم يلتقي وسيل بني قريظة بفضاء بني خطمة، ثم يجتمع الواديان جميعا مهزور ومذينب فيتفرقان في الأموال ويدخلان في صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها إلا مشربة أم إبراهيم، ثم يفضي إلى السورين على قصر مروان بن الحكم، ثم يأخذ بطن الوادي على قصر بني يوسف، ثم يأخذ في البقيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 حتى يخرج على بني حديلة، والمسجد ببطن مهزور، وآخره كومة أبي الحمرة، ثم يمضي فيصبّ في وادي قناة، انتهى. ومقتضاه أن الشعبة التي تجتمع من مهزور بمذينب بالفضاء المذكور تسقى بعد ذلك، فكأنها صرفت عن جهة الصدقات إلى بطحان، أو أن كلامه مؤوّل؛ لأن المعروف اليوم أن الشعبة التي تلق مذينب من مهزور تصبّ بعد اجتماعهما في بطحان كما سبق، والذي يسقي ما ذكر من الصدقات ويمر بالبقيع إنما هو شعبة أخرى من مهزور، ولا تجتمع بمذينب، بل تمر على الصافية وما يليها من الصدقات، ثم تغشى بقيع الغرقد والنخيل التي حوله خصوصا الجزع المعروف بالحضاري، فاتخذ لذلك شيخ الحرم الزيني مرجان التقوى حفظه الله تعالى طريقا إلى بطحان، وحفر له مجرى من ناحية الصدقات، فصارت الشعبة المذكورة تصب أيضا في بطحان، ولا تمر بالبقيع، ولم يتعرض ابن شبة للشعبة التي تشق من مهزور إلى العريض وهو معظمه بسبب السد المبني هناك، وقد اقتصر عليها المطري فقال: مهزور شرقي العوالي، شمالي مذينب، ويشق في الحرة الشرقية إلى العريض، ثم يصب في وادي الشظاة. قال الزين المراغي عقب نقله: وكأن حرّة شوران أي المذكورة في كلام ابن زبالة هي الحرة الشرقية. وقال ابن شبة: وكان مهزور سال في ولاية عثمان رضي الله تعالى عنه سيلا عظيما على المدينة خيف على المدينة منه الغرق، فعمل عثمان الردم الذي عند بئر مدري ليرد به السيل عن المسجد وعن المدينة. وذكره ابن زبالة فقال: وأما الدلال والصافية فيشربان من سرح عثمان بن عفان الذي يقال له مدري الذي يشق من مهزور في أمواله ويأتي على أريس وأسفل منه حتى يتبطن الصورين، فصرفه مخالفة على المسجد في بئر أريس، ثم في عقد أريم ثم في بلحارث بن الخزرج، ثم صرفه إلى بطحان، انتهى. وقال ابن شبة عقب ما تقدم: ثم سال وعبد الصمد بن علي وال على المدينة في خلافة المنصور سنة ست وخمسين ومائة، فخيف منه على المسجد فبعث إليه عبد الصمد عبيد الله بن أبي سلمة العمري، وهو على قضائه، وندب الناس فخرجوا إليه بعد العصر- وقد طغي وملأ صدقات النبي صلى الله عليه وسلم- فدلوا على مصرفه، فحفروا في برقة صدقة النبي صلى الله عليه وسلم، فأبدوا عن حجارة منقوشة ففتحوها فانصرف الماء فيها وغاض إلى بطحان. دلهم على ذلك عجوز مسنة من أهل العالية، قالت: إني كنت أسمع الناس يقولون: إذا خيف على القبر من سيل مهزور فاهدموا من هذه الناحية، وأشارت إلى القبلة، فهدمها الناس فأبدوا عن تلك الحجارة، انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 وذكره ابن زبالة مع مخالفة في التاريخ فقال: وفي ليلة الأربعاء هلال المحرم سنة ثمان وخمسين ومائة في إمارة عبد الصمد لما أصيب المسجد بتلك الغرقة استغاث الناس على سيل مهزور مخافة على القبر، فعمل الناس بالمساحي والمكاتل والماء في برقة إلى أنصاف النخل، فطلعت عجوز من أهل العالية فقالت: أدركت الناس يقولون: إذا خيف على القبر فاهدموا من هذه الناحية، يعني القبلة، فدار الناس إليها فهدموا وأبدوا عن حجارة منقوشة، فعدل الماء إلى هذا الموضع اليوم وأمنوا، وهي الليلة التي هدمت فيها بيوت بطحان وبني جشم، انتهى. ونقله المراغي إلا أنه قال كما رأيته بخطه: وأبدوا حجارة منقوشة، وضبط الباء بالتشديد، والذي في كلام ابن زبالة وابن شبة ما قدمته، قال المراغي عقبه: وبنو جشم لا تعرف، وإنما المعروف دشم- بالدال- بستان شامي مسجد الفعلة على نحو رميتي سهم منه، فلعلها منازلهم، ووقع في الاسم تغيير. قلت: والظاهر أن المراد منازل بني جشم بن الحارث بالسنح لقربها من بطحان، فطغى الماء إليها لما صرفوه. تتمة فيما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأودية قضاؤه بين رجل من الأنصار والزبير روينا في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاريّ، فقال: أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر. وفي رواية للبخاري: حتى يرجع الماء إلى الجدر، فكان ذلك إلى الكعبين، وفي أخرى له: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشار على الزبير برأي فيه سعة، فلما أحفظ الأنصاري النبيّ صلى الله عليه وسلم- أي أغضبه- استوفى للزبير حقه في صريح الحكم. والجدر قيل: أصل الشجرة، وقيل: جدور المشارب التي يجتمع فيها الماء في أصول النخل، وقيل: المسحاء وهو ما وقع حول المزرعة كالجدار، وقال ابن شهاب: قدرت الأنصار والناس ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ذلك إلى الكعبين. وفي سنن أبي داود عن ثعلبة بن أبي مالك أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له سهم من بني قريظة، فخاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مهزور السيل الذي يقسمون ماءه، فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الماء إلى الكعبين لا يحبس الأعلى على الأسفل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 وفي رواية له: قضى في السيل المهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل، كذا قال في «السيل المهزور» والمشهور كما قال السبكي «في سيل المهزور» . وفي الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب: يمسك حتى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل. وروى ابن شبة: قضى في سيل مهزور أن يمسك الأعلى على الأسفل حتى يبلغ الكعبين والجدر، ثم يرسل الأعلى على الأسفل، وكان يسقي الحوائط. وعن جعفر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيل مهزور أن لأهل النخيل إلى العقيق، ولأهل الزرع إلى الشراكين، ثم يرسلون الماء إلى من هو أسفل منهم. وهو صريح فيما قاله المتولي والماوردي من أن التقدير بالكعبين ليس على عموم الأزمان والبلدان والزرع والشجر؛ لأن الحاجة تختلف، ولم يقف السبكي على هذه الرواية فقال: وهو قوي، والحديث واقعة حال، ولولا هيبة الحديث لكنت أختاره. خاتمة في مجتمع الأودبة ومغائضها مجتمع سيول العالية قال الزبير: ثم يلتقي سيل العقيق ورانونا بواد آخر وذي صلب وذي ريش وبطحان ومعجف ومهزور وقناة بزغابة، وسيول العوالي هذه يلتقي بعضها ببعض قبل أن يلتقي العقيق ثم يجتمع، فيلتقي العقيق بزغابة. قلت: والحاصل أن سيول العالية ترجع إلى بطحان وقناة، ثم تجتمع مع العقيق بزغابة عند أرض سعد بن أبي وقاص كما صرح ابن زبالة. قال الزبير: وذلك أعلى وادي إضم، وفيه يقول إسحاق الأعرج: غشيت ديارا بأعلى إضم ... محاها البلى واختلاف الدّيم قال الهجري: سمى إضم لانضمام السيول به واجتماعها فيه، وقال ابن شبة: تجتمع هذه الأودية بزغابة، وهو بطرف وادي إضم، سمي بإضم لانضمام السيول به. قلت: ويسمى اليوم بالضيقة، ويسمى زغابة بمجتمع السيول، ولهذا أورد الزبير هنا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «ركب إلى مجتمع السيول فقال: ألا أخبركم بمنزل الدجال من المدينة» ؟ الحديث. قال الزبير: ثم تمضي هذه السيول إذا اجتمعت فتنحدر على عين أبي زياد والصورين في أدنى الغابة، ثم تلتقي هذه السيول في وادي نقمى ووادي نعمان أسفل من عين زياد، ثم تنحدر هذه السيول فتلقاها سيول الشعاب من كنفيها، ثم يلقاها وادي ملك بذي خشب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وظلم والجنينة، ثم يلقاها وادي ذي أوان ودوافعه من الشرق، ويلقاها من الغرب واد يقال له بواط والحزار، ويلقاها من الشرق وادي الأئمة، ثم تمضي في وادي إضم حتى يلقاها وادي برمة الذي يقال له ذو البيضة من الشام، ويلقاها وادي ترعة من القبلة، ثم يلتقي هو ووادي العيص من القبلة، ثم يلقاه دوافع واد يقال له حجر ووادي الجزل الذي به السقيا والرحبة في نخيل ذي المروة مغربا، ثم يلقاه وادي عمودان في أسفل ذي المروة، ثم يلقاه واد يقال له سفيان حين يفضي إلى البحر عند جبل يقال له أراك، ثم يدفع في البحر من ثلاثة أودية يقال لها اليعبوب والنتيجة وحقيب، وذكر ابن شبة نحوه، وكذا الهجري. وقال المطري: إن السيول تجتمع بدومة سيل بطحان والعقيق والزغابة النقمى وسيل غراب من جهة الغابة فيصير سيلا واحدا ويأخذ في وادي الضيقة إلى إضم جبل معروف، ثم إلى كرى من طريق مصر ويصب في البحر، انتهى. وفيه أمور: [الأمر] الأول: جعله مجتمع السيول برومة، وإنما مجتمعها بزغابة كما سبق، وذلك أسفل من رومة غربي مشهد سيدنا حمزة كما قاله الهجري، وهو أعلى وادي إضم، ومأخذ المطري قول ابن إسحاق في غزوة الخندق: أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من رومة بين الجرف وزغابة، وهو مخالف لما سبق. الثاني: جعله لزغابة سيلا ينصب لرومة، ورومة هي التي تنصب إلى زغابة. الثالث: جعله النقمى مما يجتمع مع السيول برومة، مع أنه المعبر عنه فيما سبق بنقمى، وإنه يجتمع مع السيول بالغابة. الرابع: جعله لغراب سيلا يجتمع برومة، ولم أقف له على مستند، وغراب جبل في تلك الجهة على طريق الشام. الخامس: جعله إضم اسم جبل، ومغايرته بينه وبين وادي الضيقة، خلاف ما تقدم، واختلف اللغويون في أن إضم اسم لموضع أو جبل هناك، والظاهر أنه اسم للجبل وواديه. الفصل السادس فيما سمي من الأحماء، ومن حماها، وشرح حال حمى النبي ص معنى الحمى والحمى، لغة: الموضع الذي فيه كلأ يحمي ممن يرعاه، وشرعا: موضع من الموات يمنع من التعرض له ليتوفر فيه الكلأ فترعاه مواش مخصوصة. وهو بالقصر، وقد يمد، ويكتب المقصور بالألف والياء، قال الأصمعي: الحما حميان: حمى ضريّة، وحمى الربذة، وكأنه أراد المشهور من الحمى بنجد، قال صاحب المعجم: ووجدت أنا حمى فيد، وحمى النير، وحمى ذي الشرى، و حمى النقيع . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 حمى النقيع قلت: وهي عدا النقيع بنجد، وهي متقاربة، بل سيأتي ما يؤخذ منه دخول النير في حمى ضرية. والنقيع بالنون المفتوحة والقاف المكسورة والياء التحتية الساكنة والعين المهملة على الصحيح المشهور، وهو كل موضع يستنقع فيه الماء، وبه سمي هذا الوادي. وحكى عياض عن أبي عبيد البكري أنه بالباء كبقيع الغرقد، قال: ومتى ذكر دون إضافة فهو هذا. قلت: الذي نقله السهيلي عن أبي عبيد أنه بالنون، قال عياض: وأما الحمى الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الأربعة فهو الذي يضاف إليه غور النقيع، وفي حديث آخر «أتى بقدح لبن من النقيع» . وحمى النقيع على عشرين فرسخا من المدينة، وهو صدر وادي العقيق، وهو أخصب موضع هناك، وهو ميل في بريد، فيه شجر، ويستأجم حتى يغيب فيه الراكب، فاختلف الرواة وأهل المعرفة في ضبطه: فوقع عند أكثر رواة البخاري بالنون، وذكر نحو ما تقدم، وهو موافق في ذكر المسافة لأبي علي الهجري، وقد تقدم عنه أنه ينتهي إلى حضير، وأن العقيق يبتدئ من حضير، ولعل المراد من رواية ابن شبة في أن النقيع على أربعة برد من المدينة طرفه الأقرب إليها، ومراد الهجري طرفه الأقصى. وقال نصر: النقيع قرب المدينة كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حماه، وهو من ديار مزينة، وهو غير نقيع الخضمات، وكلاهما بالنون، وأما الباء فيهما فخطأ صراح. وقال الهجري: الطريق إلى الفرع وسيارة وسنانة والصابرة والقرنين جند والأكحل وأموال تهامة؛ تعترض النقيع يسارا للخارج من المدينة، وبعض الناس يجعلها إلى مكة، وهي طريق التهمة. ونقل أيضا أن أول الأحماء وأفضلها وأشرفها ما أحمى النبي صلى الله عليه وسلم من النقيع، أحماه لخيل المسلمين وركابهم، فلما صلّى الصبح أمر رجلا صيّتا فأوفى على عسيب وصاح بأعلى صوته، فكان مدى صوته بريدا، ثم جعل ذلك حمى طوله بريد وعرضه الميل في بعض ذلك وأقل، وذلك في قاع مدر طيب ينبت أحرار البقل والطرائف ويستأجم- أي: يستأصل أصله ويغلظ نبته حتى يعود كالأجمة- يغيب فيه الراكب إذا أحيا، وفيه مع ذلك كثير من العضاه والغرقد والسّدر والسّيال والسّلم والطّلح والسّمر والعوسج، ويحف ذلك القاع الحرة حرة بني سليم شرقا، وفيها رياض وقيعان، ويحف ذلك القاع من غربيه الصخرة، وفي غربيه أيضا أعلام مشهورة مذكورة: منها برام، والوائدة، وضاف، والشقراء، وببطن قاع النقيع في صير الجبل غدر تضيف، فأعلاها يراحم، ثم ألبن، وبعضهم يقول: يلبن، وهو أعظمهما وأذكرهما. وفي سنن أبي داود بسند حسن عن الصّعب بن جثامة أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وقال «لا حمى إلا الله» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 وفي رواية له: «لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم» من غير ذكر حمى النقيع كما في الصحيح، ورواه الزبير بلفظ الرواية، وزاد «ولرسوله» وسنده حسن. وروى أحمد بسند فيه عبد الله العمري- وهو ثقة، وإن ضعّفه جماعة، وقال الذهبي: إنه حسن الحديث- عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل، فقلت له: لخيله؟ قال: لخيل المسلمين. وفي رواية لابن شبة عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى قاع النقيع لخيل المسلمين. وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل، وحمى الربذة للصدقة، وفي الكبير للطبراني برجال الصحيح عن ابن عمر قال: حمى النبي صلى الله عليه وسلم الربذة لإبل الصدقة. وروى ابن شبة في ترجمة ما جاء في النقيع بسند جيد عن رجاء بن جميل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى وادي نخيل للخيل المضمّرة، وهي تقضي أن النقيع تسمى بذلك، ولم أر من صرح به، نعم تقدم في الفصل الثالث قول ذؤيب الأسلمي في عرصة العقيق: طاف من وادي دجيل الأبيات وهو بالدال في عدة نسخ، والذي في نسخة ابن شبة بالباء بدل الدال، ولعله تصحيف، فيكون ذلك اسما للنقيع، ويؤيده قول مصعب الزبيري بتشوق إلى رومة من العقيق في أبيات: أعرني نظرة بقرى دجيل ... نخائلها ظلاما أو نهارا فقال: أرى برومة أو بسلع ... منازلها معطّلة قفارا وروى الزبير بن بكار عن مراوح المزني قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقيع على مقمل وصليب، وقال في حمى النقيع: «نعم مرتفع الأفراس، يحمى لهن، ويجاهد بهن في سبيل الله» وحماه، واستعملني عليه. وعن غير واحد من الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «صلّى على مقمل، وحماه وما حوله من قاع النقيع لخيول المسلمين» ثم زادت بنو أمية بعد والأمراء أضعاف ما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقيع. وعن محمد بن هيصم المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشرف على مقمل طرف وسط النقيع، فصلى عليه، فمسجده هنالك» . قال ابن هيصم عن أبيه: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي، وقال: إني مستعملك في هذا الوادي، فما جاء من هاهنا وهاهنا- يشير نحو مطلع الشمس ومغربها- فامنعه، فقال: إني رجل ليس لي إلا بنات، وليس معي أحد يعاونني، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله عز وجل سيرزقك ولدا، ويجعل لك وليا» قال: فعمل عليه، وكان له بعد ذلك ولد، فلم تزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 الولاة يولون عليه واليا منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستعمله والي المدينة، حتى كان داود بن عيسى فنزله سنة ثمان وتسعين ومائة، وإنما تركه داود لأن الناس جلوا عنه للخوف ذلك الزمان، فلم يبق فيه أحد يستعمله عليه، قال الزبير: وربما كتب إلى عبد الله بن القاسم وهو في ماله بنعف النقيع يقول لي: إن ناسا عندنا بالنقيع قد عاثوا في حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم الأمير يكتب في التشديد فيه. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم «صلّى في موضع مسجده على موضع مقمل ثم بعده إلى ما بينه وبين يلبن من قاع النقيع» . وقال: فحمى لأفراس تغدو وتروح في سبيل الله، ومد رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وقارب بينهما، ولم يضمهما، وحماه، واستعمل عليه جد أبي الحليس، فقال: يا رسول الله، أولادي النساء، وليس معي غناء، قال: فقم بهن معك فاردد ما جاء من الحرة في الحرة، واردد ما جاء من الصحرة في الصحرة، قال يعقوب المزني: ثم تزايد الناس بعد في الحمى، فحموا ما بين تراجم إلى يلبن، واتخذوا المرابد يحبسون فيها ما رعى الحمى من الإبل، حتى رأيت بعضها يأكل دبر بعض، قال الزبير: وقال لي: لقد رأيت لأبيك أكثر من ثلاثة آلاف شاة بالنقيع، وهو إذ ذاك أمير المدينة، ما يرعى رعاؤه منها شيئا في الحمى، حتى يكتمل العشب ويبلغ نهايته، فيرسل عامل الحمى صائحا يصيح في الناس يؤذنهم باليوم الذي يأذن لهم يرعون الحمى، فيسرع فيه رعاء أبيك والناس يدأ واحدة كفرسي رهان. حكم الحمى قلت: مقتضاه جواز رعي الحمى للناس إذا استووا فيه، وهو مخالف لمذهبنا؛ إذ لا يدخله سوى العاجز عن النّجعة من الناس. قال الشافعي: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حمى إلا لله ورسوله» يحتمل معنيين: أحدهما: ليس لأحد أن يحمى للمسلمين غير ما حمى صلى الله عليه وسلم؛ فلا يكون لوال أن يحمى. والثاني: أنه لا يحمى إلا على مثل ما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فللخليفة أن يحمى على مثل ما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني هو أظهر القولين، وهو قول الأزهري، وقال: يعني للخيل التي تركب في سبيل الله، وقيل: معناه ليس لأحد أن يحمى لنفسه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك من خصائصه، وإن لم يقع منه، ولو وقع لكان من مصالح المسلمين؛ لأن مصلحته مصلحتهم. وقال في الأم: كان الرجل العزيز من العرب إذا استنجع بلدا مخصبا أوفى بكلب على جبل إن كان أو نشز إن لم يكن جبل، ثم استعواه ووقف له من يسمع منتهى صوته، فحيث بلغ صوته حماه من كل ناحية، ويرعى من العامة فيما سواه، ويمنع هذا من غيره لضعفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 سائمته، وما أراد قربه منها؛ فيرى أن قوله صلى الله عليه وسلم والله أعلم «لا حمى إلا لله ولرسوله» لا حمى على هذا المعنى الخاص، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان يحمى إن شاء لمصالح عامة المسلمين، لا لما حمى له غيره من خاصة نفسه، وذلك أنه لم يملك إلا ما لا غنى به وبعياله عنه، وصير ما ملكه الله من خمس الخمس مردودا في مصلحتهم، وماله ونفسه كان مفرغا في طاعة الله. حمى أبي بكر وعمر قال: وقد حمى بعده عمر رضي الله تعالى عنه أرضا لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حماها، وقال غيره: حمى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وحمى عمر الشرف، قيل: والربذة، وقيل: حماها أبو بكر، وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله حمى بعضها ثم زاد كل منهما بعده فيها شيئا. وسيأتي عن الهجري أن عمر أول ما أحمى بضرية، وأن عثمان زاد فيه. وما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز تغييره بحال، بل ينسحب عليه حكم الحمى وإن زالت معالمه على الأصح، بخلاف حمى سائر الأئمة، قال الشافعي: ويكره أن يقطع الشجر بالمدينة، وكذا بوجّ من الطائف، وكذا بكل موضع حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والموضع الذي حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك فيه بالنقيع، وأما الصيد فلا يكره فيه، انتهى. والمراد بالكراهة هنا كراهة التحريم. وروى ابن عبد البر أن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه عن يعلي بن أمية ويقال: أمينة، وكان عاملا على اليمن أنه حمى لنفسه فأمره أن يمشي على رجليه إلى المدينة، فمشى أياما إلى صعدة، فبلغه موت عمر، فركب. وروى الشافعي وغيره أن عمر استعمل مولاه هنيا على الحمى، فقال له: يا هني ضم جناحك للناس، واتّق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان وابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبالك؟ فالماء والكلأ أهون عليّ من الدنانير والدراهم، ألا وأيم الله لعليّ ذلك، إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، ولولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرا. قال الشافعي: وإنما نسب الحمى إلى المال الذي يحمل عليه في سبيل الله لأنه كان أكثر ما عنده مما يحتاج إلى الحمى. وعن مولى لعثمان بن عفان أنه كان معه في ماله بالعالية في يوم صائف، إذ رأى رجلا يسوق بكرين، وعلى الأرض مثل الفراش من الحر، فقال: ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد ثم يروح، انظروا من هذا، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقلت: هذا أمير المؤمنين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 فقام عثمان فأخرج رأسه من الباب، فإذا لفح السّموم، فأعاد رأسه حتى حاذاه فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ فقال: بكران من إبل الصّدقة تخلفا فأردت ألحقهما بالحمى، وخشيت أن يضيعا فيسألني الله عنهما، فقال عثمان: هلمّ إلى الماء والظل ونكفيك، فقال: عد إلى ظلك، ومضى، فقال عثمان: من أحبّ أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا، فعاد إلينا فألقى نفسه. وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يحمل في العام الواحد على أربعين ألف بعير، يحمل الرجل إلى الشام على بعير، ويحمل الرجلين إلى العراق على بعير. وعن مالك قال: بلغنا أن الخيل التي أعدّها عمر رضي الله تعالى عنه ليحمل عليها في الجهاد ومن لا مركوب له عدتها أربعون ألفا. وروى بعضهم أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى في روث فرسه شعيرا في عام الرّمادة، فقال: لأجعلن له من عرر النقيع ما يكفيه. وفي رواية «المسلمون لا يشبعون والشعير في روثك، لتعالجن عرر النقيع» قال الخطابي: العرر نبت ينبته الثمام. وقال عبد الرحمن بن حسان في قاع النقيع: أرقت لبرق مستطير كأنه ... مصابيح تخبو ساعة ثم تلمح يضئ سناه لي سرورا وودقه ... بقاع النقيع أو سنا البرق أبرح وقال كثير بن عبد الرحمن: فهل أرين كما قد رأيت ... لعزّة بالنعف يوما حمولا بقاع النقيع بصحن الحمى ... يباهين بالرقم غيما مخيلا وقال عبد العزيز بن وديعة المزني: ولنا بقدس فالنقيع إلى اللّوى ... رجع إذا لهث السبيّ الواقع واد قرارة ماؤه ونباته ... يرعى المخاض به وواد فارع سعد يحرر أهلنا بفروعه ... فيه لنا حرز وعيش رافع وقال أبو سلمى: لنا منزلان مؤلف الماء مونق ... كريم، وواد يحدر الماء قارع وداران دار يرعد الرعد تحتها ... ودار بها ذات السلم فرابع وهذا وما قبله يشير إلى ما سبق في العقيق من أن صدوره ما دفع في النقيع من قدس وما قبل من الحرة وما دبر، فهو يصب في الفرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وقال أبو قطيفة: ليت شعري وأين مني ليت ... أعلى العهد يلبن فبرام «1» أم كعهدي النقيع أم غيّرته ... بعدنا المعصرات والأيام وقال عبد الله بن قيس الرقيات: أزجرت الفؤاد منك الطروبا ... أم تصابيت إذ رأيت المشيبا أم تذكرت آل سلمة إذ حلّوا ... رياضا من النقيع ولوبا ثم لم يتركوا على ماء عمق ... للرجال الورّاد منهم قلوبا الفصل السابع في شرح حال بقية الأحماء، وأخبارها حمى الشرف منها: الشرف، حماه عمر رضي الله تعالى عنه، وليس هو شرف الروحاء، بل موضع بكبد نجد. قال نصر: الشرف كبد نجد، وقيل: واد عظيم تكتنفه جبال حمى ضرية والظاهر أنه مراد من غاير بينه وبين حمى ضرية والربذة. قال الأصمعي: الشرف كبد نجد، وكانت منازل بني آكل المرار، وفيها اليوم حمى ضرية، وفي أول الشرف الرّبذة، وهي الحمى الأيمن، والشريف إلى جنبه يفصل بينهما السرير، فما كان مشرقا فهو الشريف، وما كان مغربا فهو الشرف، انتهى. ويحتمل: أن المراد بقولهم «حمى الشرف والربذة» حمى ضرية والربذة لما سيأتي في حمى ضريّة أنه كان يقال لعامله عامل الشرف، ولم يفرد الهجري في أحماء نجد الشرف، ولم يبين له محلا، وإنما ذكر الربذة وضرية مع ما سيأتي فيهما. وقال الأصمعي: كان يقال: من تصيّف الشرف، وتربّع الحزم، وشتّى الصمّان؛ فقد أصاب المرعى. حمى الربذة ومنها: حمى الرّبذة قرية بنجد من عمل المدينة، على ثلاثة أيام منها، قاله المجد، وفي كلام الأسدي ما يقتضي أنها على أربعة أيام، قال المجد: وكان أبو ذر الغفاري خرج إليها مغاضبا لعثمان رضي الله تعالى عنهما، فأقام بها إلى أن مات، وتقدم قول الأصمعي إنها في   (1) يلبن: غدير بنقيع الحمى. برام: جبل من أعلام النقيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 الشرف وإنها الحمى الأيمن، وقال نصر: هي من منازل الحاج بين السليلة والعقيق، أي الذي بذات عرق. وفي تاريخ عبيد الله الأهوازي أنها خربت في سنة تسع عشرة وثلاثمائة؛ لاتصال الحروب بين أهلها وأهل ضرية ثم استأمن أهل ضرّية إلى القرامطة، فاستنجدوهم عليهم، فارتحل أهل الرّبذة عنها فخربت، وكان أحسن منزل بطريق مكة. وقال الأسدي: الرّبذة لقوم من ولد الزبير، وكانت لسعد بن بكر من فزارة، ووصف ما بها من البرك والآثار، وقال: إن بها بئرا تعرف ببئر المسجد بئر أبي ذر الغفاري. وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى الربذة لإبل الصدقة، وقيل: أبو بكر، وقيل: عمر، وهو المشهور. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن عمر حمى الربذة لنعم الصدقة، ولهذا نقل الهجري عن جماعة أن أول من أحمى الحمى بالربذة عمر بن الخطاب لقصاص الصدقة، وأن سعة حماه الذي أحمى بريد في بريد، وأن سرّة حمى الربذة كانت الحرة، ثم زاد الولاة بعد في الحمى، وآخر من أحماه أبو بكر الزبيري لنعمه، وكان يرعى فيه أهل المدينة، وكان جعفر بن سليمان في عمله الأخير على المدينة أحماه لظهره بعد ما أبيحت الأحماء في ولاية المهدي، ثم لم يحمه أحد منذ عزل بكار الزبير. وأول أعلامه رحرحان جبل غربي الزبدة على أربعة وعشرين ميلا منها في أرض بني ثعلبة بن سعد كثير القنان، وأقرب المياه منه ماء يقال له الكديد حفائر عادية عذاب، ثم أروم جبل عن يسار المصعد، ويدعى الجندورة في أرض بني سليم، وأقرب المياه منه ماء لبني سليم يدعى ذنوب داخل في الحمى على اثني عشر ميلا من الربذة، ثم اليعملة، وبها مياه كثيرة، بينها وبين الربذة ثلاثة عشر ميلا، ثم عن يسار المصعد هضبات حمر يدعين فوافى بأرض بني سليم، على اثني عشر ميلا من الربذة، ثم عمود المحدث، وهو عمود أحمر في أرض محارب، بأصله مياه تدعى الأقعسية، على أربعة عشر ميلا من الربذة، وهو بلد واسع. حمى ضرية ومنها: حمى ضرية قرية سميت باسم بئر يقال لها ضرية، وقال ابن الكلبي: سميت ضرية بضرية بنت نزار، وهي أم حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وقال الأصمعي: ويقال ضرية بنت ربيعة بن نزار، وقال نصر: ضرية صقع واسع بنجد، ينسب إليه حمى ضرية، يليه أمير المدينة، وينزل به حاج البصرة، قال أبو عبيد البكري: ضرية إلى عامل المدينة، وقال غيره: وهي قرية عامرة قديمة في طريق مكة من البصرة، وهي إلى مكة أقرب، غير أنها من أعمال المدينة يحكم عليها واليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وذكر الأسدي في وصف طريق البصرة ما يقتضي أن ضرية على نحو عشرة أيام من مكة، وأخبرني أهل المعرفة بها أنها من المدينة على نحو سبع مراحل، وأنها إلى المدينة أقرب. وقال ابن سعد: سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء بطن من أبي بكر كانوا ينزلون البكرات بناحية ضرية، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، انتهى. وتقدم قول الأصمي في الشرف إن به حمى ضرية، قال: وضرية: بئر ماؤها عذب طيب، قال الشاعر: ألا يا حبذا لبن الخلايا ... بماء ضريّة العذب الزلال ونقل المجد أن أشهر الأحماء وأسيرها ذكرا حمى ضرية، وكان حمى كليب بن وائل فيما يزعم بعض بادية طيئ، قال: وذلك مشهور عندنا بالبادية يرويه كابر عن كابر، وفي ناحية منه قبر كليب معروف إلى الآن. قلت: وأخبرني بذلك رئيس أهل نجد ورأسها سلطان البحرين والعطيف فريد الوصف والنعت في جنسه صلاحا وإفضالا وحسن عقيدة أبو الجود أجود بن جبر أيده الله تعالى وسدده، وقال: إن قبر كليب هناك معروف عند العرب يقصدونه، قال: ودلني عليه بعضهم لأقصده، فقلت: وهو واحد من الجاهلية. ونقل الهجري أن أول من أحمى الحمى بضرية عمر بن الخطاب، أحماه لإبل الصدقة وظهران الغزاة، وأن سروح الغنم العادية من ضرية ترعى على وجوهها ثم تؤوب بضرية، وذلك ستة أميال من كل ناحية، وضرية في وسط الحمى؛ فكان على ذلك حياة عمر وصدرا من ولاية عثمان، ثم كثر النعم حتى بلغ أربعين ألف بعير، فضاق عنه الحمى، فأمر عثمان أن يزاد ما يسع إنل الصدقة وظهران الغزاة، فزاد زيادة لم يحددوها، إلا أن عثمان رضي الله تعالى عنه اشترى ماء من مياه بني ضبيعة كان أدنى مياه غنى إلى ضرية يقال له البكرة عند هضبات يقال لها البكرات على نحو عشرة أميال من ضرية يذكرون أن البكرة دخلت في حمى عثمان، ثم لم تزل الولاة تزيد فيه، واتخذوه مأكلة، ومن أشدهم فيه انبساطا ومنعا إبراهيم بن هشام المخزومي، زاد فيه وضيّق على أهله، واتخذ فيه من كل لون من ألوان الإبل ألف بعير، ولم تزل حواط الحمى يقاتلون عليه أشدّ القتال، ويكون فيه الدماء، وقاتل مرة حواط بن هشام ورعيان أهل المدينة وهم أكثر من مائتي رجل ناسا من غنى على ماء لغنى يقال له الساه قتالا شديدا، فظفر الغنويون، فقتلوا منهم اثني عشر رجلا، ثم صالحوهم على العقل، لكل واحد مائة من الإبل، فقال بعض الغنويين: يال غنى إنه عقل النّعم ... وليس بالنّوم وترجيل اللّمم وكان ناس من الضباب قدموا على ولد عثمان، فاستسقوهم بالبكرة فأسقوهم، فلم تزل بأيديهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وحفر عثمان عينا في ناحية أرض غنى خارجة عن الحمى بناحية الماء الذي يقال له نفي على نحو خمسة عشر ميلا من أضاخ، وفقرت لها بها فقر كبيرة، وابتنى عماله عندها قصرا أثره بين قرب واردات مقبل، ولم تجر، فتركها العمال، فلم يحرك ذلك السيح إلى اليوم. ودفنت غنى في فتنة ابن الزبير عنصر العين وتلك الفقر، فنسيت عيونه وكل ما سلف من أضاخ في شرقيها تميمي. وأدنى مياه بني تميم إلى أضاخ ماء يقال له أضيح لبني الهجيم، وقد دفن منذ دهر، فقال ناس من بني عبد الله بن عامر لأصهار لهم من بني الهجيم: نحن نستسقي لكم آل عثمان فنسقى، فرغبوا في ذلك، فأجابهم آل عثمان، فاستظعن الهجيميون قومهم إليه، فلقيهم رعاء غنى، فسألوهم، فقالوا: إن بني عثمان ولّونا أمره، وبلغ الخبر من بينهم من غنى، فتواعدوا أن ينزلوا أدنى منازلهم من بقي، فاجتمع منهم جمع كثيف، وعلم بنو الهجيم أنهم إن ثبتوا يعظم البلاء، فظعنوا ليلا إلى بلادهم، وخاف بعضهم أن يدرك فتركوا به الرحال وما ثقل وبهما في أرباقه يعني العرى التي يشد بها البهم، فغضب أصهار الهجيميين، واستغضبوا آل عثمان، فلما قدم الحسن بن زيد المدينة ومعه بعض أصهار الهجيميين فقالوا لآل عثمان: نجئ لكم بخيار تميم ومشايخ أضاخ يشهدون لكم، فاستعدى آل عثمان الحسن بن زيد على غنى، وسألوه المحاكمة بأضاخ لقربها من بني تميم، وكلم آل عثمان عبد الله بن عمرو بن عبسة العثماني، فاجتمعوا عند أبي مطرف عامل الجيش بأضاخ، وولي الخصومة من غنى الحصين بن ثعلبة أحد بني عمرو الذين امتدحهم ابن عرندس بالأبيات الآتية، فصار كلما جاء العثماني بشاهد من تميم جاءه الغنوي بشاهدين يخرجانه من قيس، فلحق العثماني بأهله، فلم يزل بقي مواتا. وهذه الخصومة في سنة خمسين أو إحدى وخمسين ومائة. واحتفر عبد الله بن مطيع حفيرة هي في أيدي الضباب على بريد من ضرية على طريق أضاخ للمدينة في ناحية شعبي، وكان الكنديّون يسقون، وماؤهم يسمى الثريا، ومنهم العباس بن يزيد الذي هجاه جرير بقوله: أعبدا حلّ في شعبي غريبا ... ألؤما لا أبالك واغترابا إذا حلّ الحجيج على قنيع ... يبيت الليل يسترق العتابا وقنيع: ماء للعباس الكندي على ظهر محجّة أهل البصرة في داره من دارات الحمى يقال لها دارة عسعس، فلما أجلى الكنديون عن قنيع تنازعت بنو أبي بكر بن كلاب وبنو جعفر، فقالت أبو بكر: نحن أحق بماء حلفائنا، وقال الجعفريون: هو عند بيوتنا فنحن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 أحق به، فجمع بعضهم لبعض بملتقى قنيع، وكان سيد بني جعفر عبود بن خالد، ورأس أبي بكر معروف بن عبد الكريم وأخته زوجة عبود أم ولده طفيل، وكان طفيل من أشد بني جعفر على أخواله، فخرجت أمّه ليلا لقومها، فقالت: أشد بني جعفر لكم عداوة ابن أختكم، فإنه معلم بحبه حرمر، فليكن أول قتيل، ثم تداعى القوم للصلح على تحكيم سلمة ابن عمرو العريقي، وكتبوا بذلك وأشهدوا وتواعدوا أن يتوافوا عنده بأربعين من كل بطن، ثم نزلوا بسلمة عند الأجل، فأقام أياما ينحر لهم كل يوم جزورا، ويعطف بعضه على بعض، ويزهدهم في قنيع، فقالوا: إنا لم نجئ لتنحر لنا إبلك، فقال: حياكم الله يا بني كلاب، أتيتموني في أمر عار ذكره وأهجن، ولست بحاكم حتى أعقد لنفسي أن لا تردّوا أنتم ولا من وراء كم حكمي، فأخذ عليهم الطلاق والعتاق والمواثيق، ثم قال: أراكم يا بني كلاب كلكم ظالم، تقطعون أرحامكم في غير مائكم، لا أرى لأحد منكم فيه حقا، فرضوا جميعا، فامتدحه شعراؤهم، وكان شريفا حسن العلم بالسنن. قال عقيل بن عرندس الكلابي يمدحه وأهل بيته بني عمرو بقصيدة منها: يا أيها الرجل المعني شبيبته ... تبكي على ذات خلخال وأسوار خيرتنا وبنى عمرو فإنهم ... ذوو فضول وأحلام وأنظار هينون لينون أيسار بنو يسر ... سوّاس مكرمة أبناء أيسار من تلق منهم فقد لاقيت سيدهم ... مثل النجوم سرى في ضوئها الساري وقال فيه وفي أخيه جامع أحد بني بكر: إذا ما غنى فأخرتها قبيلة ... فإن غنيّا في ذرى المجد أفخر وكم فيهم من سيد وابن سيد ... ومن فارس يوم الكريهة مسعر هم رتقوا الفتق الذي كان باديا ... وقاموا بأفق الحق، والحقّ أنور فرحنا جميعا طائعين لحكمه ... وهل يدفع الحكم الجليل المنور واحتفر بعض بني حسن بن علي بالحمى، واتخذ إلى جنب حفرته عينا ساحت ثم خرجت في غربي طخفة بشاطئ الريان على ثلاثة عشر ميلا من ضرية، وهي بيد ناس من بني جعفر ثم من بني ملاعب الأسنة من جهة بني أختهم الحسنيين. وكان لبني الأردم- وهم من بني تميم بن لؤي- ماء قديم على طريق أهل ضرية إلى المدينة على ثمانية عشر ميلا من ضرية يسمى الجفر، ومعهم نفر من بني عامر بن لؤي، فاحتفر سعيد بن سليمان الساحقي العاري عينا وأساحها وغرس عليها نخلا كثيرا على ميل أو نحوه من حفر بني الأدرم بدارة الأسود جبل عظيم أسود، وهي عامرة كثيرة النخل. ولما ولى إبراهيم بن هشام المدينة احتفر بالحمى حفيرة لهضب اليمنى على ستة أميال من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 ضرية على طريق البكرة إلى ضرية، سماها النامية، وأخرى بناحية شعبي بين ضرية وحفر بني الأدرم على سبعة أميال من ضرية بواد يقال له فاضحة لأنه انفضاح أي انفراج واتساع بين جبال. ولما هلك ابن هشام احتفر جعفر بن مصعب بن الزبير حفيرة إلى جنب حفيرة ابن هشام بفاضحة، ونزلها بولده حتى مات، فأقام ابنه محمد بمنزلة أبيه حتى خرج محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن فخرج مع محمد، فلما قتل هرب إلى البصرة، ثم رجع إلى فاضحة، وتزوج من بني جعفر ثم بني الطفيل فأولد عبد الله فزوّجه ابنة القاسم بن جندب الفزاري، وكان علما من أعلام العرب ينزل باللواء، وكان القاسم لا يسير أبدا، ولم يكن حج قط، ولا يكاد يقدم ضرية، وأولاد عبد الله من ابنته في بقية من أموالهم بفاضحة. واحتفر عبد الله حفيرة إلى جنب حفيرة جده، ودفن حفيرة ابن هشام، وأخفى مكانها. واحتفر جرش مولى ابن هشام حفيرة على ميلين أو ثلاثة من حفر بني الأدرم وحفرة المساحقي سماها الجرشية، ثم اشتراها ناس من ولد رافع بن خديج من الأنصار، وأحدثوا بقربها حفيرة بقطيعة السلطان، فنازعهم محمد بن جعفر بن مصعب بحق بني الأدرم، وكان من أشد الرجال، فقاتلهم وحده، فاجتمعوا فأصابه رجلان منهم بفرعين خفيفين في رأسه، فأخذهما أسرى حتى أقدمهما ضرية، واستعدى عليهما الحسن بن زيد بالمدينة، فضربهما بالسياط، ثم عفا عنهما، واختصموا في الجرشية والحفيرة حتى قضى لبني الأدرم والمساحقي، فكلمهم الناس فسبقوهم بهما، وكان الأنصاريون أهل عمود وماشية، فلما كانت الفتنة أكلتهم لصوص قيس من كلاب وفزارة، فلحقوا بطيئ وناسبوهم، فأمنوا مدة، ثم غارت عليهم لصوص طيئ فتفرقوا وتركوا البادية، وكانت بنو الأدرم وبنو بجير القرشيون قد كثروا بالحفر، ثم وقع بينهم شر، وكان جيرانهم من قيس يكرمونهم، فلما تفاسدوا جعل بعضهم يهيج اللصوص على بعض، فنهبهم بنو كلاب وفزارة، وقتلوا بعض رجالهم، فلحقوا بالمدينة، وتفرقوا، وقال عبد الجبار المساحقي لبني فزارة فيما فعلوا بالقرشيين: مهلا فزارة مهلا لا أبالكم ... مهلا فقد طال إعذاري وإنذاري في أبيات: وكانت ضرية من مياه الضباب في الجاهلية لذي الجوشن الضبابي والد شمر قاتل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما، وكانت مسلمة الضباب يروون أن ذا الجوشن قال في الجاهلية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 دعوت الله إذ سغبت عيالي ... ليجعل لي لدى وسط طعاما فأعطاني ضريّة خير بئر ... تمجّ الماء والحب التؤاما ووسط: جبل على ستة أميال من ضرية يطأ الحاج المصعد خيشومه، وبناحيته اليسرى دارة سعتها ثلاثة أميال أو أربعة، وقنيع في أعلاها، وهي بين وسط وعسعس ويقال لها أيضا: دارة عسعس، وعسعس: جبل أحمر مجتمع في السماء بهيئة رجل جالس له رأس ومنكبان. وأما عين ضرية وسيحها فيقال: إنه كان لعثمان بن عنبسة بن أبي سفيان، وهو الذي حفرها واغترس النخل وضفر بها ضفيرة بالصخر لينحبس الماء، وهو سد يعترض الوادي فيقطع ماءه وينحبس زمانا ليكون أغزر للعين، فلما قام أبو العباس كان ذلك فيما قبضوا، ففي آخر ولاية أبي العباس وكانت تحته أم سلمة المخزومية من بني جعفر بن كلاب وقد أحالها معروف بن عبد الله عليه فأكرمه فسأله أن يقطعه عين ضرية فأقطعه، وكان بدويا ذا زرع، فلما أرطب نخلها نزلها بأهله، وكانت نعمه ترد عليه، وسأله ناس من ضريّة أن يعريهم من نخله، فأعراهم، وصار يجني للضيفان من الرطب، ويحلب لهم من إبله، فمكث نحو شهرين، فأتاه ضيفان بعد ما ولي الرطب، فأرسل فلم يؤت إلا بقليل، وقال له الرسول: ذهب الرطب إلا ما ترى، فقال: يسوءني أن أعود على ضيفاني من نخلكم، وكان قيمه على العين زرع قثاء وبطيخا، فأتاه بشيء منه، فقال: قبح الله ما جئت به، احذر أن يراه عيالي، وكره النخل، وأراد بيعه، فاشتراه منه عبد الله الهاشمي عامل اليمامة بألفي دينار، ثم ولاه جعفر بن سليمان إذ سأله إياه، فأحدث بسوق ضرية حوانيت جعلها سماطين داخلين في سماطي ضرية الأولين فيهما نيف وثمانون حانوتا، فربما جمعت غلة الحوانيت والنخل والزرع ثمانية آلاف درهم في السنة، وكان شأن الحمى عند ولاة المدينة عظيما، كانوا يستعملون عاملا وحده، وكانت إصابته فيه عظيمة، وكان لحواطه سلطان عظيم، وحواط كل ناحية: سادة القوم وأشرافهم، وكان يقال لعامل الحمى: عامل الشرف. وأقرب أجبل الحمى للمصعد- أي أقرب ما ترى من جباله- جبل الستار على طريق البصرة، أحمر مستطيل فيه ثنايا تسلك، ومنه طريق البصرة، بينه وبين أمرة خمسة أميال، وهو في دار غنى في ناحية هضب الأشق، وبالأشق مياه: منها الريان في أصل جبل أحمر طويل، ومن هضب الأشق هضبة في ناحية عرفج يقال لها الشيماء، وفي غربي الأشق سواج الطريق تطأ خيشومه. ومتالع: جبل أحمر عظيم عن يمين أمرة، على ثلاثة أميال منها البثاءة بينها من أكرم أعلام العرب موضعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 ولما ولي أبو خليد العبسي خال الوليد عمل ضرية نزلها وحفر في جوف النّتاءة في حق غني فقيره، فلما ولي بنو العباس هدمت غنى تلك الحفرة وسوّوها بالأرض. ولبني عبس ماء في شعب يقال له الأسودة، ولهم بالحمى ماء يقال له ضحح في إبط رميلة الحسى حسى بن حصبة، ولهم الحاء بها نخل كثير، ولهم مياه أخرى، ثم الأقعس، ثم تليه هضبات تدعى قطبيات في إقبال البئر، ثم يليها هضبات يقال لها العرائس في بلد كريم من الوضح في إقبال البئر أيضا، وبين العرائس جبل يقال له عمود الكور. شعر: جبل عظيم في ناحية الوضح، وعنده ماء يقال له الشطون، أكثر الشعراء من ذكره، قال الخضري: سقى الله الشطون شطون شعر ... وما بين الكواكب والغدير وعن يسار العرائس بالوضح جبال بينهن آبار صغار سود علاهن الرمل مشرفات على مهزول، وهو واد في إقبال البئر، وهن تسمين العثاعث، ذكرهن ابن شوذب في شعر مدح به السرى، فقال من أبيات: بربا العثاعث حيث واجهت الربا ... سند العروس وقابلت مهزولا ثم يلي العثاعث ذو عثث واد يصبّ في التسرير، ويصب فيه وادي مرعي وهو بناحية الحمى، ثم يليه نضاد، وهو بطرف البئر الشرقي في حقوق عنى، ويلي البئر جبال كثيرة سود بعضها إلى بعض، ومنها تخرج سيول التسرير، وبنضاد وذي عثث تلتقي سيولها، والحثحاث والبقر بأقبال نضاد، وهما المعنيان بالحمى، ثم بلى الأقعس عن يسار المصعد هضب اليلبين، وأقرب المياه إليه ماء يقال له اليلبين، وبين هضب اليلبين والربذة نيف وعشرون ميلا، ثم يلي هضب اليلبين عن يسار المصعد الجمارة قنان سود بينها وبين الربذة خمسة عشر ميلا، في مهب الشمال عن الربذة، وبينهما هضب يقال لها سنام، ثم يلي الجمارة جبال سود تدعى الهاربية، بينها وبين الربذة أربعة عشر ميلا، ثم هضب المنحر، ثم رحرحان. انتهى ما لخصته مما نقله الهجري، وقد أكثر الشعراء وغيرهم من ذكر هذا الحمى وأعلامه وأخباره. وحكى ابن جني في النوادر الممتعة عن المفضل بن إسحاق قال هو أو قال بعض المشيخة: لقيت أعرابيا فقلت: ممن الرجل؟ فقال: من بني أسد، فقلت: فمن أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية، قلت: فأين مسكنك منها؟ قال: مساقط الحمى حمى ضرية بأرض ها لعمر الله ما نريد بها بدلا ولا عنها حولا، قد نصحتها الغدوات، وحفتها الفلوات، فلا يملولح ترابها، ولا يمعر جنابها، ليس فيها أذى ولا قذى، ولا وعك، ولا موم، ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 حمى، فنحن فيها بأرفه عيش وأرغد معيشة قلت: وما طعامكم؟ قال: بخ بخ، عيشنا والله عيش يعلل حاديه، وطعامنا أطيب طعام وأمرؤه وأهناه: الفثّ والهبيد والفطس والصليب والعنكث والعلهز والذآنين والطراثيث والحسلة والضباب، وربما والله أكلنا القد، واشتوينا الجلد، فما نرى أن أحدا أحسن منا حالا، ولا أخصب جنابا، ولا أرخى بالا، فالحمد لله على ما بسط علينا من النعمة، ورزق من حسن الدّعة، أو ما سمعت قائلنا يقول: إذا ما أصبنا كلّ يوم مذيقة ... وخمس تميرات صغار كوانز فنحن ملوك الناس شرقا ومغربا ... ونحن أسود الناس عند الهزاهز وكم متمنّ عيشنا لا يناله ... ولو ناله أضحى به جدّ فائز قلت: فما أقدمك هذه البلدة؟ قال: بغية ليه، قلت: وما بغيتك؟ قال: بكرات أضللتهن، قلت: وما بكراتك؟ قال: أبقات عرصات هبصات أرنات أواب، عيط عوائط، كوم فواسج، أعزبتهن قفا الرحبة رحبة الخرجا، ضجعن مني فحمة العشاء الأولى، فما شعرت بهن إلى أن ترجل الضحى، فقفوتهن شهرا ما أحسّ لهن أثرا، فهل عندك جالية عين أو جابية خبر؟ لقيت المراشد وكفيت المفاسد. الموم- بالضم- البرسان. والفث- بالفاء ثم المثلاثة- حب يعالج ويطحن ويؤكل في الجدب. والهبيد: حب الحنظل ينقع في الماء ويعالج حتى يحلو. والفطس- بالسكون- حب الآس. والصليب- آخره موحدة- الودك. والعنكث- بالمثلاثة- نبت خشن شائك يعالجه الضب بذنبه حتى يتحات ويلين ثم يأكله. والعلهز: دم ووبر يلبك ليؤكل في الجدب. والذآنين- بالمعجمة- جمع ذؤنون، نبت معروف، والطراثيث- بالطاء المهملة ومثلثتين بينهما مثناة تحتية- جمع طرثوث نبت أحمر. والحسلة- كقردة- جمع حسل، وهو ولد الضب، والعرص والهبص والأرن: النشاط، أواب: جمع آبية، وهي التي ضربت فلم تلقح، عيط عوائط: بمعناه وكوم فواسج: سمان. وأعزبتهن: بيت بهن عازبا عن الحي. قفا الرحبة: خلفها الخرجا: موضع به حجارة فيها سواد وبياض. وضجعن: عدلن وملن؛ وجابية خبر: أي طريق خارقة. حمى فيد ومنها: حمى فيد- بالفاء ثم المثناة التحتية- منزل بنجد في طريق الحاج العراقي، فيه سوق وبرك ونخيل وعيون، قيل: سميت بفيد بن حام؛ لأنه أول من سكنها. وقال ابن جبير: إنه خرج من المدينة النبوية يوم السبت صحبة الركب العراقي فوصلوا فيدا صبيحة الأحد التاسع من خروجهم، وقال الأسدي: فيد بطيئ لبني نبهان، وبه أخلاط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 من أسد وهمدان وغيرهم، وبه ثلاث عيون: عين النخل احتفرها عثمان بن عفان، والآخرى تعرف بالحارة في وسط الحصن والسوق احتفرها المنصور، والثالثة تعرف بالباردة على الطريق خارج المنزل حفرها المهدي، وبفيد آبار كثيرة قصيرة الرشا، انتهى. وقال الهجري: وأما حمى فيد وصفته فلم أجد أحدا عنده علم ممن كان أول من أحماه، ولا كم كانت منعته أول ما أحمى، إلا أن فيدا كان موضعه الذي هو به اليوم فلاة من الأرض بين بني أسد وطيئ، وكانت إلى جبل طيئ أقرب، فذكر أهل العلم ممن لقيت من أهله أنه التقطت به ركبتان كانتا جاهليتين، التقطهما أناس من بني أبي سلام ومعهم نفر من طيئ وهم يرعون هناك في ولاية بني مروان، وأن أول من حفر به حفرا في الإسلام أبو الديلم مولى لفزارة، فاحتفر العين التي هي اليوم قائمة وأساحها وغرس عليها، وكانت في يده حتى قام بنو العباس فقبضوها، فهي اليوم في أيديهم. قلت: وكأنه لم يقف عل ما ذكره الأسدي من عين عثمان رضي الله تعالى عنه، ولعله أول من أحماه. قال الهجري: وأما أجبل حمى فيد فأولها على طريق الكوفة بين فيدو الأجفر جبل يقال له الجبيل أحمر عظيم، على ستة عشر ميلا من فيد في أرض بني أسد، ليس بين فيد والكوفة جبل غيره، ثم يليه الغمر جبل أحمر طويل على عشرين ميلا من فيد، عن يسار المصعد لمكة، وإلى جنبه ماء يقال له الرخيمة، وماء يقال له الثعلبية، وكل ذلك في الحمى، ثم عن يسار المصعد قبة سوداء تدعى أذنة، على ستة عشر ميلا من فيد، في أرض بني أسد، وفي ناحيتها في الحمى مياه يقال لها الوراقة، ثم عن يسار المصعد هضب الوراق لبني أسد، وفي ناحيته مياه يقال لها أفعى، ومياه يقال لها الوراقة، ثم جبلان أسودان يدعيان القرنين في أرض بني أسد، على ستة عشر ميلا من فيد، والطريق إلى مكة تتوسطهما، ثم عن يمين الطريق للمصعد جبل أسود يقال له الأحول في أرض طيئ، على ستة عشر ميلا من فيد، وأقرب مياهه أبضة في حرة سوداء، ثم عن يمين المصعد جبل يقال له دخنان بأرض طيئ، على اثني عشر ميلا من فيد، ثم جبل يقال له الغبر، ثم جبلان يقال لهما جاش وجلذية لطيئ، على أكثر من ثلاثين ميلا من فيد، وهاهنا اتسع الحمى وكرم، ثم الصدر على سبعة أميال وثلاثين ميلا من فيد، ثم صحراء ليس بها جبل يقال لها صحراء الخلة، عن يمين الأجفر، على ستة وثلاثين ميلا من فيد وأقرب مياهها الجثجاثة. ثم يليها على المحجة أكمة مشرفة على الأجفر. ثم سويقة هضبة حمراء طويلة في السماء، وهي في الحمى في أرض الضباب، على ثلاثين ميلا أو أكثر من ضرية، وهي التي عنت جمل بنت الأسود الضبابية، وذلك أنها جاورت بني الهدر في أعلى بلاد الضباب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 وهي متعالية لهم واد رغاث يقال له كراء في علياء دار بني هلال على ليلتين من الطائف، وكانت بنو هلال ينهضون على أهله، حتى جمعت لهم الضباب جمعا وقتلوا منهم وسبوا، وجاؤوا ببعضهم إلى الحمى فهابوهم. وللضباب ملك آخر يقال له العرّى بناحية بيشة قرب تبالة، فجاورت جمل بني الهدر في تلك الناحية، وأغارت لصوصهم على عكرة لها يوم الأضحى، واغتنموا تشاغل الناس بالعيد، فقالت جمل وكان بليغة: بنى الهدر ماذا تأمرون بعكرة ... قلائد لم تخلط بخبث نصابها تظل لأبناء السبيل مناخة ... على الماء يعطى درّها ورقابها أقول وقد ولّوا بهيت كأنه ... مناكب حوضي رملها وهضابها ألهف على يوم كيوم سويقة ... شفى غل أكباد فساغ شرابها بنى الهدر لو كنتم كراما وفيتم ... لجارتكم حتى يحين انقلابها ولكنما أنتم حمير حساءة ... مجدّعة الأذناب غلب رقابها فأشارت بقولها «كيوم سويقة» إلى وقعة كانت للضباب مع عامل ضرية مهروب الهمداني من قبل زياد بن عبيد الله الحارثي، وذلك أن عاملا له مع حواط الحمى وجدوا نعما للضباب في الحمى بناحية سويقة فطردوها أقبح الطرد، فركبوا في أثره، فأصابوه بضرب، وعقروا راحلته، فأتى عامل ضرية، فخرج بجنده وسخر رجالا معه من أهل ضرية كرها حتى لقي نعما للضباب فيها بعضهم، فأسر نفرا منهم، فبلغ الضباب، فأدركوه بسويقة فكر عليهم، فنادوا: يا أهل ضرية، أنتم مكرهون فاعتزلوا، ونادوه أن خل سبيل أصحابنا وما أصيب منا بالذي أصبنا منك، فتراموا بالنبل حتى فنيت، ثم اقتتلوا فانهزم، وأدركوه فقطعوه بالسيوف، وقتلوا نفرا من أصحابه، ورجعوا بالأسرى. ثم يلي سويقة جبل ذو قنان كثيرة، ليس بالحمى أكبر منه إلا أن يكون شعبي، وهو جبل أسود، في أرض الضباب، كثير المعادن من التبر، كان به معدن يقال له النجادي، كان لابن أبي بحّاد، لم يعلم في الأرض مثله؛ فعن شيخ من موالي خزاعة أنه خرج منه ما لم يسمع بمثله، ورخص الذهب بالعراق والحجاز لما أن كثر حتى قل نيله لغلبة الماء عليه وقر به قرية عظيمة، وكان له عامل مفرد يخرج من المدينة. كبد منى ثم كبد منى: قنة عظيمة مفردة شرقي منى، وهو جبل يشرف على ما حوله ينظر إليه الحجاج حين يصدرون عن مرة، وبين حليت ومني جبل يقال له قادم، وإلى جنبه قويدم، وبهما مياه يقال لها القادمة من أطيب ماء بالحمى وأرقه، يضرب بها المثل في العذوبة، بينها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 وبين منى دارة الفهيدة التي عقرت لها ناقة المنسرح وعقر لها ما عقر، وذلك أنه كان تمثالا لا يكاد يبين، وله صريمة يحلب عقيلتها لأمه، فكانت حياتها لأن الناس أشتوا، فبينا هو بدارة الفهيدة في ولاية ابن هشام إذ دخلت الحمى فتركها فباتت فرآها بعض الحواط من الموالي، فطرد الصريمة أقبح الطرد، فعرض له المنسرح ليكفه، ولا سلاح معه، فطعن الناقة التي يحلبها المنسرح لأمه في ضرعها فاختلط لبنها بدمها، فحلف لا يسكن الحمى ولا يمس رأسه دهن حتى يعقر إبل من عقر ناقته، فتوجه إلى قومه، فأخبرهم خبره، وطلب سيفا قاطعا لا يقع في شيء إلا خرج منه، فأعطوه إياه، فأتى إبلا للمولى مهاري، فقال للراعي: أنا رسول مولاكم وهو بضرية يأمركم أن تعقلوا خيار إبلكم فإنه نصيحكم لأمر حدث، وأخرج لهم عقلا، فصدقوه وحلبوا له ناقة، فوضع الإناء، فقالوا: ألا تغتبق، قال: دعوه حتى يبرد، قال: وإنما كرهت أن أشرب اللبن وأعقر إبله. فلما غفلوا عنه أهراقه، وعقلوا من خيار الإبل نحو ثلاثين، فلما ناموا استلّ سيفه وضرب ناقة على حقيبتها فمضى حتى فلق ضرعها، وتواثبت الإبل، فطفق في المعقلة عقرا حتى أتى عليها، وقطع بعضها العقل فتبعها فما أدرك بعيرا إلا عقره، وفطن الرعاء فرأوا ما يعمل السيف، فولوا هربا، ثم دفن سيفه بالحمى، وكان أعز عليه من نفسه، وأرسل يخبر أهله، وركب صاحب الإبل في الناس حتى نظروا إليها، وقال الرّعاء لا نعرفه إلا أنه بمقام، فعرف أنه المنسرح، فأمر ابن هشام بطلبه، وأخذ إخوته وأهل بيته فحبسوا، فسمع، فجاء إلى العامل فقال: حلّ هؤلاء فأنا بغيتك، فحبسه وخلّاهم، ورفعه في وثاق إلى ابن هشام، وخرج معه بعض أهل بيته، قالوا: فلما قدمنا المدينة جعل يأتينا الرجل الشريف فيسألنا عن السيف، ويقول: أرأيتم إن خلّصت صاحبكم وضمنت عنه تأتوني بالسيف، فننكر ولا نقر بشيء من أمر السيف، فتوعّده ابن هشام وسأله أن يقر، فأبى، وكلم أصحابه نفر من بني مخزوم في أن يؤخذ صاحبهم بالبينة أو يحلف، فسأل ابن هشام خصمه البينة، فلم يقمها، فأمر بيمينه عند المنبر الشريف. فلما قرب من المنبر وذكر له ما يحلف عليه، واندفع يحلف، شرح الله لسانه فقال: أحلف بالله لأنا عقرت إبل فلان بيدي، ولقد برئ منها غيري، فردوه إلى ابن هشام، وابتدرته قريش كل يقول: عليّ الإبل، طمعا في السيف، ثم اختلف علماء غنى؛ فقال بعضهم: احتمل ذلك رجل من قريش، وخلي سبيله، وخرج معه رسول للسيف، فطلبه فلم يقدر عليه، وانطلق لسانه من يومئذ فسمي المنسرح. ثم يلي كبد مني هضب الأشق. هذا آخر ما لخصته من كتاب الهجري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 قد تم- بحول الله تعالى، وقوته، ومعونته- الجزء الثالث من كتاب «وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى» للعلامة السمهودي، ويليه- إن شاء الله سبحانه- الجزء الرابع، وهو نهاية الكتاب، ومطلعه «الفصل الثامن، في بقاع المدينة، وأعراضها، وأعمالها، ومضافاتها، وأنديتها، وجبالها، وتلاعها» نسأل الذي لا يعين على الخير سواه أن يمن علينا بإكماله، ويوفقنا بفضله إلى إتمامه؛ إنه ولي ذلك كله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 فهرس الجزء الثالث الباب الخامس في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأعياد وغير ذلك من المساجد التي صلى فيها، وفيه سبعة فصول 3 الفصل الأول في المصّلى في الأعياد، وفيه أطرّاف 3 أول عيد صلاه النبي بالمصلى 3 مكان مصلى العيد 3 تعدد موضع صلاة العيد 4 المسافة بين مصلى العيد وباب السلام ألف ذراع 4 تحديد المواضع التي صلى فيها العيد 5 مصلى العيد بالصحراء 7 كيف صلى الرسول صلى الله عليه وسلم العيد؟ 9 ذكر من أحدث منبر في مصلى العيد 9 أول من خطب قبل صلاة العيد 10 بيان طريقي ذهاب النبي للمصلى ورجوعه 12 الفصل الثاني في مسجد قباء، وفضله، وخبر مسجد الضّرار 16 تأسيس مسجد قباء 16 ما جاء في أن الصلاة فيه تعدل عمرة 17 تفضيل الصلاة في مسجد قباء على بيت المقدس 19 إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم مسجد قباء 19 المكان الذي كان الرسول يصلي فيه بمسجد قباء 21 تجديد مسجد قباء 24 بيان ما ينبغي أن يزار بقباء من الآثار تتميما للفائدة دار سعد بن خيثمة 26 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 دار كلثوم بن الهدم 26 ما جاء في بيان طريقه صلى الله عليه وسلم إلى قباء ذاهبا وراجعا طريق النبي صلى الله عليه وسلم إلي قباء ذاهبا وراجعا 27 ذرع الطريق 27 ما جاء في مسجد الضّرار مما ينوّه بقدر مسجد قباء بناة مسجد الضرار 28 حرق مسجد الضرار 28 أسماء بناة مسجد الضرار 29 الخلاف في موضع مسجد الضرار 30 الفصل الثالث في بقية المساجد المعلومة العين في زماننا بالمدينة الشريفة وما حولها 31 مسجد الفضيخ 32 مسجد بني قريظة 34 مشربة أم إبراهيم 35 مسجد بني ظفر 36 مسجد الإجابة 38 مسجد الفتح 39 المساجد التي حول مسجد الفتح 43 مسجد بني حرام الكبير 44 كهف بني حرام 45 مسجد القبلتين 46 مسجد السقيا 47 مسجد ذباب (الراية) 49 مسجد القبيح 51 مسجد في ركن جبل عينين 51 مسجد العسكر 52 مسجد أبي ذر الغفاري 53 مسجد أبي بن كعب (بني جديلة) (البقيع) 54 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 مساجد المصلى 55 مسجد ذي الحليفة 55 مسجد مقمل 55 الفصل الرابع في المساجد التي علمت جهتها، ولم تعلم عينها بالمدينة الشريفة مسجد أبي بن كعب 56 مسجد بني حرام 56 مسجد الخربة 56 مسجد جهينة 56 مسجد بن غفار 57 مسجد بني زريق 58 مسجدان لبني ساعدة 58 سقيفة بني ساعدة 59 مسجد بني خدارة 60 مسجد راتج 60 مسجد واقم 61 مسجد القرصة 63 مسجد بني حارثة 63 مسجد الشيخين (البدائع) 63 مسجد بني دينار 64 مسجد بني عدي، ومسجد دار النابغة 65 مسجد بني مازن 65 مسجد بني عمرو 66 مسجد بقيع الزبير 66 مسجد صدقة الزبير 66 مسجد بني خدرة 67 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 مسجد بني الحارث 68 مسجد بني الحبلى 68 مسجد بني بياضة 68 مسجد بني خطمة 69 مسجد بني أمية الأوسي 69 مسجد بني وائل الأوسي 70 مسجد بني واقف 70 مسجد بن أنيف 71 مسجد دار سعد بن خيثمة 71 مسجد التوبة 72 مسجد النور 72 مسجد عتبان بن مالك 73 مسجد ميثب (صدقة النبي صلى الله عليه وسلم) 73 مسجد المنارتين 73 مسجد فيفاء الخبار 74 مسجد بين الجثجاثة وبئر شداد 74 الدور التي صلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم 75 دار الشفاء 75 دار الضمري 75 دار بسرة 75 دار أم سليم 76 دار أم حرام 76 الفصل الخامس خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلا إلى البقيع 77 من فضل البقيع 79 الفصل السادس قبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم 82 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 قبر عثمان بن مظعون 84 قبر رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم 85 قبر فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها أم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه 85 القبور التي نزلها الرسول صلى الله عليه وسلم 86 قبر عبد الرحمن بن عوف 88 قبر سعد بن أبي وقّاص 88 قبر عبد الله بن مسعود 88 قبر خنيس بن حذاقة السهمي 88 قبر أسعد بن زرارة أحد بني غنم بن مالك بن النجار 89 قبر فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم 89 قبر بعض أبناء الإمام علي بن أبي طالب 92 المتوكل يأمر بهدم قبر الحسين بن علي 93 قبر ابنها الحسن بن علي، ومن معه 94 تسمية من دفن مع الحسن 95 دفن علي بالبقيع 95 دفن رأس الحسين بن علي 95 قبر العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه 95 قبر صفية بنت عبد المطلب رضي الله تعالى عنها 95 قبر أبي سفيان بن عبد المطلب 96 قبرد عبد الله بن جعفر الطيار 97 قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنهن 97 قبر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه 98 قبر سعد بن معاذ الأشهلي رضي الله تعالى عنه 99 قبر أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه 99 بيان المشاهد المعروفة اليوم بالبقيع وغيره من المدينة الشريفة 99 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 مشهد مالك بن أنس الأصبحي 102 مشهد إسماعيل بن جعفر الصادق 103 مشهد حمزة 104 مشهد مالك بن سنان الخدري 105 مشهد النفس الزكية 105 الفصل السابع في فضل أحد والشّهداء به 106 الأحاديث الواردة في فضل أحد 106 موقع أحد من المدينة المنورة 108 وجه تسمية أحد وحبه 108 زعموا أن هارون مدفون بأحد 109 مزاعم في مواضع من جبل أحد 110 شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لشهداء أحد 110 زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه قبور الشهداء على رأس كل حول 111 تسمية شهداء أحد 112 سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ومصرعه 113 عمرو بن الجموع وعبد الله بن عمرو بن حرام 114 من دفن بالمدينة من قتلى أحد 117 الباب السادس، في آبارها المباركات، وفيه خمسة فصول 119 الفصل الأول في آبارها المباركات 119 من فضل بئر أريس 122 ذرع بئر أريس 123 بئر الأعواف، أحد صدقات النبي صلى الله عليه وسلم الآتية 124 ضبط بير حاء 134 تتمة 147 عين كهف بني حرام 147 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 الفصل الثاني في صدقاته صلى الله عليه وسلم، وما غرسه بيده الشريفة 150 أصل صدقات الرسول صلى الله عليه وسلم 150 أسماء صدقات الرسول صلى الله عليه وسلم ومواضعها 150 وقف الرسول صلى الله عليه وسلم أمواله 151 تحديد مواضع الصدقات والمعروف منها 153 طلب فاطمة من أبي بكر صدقات أبيها 155 الفصل الثالث فيما ينسب إليه صلى الله عليه وسلم من المساجد التي بين مكة والمدينة، بالطريق التي كان يسلكها صلى الله عليه وسلم، وهي طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 159 مسجد الشجرة (ذي الحليفة) 159 مسجد آخر بذي الحليفة 161 مسجد المعرس 161 مسجد شرف الروحاء 163 مسجد عرق الظبية 164 مسجد آخر بالروحاء 165 مسجد المنصرف (الغزالة) 165 مسجد الرويثة 166 مسجد ثنية ركوبة 166 مسجد الأثاية 167 مسجد العرج 167 مسجد المنبجس 168 مسجد لحي جمل 168 مسجد السقيا 169 مسجد مدلجة تعهن 169 مسجد الرمادة 169 مسجد الأبواء 170 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 مسجد البيضة 170 مسجد عقبة هرشي 170 مسجد الجحفة 170 مسجد غدير خم 170 مسجد طرف قديد 171 مسجد عند حرة خليص 171 مسجد خليص 171 مسجد بطن مر الظهران 171 مسجد سرف 172 مسجد التنعيم 172 عمرات الرسول صلى الله عليه وسلم 173 مسجد ذي طوى 173 الفصل الرابع، في بقية المساجد التي بين مكة والمدينة 174 دية المستعجلة 174 شعب سير 174 ذكر عدة مساجد 175 مسجد ذفران 175 مسجد الصفراء 176 مسجد ثنية مبرك 176 مسجد بدر 176 مسجد العشيرة 176 مساجد الفرع 177 مسجد الضيقة 177 مسجد مقمل 177 الفصل الخامس في بقية المساجد والمواضع المتعلقة به صلى الله عليه وسلم 178 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 مسجد العصر 178 مسجد الصهباء 178 مسجدان قرب خيبر 178 مسجد بين الشق ونطاة 178 مسجد شمران 178 مساجد تبوك 179 مسجد الكديد 181 مسجد الشجرة بالحديبية 181 مسجد ذات عرق 181 مسجد الجعرانة 181 مسجد لية 182 مسجد الطائف 182 الباب السابع في أوديتها، وأحمائها، وبقاعها، وجبالها، وأعمالها، ومضافاتها، ومشهور ما في ذلك من المياه والأودية، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك، وفيه ثمانية فصول 185 الفصل الأول في فضل وادي العقيق، وعرصته، وحدوده ما ورد من الأحاديث في فضل وادي العقيق 185 حد العقيق 186 الفصل الثامن في أقطاعه، وابتناء القصور به، وطريف أخبارها 188 رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بلالا العقيق 188 خبر قصر عروة، وبئره 189 قصر المغيرة 194 قصر عنبسة بن عثمان بن عفان 194 قصر عنبسة بن سعيد بن العاص 195 قصر أبي بكر الزبيري المعروف بالمستقر 196 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 قصر عبد الله بن أبي بكر العثماني 196 جملة من القصور والآبار 197 الفصل الثالث في العرصة وقصورها، وشيء مما قيل فيها وفي العقيق من الشعر 197 الفصل الرابع في جماواته، وأرض الشجرة، وثنية الشريد وغيرها من جهاته 204 جماء أم خالد 204 جماء العاقر (العاقل) 205 ثنية الشريد 206 خاتمة في سرد ما يدفع في العقيق من الأودية، وما به من الغدران 207 الفصل الخامس في بقية أودية المدينة، وصدورها، ومجتمعها، ومغايضها 209 وادي بطحاء 209 وادي رانونا 210 وادي قناة 211 وادي مذينب 212 وادي مهزور 213 تتمة فيما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأودية 215 قضاؤه بين رجل من الأنصار والزبير 215 خاتمة في مجتمع الأودبة ومغائضها 216 مجتمع سيول العالية 216 الفصل السادس فيما سمي من الأحماء، ومن حماها، وشرح حال حمى النبي صلى الله عليه وسلم 217 معنى الحمى 217 حمى النقيع 218 حكم الحمى 220 حمى أبي بكر وعمر 221 الفصل السابع في شرح حال بقية الأحماء، وأخبارها 223 حمى الشرف 223 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 حمى الربذة 223 حمى ضرية 224 حمى فيد 231 كبد منى 233 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 الجزء الرابع وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى صلى الله عليه وسلم تأليف الشّيخ العلّامة نور الدّين علي بن أحمد السّمهودي المتوفنه 911 هـ اعتنى به ووضع حواشيه خالد عبد الغني محفوظ الجزء الرّابع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي اختار رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من أطيب الأرومات، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على أشرف الكائنات، وعلى آله وصحبه الذين فدوه بالأنفس والأموال وبالآباء والأمهات، وعلى من اتبعه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 [تتمة الباب السابع في أوديتة المدينة وأحمائها وبقاعها] الفصل الثامن في بقاع المدينة، وأعراضها، وأعمالها ، ومضافاتها، وأنديتها، وجبالها، وتلاعها، ومشهور ما في ذلك من الآبار، والمياه، والأودية، وضبط أسماء الأماكن المتعلّقة بذلك وبالمساجد والآطام والغزوات، وشرح حال ما يتعلق بجهات المدينة وأعمالها من ذلك، على ترتيب حروف الهجاء الأول فالأول، وربما اعتبرت في المركّب المضاف إليه لشهرته، وهذا مما لا يستغنى عنه لعظم نفعه خصوصا للمشتغل بالحديث واللغة، وقد اعتنى به المجد في كتابه «المغانم» ولّخصت كلامه، مع حذف ما لا تدعو الحاجة إليه، وزيادة ما هو أولى، وميّزت ما زدته من الأسماء برقم (ز) على ذلك الاسم، فنقول: حرف الألف آرام: جبل بنواحي الرّبذة، كأنه جمع إرم، وهي حجارة تنصب كالعلم، وفيه يقول شاعر: ألا ليت شعري هل تغيّر بعدنا ... أروم فارام فشابة فالحضر وهل تركت أبلى سواد جبالها ... وهل زال بعدي عن قنينته الحجر وجبل آخر بين مكة والمدينة، وذو آرام: حزم به آرام جمعتها عاد على عهدها، قاله ياقوت، وقال أبو زيد: من جبال الضّباب ذات آرام قنّة سوداء فيها يقول القائل: تحلت ذات آرام ... ولم تخل عن مصر آرة: جبل كبير لمزينة فوق رأس قدس مما يلي الفرع، قال مزرد لكعب بن زهير بن أبي سلمى يعزوه إلى مزينة ويذكر مكانه من بني عبد الله بن غطفان: وأنت امرؤ من أهل قدس وآرة ... أحلّك عبد الله أكناف مبهل ومبهل لعبد الله بن غطفان. وقال عرّام: وآرة يقابل قدسا الأسود من أشمخ الجبال، تخر من جوانبه عيون على كل عين قرية، فمنها الفرع قرية كبيرة، وأم العيال صدقة فاطمة الزهراء، والمضيق قرية قريبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 كبيرة أيضا، والمحضة والوبرة والخضرة والفعوة، وفي كلها نخيل ومزارع، وأوديتها تصبّ في الأبواء ثم في ودّان، ويسمى وادي آرة حقيل وبه قرية يقال لها وبعان، وخلف آرة واد فيه قرى، انتهى. آنقة: تقدم فيما يدفع في العقيق من الأودية. أبار، وأبير: بالضم، والثاني مصغر- من أودية الأجرد، يصبان في ينبع. أبرق خترب: بحمى ضريّة به معدن فضة كثير النيل. أبرق الداث: بالحمى أيضا، وسيأتي شاهده في جبلة، والداث واد عظيم بين أعلاه وبين ضرية نحو ثمانية أميال. أبرق العزّاف: بعين مهملة ثم زاي مشددة آخره فاء، بين المدينة والرّبذة على عشرين ميلا منها، به آبار قديمة غليظة الماء، وسيأتي في العزّاف أنه سمي بذلك لأنه كان يسمع به عزيف الجن، أي صوتهم. وروى ابن إسحاق أن خريم بن فاتك قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ألا أخبرك ببدء إسلامي؟ بينا أنا في طلب نعم لي ومضى الليل بأبرق العزاف، فناديت بأعلى صوتي: أعوذ بعزيز هذا الوادي من سفهائه، وإذا هاتف يهتف بي: عذ يا فتى بالله ذي الجلال ... والمجد والنّعماء والإفضال واقرأ بايات من الأنفال ... ووحّد الله ولا تبال فرعت من ذلك روعا شديدا، فلما رجعت إلى نفسي قلت: يا أيها الهاتف ما تقول ... أرشد عندك أم تضليل بيّن لنا هديت ما السّبيل قال فقال: هذا رسول الله ذي الخيرات ... يدعو إلى الخيرات والنجاة يأمر بالصّوم وبالصّلاة ... ونزع الناس عن الهناة ثم ذكر شعرا آخر ومجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإسلامه. والأبارق كثيرة، وهو لغة: الموضع المرتفع ذو الحجارة والرمل والطين. أبلى: كحبلي، قال عرّام بعد ذكر الحجر والرحضية: ثم يمضي نحو مكة مصعدا فيميل إلى واد يقال له عريفطان حذاء جبال يقال لها أبلى، ثم ذكر مياهها الآتية وأنها لبني سليم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 قلت: هي معروفة اليوم بين السّوارقية والرحضية، على نحو أربعة أيام من المدينة. وعن الزهري: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أرض بني سليم، وهو يومئذ ببئر معاوية بجرف أبلى، وأبلى بين الأرحضية وقران، كذا ضبطه أبو نعيم. الأبواء: بالموحدة كحلواء ممدود، تقدم بيانه في مسجد الرّمادة ومسجد الأبواء. وسئل كثيّر عزة: لم سميت الأبواء؟ قال: لأنهم تبوؤها منزلا، وقيل: لأن السيول تبوأتها، وقال المجد: هي قرية من عمل الفرع، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا؛ فتكون على خمسة أيام من المدينة، وقيل: الأبواء جبل عن يمين آرة ويمين الطريق للمصعد إلى مكة، وهناك بلد تنسب إلى ذلك الجبل، وهو بمعنى قول الحافظ ابن حجر: الأبواء جبل من عمل الفرع سمي به لوبائه على القلب، وقيل: لأن السيول تتبوؤه أي تحلّه. قلت: ويجمع بأنه اسم للجبل والوادي وقريته، وله ذكر في حديث الصّعب بن جثّامة وغيره، وبه قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أباه صلى الله عليه وسلم خرج إلى المدينة يمتار تمرا فمات بها، فكانت زوجته آمنة تخرج كل عام تزور قبره، فلما أتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ستّ سنين خرجت به ومعها عبد المطلب وقيل: أبو طالب- وأم أيمن، فماتت في منصرفها بالأبواء، وفي رواية أن قبرها بمكة. وقال النووي: إن الأول أصح. الأتمة: أتمة عبد الله بن الزبير، تقدمت في أودية العقيق، قال الهجري: الأتمة بساط واسع ينبت عصما للمال، تدفع على حضير، وبها بئر تعرف بابن الزبير، كان الأشعث المدني يلزمها ويتخذ بها المال، فاقتنى ماشية كثيرة. أثال: بالضم آخره لام، واد يصب في وادي الستارة المعروف بقديد، يسيل في وادي خيمتي أم معبد، قاله ياقوت. الأثاية: مثلث الهمزة، وبالمثناة التحتية قبل الهاء، واقتصر المجد هنا كعياض على ضم الهمزة وكسرها، ورجح في فضل المساجد الفتح كما تقدم مع بيانه في مسجد الأثاية. وتقدم في الفضائل حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا اقبل من مكة فكان بالأثاية طرح رداءه وقال: هذه أرواح طيبة» وفي الموطأ في حديث خروجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة «ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج إذا ظبي حاقف في ظل، فيه سهم، فأمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 الأثبة: محركة- واحدة الأثب للشجر المعروف، وتقدم في غدران لعقيق ذو الأثبة، وفيه يقول أبو وجزة: قصدن رياض ذي أثب مقيلا ... وهنّ روائح عين العقيق وقال الهجري في حمى النقيع: وفي شرقي الحرة مثلثان نقي ماؤهما، وهما أثب وأثيب، وقال في ترتيب مجراه وغدرانه ما لفظه: ثم الأثبة، وبها غدير يسمى الأثبة، وبه سميت، وبه مال لعبد الله بن حمزة الزبيري، ونخل ليحيى الزبيري. الأثيفية: بضم أوله وفتح ثانية وسكون المثناة التحتية وكسر الفاء بعدها مثناة تحتية مخففة موضع بعقيق المدينة، قاله الصّغاني، وتقدم في أوديته ذو أثيفية. الأثيل: تصغير الأثل موضع بين بدر والصفراء، به عين لآل جعفر بن أبي طالب، ويقال: ذو أثيل، قال ابن السكيت: إنه بتشديد الياء، قتل عنده النبيّ صلى الله عليه وسلم النّضر بن الحارث بن كلدة منصرفه عن بدر، فقالت بنته قتيلة ترثيه وتمدح النبي صلى الله عليه وسلم: يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة ... من صبح خامسة وأنت موفّق بلّغ به ميتا هناك تحية ... ما إن تزال بها الركائب تخفق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق أمحمد ولأنت نجل نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرّك لو مننت وربّما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرها رقّ لها وقال: لو سمعته قبل قتله لوهبته لها. قال الواقدي: ويقال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من بدر العصر بالأثيل، فلما صلى ركعة تبسم، فلما سئل عن ذلك قال: مرّ بي ميكائيل عليه السلام وعلى جناحه النقع، فتبسم إليّ وقال: إني كنت في طلب القوم. والأثيل: موضع آخر في ذلك الصقع أكثره لبني ضمرة من كنانه. ذات أجدال: موضع بمضيق الصفراء. الأجرد: أطم لبني خدرة عند البصة، وجبل لجهينة شامي بواط الجلسي يأتي مع الأشعر، والأجرد جبل آخر، وموضع قبل مدلجة تعهن. أجش: بفتح الهمزة والجيم وتشديد الشين المعجمة أطم لبني أنيف بقباء. الأجفر: بفتح الهمزة والفاء، موضع بين الخزيمية وفيد. أجم بني ساعدة بضم أوله وثانيه، أطم كان لهم قرب ذباب، وآجام المدينة وآطامها: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 حصونها، وقال ابن السكيت: أجم حصن بناه أهل المدينة، وكل بيت مربع مسطح أجم. أحامر: بضم أوله، قال عرّام: وحذاء أبلى جبل يقال له ذو الموقعة من شرقيها، وهو جبل معدن بني سليم، وحذاءه عن يمينه قبل القبلة جبل يقال له أحامر، وقال ياقوت في كتابه المشترك: أحامر البغيبغة جبل أحمر من جبال حمى ضرية. أحباب: جمع حبيب، بلد في جنب السوارقية. أحجار الزيت: عند الزوارء، قال ياقوت: هو موضع كان فيه أحجار علت عليها الطريق فاندفنت. وقال ابن جبير: هو حجر موجود يزار، يقال: إن الزيت رشح للنبي صلى الله عليه وسلم منه، وهو موضع صلاة الاستسقاء، وسبق فيمن ذكر أنه نقل من شهداء أحد أن مالك بن سنان دفن عند أصحاب العباء. قال ابن زبالة في روايته: وهناك كانت أحجار الزيت ومشهد، مالك بن سنان معروف؛ فأحجار الزيت عنده كما يعلم من أطراف كلام ابن شبة بالزوراء من سوق المدينة. قال: وحدثنا محمد بن يحيى عن ابن أبي فديك قال: أدركت أحجار الزيت ثلاثة مواجهة بيت أم كلاب، قال: وتعرف اليوم ببيت بني أسد، فعلا الكبس الحجارة فاندفنت. وعن هلال بن طلحة العمري أن حبيب بن سلمة كتب إليه أن كعبا سألني أن أكتب له إلى رجل من قومي عالم بالأرض، فلما قدم كعب المدينة جاءني بكافية، فقال: أعالم أنت بالأرض؟ قلت: نعم، قال: إذا كان بالغداة فاغد عليّ، فجئته حين أصبحت، فقال: أتعرف موضع أحجار الزيت؟ قلت: نعم، وكانت أحجارا بالزّوراء يضع عليها الزياتون رواياهم، فأقبلت حتى جئتها، فقلت: هذه أحجار الزيت، فقال كعب: لا، والله ما هذه صفتها في كتاب الله، انطلق أمامي فإنك أهدى بالطريق مني، فانطلقنا حتى جئنا بني عبد الأشهل، فقال: إني أجد أحجار الزيت في كتاب الله هنا، فسل القوم عنها، فسألتهم عنها، وقال: إنها ستكون بالمدينة ملحمة عندها. قلت: فأحجار الزيت موضعان؛ فالأول هو المراد بحديث أبي داود واللفظ له والترمذي والحاكم وابن حبان في صحيحه عن عمير مولى آبي اللحم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء، قائما يدعو يستسقي رافعا يديه قبل وجهه، وفي رواية عن محمد بن إبراهيم أخبرني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند أحجار الزيت باسطا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 كفيه، والموضع الثاني الذي عنى كعب الأحبار بمنازل بني عبد الأشهل بالحرة، وبه كانت واقعة الحرة، ولعله المراد بحديث: يا أبا ذر، كيف بك إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت في الدم؟ قال: قلت: ما خار الله ورسوله، قال: عليك بمن أنت معه، وفي رواية لأبي داود: عليك بمن أنت منه، وفي رواية لابن ماجة: كيف أنت. وقيل: يصلب الناس حتى تغرق أحجار الزيت بالدم، ويحتمل أن يكون المراد من ذلك الموضع الأول، وهو مقتضى قول بعضهم عقب إيراد الحديث المذكور: إن ذلك وقع في مقتل محمد الملقب بالنفس الزكية عند أحجار الزيت كما سبقت الإشارة إليه في ذكر مشهده، وقال المرجاني: إن بالحرة قطعة تسمى أحجار الزيت لسواد أحجارها كأنها طليت بالزيت، وهو موضع كان يستسقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى. قلت: اشتبه عليه أحد الموضعين بالآخر؛ لأن الاستسقاء إنما كان بالموضع الذي بقرب الزوراء كما سبق. أحجار المراء: بقباء، قاله المجد، وسبق ذكره في منازل بني عمرو بن عوف، وفي نهاية ابن الأثير فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يلقى جيريل بأحجار المراء قال مجاهد: هي قباء. أحد: بضمتين، تقدم مع فضائله في سابع فصول الباب الخامس. الأحياء: جمع حي من أحياء العرب، اسم ماء أسفل من ثنية المرة برابغ، به سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب. الأخارج: من جبال بني كلاب بجهة ضرية. أخزم: بالزاي كأحمد- جبل بين ملل والروحاء، ويعرف اليوم بخزيم، قال ابن هرمة: بأخزم أو بالمنحنى من سويقة ... ألا ربّما قد ذكر الشوق أخزم الأخضر: بالفتح والضاد المعجمة، منزل قرب تبوك نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إليها. أدية قنّة سوداء على ستة عشر ميلا من فيد. أذاخر: جمع إذخر، من أودية المدينة كما تقدم في الفصل الخامس، وموضع قرب مكة ينسب إليه نبت أذاخر. أذبل: كأحمد، أطم ابتناه سالم وغنم عند ال أراك ة بدار بني سالم. أرابن: بالضم ثم الفتح وكسر الموحدة ثم نون، منزل على قفا مبرك، ينحدر من جبل جهينة على مضيق الصفراء، قال كثير: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 وذكرت عزّة إذ تصاقب دارها ... برحيّب فأرابن فنخال أراك: جبل يفضى عنده سيول إضم إلى البحر. أرثد: بالمثلاثة والدال المهملة كأحمد وادفي الأبواء، قال كثيّر: وإن شفائي نظرة إن نظرتها ... إلى ثافل يوما وخلفي شنائك وأن تبرز الخيمات من بطن أرثد ... لنا وجبال المرختين الدكادك وقال آخر: ألم تسأل الخيمات من بطن أرثد ... إلى النخل من ودّان ما فعلت نعم تشوّفني بالعرج منها منازل ... وبالخبت من أعلى منازلهم رسم أرجام: بالفتح ثم السكون وبالجيم، جبل قرب المدينة. الأرحضية: بحاء مهملة وضاد معجمة ومثناة تحتية مشددة، قرية للأنصار وبني سليم، بها آبار ومزارع كثيرة، وحذاءها قرية يقال لها الحجر، قاله عرام، ومنه أخذ المجد قربها من أبلى لما تقدم فيها، وتعرف اليوم بالرحضية بضم الراء وكذا هو في نسخة لعرّام، وكذا أعادها المجد في الراء كما سيأتي، وذكر الأسدي أنها في وسط الطريق بين المدينة ومعدن بني سليم على نحو خمسين ميلا من كل منهما، وأن الرشيد كان يسلك هذه الطريق في رجوعه من المدينة، وسماها الأرحضية. أرض جابر: التي عرض على غرمائه، بطريق رومة، تقدمت في بئر القرّاصه. أروى: جمع أروية لأنثى الوعول، اسم ماء لفزارة قرب العقيق عند الحاج، قال شاعرهم: وإن بأروى معدنا لو حفرته ... لأصبحت غنيانا كثير الدراهم أروم: جبل سبق في حمى الربذة، وشاهده في أراك. أريكة: كجهينة، موضع غربي حمى ضرية، كان مصدّق المدينة أول ما ينزل عليه. أسقف: جبل بطرف رابوع، وشاهده خاخ. الأسواف: بالفتح آخره فاء، موضع شامي البقيع، سبق في مساجد المدينة، قال ابن عبد البر: به صدقة زيد بن ثابت، وفي طبقات ابن سعد عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت أن عمر بن الخطاب كان يستخلفه على المدينة، فقلّ سفر يرجع إلا أقطع له حديقة من نخل، قال أبو الزياد: فكنا نتحدث أن الأساويف مما كان عمر أقطعه له. قلت: وبعض الأسواف بيد طائفة من العرب بالتوارث يعرفون بالزيود، فلعلهم ذرية زيد بن ثابت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وفي الأوسط للطبراني عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرا لسعد بن الربيع الأنصاري، ومنزله بالأسواف، فبسطت امرأته لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سور من نخل، فجلس وجلسنا معه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع أبو بكر، ثم قال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع عمر، ثم قال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع عثمان. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على بئر بالأسواف، وأدلى رجليه فيها، وذكر مجئ أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، كما في حديث بئر أريس، وأنه صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يؤذن لكل منهم، ويبشره بالجنة. وروى الواقدي عن جابر أن امرأة سعد بن الربيع بعد أن قتل بأحد وقبض أخوه ماله قبل نزول الفرائض كانت بالأسواف، فصنعت طعاما، ثم دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: قوموا بنا، فقمنا معه ونحن عشرون رجلا، انتهينا إلى الأسواف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلنا معه، فنجدها قد رشّت ما بين سورين وطرحت خفعة، قال جابر: ما ثمّ وسادة ولا بساط، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فتراءينا من يطلع، فطلع أبو بكر، فقمنا فبشّرناه ثم سلم فردّوا عليه، ثم جلس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فتراءينا من خلال السّعف من يطلع، فطلع عمر، فقمنا فبشرناه، فسلم ثم جلس، ثم قال: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فنظرنا من خلال السّعف فإذا علي بن أبي طالب قد طلع، فبشرناه بالجنة، ثم جاء فجلس، ثم أتى بالطعام، فأتى بقدر ما يأكل رجل واحد أو اثنان، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه فقال: كلوا باسم الله، فأكلنا منها حتى نهلنا وما أرانا حركنا منها شيئا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفعوا هذا الطعام، فرفعوه، ثم أتينا برطب في طبق باكورة قليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: باسم الله كلوا، فأكلنا حتى نهلنا وإني لأرى في الطبق نحوا مما أتى به، وجاءت الظهر فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمس ماء، ثم رجع إليّ فتحدث، ثم جاءت العصر فأتى ببقية الطعام نتشبّع به، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بنا العصر ولم يمس ماء، ثم قامت امرأة سعد بن الربيع فقالت: يا رسول الله إن سعد بن الربيع قتل بأحد، وذكر قصتها في أخذ أخيه لماله، ونزول الفرائض بعد ذلك، وأن ابنة سعد بن الربيع كانت زوج زيد بن ثابت، وهي أم ابنه خارجة بن زيد، وكانت يومئذ حاملا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 أشاقر: جبال بين مكة والمدينة. الأشعر: جبل جهينة، ينحدر على ينبع، قال الهجري: وجدت صفة الجبلين الأشعر والأجرد جبلي جهينة ومن أخذ من قريش بذلك أرضا، فنقلته للحديث الذي جاء فيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمان من الفتن. وقال الأشعري: يحده من شقه اليماني وادي الروحاء، ويحده من شقه الشامي بواطان، وتقدم في فضل أحد حديث «خير الجبال أحد والأشعر وورقان» الأشنف: أطم يواجه مسجد الخربة. الأشيق: بمشاة تحتية يضاف إليه هضب الأشيق، والعقيليون يقولون: الشفيق، تقدم في حمى فيد، وهو بلد سهل كأن ترابه الكافور الأبيض، وأفضل مياهه الريان ثم عرفجا. أضاة بني غفار: بالضاد المعجمة والقصر كحصاة، مستنقع الماء، قال في المشارق: هو موضع بالمدينة، وفيه حديث أن جبريل عليه السلام لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم عند أضاة بني غفار، انتهى. ولعله فيما تقدم من منازل بني غفار، لكن سيأتي في تناضب ما يقتضي أنه بقرب مكة. أضاخ: كغراب، آخره معجمة، وقد تبدل همزته واوا، سوق على ليلة من عرفجا. أضافر: جمع ضفيرة، وهي الحقف من الرمل، اسم ثنايا سلكها الني صلى الله عليه وسلم بعد ارتحاله من ذفران يريد بدرا، وذو الأضافر: هضبات على ميلين من هرشى، ويقال لهن الأضافر أيضا. إضم: جمع صفيرة، وهي الحقف من الرمل، اسم ثنايا سلكها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ارتحاله من ذفران يريد بدرا، وذو الأضافر: هضبات على ميلبن من هرشي، ويقال لهن الأضافر أيضا. إضم: كعنب، قال المجد: اسم الوادي الذي فيه المدينة، والصواب فيه ما تقدم في خاتمة الفصل الخامس في الأودية، ويوافقه قول الهجري: أول إضم مجتمع الأسيال، وإياه عني الأحوص بقوله: يا واقد النار بالعلياء من إضم ... أوقد فقد هجت شوقا غير منصرم قال: وبإضم أموال زعاب على عيون، وإنما سمي إضما لانضمام السيول به. قلت: ويسمى اليوم بالضيقة، وبهذا الوادي جبل يسمى بإضم كما تقدمت الإشارة إليه، وفي قاموس المجد: إضم جبل، والوادي الذي فيه المدينة النبوية عند المدينة يسمى قناة، ومن أعلى منها عند السد الشّظاة، ثم ما كان أسفل من ذلك يسمى إضما، انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 وعبارة ياقوت في المستدرك له: إضم واد في المدينة، ويسمى عند المدينة القناة، إلى آخره. وروى البيهقي خبرا في مصارعته صلى الله عليه وسلم ركانة يتضمّن أن ركانة كان يرعى غنما له في واد يقال له إضم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة رضي الله تعالى عنها إلى ذلك الوادي، وذكر قصة المصارعة به. وبطن إضم كما في طبقات ابن سعد في سرية أبي قتادة إلى بطن إضم: ما بين ذي خشب وذي المروة، بينها وبين المدينة ثلاثة برد. الأطول: أطم بمنازل بني عبيد عند مسجد الخربة من القبلة. أعشار: من أودية العقيق، وتقدم نزوله صلى الله عليه وسلم بكهف أعشار فيه. أعظم: بضم الظاء المعجمة، جمع عظم، جبل كبير شمالي ذات الجيش، قاله المجد، وفي خط المراغي بفتح الهمزة والظاء معا، ويقال فيه عظم بفتحتين- وهو المعروف بين أهل المدينة، والموجود في كلام الزبير، قال: وفيه يقول عامر الزبيري: قل للذي رام هذا الحيّ من أسد ... رمت الشّوامخ من عير ومن عظم وفي أبيات الهمزة في كتاب الهجري عن محمد بن قليع عن أشياخه قالوا: ما برقت السماء قط على عظم إلا استهلت. وكانوا يقولون: إن على ظهره قبر نبي أو رجل صالح، قال: وأنا أقول: إن عظم من منزلي إذا بدوت في ضيعتيّ بالتثنية- بحيث يناله دعائي، فقلما أصابنا مطر إلا كان عظم أسعد جبالنا به وأوفرها حظا. أعماد: أربعة آطام بين المذاد والدّويخل، جبل بني عبيد، بعضها لبني عبيد، وبعضها لبني حرام من بني سلمة. الأعواف: ويقال العواف، إحدى صدقات النبي صلى الله عليه وسلم وآباره المتقدمة. الأعوص: بالعين والصاد المهملتين، موضع شرقي المدينة بطرف الطريق بين بئر السائب وبئر المطلب، به أبيات وآبار، سمي بذلك لأن رجلا من بني أمية أراد أن يستخرج به بئرا، فاعتاصت عليه، وكان يسكنه إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأشدق، وإياه عنى عمر بن عبد العزيز بقوله: لو كان لي أن أعهد ما عدوت أحد الرجلين: صاحب الأعوص أو أعمش بني تميم، يعني القاسم بن محمد. الأغلب: بالغين المعجمة، أطم لبني سواد، تقدم في منازلهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 أفاعية: كمجاهدة بعين مهملة مكسورة، منهل لسليم في الطريق النجدي إلى مكة، على ستة وعشرين ميلا ونصف من معدن بني سليم، وذكر الأسدي ما فيها من البرك، والآبار، قال: وهي لقوم من ولد الصديق وولد الزبير رضي الله تعالى عنهما وقوم من قيس. الأفراق: قال في المشارق: بفتح الهمزة وبالفاء عند كافة شيوخنا كأنه جمع فرق، وضبطه بعضهم بالكسر، موضع من أموال المدينة وحوائطها، وبالفتح ذكره البكري. الأفلس: قال الهجري: إذا أفضى سيل العقيق من قاع البقيع خرج إلى قرادة أفلس قاع لا شجر فيه، وأرضه بيضاء كالمرآة، لها حس تحت الحافر. الأقعس: جبل تقدم بحمى ضرية. الأكحل: ذكره صاحب «المسالك والممالك» في توابع المدينة وتخاليفها، فكان به مال لعاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وسبق في الفصل السادس أن الطريق إلى سنانة وإلى القرينين جند والأكحل يعترض حمى النقيع يسارا للخارج من المدينة إلى ذلك. ألاب: كسراب، قال المجد: شعبة واسعة من ديار مزينة. قلت: هو واد معروف عده الهجري في أودية الأشعر، وقال: يلتقي مع مضيق الصفراء أسفل من عين العلا. ألبن: بالفتح ثم السكون وبموحدة مفتوحة على الأفصح، كما سيأتي في يلبن بإبدال الهمزة مثناة تحتية. ألهان: بالفتح وسكون اللام، موضع كان لبني قريظة. أم العيال: سبق في آرة، عن عرام أنها صدقة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، وأنها عين عليها قرية هناك، وقال ابن حزم، هي عين لجعفر بن طلحة بن عبيد الله التيمي، أنفق عليها مائتي ألف دينار، وكانت تسقي أزيد من عشرين ألف نخلة. أمج: بالجيم وفتحتين، بلد من أعراض المدينة، قاله المجد، قال: وقال أبو المنذر بن محمد: أمج وعران واديان يأخذان من حرة بني سليم، ويفرغان في البحر. قلت: ذكر الأسدي أن أمج بعد خليص بجهة مكة بميلين، قال: وبعده بميل وادي الأزرق، ويعرف بعران، وأمج لخزاعة، وبه نحو عشرين بئرا يزرع عليها. انتهى. وهو موافق لما سبق في تاسع فصول الباب الثالث لاقتضائه أنه بين عسفان وقديد. وقال الوليد بن العباس القرشي: خرجت إلى مكة في طلب عبد آبق لي، فسرت سيرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 شديدا حتى وردت أمج في اليوم الثالث غدوة، فتعبت، فحططت رحلي، واستلقيت على ظهري، واندفعت أغني: يا من على الأرض من غاد ومدّ لج ... اقر السّلام على الأبيات من أمج اقر السّلام على ظبي كلفت به ... فيها أغنّ غضيض الطّرف من دعج من لا يبلّغه عني تحيته ... ذاق الحمام وعاش الدهر في حرج قال: فلم أدر إلا وشيخ على عصا يهدج إليّ، فقال: يا فتى أنشدك الله إلا رددت إليّ الشعر، فقلت: بلحنه؟ قال: بلحنه، ففعلت، فجعل يتطرب، فلما فرغت قال: أتدري من قائله؟ قلت: لا، قال: أنا والله قائله من ثمانين سنة، وإذا هو من أهل أمج، ومنهم حميد الأمجي الذي يقول: شربت المدام فلم أقلع ... وعوتبت فيها فلم أسمع حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع علاه المشيب على حبها ... وكان كريما فلم ينزع حكى أن عمر بن عبد العزيز قال له: أنت القائل حميد الذي أمج داره البيتين؟ قال: نعم، قال عمر: ما أراني إلا حادك، أقررت بشربها، وأنك لم تنزع عنها، قال: ألم تسمع الله يقول (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فقال عمر: ما أراك إلا قد أفلتّ، ويحك يا حميد كان أبوك رجلا صالحا وأنت رجل سوء، قال: أصلحك الله وأين من يشبه أباه كان أبوك رجل سوء وأنت رجل صالح. وقال: جعفر الزبيري: هل بادّ كار الحبيب من حرج ... أم هل لهمّ الفؤاد من فرج؟ ولست أنسى مسيرنا ظهرا ... حين حللنا بالسفح من أمج ذو أمر: بفتحتين، واد بطريق فيد إلى المدينة على نحو ثلاث مراحل من المدينة بقرية النخيل، قاله الأسدي، وظاهر كلام غيره أنه الذي بقرية نخل؛ لما سيأتي فيها، وقال ابن حزم: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد لعوسجة الجهني على ألف من جهينة وأقطعه ذا أمر، وإن بعض ولد عبد الله بن الزبير اعتزل بأمر من بطن إضم في بعض الفتن. إمّرة: كإمّعة، وبفتح الهمزة والميم، موضع بشق حمى ضرية قرب جبل المنار، وهو من منازل الحاج العراقي، به آبار كثيرة طيبة، سمي باسم الصغير من ولد الضأن. إنسان: جبل في وسطه ماء يقال له: إنسان، قال الهجري في حمى فيد: وبشرقي الرخام ماء يقال له إنسان لكعب بن سعد الغنوي الشاعر، وهو عن يمين الجبل والرملة التي تدعى برملة إنسان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 الأنعام: بضم العين، موضع بالعالية، وقال نصر: جبل بالمدينة عليه بعض بيوتها، قال جرير: حيّ الديار بعاقل فالأنعام كذا قال المجد، والصواب أن الذي عناه جرير جبل ببطن عاقل قرب حمى ضرية، وقال المجد: إنه بفتح العين، وغاير بينه وبين هذا في الترجمة، وقال: إنه ببطن عاقل بين اليمامة والمدينة، وإنه الذي بنى عليه المزني وجابر بن عبد الله الربعي، وفيه يقول الشاعر: لمن الديار غشيتها بالأنعام ... درست وعهد جديدها لم يقدم وقوله «إنه الذي بنى عليه المزني إلى آخره» إنما هو في الأنعام الذي قال نصر فيه: إنه بالمدينة، كما تقدم عن ابن زبالة في مسجد المنارتين بطريق العقيق، وإنه الجبل الذي على يسار المارّ أول الرقيقين للعقيق، مع أن المجد ذكر في الأنعام الذي ببطن عاقل الحديث المتقدم أيضا في خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجبل الأحمر الذي بين المنارتين، واسمه الأنعام، ولعل الخلل من النساخ. إهاب: ككتاب، في حديث مسلم «تبلغ المساكن إهاب أو يهاب» قال عياض: كذا جاءت الرواية على الشك «أو يهاب» بكسر الياء المثناة من تحت عند كافة شيوخنا الأسدي والصدفي، وعند التميمي كذلك، وقال: وبالنون معا، ولم أجد هذا الحرف في غير هذا الحديث، ولا من ذكره، وهو موضع قرب المدينة، انتهى. وتبعه المجد، وقد سبق من رواية أحمد أنه صلى الله عليه وسلم «خرج حتى أتى بئر الإهاب، قال: يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان» وتقدم في صيد الحرم عن عباد الزرقي أنه كان يصيد العصافير في بئر إهاب، وهذه البئر هي المتقدمة في الآبار المباركات أول الباب السادس مع ما جاء فيها، وبيّنا أنها في الحرة الغربية، وأن الظاهر أنها المعروفة اليوم بزمزم. ذو أوان: بلفظ الأوان للحين، موضع على ساعة من المدينة، قال ابن إسحاق: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من تبوك ونزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، أتاه خبر مسجد الضرار. الأوساط: تقدم في حديث في مسجد قباء «شهد جنازة بالأوساط بدار سعد بن عبادة» ورأيته بخط العلامة أبي الفتح المراغي وكان منقبا مجرّدا عن النقط، فلعله بالسين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 والطاء المهملتين، ويؤخذ منه أنه بمنازل بني ساعدة، ويخالفه قوله في الرواية الآخرى «من بلحارث بن الخزرج» إلا أن يراد من كان بدار سعد من بلحارث، على ما سبق في المنازل. أيد: بلفظ الأيد للقوة والاشتداد من آد يئيد أيدا، موضع على مقربة من المدينة. حرف الباء بئر أرمى: بفتح الهمزة وسكون الراء وميم ثم ألف مقصورة، بئر كان عندها غزوة ذات الرقاع، على ثلاثة أميال من المدينة، كذا قاله المجد، ومأخذه ما سيأتي عن الواقدي في نخل، وسنبين أن صوابه ثلاثة أيام. بئر ألية: بلفظ ألية الشاة، في حرم بني عوال، على نيف وأربعين ميلا من المدينة، وقيل: ألية واد بفسح الحيا، والفسح: واد بجانب عرنة، وعرنة: روضة بواد مما كان يحمى للخيول في الجاهلية والإسلام بأسفلها، انتهى. بئر جشم: بضم الجيم وفتح الشين المعجمة، تقدم ذكرها في وادي رانونا من الفصل الخامس، وأن الظاهر أنها مضافة إلى جشم بن الخزرج جدّ بني مالك بن عصب، ومنزلهم ببني بياضة غربي رانونا. وفي الموطأ عن عمرو بن سليم الزّرقي قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، إن هنا غلاما يافعا لم يحتلم من غسان ووريثه بالشام، وهو ذو مال، وليس له هنا إلا ابنه عم، فقال: فليوص لها، فأوصى لها بمال يقال له «بئر جشم» فبيع ذلك المال بثلاثين ألف درهم، وابنة عمه التي أوصى لها أم عمرو بن سليم الزرقي. وسبق آخر الكلام في منازل بني بياضة أن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك ابن عصب بن جشم والد أبي جبلة الغساني ملك غسّان بالشام، فيتأيد به ما سبق، وقال المجد تبعا لياقوت في الجرف: إن بئر جشم به، فإن صح فهي غير المذكورة في مسيل رانونا. بئر الحرة: ذكر الغزالي أن القادم للزيارة يغتسل منها، ولعلها بئر السّقيا، لما سبق فيها. بئر خارجة: بالخاء المعجمة وكسر الراء وفتح الجيم، في حديث أبي هريرة عند مسلم «كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا، وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا، وقمنا فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار فدرت به علّ أجد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 له بابا، فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة، فاحتفرت، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يروى «خارجه» أي: خارج البستان، و «خارجة» على النعت، والصواب الأول، وهو الإضافة، صرح به صاحب التحرز، قال: وخارجة رجل أضيفت إليه البئر، قاله النووي. بئر خريف: تقدم في بئر أريس أن عثمان رضي الله تعالى عنه أدخلها في صدقته ببئر أريس وسقوط الخاتم بها في رواية. بئر الخصى: ستأتي في الخاء المعجمة. بئر خطمة: هي بئر ذرع المتقدمة أول الباب السادس. بئر الدّريك: تصغير درك، ويقال فيها: بئر الزريق، قاله المجد، وفي منازل بني خطمة أنهم ابتنوا أطما كان على بئر الدرك، فهي المرادة. وقال قيس بن الخطيم: كأنا وقد أخلوا لنا عن نسائهم ... أسود لها في غيل بيشة أشبل ببئر دريك فاستعدّوا لمثلها ... وأصغوا لها آذانكم وتأملوا بئر ذروان: بفتح الذال المعجمة وسكون الراء عند رواة البخاري كافة، وكذا روي عن ابن الحذاء، وفي كتاب الدعوات من البخاري في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: وذروان بئر في بني زريق، قال الجرجاني: رواة مسلم كافة بئر ذي أروان، ووقع عند الأصيلي بئر ذي أوان، بغير راء، قال عياض وتبعه المجد: هو وهم، فإن ذا أوان موضع آخر على ساعة من المدينة، وهو الذي بني فيه مسجد الضرار. قلت: الصواب أن خبر مسجد الضرار أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بذي أوان كما سبق لأنه بني به. وقال الحافظ ابن حجر: كأن رواية الأصيلي كانت بئر ذي أروان، فسقطت الراء، قال: ويجمع بين رواية ذروان وذي أروان بأن الأصل ذي أروان ثم سهلت الهمزة لكثرة الاستعمال، فصار ذروان، ويؤيده أن أبا عبيد البكري صوّب أن اسم البئر أروان، وأن الذي قال ذروان أخطأ، وق ظهر أنه ليس بخطأ، ووقع في رواية كما قال البكري بئر أروان بإسقاط ذي. قلت: فمن قال ذروان فقد تصرف في أصل الكلمة، ولذلك قال عياض: قال الأصمعي: وبعضهم يخطئ فيقول: بئر ذروان، والذي صححه ابن قتيبة ذو أروان بالتحريك. وحديث هذه البئر في الصحيحين وغيرهما في سحر لبيد بن الأعصم، وفي رواية أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 أعصم السحولي، وفي أخرى رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقا، سحر في السنة الثامنة كما سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر ووضعه تحت راعوفة هذه البئر، فأثر السحر فيه صلى الله عليه وسلم، ثم أريه في نومه ودلّ عليه فيها، فأرسل إليها، وكأن ماؤها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين، فاستخرج السحر وحل. وفي رواية في الصحيح أيضا «فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها وقال: هذه البئر التي أريتها، فرجع إلى عائشة، قالت: فقلت: يا رسول الله أفلا أخرجته، وفي أخرى: أفلا أحرقته، قال: لا، أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرا، فأمرت بها فدفنت» . وفي رواية لابن سعد: فقلت يا رسول الله فأخرجه للناس، فقال: أما أنا فقد عافاني الله. فظهر أن الذي امتنع منه إنما هو إخراجه للناس، لا إخراجه من البئر، جمعا بين الروايات. وعند النسائي: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، فأتاه جبريل فقال: إن رجلا من اليهود سحرك، عقد لك عقدا في بئر كذا وكذا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخرجها فحلّها، فقام كأنما نشط من عقال، فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ولا رآه في وجهه قط. وفي رواية لابن سعد أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن جبريل وميكائيل عليهما السلام أخبراه، فأخذه، فاعترف، فاستخرج السحر فحله، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنه. وفي رواية له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: ثم كان يراه بعد عفوه فيعرض عنه، قال الواقدي: وهذا أثبت عندنا ممن روي أنه قتله. وفي رواية له: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ودخل المحرم جاءت رؤساء يهود الذين بقوا بالمدينة ممن يظهر الإسلام وهو منافق إلى لبيد بن الأعصم- وكان حليفا في بني زريق، وكان ساحرا قد علمت يهود أنه أعلمهم بالسحر- فقالوا: يا أبا الأعصم، أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، وأنت ترى أثره فينا، ونحن نجعل لك على ذلك جعلا، فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمد إلى مشط وما يمشط من الرأس من الشعر فعقد فيه عقدا وتفل فيه تفلا، وجعله في جف طلعة ذكر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 ثم جعله تحت أرعوفة البئر؛ فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا أنكره بصره حتى دله الله عليه، فدعا جبير بن إياس الزرقي فدلّه على موضع في بئر ذروان تحت أرعوفة البئر، ثم أرسل إلى لبيد بن الأعصم، فقال له: ما حملك على ما صنعت فقد دلني الله على سحرك؟ فقال: حبّ الدنانير. قال إسحاق بن عبد الله: فأخبرت عبد الرحمن بن كعب بن مالك بهذا، فقال: إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، وكنّ أسحر منه وأخبث، وكان لبيد هو الذي أدخله تحت أرعوفة البئر. وقال الحارث بن قيس: يا رسول الله، ألا نهور البئر، فأعرض عنه، فهورّها الحارث وأصحابه، وكان يستعذب منها. قال: وحفروا بئر أخرى فأعانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفرها حتى استنبطوا ماءها، ثم تهورت بعد، ويقال: إن الذي أخرج السحر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن محصن. وفي رواية لابن سعد أيضا: فبعث نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وعمار فأمر هما أن يأتيا الركي فيفعلا الذي سمع، يعني من الملكين، فأتياها وماؤها كأنه قد خضب بالحناء، فنزلاها ثم رفعا الصخرة، فأخرجا طلعة فإذا فيها إحدى عشرة عقدة، ونزلت هاتان السورتان (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلّت عقدة حتى انحلت العقد. بئر رئاب: بكسر الراء ثم همزة وألف وآخره موحدة، بئر بالمدينة لها شاهد في مخيض. بئر ركانة: على عشرة أميال من المدينة بطريق العراق، وبها حوض، وهناك آخر عمل الطرف وأول عمل المدينة. ووراءها بميلين بئر بني المطلب، قاله الأسدي. بئر زمزم: بزايين معجمتين، تقدمت في بئر إهاب أول الباب السادس، سميت بذلك لكثرة التبرك بمائها ونقله إلى الآفاق كبئر زمزم. بئر زياد: لها ذكر فيما سيأتي في عيون الحسين. بئر السائب: بالطريق النجدي على أربعة وعشرين ميلا من المدينة، وبينها وبين الشقرة مثل ذلك، وبها قصر وعمائر وسوق، وسميت بذلك لأن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حفرها للناس، ويقال لواديها العرنية، سيله يمضي منها فيدفع في الأعواض، ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 في قناة، والجبل المشرف على بئر السائب يقال له شباع، ذكر بعض أهل البادية أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان قد نزل في أعلاه، قاله الأسدي. بئر سميحة: ستأتي في السين. بئر شداد: بناحية الحثحاثة. بئر عائشة: رجل من بني واقف، وهو عائشة بن نمير بن واقف، كان له أطم عليها، ومنازلهم في جهة قبلة مسجد الفضيخ. بئر عذق: بفتح العين وسكون الذال المعجمة بلفظ العذق للنخلة، معروفة بقباء، وهي المتقدمة في منازل بني أنيف. بئر عروة بن الزبير: تقدمت مع قصره بالعقيق، وكانت شهيرة ثم دثرت، حتى قال المجد: إنه لم يجد من يعرفها. بئر ذات العلم: بفتحتين، تجاه الروحاء، يقال: إن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قاتل الجنّ بها، وهي بئر متناهية بعد هر شى، يكاد لا يلحق قعرها، قاله المجد. بئر غامر: أدخلها عثمان رضي الله تعالى عنه في صدقته بئر أريس، وفي رواية أنها كانت من طعم أمهات المؤمنين كما تقدم في الصدقات. بئر غدق: بفتحتين والدال مهملة بعدها قاف، من قولهم غدقت العين فهي غدقة أي غزيرة، وماء غدق غزير، وهي بئر بالمدينة عندها أطم البلويين الذي بالقاع كما قال المجد، ولم أقف له على أصل إلا ما تقدم في منازل اليهود من أن بني أنيف من بلى، وكانوا بقباء، ولهم أطم عند بئر غدق، لكنه لا يسمى بالقاع، وتلك البئر معروفة اليوم بالعين المهملة والذال المعجمة كما سبق، والمجد لم يذكرها فإن كانت مراده فقد خالف ما هو المعروف في أسمائها. بئر فاطمة: بنت الحسين رضي الله تعالى عنهما تقدم في زيادة الوليد ما رواه ابن زبالة عن منصور مولى الحسين في خروجها من بيت جدتها فاطمة الزهراء عند إدخالها في المسجد، قال: وانتقلت إلى موضع دارها بالحرة فابتنتها، وهي يومئذ براح، وموضعها بين دار ذكوان وبناء إبراهيم بن هشام، قال: فلما بنت قالت: مالي بدّ من بئر للوضوء وغير ذلك من الحاجة، فصلّت في موضع بئر دارها ركعتين، ثم دعت الله وأخذت المسحاة فاحتفرت بئرها، وأمرت العمال فعملوا، فما لقيت حصاة حتى أماهت، فلما بنى إبراهيم بن هشام داره بالحرة بعد وفاة فاطمة ابنة الحسين وأراد نقل السوق إليها صنع في حفرته التي بالحوض مثل ما صنعت فاطمة، فلقي جبلا أو قل عليه وعظم غرمه فيه، فسأل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 إبراهيم بن هشام عبد الله بن حسن بن حسن أي ابن فاطمة ابنة حسين أن يبيعه دار فاطمة، فباعه إياها بثلاثة آلاف دينار، فقال: يا أبا محمد تجوّز عنا بدنانير لنا أصابها حريق، قال: نعم، فأخذها وقد انضمّ بعضها إلى بعض، فقيل له: إن كسرتها غرمت فيها كثيرا وصارت تبرا، وإن بعثت بها إلى الشام ضربت دنانير وعادت على حالها، فبعث بها فضربت له. فكان غرمه بضعة وأربعين دينارا، ووقع تجوزه بها من ابن هشام موقعا حسنا. وتقدم في بئر إهاب ترجيح المطري لأن هذه البئر هي المعروفة اليوم بزمزم بطرف الحديقة المعروفة بزمزم من جهة القبلة، وأن الراجح عندنا أن تلك بئر إهاب، فإن بئر فاطمة بقربها، ولعلها التي في شاميها بالحديقة المذكورة. بئر فجّار: بتشديد الجيم، وستأتي مع شاهدها في الشطبية. بئر مدرى: بكسر الميم وسكون الدال المهملة بلفظ المدرى الذي يحك به قال المجد: هي من آبار المدينة المعروفة بالغزارة والطيب، قال الزبير: خطب رجل من بني قريظة امرأة من بلحارث بن الخزرج، فقالت: أله مال على بئر مدرى أو هامات أو ذي وشيع أو على بئر فجار، وهي في بئر أريس. قلت: هذا الخبر إنما سبق في ذكر الشطبية كما سيأتي فيها بلفظه فقوله «وهي بئر أريس» إن أراد ما سيق الخبر له فهو الشطبية لا بئر مدرى، وتقدم حينئذ فيما عليه الناس من أن بئر أريس بقباء، وكذا إن أراد جميع هذه الآبار إذ منها الشطبية وهي بجانب الأعواف كما سبق في بئر الأعواف وإن أراد به بئر فجار فهي غير معروفة، وتقدم في سيل مهزور أن عثمان رضي الله تعالى عنه عمل الردم الذي عند بئر مدرى ليرد به سيل مهزور عن المسجد. قال ابن زبالة: إن سرح عثمان الذي يقال له مدري يشق من مهزور في أمواله حتى يأتي على أريس، إلى آخر ما سبق عنه. بئر مرق: بفتح الميم والراء وقد تسكن الراء أيضا، لغتان مشهورتان، آخره قاف، بئر بالمدينة لها ذكر في حديث الهجرة، قاله في النهاية. قلت: هي المذكورة في سابع فصول الباب الثالث، وفي رواية البيهقي أن أسعد بن زرارة خرج لمصعب بن عمير يوما إلى دار بني عبد الأشهل، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر، وهي قرية لبني ظفر دون قرية بني عبد الأشهل، وكانا ابني عم، يقال له بئر مرق، ويؤخذ منه قربها من دار بني ظفر وبني عبد الأشهل، وهناك بناحية مسجد الإجابة نخيل تعرف بالمرقية، فالظاهر أنها منسوبة لها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 بئر مطلب: بضم الميم وفتح الطاء المشددة وكسر اللام، على سبعة أميال من المدينة، منسوبة إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي، قاله المجد، وذكرها الأسدي في الطريق النجدي، وقال: إنها على خمسة أميال من المدينة، والميل السادس على حرة واقم المشرفة على المدينة، ولعلها بئر بني المطلب المتقدمة فيما نقلناه عنه في بئر ركانة، وإن خالف ما هنا في المسافة. قال المجد: قدم صخر بن الجعد المحاربي المدينة، فأتى تاجرا يقال له سيار، فابتاع منه برّا وعطرا، وقال له: تأتيني غدوة فأقضيك، وركب من تحت ليلته إلى البادية، فسأل عنه سيار لما أصبح، فركب في أثره في جماعة حتى أتوا بئر مطّلب على سبعة أميال من المدينة وقد جهدوا من الحر، فنزلوا عليها، وأكلوا تمرا كان معهم، وأراحوا دوابهم، ثم انصرفوا راجعين فقال أبياتا منها: حين استغاثوا بألوى بئر مطلب ... وقد تحرّق منهم كلّ تمّار وقال أولهم نصحا لآخرهم ... ألا ارجعوا أدركوا الأعراب في النار بئر معرونة: بفتح الميم وضم العين ثم واو ثم نون مفتوحة وهاء، وقد يتصحف ببئر معاوية التي بين عسفان ومكة بلفظ معاوية بن أبي سفيان، وليست بها؛ فإن هذه بالنون وهي بين جبال يقال لها أبلى في طريق المصعد من المدينة إلى مكة، وهي لبني سليم، قاله المجد أخذا من قول عرّام عقب ما سيأتي عنه في النازية: وفي أبلى مياه منها بئر معونة وذو ساعدة وذو جماجم أو حماحم وألوسيا وهذه لبني سليم، وهي قناة متصلة بعضها ببعض، وتقدم بيان أبلى، وأنها بين السوارقية والرحضية، ويؤيده أن معونة بالنون واد معروف هناك كما أخبرني به أمير المدينة الشريفة السيد الشريف فسيطل. ويوافقه قول النووي في تهذيبه: بئر معونة قبل نجد، بين أرض بني عامر وحرة بني سليم. ويوافقه أيضا ما تقدم عن الزهري في أبلى، لكن صرح عياض في المشارق بخلافه، وجعلها التي بين عسفان ومكة، وتبعه في ذلك جماعة من آخرهم الحافظ ابن حجر. ونقل المجد عن الواقدي أن بئر معونة في أرض بني سليم وأرض بني كلاب، وأن عندها كانت قصة الرجيع، وفيه ترجيح لكلام عياض؛ لأن الرجيع موضع كانت قربه قصة سرية عاصم بن ثابت وحبيب في عشرة، وقد ترجم البخاري لها بغزوة الرجيع، ثم روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عينا، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل، فتبعوهم بقريب من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 مائة رام، فاقتصّوا آثارهم، حتى أتوا منزلا نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، وذكر القصة، وبين أبو معشر في مغازيه أن ذلك المنزل هو الرجيع، فقال: فنزلوا بالرجيع سحرا، فأكلوا تمر عجوة، فسقطت نواة بالأرض، وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون النهار، فصاحت امرأة من هذيل: أتيتم، فجاؤوا في طلبهم، فوجدوهم قد كمنوا في الجبل. وفي رواية للبخاري: حتى إذا كانوا بالهدأة، بدل قوله «بين عسفان ومكة» وعند ابن إسحاق «الهدة» بتشديد الدال بغير همز، قال: وهي على تسعة أميال من عسفان. ثم ذكر البخاري في باب غزوة الرجيع قصة أهل بئر معونة، ففيه إشارة لما ذكره الواقدي من اتحاد الموضع، مع إفادة أنه بين عسفان ومكة، لكن يشهد لما ذكره المجد صنيع ابن إسحاق فإنه قال في غزوة الرجيع: حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدة غدروا بهم. وقال في غزوة معونة: إن أبا براء عامر بن مالك ملاعب الأسنّة قال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، ثم ذكر بعث القراء، ثم قال: فساروا حتى نزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب، فهو صريح في المغايرة، وأبلى تحدّ به في شرقي المدينة، فما ذكره المجد موافق لكلام ابن إسحاق. بئر الملك: بكسر اللام- وهو تبّع اليماني، حفرها بمنزله بقناة، لما قدم المدينة، وبه سميت، فاستوبأها، فاستقى له من بئر رومة كما سبق فيها. ونقل ابن شبة أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان من صدقاته بالمدينة بئر الملك بقناة. بئر الهجيم: بالجيم، ثم الياء المثناة تحت كما في كتاب ابن زبالة ويحيى منسوبة إلى الأطم الذي يقال له الهجيم بالعصبة، تقدمت في مسجد التوبة بالعصبة من المساجد التي لا تعرف عينها، وقال فيها المطري: بئر هجم، وفي خط المراغي على الهاء فتحة، وعد ابن شبة في آبار المدينة بئرا يقال لها الهجير- بالراء بدل الميم- وقال: إنها بالحرة فوق قصر ابن ماه. بألى: بفتحات ثلاث- يقدم أيضا في مساجد تبوك. البتراء: تقدمت فيها، ولعلها غير البتراء التي على نحو مرحلة من المدينة، سلكها النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة بني لحيان موريا بأنه يريد الشام، فسلك على غراب، ثم على مخيض، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 ثم إلى البتراء، ثم أخذ ذات اليسار، ثم خرج على بين، ثم على صخيرات الثمام، ثم استقام به الطريق على المحجة. البجرات: بفتح الباء والجيم ويقال البجيرات بالتصغير، مياه من مياه السماء في جبل شوران. بجدان: جبل على ليلة من المدينة، ذكره صاحب النهاية، وفيه حديث «سيروا هذا بجدان سبق المفردون» كذا روى الأزهري، والأكثرون رواه جمدان بالجيم والميم، كما سيأتي فيه. بحران: بالضم وسكون الحاء المهملة ثم راء فألف فنون، وقيده ابن الفرات بفتح الباء قال ابن إسحاق، في سرية عبد الله بن جحش: فسلك على طريق الحجار حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران. وقال بعد غزاة ذي أمر: ثم غزا صلى الله عليه وسلم يريد قريشا، حتى بلغ بحران معدنا بالحجاز من ناحية الفرع، فأقام به شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى ثم رجع ولم يلق كيدا وقال ابن سعد: إنه صلى الله عليه وسلم خرج في ثلاثمائة رجل من أصحابه حتى ورد بحران، فوجد جمع بني سليم قد تفرقوا في مياههم، وكانت غيبته عشر ليال. بخرج: أطم بقباء لبني عمرو بن عوف. بدا: بالفتح وتخفيف الدال موضع قرب وادي القرى، كان به منزل على ابن عبد الله بن العباس وأولاده. البدائع: تقدم في مسجد الشيخين مما لا تعرف اليوم عينه بالمدينة. بدر: بالفتح ثم السكون- بئر احتفرها رجل من غفار اسمه بدر بن قريش بن مخلد بن النضر بن كنانة، وقيل: بدر رجل من بني ضمرة سكن ذلك الموضع فنسب إليه، ثم غلب اسمه عليه، وقال الزبير: قريش بن الحارث بن مخلد، ويقال: مخلد بن النضر به سميت قريش قريشا لأنه كان دليلها وصاحب ميرتها، وكانوا يقولون: جاء عير قريش، وابنه بدر ابن قريش، به سميت بدر التي كانت بها الوقعة المباركة، لأنه كان احتفرها، ويقال: بدر اسم البئر التي بها سميت بذلك لاستدارتها، أو لصفاء مائها، فكان البدر يرى فيها، وحكى الواقدي إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غفار، قالوا: إنما هي مأوانا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد، وبدر الموعد، وبدر القتال، وبدر الأولى، وبدر الثانية، وبدر الثالثة، كله موضع واحد، واستشهد من المسلمين بوقعة بدر التي أعز الله بها الإسلام أربعة عشر رجلا، منهم أبو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 عبيدة بن الحارث تأخرت وفاته حتى وصل الصفراء، ويظهر من كلام أهل السّير أن بقيتهم دفنوا ببدر، وبها مسجد العمامة المتقدم. ورأيت بأوراق في منازل الحاج، ما لفظه: ومن بدر إلى الدخول نحو نصف فرسخ، وهو الغار الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم فيه، انتهى. وهذا الغار على يمين المصعد من بدر، ورأيت الحجاج يت برك ون بالصلاة فيه، ولم أقف فيه على غير ما تقدم. وقال المرجاني: شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا بسيفه الذي يدعى العضب، وضربت فيها طبلخانة النصر، فهي تضرب إلى قيام الساعة، انتهى. ويقال: إنها تسمع بالموضع المذكور، وهو على أربع مراحل من المدينة، به عين ونخيل. براق: بكسر أوله يضاف لبدر المتقدم في قول كثير: فقلت وقد جعلن براق بدر ... يمينا والعنابة عن شمالي براق حورة: - بكسر أوله، وفتح الحاء المهملة والراء- موضع من أودية الأشعر، بناحية القبلة، قال الأحوص: فذو السّرح أقوى فالبراق كأنّها ... بحورة لم يحلل بهنّ عريب براق خبت: بفتح الخاء المعجمة، وسكون الموحدة، بعدها مثناة صحراء يمر بها المصعد من بدر إلى مكة، وقيل: خبت ماء لكلب، قال بشر: فأودية اللّوى فبراق خبت ... عفتها العاصفات من الرّياح برام: بفتح أوله، وبكسره- جبل كأنه فسطاط، يبتدئ منه البقيع، وهو من أعلامه في المغرب، ويقابله عسيب في المشرق، وفيه يقول المحرق المزني: وإني لأهوى من هوى بعض أهله ... برام وأجراعا بهنّ برام برثان: بالفتح واد بين ملل وأولات الجيش، سلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، ولعله تصحيف تربان التي في التاء المثناة، قاله المجد، وهو كما ظن لما سيأتي. برج: بفتح الباء والراء، أطم لبني النضير. البرريان: كانتا من طعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأظنهما المعروفتين بالبررة والبريرة بالعالية. برق: بلفظ البرق اللامع من السحاب، قرية بقرب خيبر، ويوم برق من أيامهم. برقة: بالضم، وروى بالفتح من صدقاته صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وأما برقة العبرات بفتح العين المهملة والمثناة التحتية فبرقة واسعة حسنة جدا، بين ضرية والبستان، على أقل من نصف ميل منها، وهي التي في شعر امرئ القيس الآني في حليت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 برك: بالكسر، واد بحذاء شواحط، بناحية السوارقية، كثير السّلم والعروط، وفيه مياه، وسيأتي في مبرك أنه يسمى ببرك أيضا. البركة: مغيض عين الأزرق، بها نخيل حسنة بيد الأمراء. برمة: بكسر أوله، من أعراض المدينة، قرب بلاكث، بين خيبر ووادي القرى، به عيون ونخل لقريش، ويقال له «ذو البيضة» كما سبق في مجتمع أودية المدينة ومغايضها. البرود: بالفتح وضم الراء موضع بين طرف جبل جهينة يعنى الأشعر، وموضع آخر بطرف حرة النار. بزرة: بالضم، وسكون الزاي، وفتح الراء، ثم هاء ناحية على ثلاثة أيام من المدينة، بينها وبين الرويئة، عن نصر، قاله المجد، وفيه نظر؛ لما سيأتي في الرويثة، وقال ياقوت عن ابن السكيت: بزرتان أي بالتثنية- شعبتان قريبتان من الرويثة، يصبان في درج المضيق، من بليل، وقد ذكره الشعراء، وكان فيه يوم لهم، قال عبد الله بن جذل الطّعان: فداء لهم نفسي، وأمّي لهم فدى ... ببزرة إذ نحصيهم بالسّنابك البزواء: بلدة بيضاء مرتفعة من الساحل، بين الجار وودان وغيقة، من أشد بلاد الله حرّا، سكانها بنو ضمره من بكر ثم من كنانة، وهم رهط عزّة صاحبة كثير، قال كثير يهجوهم: ولا بأس بالبزواء أرضا لو أنّها ... تطهّر من آثارهم فتطيب بصة: يضاف إليها بئر البصة المتقدمة أول الباب السادس. البضيع: بالضم وفتح الضاد المعجمة مصغرا قاله ياقوت، ونقل عن ابن السكيت أنه طرف عن يسار الحال أسفل من عين الغفاريين في قول كثير: تلوح بأكناف البضيع كأنها ... كتاب زبور خطّ لدنا عسيبها قلت: والظاهر أنه الآتي في النون. البطحاء: يدفع فيها طرف عظم الشامي، وما دبر من الصلصين، وتدفع هي من بين الجبلين في العقيق كما سبق، ولعلها بطحاء ابن أزهر. بطحان: بالضم ثم السكون كذا يقوله المحدثون، وحكى أهل اللغة فتح أوله وكسر ثانية، قال أبو علي القالي: لا يجوز غيره، قال المجد: وقرأت بخط أبي الطيب أحمد بن أحمد بن أحمد الشافعي وخطه حجة بطحان بفتح أوله وسكون ثانية. قلت: ونقل بعضهم عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: هو بضم الباء وسكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 الطاء، سمي بذلك لسعته وانبساطه، من البطح وهو البسط، وتقدم في الفصل الخامس في الأودية، قال الشاعر: يا سعد إني لم أزل بعد كم ... في كرب للشّوق تغشاني كم مجلس ولّى بلذّاته ... لم يهنني إذ غاب ندماني سقيا لسلع ولساحاته ... والعيش في أكناف بطحان أمسيت من شوقي إلى أهلها ... أدفع أحزانا بأحزان وقال بعضهم: بطحان من مياه الضباب، فهو موضع آخر بطن إضم: تقدم في إضم. بطن ذي صلب: تقدم في الفصل الخامس. بطن نخل: جمع نخلة، قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة، بينهما الطرف، وهو بحذاء برق العراف لقاصد المدينة، قاله المجد، وقال الأسدي في وصف طريق فيد: إن من بطن نخل إلى الطرف عشرين ميلا، ومن الطرف إلى المدينة خمسة وعشرون ميلا، قال: وبطن نخل لبني فزارة من قيس، وبها أكثر من ثلاثمائة بئر كلها طيبة، وبها يلتقي طريق الربذة، وهي من الربذة على خمسة وأربعين ميلا، اه. وسيأتي في الجموم عن ابن سعد أنها بناحية بطن نخل، عن يسارها، قال: وبطن نخل من المدينة على أربعة برد، اه. وذكر الفقهاء في صلاة الخوف ببطن نخل أنه موضع من نجد في أرض غطفان، وتقدم في زيادة عثمان أن القصّة كانت تحمل من بطن نخل، وبخط المراغي عند ذكره لذلك: بطن نخل موضع على أربعة أميال من المدينة، فإن صح فهو غير ما تقدم، ولعله ذو القصّة، وسيأتي أنه على خمسة أميال من المدينة في طريق الربذة، وتسميته بذي القصة وهي الحصن شاهد لذلك. البطيحان: تصغير بطحان، تقدم في زيادة عمر بن الخطاب. بعاث: أوله بالحركات الثلاث، وقال عياض: أوله بالضم لا غير، وآخره ثاء مثلاثة، من ضواحي المدينة، كانت به وقائع في الجاهلية بين الأوس والخزرج، وحكاه صاحب العين وهو الخليل- على ما نقله أبو عبيد البكري بالغين المعجمة، ولم يسمع من غيره، وقال أبو أحمد السكري: هو تصحيف، وحكى السكري أن بعضهم رواه عن الخليل وصحفه بالمعجمة، وذكر الأزهري أن الذي صحفه الليث الراوي عن الخليل، وقال في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 المطالع والمشارق بعاث بضم أوله وعين مهملة على المشهور، وقيده الأصيلي بالوجهين، وهو عند القابسي بالغين المعجمة، قال الحافظ ابن حجر: ويقال: إن أبا عبيدة ذكره بالمعجمة أيضا، وهو مكان، ويقال: حصن، ويقال: مزرعة عند بني قريظة على ميلين من المدينة، وقال الزركشي: هو حصن للأوس، وقال بعضهم: هو من أموال بني قريظة، به مزرعة يقال لها قوري، وقال رزين: هو موضع عند أعلى القرورا. قلت: لعله تصحيف قورى، قال قيس بن الخطيم: نحن هزمنا جمعهم بكتيبة ... تضاءل منها حرز قورى وقاعها تركنا بعاثا يوم ذلك منهم ... وقورى على رغم شباعا سباعها وقال أيضا: ويوم بعاث أسلمتنا سيوفنا ... إلى نسب من جذم غسّان ثاقب وقال كثير: كأن حدائج أظعاننا ... بغيقة لما هبطنا البراثا نواعم عمّ على ميثب ... عظام الجذوع أحلّت بعاثا وميثب: حائط تقدم في الصدقات أنه مجاور للدلال والصافية، وأسفل الدلال نخل يسمى قوران، الظاهر أنه قورى كما سيأتي فيها، فبعاث بتلك الجهة، ويشهد له ما نقل ابن إسحاق عن محمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف، قال: فخرجنا يعني بعد قتله حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث، حتى أسندنا في حرة العريض؛ وبه يعلم ضعف قول عياض ومن تبعه: إنه موضع على ليلتين من المدينة. بعبع: بالضم وإهمال العينين، أطم بمنازل بني عمرو بن عوف بقباء. بغيبغة: بإعجام الغينين تصغير البغبغ وهي البئر القريبة الرشاء، وروى ابن شبة أن ينبع لما صارت لعلي رضي الله تعالى عنه كان أول شيء عمله فيها البغيبغة، وأنه لما بشر بها حين صارت له قال: تسرّ الوارث، ثم قال: هي صدقة على المساكين وابن السبيل وذوي الحاجة الأقرب، وفي رواية للواقدي أن جدادها بلغ في زمن علي رضي الله تعالى عنه ألف وسق. وقال محمد بن يحيى: عمل علي بينبع البغيبغات، وهي عيون منها عين يقال لها خيف الأراك، ومنها عين يقال لها خيف ليلى، ومنها عين يقال لها خيف بسطاس، قال: وكانت البغيبغات مما عمل علي وتصدق به، فلم يزل في صدقاته حتى أعطاها حسين بن علي عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يأكل ثمرها ويستعين بها على دينه ومؤنته، على أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 لا يزوج ابنته من يزيد بن معاوية، فباع عبد الله تلك العيون من معاوية، ثم قبضت حين ملك بنو هاشم الصوافي، فكلم فيها عبد الله بن حسن بن حسن أبا العباس وهو خليفة فردها في صدقة علي، فأقامت في صدقته حتى قبضها أبو جعفر في خلافته، وكلم فيها الحسن بن زيد المهدي حين استخلف، وأخبره خبرها، فردها مع صدقات علي. قلت: وهي معروفة اليوم بينبع، ولكن في يد أقوام يدّعون ملكها. وقال المبرد: روي أن عليا لما أوصى إلى الحسن وقف عين أبي نيزر البغيبغة، وهي قرية بالمدينة، وقيل: عين كثيرة النخل غزيرة الماء. وذكر أهل السير أن معاوية كتب إلى مروان: أما بعد، فإن أمير المؤمنين أحبّ أن يرد الألفة، ويزيل السّخيمة، ويصل الرحم، فاخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته أمّ كلثوم على ابن أمير المؤمنين، وأرغب له في الصداق، فوجه مروان إلى عبد الله فقرأ عليه الكتاب وعرّفه ما في الألفة، فقال: إن خالها الحسين بينبع، وليس ممن يفتات عليه، فأنظرني إلى حين يقدم، فلما قدم ذكر له ذلك، فقام ودخل على الجارية وقال: إن ابن عمك القاسم بن محمد بن جعفر أحقّ بك، ولعلك ترغبين في الصداق، وقد نحلك البغيبغات، فلما حضر القوم للإملاك تكلم مروان، فذكر معاوية وما قصده، فتكلم الحسين وزوّجها من القاسم، فقال له مروان: أغدرا يا حسين؟ فقال: أنت بدأت، خطب الحسن بن علي عائشة بنت عثمان بن عفان، واجتمعنا لذلك، فتكلمات أنت وزوجتها من عبد الله بن الزبير، فقال مروان: ما كان ذاك، فالتفت الحسين إلى محمد بن حاطب وقال: أنشدك الله أكان ذلك؟ فقال: اللهم فنعم. فلم تزل هذه الضّيعة في يد بني عبد الله من ناحية أم كلثوم يتوارثونها، حتى استخلف المأمون، فذكر له، فقال: كلا هذا وقف عليّ، فانتزعها، وعوضهم عنها، وردها إلى ما كانت عليه. البقال: بالفتح وتشديد القاف، قال الزبير في ذكر طلحة من بني البحتري: وداره بالمدينة إلى جنب بقيع الزبير بالبقال، وتقدم في قبور أمهات المؤمنين أنها من خوخة بيته إلى الزقاق الذي يخرج على البقال، وأن دار أبي رافع التي أخذها من سعد بالبقال مجاورة لسقيفه محمد بن زيد بن علي بن حسين بالبقيع، وتقدم في مشهد إسماعيل بن جعفر أنه دار زين العابدين علي بن حسين، فالبقال هناك. بقع اء: بالمد وفتح أوله بمعنى المجدب من الأرض، موضع على أربعة وعشرين ميلا من المدينة، خرج إليه أبو بكر لتجهيز المسلمين لقتال أهل الردة، ويقال: بقعاء ذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 القصة كما قاله ياقوت. بقع: بالضم، اسم بئر بالمدينة، وقال الواقدي: البقع بالضم هي السقيا التي بنقب بني دينار، وقال ياقوت في المشترك له: البقع اسم بئر بالمدينة قبلى نقي السقيا التي ينقب بني دينار. بقيع بطحان: مضاف إلى وادي بطحان المتقدم، وفي الصحيح عن أبي موسى: كنت أنا وأصحابي الذي قدموا معي في السفينة نزولا في بقيع بطحان. بقيع الخبجبة: بفتح الخاء المعجمة ثم باء موحدة وفتح الجيم والباء ثم هاء، قال المجد: كذا ذكره أبو داود في سننه، والخبجبة: شجر عرف به هذا الموضع، قال السهيلي: وهو غريب، وسائر الرواة ذكروه بجيمين، انتهى. وليس في السنن ضبط، بل ذكره قبل الجنائز بباب قصة المقداد حين وجد به الدنانير، ولم يذكر ضبطا، فلعل المراد أن الرواية فيها بهذا الضبط، لكن ضبطه ابن الأثير في نهايته بخاءين معجمتين بينهما موحدة، وفي القاموس: الخبجبة أي بالخاء المعجمة شجر عن السهيلي، ومنه بقيع الخبجبة بالمدينة؛ لأنه كان منبتها، أو هو بجيمين، انتهى. ورأيته بخط الأقشهري بجيمين أولاهما مضمومة، وتقدم بيانه عند ذكر اتخاذ اللّبن للمسجد النبوي به. وروى ابن أبي شبة قصة المقداد عن ضباعة بنت الزبير، وكانت تحت المقداد، قالت: كان الناس إنما يذهبون لحاجتهم قرب اليومين والثلاثة، فيبعرون كما تبعر الإبل، فلما كان ذات يوم خرج المقداد لحاجته حتى بلغ الخبجبة، وهي ببقيع الغرقد، فدخل خربة لحاجته، فبينا هو جالس إذ أخرج جرذ من حجر دينارا، فلم يزل يخرج دينارا دينارا حتى بلغ سبعة عشر دينارا، قال: فخرجت بها، حتى إذا جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبرها، فقال: هل اتبعت يدك الجحر؟ فقلت: لا والذي بعثك بالحق، فقال: لا صدقة عليك فيها بارك الله لك فيها، قالت ضباعة: فما فنى آخرها حتى رأيت غرائر الورق في بيت المقداد. بقيع الخيل: موضع شرقيّ المدينة المجاور للمصلى، وهو المراد بقول أبي قطيفة: ألا ليت شعري هل تغيّر بعدنا ... بقيع المصلّى أم كعهدي القرائن بقيع الزبير: يجاور منازل بني غنم، وشرقي منازل بني زريق، وإلى جانبه في المشرق البقال، ولعل الرحبة التي بحارة الخدم بطريق بقيع الغرقد منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 روى ابن شبة عقب قصة كعب بن الأشرف المتقدمة في سوق المدينة لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ موضع بقيع الزبير سوقا أنه لما قتل كعب استقطع الزبير النبي صلى الله عليه وسلم البقيع فقطعه، فهو بقيع الزبير، ففيه من الدور للزبير دار عروة، ثم في شرقيها دار للمنذر بن الزبير إلى زقاق عروة، وفيه دار مصعب بن الزبير التي على يسارك إذا أردت بني مازن، وفيه دار آل عكاشة بن مصعب على باب الزقاق الذي يخرج بك إلى دار نفيس بن محمد، يعني مولى بني المعلى في بني زريق، وفيه دار آل عبد الله بن الزبير ممدودة إلى دار أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، وفيه بيت نافع الزبيري الذي بمفترق الطرق، وكل هذا صدقة من الزبير على ولده. وذكر أيضا أن عباس بن ربيعة اتخذ داره في بني غنم بين دار أم كلثوم بنت الصديق وبين الخط الذي يخرجك إلى بقيع الزبير، وسبق لهذه الدار ذكر مع البقال في منازل بني أوس من مزينة. وقال عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة الزبيري: ليت شعري ولليالي صروف ... هل أرى مرّة بقيع الزبير ذاك مغنى أحبّه وقطين ... تشتهي النفس أن ينال بخير بقيع الغرقد: وهو كبار العوسج، كان نابتا بالبقيع، مقبرة أهل المدينة، فقطع عند اتخاذها مقبرة، كما سبق مع ما جاء في فضلها، والبقيع: كل موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى. وقال عمرو بن النعمان البياضي يرثي من قتل من قومه الذين أغلقوا عليهم حديقة، واقتتلوا حتى لم يبق منهم أحد كما سبق: خلت الديار فسدت غير مسوّد ... ومن العناء تفرّدي بالسودد أين الذي عهدتهم في غبطة ... بين العقيق إلى بقيع الغرقد كانت لهم أنهاب كل قبيلة ... وسلاح كل مدرّب مستنجد نفسي الفداء لفتية من عامر ... شربوا المنية في مقام أنكد قوم هم سفكوا دماء سراتهم ... بعض ببعض فعل من لم يرشد ونسبه الحماسيّ لرجل من خثعم بزيادة في أوله. البكرات: تقدمت بحمى ضرية وشاهدها في حليت. البلاط: تقدم مستوفى. بلاكث: بالفتح وكسر الكاف ثم مثلاثة، بجانب برمة، وقال يعقوب: بلكثة قارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 عظيمة ببطن إضم بين ذي خشب وذي المروة، وقال كثير: نظرت وقد حالت بلاكث دونهم ... وبطنان وادي برمة وظهورها وقال: بينما نحن بالبلاكث فالقا ... ع سراعا والعيس تهوى هويّا خطرت خطرة على القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيا بلحان: بالفتح ثم السكون، أطم كعب بن أسد القرظي بالمال الذي يقال له الشجرة، ويعرف اليوم بالشجيرة مصغرا. بلدود: بضم أوله وقد يفتح، وضبطه الصغاني بفتحتين، موضع من نواحي المدينة، قال ابن هرمة: هل ما مضى منك يا أسماء مردود ... أم هل تقضّت مع الوصل المواعيد أم هل لياليك ذات البين عائدة ... أيام تجمعنا خلص فبلدود البلدة والبليدة: تصغير الأول، معروفان بأسفل نخل من أودية الأشعر قرب الفقيرة التي تحمل منها الرياضية إلى المدينة، قال الهجري: وذكر كثير البليد فقال: وقد حال من حزم الحماتين دونهم ... وأعرض من وادي البليد شجون وتأتيك عير الحي لما تقاذفت ... ظهور لها من ينبع وبطون وقال المجد: بليد كزبير واد قرب المدينة، يدفع في ينبع، ثم أورد شعر كثير المتقدم، وفي النهاية: بليد بضم الباء وفتح اللام- قرية لآل علي بواد قريب من ينبع، انتهى. وأظنه البليد مصغرا، وهو المتقدم ذكره؛ لأن ياقوتا قال: البليد تصغير بلد موضعان: الأول: ناحية قرب المدينة في واد يدفع في ينبع لآل علي رضي الله تعالى عنهم. والثاني: ناحية لآل سعيد بن عنبسة بن سعيد بن العاص بالحجاز. بواطان: قال الهجري: هو في الأشعر، ويحده من شقه الشامي بواطان الغوري والجلسي، وهما جبلان مفترقا الرأسين، وأصلهما واحد، وبينهما ثنية تسلكها المحامل، سلكها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذي العشيرة، وأهل بواط الجلسي بنو ذبيان وبنو الربعة من جهينة، وهو يلي ملحتين، وقال عياض: بواط بضم أوله وتخفيف ثانيه آخره طاء مهملة، ورويناه من طريق الأصيلي وغيره بفتح الباء والضم هو المعروف، وهو من جبال جهينة، وسبق ذكر وادي بواط في مجتمع أودية المدينة ومغائضها، وبه غزوة بواط خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين إلى ناحية رضوى يريد تجارة قريش حتى بلغ بواطا في السنة الثانية. البويرمة: بئر لبني الحارث بن الخزرج، كما في النسخة التي وقعت لنا من كتاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 ابن شبة، ولعلها البويرة لما سيأتي. بويرة: تصغير البئر التي يسقى منها، وفي الصحيح: حرّق نخل النضير، وهي البويرة، قال المجد: البويرة موضع منازل بني النضير، وذكره المرجاني ثم قال: وقيل: اسم موضع مخصوص من مواضعهم. قلت: ويرجح الأول قول جمل بن جوال التغلبي من أبيات: وأقفرت البويرة من سلام ... وسعية وابن أخطب فهي بور وقد كانوا ببلدتهم بعولا ... كما نقلت بميطان الصخور واعتمد الثاني الحافظ ابن حجر، قال: ويقال لها البويلة باللام بدل الراء- وقال ابن سيد الناس في قوله: حريق بالبويرة مستطير ويروى بالبويلة قال: وذكر ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير بن العوام وأبا سلمة البويلة من أرض بني النضير، وتقدم أن البويلة أطم لبني النضير بمنازلهم، قال ابن زبالة: كان لحي منهم لحقوا باليمن، فلعله كان بقرب البويرة فسميت به أيضا. وقلد الحافظ ابن حجر رزينا ومن تبعه في أن البويرة الموضع المعروف بهذا الاسم في قبلة مسجد قباء من جهة المغرب، قال رزين: وبه منازل النضير وقريظة وحصنهم، وإنه صدقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم مع رده في الفصل الثاني في الصدقات، مع بيان منشأ الوهم فيه، وذكر ابن زبالة في مساجد المدينة ومقاماته صلى الله عليه وسلم حديث تربة صعيب المعروف اليوم عند ركن الحديقة الماجشونية في قبلة ديار بني الحارث، ثم قال: وصعيب عند نخلة المرجثة على الطريق في بناء من البويرة. وروى أيضا في فضل دور الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على السيرة التي على الطريق حذو البويرة فقال: إن خير نساء ورجال في هذه الدور، وأشار إلى دار بني سالم ودار بلحبلى ودار بلحارث بن الخزرج، وهذا الوصف لا يطابق الموضع الذي في قبلة مسجد قباء لبعده جدّا. والذي يتحرر أن البويرة المتعلقة ببني النضير التي وقع بها التحريق وهي المذكورة في شعر حسان ليست البويرة التي بقباء، بل بمنازل بني النضير المتقدمة في محلها، وسبق أن بعض منازلهم كانت بناحية الغرس، فيطابق أنها بقرب تربة صعيب وبلحارث. البيداء: قال المطري فمن تبعه، هي التي إذا رحل الحجاج من ذي الحليفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 استقبلوها مصعدين إلى المغرب. وقال الحافظ ابن حجر: البيداء فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، قاله أبو عبيد البكري وغيره، انتهى. فأول البيداء عند آخر ذي الحليفة، وكان هناك علمان للتمييز بينهما، ولذا قال الأسدي في تعداد أعلام الطريق: إن على مخرج المدينة علمين، وعلى مدخل ذي الحليفة علمين، وعلى مخرج ذي الحليفة علمين، وقال في موضع آخر: والبيداء فوق علمي ذي الحليفة إذا صعدت من الوادي، وفي أول البيداء بئر، انتهى. وكأن البيداء ما بين ذي الحليفة وذات الجيش. وفي حديث عائشة في نزول آية التيمم «حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش» وفي الحديث «إن قوما يغزون البيت، فإذا نزلوا بالبيداء بعث الله تعالى جبريل عليه السلام فيقول يا بيداء أبيديهم» وفي رواية لابن شبة عن أم سلمة مرفوعا «يتابع الرجل بين الركن والمقام عدة أهل بدر، فتأتيه صعائب أهل العراق وأبدال أهل الشام فيغزوهم جيش من أهل الشام، فإذا كانوا بالبيداء خسف بهم، ثم يغزوهم رجل من قريش أخواله كلب فيلتقون فيهزمهم الله، فالخائب من خاب من غنيمة كلب» وفي رواية له «جيش من أمتي من قبل الشام يؤمّون البيت لرجل منعه الله منهم، حتى إذا علوا البيداء من ذي الحليفة خسف بهم، ومصادرهم شتى. قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، كيف يخسف بهم جميعا ومصادرهم شتى؟ قال: إن منهم من جبر» وعن ابن عمر «إذا خسف بالجيش بالبيداء فهو علامة خروج المهدي» وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «يجئ جيش من قبل الشام حتى يدخل المدينة، فيقتلون المقاتلة ويبقرون بطون النساء، ويقولون للحبلى في البطن: اقتلوا صبابة الشر، فإذا علوا البيداء من ذي الحليفة خسف بهم، فلا يدرك أسفلهم أعلاهم ولا أعلاهم أسفلهم» قال أبو الهرم: فلما: جاء جيش ابن دبحة قلنا هو فلم يكونوا هم، يعني جيش مسرف. بيسان: بالفتح وسكون المثناة تحت ثم سين مهملة وألف ونون، بين خيبر والمدينة، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نزل في غزوة ذي قرد على ماء يقال له بيسان، فسأل عن اسمه، فقالوا: اسمه بيسان، وهو ملح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو نعمان، وهو طيب» وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسم، وغير الله الماء، فاشتراه طلحة ونصدق به، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنت يا طلحة إلا فياض، فسمي طلحة الفياض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 حرف التاء تاراء: بالمد، سبق في مساجد تبوك، قال نصر: وهو موضع بالشام. تبوك: كصبور، موضع بين وادي القرى والشام، على اثنتي عشرة مرحلة من المدينة، قيل: اسم بركة هناك، وقال أبو زياد: تبوك بين الحجر وأول الشام، على أربع مراحل من الحجر نحو نصف طريق الشام، وهو حصن به عين ونخل وحائط تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن أصحاب الأيكة الذين بعث إليهم شعيب كانوا به، ولم يكن شعيب منهم بل من مدين، ومدين على بحر القلزم على نحو ست مراحل من تبوك. وقال أهل السير: توجّه النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع إلى تبوك، وهي آخر غزواته، لغزو من انتهى إليه أنه قد تجمع من الروم وعاملة ولخم وجذام، فوجدهم قد تفرقوا، فلم يلق كيدا، ونزلوا على عين، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يمس أحد من مائها، فسبق رجلان وهي تبض بشيء من ماء، فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: مازلتما تبوكانها منذ اليوم، أي يحركانها بما أدخلاه، وبذلك سميت تبوك، وركز النبي صلى الله عليه وسلم عنزته فيها ثلاث ركزات، فجاءت ثلاث أعين، فهي ترمي بالماء إلى الآن. وحديث عين تبوك في صحيح مسلم، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم «غسل وجهه ويده بشيء من مائها ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير» الحديث، وفي رواية ابن إسحاق «فانخرق من الماء ماله حس كحس الصواعق» ثم قال «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا» وأقام صلى الله عليه وسلم بتبوك أياما حتى صالحه أهلها، وانتدب خالد بن الوليد إلى دومة الجندل. قال المجد: وذكرنا لتبوك ليس من شرط الكتاب لبعده من المدينة، لكن لكثرة ذكره في الأحاديث زاع القلم بذكره. قلت: سيأتي في السين المهملة ذكر المجد لسرع، وأنها بوادي تبوك على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة، وأنها آخر عمل المدينة، وهي بعد تبوك، وسيأتي في مدين أنها من أعراض المدينة، وهي في محاذاة تبوك. وقال صاحب المسالك والممالك، كما في خط الأقشهري: وكانت قريظة والنضير ملوكا على المدينة على الأوس والخزرج، وكان على المدينة وتهامة في الجاهلية عامل من جهة مرزبان البادية، يجبى إليه خراجها. ثم قال: ومن توابع المدينة ومخاليفها وقراها تيماء، وبها حصنها الأبلق الفرد، ومنها دومة الجندل، وهي من المدينة على ثلاث عشرة مرحلة، وحصنها المارد. انتهى. تختم: بضم النون وكسرها، وقيل: بتاءين الثانية تكسر وتضم، جبل بالمدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 تربان: بالضم ثم السكون، واد بين أولات الجيش وملل، قاله أبو زياد، وقال ابن هشام في المسير إلى بدر: قال ابن إسحاق: فسلك على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة، ثم على أولات الجيش، قال ابن هشام: ذات الجيش، ثم مر على تربان، ثم على ملل، هكذا في أصل معتمد، وتقدم في حدود الحرم أن ذات الجيش نقب ثنية الحفيرة، قال الأسدي: بين الحفيرة أي التي تنسب الثنية لها وبين ملل ستة أميال، انتهى؛ فتربان فيما بين ذلك، وبينه وبين ثنية مفرح موضع يقال له سمهان، قال كثير: رأيت جمالها تعلو الثنايا ... كأن ذرى هوادحها البروج وقد مرّت على تربان تحدى ... لها بالجزع من ملل وسيج ترعة: واد يلقى إضم من القبلة كما سبق، قال الزبيري عقبه: وفي ترعة يقول بشر السلمي: أرى إبلى أمست تحن لقاحها ... بترعة ترجو أن أحل بها أبلى وذكر ابن شبة في صدقات علي رضي الله تعالى عنه واديا يقال له ترعة بناحية فدك بين لابتي حرة. ترن: كزفر، ناحية بين مكة والمدينة. تريم: كحذيم، واد بين المضايق ووادي ينبع. تسرير: واد بحمى ضرية بين ضلعيها، وقال بعضهم فيه السرير بلفظ السرير الذي يجلس عليه، وهو خطأ، أنشد أبو زياد الكلابي: إذا يقولون: ما يشفيك؟ قلت لهم: ... دخان رمث من التسرير يشفيني تضارع: بضم أوله وضم الراء، ولا نظير له، وروي بكسر الراء أيضا، ويقال بفتح أوله وضم الراء، اسم لحمى تضارع المتقدمة في العقيق، وتضارع وتضرع أيضا: جبلان لبني كنانة بتهامه أو بنجد. تعار: بالكسر وإهمال العين، وروي إعجامها، قال عرام، فيما بجهة أبلى ما لفظه: ومن قبل القبلة جبل يقال له يرمرم، وجبل يقال له تعار، وهما عاليان لا ينبتان شيئا فيهما النمران كثيرة، قال لبيد: عشت دهرا ولا يعيش مع ... الأيام إلا يرمرم وتعار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 التعانيق: بالفتح وبعد الألف نون مكسورة وياء ساكنة وقاف، موضع بشق العالية، قال زهير: صحا القلب عن سلمى وقد كان لا يسلو ... وأقفر من سلمى التّعانيق فالثقل تعهن: بكسر أوله وثالثه، وروي بفتحهما، وحكى أبو ذر الهروي أنه سمعه من العرب بذلك المكان بفتح ثالثه، قال: ومنهم من يضم أوله ويفتح العين ويكسر الهاء، وأغرب أبو موسى المزيني فضبطه بضم أوله وثانيه وتشديد الهاء، ووقع في رواية الإسماعيلي «دعهن» بالدال المهملة بدل المثناة، ويقال فيه «تعاهن» بالضم وكسر الهاء، وتقدم في المساجد عن الأسدي أن تعهن بعد السقيا التي بطريق مكة بثلاثة أميال لجهة مكة، وقال إنها عين ماء خربة، وكان عندها امرأة يقال لها أم عقي، يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بها فاستسقاها ماء، فأبت، فدعا عليها فمسخت صخرة، وذكر قوم أنها كانت تدعى أم حبيب الراعية، واختلفوا في اسمها وخبرها، انتهى. وقال السهيلي: وبتعهن صخرة يقال لها أم عقي، روي أن امرأة كانت تسكن تعهن يقال لها أم عقي، فحين مر بها النبي صلى الله عليه وسلم يعني في سفر الهجرة استسقاها، فأبت، وذكر ما تقدم، قال: ومدلجة تعهن عند السقيا وهي المذكورة في سفر الهجرة، حيث قالوا: سلك بذي سلم من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم أجاز القاحة، وقال عياض: تعهن عين ماء سمي به الموضع، وهي على ثلاث أميال من السقيا، وقال المجد: هي بين القاحة والسقيا، وهو مخالف لما سبق؛ لأن القاحة قبل السقيا، بميل فقط إلى جهة المدينة كما سيأتي عنه، وتعهن على ثلاثة أميال من السقيا، فكيف يكون بين القاحة والسقيا، لكن في وتعهن على ثلاثة أميال من السقيا، فكيف يكون بين القاحة والسقيا، لكن في حديث أبي قتادة في سؤاله الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال: تركته بتعهن، وهو قائل السقيا، وذلك بعد أن صاد أبو قتادة الحمار الوحشي بالقاحة؛ لأنه لم يكن أحرم كما في الصحيح. فقوله: «وهو قائل السقيا» إن كان من القيلولة فالمراد أنه تركه بتعهن وهو يريد أن يقيل بالسقيا، فتعهن بين القاحة والسقيا كما قاله المجد، وكذا إن كان من القول، أي وهو قائل: اقصدوا السقيا، مع أني سألت بعض العارفين بهذه الأماكن، فقال: هي معروفة اليوم: القاحة مما يلي المدينة، ثم السقيا إلى جهة مكة، ثم تعهن بعدها، ثم سألت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 جماعة عن ذلك وكلهم أخبرني بذلك، وهو مخالف لظاهر الحديث، نعم روي «وهو قابل السقيا» بالباء الموحدة والضمير لتعهن كما نقله الحافظ ابن حجر، فلا تعرض فيه لكيفية ترتيب الموضعين، وأما ما رواه الإسماعيلي «وهو قائم بالسقيا» فهو أشكل، إلا أن يكون الضمير للغفاري، ويكون ذلك من كلام أبي قتادة، وانتهى كلام الغفاري بقوله تركته بتعهن، وهو بعيد جدا، وقال ابن قيس الرقيات: أقفرت بعد عبد شمس كداء ... فكدى فالرّكن فالبطحاء موحشات إلى تعاهن فالسق ... يا قفار من عبد شمس خلاء تمنى: بفتحين وتشديد النون المكسورة، أرض يطؤها المنحدر من ثنية هرشى يريد المدينة، وبها جبال تسمى البيض. تناضب: بضم أوله وكسر الضاد المعجمة، شعبة من شعب الدّوداء، وهو واد يدفع في العقيق، وأما التناضب بالفتح وضم الضاد المعجمة وكسرها فموضع آخر في حديث عمر، قال: لما أردت الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص أبعدت أنا وهما، التناضب من أضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه، فأصبحت أنا وعياش عند التناضب وحبس هشام وفتن فأفتن وقدمنا المدينة. تهمل: بفتح التاء والميم، موضع قرب المدينة، ويروى بالمثلاثة. تيدد: بفتح أوله وسكون المثناة التحتية ثم دالين مهملتين، تقدم في أسماء المدينة، وهو اسم موضع آخر من أودية الأجرد جبل جهينة، يلي وادي الحاضر به عيون صغار خيرها عين يقال لها أذينة، وعين يقال لها الطليل، وعيون تيدد كلها تدفع في أسنان الجبل فإذا أسهل بغراسها لم ينجب زرعها، وذلك أن صاحبها- وكان من جهينة- ذمها، وقال: هي في الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا أسهلت تيدد» فما أسهل منها فلا خير فيه، نقله الهجري، وقال رجل من مزينة في شيء وقع بينهم وبين جهينة في الجاهلية: فإن تشبعوا منا سباع رواوة ... فإن لها أكناف تيدد مرتعا تيس: بلفظ فحل المعز، أطم لبني عنان من بني ساعدة بمنازلهم. تيم: بفتحتين، عبر به ابن النجار ومن تبعه عن ثيت جبل شرقي المدينة، كما في حدود الحرم. تيماء: بالفتح والمد، بلدة على ثمان مراحل من المدينة، بينها وبين الشام، وسبق في تبوك أنها من توابع المدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 حرف الثاء الثاجة: بالجيم المشددة، ماء يثج بحرض وبحراض ناحية أخرى. ثافل: الأصغر وثافل الأكبر بالفاء، جبلان بعدوة غيقة اليسرى، عن يسار المصعد من الشام إلى مكة، ويمين المصعد من المدينة، بينهما ثنية لا تكون رمية سهم، وهما لضمرة وهم أصحاب غلال ويسار، وبينهما وبين رضوى وغرور ليلتان، قاله عرام. وقال الأسدي: الجبل الذي يقابل عين القشيري يمنة يقال له: ثافل، وهو يعاود الطريق مع العين التي تقابل الأثاية دون العرج بميلين. ثبار: ككتاب آخره راء، موضع على ستة أميال من خيبر، به قتل عبد الله بن أنيس أسير بن رزام اليهودي، ويروى بفتح أوله، وليس بشيء. ثجل: بالضم، موضع بشق العالية، تقدم شاهده في التعانيق. ثرا: بالكسر والقصر، موضع بين الرويثة والصفراء، أسفل وادي الجيّ. ثريا: بلفظ اسم النجم الذي في السماء، من مياه الضباب بحمى ضرية، ومياه لمحارب في جبل شعبي، قاله ياقوت. ثعال: كغراب، شعبة بين الروحاء والرويثة. ثغرة: بالضم والغين المعجمة ثم راء وهاء، ناحية من أعراض المدينة. الثمام: بالضم والتخفيف، ويقال الثمامة بلفظ واحدة الثمام للنبت المعروف، يضاف إليه صخيرات الثمام، ورواه المغاربة بالياء آخر الحروف بدل المثلاثة، وهو الموضع المعروف اليوم بالصخيرات، قال ابن إسحاق في المسير إلى بدر: مرّ على تربان، ثم على ملل، ثم على عميس الحمائم من مرتين، ثم على صخيرات اليمام، ثم على السيالة. ثمغ: بالفتح والغين المعجمة، مال بخيبر لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قاله المجد؛ لحديث الدارقطني أن عمر أصاب أرضا بخيبر يقال لها ثمغ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: احبس أصلها وتصدق بثمرتها، وفي البخاري أن عمر تصدق بمال يقال له ثمغ، وكان نخلا، الحديث، لكن تقدم في منازل يهود أن بني مزانة كانوا في شامي بني حارثة، وأن من آطامهم هناك الأطم الذي يقال له الشعبان في ثمغ صدقة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قاله ابن زبالة، وفي بعض طرق حديث صدقة عمر من رواية ابن شبة أن عمر رضي الله تعالى عنه أصاب أرضا من يهود بني حارثة يقال لها ثمغ. وذكر الواقدي اصطفاف أهل المدينة على الخندق في وقعة الحرة، ثم ذكر مبارزة وقعت يومئذ في جهة ذباب إلى كومة أبي الحمراء، ثم قال: كومة أبي الحمراء قرية من ثمغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وقال أبو عبيد البكري: ثمغ أرض تلقاء المدينة كانت لعمر، وذكره ابن شبة في صدقات عمر بالمدينة، وغاير بينه وبين صدقته بخيبر، وأورد لفظ كتاب صدقته، وفيه: ثمغ بالمدينة وسهمه من خيبر، وروى عن عمرو بن سعيد بن معاذ قال: سألنا عن أول من حبس في الإسلام، فقال قائل: صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الأنصار، وقال المهاجرون: صدقة عمر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة وجد أرضا واسعة بزهرة لأهل رابح وحسيكة، وقد كانوا أجلوا عن المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وتركوا أرضا واسعة منها براح ومنها ما فيه واد لا يسقي يقال له الحشاشين، وأعطى عمر منها ثمغا، واشترى عمر إلى ذلك من قوم من يهود، فكان مالا معجبا، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي مالا، وإني أحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احبس أصله وسبّل ثمره. فهذا كله صريح في كونه بالمدينة في شاميها، فكأن ما في رواية الدارقطني من تصرف بعض الرواة، وأن كلا من صدقتيه يسمى ثمغا. وعن ابن عمر قال: ثمغ أول ما تصدق به في الإسلام. وعن ابن كعب: أول صدقة في الإسلام وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المسور: فقلت: فإن الناس يقولون: صدقة عمر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ما أوصى له به مخيريق من أمواله على رأس اثنين وعشرين شهرا من الهجرة وتصدق بها، وإنما تصدق عمر بثمغ حين رجع من خيبر سنة سبع، ورواه ابن شبة أيضا. ثنية البول: بالباء الموحدة، بين ذي خشب والمدينة. ثنية الحوض: روى الطبراني عن سلمة بن الأكوع قال: أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقيق، حتى إذا كنا على الثنية التي يقال لها ثنية الحوض التي بالعقيق أومأ بيده قبل المشرق الحديث، وكأنها أضيفت إلى حوض مروان المتقدم في قصر أبي هاشم بن المغيرة بالعقيق، وأظنها ثنية المدرج. ثنية الشريد: تقدمت في الفصل الرابع. ثنية العاير: بمثناة تحتية قبل الراء، ويقال بالغين المعجمة، والإهمال هو الأشهر، وهي عن يمين ركوبة، سلكها النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة. ثنية عثعث: منسوبة إلى جبل يقال له سليع، كما سيأتي في عثعث، ويؤخذ من كلام ابن شبة أنها الثنية التي بقرب الجبيل الذي عليه حصن أمير المدينة، بينه وبين سلع، فذلك الجبيل هو سليع. ثنية مدران: بكسر الميم، تقدمت في مساجد تبوك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 ثنية المرّة: بالكسر وتشديد الراء، قرب ماء يدعى الأحياء من رابغ، لقي بها أبو عبيدة بن الحارث في سريته جمع المشركين، وقال ياقوت: ثنية المرة بتخفيف الراء يشبه تخفيف المرة من النساء، في حديث الهجرة أن دليلهما يسلك بهما الخ، ثم ثنية المرة، ثم لقفا، وهو أيضا في حديث سرية عبيدة بن الحارث، انتهى. وأما ثنية المرار: فبضم الميم أو كسرها، كما ذكره مسلم على الشك، وفتحها بعضهم، قال عياض: أراها بجهة أحد. قلت: الصواب ما قاله النووي من أنها عند الحديبية، قال ابن إسحاق: هي مهبط الحديبية، انتهى. ثنية الوداع: بفتح الواو، تقدم في أمكنة المدينة وحفظها من الوباء عن جابر أنه كان لا يدخل أحد المدينة إلا من ثنية الوداع، فإن لم يعشر بها مات قبل أن يخرج، فإذا وقف على الثنية قيل: قد ودع، فسميت ثنية الوداع، حتى قدم حروة بن الورد فلم يعشر، ثم دخل فقال: يا معشر يهود مالكم وللتعشير؟ قالوا: لا يدخلها أحد من غير أهلها فلم يعشر بها إلا مات، ولا يدخلها أحد من غير ثنية الوداع إلا قتله الهزال، فلما ترك عروة التعشير تركه الناس، ودخلوا من كل ناحية. وروى ابن شبة عنه أيضا قال: إنما سميت ثنية الوداع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من خيبر ومعه المسلمون قد نكحوا النساء نكاح المتعة، فلما كان بالمدينة قال لهم: دعوا ما في أيديكم من نساء المتعة، فأرسلوهن، فسميت ثنية الوداع. وفي الأوسط عنه قال: خرجنا ومعنا النساء اللاتي استمتعنا بهن، حتى أتينا ثنية الركاب، فقلنا: يا رسول الله هؤلاء النسوة اللاتي استمتعنا بهن، فقال: هن حرام إلى يوم القيامة، فودعناهن عند ذلك، فسميت بذلك ثنية الوداع، وما كانت قبل إلا ثنية الركاب. وأخرجه البخاري بلفظ: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاء نسوة كنا تمتعنا بهن يطفن برحالنا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، فغضب وقام خطيبا وأثنى على الله ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ، فسميت ثنية الوداع. وروى أبو يعلى وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فنزلنا ثنية الوداع، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصابيح، ورأى نساء تبكين تمتع منهن، فقال: حرم، أو قال: هذا المتعة والنكاح والطلاق والعدة والميراث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 وقال ابن إسحاق في غزوة تبوك: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي معه على جدة عسكره أسفل منه نحو ذباب، وقال ابن سعد في سرية مؤتة دون دمشق: وخرج النبي صلى الله عليه وسلم مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم، وعسكروا بالجرف. وفي البخاري عن السائب بن يزيد قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقّى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك، وكل هذه الروايات متظاهرة على أن هذه الثنية هي المعروفة بذلك اليوم في شامي المدينة بين مسجد الراية الذي على ذباب ومشهد النفس الزكية، يمر فيها المار بين صدين مرتفعين قرب سلع. ومن تأمل كلام ابن شبة في المنازل وغيرها لم يرتب في ذلك، وسوق المدينة كانت هناك. وتقدم في الدار التي أحدثها ابن هشام هناك بسوق المدينة ما يشهد لذلك، وأن ابن مكدم لما قدم من الشام وأشرف على ثنية الوداع صاح: مات الأحول، وأن الناس سألوه عن دار السوق، فقال: اهدموها، فابتدرها الناس. ويوضحه أيضا ما رواه ابن إسحاق في غزوة العالية حيث قال: أول من نذر بهم سلمة، غدا ومعه قوسه وهو يريد الغابة، فلما أشرف على ثنية الوداع نظر إلى الجبل، فعلا في سلع ثم صرخ: وا صباحاه، انتهى. وأحد صدى هذه الثنية المعروفة اليوم متصل بسلع. وفي خبر رواه البيهقي عن أبي قتادة أنه أسرج فرسه، ثم نهض حتى أتى الزوراء، فلقيه رجل، فقال: يا أبا قتادة، تشوط دابتك وقد أخذت اللقاح، وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها وأصحابه، فقال: أين؟ فأشار له نحو الثنية، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه جلوسا عند ديار، وذكر قصته في غزوة الغابة. والزوراء: في قبلة هذه الثنية، وذباب: في شاميها. وقال الحافظ ابن حجر في حديث الهجرة: أخرج ابن سعد في شرف المصطفى وروينا في فوائد الخلعي بسند معضل عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الولائد يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعي قال: ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 قلت: وذلك لأن ثنية الوداع ليست من جهة طريق مكة، على أني أقول: إن ذلك لا يمنع من كونه في الهجرة عند القدوم من قباء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ركب ناقته، وأرخى لها زمامها، وقال: دعوها فإنها مأمورة، ومر بدور الأنصار كما سبق، حتى مر ببني ساعدة، ودارهم في شاميّ المدينة قرب ثنية الوداع، فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية حتى أتى منزله بها، وقد عرج النبي صلى الله عليه وسلم في رجوعه من بدر إلى ثنية الوداع؛ لما في مغازي ابن عقبة أنه صلى الله عليه وسلم سلك حين خرج إلى بدر حتى ثقب بني دينار، ورجع حين رجع من ثنية الوداع. وذكر البيهقي في الدلائل في القدوم من غزوة تبوك الخبر في قول النساء والصبيان والولائد طلع البدر علينا إلى آخره، ثم قال: وهذا يذكره علماؤها عند مقدمه المدينة من مكة، وقد ذكرناه عنده، إلا أنه إنما قدم المدينة من ثنية الوداع عند مقدمه من تبوك، انتهى. وقد تقدم ما يوضح ذلك. وقال عياض: ثنية الوداع موضع بالمدينة على طريق مكة، سمي بذلك لأن الخارج منها يودعه مشيعه، وقيل: لوداع النبي صلى الله عليه وسلم بعض المسلمين المقيمين بالمدينة في بعض خرجاته، وقيل: ودّع فيها بعض أمراء سراياه، وقيل: الوداع واد بمكة كذا قاله المظفر في كتابه، وحكى أن إماء أهل مكة قلنه في رجزهم عند لقاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، خلاف ما قاله غيره من أن نساء أهل المدينة قلنه عند دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة والأول أصح؛ لذكر الأنصار ذلك مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فدل على أنه اسم قديم لها، اه. وقال الحافظ ابن حجر في خبر السائب بن يزيد المتقدم: إن الداودي أنكره، وتبعه ابن القيم، وقال: ثنية الوداع من جهة مكة، لا من جهة تبوك، بل هي في مقابلها كالمشرق من المغرب، إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة، قال ابن حجر عقبه: ولا يمنع كونها من جهة مكة أن يكون الخارج إلى جهة الشام من جهتها. ثم ذكر رواية الخليعات في قول النسوة، وقال: قيل كان ذلك عند قدوم الهجرة، وقيل: عند القدوم من غزوة تبوك، اه. ومراد الداودي حيث وصف الثنية بما ذكره أنها موضع لا يسلكها الخارج إلى جهة الشام، فكيف يجاب بهذا؟ وسيأتي في المدرج أنه الثنية المشرفة على العقيق والمدينة، وأنها ثنية الوداع عند من ذهب إلى أنها من جهة مكة، فهي كما قال الداودي وقد تبعه المجد فصرح به في ترجمة المدرج، وقال هنا: هي ثنية مشرفة على المدينة، يطؤها من يريد مكة، وقيل: من يريد الشام، واختلف في تسميتها بذلك فقيل: لأنها موضع وداع المسافرين من المدينة إلى مكة، وقيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودّع بعض من خلفه بالمدينة في آخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 خرجاته، وقيل: في بعض سراياه المبعوثة عنه، وقيل: الوداع اسم واد بمكة، والصحيح أنه اسم قديم جاهلي، سمي به لتوديع المسافرين، وهكذا قال أهل السير والتاريخ وأصحاب المسالك إنها من جهة مكة، وأهل المدينة اليوم يظنونها من جهة الشام، وكأنهم اعتمدوا قول ابن قيم الجوزية في هديه فإنه قال: من جهة الشام ثنيات الوداع، ولا يطؤها القادم من مكة البتة، ووجه الجمع أن كلتا الثنيتين تسمى بثنية الوداع، اه كلام المجد. والظاهر أن مستند من جعلها من جهة مكة ما سبق من قول النسوة، وأن ذلك عند القدوم من الهجرة، مع الغافلة عما قدمناه في توجيهه، وهو في الحقيقة حجّة لمن ذكرها في جهة الشام، ولم أر لثنية الوداع ذكرا في سفر من الأسفار التي بجهة مكة، وما نقله المجد عن ابن القيم هو الموجود في هديه، فإنه قال في ذكر القدوم من تبوك ما لفظه: فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعي وبعض الرواة وهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه المدينة من مكة، وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، اه. وهو مخالف لما نقله عند الحافظ ابن حجر، وإن سلم الجمع الذي ذكره المجد من أن كلا من الثنيتين يسمى بذلك فالمراد من الأخبار المتقدمة كلها الموضع المتقدم بيانه في شامي المدينة، وكذلك من حديث السباق في أمد الخيل المضمرة أنه من الغابة أو الخفيا إلى ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق؛ لانطباق المسافة المذكورة في ذلك على الموضع المتقدم، كما سبق في مسجد بني زريق، وكما سيأتي في الخفيا، مع أن ما بين بني زريق وثنية المدرج لا يصلح للسباق أصلا، وهو على نحو ضعفي ما ذكروه في المسافة. ثور: بلفظ فحل البقر، تقدم مستوفى في حدود الحرم. ثيب: تقدم في حدود الحرم أيضا. حرف الجيم الجار: قرية كثيرة الأهل والقصور، بساحل المدينة، ترد السفن إليها، قاله في المشارق، وقال ياقوت: الجار مدينة على ساحل بحر اليمن، وهي فرضة المدينة، بينها وبين المدينة يوم وليلة، ينسب إليها عبد الملك الجاري مولى مروان بن الحكم، وسيأتي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 عن المجد في السرير أنه بقرب الجار، وهي فرضة أهل السفن الواردة من مصر والحبشة إلى المدينة، قال المجد عقبه: والجار بينه وبين المدينة يوم وليلة، انتهى. ومقتضاه أن الفرضة السرير، لا الجار، وسيأتي عنه في عدينة أن الجار بلد على البحر قرب المدينة. جاعس: بكسر العين ثم سني مهملتين، أطم بمنازل بني حرام، غربي مساجد الفتح. جبار: بالفتح وتخفيف الموحدة آخره راء، موضع بجهة الحباب من أرض غطفان. الجبّانة: كندمانة، أصله المقبرة، وهو موضع شامي المدينة، وسيأتي في ذباب عن البكري أنه بالجبانة، وسبق ذكرها في منازل القبائل، بمنزل بني الديل وبني ذكوان وبني مالك بن حمار، وكذا في أسراب البلاط، وكذا في حديث عمر لما زاد في المسجد من شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى نبلغ به الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. جبل بني عبيد: بمنازلهم غربي مساجد الفتح. جبل جهينة: تقدم في منازلهم. الجبوب: بالفتح وموحدتين من تحت بينهما واو، الأرض الغليظة، وجبوب المصلى: بالمدينة في قول أبي قطيفة: جبوب المصلّى أم كعهدي القرائن قاله ياقوت: الجثا: بالضم وتخفيف الثاء المثلاثة والقصر، أصله الحجارة المجتمعة، وهو موضع بين فدك وخيبر. الجثجاثة: تقدم بيانها في آخر مساجد المدينة وأن سيل العقيق يفضي إليها، ثم إلى حمراء الأسد، والجثجاثة أيضا: ماء لغني بحمى فيد، وقال: بقرب حمى ضرية، ورأيته في كتابه بإسقاط الجيم الثانية، ولعله غلط من الناسخ، وقال: إنه أيضا بادية من بوادي المدينة. جحاف: بالفتح وتشديد الحاء المهملة، مال بالعالية، بجانب سميحة، ويقال له قديما: مال جحفاف، كان به أطم لبعض من كان هناك من اليهود. الجحفة: بالضم وسكون الحاء المهملة، أحد المواقيت، قرية كانت كبيرة ذات منبر، على نحو خمس مراحل وثلثي مرحلة من المدينة، وعلى نحو أربع مراحل ونصف من مكة، وكانت تسمى أولا «مهيعة» كما سيأتي. الجداجد: بجيمين ودالين مهملتين، جمع جديد، وهي الأرض المستوية، وفي سفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 الهجرة: سلك بطن ذي كشب، ثم على الجداجد، ثم على الأجرد، قال المجد: وكأنها آبار؛ لقوله في الحديث «أتينا على بئر جدجد» قال أبو عبيد: الصواب بئر جد، يعني قديمة، ويقال «بئر جدجد» أيضا. جد الأثافي: بالضم والتشديد، البئر القديمة، والأثافي: جمع أثفية، وهي الحجارة التي يوضع عليها القدر، وهو موضع بالعقيق. جد الموالي: بالعقيق أيضا، قاله المجد، وتقدم في أودية العقيق: جد الموالي، ثم جد الأثافي، ثم ذو أثيفية. ذو الجدر: بسكون الدال، لغة في الجدار، مسرح على ستة أميال من المدينة بناحية قباء، كانت به اللقاح التي أغير عليها، وسيل بطحان يأخذ من ذي الجدار كما سبق عن ابن شبة، قال: والجدر قرارة في الحرة يمانية من حليات الحرة العليا حرة معصم وهو جبل. جذمان: كعثمان والذال معجمة، موضع به أطم من آطام المدينة، قطع تبّع نخله لما غزاهم، والجذم، القطع، قاله المجد. وتقدم أن تبعا أمر بحرق نخل أحيحة بن الجلاح الجحجبي لما تحصن بحصنه، وهو من الأوس، وتقدم قول بعض الخزرج مفتخرا عليهم: هلم إلى الجلاح إذ رقّ عظمهم ... وإذ أصلحوا مالا بجذمان ضائعا وقال قيس بن الخطيم لما ظهروا على الخزرج ببعاث: كان رؤوس الخزرجيين إذ بدت ... كتائبنا تترى مع الصبح حنظل فلا تقربوا جذمان إنّ حراره ... وجنته تأذى بكل فتحملوا وأذى يأذى بمعنى تأذى يتأذى. الجراديح: بالفتح والدال المهملة آخره حاء، ثنيات سود بين سويقية ومثعر، وشاهدها في مثعر. الجرف: بالضم ثم السكون، قاله المجد، وهو تابع لياقوت في ذلك، والذي قاله أبو بكر الحازي وأبو عبيد البكري: إنه بضم أوله وثانيه. وقال عياض: هو بضم الجيم والراء، موضع بالمدينة، فيه أموال من أموالها، وبه كان مال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو على ثلاثة أميال من المدينة من جهة الشام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وفي طبقات ابن سعد: مات المقداد بالجرف، على ثلاثة أميال من المدينة، فحمل على رقاب الرجال حتى دفن بالبقيع، وسبق في حدود العقيق أن الجرف ما بين محجّة الشام إلى القصاصين، وتقدم أن العرصة الكبرى التي بها بئر رومة تختلط بالجرف فتتسع، قالوا: سمي الجرف لأن تبعا مر به لما شخص من منزله بقناة فقال: هذا جرف الأرض، وكان يسمى قبل ذلك العرض. قال كعب بن مالك يوم أحد: فلما هبطنا العرض قال سراتنا ... علام إذا لم نمنع العرض نزرع وروى ابن زبالة أن تبعا بعث رائدا ينظر إلى مزارع المدينة، فأتاه فقال: قد نظرت، فأما قناة فحب ولا تبن، وأما الجرار فلا حب ولا تبن، وأما الجرف فالحب والتبن، وسيأتي في الزاي أن الزين مزرعة في الجرف ازدرعها النبي صلى الله عليه وسلم. وفي طبقات ابن سعد أن أبا بكر أقطع الزبير الجرف، وروى المجد أن عثمان رضي الله تعالى عنه خلج خليجا حتى صبّه في باطن بلد من الجرف، وجعله لبناته من نائلة بنت الفرافصة، وأنه استعمل فيه ثلاثة آلاف من سبي بعض الأعاجم، وذكر أن من أموال الجرف بئر جشم وبئر جمل. جرّ هشام: سقاية لهشام بن إسماعيل، تقدمت في قصر أبي هاشم بالعقيق. الجزل: بالفتح وسكون الزاي، لغة الحطب اليابس، يضاف إليه واد يلقى إضم بذي المروة، ويضاف إليه سقيا الجزل، وبه قبر طويس المخنّث المغنّي. جزيرة العرب: تقدم في أسماء المدينة على رأي، وقال الأعرابي: هي من حفر أبي موسى على خمس مراحل من البصرة إلى حضرموت إلى العذيب ومن جدة وسواحل اليمن إلى أطراف الشام، وقال الأصمعي: هي من العذيب إلى عدن أبين في الطول، والعرض من الأيلة إلى جدة، وهي أربعة أقسام: اليمن، ونجد، والحجاز، والغور، وهو تهامة. وقيل: سميت بذلك لإحاطة البحار بها من أقطارها، يعني بحر الحبشة والفرس ودجلة والفرات، وقيل: هي كل بلد لم يملكه الروم ولا فارس، ونسب للأصمعي، والذي رأيته في جزيرة العرب له ما تقدم. جسر بطحان: كان عنده سوق بني قينقاع، وتقدم في بطحان أن سيله حين يأتي يفضى إلى فضاء بني خطمة والأعرس، ثم يسير حتى يرد الجسر، ثم يستبطن وادي بطحان؛ فالجسر عند أعلى بطحان بناحية الموضع المعروف اليوم بزقاق البيض. جفاف: بالكسر وفاءين بينهما ألف، معروف بالعالية، به حدائق حسنة. الجفر: ما بلغ أربعة أشهر من أولاد الشاء، والبئر إذا لم تطو أو طوى بعضها، وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 اسم عين بناحية صريّة، وبقرب فرش ملل ماء يعرف اليوم بالجفر، وأظنه المعنى بقول الهجري عقب ما سيأتي عنه في معلاوين: وبمعلى الحرومة ماء يقال له جفر الرغباء، كان لطلق بن أسعد، ثم صار لعبد الله بن حسن. الجلسي: بالفتح، أرض نجد، والجلسي من أرض القبلية: ما ارتفع منها، والغوري: ما انهبط. جلية: تصغير الجلي وهو الواضح وزيادة هاء التأنيث، موضع قرب وادي القرى. جماوات: جمع جماء، بالفتح وتشديد الميم والمد، وهن ثلاث تقدمن في الفصل الرابع، وجعلهن المجد واحدة، فقال: الجماء جبل بالمدينة على ثلاثة أميال من ناحية العقيق إلى الجرف، قال الزمخشري: الجماء جبيل بالمدينة، سميت بذلك لأن هناك جبلين هي أقصرهما، فكأنها جماء، وقال أبو الحسن المهلبي: هما جماوان، وهما هضبتان على يمين الطريق، ثم حكى المجد تعددها على نحو ما قدمناه، وسبق شاهد الجماء في قصر سعيد بن العاص. جمدان: بالضم ثم السكون وإهمال الدال، من منازل أسلم، بين قديد وعسفان، قاله عياض، وعن أبي بكر بن موسى أنه جبل بين ينبع والعيص على ليلة من المدينة، وقيل: واد بين ثنية عرال وأمج. وقال الأسدي: وخلف أمج بميل وادي الأزرق، وفي الوادي عين، وبين العين والوادي جبل يقال له جمدان، على يمين الطرق، وفي الحديث «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمدان، فقال: سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون» وقال الأزهري: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم في طريق مكة على جبل يقال له بجدان، هكذا عنده بالباء الموحدة، وعند غيره جمدان تثنية جمد، وكأنه صلى الله عليه وسلم لما رآه ذكر قول زيد بن عمرو العدوى أو ورقة بن نوفل: سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له ... وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد فذكر أصحابه بتسبيح الجمد الذي هذا تلبيته في القديم، مع كونه جمادا، فإنه جبل لبني نصر بجهة نجد، ويذكر الجاهلية لذلك، وإن ذكر الله سبب السبق والتقدم، ويحتمل أنه لما كان الذكر مطلوبا في الصعود وهبوط الأودية قارن رؤية جمدان أحد الأمرين فذكرهم بذلك، أي هذا جمدان صعدتم ثنيته أو هبطتم واديه فاذكروا الله، أو هو سبب السبق، ويحتمل أيضا أنه صلى الله عليه وسلم تذكر برؤيته تلبية موسى عليه السلام عنده؛ لما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بوادي الأزرق فقال: كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية له جؤار، وجمدان بوادي الأزرق؛ فاتضح ما أشكل على ياقوت حيث قال: لا أدري ما الجامع بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 سبق المفردين ورؤية جمدان، ومعلوم أن الذاكر سابق، قال: ولم أر أحدا ذكر في ذلك شيئا. الجموح: بالفتح، ما بين قباء ومران على جهة طريق البصرة، وذكر أبو عبيدة الجموح وعرفة، يعني الذي بمكة، ثم قال: والجموح الذي دون قباء، انتهى، وليس المراد قباء المدينة كما ستأتي الإشارة إليه، قال المجد: والجموح أيضا أرض لبني سليم، وبها كانت إحدى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث زيد بن حارثة إلى بني سليم فسار حتى ورد الجموح ناحية بطن نخل عن يسارها. قلت: والذي يظهر أنها المذكورة أولا. الجمة: بالفتح وتشديد الميم، قال الكمال الدميري: عين بأحد أودية خيبر، سماها النبي صلى الله عليه وسلم قسمة الملائكة، يذهب ثلثا مائها في فلج، والثلث الآخر في فلج الآخر والمسلك واحد، وقد اعتبرت من زمان النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم يطرح فيها ثلاث خشبات أو تمرات تذهب اثنتان في الفلج الذي له الثلثان وواحدة في الآخر، ولا يقدر أحد أن يأخذ من ذلك الفلج أكثر من الثلث، ومن قام في الفلج الذي يأخذ الثلثين ليردّ الماء إلى الآخر غلبه الماء وفاض ولم يرجع إلى الفلج الآخر شيء يزيد على الثلث، قاله البكري وغيره، والفلج: النهر الصغير، اه. الجناب: بالكسر، موضع بعراض خيبر، وقيل: من منازل بني مازن، وقال نصر: الجناب من ديار بني فزارة، بين المدينة وفيد، وفي طبقات ابن سعد: الجناب أرض عذرة وبلى، وقال سحيم الرياحي: تحمل من وادي الجناب فناشني ... بأجماد جوّ من وراء الخضارم جنفاء: بالتحريك والمد والقصر، وقد يضم أوله أيضا في الحالتين، قال ابن سعد: كان ينزل بها أبو الشموس البلوي الصحابي. وعن ابن شهاب: كانت بنو فزارة ممن قدم على أهل خيبر ليعينوهم، فراسلهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوهم، وأن يخرجوا عنهم، ولهم من خيبر كذا وكذا، فأبوا، فلما فتح الله خيبر قالوا: حظنا والذي وعدتنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: حظكم أو قال «لكم» ذو الرقيبة بجبل من جبال خيبر، فقالوا: إذا نقاتلك، فقال: موعدكم جنفاء، فخرجوا هاربين، وفي بعض طرقه: جنفاء ماء من مياه بني فزارة، وجنفاء أيضا: موضع بين خيبر وفيد، قال ياقوت: وهو الذي وقع ذكره في غزوة خيبر، وضلع الجنفاء: موضع بين الربذة وضرية، من ديار محارب، على جادة اليمامة إلى المدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 الجنينة: تصغير جنة للبستان، تقدمت في أودية العقيق، ثم ماء يدفع في إضم، وهو عقدة بين ظلم وملحتين، والجنينة أيضا: قرب وادي القرى، ووجه الجنينة: بين ضربة وحزن بني يربوع. الجواء: بالكسر والمد، ماء بحمى ضرية. الجوانية: بالفتح وتشديد الواو وكسر النون وياء مشددة وحكى تخفيفها، موضع، وقيل: قرية قرب المدينة، إليها ينتسب بنو الجواني العليون، قاله المجد، وقال عياض: قال البكري: كأنها نسبت إلى جوان، وهي أرض من عمل المدينة من جهة الفرع، انتهى. والصواب قول النووي: إنها موضع قرب أحد، في شامي المدينة، لذكرها في منازل يهود بالمدينة، وسبق أنه كان لهم بها من الآطام صرار والريان، وصارا لبني حارثة وسبقا في منازلهم، فالجوانية هناك بطرف الحرة الشرقية مما يلي الشام، وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي عند أبي داود قال: قالت جارية لي كانت ترعى غنيمات قبل أحد والجوانية، الحديث. الجبار: ككتاب، موضع من أرض خيبر. ذات الجيش: بالفتح وسكون التحتية، ويقال: أولات الجيش، تقدمت في الحرم، وأنها على ستة أميال من ذي الحليفة وعن ابن وهب أنها على ستة أميال من العقيق، وكأنه أراد من طرفه الذي بذي الحليفة، ويقرب منه قول ابن وضاح: هي على سبعة أميال من العقيق، وقال ابن القاسم: بينها وبين العقيق عشرة أميال، وعن الثعلبي اثنا عشر ميلا، وقيل: بينهما ميلان، ويقال: إن قبر نزار بن معد وقبر ابنه ربيعة بن نزار بذات الجيش، وهي أحد منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وفي غزاة بني المصطلق، وهناك نزلت آية التيمم وهي ممر طريق مكة، وقد ذكرها الشعراء، قال عروة بن أذينة: كاد الهوى يوم ذات الجيش يقتلني ... لمنزل لم يهج للشوق من صقب وقال جعفر بن الزبير: لمن ربع بذات الجي ... ش أمسى دارسا خلفا كلفت بهم غداة البي ... ن مرّت عيسهم حزقا تنكّر بعد ساكنه ... فأمسى أهله فرقا علونا ظاهر البيدا ... ؤ المحزون من قلقا ذو الجيفة: بالكسر، بين المدينة وتبوك، وكذا اقتصر عليه المجد هنا، مع ذكره لما سبق عنه في مساجد تبوك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 الجي: بالكسر وتشديد الياء، تقدم في مساجد طريق مكة، قال الأسدي: وبه منازل وبئران عذبتا الماء، انتهى. وهو في سفح الجبل الذي سال بأهله وهم نيام، وينتهي عنده ورقان. حرف الحاء حاجر: موضع غربي النقا إلى منتهى حرة الوبرة، من وادي العقيق، فمنه المدح وما والاه، وهذا هو المذكور في الأشعار، لا الذي هو في منازل الحاج بالبيداء، وحاجر الثنيا معروف بطريق مكة. حاطب: بكسر الطاء، طريق بين المدينة وخيبر، سيأتي حديثه في مرحب حالة: واحدة الحال، موضع عند حرة الرجلاء. حائط بني المداش: بفتح الميم والدال المهملة وألف وشين معجمة، موضع بوادي القرى، أقطعهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسب إليهم. حبرة: بالكسر، أطم بالمدينة، قاله الصغاني، وقال ابن زبالة: إن بني قينقاع كان لهم أطمان عند الحشاشين، عند المال الذي يقال له خيبر. قلت: وأظنه بالحاء ثم الموحدة. حبس: بالضم ثم السكون، جبل لبني مرة، قاله الزمخشري، وقال غيره: هو بين حرة بني سليم والسوارقية، وفي الحديث «تخرج نار من حبس سيل» قال نصر: حبس سيل بالفتح إحدى حرتي بني سليم، وهما حرتان، فيهما فضاء، كلتاهما أقل من ميلين، وقال الأصمعي: الحبس جبل مشرف على الثلما، لو انقلب لوقع على أهلها، وهم بنو قرة، وأنشد: سقى الحبس وسميّ السحاب ولا يزل ... عليه روايا المزن والدّيم الهطل والسد الذي أحدثته النار يسمى اليوم بالحبس. الحبيش: بالضم مصغرا آخره شين معجمة، أطم لبني عبيد بمنازلهم، غربي مساجد الفتح، عند جبل بني عبيد. الحت: بالضم والمثناة من فوق، من جبال القبلية لبني عرك من جهينة. حثاث: بالكسر وثاءين مثلثتين، عرض من أعراض المدينة. الحجاز: بالكسر، مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، قاله الشافعي، وقال عياض: هو ما بين نجد والسّراة، قال الأصمعي: سميت بذلك لأنها حجزت بالحرار الخمس. قلت: الذي في جزيرة العرب له بعد التقسيم السابق فيها أن ما ارتفع عن بطن الرمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق، وما احترمت به الحرار حرة سوران وحرة ليلى وحرة واقم وحرة النار وعامة منازل بني سليم إلى المدينة فذلك الشق كله حجاز، وما بين ذات عرق إلى البحر غور تهامة، وطرف تهامة من قبل الحجاز مدارج العرج، فكأنه الخامسة حرة بني سليم، أخذ من قوله عامة منازل بني سليم، وعليه فالمدينة حجازية بخلاف مكة، ولهذا قال بعده: والحجاز اثنتا عشرة دارا: المدينة، وخيبر، وفدك والمروة، ودار بلى، ودار أشجع، ودار مزينة، ودار جهينة، ونفر من هوازن، وجل سليم، وجل هلال، وظهر حرة ليلي. ثم قال: ومما يلي الشام شغب وبدا اللذين يقول فيهما جميل: لعمري قد حبّبت شغبا إلى بدا ... إليّ، وأوطاني بلاد سواهما والحد الثالث مما يلي تهامة بدر والسقيا ورهاط وعكاظ، والرابع شانه وودان، ثم ينعرج إلى الحد الأول بطن نجد، وقال في موضع آخر وأظنه تتمة كلام عن غيره ما لفظه: والحجاز من تخوم صنعا من الغيلا وتبالة إلى تخوم الشام، وإنما سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد؛ فمكة تهامية، والمدينة حجازية. ثم قال: وقال عمارة: ما سال من حرة بني سليم وحرة ليلي فهو الغور حتى يقطعه البحر، وما سال من ذات عرق مغربا فهو الحجاز إلى أن تقطعه تهامة، وهو حجارة سود تحجز بين نجد وتهامة، وما سال من ذات عرق مقبلا فهو نجد إلى أن يقطعه العراق. وقال الأصمعي: إنما سميت الحجاز حجازا لأنها احتجزت الجبال. فدل على أن ما تقدم من كلام غيره على ما ذكر الأصمعي يكون الحجاز بمعنى المحجوز، وعلى ما تقدم عن غيره يكون بمعنى الحاجز، وحكاهما الدميري بقوله: سمي الحجاز حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد، وقيل: لاحتجازه بالحرار الخمس، وهي حرة واقم، وحرة راجل بالراء والجيم، وحرة ليلى، وحرة بني سليم، وحرة النار، وحرة وبرة، انتهى. وقال أبو المنذر: الحجاز ما بين جبلي طيئ إلى طريق العراق لمن يريد مكة، سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد، وقيل لأنه حجز بين نجد والسراة، وقيل: لأنه حجز بين الغور والشام، وبين تهامة ونجد، وقال بعضهم: جبل السّراة أعظم جبال العرب حجزا، وهو الحد بين تهامة ونجد، وقال بعضهم: جبل السّراة أعظم جبال العرب حجزا، وهو الحد بين تهامة ونجد، وذلك أنه أقبل من قعر اليمن حتى بلغ أطراف الشام، فسمته العرب حجازا؛ لأنه حجز بين الغور وهو هابط وبين نجد وهو ظاهر، وأما ما انحاز إلى شرقيه فهو الحجاز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وقسم بعضهم جزيرة العرب خمسة أقسام: تهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن، وقال عرّام: الحجاز من معدن البصرة إلى المدينة، فنصف المدينة حجازي، ونصفها تهامي، ومن القرى الحجازية بطن نخل، ونجد أنخل جبل يقال له الأسود نصفه حجازي ونصفه نجدي، انتهى. وقال ابن شبة: المدينة حجازية، وقال الحرقي: إن تبوك وفلسطين من الحجاز، وتقدم في ظهور نار الحجاز أن الشافعي نصّ على أن المدينة ومكة يمانيتان، مع الحديث الوارد في بيان الشام من اليمن، وأن النووي قال: المدينة ليست شامية ولا يمانية، بل حجازية، وتقدم في العروض من أسمائها أنها نجدية، وكأن بعض. الأسماء يطلق على بعض بحسب الاعتبار، وقد أكثر الشعراء من ذكر الحجاز، قال أشجع بن عمرو الأسلمي: بأكناف الحجاز هوى دفين ... يؤرّقني إذا هدت العيون أحنّ إلى الحجاز وساكنيه ... حنين الإلف فارقه القرين وأبكى حين ترقد كلّ عين ... بكاء بين زفرته أنين وقال أعرابي: كفى حزنا أني ببغداد نازل ... وقلبي بأكناف الحجاز رهين إذا عنّ ذكر للحجاز استفزّني ... إلى من بأكناف الحجاز حنين حجر: بالكسر وسكون الجيم بعدها راء، وعوام المدينة يفتحون الحاء، والصواب الكسر، قال عرّام عند ذكر نواحي المدينة وذكر الأرحضية، ثم قال: وحذاءها قرية يقال لها حجر، وبها آبار وعيون لبني سليم خاصة، وحذاءها جبل يقال له قبة الحجر، قاله المجد ظنا منه أن عرّاما أراد القرية المعروفة اليوم قرب الفرع بحجر بالفتح كحجر الإنسان، وعرّام لم يردها؛ إذ ليست بجهة الأرحضية، وبقرب الأرحضية اليوم موضع يعرف بالحجرية بالكسر، فيه آبار ومزارع، فهو الذي أراد عرّام وكذا ياقوت حيث قال: حجر بالكسر ويروى بالفتح أيضا قرية من ديار بني سليم بالقرب من قله وذي رولان، انتهى. والحجر بالكسر أيضا: قرية على يوم من وادي القرى، بين جبال، بها كانت منازل ثمود، وبيوتها في أضعاف جبال تسمى الأثالث، وهناك بئر ثمود. حديلة: كجهينة والدال مهملة، يضاف إليها منازل بني حديلة من بني النجار، وكان بها دار لعبد الملك بن مروان. حراض: بالضم آخره ضاد معجمة، واد من أودية الأشعر، في شامي حورة، ليس به إلا ماء سيح يقال له الثاجية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 حربي: كان اسما لما بين مسجد القبلتين إلى المذاد، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم وسماه صلحة، كما سيأتي في الصاد، قاله المجد هنا وخالفه في قاموسه فذكرها في الخاء المعجمة، وقال: سماها صالحة، وسنذكره في الخاء المعجمة لأنه الأظهر، ورأيته كذلك في خط المراغي، وقال: فسماها طلحة، وكذا هو في نسخة ابن زبالة. حرض: بضمتين وضاد معجمة، واد عند أحد، وقد تفتح راؤه، والأول أرجح؛ لأنه لغة الأشنان، وهو كثير النبات بذلك الوادي، ويقال له: «ذو حرض» من أجل ذلك، وقال حكيم بن عكرمة يتشوق إلى المدينة: إلى أحد فذي حرض فمبنى ... قباب الحي من كنفي صرار وبه أوقع أبو جبيلة بيهود فقالت سارة القرظية: بأهلي رمة لم تغن شيئا ... بذي حرض تعفيها الرياح وقال كثير: أربع فحيّ معارف الأطلال ... بالجزع من حرض فهن بوال قال ابن السكيت: حرض هنا واد من أودية قناة بالمدينة على ميلين، أي وهو المتقدم، قال: وذو حرض واد على خمسة أميال من معدن البصرة لبني عبد الله بن غطفان، له ذكر في شعر زهير. حرة أشجع: ستأتي في حرة النار. حرة حقل: بوادي آرة. حرة الحوض: بين المدينة والعقيق، يقال لها: حرة حوض زياد بن أبي سفيان، قاله ياقوت. حرة راجل: في بلاد بني عبس، نقله ياقوت عن أحمد بن فارس، قال النابغة: تؤم بربعيّ كأن زهاءه ... إذا هبط الصّحراء حرة راجل حرة الرّجلى: بديار بني القين، بين المدينة والشام، سميت بذلك لأنه يترجل فيها ويصعب المشي، وفي الصحاح: حرة رجلى أرض مستوية، كثيرة الحجارة، يصعب المشي فيها، وفي القاموس: وحرة رجلى كسكرى ويمد، حرة خشنة يترجّل فيها، أو كثيرة الحجارة، وقال ابن شبة في صدقات علي: وله بحرة الرّجلاء من ناحية شعب زيد واد يدعى الأحمر شطره في الصدقة وشطره بأيدي آل مناع وبني عدي منحة من علي، وله أيضا بحرة الرّجلى واد يقال له البيضاء فيه مزارع وعفا، وهو في الصدقة، ثم قال: وله بناحية فدك بأعلى حرة الرجلى مال يقال له القصيبة، وسيأتي في روضة الأجداد أن وادي القصيبة قبلى خيبر وشرقي وادي عصر، وقال الراعي من أبيات: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وقلت والحرة الرّجلاء دونهم ... وبطن لجان لما اعتادني ذكرى صلى على عزّة الرحمن وابنتها ... ليلي وصلى على جاراتها الآخر حرة رماح: بضم الراء والحاء المهملة، وبالدهناء. قالت امرأة من العرب: سلام الذي قد ظنّ أن ليس رائيا ... رماحا ولا من حرتيه ذرى خضرا حرة زهرة: بضم الزاي، من حرة واقم. حرة بني سليم: تحت قاع النقيع يعني الحمى شرقيا، وفيها رياض وقيعان، ويدفع ذلك في قاع البقيع كما نقله الهجري. حرة شوران: تأتي في الشين المعجمة، وهي صدر مهزور كما سبق. حرة عباد: حرة دون المدينة. قال عبيد الله بن ربيع: أبيت كأني من حذار قضائه ... بحرة عباد سليم الأساود حرة بني العضيدة: بضم العين وفتح الضاد المعجمة، غربي وادي بطحان كما سبق في منازل القبائل. حرة قباء: قبل المدينة، لها ذكر في الحديث. حرة ليلي: مرة بن عوف بن سعد من غطفان، يطؤها الحاجّ الشامي في طريقه إلى المدينة، وعن بعضهم أنها من وراء وادي القرى من جهة المدينة، فيها نخل وعيون، وقال بعضهم: هي في بلاد لبني كلاب، قال الرماح المري وقد أمره عبد الملك بالمقام: ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بحرّة ليلى حيث زينني أهلي بلاد بها نيطت عليّ تمائمي ... وقطّعن عنّي حين أدركني عقلي حرة معصم: هي الحرة العليا التي بها ذو الجدر، منها يأخذ سيل بطحان. حرة ميطان: وهو جبل شرقي بني قريظة. حرة النار: بلفظ النار المحرقة، قرب حرة ليلى، وقيل: حرة لبني سليم، وقيل: بمنازل جذام ويلي وعذرة، وفي القاموس: هي قرب خيبر، وقال عياض: حرة النار في حديث عمر من بلاد بني سليم بناحية خيبر، وقال نصر: حرة النار بين وادي القرى وتيماء من ديار غطفان وبها معدن. وذكر الأصمعي حرة فدك في تحديد بعض الأودية، ثم قال: وحرة النار فدك، وفدك قرية بها نخيل وصوافي، فاقتضى أنها بفدك، وهي التي سالت منها النار التي أطفأها خالد بن سنان عن قومه، لما سبق في نار الحجاز أن قومه سالت عليهم نار من حرة النار في ناحية خيبر، تأتى من ناحيتين جميعا، وفي رواية: تخرج من جبل من حرة أشجع، وفي رواية: أنهم طلبوا منه إسالة الحرة نارا ليؤمنوا به، فدعا الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 فسالت عليهم، قال الراوي: فرأيتنا نعشى الإبل على ضوء نارها ضلعا الربذة، وبين ذلك ثلاث ليال، وفي رواية: أن نار الحديان خرجت بحرة النار حتى كانت الإبل تعشى بضوئها مسيرة إحدى عشرة ليلة. وفي الحديث أن رجلا أتى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال عمر: ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، قال: ممن أنت؟ قال: من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال: حرة النار، قال: بأيها؟ قال: بذات اللظى، فقال عمر: أدرك الحي لا يحترقوا وفي رواية «فقد احترقوا» قيل: إنه رجع إلى أهله فوجد النار قد أحاطت بهم. ولها ذكر في شعر النابغة، وسماها أم صبار، وقال أبو المهند الفزازي: كانت لنا أجبال حسمى فاللوى ... وحرة النار فهذا المستوى ومن تميم قد لقينا باللوى ... يوم النّسار وسقيناهم روى حرة واقم: وهي حرة المدينة الشرقية، سميت برجل من العمالقة نزل بها، قاله المجد، وسبق قوله ابن زبالة عقب ذكر واقم أنه أطم بني عبد الأشهل، وبه سميت تلك الناحية واقما، وله يقول شاعرهم: نحن بنينا واقما بالحرّة ... بلازب الطين وبالأصرّه وتسمى أيضا حرة بني قريظة؛ لأنهم كانوا بطرفها القبلي، وحرة زهرة؛ لمجاورتها لها كما سيأتي، وكان بها مقتلة الحرة كما سبق، وتقدم حديث «يقتل بحرة زهرة خيار أمتي» وفي رواية «فلما وقفت بحرة زهرة وقف واسترجع» . وفي كتاب الحرة عن عبد الله بن سلام أنه وقف بحرة زهرة زمن معاوية، فقال: هاهنا أجد صفة في كتاب يهوذا الذي لم يغير ولم يبدّل، مقتلة تقتل في هذه الحرة، قوم يقومون يوم القيامة واضعي سيوفهم على رقابهم حتى يأتوا الرحمن تبارك وتعالى فيقفوا بين يديه فيقولون: قتلنا فيك. وروى ابن زبالة أن السماء أمطرت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لأصحابه: هل لكم في هذا الماء الحديث العهد بالعرش لنتبرك به، ولنشرب منه، فلو جاء من مجيئه ركب لتمسّحنا به، فخرجوا حتى أتوا حرة واقم وشراجها تطرد، فشربوا منها وتوضؤوا، فقال كعب: أما والله يا أمير المؤمنين لتسيلنّ هذه الشّراج بدماء الناس كما تسيل بهذا الماء، فقال عمر: إيها الآن دعنا من أحاديثك، فدنا منه ابن الزبير فقال: يا أبا إسحاق ومتى ذلك؟ فقال: إياك يا عبيس أن تكون على رجلك أو يدك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 وقال عبد الرحمن بن سعيد الذي أبوه أحد العشرة، وكان ممن حضر وقعة الحرة. فإن تقتلونا يوم حرّة واقم ... فنحن على الإسلام أول من قتل الأبيات المتقدمة، قاله المطري، ونسبها المجد لمحمد بن وجرة الساعدي. حرة بني بياضة: وأما الحرة الغربية فحرة بني بياضة وما اتصل بها، وبها كان رجم ماعز كما يوضحه رواية ابن سعد في قصته. حرة الوبرة: محركة، وجوّز بعضهم سكون الموحدة، وهي على ثلاثة أميال من المدينة، ولها ذكر في حديث أهبان، كذا قاله المجد هنا، وسيأتي حديث أهبان في الوبرة، وأن المجد ذكر فيها ما يقتضي بعدها عن المدينة، والمعتمد ما هنا، لما سبق في قصر عروة بالعقيق أنه كان يقال لموضعه «خيف حرة الوبرة» وقال الهجري: مزارع عروة وقصره في حرة الوبرة. وسبق في حاجر أنه غربي النقا إلى منتهى حرة الوبرة، فهي المشرفة على وادي العقيق، ولهذا صح في مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر عنه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال: يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أي بذي الحليفة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة. قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانطلق. حزرة: بالفتح وسكون الزاي، من أودية الأشعر، يفرغ في القفارة، سكانه بنو عبد الله بن الحصين الأسلميون، وبه المليحة، وبأسفلها العين التي تدعى سويقة. حزم بني عوال: بقرب الطرف، وأحد مياهه بئر ألية المتقدمة، وقال ياقوت: السد ما سماه في حزم بني عوال جبيل لغطفان في أعمال المدينة. حزن: ضد السهل، اسم لطريق بين المدينة وخيبر، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من سلوكه، وسلك مرحبا، كما سيأتي، وحزن بني يربوع من أكرم مراتع العرب، فيه رياض وقيعان، وهو المراد بقولهم «من ترّبع الحزن وشتّى الصّمان وتقيظ الشرف فقد أخصب» . حسنى: بالفتح ثم السكون وآخره ألف مقصورة قبلها نون، جبل قرب ينبع، قاله ابن حبيب، وحسنى أيضا: صحراء بين العذيبة والجار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 قلت: وحسنى أيضا: أحد صدقات النبي صلى الله عليه وسلم المتقدمة، لكن ضبطها المراغي بالضم ثم السكون. حسيكة: تصغير حسكه لواحد حسك السّعدان، موضع بطرف ذباب، كان به ناس من يهود، قاله الواقدي، وقال أبو الفتح الإسكندري: هو موضع بين ذباب ومساجد الفتح، وله ذكر في شعر كعب بن مالك، وقال ابن شبة: قال محمد بن يحيى: سألت عبد العزيز بن عمران: أين حسيكة؟ فقال: ناحية أرض ابن ماقية إلى قصر ابن أبي عمرو الرابض إلى قصر ابن الشمعل إلى أداني الجرف كله، وفيها يقول الشاعر: صفحناهم بالسّفح يوم حسيكة ... صفائح بصرى والردينية السّمرا فما قام منهم قائم لقراعنا ... ولا ناهبونا يوم نزجرهم زجرا الحشا: بلفظ الحشا الذي تنضم عليه الضلوع، موضع عن يمين آرة، قال أبو جندب الهذلي: تتبعتهم ما بين حدّاء والحشا ... وأوردتهم ماء الأثيل فعاصما وقال أبو الفتح الإسكندري: الحشا واد بالحجاز، والحشا جبل الأبواء. حشان: بالكسر جمع حشّ بالفتح وهو البستان، اسم أطم ليهود على يمين الطريق من شهداء أحد، والحشاشين بصيغة الجمع أيضا بمنازل بني قينقاع. حش طلحة: بن أبي طلحة الأنصاري نقدم في الدور المطيفة في المسجد من الشام، وفي البلاط الذي في شامي المسجد، وتلخص منه أنه موضع الدور التي في شامي المسجد، وما يلي المشرق منه كان لعبد الرحمن، لما سبق عن ابن سعد أول الفصل الثالث والثلاثين من الباب الرابع. حصن: خل بفتح الخاء المعجمة، هو قصر خل الآني. حضوة: بالكسر وسكون الضاد المعجمة وفتح الواو، موضع قرب المدينة وقيل: على ثلاث مراحل منها، كان اسمه عفوة فسماه النبي صلى الله عليه وسلم حضوة، وفي الحديث شكا قوم من أهل حضوة إلى عمر وباء أرضهم، فقال: لو تركتموها، فقالوا: معاشنا ومعاش آبائنا ووطننا، فقال للحارث بن كلدة: ما عندك في هذا؟ فقال: البلاد الوبيئة ذات الأدغال والبعوض، وهي عش الوباء، ولكن ليخرج أهلها إلى ما يقاربها من الأرض العذبة إلى مرتبع النجم، وليأكلوا البصل والكراث، ويباكروا السمن العربي فيشربوه، وليمسكوا الطيب، ولا يمشوا حفاة، ولا يناموا بالنهار، فإن فعلوا أرجو أن يسلموا، فأمر عمر بذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 حضير: كأمير، قاع فيه آبار ومزارع، إليه ينتهي النقيع ويبتدئ العقيق. حفياء: بالفتح ثم السكون ثم مثناة تحتية وألف ممدودة، موضع قرب المدينة، منه أجريت الخيل المضمرة إلى ثنية الوداع، قاله الحازمي، ورواه غيره بالقصر، وضبطه بعضهم بالضم والقصر، وأخطأ، ورواه بعضهم حيفاء بتقديم الياء على الفاء، قال البخاري: قال سفيان: من الحفياء إلى الثنية خمسة أميال أو ستة، وقال ابن عقبة: ستة أو سبعة، قال المجد: وهي على مقربة من البركة فيما يغلب على الظن. قلت: هي شامي البركة مغيض العين؛ لأن الهجري قال بعد ذكر مجتمع السيول بزغابة: ثم يفضي إلى سافلة المدينة وعين الصورين بالغابة، وبها الحفياء صدقة الحسن بن زيد بن علي، وعبارة الزبير: فينحدر على عين أبي زياد والصورين في أدنى الغابة، فالحفياء التي عبر عنها الهجري بالحيفاء بأدنى الغابة، ولهذا جاء في حديث السباق: من الغابة إلى موضع كذا. حفير: كأمير، فعيل من الحفر، موضع بين مكة والمدينة، وحفر: موضع آخر بجنبه، قاله المجد، وقال ياقوت: الحفر بفتح الحاء وسكون الفاء من مياه على بطن واد يقال له مهزول، انتهى. والمعروف بالحفر اليوم منزل الأشراف من آل زبان وبه آبار ومزارع، وليس هو الحفر المذكور في حدود جزيرة العرب؛ لأن ذاك محرك، وهو بقرب البصرة، والحفير مصغر: منزل بين ذي الحليفة وملل، فيسلكه الحاج، قاله ياقوت. قلت: وهو المعبر عنه فيما سبق في الألفاظ الواقعة في بيان حدود الحرم بالحفيرة. حقل: بالفتح وسكون القاف، يضاف إليه آرة حقل. الحلاءة: بالكسر والمد ويفتح واحدها حلاة، قال عرّام بعد ذكر ميطان ومعاليه لشوران ما لفظه: وبحذائه جبل يقال له: سن، وجبال كبار شواهق يقال لها الحلاءة لا تنبت شيئا ولا ينتفع بها إلا ما يقطع للأرحاء والبناء ينقل إلى المدينة وما حولها. وأنشد الزمخشري لعدي بن الرقاع: كانت تحلّ إذا ما الغيث أصبحها ... بطن الحلاءة فالأمراء فالسررا حلائي صعب: واديان أو جبلان على سبعة أميال من المدينة أو نحوها، قاله المجد، وتقدم أن سيل بطحان يأتي من حلائي صعب، والظاهر أنهما من الحلاءة المتقدمة؛ لاتحاد الجهة والمسافة. الحلائق: كأنه جمع حليقة، قال ابن إسحاق: ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطحاء ابن أزهر فنزل الحلائق يسارا، ورواها بعضهم الخلائق بالخاء المعجمة، قاله المجد، وهو المرجح عندي؛ لما سيأتي في الخلائق بالخاء المعجمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 حلّيت: بالكسر كسكين، تقدم في حمى فيد، وقال امرؤ القيس: ألا يا ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات فغول فحلّيت فنفى فمنعج ... إلى عاقل فالجب ذي الأمرات الحليف: مصغر الحلف، منزل بنجد ينزله مصدق بني كلاب إذا خرج من المدينة. الحليفة: كجهينة تصغير الحلفة بفتحات واحد الحلفاء وهو النبات المعروف، قال المجد: هي قرية بينها وبين المدينة ستة أميال، وهي ذو الحليفة، وميقات أهل المدينة، وهو من مياه بني جشم بالجيم والشين المعجمة، بينهم وبين بني خفاجة من عقيل، انتهى. وهو تابع لعياض في ذلك، وزاد كونها قرية، وقد سبق أول الباب عند ذكر حدود وادي العقيق عن عياض أن بطن وادي ذي الحليفة من العقيق وأن العقيق من بلاد مزينة، وهذا هو المعروف، وما ذكره هنا من نسبة ذي الحليفة إلى بني جشم إلى آخره غير معروف، ولعله اشتبه عليه بالحليفة التي من تهامة، وما ذكره من المسافة موافق لتصحيح النووي كالغزالي أنها على ستة أميال، ويشهد له قول الشافعي كما في المعرفة: قد كان سعيد بن زيد وأبو هريرة يكونان بالشجرة على أقل من ستة أميال فيشهدان الجمعة ويدعانها، والمراد بالشجرة ذو الحليفة، لما سبق في مسجد الشجرة بها، وبها أيضا مسجد المعرس. وفي سنن أبي داود: سمعت محمد بن إسحاق المديني قال: المعرس على ستة أميال من المدينة. وسبق أن المعرس دون مصعد البيداء، فهو بأواخر الحليفة، فلا يخالف ما سبق عن الشافعي، وعليه يحمل ما رواه أحمد والطبراني والبزار واللفظ له عن أبي أروى قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بالمدينة ثم آتى ذا الحليفة قبل أن تغيب الشمس وهي على قدر فرسخين، وقال الرافعي كابن الصلاح: ذو الحليفة على ميل من المدينة، وهو مردود تدفعه المشاهدة، ولعلهما اعتبرا المسافة مما يلي قصور العقيق؛ لأنها عمارات ملحقة بالمدينة، وقال الأسنوي: الصواب المعروف المشاهد أنها على فرسخ، وهو ثلاثة أميال أو نزيد قليلا، انتهى. وذكر ابن حزم أنها على أربعة أميال من المدينة، وقد اختبرت ذلك بالمساحة فكان من عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب السلام إلى عتبة باب مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع وسبعمائة ذراع واثنين وثلاثين ذراعا ونصف ذراع بذراع اليد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 المتقدم تحديده في حدود الحرم، وذلك خمسة أميال وثلثا ميل ينقص مائة ذراع، وكان المسجد ليس أول ذي الحليفة؛ لأن أبا عبد الله الأسدي من المتقدمين قال: الرحلة من المدينة إلى ذي الحليفة وهي الشجرة ومنها يحرم أهل المدينة وهي على خمسة أميال ونصف مكتوب على الميل الذي وراءها قريب من العالمين: ستة أميال من البريد، ومن هذا الميل أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى؛ فالميل المذكور عند المسجد لأنه محل إهلاله صلى الله عليه وسلم، وأول ذي الحليفة قبله بنصف ميل. وقوله «قريب من العالمين» يحتمل أن يريد علمي مدخل ذي الحليفة لقوله في تعداد الأعلام «وعلى مدخل ذي الحليفة علمان» فيفيد ما تقدم من عدم التعرض لانتهاء الحليفة، لكنه ذكر كما سبق في البيداء أن على مخرج ذي الحليفة علمين آخرين، وأن البيداء فوق علمي الحليفة إذا صعدت من الوادي، فيحتمل أن يريد بقوله «قريب من العالمين» علمي مخرج الحليفة، فيفيد أن المسجد قرب آخر الحليفة، وهو الظاهر؛ لأن البيداء هي الموضع المشرف على ذي الحليفة وذلك على نحو غلوة سهم من مسجدها. والأعلام المذكورة غير موجودة اليوم. وقال العز بن جماعة: وبذي الحليفة البئر التي تسميها العوام بئر علي، وينسبونها إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه؛ لظنهم أنه قاتل الجن بها، وهو كذب، ونسبتها إليه غير معروفة عند أهل العلم، ولا يرمي بها حجر ولا غيره كما يفعل بعض الجهلة، انتهى. وسبق في مسجد ذي الحليفة ذكر اتخاذ الدرج لآبارها، وسبق في خاتمة الفصل الرابع عن ابن شبة أن فوق ذي الحليفة التي هي الحرم في القبلة قبل حمراء الأسد موضعا من أعلى العقيق سمي بالحليفة العليا، فيكون المحرم الحليفة السفلى، ولم أره في كلام غيره ولعله الخليقة بالخاء المعجمة والقاف لما سيأتي فيها. وأما ذو الحليفة المحرم فهي أيضا من وادي العقيق، ولذا روى أبو حنيفة كما في جامع مسانيده عن ابن عمر قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، من أين المهل؟ فقال: يهلّ أهل المدينة من العقيق، ويهلّ أهل الشام من الجحفة، ويهلّ أهل نجد من قرن، فأطلق على ذي الحليفة اسم العقيق. وذو الحليفة أيضا: موضع بين حاذة وذات عرق، ومنه حديث رافع بن خديح قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة فأصبنا نهب غنم، وتقدم في مساجد تبوك ما يقتضي أن ذا الحليفة أيضا موضع آخر بين المدينة وتبوك. الحماتان: موضع قرب البليدة، يضاف إليه حرم الحماتين، وسبق شاهده في البلدة والبليدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 حمام: بالضم والتخفيف، وذات الحمام: موضع بين مكة والمدينة، وعميس الحمام: موضع بين الفرش وملل كما سيأتي في العين المهملة. ذات الحمّاط: تقدم في أودية العقيق والمساجد، وشاهده في المرابد، بالضم وتشديد الميم، حائط تقدم في منازل بني بياضة. حمت: بالفتح ثم السكون، اسم لجبل ورقان كما في الحديث الآتي فيه؛ وقال عرّام: ويقطع بين قدس الأبيض وقدس الأسود عقبة يقال لها حمت، وسيأتي في شاهد ريم ذكر حمت، قال الزبير: حمت وصوري من صدور أتمة ابن الزبير حمراء الأسد: بالمد والإضافة، والأسد الليث، موضع على ثمانية أميال من المدينة، إليه انتهى رسول الله صلى الله وسلم مرجعه من أحد في طلب المشركين وأقام به ثلاثة أيام، وكان المسلمون يوقدون كل ليلة أكثر من خمسمائة نار لترى من المكان البعيد، وسبق في العقيق ما يقتضي أن حمراء الأسد فوق ثنية الشريد قال الهجري: وبها قصور لغير واحد من القرشيين، قال: وهي ترى من العقيق نحو طريق مكة، أي عن يسارها، قال: وفي شق الحمراء الأيسر منشد، وفي شقها الأيمن شرقيا خاخ. قلت: وعلى يسار المصعد من ذي الحليفة جبل يعرف بحمراء نملة، والظاهر أنه منشد، وليس هو حمراء على ما سنوضحه في النون، والحمراء: اسم لمواضع أخرى: منها موضع فيه نخل كثير قبيل الصفراء. الحميراء: تصغير حمراء، موضع ذو نخل بنواحي المدينة، قال ابن هرمة: كأن لم تجاورنا بأكناف مثعر ... وأخزم أو خيف الحميراء ذي النخل ولعله الحمراء التي بقرب الصفراء، ولكن صغرها. الحمى: تقدم مبسوطا في الفصل السادس والسابع. الحمية: ذكرها صاحب «المسالك والممالك» في توابع المدينة ومخاليفها. الحنان: بالفتح والتخفيف، لغة الرحمة، اسم كثيب كبير كالجبل، قاله الزمخشري، وقال نصر: الحنان بالفتح والتشديد رمل قرب بدر، وهو كثيب عظيم كالجبل. وقال ابن إسحاق في مسير النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر بعد سلوكه لذفران: ثم ارتحل منه فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر، ثم انحط إلى بلد يقال له الدبة، وترك الحنان بيمين، وهو كثيب الجبل عظيم، انتهى. قلت: وإليه يضاف «أبرق الحنان» وهو لبني فزارة، قال كثير: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 لمن الديار بأبرق الحنان وقال ياقوت: إنه غير الحنان السابق ذكره. حنذ: بالفتح وإعجام الذال، قرية لأحيحة بن الجلاح من أعراض المدينة فيها نخل، أنشد ابن السكيت لأحيحة يصف نخلها فإنه يتأبر منها دون أن يؤبر: تأبّري يا خيرة الفسيل ... تأبري من حنذ وشولي إن ضنّ أهل النخل بالفحول حورتان: اليمانية والشامية، ويعرفان اليوم بحورة وحويرة، وهما من أدية الأشعر، وسيأتي لهما ذكر آخر الحروف في يين. قال الهجري: وهما لبني كلب وبني ذهل من عوف ثم من جهينة، قال: وبحورة اليمانية واد يقال له ذو الهدى؛ لأن شداد بن أمية الذهلي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعسل شاره منه، فقال له: من أين شرته؟ قال: من واد يقال له ذو الضلالة، فقال: لا، بل ذو الهدى، انتهى. وسيأتي في خضرة عن أبي داود ما يشهد لأصل ذلك. وحورة اليمانية معروفة، والوادي غير معروف، ويحمل منها إلى المدينة العسل والحنطة الرياضية التي تأتي من ناحية الفغرة، وبها موضع يقال له المخاضة يستخرج منه الشب، ويقال له ذو الشب. وحورة الشامية لبني دينار مولى كلب بن كبير الجهني، وكان طبيبا لعبد الملك بن مروان، ومن ولده عرارة الخياط صاحب القيان بالمدينة، وكان عبد الملك قد اتخذ بحورة الشامية بقاعا ومنزلا يقال له ذو الحماط. حوضي: تقدم في مساجد تبوك. حوض عمرو: بالمدينة، منسوب إلى عمرو بن الزبير بن العوام. حوض مروان: تقدم مع بئر المغيرة في قصر أبي هاشم المغيرة بن أبي العاص بالعقيق. حوض ابن هاشم: بالحرة الغربية، تقدم في بئر إهاب وبئر فاطمة. حيفاء: لغة في الحفياء كما تقدم فيها. حرف الخاء خاخ: بخاءين، ويقال: روضة خاخ، قال الهجري: وفي شق حمراء الأسد الأيمن خاخ، بلد به منازل لمحمد بن جعفر بن محمد وعلي بن موسى الرضى وغيرهما، وبئر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 محمد بن جعفر وعلي بن موسى ومزارعهما تعرف بالحضر، وخاخ تقدمت في أودية العقيق، ولهذا ذكرها ابن الفقيه في حدوده، وقال: هي بين شوظا والناصفة. وقال الواقدي: روضة خاخ بقرب ذي الحليفة، على بريد من المدينة، وفي حديث علي: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، الحديث، ورواه بعضهم عن حاطب بن عبد الرحمن، وبين فيه أن المكان على قريب من اثنى عشر ميلا من المدينة، ويقرب خاخ من خليقة عبد الله بن أبي أحمد، جاء في رواية ابن إسحاق: فأدركوها بالخليقة خليقة ابن أبي أحمد. وقد أكثر الشعراء من ذكر خاخ، قال الأحوص: طربت وكيف تطرب أم تصابى ... ورأسك قد توشّع بالقتير لغانية تحلّ هضاب خاخ ... فأسقف فالدوافع من حضير وقال أيضا: يا موقد النار بالعلياء من إضم ... أوقد فقد هجت شوقا غير مضطرم يا موقد النار أوقدها فإن لها ... سنا يهيج فؤاد العاشق السدم نار يضئ سناها إذ تشب لنا ... سعدّية ذكرها يشفى من السقم وما طربت لشجو أنت نائله ... ولا تنورت تلك النار من إضم ليست لياليك في خاخ بعائدة ... كما عهدت ولا أيام ذي سلم فغنى فيه معبد، وشاع الشعر، فأنشد لسكينة بنت الحسين رضي الله تعالى عنهما، وقيل: عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، فقالت: قد أكثر الشعراء في خاخ، لا والله ما انتهى حتى أنظر إليه، فبعثت إلى مولاها فند، فحملته على بغلة وألبسته ثياب خز من ثيابها، وقالت: امض بنا نقف على خاخ، فمضى بها، فلما رأته قالت: ما هو إلا ما أرى؟ قال: ما هذا إلا هذا، فقالت: والله لا أريم حتى أوتي بمن يهجوه، فجعلوا يتذكرون شاعرا قريبا إلى أن قال فند: أنا والله أهجوه، قالت: قل، فقال: خاخ خاخ خاخ أخ، ثم تفل عليه كأنه تنخّع، فقالت: هجوته ورب الكعبة، لك البغلة وما عليك من الثياب. خاص: واد بخيبر، فيه الأموال القصوى الوحيدة وسلالم والكثيبة والوطيح. خبء: بالفتح وسكون الموحدة بعدها همزة، واد بالمدينة إلى جنب قباء، وقيل: هو بالضم واد ينحدر من الكاثب، ثم يأخذ ظهر حرة كشب، ثم يسير إلى قاع أسفل من قباء، والخبء أيضا: موضع بنجد. الخبار: كسحاب، تقدم في مسجد فيفاء الخبار من مساجد المدينة، ويقال: فيف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 الخبار، وفي القاموس: الخبار مالان من الأرض واسترخى، وجحرة الجرذان وفي المثل «من تجنّب الخبار، أمن من العثار» وفيفاء أوفيف الخبار: موضع بنواحي عقيق المدينة، انتهى. وقال ابن شهاب: كان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة كانوا مجهودين مضرورين، فأنزلهم عنده، فسألوه أن نيحيهم من المدينة، فأخرجهم إلى لقاح له بكتف الخبار وراء الحمى، وقال ابن إسحاق: وفي جمادى الأولى غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فسلك على نقب بني دينار من بني النجار، ثم على فيفاء الخبار، قال الحارثي: وجد به مضبوطا مقيدا بخط ابن الفرات بالحاء المهملة والباء المشددة، والصواب المشهور الأول. خبان: كعثمان، جبل بين معدن النقرة وفدك. خبراء العذق: بكسر العين المهملة وفتح الذال المعجمة ثم قاف، قاع بناحية الصمّان، وفي القاموس: أنه موضع بناحية الصمان كثير السّدر والماء. خبراء صائف: بين مكة والمدينة، قال شاعر: ففدفد عبود فخبراء صائف ... فذو الجفر أقوى منهم ففدافده خبزة: بلفظ واحدة الخبز المأكول، حصن من أعمال ينبع. الخرّار: بالفتح ثم التشديد من أودية المدينة، وقيل: ماء بالمدينة، وقيل: موضع بخيبر، وقيل: بالحجاز، وقيل: بالجحفة، وفي شامي مثعر غدير يقال له الخرار، وسبق ذكر بواط والخرار فيما يلقى سيل إضم، والخرار في سفر الهجرة الظاهر أنه بالجحفة، وقال ابن إسحاق: وفي سنة واحد، وقيل سنة اثنتين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرار من أرض الحجاز، فرجع ولم يلق كيدا. خربي: كحبلى منزلة لبني سلمة فيما بين مسجد القبلتين إلى المذاد، غيرها صلى الله عليه وسلم وسماها صالحة تفاؤلا بالخرب، قاله المجد في القاموس، خلاف ما سبق عنه في الحاء المهملة، ولعل الصواب ما هنا. الخرماء: تأنيث الآخرم للمشقوق الشفة، عين بوادي الصفراء. خريق: كأمير، واد عند الجار يتصل بينبع. خريم: كزبير، ثنية بين جبلين بين المدينة والجار، وقيل: بين المدينة والروحاء، كان عليها طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من بدر، قال كثير: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 فأجمعن بينا عاجلا وتركنني ... بفيفا خريم قائما أتبلّد الخزيمية: بالضم وفتح الزاي، منزلة للحاج العراقي بين الأجفر والثعلبية. خشاش: كسحاب، وهما خشاشان، وهما جبلان من الفرع قرب العمق، وله شاهد في العمق. خشب: بضمتين آخره باء موحدة، واد على ليلة من المدينة، له ذكر في الحديث والمغازي، وهو ذو خشب المتقدم في الأودية التي تصبّ في إضم، وفي مساجد تبوك، وكان به قصر لمروان بن الحكم ومنازل لغير واحد، وبه نزل بنو أمية لما أخرجوا إلى الشام قبيل وقعة الحرة حتى تلاحقوا به، ثم أرسل إليهم عبد الله بن حنظلة، فأخرجوا منه أقبح الإخراج، وقال شاعر: أبت عيني بذي خشب تنام ... وأبكتها المنازل والخيام وأرّقني حمام بات يدعو ... على فنن يجاوبه حمام الخشرمة: واد قرب ينبع، يصب في البحر. خشين: تصغير خشن، جبل، قال ابن إسحاق: غزا زيد بن حارثة جذام من أرض خشين، وفي المثل «إن خشينا من خشن» وهما جبلان أحدهما أصغر من الآخر. الخصي: فعيل من خصاه نزع خصيته، أطم كان شرقي مسجد قباء، على فم بئر الخصي لبني السلم، والخصي أيضا: اطم في منازل بني حارثة. خضرة: بفتح أوله وكسر ثانية، من القرى المتقدمة في آرة، وأرض لمحارب بنجد، وقيل: تهامة، وقال ابن سعد: كان بها سرية أبي قتادة إلى خضرة، وهي أرض محارب بنجد، وقال أبو داود: غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا تسمى عفرة سماها خضرة، وشعب الضلالة سماها شعب الهدى، وبني الزنية سماهم بني الرشدة، قال الخطابي: عفرة بفتح العين وكسر الفاء نقب، الأرض التي لا تنبت شيئا، فسماها خضرة على معنى التفاؤل حتى تخضر. الخطمى: تقدم في مساجد تبوك. خفينن: بفتح أوله وثانيه ثم مثناة تحتية ساكنة ونونين الأولى مفتوحة، واد وقيل: قرية- بين ينبع والمدينة، وقيل: شعبتان واحدة تدفع في ينبع والآخرى تدفع في الخشرمة، قال كثيّر: وهاج الهوى أظعان عزّة غدوة ... وقد جعلت أقرانهنّ تبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 تأطّرن بالميثاء ثم تركنه ... وقد لاح من أثقالهن شجون فأتبعتهم عينيّ حتى تلاحمت ... عليها قنان من خفينن جون خفيّة: بفتح أوله وكسر ثانيه ثم مثناة تحتية مشددة، موضع بعقيق المدينة، قاله المجد أخذا من ابن الفقيه المتقدم عن الزبير عده في أودية مسيله. ال خلائق: أرض بنواحي المدينة، كانت لعبد الله بن أحمد بن جحش، قاله المجد، وهو جمع الخليقة الآتية، قال الهجري: سيل العقيق بعد خروجه من النقيع يلقاه وادي ريم، وهما إذا اجتمعا دفعا في الخليقة خليقة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، وبها مزارع وقصور ونخيل لغير واحد من آل الزبير وآل أبي أحمد، انتهى، وسيأتي عن المجد أنها على اثني عشر ميلا من المدينة، وسبق عن المطري أن سيل النقيع يصل إلى بئر عليّ العليا المعروفة بالخليقة. قلت: هي معروفة اليوم في درب المشيان، وهي خليقة عبد الله المذكورة، وسيأتي في نقب مياسير أنه حد الخلائق خلائق الأحمديين، وأن الخلائق آبار، فالبئر المذكورة إحداها، وفي تهذيب ابن هشام عن ابن إسحاق في غزوة العشيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، ثم ارتحل فنزل الخلائق بيسار، وسلك شعبة يقال لها شعبة عبد الله، وذلك اسمها، ثم ضرب الماء حتى دخل بليل فنزل بمجتمعه ومجتمع الضّبوعة، ثم سلك الفرش فرش ملل حتى لقي الطريق بصخيرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق. وقوله: «الخلائق» بالخاء المعجمة في نسخة معتمدة، وقال صخر بن الجعد: أتنسين أياما لنا بسويقة ... وأيامنا بالجزع جزع الخلائق وقال الحزين الديلي: لا تزرعنّ من الخلائق جدولا ... هيهات إن رتعت وإن لم ترتع خل ائق: والخلائق أيضا: فلاة بذروة الصمان تمسك ماء السماء في صفاة خلقها الله فيها وأخواتها حريقة، قاله الأزهري. خلائل: بالضم، موضع بالمدينة، قال ابن هرمة: احبس على طلل ورسم منازل ... أقوين بين شواحط وخلائل خلص: بالفتح وسكون اللام وصاد مهملة، تقدم في آرة أنه واد فيه قرى، وعن حكيم بن حزام قال: لقد رأيت يوم بدر وقد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سدّ الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، فوقع في نفسي أن هذا شيء من السماء أيد به محمد صلى الله عليه وسلم، فما كانت إلا الهزيمة وهي الملائكة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 خل: موضع بين مكة والمدينة قرب مرجح، وسيأتي شاهده فيه. وخل المضاف إليه قصر خل بالمدينة سيأتي أنه الطريق التي عنده في الحرة. خليقة بالقاف كسكينة، هي المتقدمة في الخلائق، وقال المجد: هي منزل على اثني عشر ميلا من المدينة، بينها وبين ديار سليم. خم بالضم، اسم رجل شجاع أضيف إليه الغدير الذي بقرب الجحفة، أو اسم واد هناك، وقال النووي: اسم لغيضة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إليها، وقال الحافظ المنذري: إنه لا يولد بهذه الغيضة أحد فيعيش إلى أن يحتلم إلا أن يرحل عنها لشدة ما بها من الوباء والحمى بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في نقل حمى المدينة إليها، وتقدم عن الأسدي أن على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة عن الطريق حذاء العين المسجد المتقدم ذكره، قال: ويليها العيضة، وهي غدير خم، وهي على أربعة أميال من الجحفة، وكأن العين التي أشار إليها عين خم التي يتقى شرب مائها، فيقال: إنه ما شرب منه أحد إلا حمّ، وقال عرّام: ودون الجحفة على ميل غدير خم، وواديه يصب في البحر، لا ينبت غير المرخ والعشر، والغدير من نحو مطلع الشمس لا يفارقه ماء أبدا من ماء المطر وبه أناس من خزاعة وكنانة غير كثير. الخندق: قال المطري، وتبعه من بعده: حفر النبي صلى الله عليه وسلم الخندق طولا من أعلى وادي بطحان غربي الوادي مع الحرة إلى غربي مصلى العيد ثم إلى مسجد الفتح ثم إلى الجبلين الصغيرين اللذين في غربي الوادي، وجعل المسلمون ظهورهم إلى جبل سلع، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم قبّته على القرن الذي في غربي سلع في موضع مسجد الفتح اليوم، والخندق بينهم وبين المشركين وفرغ من حفره بعد ستة أيام، وتجمع فيه جميع المسلمين، وهم يومئذ ثلاثة آلاف، انتهى. وكأنه أخذه من قول ابن النجار، والخندق اليوم باق، وفيه قناة تأتي من عين بقباء، تأتي إلى النخل الذي بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح، قال: وفي الخندق نخل أيضا، وقد انطم أكثره وتهدمت حيطانه، انتهى. والموضع الذي ذكره من الخندق، لا أنه منحصر فيه؛ فقد روى الطبراني عن عمرو بن عوف المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّ الخندق من أجمة الشيخين طرف بني حارثة عام حزّب الأحزاب حتى بلغ المداحج فقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، واحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان منا أهل البيت. وسيأتي أن الشيخين أطمان شامي المدينة بالحرة الشرقية، وأما المداحج فلا ذكر لها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 في بقاع المدينة، وقد روى البيهقي في دلائل النبوة حديث عمرو بن عوف بلفظ: خط رسول صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب من أجم السمر طرف بني حارثة حتى بلغ المداد، ثم قطع أربعين ذراعا بين كل عشرة، وذكر نحو ما سبق في الاحتجاج في سلمان، والمذاد: بطرف منازل بني سلمة مما يلي مساجد الفتح وجبل بني عبيد. ولمنازلهم ذكر في الخندق من جهة الحرة الغربية. قال ابن سعد: ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق وكّل بكل جانب منه قوما، وكان المهاجرون من ناحية راتج إلى ذباب، وكانت الأنصار يحفرون من ذباب إلى جبل بني عبيد، وكان سائر المدينة مشككا بالبنيان فهي كالحصن، وخندقت بنو دينار من عند خربى إلى موضع دار ابن أبي الجنوب اليوم، وخندقت قبلهم بنو عبد الأشهل مما يلي راتجا إلى خلفها أي خلف بني عبد الأشهل، وهو طرف بني حارثة، قال: حتى جاء الخندق وراء المسجد، وفرغوا من حفره في ستة أيام، انتهى. وقد أوضح ذلك الواقدي في كتاب الحرة، فنقل أنه لما دنا عسكر يزيد تشاور أهل المدينة في الخندق، واختلفوا أياما، ثم عزموا على الخندق خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية. قال حنظلة بن قيس الزرقي: عملنا في الخندق- أي عام الحرة- خمسة عشر يوما، وكان لقريش ما بين راتج إلى مسجد الأحزاب، وللأنصار ما بين مسجد الأحزاب إلى بني سلمة، وللموالي ما بين راتج إلى بني عبد الأشهل، ثم ذكر فتح بعض بني حارثة طريقا في الخندق من قبلهم لأهل الشام كما سبق. فتلخص أن الخندق كان شامي المدينة من طرف الحرة الشرقية على طرف الحرة الغربية؛ لأن منازل بني سلمة لسند الحرة الغربية كما سبق. وقوله في رواية ابن سعد «وخندقت بنو دينار من عند خربى» أي منازل بني سلمة «إلى موضع دار ابن أبي الجنوب» أي التي في غربي بطحان قرب المصلى، فهو خندق آخر غير الأول، ولهذا قال كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه من الباب فيما قبل في الخندق من الشعر على ما ذكره ابن إسحاق: بباب الخندقين كأن أسدا ... شوابكهن تحمين العرينا فوارسنا إذا بكروا وراحوا ... على الأعداء شوسا معلمينا لننصر أحمدا والله حتى ... نكون عباد صدق مخلصينا وقال ابن إسحاق: وكان الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 وكان أول مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ حر، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أحكموه، وكان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدوّ منها، انتهى. فهذا الجانب هو الذي تقدم بيانه، والمراد بجعل ظهورهم إلى سلع من جهة الشام والمغرب، وما ذكره المطري في مضرب القبة مردود كما بيناه في مسجد ذباب، وكأنه ظن لحصره الخندق فيما ذكره أن موضع مسجد الفتح هو المسمى بذباب؛ لأن الوارد أنه صلى الله عليه وسلم ضرب قبته على ذباب. وفي تفسير الثعلبي عن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب، ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا، واستعاروا من بني قريظة مثل المعاول والفؤوس وغير ذلك، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ترغيبا للمسلمين، وربما كان يحفر حتى يعيا ثم يجلس حتى يستريح، وجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله نحن نكفيك، فيقول: أريد مشاركتكم في الأجر، وذكر ما تقدم في الاحتجاج في سلمان، ثم قال: وكنت، أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني في ستة من الأنصار في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا كنا تحت ذوباب فأخرج الله من بطن الخندق صخرة مرو كسرت حديدنا وشقت علينا، فقلنا: يا سلمان أرق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال له ذلك، فهبط مع سلمان الخندق فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها يعني المدينة- حتى لكأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، ثم ضربها الثانية، وذكر مثل ما تقدم، ثم ضربها الثالثة فكسرها، وبرق منها برق، وذكر مثل ما تقدم، قال: فأخذ بيد سلمان ورقى، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: أرأيتم ما يقول سلمان؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومداين كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 فأبشروا، فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله وعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر، فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل القرآن وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 12] وأنزل الله في هذه القصة قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 26] انتهى. وقوله «ذو باب» كذا هو بالواو بعد الذال، فإن صحت الرواية به فهو اسم لذباب أيضا؛ لأنه مضرب القبة في الخندق، ولم أر من ذكر ذو باب في بقاع المدينة. وروى الواقدي في سيرته أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يضرب يوم الخندق بالمعول، فصادف حجرا صلدا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول وهو عند جبل بني عبيد، فضرب ضربة فذهبت أولها برقة إلى اليمن، ثم ضرب أخرى فذهبت أخرى إلى الشام، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة نحو المشرق، وكسر الحجر عند الثالثة، فكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: والذي بعثه بالحق لصار كأنه سهلة، وكان كلما ضرب ضربة يتبعه سلمان ببصره فيبصر عند كل ضربة برقة، فقال سلمان: رأيت المعول كلما ضربت به أضاء ما تحته، فقال: أليس قد رأيت ذلك؟ قال: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني رأيت في الأولى قصور اليمن، ثم رأيت في الثانية قصور الشام، ورأيت في الثالثة قصر كسرى الأبيض بالمدائن، وجعل يصفه لسلمان، فقال: صدقت والذي بعثك بالحق إن هذه لصفته، فأشهد أنك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه فتوح يفتحها الله عليكم بعدي يا سلمان، ليفتحن الشام ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، ولتفتحن اليمن، ولتفتحن هذا المشرق ويقتل كسرى فلا يكون كسرى بعده، قال سلمان رضي الله تعالى عنه: فكلّ هذا قد رأيت. وما تقدم من فراغ الخندق في ستة أيام هو المعروف، لكن قال الحافظ ابن حجر: إن في مغازي ابن عقبة أنهم أقاموا في عمله قريبا من عشرين ليلة، وعند الواقدي أربعا وعشرين، وفي الروضة للنووي خمسة عشر يوما، وفي الهدى لابن القيم: أقاموا شهرا، انتهى. والذي في الهدى: وأقام المشركون شهرا يحاصرون، وكذا ما نقله عن الروضة إنما هو في الحصار، وكذا ابن عقبة إنما ذكر ذلك في الحصار كما سبق في السنة الخامسة، لكن نقل ابن سيد الناس عن ابن سعد أن المدة في عمل الخندق ستة أيام، ثم قال: وغيره يقول: بضع عشرة ليلة، وقيل: أربعا وعشرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 خويفة: ذكرها صاحب «المسالك والممالك» في توابع المدينة ومخاليفها. خيبر: اسم ولاية مشتملة على حصون ومزارع ونخل كثير، والخيبر بلسان اليهود: الحصن، ولذلك سميت بخيابر أيضا، لكثرة حصونها. وقال أبو القاسم الزجاجي: سميت بخيبر أخي يثرب ابني قانئة بن مهليل بن إرم بن عبيل، وعبيل: أخو عاد، وعم الربذة وزرود والسفرة، وكان أول من نزل بها، وهي على ثلاثة أيام من المدينة، على يسار حاج الشام، نزلها النبي صلى الله عليه وسلم قريبا من شهر، وافتتحها حصنا حصنا، فأول ما افتتح حصن ناعم، ثم العموص حصن ابن أبي الحقيق، واختار سبايا منهن صفية، ثم جعل بيدنا الحصون والأموال حتى انتهى إلى الوطيح والسلالم فكانا آخر ما فتح، فحاصرهم بضع عشرة ليلة، حتى إذا أيقنوا بالهلكة صالحوه على حقن دمائهم وترك الذرية، على أن يخلوا بين المسلمين وبين الأرض والصفراء والبيضاء والبزة إلا ما كان منها على الأجساد، وأن لا يكتموه شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم فغيبوا مسكا كان لحيي بن أخطب فيه حليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى نظفر بالمسك، فقتل ابن أبي الحقيق وسبى نساءهم وذراريهم، وأراد أن يجلى أهل خيبر فقالوا: دعنا نعمل في هذه الأرض فإن لنا بذلك علما، فأقرهم وعاملهم على الشّطر من التمر والحب، وقال: نقركم على ذلك ما شئنا أو ما شاء الله، فكانوا بها حتى أجلاهم عمر بعد ذلك. وروى ابن شبة عن حسيل بن خارجة أن أهل الوطيح وسلالم صالحوا عليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك له خاصة، وخرجت الكثيبة في الخمس، وهي مما يلي الوطيح وسلالم، فجمعت شيئا واحدا؛ فكانت مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدقاته، وهو يقتضي أن بعض خيبر فتح عنوة وبعضها صلحا، وبه يجمع بين الروايات المختلفة في ذلك، وهو الذي رواه ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب قال: فتح بعضها عنوة وبعضها صلحا، والكثيبة أكثرها عنوة، وفيها صلح، قلت لمالك: وما الكثيبة؟ قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق. قلت: المراد أن الكثيبة بخيبر، لا أنها كل أرضها، لما سبق. وروى ابن زبالة حديث «ميلان في ميل من خيبر مقدس» وحديث «خيبر مقدسة، والسوارقية مؤتفكة» وحديث «نعم القرية في سنيّات المسيح خيبر» يعني زمان الدجال. وتوصف خيبر بكثرة التمر والنخل، قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أتفخر بالكتان لما لبسته ... وقد لبس الأنباط ريطا مقصرا وإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 وتوصف أيضا بكثرة الحمى، قدمها أعرابي بعياله فقال: قلت لحمىّ خيبر استعدّي ... هاك عيالي فاجهدي وجدّي وباكري بصالب وورد ... أعانك الله على ذا الجند فحم ومات وبقي عياله. خيط: بلفظ واحد الخيوط، أطم كان لبني سواد على شرف الحرة شرقي مسجد القبلتين. الخيل: بلفظ الخيل التي تركب، يضاف إليه بقيع الخيل المتقدم في سوق المدينة عند دار زيد بن ثابت، والخيل أيضا: جبل بين مجنب وصرار، له ذكر في المغازي، وروضة الخيل: بأرض نجد. حرف الدال دار القضاء: تقدمت في باب زيادة أبواب المسجد. دار ابن مكمل: تقدمت في الدور المطيفة بالمسجد. دار النابغة: تقدمت في مسجد دار النابغة. دار نخلة: مضافة إلى واحدة النخل، تقدمت في سوق المدينة. الدبة: بفتح أوله وتشديد ثانيه كدبة الدهن، وقد تخفف، موضع بمضيق الصفراء يقال له «دبة المستعجلة» قال نصر: كذا يقوله المحدثون بالتخفيف، والصواب الأول؛ لأن معناه مجتمع الرمل، والدبة أيضا: موضع بين أضافر وبدر اجتاز به النبي صلى الله عليه وسلم بعد ارتحاله من ذفران يريد بدرا، وفي القاموس: الدبة بالضم موضع قرب بدر. در: بالفتح وتشديد الراء، غدير بأسفل حرة بني سليم على النقيع، سقى ماله الربيع كله. درك: بفتحتين، موضع كانت فيه وقعة بين الأوس والخزرج في الجاهلين، ويروى بسكون الراء، أظنه الذي سبق في بئر دريك مصغرا. دعان: بالفتح، بين المدينة وينبع، وإياه عنى معاوية رضي الله تعالى عنه بقوله «اللاتي في الغابة، وأما دعان فنهاني عن نفسه» ويأتي شاهده في ضأس. الدف: بلفظ الدف الذي ينقر به، موضع في حدان بناحية عسفان. الدماخ: بالكسر وآخره خاء معجمة، جبال ضخام بحمى ضرية، ودمخ الدماخ: جبل هو أعظمها. دهماء مرضوض: موضع بنواحي حمى البقيع لمزينة، قال ابن معن بن أوس المزني: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 فدهماء مرضوض كأن عراصها ... بها نضو محذوف جميل محافده الدهناء: بفتح أوله وسكون ثانيه ونون وألف ممدودة وتقصر، موضع بين المدينة وينبع، والدهناء أيضا: سبعة أحبل بالحاء المهملة- من الرمل بديار تميم، بين كل حبلين شقيقة، من أكثر بلاد الله كلأ مع قلة مياه، وإذا أخصبت وسعت العرب كلهم لسعتها وكثرة شجرها، وساكنها لا يعرف الحمّى لطيب تربتها وهوائها، ويصب واديها في منعج ثم في الدومة. الدوداء: بالمد، موضع قرب ورقان. دوران: كحوران، واد عند طرف قديد مما يلي الجحفة. الدومة: بالفتح، تقدمت في بئر أريس، المعروف اليوم بذلك حديقة قرب بني قريظة، وإلى جانبها الدويمة مصغرة. دومة الجندل: بضم أوله وفتحه، وأنكر ابن دريد الفتح، وفي رواية «دوما الجندل» وعدها ابن الفقيه من أعمال المدينة، سميت بدوما بن إسماعيل عليه السلام، وقال الزجاجي: دومان بن إسماعيل، وقال ابن الكلبي: دوما بن إسماعيل. قال: ولما كثر ولد إسماعيل بتهامة خرج دوما حتى نزل موضعه دومة، وبنى به حصنا فقيل «دوما» ونسب الحصن إليه، وقال أبو عبيد: دومة الجندل حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طيى. قال: ودومة من القريات من وادي القرى، وذكر أن عليها حصنا حصينا يقال له «مارد» وهو حصن أكيدر الملك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وجّه إليه خالد بن الوليد من تبوك، وقال له: ستلقاه يصيد الوحش، وجاءت بقرة وحشية فحكت قرونها بحصنه، فنزل إليها ليلا ليصيدها، فهجم عليه خالد فأسره وقتل حسانا أخاه، وافتتح دومة عنوة، وقدم بأكيدر معه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بجير الطائي: تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هاد فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد ثم صالحه النبي صلى الله عليه وسلم على دومة الجندل، وأقره على الجزية، وكان نصرانيا، ونقض أكيدر الصلح بعد، فأجلاه عمر إلى الحيرة، فنزل بقرب عين التمر، وبني منازل سماها دومة باسم حصنه بوادي القرى، قاله المجد، وفيه نظر؛ لما سيأتي في وادي القرى. وقال ابن سعد: دومة الجندل طرف من الشام، وبينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم غزاها ونزل بساحة أهلها، فلم يلق أحدا، فأقام بها أياما وبث السرايا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وقال ابن هشام في غزوة دومة: إن النبي صلى الله عليه وسلم رجع قبل أن يصلحها، وقيل: كان منزل أكيدر أولا دومة الحيرة، وكان يزور أخواله من كلب فخرج معهم للصيد، فرفعت لهم مدينة متهدمة لم يبق إلا حيطانها مبنية بالجندل، فأعادوا بناءها، وغرسوا الزيتون وغيره فيها، وسموها دومة الجندل، فرقا بينها وبين دومة الحيرة، وكان أكيدر يتردد بينهما. وزعم بعضهم: أن تحكيم الحكمين كان بدومة الجندل، وفي كتاب الخوارج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: مررت مع أبي موسى بدومة الجندل، فقال: حدثني صلى الله عليه وسلم أنه حكم في بني إسرائيل في هذا الموضع حكمان بالجور، وأنه يحكم في أمتي حكمان بالجور في هذا الموضع، قال: فذهبت الأيام حتى حكم هو وعمرو بن العاص فيما حكما، قال: فلقيته فقلت: يا أبا موسى قد حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فالله المستعان، كذا أورده المجد. الدويخل: بالضم مصغرا، جبل بني عبيد، قال المطري: هو أحد الجبلين الصغيرين غربي وادي بطحان ومساجد الفتح. حرف الذال ذات أجدال: بالجيم بمضيق الصفراء ذات القطب: من أودية العقيق كما سبق. ذات النّصب: بضم النون والصاد المهملة وباء موحدة، موضع بمعدن القبلية أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المزني، وفي الموطأ أن ابن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة، قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة أربع برد. ذباب: كغراب وكتاب لغتان، قال البكري: ذباب جبل بجبانة المدينة، وسبق في المساجد بيان أنه الجبل الذي عليه مسجد الراية، وتقدم في الخندق ما يقتضي أن اسمه ذو باب أيضا. ذرع: اسم بئر بني خطمة المتقدمة. ذروان: بمنازل بني زريق قبلى الدور التي في جهة قبلة المسجد، وما والى ذلك، يضاف إليه بئر ذروان المتقدمة. ذفران: بفتح أوله وكسر ثانيه ثم راء وآخره نون، واد تقدم بيانه في مساجد طريق مكة اليوم. ذو حده: قال البيضاوي في قوله تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ [التوبة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 48] إن ابن أبي وأصحابه تخلفوا عن تبوك بعد ما خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي حدة أسفل من ثنية الوداع، وعن ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره يومئذ على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب، كذا في تهذيب ابن هشام، وفي دلائل النبوة للبيهقي عن ابن إسحاق: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا من الناس، وضرب عبد الله بن أبي على ذي حدة أسفل منه. ذهبان: بفتحات وباء موحدة ونون، جبل لجهينة أسفل من ذي المروة، بينه وبين السقيا، وقرية بين حدة وبين قديد، قاله ابن السكيت. حرف الراء رائع: بهمزة بعد الألف، يقال: فرس رائع أي جواد، وشيء رائع، أي حسن، كأنه يروع لحسنه أي يبهت، وهو فناء من أفنية المدينة قاله ياقوت، كذا قال المجد، والذي رأيته في المشترك لياقوت أنه بياء بعد الألف غير مهموزة، وسبق ذكره في قصر عنبسة بن عمرو بالعقيق، وفي جر هشام بن إسماعيل. رابغ: بموحدة بعد الألف ثم غين معجمة، واد من الجحفة، ورابغ أيضا قال الهجري: فلق بطرف أسقف به غدير، واسمه القديم رابوغ كما سبق في غدران العقيق عن الزبير، قال: وقلما يفارقه ماء، إذا قل ماؤه احتسى، وهو أسفل شيء من غدير العقيق، إلا غدير السيالة، انتهى. ولعله المعروف اليوم هناك بالحسي. راتج: بالمثناة الفوقية بعد الألف ثم جيم، أطم سميت به الناحية، وكان ليهود، ثم صار لبني الجذماء ثم صار لأهل راتج خلفاء بني عبد الأشهل كما سبق عن ابن زبالة آخر المنازل، وأن ابن حزم قال: أهل راتج بنو رغورا بن جشم أخي عبد الأشهل أبناء الحارث بن الخزرج الأصغر، قال ابن حبيب: الشرعبي وراتج ومزاحم آطام بالمدينة، وهو لبني جشم بن الحارث بن الخزرج أي الأصغر، وسبق في مسجد راتج أنه في شرقي ذباب جانحا إلى الشام، ولهذا خندقت بنو عبد الأشهل منه إلى طرف حرتهم، وهو طرف بني حارثة كما سبق في الخندق، ولم يعرج المطري على ما ذكرناه، بل قال: عن الجبل الذي إلى جنب جبل بني عبيد غربي بطحان يقال له راتج، وقال بعضهم في جبال المدينة: ذباب، وسلع، وراتج، وجبل بني عبيد. راذان: قرية بنواحي المدينة، قاله المجد، وراذان أيضا: من سواد العراق قريتان عليا وسفلى، وفي حديث ابن مسعود «لا تتخذوا الضيعة» قال عبد الله: براذان ما براذان، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 أربعا، وبالمدينة ما بالمدينة، أي لا سيما إن اتخذتم الضيعة براذان أو بالمدينة، خصهما لنفاستهما وكثرة الرغبة فيهما، قال ياقوت: راذان من نواحي المدينة لها ذكر في حديث ابن مسعود، انتهى. رامة: منزل بطريق الحاج العراقي على مرحلة من أمرة، وسماه أبو عبيدة رامتان، فقال في منازل طريق الحاج: وأما رامتان فهما زبيبتان مثل ثدي المرأة، ثم ذكر أمرة. رانوناء: بنونين ممدودة كعاشوراء، ويقال رانون كما سبق في الفصل الخامس. راية الأعمى: من أودية العقيق. راية الغراب: من أوديته أيضا. رباب: كسحاب، جبل بطريق فيد للمدينة، يقابله جبل يقال له حولة، وهما عن يمين الطريق ويساره. الربا: بالضم ثم الفتح مخففا مقصورا، جمع ربوة، بين الأبواء والسقيا بطريق مكة. الربذة: بالتحريك وإعجام الذال، تقدمت في الفصل السابع. الربيع: بلفظ ربيع الأزمنة، موضع بنواحي المدينة، ويوم الربيع: من أيام الأوس والخزرج، قال قيس بن الخطيم: ونحن الفوارس يوم الربيع ... وقد علموا كيف فرساننا الرجام: ككتاب، جبل مستطيل أحمر على ثلاثة عشر ميلا من ضرية على طريق أهل أضاخ، وفي غربيه ماء عذب يقال له الرجام، وليس بينه وبين طخفة إلا طريق ثنية، وفي أعراضه نزل جيش أبي بكر أيام الردة. الرجلاء: تقدم في حرة الرجلاء. الرجيع: كأمير، واد قرب خيبر، قال ابن إسحاق في غزوة خيبر: ثم أقبل حتى نزل بواد يقال له الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان ليحيل بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر، فعسكر به، وكان يراوح القتال منه، ويخالف الثقل والنساء والجرحى بالرجيع، والرجيع أيضا: بين مكة والطائف به سرية عاصم حميّ الدّبر كما سبق في بئر معونة. الرحابة: كغمامة، موضع بالحرة الغربية ببني بياضة كما تقدم في مساجد بني بياضة. الرحبة: كرقبة، بلاد عذرة قرب وادي القرى وسقيا الجزل، وذكرها صاحب المسالك والممالك في توابع المدينة ومضافاتها. رحرحان: بحاءين مهملتين بينهما راء، تقدم في حمى الربذة. الرحضية: بالكسر كالزنجية والضاد معجمة، هي الأرحضية كما سبق فيها، قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 الصغاني: الرحضية قرية للأنصار، وحذاءها قرية يقال لها الحجر، وقال المجد: هي للأنصار وبني سليم، بها آبار وعليها مزارع كثيرة ونخيل. رحقان: بالضم ثم السكون والقاف آخره نون، واد عن يمين المتوجه من النازية إلى المستعجلة وسيله يصب عن يسار المستعجلة في خيف بني سالم، ولهذا قال ابن إسحاق في السير إلى بدر كما سبق في مسجد مضيق الصفراء: فسلك في ناحية منها، يعني النازية، حتى جزع واديا يقال له رحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء، أي قطع طرف الوادي المذكور مما يلي المستعجلة، وهي أول مضيق الصفراء. الرديهة: من أودية مسيل العقيق. رحيب: بالضم كنفير تصغير رحب، جبل معروف قرب أراين، سبق شاهده فيه. رحية: تصغير رحا، بئر بين المدينة والجحفة. الرس: بالفتح وتشديد السين، من أودية القبلية، قاله الزمخشري، وقال غيره: هو ماء لبني منقد من بني أسد بنجد، وقال ابن دريد: الرس والرسيس واديان بنجد أو موضعان، والرس الذي في التنزيل: واد قبل وادي أذربيجان، وهو واد عجيب فيه رمان لم ير مثله، وزبيبه يجفف في التنانير؛ لأنه لا شمس عندهم لكثرة الضباب، وكان عليه ألف مدينة، فبعث الله إليهم نبيا فكذبوه، فدعا عليهم، فحول الله جبلين عظيمين كانا بالطائف فأرسلهما عليهم فهم تحتهما. رشاد: من أودية الأجرد، وكان اسمه غوى، وهو لبني عنان من جهينة، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم رشادا، وقال لهم: أنتم بنو رشدان. ذات الرّضم: محركة وتسكن، موضع على ستة أميال من وادي القرى، قال عمرو بن الأهيم: قفا نبك من ذكرى حبيب وأطلال ... بذي الرضم فالرمانتين فأوعال الرضمة: محركة وتسكن، من نواحي المدينة، قال ابن هرمة: سلكوا على صفر كأن حمولهم ... بالرضمتين ذرى سفين عوم رضوى: بالفتح كسكرى، جبل قرب ينبع، ذو شعاب وأودية، وبه مياه وأشجار، ومنه يقطع أحجار المسانّ، قال ابن السكيت: رضوى قفاه حجاز وبطنه غور، وهو لجهينة. وقال عرام: هو أول جبال تهامة، على مسيرة يوم من ينبع، وعلى سبع مراحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 من المدينة، ميامنه طريق مكة، وسبق آخر الباب الخامس عند ذكر فضل أحد أن رضوى مما وقع بالمدينة من الجبل الذي تجلّى الله تعالى له، وصار لهيبته ستة أجبل، وأن أبا غسان قال: أما رضوى فبينبع على مسيرة أربع ليال من المدينة، وهذا هو المعروف في المسافة بينهما. وسبق هناك أيضا أن رضوى من جبال الجنة، وفي رواية أنه من الجبال التي بنى منها البيت، وفي حديث «رضوى رضي الله عنه، وقدس قدسه الله، وأحد جبل يحبنا» وتزعم الكيسانية أن محمد بن الحنفية مقيم برضوى يرزق. الرّعل: بالكسر وسكون العين المهملة، أطم بمنازل بني عبد الأشهل، ولما أجلاهم عنها بنو حارثة كما سبق قال حضير بن سماك يوما: ارفعوني أنظر إلى الرعل، فقال أساف بن عدي الحارثي: فلا وبنات خالك لا تراه ... سجيس الدهر ما نطق الحمام فإنّ الرعل إذ اسلمتوه ... وساحة واقم منكم حرام ذات الرقاع: بالكسر، جمع رقعة، قال الواقدي: هي قرب نخل، على ثلاثة أميال من المدينة، وهي بئر جاهلية، وإنما سميت بذلك لأن تلك الأرض بها بقع بيض وحمر وسود، وقيل: ذات الرقاع جبل فيه سواد وبياض وحمرة، فكأنها رقاع في الجبل، كذا نقله المجد، والذي نقله الحافظ ابن حجر عن الواقدي أن الغزوة سميت ذات الرقاع باسم نخيل هناك فيه نقع. وسيأتي في ترجمة نخل أن غزوة ذات الرقاع كانت به، مع ما نقل عن الواقدي في ذلك، وقال ابن هشام وغيره: سميت بذلك لأنهم رقعوا راياتهم، وقال الداودي: لأن صلاة الخوف كانت بها فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها، وقال أبو موسى الأشعري: سميت بذلك لما لفوا في أرجلهم من الخرق كما في صحيح مسلم، وقيل: سميت باسم شجرة هناك يقال لها ذات الرقاع، وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض. الرقعة: بالفتح ثم السكون، موضع قرب وادي القرى من الشقة شقة بني عذرة، فيه مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم كذا قاله المجد، وهو مخالف لما سبق عن المطري في مساجد تبوك من أنه على لفظ رقعة الثوب، وأن البكري قال: أخشى أن يكون بال رقم ة من الشقة شقة بني عذرة، فما ذكره المجد إنما يصح في الرقمة بالميم. الرقمتان: بحرة المدينة الغربية، وهما نهدان من أنهادها لونهما أحمر إلى الصفرة، وتلك الحرة سوداء، فسميا بذلك، وقد يقال فيهما الرقمة بالإفراد- قال الأصمعي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 الرقمتان إحداهما قرب المدينة والآخرى بقرب البصرة، وقال العمراني: إحداهما بالبصرة والآخرى بنجد، وأما التي في شعر زهير: ودار لها بالرقمتين كأنها ... مراجع وشم في نواشر معصم فبأرض بني أسد. رقم: محرّك، وقد يسكّن، بالمدينة ينسب إليه السهام الرقميات، وقال نصر: الرقم جبال بدار غطفان، وماء عندها، والسهام الرقميات منسوبة إلى هذا الموضع. وروى أبو نعيم خبر عامر بن الطفيل وأربد بن صيفي في همهما بقتل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأن أربد لما وضع يده على السيف يبست على قائمه، فلم يستطع سلّه، فخرجا حتى إذا كانا بحرة واقم نزقا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسد بن حضير فقال: اشخصا يا عدوى الله، لعنكما الله، فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالحريث أرسل الله عليه قرحة، وذكر موته بها. الرقيبة: تصغير رقبة، وقال نصر: إنه بفتح أوله كسفينة، جبل مطل على خيبر له ذكر في قصة عيينة بن حصن في فتح خيبر. الركابية: بالكسر منسوبة إلى الركاب وهي الإبل، موضع على عشرة أميال من المدينة. ركنان: بالتحريك، قرب وادي القرى. ركوبة: بالفتح كحلوبة بالباء الموحدة، ثنية بين مكة والمدينة عند العرج، على ثلاثة أميال منه لجهة المدينة، كما سيأتي في المدارج. قال ابن إسحاق في سفر الهجرة: ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية الغاير عن يمين ركوبة. وقال المجد: ركوبة ثنية شاقة يضرب بصعوبتها المثل، سلكها النبي صلى الله عليه وسلم عند مهاجره إلى المدينة، قرب جبل ورقان وقدس الأبيض، وكان معه ذو البجادين، فحدا به وجعل يقول: تعرّضي مدارجا وسومي ... تعرّض الجوزاء للنجوم هذا أبو القاسم فاستقيمي ومأخذه قول الأصمعي في تفسير قول بشر بن أبي خازم: ولكن كرّا في ركوبة أعسر ركوبة عند العرج سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان دليله إليها عبد الله ذو البجادين، انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 وكل من ركوبة وثنية الغاير بعقبة العرج، والعقبة هي المدارج كما سيأتي، وأغرب الحافظ ابن حجر فقال في الكلام على نار الحجاز: ركوبة ثنية صعبة المرتقى في طريق المدينة إلى الشام، مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ذكرها البكرى، انتهى. فإن صح فهي غير هذه، وسيأتي عن عرام في ورقان أنه ينقاد إلى الحي بين العرج والرويثة، ويغلق بينه وبين قدس الأبيض عقبة يقال لها ركوبة. الرمة: بالضم ويكسر، قاع عظيم بنجد، قاله في القاموس، وقال الأصمعي: الرمة تخفف وتثقل، وبين أسفلها وأعلاها سبع ليال من الحرة حرة فدك إلى القصيم، وقال غيره: بطن الرمة ببلاد غطفان في طريق فيد إلى المدينة. رواوة: بالضم كزرارة، قال ابن السكيت، رواوة والمبيضي وذو السلاسل أودية بين الفرع والمدينة، وانتهى، وسبق عن الهجري أن سيل العقيق يقضي إلى غدير يقال له رواة، قال أبو الحسن: رواة يدفع في خليقة ابن أبي أحمد، وسبق عن ابن شبة أن سيل العقيق يصبّ في غدير يلبن، ثم على رواوتين يعترضهما يسارا، فثناه، وأورد المجد شاهد الإفراد، وسبق نحوه في تيدد وشاهد التثنية، وسيأتي في لأي. الروحاء: بالفتح ثم السكون والحاء المهملة، قال المجد: موضع من عمل الفرع على نحو أربعين ميلا من المدينة، وفي صحيح مسلم: على ست وثلاثين ميلا، وفي كتاب ابن شبة: على ثلاثين ميلا، وقال أبو غسان: إن ورقان بالروحاء من المدينة على أربعة برد وقال أبو عبيد البكري: قبر مضر بن نزار بالروحاء على ليلتين من المدينة بينهما أحد وأربعون ميلا، وذكر الأسدي في موضع أنها على خمسة أو ستة وثلاثين ميلا، وقال في موضع: اثنين وأربعين ميلا، قال: وعلى مدخل الروحاء علمان، وعلى مخرجها علمان؛ فالجمع بين ذلك أن الروحاء اسم للوادي، وفي أثنائه منزلة الحجاج، فيحمل أقل المسافات على إرادة أوله مما يلي المدينة، وأكثرها على آخره، ومتوسطها على وسطه. قال ابن الكلبي: لما رجع تبّع من قتال أهل المدينة نزل بالروحاء، وأقام بها وأراح، فسماها الروحاء. وسئل كثير: لم سميت الروحاء؟ قال: لانفتاحها وروحها، ويقال: بقعة روحاء، طيبة ذات راحة. وسبق في مسجد شرف الروحاء أن من الشرف يهبط في وادي الروحاء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا واد من أودية الجنة، يعني وادي الروحاء، وأن اسمه سجاسج، وأن موسى بن عمران عليه السلام مرّ بالروحاء في سبعين ألفا، وأنه صلى بذلك الوادي سبعون نبيا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وقال ابن إسحاق في مسيره صلى الله عليه وسلم إلى بدر: ونزل سجسج، وهي بئر الروحاء، وقال الأسدي: وبالروحاء آثار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها قصران وآبار كثيرة منها بئر تعرف بمروان عندها بركة للرشيد، وبئر لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه عليها سانية، وسيل مائها إلى بركتها، وبئر تعرف بعمر بن عبد العزيز في وسط السوق يسنى منها في إحدى البركتين، وبئر تعرف بالواثق، وهي شر آبار المنزل طول رشائها ستون ذراعا، انتهى. وبها اليوم بركة تملأ للحاج تعرف ببركة طار، ولعله جددها وجعل لها معلوما ووقفا. وقال ابن الرضية: إذا اغرورقت عيناي قال صحابتي ... لقد أولعت عيناك بالهملان ألا فاحملاني بارك الله فيكما ... إلى حاضر الروحاء ثم دعاني ويؤخذ مما سلف في فضائل بقيع الغرقد تسمية المقبرة التي بوسطه وفيها مشهد سيدنا إبراهيم عليه السلام بالروحاء. روضة الأجاول: بالجيم، بنواحي ودّان، منازل نصيب الشاعر. روضة الأجداد: قرية ببلاد غطفان من وادي القصيبة قبلى خيبر وشرقي وادي عصيرة، قال الهيثم بن عدي: خرج عروة الصعاليك وأصحابه إلى خيبر يمتارون منها، فعشروا أي نهقوا كالحمير- يرون أنه يصرف عنهم الوباء، وامتنع عروة أن يعشر، وأنشد: وقالوا اجث وانهق لا تضرك خيبر ... وذلك من دين اليهود ولوع لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق حمير إنني لجزوع فلا وألت تلك النفوس ولا أتت ... على روضة الأجداد وهي جميع قال: ودخلوا وامتاروا ورجعوا، فلما بلغوا روضة الأجداد ماتوا إلا عروة. روضة ألجام: بفتح الألف وسكون اللام والجيم وألف وميم، ويقال روضة آجام، نحو النقيع، قاله ابن السكيت في قول كثير: فروضة ألجام تهيج لي البكا ... وروضات شوظى عهدهن قديم وعدها الهجري من دوافع وادي العقيق المشهورة التي من الحرة. روضة خاخ: بخائين معجمتين، وتقدمت في خاخ. روضة الخرج: بضم الخاء وسكون الراء ثم جيم، من نواحي المدينة. روضة الخرجين: تثنية الذي قبله، ولعله هو، قال: بروضة الخرجين من مهجور ... تربعت في غارب نضير ومهجور: ماء بنواحي المدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 روضة الخزرج: بلفظ القبيلة من الأنصار، بنواحي المدينة، قال حفص الأموي: فالمح بطرفك هل ترى أظعانهم ... بالبارقية أو بروض الخزرج روضة الحماط: هي روضة ذات الحماط، وذات الحماط: من أودية العقيق. روضة ذي الغصن: بلفظ غصن الشجرة مضافة إلى ذي الغصن أحد أودية العقيق. روضة الصها: بضم الصاد المهملة، شمالي المدينة على ثلاثة أيام، والصّها: جمع صهوة، وهي أجبال هناك، وربما قالوا رياض الصها. روضة عرينة: كجهينة، واد ناحية الرحضية، كان يحمى للخيول وفي الجاهلية والإسلام، بأسفلها قلهى، وهو ماء لبني جذيمة بن مالك. روضة العقيق: عقيق المدينة، أنشد الزبير: عج بنا يا أنيس قبل الشروق ... نلتمسها على رياض العقيق روضة الفلاج: بكسر الفاء آخره جيم، يأتي في الفلجة أحد أودية العقيق. روضة مرخ: بالتحريك والخاء المعجمة، بالمدينة، قال ابن المولى المدني: هل تذكرين بجنب الروض من مرخ ... يا أملح الناس وعدا شفني كمدا روض نسر: بفتح النون وسكون السين المهملة آخره راء، يأتي في النون. ذو رولان: واد قرب الرحضية لبني سليم به قلهى. الرويثة: بالضم وفتح الواو وسكون المثناة تحت وفتح المثلاثة آخره هاء، قال ابن السكيت: منهل بين مكة والمدينة، ولما رجع تبع من قتال أهل المدينة نزل الرويثة وقد أبطأ في مسيره، فسماها الرويثة من راث إذا أبطأ، وهي على ليلة من المدينة، كذا قال المجد، وصوابه ليلتين؛ لأنها بعد وادي الروحاء ببضعة عشر ميلا، ولذا قال الأسدي: إنها على ستين ميلا من المدينة. رهاط: كغراب والطاء مهملة، موضع بأرض ينبع، اتخذ به هذيل سواعا، قاله ابن الكلبي، وعن راشد بن عبد ربه قال: كان سواع بالمعلاة من رهاط يدين لها هذيل وبنو ظفر من سليم، وذكر ما سمعه من الهاتف من بطن سواع وغيره من الأصنام بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رأى ثعلبين يلحسان ما حول سواع ويأكلان ما يهدى إليه، ثم يبولان عليه، فأنشد: أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب وذكر خروجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقطعه قطيعة برهاط، فأقطعه بالمعلاة من رهاط شأو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 الفرس ورميته ثلاث مرات بحجر، وأعطاه إداوة مملوءة من ماء وتفل فيها، وقال له: فرغها في أنحاء القطيعة، ولا تمنع الناس فضولها، ففعل، فجعل الماء يغبّ فجمه فغرس عليها النخل وصارت رهاط كلها تشرب منه، وسماها الناس ماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل رهاط يغتسلون منها ويستشفون بها. وقال عرام: فيما يطيف بجبل شمنصير قرية يقال لها رهاط بقرب مكة على طريق المدينة، وبقربها الحديبية، وهي مواضع بني سعد وبني مسروح الذين نشأ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال صاحب المسالك والممالك فيما نقله الأقشهري: ومن توابع المدينة ومخاليفها ساية ورهاط وعران. الرّيّان: ضد العطشان، أطم لبني حارثة، وأطم لبني زريق، وماء بحمى ضرية في أصل جبل أحمر طويل، قال جرير: يا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا ساكن الريان من كانا والريان أيضا: واد هناك، وجبل ببلاد بني عامر، وموضع بمعدن بني سليم به قصر كان الرشيد ينزله إذا حج. ريدان: بالفتح وسكون المثناة تحت ودال مهملة، أطم بالمدينة لآل حارثة بن سهل بن الأوس، نقله ياقوت، ثم قال: ولا أعرف بطنا من الأنصار يقال لهم ذلك. قلت: الذي ذكره ابن زبالة أن بني واقف بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس ابتنوا أطما يقال له الريدان كان موضعه في قبلة مسجد الفضيخ، وله يقول قيس بن رفاعة: وكيف أرجو مزيد العيش بعدهم ... وبعد ما قد مضى من أهل ريدان ريم: بالكسر وسكون الياء غير مهموز، قاله عياض، وضعفه المجد، وقال: إنه بهمزة ساكنة واد لمزينة يصب فيه ورقان، وسبق أنه من أودية العقيق يلقاه ثم يدفع في خليقة ابن أبي أحمد، وفي الموطأ عن ابن عمر أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في سيره ذلك، قال يحيى: قال مالك: وذلك نحو أربعة برد، قال عياض: وفي مصنف عبد الرزاق ثلاثين ميلا، ونقل المجد ما يخالف ما سبق عن مالك ومصنف عبد الرزاق، وفي طبقات ابن سعد: كان عبد الله بن بحينة رضي الله تعالى عنه ينزل بطن ريم على ثلاثين ميلا من المدينة؛ فلا يخفى وجه الجمع، وفي سفر الهجرة: وسار حتى هبط بطن ريم، ثم قدم قباء. وقال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: لسنا بريم ولا حمت ولا صورى ... لكن بمرج من الجولان مغروس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 والجولان: قرية بدمشق. ريمة: كديمة، واد لبني شيبة قرب المدينة بأعلى نخل. ذو ريش: بلفظ ريش الطائر، تقدم في أودية المدينة. حرف الزاي زبالة الزج: شمالي المدينة، بينها وبين يثرب، كان لأهلها أطمان، وهما اللذان عند كومة أبي الحمراء كما سبق، وزبالة أيضا: موضع بطريق العراق، ليس من عمل المدينة. الزج: بالضم وتشديد الجيم، قاله المجد، وقال ابن سيد الناس: بالخاء المعجمة، موضع بناحية ضرية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصيد بن سلمة بن قرط مع الضحاك الكلابي إلى القرطاء، وهم قرط وقريط وقريط من أبي بكر بن كلاب، يدعوهم إلى الإسلام، فقاتلوهم فهزموهم، فلحق الأصيد أباه سلمة بزج بناحية ضربة، والزج أيضا: ما أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم العدّاء بن خالد من بني ربيعة بن عامر. الزراب: ككتاب، ويقال: ذات الزراب، تقدم في مساجد تبوك. زرود: بالفتح ثم الضم آخره دال مهملة، موضع بقرب أبرق العزاف كما يؤخذ مما سيأتي عن الصحاح في العزاف، وسبق في ترجمة خيبر ما يؤخذ منه أنه اسم لأول من سكن به من أولاد إخوة عاد. زريق: مصغر، ويقال: قرية بني زريق، ومسجد بني زريق، تقدّما. زغابة: كسحابة والغين معجمة، مجتمع السيول آخر العقيق غربي قبر حمزة رضي الله تعالى عنه، وهي أعلى إضم كما سبق عن الهجرى وغيره، وأن ابن إسحاق قال: نزلت قريش بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة، قال أبو عبيد البكري في ضبطه: زعابة بالضم وإهمال العين، وقال محمد بن جرير: الرواية الجيدة بين الجرف والغابة؛ لأن زعابة لا تعرف، قال ياقوت: ليس كذلك، فإن في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ألا تعجبون لهذا الأعرابي؟ أهدى إليّ ناقتي أعرفها بعيني، ذهبت مني يوم زعابة، وقد كافأته بست- أي بست بكرات- فسخط» وجاء ذكر زعابة في حديث آخر، فكيف لا يكون يعرف؟. زمزم: اسم للبئر التي على يمين الذاهب للعقيق، بعيدة من الجادة كما سبق في الآبار، سميت بذلك لكثرة التبرك بمائها ونقله إلى الآفاق. زور: بالفتح آخره راء، جبل بالحجاز، أو واد قرب السوارقية، شاهده في منور. الزوراء: بالفتح ثم السكون، تقدم في البلاط وسوق المدينة، وقال ابن شبة في دور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 العباس: منها الدار التي بالزوراء سوق المدينة عند أحجار الزيت، وسبق أن أحجار الزيت عند مشهد مالك بن سنان، لما في رواية ابن زبالة أنهم دفنوه بالسوق فدفن عند مسجد أصحاب العباء، وهناك كانت أحجار الزيت، فالزوراء ذلك المحل من سوق المدينة، وقيل: الزوراء اسم لسوق المدينة. وفي صحيح مسلم عن أنس «أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بالزوراء، والزوراء بالمدينة عند السوق» . وفي البخاري «أن عثمان رضي الله تعالى عنه زاد النداء الثالث على الزوراء» قال البخاري: الزوراء موضع بالسوق، وفي رواية له «النداء الثاني» . وقوله: «الثالث» لجعله الإقامة نداء، ولفظ ابن ماجه «على دار في السوق يقال لها الزوراء» ويؤخذ من وصف دار السوق التي أخذها ابن هشام أن لعثمان بالسوق دارا تسمى الزوراء، ولذا قال ابن شبة: واتخذ عثمان الدار التي يقال لها الزوراء، اه. فهي التي أحدث النداء عليها، وكأنها سميت باسم موضعها من السوق، قال الحافظ ابن حجر: جزم ابن بطال بأن الزوراء حجر عند باب المسجد، وفيه نظر؛ لما في رواية ابن إسحاق عن الزهري عند ابن خزيمة وابن ماجه «زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء» وقال ابن حجر أيضا في حديث أنس في تكثير الماء: قوله «بالزوراء» هو مكان معروف بالمدينة عند السوق، وزعم الداودي أنه كان مرتفعا كالمغارة، وكأنه أخذه من أمر عثمان بالتأذين عليه، وذلك كان بالزوراء أي الذي يؤذن عليه، لا أنه الزوراء نفسها، اه. وفي العتبيّة ما يشعر بأنه كان بالزوراء من سوق المدينة منارة، ولعلها من الدار التي كان يؤذن عليها؛ لأنه ترجم لتواضع العلماء وجلوسهم في الأسواق، وعند أصحاب العباء أي الذين يبيعون البعاء، ثم أورد عن مالك عن يحيى بن سعيد قال: ما أحدث أحاديث كثيرة عن سعيد بن المسيب إلا من عند أصحاب العباء في السوق، وما أحدث عن سالم بن عبد الله أحاديث إلا في ظل المنارة التي في السوق، كان يقعد في ظلها وسعيد عند أصحاب العباء، اه. وتؤخذ مما تقدم في فضل بقيع الغرقد أن الزوراء أيضا: اسم للموضع الذي دفن به سيدنا إبراهيم عليه السلام. وقال البرهان بن فرحون: قال ابن حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رقى المنبر جلس ثم أذن المؤذنون، وكانوا ثلاثة يؤذنون على المنائر واحدا بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب، ثم استمر ذلك، فلما كان عثمان وكثر الناس أمر أن يؤذن بالزوراء عند الزوال وهو موضع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 بالسوق، ليرتبع الناس منه، وهو إلى ناحية البقيع، فإذا جلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار، ثم نقل هشام بن عبد الملك الأذان الذي كان بالزوراء إلى المسجد فجعله واحدا يؤذن عند الزوال على المنار، فإذا خرج هشام أذن المؤذنون كلهم بين يديه، اه. وقوله: «في ناحية البقيع» محمول على بقيع الخيل سوق المدينة، لا بقيع الغرقد؛ لأن سوق المدينة لم يكن في ناحيته. زهرة: بالضم ثم السكون، قال ابن زبالة: هي ثبرة أي: بمثلاثة ثم موحدة وهي الأرض السهلة بين الحرة والسافلة مما يلي القف، وكان من أعظم قرى المدينة، وكان في قريتها ثلاثمائة صائغ، وكانت لهم الأطمان اللذان على طريق العرض حين يهبط من الحرة، والمراد الحرة الشرقية، فإنها تعرف بحرة زهرة كما سبق، ومقتضاه أن زهرة مما يلي طرف العالية، وما نزل عنها فهو السافلة، وأدنى العالية ميل من المسجد كما سيأتي، ويرجحه قوله «مما يلي القف» لما سيأتي فيه أنه بقرب صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المشربة به، وسبق في الصدقات أن الظاهر أن حسنى وهي بالقف هي الحسنيات بقرب الدلال والصافية فتكون زهرة بقرب ذلك، ويؤيده ما سبق في الصدقات عن المراغي أنه يقال لجزع الصافية «جزع زهيرة» مصغر زهرة المذكورة، ويؤيده أيضا ما سبق أول الباب الثاني أنه بقي من صعل وفالج امرأة تعرف بزهرة، وكانت تسكن بها، وأنه لما غشيها الدود قالت: رب جسد مصون، ومال مدفون، بين زهرة ورانون. وفي كتاب الحرة للواقدي: أقبل نفر من أهل الشام على خيولهم يطيفون فيما بين زهرة إلى البقيع، فيصادفون نفرا من الأنصار على أقدامهم. الزين: بلفظ ضد الشين، مزرعة بالجرف. روى ابن زبالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدرع المزرعة التي يقال لها الزين بالجرف. حرف السين سائر: كصابر، من نواحي المدينة، قال: عفا مثعر من أهله فثقيب ... فسفح اللوى من سائر فجريب وعد صاحب «المسالك والممالك» من توابع المدينة ومخاليفها السائر. السافلة: تقابل العالية، وأدنى العالية كما سيأتي فيها السنح على ميل من المسجد، فما نزل عنه فهو السافلة، ويحتمل أن يكون بينهما واسطة، وربما أومأ إليه ما سبق في زهرة أنها بين الحرة والسافلة، والناس اليوم يطلقونها على ما كان في شامي المدينة، والعالية على ما كان في قبلتها، ويؤيد الأول ما رواه ابن إسحاق من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 انتصر ببدر أرسل ابن رواحة بشيرا إلى أهل العالية وزيد بن حارثة لأهل السافلة، قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوّينا التراب على رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زيد بن حارثة قدم، فجئته وهو واقف بالمصلّى قد غشيه الناس، فظاهره الانقسام إلى السافلة والعالية فقط، وأن المعروف بالمدينة اليوم من السافلة لإتيان بشير السافلة إلى المصلى. الساهية: تقدمت في أودية العقيق. ساية: كغاية، قال المجد: واد من أعمال المدينة لم يزل واليه من قبل صاحبها، إلا في زماننا، وانفرد عن حكمها كسائر أعراض المدينة، وفي ساية نخل ومزارع وموز ورمان وعنب، وأصلها لولد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وفيها من أفناء الناس، ويطلع عليها جبل السّراة دون عسفان، قاله عرام، وقال ابن جني: شمنصير جبل ساية واد عظيم به أكثر من سبعين عينا، وهو وادي ألج. سبر: بالفتح وتشديد الموحدة المكسورة، كثيب بين بدر والمدينة، قسم به رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر، نقله المجد عن نصر، وذكر في سير بالمثناة التحتية ما سيأتي من أن القسم به فيرجع إلى الاختلاف في ضبط اللفظ، والراجح ما سيأتي. السّتار: بالكسر والمثناة فوق ثم ألف وراء، جبل بحمى ضرية، وجبل آخر بالعالية في ديار سليم، وأجبل سود على ثلاثة أيام من ينبع. سجاسج: اسم وادي الرّوحاء، قال ابن شبة: والسجسج الهواء الذي لا حرّ فيه ولا برد. السد: بالضم، سد عبد الله بن عمرو بن عثمان يأتي منه رانوناء فيها، وهناك سد بقرب عير يعرف اليوم بسد عنتر، وقال عرام: السد هو ماء سماء جبل شوران مطل عليه، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسده، ومن السد قناة إلى قباء اه. وكأنه يريد السد المتقدم، لما اقتضاه كلامه في شوران أنه جبل عير كما سيأتي، وقال بعضهم: السد موضع بالمدينة كان يجلس فيه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، فنسب إليه. وقال الحارثي: السد ماء سماء في حزم بني عوال، ولعله يعني السد الذي في الطريق التي كان الرشيد يسلكها من المدينة إلى معدن بني سليم بين المدينة والرحضية على عشرين ميلا من المدينة، قاله الأسدي، قال: وبه ماء كثير في شعب كان معاوية رضي الله تعالى عنه عمل له سدا يحبس فيه الماء شبيها بالبركة، انتهى. وأخبرني بعض أمراء المدينة أنه معروف دون هكر. وفي البخاري في حديث رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر بصفية: فخرج بها حتى بلغنا سد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 الروحاء حلت، وكنت أستشكله، لأن صفية حلت بالصهباء، وليست الروحاء بطريق خيير، ولهذا قال الكرماني: قيل الصواب سد الصهباء وقد ثبت في رواية أخرى للبخاري: فخرج بها حتى بلغنا سد الصهباء، وصوبها الحافظ ابن حجر، وهي رواية أبي داود وغيره، وبين ابن سعد في خيبر رواية أن الموضع الذي وقع البناء بصفية فيه على ستة أميال من خيبر. وقال عياض: سد الروحاء جبلها، يقال بالضم والفتح، وسد الصهباء مثله، والسد: الردم أيضا، وقال: السد بالضم خلقة، وبالفتح فعل الإنسان، وقال الكسائي: هما واحد، انتهى. ويؤخذ من كلام ياقوت أن الموضع المعروف بالحبس في زمامنا بأعلى وادي قناة يسمى بالسد أيضا. السراة: بالفتح وتخفيف الراء، تقدم في الحجاز. ذو السرح: بفتح السين وسكون الراء ثم حاء مهملة، واد قرب ملل. السر: بالكسر ضد الجهر، موضع بنجد لبني أسد، وموضع في بلاد بني تميم، والسّرّ بالضم- موضع بالحجاز في ديار مزينة. السّرّارة: بالفتح وتشديد الراء الأولى، تقدمت في منازل بني بياضة، وفي رانوناء من أودية المدينة، وهي غير الحديقة المعروفة اليوم بالسرارة عند قباء. سرع: بالفتح وإعجام الغين، قرية بوادي تبوك على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة، وهي آخر أعمال المدينة، قاله المجد. السّرير: كزبير، واد قرب المدينة، قال كثيّر: وسرير البضيع ذات الشمال وسرير أيضا: موضع بقرب الجار، وهي فرضة أهل السفن الواردة من الحبشة على المدينة، قاله المجد، والظاهر أنهما واحد، لإضافة الأول في شعر كثير إلى البضيع، ثم ظفرت بالإشارة إلى ذلك في كلام ياقوت، فإنه ذكر ما قاله المجد، ثم قال: ولا يبعد أن يكون الثاني هو الأول، والسرير أيضا: الوادي الأدنى بخيبر، وبه الشق والنطاة، نزل به النبي صلى الله عليه وسلم أولا فشدّ أهله لقتاله فهزمهم الله. السعد: بالفتح وسكون العين ثم دال مهملتين، موضع كان بقربه غزوة ذات الرقاع، وقال نصر: هو جبل على ثلاثين ميلا من الكديد، عنده منازل وسوق وماء عذب بطريق فيد، وربه يعلم خطأ من قال: إنه على ثلاثة أميال من المدينة. سفا: بالفاء كقفا، موضع من نواحي المدينة. سفان: تثنية الذي قبله، واد يلقى وادي إضم عند البحر كما سبق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 سفوان: بفتحات، واد من ناحية بدر، إليه انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر الأولى طالبا لكرز الفهري الذي أغار على سرح المدينة، وقال وداك بن ثميل المازني: رويد بني شيبان بعض وعيدكم ... تلاقوا غدا خبلى على سفوان تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ... إذا ما بدت في المأزق المتداني عليها الكّماة العزّ من آل مازن ... أولات طعان عند كل طعان سقاية سليمان: بن عبد الملك بالجرف على محجة من خرج إلى الشام، يعسكر بها الخارج من المدينة إلى الشام، وكذا من خرج إلى مصر قديما. السقيا: بالضم ثم السكون، سقيا سعد بالحرة الغربية كما سبق في الآبار، وقرية جامعة من عمل الفرع بطريق الحاج القديمة، قال السهيلي: سميت السقيا بابار كثيرة فيها وبرك. وسئل كثير: لم سمّيت بذلك؟ فقال لأنهم سقوا بها ماء عذبا، وقال ابن الفقيه: لما رجع تبع من المدينة نزل السقيا وقد عطش، فأصابه بها مطر، فسماها السقيا، وقال الخوارزمي: السقيا قرية عظيمة قريبة من البحر، على مسيرة يوم وليلة، وقال المجد: هي على يومين من المدينة، ومأخذه قول أبي داود عقب حديث الاستعذاب من السقيا، قال قتيبة: هي عين بينها وبين المدينة يومان، وتقدم أن حديث الاستعذاب إنما هو في سقيا سعد بالمدينة، ومع ذلك فهو مخالف لقول المجد في القاحة: إنها قبل السقيا بميل، على ثلاث مراحل من المدينة، بل قال: إن الأبواء على نحو خمسة أيام من المدينة، وسبق أنها بعد السقيا بأحد عشر ميلا، فالسقيا على نحو أربعة أيام من المدينة، وبه صرح الأسدي، فإنه ذكر ما حاصله أن بينهما مائة ميل إلا أربعة أميال، والسقيا اليوم معروفة على نحو هذه المسافة، ويوافقه قول المجد: الفرع عن يسار السقيا على ثمانية برد من المدينة، وقول عياض: بين السقيا وبين الفرع مما يلي الجحفة سبعة عشر ميلا، والسقيا أيضا: موضع بوادي الجزل ببلاد عذرة قرب وادي القرى، وذكر الأسدي أنها على نحو سبع مراحل من المدينة، وعلى نحو مرحلتين من ذي المروة، وأنه كان يلتقي بها من يريد المدينة الشريفة على غير طريق الساحل مع من يصل من الشام. سقيفة بني ساعدة: تقدمت بمنازلهم ومساجدهم، وقال الأزهري: السقيفة كل بناء سقف به صفة أو شبه صفة مما يكون بارزا، وقال المجد: سقيفة بني ساعدة ظلّة كانوا يجلسون تحتها عند بئر بضاعة، ولعله يريد قربها من جهة بئر بضاعة، لما سبق من أنها بمنزل رهط سعد، وهو القائل يوم بيعة أبي بكر بها: منا أمير ومنكم أمير، ولم يبايع أبا بكر ولا غيره، وقتلته الجن بحوران فيما يقال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 سكاب: كقطام، جبل من جبال القبلية. سلاح: كقطام، موضع أسفل خبير، عنده لقى بشير بن سعد الأنصاري جمع غطفان في سريته إلى يمن وجبار، كذا قال المجد، وضبطه ابن سيد الناس بكسر أوله، وسلاح أيضا: ماء لبني كلاب ملح لا يشرب أحد منه إلا سلح. السلاسل: بلفظ جمع السلسلة، ماء بأرض جذام، على عشرة أيام من المدينة، خلف وادي القرى، به سميت الغزوة، قال ابن إسحاق: الماء سلسل، وبه سميت ذات السلاسل. السلالم: بضم أوله، كان آخر حصون خيبر فتحا. ذو السلائل: واد بين الفرع والمدينة. سلع: بالفتح ثم السكون آخره عين مهملة، جبل معروف بالمدينة. وفي صحيح البخاري أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما لهم بالجبيل الذي بالسوق، وهو سلع، وسبق في مساجد الفتح أن به كهف بني حرام، دخله النبي صلى الله عليه وسلم وبات به مع ما يقتضى أنه يسمى بجبل بواب أيضا. قال الأصمعي: غنت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك، وكانت من أحسن الناس وجها ومسموعا، وكان شديد الكلف بها، ونشأت بسلع: لعمرك إنني لأحبّ سلعا ... لرؤيته ومن أكناف سلع تقر بقربه عيني، وإني ... لأخشى أن يكون يريد فجعي فتنفست الصعداء، فقال لها: لم تنفسين؟ والله لو أردته لنقلته إليك حجرا حجرا، فقالت: وما أصنع به؟ إنما أردت ساكنيه. ذو سلم: بالتحريك، موضع من بطن مدلجة تعهن، له ذكر في سفر الهجرة، وذو سلم النظيم: تقدم في أودية مسيل العقيق، وله شاهد في لأي. سليع: تصغير سلع، جبل بالمدينة عليه بيوت أسلم بن أفصى، نقله ياقوت، ويؤخذ مما سبق في منازلهم أنه الجبيل الذي يقابل سلعا، عليه حصن أمير المدينة اليوم، والذي ابتناه عليه الأمير ابن شيخة أيام إمرته، وابتداؤها قبل السبعين وستمائة، ابتناه ليتحصن به، ويكشف منه نواحي المدينة، وكان حصن الأمراء قبله الحصن العتيق المجاور لباب السلام، وهو اليوم المدرسة الأشرفية كما يؤخذ من كلام البدر ابن فرحون. السليل: كأمير، اسم عرصة العقيق كما سبق. السليلة: موضع من الربذة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 السليم: مصغر سلم، وذات السليم: من أودية العقيق كما سبق. سمران: جبل بخيبر، والعامة تقول له مسمران، وضبطه بعضهم بالشين المعجمة. روى ابن زبالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلّى على رأس جبل بخيبر يقال له سمران» . ذو سمر: من أودية العقيق. سميحة: مصغر سمحة بالحاء المهملة، بئر بالمدينة معروفة، قال نصر: هي بئر قديمة غزيرة الماء بالمدينة، قال كثير: كأنّي أكف وقد أمعنت ... بها من سميحة غربا سجيلا وقال يعقوب: سميحة بئر بالمدينة عليها نخل لعبيد الله بن موسى، قال كثير: كأن دموع العين لما تخللت ... مخارم بيضا من تمنّى جمالها قبلن غروبا من سميحة أنزعت ... بهنّ السّواني واستدار محالها القابل: الذي يتلقى الدلو حين يخرج من البئر ويصبها في الحوض، وقد غرس بعض أهل المدينة اليوم على سميحة هذه حديقة. سنام: مصبّ قرب الربذة. السنح: بالضم ثم السكون كما قاله المجد، أطم لجشم وزيد ابني الحارث، سميت الناحية به، وسبق أنه على ميل من المسجد النبوي، وكان بالسّنح منزل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بزوجته الأنصارية، وبلغه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو به. وقال ابن عساكر في تحفته: السنح بضم السين والنون، وقيل بسكونها موضع بعوالي المدينة فيه منازل بني الحارث، وذكر شيخنا أبو عبد الله- يعني ابن النجار- أن السنح هو الموضع الذي فيه مساجد الفتح. قلت: وهو وهم علي ابن النجار، لما سيأتي في السيح بالمثناة التحتية وكسر السين، وكأن المراغي اغتر بذلك فقال ما سيأتي عنه فيه من أنه سمي باسم أطم جشم وزيد. سنحة: بالفتح ثم السكون وحاء مهملة، موضع بالمدينة. سن: بالكسر، جبل حذاء شوران أو ميطان كما يؤخذ مما سبق في الحلاء. سواج: بالضم آخره جيم، من جبال ضرية تأويه الجن، ويقال له سواج طخفة. سوارق: واد قرب السوارقية، يستعذبون منه الماء. السوارقية: بفتح أوله وضمه وبعد الراء قاف وياء النسبة، ويقال السويرقية مصغرة، قرية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكانت لبني سليم، وقال عرام: هي قرية غناء كبيرة، فيها مسجد ومنبر وسوق. يأتيها النجار من الأقطار ولكل بني سليم فيها شيء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 ولهم مزارع ونخيل كثيرة وموز وعنب وتين ورمان وسفرجل وخوخ، ولهم إبل وخيل وشاء وقى حواليهم ويميرون طريق الحجاز ونجد في طريق الحاج. سوق أهوى: كأحوى، بالربذة. سوق بني قينقاع: بقافين بينهما مثناة تحتية ثم نون وآخره عين مهملة، كان سوقا عظيما في الجاهلية عند جسر بطحان، يقوم في السنة مرارا، ويتفاخر الناس به، ويتناشدون الأشعار. وذكر ابن شبة خبرا في اجتماع حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه بنابغة بني ذبيان بهذه السوق، وأن النابغة لما قدمها نزل عن راحلته وجثا على ركبتيه واعتمد على يديه، وأنشد: عرفت منازلا بعد الثنايا ... بأعلى الجزع بالخيف المتن قال حسان: فقلت في نفسي: هلك الشيخ، ركب فافية صعبة، قال: فو الله مازال حتى أتى على آخرها، ثم نادى: ألا رجل ينشد، فتقدم قيس بن الخطيم بين يديه فأنشد: أتعرف رسما كالطراز المذّهّب ... لعمرة وحشا غير موقف راكب حتى أتى على آخرها، فقال له النابغة: أنت أشعر الناس يا ابن أخي، قال حسان: فدخلني بعض الفرق، وإني لأجد على ذلك في نفسي قوة، فجلست بين يديه، فقال: أنشد فو الله إنك لشاعر قبل أن تتكلم، فأنشدته: أسألت ربع الدار أم لم تسأل فقال: حسبك يا ابن أخي. وفي القاموس: حباشة أي بالحاء المهملة ثم الموحدة وشين معجمة بعد الألف، كثمامة سوق وكانت لبني قينقاع. السويداء: تصغير سوداء، موضع بعد ذي خشب على ليلتين من المدينة. سويد: أطم أسود بمنازل بني بياضة شامي الحماضة. سويقة: تصغير ساق، هضبة حمراء طويلة على ثلاثين ميلا أو أكثر من ضرية، وسويقة أيضا: عين عذبة كثيرة بالماء بأسفل حزرة على ميل من السي الة ناحية عن الطريق يمين المتوجه إلى مكة، لولد عبد الله بن حسن. قال المجد: هي موضع قرب المدينة يسكنه آل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكان محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى الحسني خرج على المتوكل فأنفذ إليه أبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 الساج في جيش ضخم، فظفر به وبجماعة من أهله فأخذهم وقيدهم وقتل بعضهم، وأخرب سويقة، وعقر بها نخلا كثيرا، وخرب منازلهم، وما أفلحت سويقة بعد ذلك، وكانت من جملة صدقات علي بن أبي طالب، ثم قال: وسويقة أيضا قرب السيالة، انتهى. قلت: هي التي قبلها، وتبع المجد في المغايرة بينهما كلام ياقوت، وسويقة أيضا: جبيل بين ينبع والمدينة، نقله ياقوت عن ابن السكيت، وتعرف اليوم بالسويق منازل بني إبراهيم أخي النفس الزكية، قال ياقوت: وجوّ سويقة: موضع آخر ذكرته الشعراء، وقال في حرف الجيم: الجو عند العرب كل مكان اتسع بين الأودية، وجو سويقة: من نواحي المدينة لآل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. قلت: فهو الذي بقرب السيالة لما سبق. السّيّ: بالكسر، على خمس ليال من المدينة ناحية ركية من وراء المعدن كان إليها سرية شجاع بن وهب الأسدي لجمع من هوازن. السيالة: مخففة كسحابة، سبقت في مسجد شرف الروحاء. قال ابن السكيت: مرّ تبّع بالسيالة بعد رجوعه من المدينة، وبها واد يسيل، فسماها السيالة، وآخر السيالة شرف الروحاء، وهي على ثلاثين ميلا من المدينة. السيح: بالكسر وسكون المثناة التحتية، مصدر ساح بسيح سيحا، اسم للموضع الذي في غربي مساجد الفتح. قال ابن النجار: وفي الخندق قناة تأتي إلى النخل الذي بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح، انتهى. وذكره المطري، وزاد ضبطه كما سبق، وكذا الزبن المراغي، وزاد ابن زبالة نقل أن تلك الناحية إنما سميت بذلك لأن جشما وأخاه زيدا سكنا فيه، وابتنيا أطما يقال له السيح، فسميت به الناحية. انتهى. وهذا ما نقله ابن زبالة في السنح بالنون كما سبق، ولهذا أورده المجد وغيره فيه، والقناة التي ذكرها ابن النجار هي قناة العين التي تقدم أنها هناك في تتمة الفصل الأول من الباب السادس. سير: بفتح أوله والمثناة التحتية كجبل، كثيب بين المدينة وبدر، يقال: إن قسمة غنائم بدر كانت به، قاله المجد، قال: وقال أبو بكر بن موسى: وقد يخالف في لفظه. قلت: كأنه يشير إلى ما سبق في سبر بالموحدة من أن القسم وقع به، على أن أبا بكر هو الحارثي، وفي تهذيب النووي بعد ذكر القسم بشعب من شعاب الصفراء أن الحارثي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 قال: وأما شير بفتح الشين المعجمة بعدها ياء مثناة من تحت مشددة مكسورة- فكثيب بين المدينة وبدر، يقال: هناك قسم النبيّ صلى الله عليه وسلم غنائم بدر، قال: وقد يخالف في لفظه، انتهى. وما ذكره المجد من الضبط أقرب إلى الصواب؛ لأني رأيته كذلك في نسخة معتمدة من تهذيب ابن هشام، ولفظه: حتى خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له سير، فقسم هناك النفل، وبين النازية والصفراء علو خيف بنى سالم موضع يعرف اليوم عند العرب بشعب سير كما ضبطه المجد، ورأيت في أوراق لبعضهم وصفه بما هو عليه اليوم، فقال: شعب سير هو المنزلة القديمة للحاج إذا رحل من المستعجلة ونزل في فركات الخيف وهناك بركة قديمة، قال: وهذا الشعب بين جبلين يعرف بجبال المضيق علو الصفراء بينه وبين المستعجلة نحو نصف فرسخ. حرف الشين شابة: بباء موحدة مخففة، جبل بين الربذة والسليلة. شاس: أطم برحبة مسجد قباء، على يسارك مستقبل القبلة، كان لشاس أخي بني عطية بن زيد. الشبا: كالعصا، واد بالأثيل بناحية الصفراء، فيه عين تسمى خيف الشبا لبني جعفر بن أبي طالب. شباع: ككتاب، سبق في بئر السائب أنه الجبل المشرف عليها. الشباك: كالجبال، جمع شبكة، موضع من بلاد غنى، بين المدينة وأبرق العزاف، وموضع آخر قرب سفوان، وشاك بني الكذاب: من نواحي المدينة. الشبعان: بلفظ ضد الجيعان، أطم بالمدينة، كان في ثمغ صدقة عمر رضي الله تعالى عنه. الشبكة: مفرد الشباك، موضع بوادي إضم، به مال يسمى الشبكة بعد ذي خشب. الشجرة: بلفظ واحدة الشجر، يضاف إليها مسجد ذي الحليفة كما سبق فيه، وهي سمرة كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل تحتها هناك فعرف الموضع بها، والشجرة أيضا: مال فيه أطم لبني قريظة؛ ولعله المعروف اليوم هناك بالشجيرة مصغرا. شدخ: بسكون الدال المهملة وخاء معجمة، واد به الموضع المسمى بنخل كما سيأتي. الشراة: جبل مرتفع في السماء تأويه القردة، لبني ليث وبعض بني سليم، دون عسفان عن يسارها، وفيه عقبة تذهب إلى ناحية الحجاز تسمى الخريطة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 الشربة: بثلاث فتحات والباء موحدة مشددة، كل أرض معشبة لا شجر بها، وهي اسم موضع بين السليلة والربذة، وقيل: إذا جاوزت البقرة وماوان تريد مكة وقعت في الشربة، وهي أشد بلاد نجد قرا، وقيل: هي فيما بين نخل ومعدن بني سليم، ومعنى هذا الأقوال واحد. شرج: بالفتح ثم السكون آخره جيم، موضع قرب المدينة يعرف بشرج العجوز، له ذكر في حديث كعب بن الأشرف، وشرج أيضا: ماء بنجد، وماء أو واد لفزارة به بئر. الشرعبي: بالفتح ثم السكون وفتح العين المهملة وكسر الموحدة آخره ياء النسبة، أطم دون ذباب، كان لأهل الشوط من يهود، ثم صار لبني جشم من الأوس. الشرف: محرك، الموضع العالي، وهو شرف الروحاء، وشرف السيالة لكونه آخر السيالة وأول وادي الروحاء، والشرف أيضا: كبد نجد، وفيه الربذة وحمى ضرية كما سبق في حمى الشرف. شريق: تصغير شرق، موضع بوادي العقيق، قال أبو وجرة: إذا تربعت ما بين الشريق إلى ... روض الفلاج أولات الشرج والعنب أي عنب الثعلب وروى «الشريف» بالفاء. الشطان: بالضم وسكون الطاء المهملة، من أودية المدينة. شطمان: مال في بني قريظة. الشطون: بئر بناحية شعر. الشطيبة: مال ابن عتبة بجنب الأعواف، ولعلها المعروف هناك بالعتبى، قال ابن زبالة: وفي الشطيبة يقول رجل من بني قريظة وخطب امرأة من بلحارث بن الخزرج، فقالت: أله مال على بئر مدري أو هامات أو ذي وشيع أو الشطيبة أو بئر فجار؟ وهي في بئر أريس، فقال القرظي: تكلفني مخارق بئر مدري ... وهامات وأعذق ذي وشيع فما حازت شطيبة من سواد ... إلى الفجار من عذق الرجيع الشظاة: بالفتح، اسم لوادي قناة، تقدم في إضم عن القاموس أنه اسم ما يلي السد من الوادي، وفي تهذيب ابن هشام فيما قيل في بني النضير من الشعر قول عباس بن مرداس أخي بني سليم من أبيات: وإنك عمري هل أريك ظعائنا ... سلكن على ركن الشظاة فتيأبا عليهن عين من ظباء تبالة ... أوانس تصبين الحليم المجربا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 شعب: بالضم، علم لواد يصبّ في الصفراء، نقله النووي عن الحازمي، وسيأتي في نخال أنه اسمه، والشعب بالكسر واحد الشعاب للطريق بين الجبلين أو ما انفجر بينهما أو مسيل الماء في بطن وأرض. وشعر أحد: هو الذي نهض المسلمون برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه يوم أحد، وأسندوا إليه، قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حتى ملأ درقته من المهراس. وشعب العجوز: بظاهر المدينة، قتل عنده كعب بن الأشرف، ويذكر بد له شرج العجوز، وقد سبق، وفي السير أنه لما هتف أبو نائلة بكعب بن الأشرف وهو في حصنه ببني النضير ليلة قتله، فنزل لأبي نائلة وأصحابه، فقالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تتماشى إلى شعب العجوز فنبحث بقية ليلتنا هذه؟ فقال: إن شئتم، فمشوا ساعة حتى استمكنوا منه وقتلوه. شعبى: بالضم وفتح العين والموحدة مقصورة، جبل، وقيل: جبال منيعة بحمى ضرية. شعب المشاش: تقدم في العقيق، وهو خلف جماء العاقل. شعب شوكة: يأتي في شوكة أنه المعروف بشعب على قرب الشرف. شعبة: بالضم ثم السكون، واحدة الشّعب، وهي الطائفة من الشيء، ومن الجبال رؤوسها، ومن الشجر أغصانها، وشعبة: اسم عين قرب بليل، وشعبة عبد الله: تقدمت في الخلائق، وشعبة عاصم: ستأتي في عاصم، ووادي شعبة: من أودية أبلى. شعث: بالضم ثم السكون آخره مثلاثة جمع أشعث، موضع بين السوارقية ومعدن بني سليم. شعر: بلفظ شعر الرأس، جبل ضخم مشرف على معدن الماوان، قبل الربذة بأميال، قاله المجد، وقال الهجري: هو من ناحية الوضح، وقد أكثر الشعراء من ذكره، قال حكيم الخضري: سقى الله الشطون شطون شعر ... وما بين الكواكب والغدير شغبي: بالفتح وسكون الغين المعجمة وفتح الموحدة كسكرى، قرية بين المدينة وأيلة، وكذا بدا قرية أخرى، قال كثير: وأنت التي حبّبت شغبي إلى بدا ... إليّ، وأوطاني بلاد سواهما حللت بهذا حلّة، ثم حلة ... بهذا، فطاب الواديان كلاهما شفر: كزفر جمع شفير الوادي، جبل بأصل حمى أم خالد، يهبط إلى بطن العقيق، كان يرعى به سرح المدينة يوم أغار عمرو بن جابر الفهري، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 ورد بدرا. شقر: بالقاف كزفر، ماء بالربذة عند سنام جبل مشرف على معدن الماوان. الشقراء: تأنيث الأشقر، في الحديث: وفد عمرو بن سلمة الكلابي على النبي صلى الله عليه وسلم، واستقطعه حمى بين الشقراء والسعدية، وهما ما آن في البادية، قاله ياقوت. الشقراة: جبيل انصب في غربي النقيع. الشقرة: بالضم ثم السكون، موضع بطريق فيد، بين جبال حمر، على نحو ثمانية عشر ميلا من النخيل، وعلى يوم من بئر السائب ويومين من المدينة، انتهى إليه بعض المنهزمين يوم أحد، كما رواه البيهقي، ومنه قطع كثير من خشب الدوم لعمارة المسجد النبوي بعد الحريق. شق: بالفتح عن الزمخشري، وقيل: بالكسر، من حصون خيبر، وقرية من قرى فدك يعمل فيها اللجم. وروى الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم تحوّل إلى أهل الشق، وبه حصون ذوات عدد، يعني بعد فراغه من النطاة، فذكر فتح أول حصونه، وأن أهله هربوا إلى حصن البزار بالشق أيضا، وأنهم كانوا أشد أهل الشق رميا للمسلمين بالنبل والحجارة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كفّا من حصباء فحصب به حصنهم، فرجف بهم ثم ساخ في الأرض، فأخذه المسلمون أهله. شقة بني عذرة تقدمت في مساجد تبوك. شقة بني عذرة شلول شلول: بلامين كصبور، موضع بنواحي المدينة، قال ابن هرمة: أتذكر عهد ذي العهد المحيل ... وعصرك بالأعارف والشّلول وتعريج المطية يوم شوظى ... على العرصات والدمن الحلول الشماء: بالتشديد والمد، هضبة عالية في حمى ضرية، قاله المجد، وسماها الهجري الشيماء بالمثناة التحتية وقال: إنها من هضب الشق بناحية عرفجا، سميت بذلك لأنها حمراء وفي ناحيتها سواد. الشماخ: بالفتح والتشديد وإعجام الخاء، أطم في قبلة بيوت بني سالم خارجها. شمنصير: بفتحتين ثم نون ساكنة وصاد مهملة مكسورة ثم مثناة تحتية وراء، جبل ساية. شناصير: من نواحي المدينة، قال ابن هرمة: لو عاج صحبك شيئا من رواحلهم ... بذي شناصير أو بالنعفف من عظم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 شنوكة: بالفتح ثم الضم ثم السكون وفتح الكاف بعدها، جبل بعد شرف الروحاء بقليل، يقابل الشعب المعروف بشعب علي، وهو شعب شنوكة على ثلاثة أميال من مسجد شرف الروحاء، قاله الأسدي، قال ابن إسحاق في المسير لبدر: مر على فج الروحاء، ثم على شنوكة حتى إذا كان بعرق الظبية، وقال ابن سعد: شنوكة فيما بين السيالة وملل، وعندها هرب سهيل بن عمرو، وكان أسره ابن الدخشم يوم بدر، فقال له عندما كانوا بها: خل سبيلي للعائط، فهرب وظفر به النبي صلى الله عليه وسلم. الشنيف: كزبير، أطم لبني ضبيعة بقرب أحجار المراء، وسبق ذكره في مقدمه صلى الله عليه وسلم قباء، قال كعب بن مالك: فلا تتهدّد بالوعيد سفاهة ... وأوعد شنيفا إن غضبت وواقما شواحط: بالضم وبعد الألف حاء مهملة مكسورة وطاء مهملة، جبل قرب السوارقية كثير النمور والأراوي، ويوم شواحط: من أيام العرب. شوران: بالفتح، جبل يضاف إليه حرة شوران التي تقدم أن صدر مهزور منها، ولعله المعروف اليوم هناك ب شوط ان. وقال عرام: ويحيط بالمدينة عير، ثم قال: وعير جبلان أحمران من عن يمينك وأنت ببطن العقيق تريد مكة، ومن عن يسارك شوران، وهو جبل مطل على السد كبير مرتفع. ثم ذكر الصادر في قبلة المدينة، ثم قال: وليس على شيء من هذه الجبال نبت ولا ماء، غير شوران فإن فيه مياه سماء كثيرة يقال لها: البجيرات، وكرم، وعين، وأمعاء، وهو ماء يكون السنين الكثيرة، وفي كلها سمك أسود مقدار الذراع وما دون ذلك أطيب سمك يكون، انتهى. فقوله «من عن يمينك وأنت ببطن العقيق» يقتضي أن الجبل المعروف بعير هو شوران، وهو مشرف على السد كما سبق، وكان بناحيته بالعقيق كرم ثنية شريد، لكن ابن زبالة والزبير والهجري كلهم سموه عيرا، وليس عليه ماء، فتناول كلامه بأن المتوجه إلى مكة من قبلة المدينة إذا صار ببعض أودية العقيق التي تصب فيه هناك كان في جهة يمينه عير الصادر، وعير الوارد في المغرب، وعن يساره شوران في المشرق، ويؤيده أن ما ذكره بعد ذلك كله في شرقي المدينة من ناحية القبلة، وقال: ثم يمضي نحو مكة مصعدا، وذكر ما سبق في أبلى، ولأنه قال: إن ميطان حذاء شوران، وميطان في المشرق من جهة القبلة. فيكون السد المشرف عليه شوران غير السد الذي بقرب عير. وقال نصر: شوران واد في ديار سليم يفرغ في الغابة؛ وهي من المدينة على ثلاثة أميال، وكأنه أطلق وادي شوران على ما ينحدر من حرته إلى المدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وروى الزبير عن محمد بن عبد الرحمن قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إبلا في السوق، فأعجبه سمنها، فقال: أين كانت ترعى هذه؟ قال: بحرة شوران، فقال: بارك الله في شوران. وكانت البغوم صاحبة ريحان الخضري نذرت أن تمشي في شوران حتى تدخل من أبواب المسجد كلها مزمومة بزمام من ذهب، فقال: يا ليتني كنت فيهم يوم صبّحهم ... من نقب شوران ذو قرطين مزموم تمشي على نجش يدمى أناملها ... وحولها القبطريات العياهيم فبات أهل بقيع الدار يفعمهم ... مسك ذكي ويمشي بينهم ريم شوط: بالفتح ثم السكون وطاء مهملة، كان لأهله الأطم الذي يقال له الشرعبي دون ذباب، وتقدم أن بعض بني الحارث سكن الشوط وكرم الكومة التي يقال لها كومة أبي الحمراء، فهو في شامي ذباب قرب منازل بني ساعدة والكومة المذكورة. وقال ابن إسحاق في مخرجه صلى الله عليه وسلم إلى أحد: حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عبد الله بن أبي، ورجع إلى المدينة. وروى البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب أنه قال في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد: حتى إذا كان بالشوط من الجبانة انخذل عبد الله بن أبي، وسبق في ذباب أنه بالجبانة، وفي الصحيح في حديث العابدة: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشوط، وذكر نزول الجونية هناك في بيت لبعض بني ساعدة، ودخوله صلى الله عليه وسلم عليها. وفي رواية ابن سعد عن أبي أسيد قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بني الجون، فأمرني أن آتيه بها، فأتيته بها، فأنزلتها بالشوط من وراء ذباب في أطم وفي رواية له: فأنزلتها في بني ساعدة، وفي أخرى. فنزلت في أجم بني ساعدة، فخرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءها، وقال النضر بن شميل: الشوط مكان بين شرفين من الأرض، يأخذ فيه الماء والناس كأنه طريق، ودخوله في الأرض أن يواري البعير وراكبه، ولا يكون إلا في سهول الأرض، انتهى، وسبق في سيل مهزور أن آخره كومة أبي الحمراء، ثم يصب في قناة. شوطى: بحروف الذي قبله مقصور كسكرى، قال الهجري: وللعقيق دوافع من الحرة مشهورة ذكرتها الشعراء، منها شوطى وروضة ألجام، قال ابن أذينة: جاد الربيع بشوطى رسم منزلة ... أحبّ من حبها شوطى فألجاما فبطن خاخ فأجزاع العقيق لها ... نهوى، ومن جونتي عيرين أهضاما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 وقال المجد: شوطى موضع بعقيق المدينة فيها يقول المزني لغلام اشتراه بالمدينة: تروّح يا يسار فإن شوطى ... وتربانين بعد غد مقيل بلاد لا يحس الموت فيها ... ولكن الغذاء بها قليل وشوطى أيضا: بحرة بني سليم. قلت: وأظنه الذي قبله. شيخان: بلفظ تثنية شيخ، أطمان بجهة الوالج، قال ابن زبالة: بفضائهما المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى أحد. وقال المجد: هو موضع يقال له ثنية شيخان، عسكر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خرج لأحد، وهناك عرض الناس فأجاز من رأى وردّ من رأى، قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: كنت ممن ردّ من الشيخين يوم أحد، وقيل: هما أطمان، سميا به لأن شيخا وشيخة كانا يتحدثان هناك، وقال المطري: هو موضع بين المدينة وجبل أحد على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه لأحد على الحرة الشرقية حرة واقم، وبات بالشيخين، وغدا صبح يوم السبت إلى أحد. حرف الصاد صاحة: كرامة، الأرض التي لا تنبت أصلا، وهو اسم هضبات خمس لباهلة قرب عقيق المدينة، قاله المجد، وكأن الوليد بن عقبة جمعها حيث قال: ولولا عليّ كان جلّ مقالهم ... كضرطة عير بالصحاصح من إضم صارة: جبل بين تيماء ووادي القرى، قال: سقى الله حيّا بين صارة والحمى ... حمى فيد صوب المدجنات المواطر صارى: بكسر الراء وتخفيف الياء، جبل في قبلة المدينة. صايف: موضع بنواحي المدينة. صبح: بالضم ثم السكون بلفظ أول النهار، قال ياقوت: صبح وصباح ما آن حيال نملي لبني قريظة، وقال الأصمعي: وفي حيال نملي صباح وصبح ما آن، قالت امرأة تزوجها رجل فحنت إلى وطنها: ألا ليت لي من وطب أمي شربة ... تشاب بماء من صبيح فأبضع أي أروى، والباضع: الريان، انتهى، وأما قول أعرابي: ألا هل إلى أجبال صبح بذي الغضى ... غضى الأثل من قبل الممات معاد فالظاهر: أنها جبال صبح التي عن يسار المتوجه إلى مكة ببدر وما حولها، ولهذا قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 المجد: اجتزت بها في مسيري على المدينة من مكة، فذكر بعض العرب أن على متن جبال صبح نخيلا كثيرة ومزارع، انتهى. وليست هي في جهة نملي؛ لما سيأتي فيها. الصحرة: بالضم وإسكان الحاء المهملة لغة جوبة تنجاب في الحرة، وهي اسم أرض تحف قاع النقيع من غربيه، وأعراب تلك الجهة يسمونها اليوم السحرة بضم السين المهملة بدل الصاد. صحن: بلفظ صحن الدار، جبل فوق السوارقية، فيه ماء عذب يزرع عليه، قال شاعرهم: جلبنا من جنوب الصحن جردا ... عتاقا سرها نسلا لنسل فسوافينا بها يومي حنين ... رسول الله جدا غير هزل صخيرات الثمام: تقدم في الثاء المثلاثة. صدار: كغراب، موضع بنواحي المدينة. قلت: لعله المعروف بالصدارة بوادي الروحاء. صرار: ككتاب، وروى بالضاد المعجمة، وهو وهم، قال الخطابي: هي بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق، قال عياض: ويدل لكونها اسم موضع غير بئر لكن بها بئار قول الشاعر: لعل صرارا أن تجيش بئارها قلت: سبق في منازل يهود أن أناسا منهم كانوا بالجوانية، وكان لهم بها الأطم الذي يقال له صرار، وبه سميت تلك الناحية صرارا، ولهم الريان أيضا، وصارا لبني حارثة، قال ابن زبالة: وله يقول نهيك بن سياف: لعل صرارا أن تجيش بثاره ... ويسمع بالريان تبني مسار به فصرار: أطم شامي المدينة من ناحية الحرة ومنازل بني حارثة، وسبق أنهم كانوا مع بني عبد الأشهل في دارهم، ثم أجلوهم إلى خيبر، ثم رق لهم حضير بن سماك الأشهلي لما عناه خفاف بن ندبة بقوله: فإن حضيرا والذي قد أرادها ... حضير كرائي حفته وهو شاربه لعل صرارا أن تغور بئاره ... ويسمع بالريان تعوى ثعالبه فإن يهلكوا تهلك، وإن تدن دارهم ... تكون حبا خير أصابك خاصبه فقال: إن هذا لهكذا، إني والله إن هلكت هلكت بنو حارثة، وإن يهلكوا نهلك، ولا مانع أن يكون في طريق العراق ماء يسمى بصرار أيضا، ويدل له قول نصر: صرار ماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 بقرب المدينة محتفر جاهلي، له ذكر كثير على سمت العراق وقال ياقوت: صرار اسم جبل من جبال القبلية قرب المدينة، قال جرير: إن الفرزدق لا يزايل لؤمه ... حتى تزول عن الطريق صرار قال: وصرار أيضا موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق، انتهى. وقال العمراني: صرار اسم جبل، وأنشدني جار الله العلامة للأفطس العلوي، وفي الأغاني أنه لأيمن بن خريم: كأن بني أمية حين راحوا ... وعرّى من منازلهم صرار وقال: هو من جبال القبلية، قال: وصرار أيضا بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة، على طريق العراق، وقيل: موضع بالمدينة، وفي غزوة عرفدة الكدر أنهم اقتسموا غنائمهم بصرار على ثلاثة أميال من المدينة، قاله ابن سعد. قلت: والمراد من حديث أمره صلى الله عليه وسلم بنحر بقرة لما قدم صرارا إنما هو صرار الذي بالمدينة، ولهذا قال البخاري: صرار موضع ناحية بالمدينة، وترجم عليه «باب اتخاذ الطعام عند القدوم» وتوضحه الرواية الآخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزورا أو بقرة. الصعبية: بالفتح ثم السكون، آبار عذبة يزرع عليها، لبني خفاف من بني سليم قرب أبلى. صعيب: تصغير صعب، وقيل: صعين بالنون تصغير صعن، تقدم مستوفي في الاستشفاء بتراب المدينة، وله ذكر في البويرة. الصّفاح: بالكسر والحاء المهملة، موضع بالروحاء. صفاصف: موضع بين سد عبد الله بن عمرو بن عثمان وبين الصعبية. الصفراء: تأنيث الأصفر، واد كثير النخل والعيون والزروع، سبق ذكره في المساجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عنه إلى ذفران في المسير إلى بدر الكبرى، وسلكه في رجوعه، وقال المجد: سلكه النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة. صفر: بلفظ الشهر الذي يلي المحرم، جبل أحمر بفرش ملل، يقابل عبودا، الطريق بينهما، وبه بناء كان للحسن بن زيد، وبقفاه ردهة يقال لها ردهة العجوزين، والعجوزين: هضبات هناك كان يسكنها أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب الزمعي جد ولد عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم لأمهم، وقال بعضهم في رثائه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 إذا ما ابن زاد الركب لم يسر ليلة ... ففي صفر لم يقرب الفرش زائر وقال عمر بن عائذ الهذلي: أرى صفرا قد شاب قبل لداته ... وشابة أيضا شاب منه العواقر وشابت قناة بالعجوزين لم تكن ... تشيب وشاب العرفط المتجاور الصفة: بالضم وفتح الفاء المشددة، تقدمت في الفصل الثامن من الباب الرابع. صفنة: بالفتح كجفنة بالنون، منزلة بني عطية بن زيد، وبه أطمهم شاس برحبة مسجد قباء. صفينة: كسفينة، موضع بين بني سالم وقباء. ذو صلب: بالضم، تقدم في أودية المدينة. صلحة: بالضم ثم السكون، اسم دار بني سلمة، سماها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق عن المجد في حربى، وأن الذي في نسخة ابن زبالة وخط المراغي طلحة بالطاء المهملة. صلصل: بالضم ثم السكون والتكرير، موضع على سبعة أميال من المدينة، قاله المجد، وسبق في أودية العقيق أن ما أقبل من الصلصلين يدفع في بئر أبي عاصية، وما دبر منهما يدفع في البطحاء، والبطحاء تدفع من بئر الجبلين في العقيق، وقال ابن سعد: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح من المدينة يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر، فلما انتهى إلى الصلصل قدم أمامه الزبير بن العوام في مائتين من المسلمين، ونادى مناديه: من أحبّ أن يفطر فليفطر، ومن أحبّ أن يصوم فليصم، وله شاهد بالإفراد، فما قيل في العقيق من الشعر فهو بالتثنية كما يأتي، وهو جبل معروف اليوم في أثناء البيداء على يمين المتوجه إلى مكة شرقي عظم إلى القبلة. صلاصل: أرض بحرة وادي بطحان، تقدمت في قصر عاصم بالعقيق، قال أبو معروف أخو بني عمرو بن تميم: أحبّ الصلصلين فبطن خاخ ... إلى مفضى البلاط إلى النقيع إلى قبر النبي فجانبيه ... إلى الفيفاء أو أدنى مطيع إلى وادي صلاصل فالمصلّى ... إلى أكناف أعذق ذي وشيع فتلك إذا تشاجرت النّواصي ... ولج الناس في الخلق البديع منازل غبطة وبلاد أمن ... تكفّ عن المفاقر والقنوع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 الصمد: بسكون الميم وإهمال الدال، ماء قرب المدينة، له يوم مشهور، قاله المجد. والصمد: موضع بقباء، وجمعه كعب بن مالك في شعره فقال: ألا أبلغ قريشا أن سلعا ... وما بين العريض إلى الصماد نواضح في الحروب مدربات ... وحوص نقيب من عهد عاد الصمغة: بالغين المعجمة، موضع بقرب قناة، ذكر ابن هشام نزول قريش بعينين على شفير وادي قناة، ثم ذكر تسريحهم الظّهر والكراع في زرع كانت بالصمغة من قناة. الصمان: بالفتح وتشديد الميم وألف ونون، جبل أحمر ينقاد ثلاثة أيام، وليس له ارتفاع، يجاور الدهناء، وقيل: قرب رمل عالج، قاله ياقوت. قلت: والمراد من الدهناء التي هي سبعة أحبل بالحاء المهملة- من الرمل بديار تميم. والظاهر أنها رمل عالج، فالمراد من العبارتين واحد، ولذا قال في القاموس: الصمان كل أرض صلبة ذات حجارة إلى جنب رمل، وموضع بعالج. صوار: بالضم وواو وألف وراء، موضع بالمدينة، قال الشاعر: فمحيص فواقم فصوار ... فإلى ما يلي حجاج غراب صورى: كجمزى، قال ابن الأعرابي: واد في بلاد مزينة قرب المدينة. قلت: هو بجهة النقيع، يعرف اليوم بصورية بزيادة هاء، وقد أورد الزبير شاهد ريم المتقدم، وفيه ذكره، ثم قال: وصورى من صدور أتمة ابن الزبير. الصّوران: تثنية صور بالفتح ثم السكون، النخل المجتمع الصغار، موضع بأقصى البقيع مما يلي طريق بني قريظة، قال مالك: كنت آتي نافعا مولى ابن عمر نصف النهار ما يظلني شيء من الشمس، وكان منزله بالبقيع بالصورين، وفي السير: لما توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة مر في طريقه بنفر من أصحابه بالصورين، وتقدم أن الصافية وما معها من الصدقات متجاورات بأعلى الصورين قصر مروان، وأن سيل مهزور يسقيها، ثم يفضي إلى الصورين قصر مروان، ثم يأخذ بطن الوادي على قصر بني يوسف، ثم يصب في النقيع، والصوران أيضا: في أدنى الغابة. ذو صوير: كزبير، من أودية العقيق بقرب صورى. صهيّ: بالضم، جمع صهوة، قلل في جبل تقدمت في روضة الصهى. الصهباء: بلفظ اسم الخمر، من أدنى خيبر، بها مسجد، وبها كان رد الشمس كما سبق، وهي على بريد من خيبر فيما قاله ابن سعد. الصهوة: من أودية العقيق، قال ابن شبة: وتصدّق عبد الله بن عباس رضي الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 تعالى عنهما بماله بالصّهوة، وهو موضع بين بين وبين حورة، على ليلة من المدينة، وتلك الصدقة بيد الخليفة توكل بها. الصياصي: أربعة عشر أطما كانت بقباء يتعاطى أهلها النيران بينهم من قربها. الصيصة: أطم بقباء. حرف الضاد ضاحك: اسم فاعل من ضحك، جبل بفرش ملل، بينه وبين ضويحك واد يقال له يين. ضأس: كفأس، موضع بين المدينة وينبع، قال كثير: بعينك تلك العير حي تغيبت ... وحتى أتى من دونها الخبت أجمع وحتى أجازت بطن ضأس ودونها ... دعان فهضبا ذي النخيل فينبع ضاف: واد غربي لنقيع، من أوديته، تحفه الجبال، وقدس في غربيه، وأرضه مستوية يخالطها حمرة مهبط ثنية تبع من أتمة ابن الزبير، قال عروة بن أذينة: لسعدي بضاف منزل متأبد ... عفا ليس مأهولا كما كنت تعهد ضبع: بسكون الباء الموحدة وضمها، من أودية العقيق، فيه يقول أبو وجرة: فما بغرة فالأجراع من ضبع ... فالموفيات فذات الغيض فالسند والضبع أيضا: موضع بحرة بني سليم، بينها وبين أفاعية. ضبوعة: بالفتح كحلوبة، منزل عند بليل، بين مشيرب وبين الحلائق، ومشيرب: شامي ذات الجيش، وسبق في الخلائق نزوله صلى الله عليه وسلم بمجتمع بليل ومجتمع الضبوعة، واستقى له من بئر الضبوعة، وفي بعض النسخ «الصبوغة» بالصاد المهملة والغين المعجمة. ضجنان: بالفتح وسكون الجيم ونونين بينهما ألف، قال أبو موسى: موضع أو جبل بين الحرمين، وقال البكري: بين قديد وضجنان يوم، وفي القاموس أنه على خمسة وعشرين ميلا من مكة. ضحيان: بالفتح وسكون الحاء المهملة وبالمثناة تحت، أطم بالعصبة لأحيحة بن الجلاح، وقال ياقوت: شاده بأرضه التي يقال لها قنان، وله يقول: إني بنيت واقما والضحيان ... والمستظل قبله بأزمان ضرعاء: قرية قرب جبل شمنصير. ضرية: تقدمت في حمى ضرية. ضرى: كسمى، بئر من حفر عاد بضرية. ضع ذرع: أطم شبه الحصن، كان عند بئر بني خطمة المسماة بذرع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 ضغاضغ: بضادين وغينين معجمات، جبل قرب شمنصير، عنده قرى لبني سعد بن بكر أصهار النبي صلى الله عليه وسلم. ضغن: بالكسر وسكون الغين المعجمة ثم نون، ماء لفزارة، بين خيبر وفيد. ضفيرة: بالفتح وكسر الفاء، الحقف من الرمل، والمسناة المستطيلة في الأرض وما بعقد بعضه على بعض ليحبس السيل ونحوه، قال المجد: هي اسم أرض بالعقيق للمغيرة بن الأخنس، قال الزبير: أقطع مروان عبد الله العامري ما بين الميل الرابع من المدينة إلى ضفيرة أرض المغيرة بن الأخنس التي بالعقيق كما سبق. قلت: هذا لا يقتضي أنها اسم لأرضه، بل مضافة لأرضه، وكأنها بناء يفصلها من غيرها ويحبس السيل، وسبق بالعقيق بناء الضفيرة به في غير موضع وأن أروى زعمت أن سعيد بن زيد أدخل ضفيرتها في أرضه، ثم أبدى السيل عن ضفيرتها خارجة عن أرضه، وقال الهجري: إن عثمان بن عنبسة ضفر بعين ضرية ضفيرة بالصحراء، وجعلها تحبس الماء. ضلع: بني الشيصبان وضلع بنى مالك جبلان بحمى ضرية، بينهما وادي التسرير مسيرة يوم، وبنو مالك: بطن من الجن مسلمون، وبنو الشيصبان: بطن من الجن كفار، ولم يزل الناس يذكرون إسلام هؤلاء وكفر هؤلاء، ويقع بينهما القتال، وفي ذلك خبر غريب نقله المجد، قال: وضلع بني مالك يحل به الناس ويرعون ويصيدون، بخلاف ضلع بني الشيصبان، وربما مر به من لا يعرف فيرعى الكلأ فأصابه شر، ولغنى ماء إلى جنب ضلع بني مالك. ضويحك: جبل يناوح ضاحكا، بينهما وادي بين. الضيقة: بقرب ذات خماط، بها مسجد تقدم في الفصل الرابع من الباب السادس، والضيقة أيضا: يسمى بها اليوم أعلى وادي إضم. حرف الطاء طاشا: بالشين المعجمة، من أودية الأشعر الغورية، يصب على وادي الصفراء. طخفه: بالكسر وسكون الخاء المعجمة، جبل أحمر طويل حذاء منهل وآبار، سبق ذكره في حمى ضرية. الطرف: بفتح الراء وبالفاء، قال المجد: إنه على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، قال الواقدي: هو ماء دون النخيل، وقال ابن إسحاق: هو من ناحية العراق، وقال الأسدي في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 وصف طريق العراق: إنه على خمسة وعشرين ميلا من المدينة، وعلى عشرين ميلا من بطن نخل، وذكر فيه آبارا وبركا، قال: وآخر أعلى الطرف بئر أبي ركانة على عشرة أميال من المدينة. ذو الطّفيتين: بالضم وسكون الفاء، من غدران مسيل العقيق، واسمه اليوم أبو الطفا، قال الهجري: وهو في رضراضة غليظة من أعذب ماء شرب، ما شرب منه أحد إلا بال الدم. طفيل: قال عرام: إنه جبيل صغير متوسط للخبت، والخبت: يمين هرشى في المغرب، وهو غير طفيل المذكور في شعر بلال. طويلع: تصغير طالع، في ألسنة العامة أنه موضع بالمدينة، وليس كذلك، إنما هو موضع بنجد، وقيل: لبني تميم. طيخة: بسكون المثناة تحت وإعجام الخاء وقيل: مهملة- ويقال فيه «طيخ» بغير هاء، موضع بأسفل ذي المروة. حرف الظاء الظاهرة: بناحية النقا والمدرج من الحرة الغربية، وسبق أواخر الفصل الحادي عشر من الباب الثالث قول الطائفتين من الأنصار: موعدكم الظاهرة، وهي الحرة، فخرجوا إليها، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إليهم فيمن عنده من المهاجرين. ظبية: بلفظ واحدة الظباء، موضع بديار جهينة، وفي حديث عمرو بن حزم: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ما أعطى محمد النبي صلى الله عليه وسلم عوسجة بن حرملة الجهني من ذي المروة إلى الظبية إلى الجعلات إلى جبل القبلية، وظبية أيضا: موضع بين ينبع وغيقة بساحل البحر، وماء بنجد. ظبية: بالضم ثم السكون، علم مرتجل يضاف إليه عرق الظبية المتقدم في مساجد طريق مكة بوادي الروحاء، وقال السهيلي: الظبية شجرة تشبه القتادة يستظل بها، وبهذا الموضع قتل عقبة بن أبي معيط صبرا منصرفهم من بدر، فقوله في حديث الصحيح رأيتهم صرعى ببدر» معناه أكثرهم، ولأن عمارة بن الوليد أيضا كان عند النجاشي، فاتهمه في حرمه، وكان جميلا، فنفخ في إحليله شجرا فهام مع الوحش في بعض جزائر الحبشة فهلك. ظلم: بالفتح ثم الكسر ككتف، من أودية القبلية، وعدّه الهجري في أودية الأشعر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وقال نصر: ظلم جبل بين إضم وجبل جهينة، وظلم أيضا كما قال الأصمعي جبل أسود لعمرو بن كلاب، وهو أحد الجبال لثلاثة التي تكتنف الطرق فيما قاله عرام. الظهار: ككتاب، حصن بخيبر. حرف العين عابد: بكسر الباء الموحدة ودال مهملة، وعبّود- بالفتح وتشديد الموحدة- وعبيد بالضم مصغرا، ثلاثة أجبل ذكرها الهجري فيما نقله من وصف فرش ملل، وعبود في الوسط، وهو الأكبر، وهو بين مدفع مر بين وبين ملل مما يلي السيالة، وقيل: عنده البريد الثاني من المدينة، وبطرفه عين لحسن بن زيد، على الطريق منقطعة، فيها يقول ابن معقل الليثي: قد ظهرت عين الأمير مظهرا ... بسفح عبود أتته من مرا عارمة: كفاطمة، ردهة بين هضبات تدعين عوارم بوسط حمى ضرية، وشاهدها في حليت. عاص وعويص: واديان عظيمان بين مكة والمدينة. عاصم: كصاحب، أطم لبني عبد الأشهل، كان على الفقارة في أدنى بيوت بني النجار، وأطم آخر لبعض يهود بقباء، وفيه البئر التي يقال لها قباء، وذو عاصم: من أودية العقيق، سمي بذلك لأن الأوس لما جلوا عن المدينة ونزلوا النقيع حالفوا مزينة، وعقد الحلف بينهم عاصم بن عدي بن العجلان، فسميت الشعبة التي وقع فيها الحلف: شعبة عاصم. عاقل: بكسر القاف، جبل يناوح منعجا، وكان يسكنه الحارث بن آكل المرار جدّ امرئ القيس بحمى ضرية. العالية: تأنيث العالي، قال عياض: العالية وعوالي المدينة كل ما كان من جهة نجد من المدينة من قراها وعمائرها إلى تهامة، وما كان دون ذلك من جهة تهامة فهي السافلة. قلت: هذا مسمى العالية من حيث هي لا عالية المدينة؛ إذ مقتضاه أن المدينة وما حولها عالية لما سبق في الحجاز عن الأصمعي، وإن قلنا برأي عرام من أن المدينة نصفها حجازي ونصفها تهامي فلا تصدق العالية على شيء منها، أو على نصفها الذي يلي المشرق فقط، واستعمال عالية المدينة في الأحاديث وغيرها يخالفه لتصريح الأحاديث بأن قباء من العالية، ولما عدد ابن زبالة أودية العالية لم يعد قناة، وهي في شرقي المدينة، وعد رانوناء وهي في غربيها للقبلة، والمعروف أن ما كان من جهة قبلة المدينة على ميل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 أو ميلين فأكثر من المسجد النبوي فهو عالية المدينة كما سنوضحه، وقال المجد عقب ما سبق عن عياض: وقال قوم: العالية ما جاوز الرمة إلى مكة، وقال أبو منصور: عالية الحجاز أعلاها بلدا وأشرفها موضعا، وهي بلاد واسعة، انتهى، وبه يعلم أن هذا كله في مطلق العالية، لا في عالية المدينة، وقال عياض: والعوالي من المدينة على أربعة أميال، وقيل: ثلاثة، وهذا حد أدناها، وأبعدها ثمانية أميال، انتهى، ويرده أنه قال في السنح: إنه منازل بني الحارث بن الخزرج بعوالي المدينة، بينه وبين منزل النبي صلى الله عليه السلام ميل، وذكره ابن حزم أيضا، ونقله الحافظ ابن حجر عن أبي عبيد البكري، وفي العتبية عن مالك: أقصى العالية على ثلاثة أميال، يعني من المسجد النبوي، ويؤيده ما في الصحيح عن أنس من طريق الزهري «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوها» ولفظ البيهقي «وبعد العوالي» بضم الموحدة، وفي رواية له «وبعد العوالي أربعة أميال أو ثلاثة» ولفظ أبي داود «العوالي على ثلاثة أميال» ووقع عند الدارقطني «على ستة أميال» وعند عبد الرزاق «على ميلين أو ثلاثة» . وقوله «والعوالي» إلى آخره مدرج من كلام الزهري كما بينه عبد الرزاق وطريق الجمع أن أدنى العوالي من لمدينة على ميل أو ميلين، وأقصاها عمارة على ثلاثة أو أربعة أميال، وأقصاها مطلقا ثمانية أميال. عائد: بكسر النون ودال مهملة، واد بجنب السقيا من عمل الفرع، ويروى «عايذ» بالياء والذال المعجمة، قاله المجد، وقال الأسدي: وادي العائد قبل السقيا يميل، ويقال له: وادي القاحة. عائذ: بالذال المعجمة، قرب الربذة. عاير: يضاف إليه ثنية العاير، عن يمين ركوبة، ويقال بالغين المعجمة أيضا، والأول أشهر. عبابيد: موضع قرب تعهن، وروى عبابيب بثلاث باآت موحدات بعد الثانية مثناة تحتية، ويروى العثيانية بمثلاثة ثم مثناة تحت ثم ألف ونون، جاء ذكره في سفر الهجرة. عباثر: جمع عبيثران للنبات المعروف، واد من الأشعر بين نخل وبواط، به نقب يؤدي إلى ينبع، وهو لبطن من جهينة، ابتاع موسى بن عبد الله الحسيني منهم أسفله، وعالج به عينا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 العبلاء: بالفتح ثم السكون ممدود، موضع من أعمال المدينة، ويقال لها: عبلاء الهرودة، نبت يصبغ به، وعبلاء البياض: موضع آخر. عبود: بالفتح ثم الضم مشددا، تقدم في عابد. العتر: بالكسر وسكون المثناة الفوقية ثم راء، جبل بالمدينة في قبلتها. يقال له: المستندر الأقصى، قال زهير: كمنصب العتر إذ في رأسه النسك قالوا: أراد بمنصب العتر صنما كان يقرب له عتر، أي ذبيحة، والعتر بالفتح: الذبح، قاله المجد. عثاعث: جبال صغار سود بحمى ضرية مشرفات على مهزور. عثعث: بمثلثتين كربرب، الجبل الذي يقال له سليع بالمدينة، عليه بيوت أسلم. العجمتان: تثنية عجمة، بجانب البطحاء بالعقيق. عدنة: بالنون محركا، موضع من الشربة وهضبة بالفريش كان بها منزل داود بن عبد الله بن أبي الكرام وبني جعفر بن إبراهيم. عدينة: مصغر عدنة، أطم بالعصبة بين الصفاصف والوادي، سمي باسم امرأة كانت تسكنه. عذق: بالفتح ثم السكون، أطم لبني أمية بن زيد، وبئر عذق: تقدمت في الآبار. عذيبة: تصغير عذبة ماء بين الينبع والجار، ويقال فيها العذيب بغير هاء، قال كثير: خليليّ إن أمّ الحكيم تحملت ... وأخلت لخيمات العذيب ظلالها فلا تسقياني من تهامة بعدها ... بلالا، وإن صرب الربيع أسالها عراقيب: قرية ضخمة، ومعدن بحمى ضرية. عرّى: كغرّى، اسم وادي نقمي كما سيأتي في النون، قال سالم بن زهير الخضري: إذا ما الصبا هبت وقد نام صبيتي ... بأخيال عرّى لم يرعنا حثيثها عرب: بكسر الراء ككتف، ناحية قرب المدينة أقطعها عبد الملك كثيرا الشاعر، وأما عرم بوزنه إلا أن آخره ميم فواد ينحدر من ينبع إلى البحر، وجيل لعله بالوادي المذكور، وإياه عنى كثير بقوله: سحت بماء الفلاة من عرم العرج: بالفتح ثم السكون، قرية جامعة تقدمت في مساجد طريق مكة. قال المجد: هي ثمانون ميلا إلى ميلين من المدينة، قيل: لما رجع تبّع من المدينة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 رأى هنا دوابّ تعرج فسماها العرج، وقيل لكثير: لم سميت بذلك؟ قال: لأنها يعرج بها عن الطريق، قال ابن الفقيه: يقال إن جبلها يمتد إلى الشام حتى يصل بلبنان، ثم إلى جبال أنطاكية وشمساط، وتسمى هناك اللكام، ثم إلى ملطية وقالى قلا إلى بحر الخزر، وفيه الباب ويتصل ببلاد الدان، وطوله خمسمائة فرسخ، وفيه اثنان وسبعون لسانا. العرصة: بالفتح ثم السكون وإهمال الصاد، كل جوبة متسعة لا بناء فيها لاعتراص الصبيان فيها، أي لعبهم، وعرصة العقيق: تقدمت في الفصل الثالث، وتنقسم إلى كبرى وصغرى كما سبق. العرض: بالكسر، اسم للجرف كما سبق فيه، قال المطري: إن حول مسجد القبلتين آبارا ومزارع تعرف بالعرض، في قبلة مزارع الجرف، قال شمر: وأعراض المدينة بطون سوادها حيث الزرع، وقال الأصمعي: أعراضها قراها التي في أوديتها، وقيل: كل واد فيه شجر فهو عرض، وقيل: كل واد عرض، ويقال للرساتيق بأرض الحجاز: الأعراض، وقال يحيى بن أبي طالب: ولست أرى عيشا يطيب مع النوى ... ولكنه بالعرض كان يطيب عرفات: بلفظ عرفات مكة، تل مرتفع في قبل مسجد قباء، سمي بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف يوم عرفة عليه، فيرى منه عرفات، كذا قاله ابن جبير في رحلته. عرفجاء: أحد مياه الأشق. عرفة: بالضم وسكون الراء وفتح الفاء، لغة: المتين المرتفع من الأرض فينبت الشجر، ويقال لمواضع متعددة منها: عرفة الأجبال، أجبال صبح في ديار فزارة بها ثنايا يقال لها المهادر، وعرفة الحمى حمى ضرية، وعرفة منعج. عرق الظبية: تقدم في الظاء المعجمة. عريان: بلفظ ضد المكتسي، أطم لآل النضر رهط أنس بن مالك من بني النجار، كما في صقع القبلة، كذا قاله المجد. عريض: تصغير عرض، واد بالمدينة، قاله الهمداني، وهو معروف شامي المدينة قرب قناة، وتقدم حديث «أصح المدينة من الحمى ما بين حرة بني قريظة إلى العريض» وفي السير أن أبا سفيان أحرق صورا من صيران نخل العريض، ثم انطلق هاربا. عريفطان: تصغير عرفطان تثنية عرفط، واد سبق في أبلى. عرينة: كجهينة، قرى بنواحي المدينة في طريق الشام، وعن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قرى عرينة، فأمرني أن آخذ خط الأرض، رواه أحمد والطبراني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 في الكبرى، وقال الزهري: قال عمر وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ [الحشر: 6] الآية: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة قرى عرينة: فدك وكذا وكذا. ووجد على حجر بالحمى كما سبق: أنا عبد الله الأسود رسول عيسى بن مريم إلى أهل قرى عرينة. العزاف: بالفتح وتشديد الزاي آخره فاء، جبل بالدهناء، قاله المجد، وسيأتي شاهده في المحيصر، وقال المجد هناك: ومن العزاف إلى المدينة اثنا عشر ميلا، وقال في القاموس: إنه بوزن شدّاد وسحاب فيه عزيف الرعد، ورمل لبني سعد، أو جبل بالدهناء على اثني عشر ميلا من المدينة، سمي بذلك لأنه كان يسمع به عزيف الجن، وأبرق العزاف: ماء لبني أسد يجاء من حومانة الدرّاج إليه، ومنه إلى بطن نخل، ثم الطرف، ثم المدينة، انتهى. وفي الصحاح العزاف: رمل لبني سعد، ويسمى أبرق العزاف، وهو قريب من زرود، وفي النهاية عزيف الجن جرس أصواتها، وقيل: هو صوت بسمع بالليل كالطبل، وقيل: إنه صوت الرياح في الجو فيتوهمه أهل البادية صوت الجن، وعزيف الرياح: ما يسمع من دويها. عزوزي: بزايين معجمتين، موضع بين الحرمين، وفي سنن أبي داود «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة نريد المدينة، حتى إذا كنا قريبا من عزوزي نزل، ثم رفع يديه فدعا الله ساعة ثم خرّ ساجدا» الحديث. عسعس: كفر قد، جبل بحمى ضرية تضاف إليه دارة عسعس. عسفان: بالضم ثم السكون وبالفاء، كانت قرية جامعة بين مكة والمدينة، على نحو يومين من مكة، سميت بذلك لعسف السيول فيها، وذكر الأسدي بها آبارا وبرك وعينا تعرف بالعولاء. عسيب: جبل يقابل براما، في شرقي النقيع، وهو أول أعلامه من أعلاه، ونقل الهجري عن بعضهم أن عليه مسجدا للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعروف بذلك إنما هو مقمل، قال: وفيه يقول صخر، ونسبه المجد إلى امرئ القيس: أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب قال المجد: وهو جبل بعالية نجد لهذيل. عسية: بالفتح كدنية، موضع بناحية معدن القبلية، ويروى بالغين والشين المعجمتين. العش: بالضم للغراب وغيره، وذو العش: من أودية العقيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 العشيرة: تصغير عشرة من العدد، وذو العشيرة: من أودية العقيق، قال عروة بن أذينة: يا ذا العشيرة هيّجت الغداة لنا ... شوقا، وذكرتنا أيامنا الأولا ما كان أحسن فيك العيش مرتبعا ... غضّا وأطيب في آصالك الأصلا وذو العشيرة أيضا: تقدم في حدود الحرم شرقي الحفياء، وقال المطري: نقب بالحفياء من الغابة، وذو العشيرة أيضا: موضع بالصّمان ينسب إلى عشرة فيه نابتة، قال الأزهري: وذو العشيرة أيضا: حصن صغير بين ينبع وذي المروة يفضل تمره على سائر تمر الحجاز إلا الصيحاني بخيبر والبرني والعجوة بالمدينة، قاله أبو زيد، وتقدم في المساجد ذو العشيرة بينبع، وتقدمت غزوتها، وفي المغازي «باب غزوة العشيرة، أو العسيرة» بالشك بين إعجام الشين وإهمالها، وعند أبي ذر «ذو العشيرة» بالمعجمة من غير شك، ونقل عياض عن الأصيلي «العشيرة، أو العسير» بفتح العين وكسر السين المهملة، وعند القابسي في الأول «العشير» كالأول إلا أنه بغير هاء «أو العسر» كما للأصيلي في الثاني، وقيل: العشيرة أو العشير، بالشين المعجمة، بلفظ التصغير، ثم أضيف إليها «ذات» قال ابن إسحاق: ذات العشيرة من أرض بني مدلج، أي الغزوة، وقال فيها: حتى نزل العشيرة من بطن ينبع، قال الحافظ ابن حجر: ومكانها عند منزل الحاج بينبع، ليس بينها وبين البلد إلا الطريق. العصبة: بإسكان الصاد المهملة، واختلف في أوله فقيل: بالضم، وقيل: بالفتح، وضبطه بعضهم بفتح العين والصاد معا، ويروى المعصّب كمحمد، منزل بني جحجبي، غربي مسجد قباء، وفي البخاري عن ابن عمر: لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضع بقباء قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثر قرآنا، ثم أورده في الأحكام، وزاد: وفيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد بن حارثة وعامر بن ربيعة، واستشكل ذكر أبي بكر، وأجاب البيهقي باستمرار إمامته حتى قدم أبو بكر فأمّهم أيضا. عصر: بالكسر ثم السكون، ويروى بفتحتين، جبل سلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لخيبر، كما سبق في المساجد، وقال ابن الأشرف في حديث خيبر «سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها على عصر» : هو بفتحتين جبل بين المدينة ووادي الفرع، وعنده مسجد صلى به النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى، وفيه نظر. عظم: بفتحتين، تقدم في أعظم، وأما ذو عظم بضمتين فمن أعراض خيبر، فيه عيون ونخيل، قال ابن هرمة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 أهاج صحبك شيئا من رواحلهم ... بذي شناصير أو بالنعف من عظم ويروى عظم بالتحريك. عقرب: بلفظ عقرب الحشرات، أطم شامي الروحاء، به بنو بياضة. العقيان: بالكسر ثم قاف ومثناة تحت، أطم ببني بياضة، شامي أرض فراس مما يلي السبخة. عقيربا: مصغر عقرب، مال كان لخالد بن عقبة شامي بني حارثة. العقيق: بالفتح ثم الكسر وقافين بينهما مثناة تحتية ساكنة، تقدم أول الباب. العلاء: بالفتح والمد بمعنى الرفعة، أطم أو موضع بالمدينة، والعلا بالضم والقصر بناحية وادي القرى، تقدم في مساجد تبوك. العلم: بالتحريك، جبل فرد شرقي الحاجر يقال له أبان، فيه نخل، وفيه واد لو دخله مائة أهل بيت بعد أن يملكوا عليهم المدخل لم يقدر عليهم أبدا، وفيه مياه وزروع، قاله ياقوت، وكأن المراد بالحاجر حاجر الثنيا بطريق مكة، وهذا الوصف مشهور عن جبل هناك لصبح. العمق: بالفتح ثم السكون آخره قاف، واد يصب في الفرع، ويسمى عمقين، لبعض ولد الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما، وقيل: هو عين بوادي الفرع، وسبق في أودية العقيق أن ما دبر من ثنية عمق يصب في الفرع، والعمق أيضا: منزل للحاج بين السليلة ومعدن بني شريد، وفي القاموس أنه كصرد، وبضمتين، أو بضمتين خطأ: منزل بين ذات عذق ومعدن بني سليم. العميس: بالفتح ثم الكسر وسكون المثناة تحت وسين مهملة، واد بين الفرش وملل، قال ابن إسحاق في المسير إلى بدر: ثم مر على تربان، ثم على ملل، ثم على عميس الحمام من مريين، ثم على صخيرات الثمام، قال المجد: هكذا ضبطه ابن الفرات، وعليه المحققون، وقيل: إنه بالغين المعجمة. عتاب: بالضم وفتح النون آخره موحدة، اسم الطريق المطروقة بين المدينة وفيد، وقيل: جبل، قال جرير: أنكرت عهدك غير أنك عارف ... طللا بألوية العناب محيلا العنابس: بالفتح وكسر الموحدة، مزارع في جهة قبلة مسجد القبلتين. العنابة: بلفظ عناب بزيادة هاء، قارة سوداء أسفل من الرويثة إلى المدينة، وماءة في ديار بني كلاب على طريق كانت تسلك إلى المدينة، كان زين العابدين بن الحسين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 رضي الله تعالى عنهما يسكنها، والمحدثون يشددون، والعنابة أيضا: بركة ومكان قرب سميراء. العناقة: بالقاف كسحابة، موضع لغنى قرب ضرية، وفي القاموس أنها ماءة لهم. العواقر: هضبات بالفرش شاهدها في ضفر. عوال: بالضم والتخفيف، أحد الأجبل الثلاثة التي تكتنف الطريق، على يوم وليلة من المدينة، والآخران ظلم واللعباء، قاله المجد، وعبارة عرام: الطرف يكتنفه ثلاثة أجبال: ظلم، وحزم بني عوال، وهما لغطفان، وفي عوال آبار منها بئرلية، ثم قال: والسد ماء سماء، واللعباء ماء سماء، فليس فيه أن اللعباء الجبل الثالث، وظاهره أن حزم بني عوال جبلان، أو في النسخة خلل، ونقل ياقوت عن عرام أن حزم بني عوال جبل لغطفان على طريق القاصد إلى المدينة فيه مياه آبار، ثم قال: وعوال ناحية يمانية عن الحازمي. العوالي: تقدمت في العالية. عوسا: تقدمت في وادي رانوناء. العويقل: تصغير العاقل، نقب بحزرة. عير: بالفتح وسكون المثناة تحت آخره راء حمار الوحش، اسم للجبل الذي في قبلة المدينة شرقي العقيق، سبق في حدود الحرم، وفوقه جبل آخر يسمى باسمه، ويقال له عير الصادر، وللأول عير الوارد، ولهذا قال الزبير في أودية العقيق: ثم شعار الحمراء والفراة وعيرين، قال: وفي عيرين يقول الأحوص: أقوت رواوة من أسماء فالجمد ... فالنعف فالسفح من عيرين فالسند قال الهجري: إن سيل العقيق يفضي لثنية الشريد، ثم قال: ويحف الثنية شرقيا عير الوارد، وغربيا جبل يقال له الفراة، ثم يفضي إلى الشجرة التي بها المحرم، وسبق في شوران قوله إن عرارا وعيرا جبلان أحمران، وذكر ابن أذينة أيضا عيرين في شعر تقد في شوظا، وقال عامر بن صالح الزبيري فيما نقله الزبير: قل للذي رام هذا الحي من أسد ... رمت الشوامخ من عير ومن عظم ونقل أيضا عن عمه مصعب الزبيري من أبيات: وعلى عير فما جاز الفرا ... وابل مار عليه واكتسح وهذا يقدح فيما سبق في حدود الحرم عن عياض أن مصعبا الزبيري قال: لا يعرف بالمدينة جبل يقال له عير ولا ثور، وتقدم في فضل أحد حديث «أحد على ركن من أركان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 الجنة، وعير على ركن من أركان النار» . وفي رواية لابن ماجه بإسناد واه «إن أحدا جبل يحبنا ونحبه وهو على ترعة من ترع الجنة، وعير على ترعة من ترع النار» . العيص: بالكسر ثم السكون وإهمال الصاد، من الأودية التي تجتمع مع إضم، وفي غزوة ودّان: وبعث النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر من ناحية العيص، وفي حديث أبي بصير: خرج حتى نزل بالعيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر بطريق قريش إلى الشام، وقال ابن سعد: سرية زيد بن حارثة إلى العيص على أربع ليال من المدينة وعلى ليلة من ذي المروة. عينان: تثنية العين كما في المشارق والنهاية والقاموس، ونقل عن الصغاني وضبطه أولهم بكسر أوله، قال المجد: وليس بثبت، وضبطه المطري بالفتح ثم السكون وكسر النون الأولى، وسيأتي مستنده في عينين، وهو الجبل الذي كان عليه الرماة يوم أحد، وفي ركنه الشرقي مسجد نبوي كما سبق في مساجد المدينة وكانت قنطرة العين التي هناك عنده، ولعل عين الشهداء كانت هناك أيضا فسمي عينان، وقيل: إن إبليس قام عليه يوم أحد ونادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل. وقال ابن إسحاق: وأقبلوا يعني المشركين حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة. عين إبراهيم: بن هشام بفرش ملل. عين أبي زياد: في أدنى الغابة، كما في خاتمة أودية المدينة. عين أبي نيزر: بفتح النون وسكون المثناة تحت وفتح الزاي ثم راء، بينبع من صدقة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. قال ابن شبة فيما نقل في صدقته: وكانت أمواله متفرقة بينبع، ومنها عين يقال لها: عين البحير، وعين يقال لها: عين أبي نيزر، وعين يقال لها: نولا، وهي التي يقال: إن عليّا رضي الله تعالى عنه عمل فيها بيده، وفيها مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى ذي العشيرة، وعمل على أيضا بينبع البغيبغات، وفي كتاب صدقته أن ما كان لي بينبع من ماء يعرف لي فيها وما حوله صدقة وقفتها غير أن رباحا وأبا نيزر وجبيرا أعتقناهم وهم ي عاملون في الماء خمس حجج، وفيه نفقتهم ورزقهم، انتهى، وأبو نيزر: مولى علي الذي تنسب إليه العين، كان ابنا للنجاشي الذي هاجر إليه المسلمون، اشتراه علي وأعتقه مكافأة لأبيه. وذكروا أن الحبشة مرج أمرها بعد النجاشي، وأرسلوا إلى أبي نيرز ليملكوه، فأبى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وقال: ما كنت أطلب الملك بعد ما منّ الله عليّ بالإسلام، وكان من أطول الناس قامة وأحسنهم وجها. وقال ابن هشام: صح عندي أن أبا نيزر من ولد النجاشي، فرغب في الإسلام صغيرا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار مع فاطمة وولدها. قال أبو نيزر: جاءني عليّ وأنا أقوم على الضيعتين عين أبي نيزر والبغيبغة فقال: هل عندك من طعام؟ وذكر قصة أكله وشربه، قال: ثم أخذ المعول وانحدر فجعل يضرب، وأبطأ عليه الماء، فخرج وقد تصبّب جبينه عرقا، فانتكف العرق عن جبينه، ثم أخذ المعول وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها وجعل يهمهم، فسالت كأنها عنق جزور، فخرج مسرعا، وقال: أشهد الله أنها صدقة، عليّ بدواة وصحيفة، قال: فجئت بهما إليه، فكتب وذكر الصدقة بالضيعتين البغيبغة وعين أبي نيزر، على فقراء أهل المدينة وابن السبيل، لا يباعان ولا يوهبان، إلا أن يحتاج لهما الحسن أو الحسين فهما طلق لهما، وليس ذلك لغيرهما. قال ابن هشام: فركب الحسين رضي الله تعالى عنه دين فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع. عين الأزرق: وتسميها العامة العين الزرقاء، تقدمت في تتمة الفصل الأول من الباب السادس. عين تحنّس: بضم المثناة فوق وفتح الحاء المهملة وكسر النون المشددة وسين مهملة، كانت بالمدينة للحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما، استنبطها غلام له يقال له تحنس، وباعها علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما من الوليد بن عقبة بن أبي سفيان بسبعين ألف دينار، قضى بها دين أبيه الحسين إذ قتل وعليه هذا القدر. عين الحديد: بإضم. عيون الحسين: بن زيد بن علي بن الحسين وهي ثلاث بأعمال المدينة: إحداهما بالمضيق، والآخرى بذي المروة، والثالثة بالسقيا. روى أبو الفرج النهرواني عنه أنه نشأ في حجر أبي عبد الله جعفر الصادق، فلما بلغ قال له: ما يمنعك أن تتزوج من فتيات قومك؟ قال: فأعرضت عن ذلك، فأعاد، فقلت: من ترى؟ فقال: كلثوم بنت محمد بن عبد الله الأرقط، فإنها ذات جمال ومال، فأرسلت إليها، فضحكت من رسولي وتعجّبت من جرأتي على ذلك، فأخبرت أبا عبد الله، فألبسني ثوبين يمنيين معلمين، ثم قال: تعرض أن تمر بمنزلها واحرص على أن تعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 بمكانك، فوقفت ببابها، فأشرفت فنظرت إليّ وقالت: تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه، فأخبرت أبا عبد الله فقال: إذا شئت فتغيّب عن المدينة أياما، فغبت أتصيد، ثم نزلت المدينة فإذا مولاة لها أتتني فقالت: نحن نريدك للفرش وأنت تطلب الصيد؟ قد جئتك غير مرة من سيدتي، بعثت معي ألف دينار وعشرة أثواب وتقول لك: تقدم إذا شئت فاخطبني وامهر بها فإن لك عشرة جميلة، فغدوت فملكتها وأمرتها بالتهيؤ، ثم أخبرت أبا عبد الله، فقال: تهيأ للسفر، وإذا كان ليلة الخميس فادخل المسجد وسلّم على جدك، ونحن ننتظرك ببئر زياد بن عبيد الله، ففعلت، فأتيته، فأمر لي بثياب السفر، وقال: استشعر تقوى الله، وأحدث لكل ذنب توبة، امض فقد كتبت لك إلى معن بن زائدة، وغيبتك ثلاثة أشهر إن شاء الله، فإذا جئت صنعا فانزل منزلا وات معنا؟ ففعلت ما أمرني به، ودخلت على معن بإذن عام، فإذا به قاعدا والناس سماطان قياما، فسلمت فردّ وقال: من أنت؟ فأخبرته، فصاح: لا والله، ما أريد أن تأتوني، باب أمير المؤمنين أعود عليكم من بابي، فقلت: أستغفر الله من حسن الظن بك، وانصرفت، فأدركني رجل فقال: قد عوّضك الله خيرا مما فاتك، وآتاني ثلاثة آلاف دينار، وسألني عما أحتاج إليه من الكسوة، فكتبتها له، فلما كان بعد العشاء دخل عليّ معن بن زائدة وأكبّ على رأسي ويدي وقال: يا ابن سيدي وسادتي اعذرني فإني أعرف ما أداري، وأعطيته كتاب أبي عبد الله، فقبله وقرأه، ثم أمر لي بعشرة آلاف دينار، ثم قال: أيّ شيء أقدمك، فأخبرته خبري، فأمر لي بعشرة آلاف دينار أخرى وثلاث نجائب برحالها، وكساني ثلاثين ثوبا وغيرها، ثم ودّعني، فقضيت حوائجي وقدمت مكة موافيا لعمرة رمضان، فوافيت أبا عبد الله قدم مكة، وسلمت عليه، فقال: أصبت من معن بعد ما جبهك عشرين ألف دينار سوى ما أصبت من غيره؟ قلت: نعم، قال: فإن معنا جماعة كانوا يدعون الله لك، فمر لهم شيء، فقلت: ذاك إليك، قال: كم في نفسك أن تعطيهم؟ قلت: ألف دينار، قال: إذا تجحف بنفسك، ولكن فرق عليهم خمسمائة دينار وخمسمائة لمن يعتريك بالمدينة، ففعلت، وقدمت المدينة واستخرج عينا بالمروة وعينا بالمضيق وعينا بالسقيا، وبنيت منازل بالبقيع، فتروني أؤدي شكر أبي عبد الله وولده أبدا؟. عين الخيف: تأتى من عوالي المدينة فتسقي ما حول مساجد الفتح، وهي متقطعة، وفقرها ظاهرة تسمى اليوم بشبشب. عين رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقدمت في تتمة الفصل الأول من الباب السادس. عين الشهداء: التي تقدم أن معاوية رضي الله تعالى عنه أجراها، وكانت تسمى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 الكاظمة، غير معروفة، وبقرب عينين مجرى عين فوقها ثنية تأتي من العالية، والظاهر أنها غير عين الشهداء. عين الغوار: بالغين المعجمة، بإضم. عين فاطمة: سبق لها ذكر في منازل يهود، وأنها حيث كان يطبخ اللبن للمسجد النبوي، وبالحرة الغربية قرب بطحان آرام كانت في مطابخ للآجر قديما، كما يظهر من رؤيتها، وهناك بئر طويلة على هيئة قصب العين. عين القشيري: بطريق مكة، بين السقيا والأبواء، كثيرة الماء، لها مشارع، يشرب منها الحاج، وعليها نخل كثير، كانت لعبد الله بن الحسن العلوي. عين مروان: بإضم، وكذا اليسرى. عينين: قال المجد: هو تثنية عين، وتقدم آنفا في عينان، لكن بعضهم يتلفظ به على هذه الصيغة في جميع أحواله، فإن الأزهري ذكره مبتدئا فقال: عينين بفتحتين جبل بأحد، انتهى. وكذا صنع عياض في المشارع، وهو يقتضي أن بفتح العين والنون الأولى، وإنما خالف ما سبق في لزومه لذلك، لكن المطري ضبطه بفتح العين وكسر النون الأولى، فلعله كذلك في كلام الأزهري، فلا يكون تثنية عين، قال المجد: وضبطه بعضهم بكسر العين وفتح النون الأولى، وليس بثبت. حرف الغين الغابة: قال في المشارق: بالموحدة، مال من أموال عوالي المدينة، وهو المذكور في السباق: من الغابة إلى كذا، ومن أثل الغابة حتى يأتي أحدا من الغابة، وفي تركة الزبير منها الغابة، فقد صحف قديما كثير هذا الحرف في حديث السباق، فقال: الغاية أي بالمثناة تحت فرده عليه مالك، انتهى. وقال الحافظ ابن حجر تبعا له: الغابة عن عوالي المدينة، وزاد أنها في جهة الشام، انتهى. والغابة إنما هي في أسفل سافلة المدينة، لا يختلف فيه اثنان، ولهذا قال: إنها في جهة الشام، وكيف تكون من عوالي المدينة وهي مغيض مياه أوديتها كما سبق في خاتمة الفصل الخامس؟ وقال الهجري: ثم تفضي يعني سيول المدينة إلى سافلة المدينة وعين الصورين بالغابة، انتهى. وهي معروفة اليوم في سافلة المدينة، وكان بها أملاك لأهلها استولى عليها الخراب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 وكان الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قد اشتراها بمائة وسبعين ألفا، وبيعت في تركته بألف ألف وستمائة ألف. وروى الزبير بن بكار عن عبيد الله بن الحسن العلوي قال: قال معاوية بن أبي سفيان لعبد الرحمن بن أبي أحمد بن جحش، وكان وكيله بضياعه بالمدينة، يعني أودية اشتراها واعتملها، فلبث ثم جاء فقال: قد وجدت لك أودية بجهة، قال: قل، قال: البلدة، قال: لا حاجة لي بها، قال: النخيل، قال: لا حاجة لي به، قال: رعان، قال: لا حاجة لي به، قال: الغابة، قال: اشترها لي، فقال له ابن أبي أحمد: ذكرت لك أودية لا تعرفها فكرهتها، وذكرت لك واديا لا تعرفه فقلت اشتره، فقال: ذكرت البلدة فبلدت عليّ والنخيل وكان مصغرا ورعان فنهتني عن نفسها والغابة فدلتني على كثرة مائها، وقد قال الأول: إن كنت تبغي العلم أو مثله ... أو شاهدا يخبر عن غائب فاختبر الأرض بأسمائها ... واعتبر الصاحب بالصاحب قلت: أخذ من لفظ الغابة كثرة مائها لأنها لغة ذات الشجر المتكاتف، فتغيب ما فيها، وذلك لكثرة الماء، وعن محمد بن الضحاك أن العباس رضي الله تعالى عنه كان يقف على سلع فينادي غلمانه وهم بالغابة فيسمعهم، وذاك من آخر الليل، وبينهما ثمانية أميال. وقال المجد: الغابة على نحو بريد، وقيل: ثمانية أميال من المدينة. قلت: يحمل البريد على أقصاها، وما بعده على أثنائها، وأما أدناها فقد سبق في الحفياء. وقال ياقوت: إن السباع وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم بالغابة تسأله أن يفرض لها ما تأكله، وروى ابن زبالة حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة بالغابة في غزوة ذي قرد. ذات الغار: بئر عذبة كثيرة الماء على ثلاثة فراسخ من السوارقية، وغار الآتي في شاهد مثعر هو من الصدارة نحو شرف السيالة شرقا، والغار بأحد فوق المهراس، لما سيأتي في المهراس. الغبيب: بالضم تصغير غب، اسم موضع مسجد الجمعة. ذو غثث: كصرد بمثلثتين، جبل بحمى ضرية. غدير الأشطاط: بالفتح وشين معجمة وطاءين، على ثلاثة أميال من عسفان مما يلي مكة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 غدير خم: سبق في الخاء المعجمة. غراب: بلفظ الطائر المعروف، جبل شامي المدينة، بينها وبين مخيض، وسبق عن المطري فيما يجتمع مع السيول برومة. وقال ابن زبالة في المنازل: كان قوم من الأمم فيما بين مخيض إلى غراب الضائلة إلى القصاصين إلى طرف أحد. وقال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة فسلك على غراب جبل بناحية المدينة على طريق الشام، ثم على مخيض، ويقال فيه: غرابات بصيغة الجمع، ومنه الحديث: حتى إذا كنا بغرابات نظر إلى أحد، ويسمى اليوم غريبات بالتصغير قال المجد: وإياه أراد معن بن أوس بقوله: فمندفع الغلان من جنب منشد ... فنعف الغراب خطبه وأساوده قلت: قال الزبير في أودية العقيق: ثم راية الغراب، وفيها يقول معن بن أوس، وذكر البيت، وظاهره بعده عن هذا، وغراب أيضا: غدير في طريق الرحضية على يوم من المدينة. غران: بالضم والتخفيف، اسم وادي الأزرق، خلف أمج بميل، كما سبق إليه. وقال المجد: هو علم مرتجل لوادي ضخم وراء وادي ساية، ويقال له أيضا: رهاط. قاب ابن إسحاق: غران واد بين نخل وعسفان إلى بلد يقال له ساية، وغران: منازل بني لحيان، وسبق في رهاط عن صاحب المسالك والممالك عدّه في توابع المدينة ومخاليفها. ذو الغراء: بالفتح ممدودا، بعقيق المدينة، له ذكر في شعر أبي وجرة. غرة: بالضم والتشديد، بلفظ غرة الفرس لبياض بجهته، اسم أطم موضعه منارة مسجد قباء، وكأنه يروى بالعين المهملة أيضا؛ لأن المجد ذكره فيهما. غزة: بالفتح وتشديد الزاي، منزل بنى خطمة عند مسجدهم، شبهوها بغزة الشام لكثرة أهلها. غزال: بلفظ واحد الظباء، واد يأتي من ناحية شمنصير سكانه خزاعة. غشية: بالفتح وكسر المعجمة وتشديد المثناة تحت، موضع بناحية معدن القبلية، وروي بمهملتين. ذو الغصن: بلفظ غصن الشجرة، من أودية العقيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 غضور: كجعفر والضاد معجمة آخره راء، موضع بين المدينة وبلاد خزاعة وكنانة، وقال ياقوت: هي بين مكة والمدينة بديار خزاعة. ذو الغضوين: محرك بلفظ تثنية الغضى، قال ابن إسحاق في سفر الهجرة: ثم تبطّن بهما الدليل مرجحا من ذي الغضوين، ويقال: من ذي العصوين بالمهملتين. غمرة: بالفتح ثم السكون ما يغمر الشيء ويعمه، اسم موضع بطريق نجد، أغزاه النبي صلى الله عليه وسلم عكّاشة بن محصن، وسماه ابن سعد «غمر مرزوق» بغير هاء، قال: وهو ماء لبني أسد. الغموض: بلفظ الغموض بالضم والضاد المعجمة، حصن بني الحقيق بخيبر، وقيل: هو قموص- بالقاف والصاد المهملة- وهو أقرب. غميس: كأمير والسين مهملة، تقدم في العين المهملة. الغميم: بالفتح، موضع بين رابغ والجحفة، قاله نصر، سمي برجل اسمه الغميم، أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفى بن موالية، وشرط عليه إطعام ابن السبيل والمنقطع، وكتب له كتابا في أديم، قاله المجد هنا، وأحال عليه في «كراع الغميم» لكن الأسدي ذكر كراع الغميم فيما بين عسفان ومر الظهران، وقال عياض: إن الغميم واد بعد عسفان بثمانية أميال، والكراع: جبل أسود بطرف الحرة يمتد لهذا الوادي. قلت: ويؤيده قول ابن هشام: الغميم بين عسفان وضجنان. الغور: بالفتح ثم السكون، كل ما انحدر مغربا عن تهامة وما بين ذات عرق إلى البحر، وسمي الغور الأعظم، وموضع بديار بني سليم، وما سال من أرض القبلية إلى ينبع. غول: كجول، جبل غربي حلّيت، سبق شاهده فيه، وبه نخل ليس بالقليل. غيقة: بالفتح ثم السكون ثم قاف وهاء، موضع بساحل البحر قرب الجار، يصب فيها وادي ينبع ورضوى، قاله عرام. وقال السكوني: هو ماء لبني غفار. وقال ابن السكيت: غيقة: أحساء على شاطئ البحر فوق العذيبة، وغيقة أيضا: بظهر حرة النار لبني ثعلبة بن سعد، أو سرّة واد لهم. حرف الفاء فارع: بالراء والعين المهملتين كصاحب، أطم كان في موضع دار جعفر بن يحيى بباب الرحمة، وجاء جلوس النبي صلى الله عليه وسلم في ظله، وفارع أيضا: قرية بأعلى ساية بها نخيل وعيون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 فاضجة: بكسر الضاد المعجمة وفتح الجيم، مال بالعالية معروف اليوم بناحية جفاف، كان به أطم لبني النضير عامة، وفاضجة أيضا: واد من شعبي إلى ضرية، قاله الهجري، وفاضجة: انفضاج أي انفراج من الأرض بين جبلين أو جبال. فاضح: بكسر الضاد ثم حاء مهملة، جبل قرب ريم، وواد في الشريف من بلاد بني العير. فج الروحاء: بالفتح ثم الجيم، بعد السيالة، مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة. فحلان بلفظ تثنية الفحل، موضع بحبل أحد، وفي القاموس فحلان- بالكسر- موضع في أحد. الفحلتان: قنتان مرتفعتان على يوم من المدينة، بينها وبين ذي المروة عند صحراء يقال لها: فيفاء الفحلين، لها ذكر في مساجد تبوك، وغزاة زيد بن حارثة لبني جذام. فدك: بالفتح وإهمال الدال ثم كاف، تقدمت في الصدقات، قال عياض: هي على يومين- وقيل: ثلاثة- من المدينة، واقتصر المجد على الأول، واستغرب عدم معرفة أهل المدينة لها اليوم، وكنت أيضا أستغربه لشهرتها وقربها، حتى رأيت كلام ابن سعد في سرية علي رضي الله تعالى عنه إلى بني سعد بن بكر بفدك، فنقل أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فبعث إليهم عليا رضي الله تعالى عنه في مائة رجل، فسار الليل وكمن النهار حتى انتهى إلى العجم وهو ما بين خيبر وفدك، وبين فدك والمدينة ست ليال، فوجد به رجلا، فسألوه عن القوم، فقال: أخبركم على أن تؤمنوني، فأمنوه، فدلّهم، فأغاروا عليهم، وأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعن، انتهى. وسبق قول الأصمعي: حرة النار فدك، انتهى. وكان أهلها يهود، فلما فتحت خيبر طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يتركوا له البلد، فكانت له خاصة، لأنها مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وفي رواية: أنهم صالحوه على النصف، وأن عمر رضي الله تعالى عنه لما أجلاهم بعث من قوّمها وعوّضهم من نصفها، ويجمع بأن الصلح وقع عليها كلها واستعملهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بشطر ثمارها كخيبر، فمن روى الصلح على الشطر نظر لما استقر عليه الأمر في الثمار. قيل: وسميت بفذك بن حام؛ لأنه أول من نزلها. الفراء: بالراء والمد كالغرب، وجاء في الشعر مقصورا، جبل غربي عير الوارد، بينهما ثنية الشريد، وسبق شاهده، وفي القاموس: ذو الفراء موضع عند عقيق المدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 فرش ملل: والفريش مصغره معروفان قرب ملل، يفصل بينهما بطن واد يقال له مثعر، كان بهما منازل وعمائر، كان كثير بن العباس ينزل فرش ملل على اثنين وعشرين ميلا من المدينة. الفرع: بضم أوله وسكون ثانيه ثم عين مهملة، وقال السهيلي: هو بضمتين، قاله المجد، والثاني هو الذي اقتصر عليه في المشارق، وقال في التنبيهات: كذا قيده ابن سيد الناس، وكذا رويناه، وذكر عبد الحق عن الأجدل أنه بإسكان الراء، ولم يذكره غيره، انتهى. واقتضى ترجيح ما نقله المجد عن السهيلي، لكن قال ابن سيد الناس في غزوة نجران: قال ابن إسحاق: ثم غزا يريد قريشا حتى بلغ نجران معدنا بالحجاز من ناحية الفرع، قال: والفرع بفتح الفاء والراء قيده السهيلي، انتهى. فاقتضى أنه عند السهيلي محرك بالفتح، والمحرك بالفتح من أودية الأشعر قرب سويقة، بينها وبين مثعر، على مرحلة من المدينة، وهو فرع المسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري على ما نقله الهجري، وأما الفرع الذي هو بضمتين أو بضمة وسكون ونجران من ناحيته فيما يظهر فهو كما قال عياض عمل من أعمال المدينة، واسع به مساجد للنبي صلى الله عليه وسلم ومنابر وقرى كثيرة. وقال المجد: الفرع عن يسار السقيا على ثمانية برد من المدينة، وبها منبر ونخل ومياه كثيرة، وهي قرية غنّاء كبيرة، وأجل عيونها عينان غزيرتان: إحداهما الربض، والآخرى النجف، يسقيان عشرين ألف نخلة، وهي كالكورة، فيها عدة قرى، سبقت في آره. قال السهيلي: يقال: هي أول قرية مارت إسماعيل وأمه التمر بمكة. فريقات: بلفظ جمع مصغر فرقة، من أودية العقيق، وهن عقد يدفعن في هلوان. الفضاء: بفتح الفاء والضاد المعجمة بالمد، وقال الصغاني: بالقصر، موضع بالمدينة، قاله المجد، وفضاء بني خطمة تقدم في منازلهم، ويفضي إليه سيل بطحان وبه يلتقي سيل مهزور ومذينب، وهو بقرب الماجشونية. فعرى: بسكون العين المهملة كسكرى، وقيل: بكسر الفاء، جبل يصب في وادي الصفراء. الفغوة: بسكون الغين المعجمة، قرية بلحف جبل آرة. الفقار: تقدم ذكره في حرزة بالحاء المهملة، وأظنه المعروف اليوم بالفقرة. الفقير: ضد الغني، اسم موضعين قرب المدينة يقال لهما: الفقيران، وعن جعفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 الصادق رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع عليّا رضي الله تعالى عنه أربع أرضين: الفقيرين، وبئر قيس، والشجرة، وقيل: الفقير اسم بئر بعينها، قاله المجد، وبعالية المدينة حديقة تعرف بالفقير بالضم تصغير الفقير بالفتح، ونقل ابن شبة في صدقة علي رضي الله تعالى عنه أن منها الفقيرين بالعالية، وأنه ذكر أن حسنا أو حسينا باع ذلك، فتلك الأموال متفرقة في أيدي الناس. ثم حكى كتاب الصدقة نصا، ولفظه: والفقير لي كما قد علمتم صدقة في سبيل الله. ثم ذكر تسويغ البيع لكل من الحسن والحسين دون غيرهما، وسبق في الصدقات مكاتبة سلمان سيده القرظي على أن يحيى له ذلك النخل بالفقير، فالظاهر أنه المعروف اليوم بالفقير قرب بني قريظة، وإن كان أصله مكبرا فقد صغروه كما صغروا الشجرة فيقولون فيها «الشجيرة» كما سبق. الفلجان: بالضم ثم السكون ثم جيم، اسم أرض سقيا سعد بالحرة الغربية. فلجة: بالفتح ثم السكون وفتح الجيم، من أودية العقيق كما سبق، قال الزبير: وفيها يقول أبو وجرة السعدي: إذا تربعت ما بين الشريق إلى ... روض الفلاج أولات السّرج والعنب واحتلّت الجوّ فالأجراع من مرج ... فمالها من ملاحات ولا طلب فعلم أن المراد بالفلاج جمع فلجة المذكور بعد حذف تائه، وبه صرح ياقوت، فقال: فلجة موضع بعقيق المدينة بعد الصوبر سماها أبو وجرة الفلاج، انتهى. وغاير المجد بينهما واستشهد للفلاج، وقال: هي ككتاب رياض بنواحي المدينة جامعة للناس أيام الربيع، وبها مسايل تجتمع فيها مياه المطر، ومنها غدير يقال له المختبى، قال: ومرج واد بين فدك والوابشة. قلت: في غدران العقيق مرج، لكنه بالزاي. ولعله المراد في شعر أبي وجرة وبالعقيق مختبيات فليج الثلاثة، لكن ذكر عرام السوارقية وقبة الحجر ثم قال: وهناك واد يقال له ذو رولان لبني سليم فيه قرى، ثم قال: وبأعلى هذا الوادي رياض تسمى الفلاج، وذكر ما قاله المجد، إلا أنه لم يستشهد بالشعر. فليج: كزبير تصغير فلج بالكسر أو الفتح، من العيون التي تجتمع فيها فيوض أودية المدينة، قال هلال بن سعد المازني: أقول وقد جاوزت نقمي وناقتي ... تحنّ إلى جنبي فليج مع الفجر وهو يقتضي أنه بالضم. فنيق: بالفتح وكسر النون ثم مثناة تحتية وقاف، موضع قرب المدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 فويرع: أطم بمنازل بني غنم من بني النجار. فيفاء الخبار: تقدم في الخبار من الخاء المعجمة. فيفاء الفحلين: في الفحلتين. حرف القاف القائم: كصاحب، مال لبني أنيف، معروف في قبلة قباء من المغرب. القار: قرية من قرى المدينة كما في العباب. القاحة: بفتح الحاء المهملة ثم هاء، على ثلاث مراحل من المدينة كما في البخاري، وهي قبل السقيا لجهة المدينة بنحو ميل، قاله المجد، قال الحافظ ابن حجر وغيره: ويقال لواديها: وادي العباديد، وتقدم عن الأسدي أنه يقال له: وادي العائد، وهو لبني غفار، وقال عياض: القاحة واد بالعباديد، رواه الناس بالقاف إلا القابسي والهمداني فبالفاء وهو تصحيف، وفي حديث الهجرة: أجاز القاحة، قال المجد: الأشهر فيه القاف، وروى بالفاء، وقال عرام: وفي ثافل الأصغر ماء في دارة في جوفه يقال له القاحة، وظاهر إيراد المجد له هنا أنه بالقاف، والذي رأيته في نسختين من كتاب عرام بالفاء والجيم. القاع: موضع مسجد بني حرام غربي مساجد الفتح، وقال المجد: هو أطم البلويين، عنده بئر عذق، وما علمت مأخذه فيه، والقاع أيضا: بطريق مكة، وقاع النقيع: بديار سليم. قباء: بالضم والقصر وقد تمد، وأنكر البكري القصر؛ وقال النووي: المشهور الفصيح فيه المد والتذكير والصرف، وقال الخليل: هو مقصور قرية بعوالي المدينة وقال ابن جبير: مدينة كبيرة كانت متصلة بالمدينة المقدسة، والطريق إليها من حدائق النخل، وفي الأحاديث ما يقتضي أن منها العصبة وبئر غرس، فيظهر أن ذلك حدها من المغرب والمشرق، وآبار عماراتها كثيرة ممتدة في جهة قبلة مسجدها، ولم أقف على شيء في حدها الشامي مما يلي المدينة إلا ما سيأتي في المسافة بينهما، وفي منازل بني عمرو بن عوف من الأوس، قال المجد تبعا للمشارق: وهي في الأصل اسم بئر هناك عرفت القرية بها، ومأخذه قول ابن زبالة: كان بقباء شخص من يهود له أطم بها يقال له عاصم، كان في دار ثوبة بن حسين بن السائب ابن أبي لبابة، وفيه البئر التي يقال لها قباء، وقال المراغي ومن خطه نقلت: وإنما سميت قباء ببئر كانت بها تسمى هبارا، فتطيروا منها فسموها قباء كما نقله ابن زبالة، انتهى. ولعله سقط من النسخة التي وقفت عليها من كتاب ابن زبالة لأني رأيته بخط الأقشهري: قال ابن زبالة: حدثني عبد الرحمن بن عمرو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 العجلاني قال: إنما سميت قباء ببئر كانت بها يقال لها قبار، فتطيروا منها، فسموها قباء، وكانت البئر في دار ثوبة بن حسين بن أبي لبابة، انتهى. وقتار في خط المراغي بالمثناة فوق، وفي خط الأقشهري بالباء الموحدة، قال المجد: وهي على ميلين من المدينة، وهو قول الباجي، ونقله النووي عن العلماء، وعبر بمنازل بني عمرو بن عوف، وفي مشارق عياض: هي قرية بالمدينة على ثلاثة أميال منها، وعبر عنه الحافظ ابن حجر بقوله: هي على فرسخ من المسجد النبوي بالمدينة. قلت: وقد اختبرته من عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب جبريل إلى عتبة مسجد قباء، فكانت مساحة ذلك بذراع اليد المتقدم وصفه في حدود الحرم سبعة آلاف ذراع ومائتي ذراع، تزيد يسيرا، وذلك ميلان وخمسا سبع ميل على المعتمد من أن الميل ثلاثة آلاف ذراع، فالأصوب هو الأول، وإن صحح المطري الثاني، ونسب إلى عياض الأول. وفضائل قباء وماثرها تقدمت في مسجدها. وقباء أيضا: قرية كبيرة لمحارب وعامر بن ربيعة وغيرهم، بها آبار ومزارع ونخيل، ذكرها عرام في ناحية أفاعية ومران، وذكرها الأسدي في طريق ضرية إلى مكة على نحو أربع مراحل من ذات عرق، وذلك بجهة الموضع المعروف اليوم بكشب. قباب: كغراب، من آطام المدينة، قاله الصغاني، وقال ياقوت: هو قبابة كصبابة. القبلية: بفتحتين مثال عربية، كأنه نسبة إلى القبل محركا، وهو النشر من الأرض يستقبلك، وفي القاموس أنها بالكسر والتحريك وإليها تضاف معادن القبلية، قال عياض وتبعه المجد: هي من نواحي الفرع، وفي النهاية: هي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل: هي من ناحية الفرع، وهو موضع بين نخلة والمدينة، انتهى. وقال الزمخشري: القبلية سراة فيما بين المدينة وينبع، ما سال منها إلى ينبع سمي بالغور، وما سال منها إلى المدينة سمي بالقبلية، وحدها من الشام ما بين الخبء وهو من جبال بني عراك من جهينة وما بين شرف السيالة، أرض يطؤها الحاج، وفيها جبال وأودية، انتهى. ويؤيده أن ما يذكر أنه بالقبلية ما هو معروف اليوم أنه بهذه الجهة، فالفرع الذي عمل فيه قرى ليست القبلية منه، وبالجهة التي ذكرها الزمخشري فرع المسور بفتحتين كما سبق، فالظاهر أنه المراد، ويؤيده أن الزبير نقل عن محمد بن المسور أنه كان بفرع المسور بن إبراهيم، قال: فرأى فراس المزني جبلا فيه عروق مرو، فقال: إن هذا المعدن فلو علمته، قال محمد بن المسور: فقلت: مالك وله؟ إنما هو ابتعنا مياهه وقطع لنا سائره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 أبان بن عثمان في إمارته، فقال المزني: عندي أحق من ذلك قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال محمد: فرجعت إلى إبراهيم فذكرت له ذلك، فقال: صدق إن يكن معدنا فهو لهم، قطع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معادن القبلية غوريها وجلسيها، يشير إلى حديث «أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية غوريها وجلسيها، وذات النصب وحيث صلح الزرع من قدس» وفي رواية «وثنايا عمق» وفي رواية عقب وجلسيها: عشبة وذات النصب وحيث صلح الزرع من قدس إن كان صادقا. قلت: والجلسي نسبة إلى الجلس، وهو أرض نجد، يقال لكل مرتفع من الأرض جلس، والغور: ما انهبط من الأرض، فالمراد أنه أقطعه جميع تلك الأرض نجدها وغورها. قدس: بالضم وسكون الدال المهملة، قال الهجري: جبال قدس غربي ضاف من البقيع، وقدس: جبال متصلة عظيمة كثيرة الخير تنبت العرعر والخزم، وبهاتين وفواكه وفراع، وفيها بستان ومنازل كثيرة من مزينة، وسبق أن صدور العقيق ما دفع في النقيع من قدس، وذكر الأسدي أن الجبل الأيسر المشرف على عين القشيري يقال له قدس، أوله في العرج وآخره وراء هذه العين، وقال عرام: ورقان ينقاد إلى الجيّ بين العرج والرويثة، ويفلق بينه وبين قدس الأبيض ثنية بل عقبة يقال لها ركوبة، وقدس هذا ينقاد إلى المتعشى بين الفرع والسقيا، ثم يقطع بينه وبين قدس الأسود عقبة يقال لها حمت، والقدسان جميعا لمزينة. القدوم: كصبور، جبل قال المدائني: قناة واد يمرّ على طرف القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد، قال الزمخشري: وقدوم أيضا ثنية بالسّراة، وموضع من نعمان، واسم مختتن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، قال عياض: وأما طرف القدوم في حديث الفريعة فلم يختلف في فتح القاف فيه، وقالوه بتخفيف الدال وتشديدها، قال ابن وضاح: هو جبل بالمدينة، وأما الذي في حديث أبي هريرة «قدوم ضان» مفتوحا مخففا فثنية من جبل ببلاد دوس. قديد: كزبير، قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه، قاله البكري، والمسلك الذي كان به شاه الطاغية ثنية مشرفة عليه، ويضاف إليه طرف قديد بطريق مكة. قديمة: بالضم ثم الفتح كجهينة، جبل بالمدينة، شاهده سبق فيما قيل في العقيق من الشعر. قراضم: بالضم وكسر الضاد المعجمة، موضع بنواحي المدينة، قال ابن هرمة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 فأجزاع كفت فاللّوى فقراضم ... تناجي بليل أهله فتحملوا قراقر: بالفتح وقافين، موضع من أعراض المدينة لآل حسين بن علي بن أبي طالب. القرائن: ثلاث دور اتخذها عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فدخلت في المسجد، وقيل: ثلاث جنابذ له. قران: بالضم وتشديد الراء، واد بين مكة والمدينة إلى جنب أبلى. قرح: بالضم ثم السكون، سوق وادي القرى، يضاف إليه صعيد قرح، قاله المجد، ومقتضاه أن يكون بالراء، لكنه بخط المراغي في مساجد تبوك بفتح الزاي، وكان به سوق في الجاهلية، وقيل: بهذه القرية كان هلاك عاد قوم هود عليه الصلاة والسلام، وقال عبد الله بن رواحة: جلبنا الخيل من آجام قرح ... تغرّ من الحشيش لها العكوم قرد: بفتحتين، وذو قرد: ما انتهى إليه المسلمون في غزاة الغابة، ولهذا أضيفت الغزوة إليه أيضا، قال ابن الأثير: هو بين المدينة وخيبر، على يومين من المدينة، وقال عياض: هو على نحو يوم من المدينة مما يلي بلاد غطفان، وقال أبان بن عثمان صاحب المغازي: ذو قرد ماء لطلحة بن عبيد الله اشتراه فتصدق به على مارة الطريق، قاله المجد، والذي سبق في بيسان ورواه المجد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في غزاة ذي قرد على ماء يقال له بيسان، وذكر ما سبق فيه، وشراه طلحة وتصدق به. قردة: كسجدة، ويقال بالفاء: ماء من مياه نجد، كان به سرية زيد بن حارثة، ومات بها زيد الخيل، قاله مغلطاي. القرصة: محركة والصاد المهملة، ضيعة لسعد بن معاذ، تقدمت في مساجد المدينة. قرقرة الكديد: ستأتي في الكاف، والقرقرة أيضا: بخيبر، سلك بهم الدليل يوم خيبر صدور الأودية فأدركتهم الصلاة بالقرقرة، فلم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بين الشق ونطاة، وفي مغازي ابن عقبة في قتل ابن رزام اليهودي: فلما بلغوا قرقرة تياز وهي من خيبر على ستة أميال، وذكر قتله مع أصحابه. القرية: مصغر كسميّة، موضع قرب المدينة، قال ابن هرمة: انظر لعلك أن ترى بسويقة ... أو بالقريّة دون مغني عاقل القرى: جمع قرية يضاف إليها وادي القري الآتي، وسبق في العين قرى عرينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 قسيان: كعثمان بمثناة تحتية، وقسيّان مصغرة: من أودية العقيق. قشام: كغراب بالشين المعجمة، جبل على أيام من المدينة، قال جبيهاء لزوجته في قصة طلبها سكنى المدينة: إن المدينة لا مدينة فالزمي ... حقف الستار وفيئة لقشام قصر إسماعيل بن الوليد: على بئر إهاب، سبق فيها. قصر إبراهيم بن هشام: دون بني أمية بن زيد، ولعله بالناعمة التي له. قصر بني حديلة: بضم الحاء المهملة، تقدم في بيرحاء. قصر خارجة: بن حمزة بالعرصة، وسائر قصور العقيق تقدمت فيه. قصر خل: بالخاء المعجمة، ويعرف اليوم بحصن خل، غربي بطحان. قال ابن شبة: وأما قصر خل الذي بظاهر الحرة على طريق رومة فإن معاوية أمر النعمان بن بشير ببنائه ليكون حصنا لأهل المدينة، ويقال: بل أمر به معاوية مروان بن الحكم وهو بالمدينة، فولاه مروان النعمان بن بشير، وفيه حجر منقوش فيه: لعبد الله معاوية أمير المؤمنين مما عمل النعمان بن بشير، وإنما سمي قصر خل لأنه على الطريق، وكل طريق في حرة أو رمل يقال له: خل، انتهى. وروى ابن زبالة في بيرحاء عن أبي بكر بن حزم أن معاوية رضي الله تعالى عنه بنى قصر خل ليكون حصنا، لما كان يحدث أنه يصيب بني أمية، وإنما سمي قصر خل لأنه بني على خل من الحرة فقيل له: لو كان كوزماء ما بلغوه حتى يقتطعوا دونه، فلما شرى بيرحاء بنى قصر بني حديلة في موضعها؛ للذي كان يخاف من ذلك، وكان قصر خل في بعض السنين سجنا. قصر ابن عراك: بجهة مقبرة بني عبد الأشهل بطريق أحد. قصر ابن عوان: كان بالمدينة، وكان ينزل في شقه اليماني بنو الجذماء من اليمن قبل الأوس والخزرج، قاله ياقوت عن نصر. قلت: وهو الذي قبله، إلا أن النسخة التي وقعت لنا من كتاب ابن زبالة «ابن عراك» ولفظه: كان بنو الجذماء ما بين مقبرة بني عبد الأشهل وبين قصر ابن عراك، انتهى. قصر ابن ماه: أسفل من بئر هجيم. قصر مروان: بن الحكم قرب الصورين والصدقات النبوية، وفي تلك الجهة مواضع تعرف بالقصور، كل حائط منها يضاف لمسالكه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 قصر نفيس: بفتح النون وكسر الفاء رجل من موالي الأنصار، وقصره بحرة واقم على ميلين من المدينة. قصر بني يوسف: موالي آل عثمان أسفل من قصر مروان مما يلي النقال والنقيع. ذو القصة: بالفتح وتشديد الصاد، موضع على بريد من المدينة تلقاء نجد، خرج إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقطع الجنود وعقد الألوية، قاله المجد، وقال الأسدي: إنه على خمسة أميال من المدينة، وقال نصر: أربعة وعشرين ميلا، وقال ابن سعد: سرية محمد بن مسلمة إلى بني ثعلبة وبني عوال، وهم بذي القصة، بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، على طريق الربذة، وذو القصة أيضا: موضع بين زبالة والشقوق، دون الشقوق بميلين، فيه قلب للأعراب يدخلها ماء السماء، وليس هو من عمل المدينة، فإنه قبل فيد بأيام بجهة العراق. القصيبة: بالضم وفتح المهملة وسكون المثناة تحت وفتح الموحدة، واد بين المدينة وخيبر، وسيأتي في وادي الدوم. ذو القطب: بالضم وسكون الطاء المهملة، من أودية العقيق. القف: بالضم والتشديد، أصله ما ارتفع من الأرض وغلظ، وكان فيه إشراف على ما حوله وأحجار كالإبل البروك، وقد تكون فيه رياض وقيعان، وهو علم لواد من أودية المدينة فيه أموال لأهلها، وسبق له ذكر في زهرة، وكان بنو ماسكة مما يلي صدقة النبي صلى الله عليه وسلم لهم الأطمان اللذان في القف في القرية، كما سبق، وسبق أن حسناء أحد الصدقات بالقف تشرب بمهزور، وأن الظاهر أنها الموضع المعروف بالحسينيات، ويؤيده أن الحسينيات في شامي المشربة بقربها، وهي من القف، قال الزبير فيما نقله ابن عبد البر: إن مارية ولدت إبراهيم عليه السلام بالعالية في المال الذي يقال له اليوم مشربة أم إبراهيم بالقف، وأسند أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له قطعة غنم ترعى بالقفّ تروح على مارية. وروى أبو داود عن ابن عمر: أن نفرا من اليهود دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف، فأتاهم في بيت المدراس، وقد سبق بيان بيت المدراس في مسجد المشربة. وفي الموطأ: أن رجلا من الأنصار كان يصلّي في حائط بالقف، وادي من أودية المدينة في زمان التمر والنخل، قد ذللت فهي مطوقة بتمرها، فنظر إليها فأعجبه ما رأى ممن تمرها، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابني في مالي هذا فتنة، فجاء عثمان وهو خليفة، فذكر له ذلك، فقال: هو صدقة فاجعله في صدقة الخير، فباعه عثمان بخمسين ألفا، فسمي ذلك المال «الخمسين» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 وبقرب الحسينيات مال يعرف بالثمين، بمعنى كثير الثمن، فلعله هو فغير اسمه. القلادة: بلفظ قلادة العنق، جبل من جبال القبلية. قلهيّ: بفتحتين وكسر الهاء وبالياء المشددة، حفيرة قرب المدينة لسعد بن أبي وقاص، اعتزل بها بعد قتل عثمان، وأمر أن لا يحدّث بشيء من أخبار الناس حتى يصطلحوا. وقال ابن السكيت: قلهيّ مكان به ماء لبني سليم، وفي أبنية كتاب سيبويه قلهيا وبرديا، قالوا في تفسيره: قلهيا حفيرة لسعد بن أبي وقاص، وقال كثير: ولكن سقى صوب الربيع إذا أتى ... إلى قلهيا الدار والمتخيما قلهى: بفتحات كجمزى، وحكى بعضهم سكون لامه، قرية بوادي ذي رولان لبني سليم، قاطبة، وهي التي عنى ابن السكيت، وأنشد لزهير: إلى قلهى تكون الدار منا ... إلى أكناف دومة والحجون بأودية أسافلهن روض ... وأعلاها إذا خفنا حصون وقال ياقوت: وأما قلهى بسكون اللام فقال عرام: بالمدينة وادي ذي رولان به قرى منها قلهى، وهي كثيرة، وقلهى في قول زهير: إلى قلهى تكون الدار منا ... إلى أكناف مكة والحجون فإني أظنه موضعا آخر، انتهى. القموص: كصبور بالصاد المهملة، جبل بخيبر، كذا في العباب، وقيل: حصن، وقيل: جبل عليه حصن لبني الحقيق اليهودي، وهو أصوب، وقيل: الحصن بالغين والضاد المعجمتين، وذكر موسى بن عقبة في غزوة خيبر أن اليهود دخلوا حصنا لهم منيعا يقال له القموص، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من عشرين ليلة، ثم ذكر خروج مرحب وإعطاء الراية لعلي وقتل مرحب. قناة: أحد أودية المدينة المتقدمة. قنيع: بالضم وفتح النون ثم مثناة تحتية، تقدم في حمى ضرية. القواقل: بقافين، أطم بطرف منازل بني سليم مما يلي العصبة. القوبع: بالفتح والموحدة، من أودية العقيق. قوران: واد يصب في الحرة، يبطنه قرية تسمى الملحاء من قرى السوارقية فيه مياه آبار كثيرة عذاب ونخل. قورى: كسكرى، تقدم في بعاث، والظاهر أنه الحائط المعروف اليوم بقوران شرقي المدينة أسفل الدلال، لما سبق في بعاث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 قينقاع: بالفتح ثم سكون المثناة تحت وضم النون وكسرها وفتحها ثم قاف وألف وعين مهملة، شعب من يهود يضاف إليهم سوق بني قينقاع لأنه كان بمنازلهم كما سبق. حرف الكاف كاظمة: بالظاء المعجمة، قال ابن مرزوق في شرح البردة: رأيت ولا أتحقق الآن محله أن كاظمة موضع بقرب المدينة المشرفة، وقال الأصمعي: يخرج أي مريد مكة من البصرة إلى كاظمة فيسير ثلاثا، وماؤها ملح صلب، انتهى. وقال ياقوت بعد ذكر ما قاله الأصمعي: وكاظمة أيضا موضع ذكره أبو زياد. قلت: ولعله الذي عناه ابن مرزوق. كبا: بالفتح والتشديد مقصور كحّتى، موضع ببطحان، قال الكلبي: كان بالمدينة مخنث يقال له البغاشي، فقيل لمروان: إنه لا يقرأ من القرآن شيئا، فاستقرأه أم القرآن، فقال: والله ما أقرأ بتاتها، فكيف الأم؟ فقال مروان: أتهزأ بالقرآن؟ وأمر به فضربت عنقه بموضع يقال له كبا في بطحان. كتانة: بالضم ثم مثناة فوقيه وألف ونون مفتوحة وهاء، عين بين الصفراء والأثيل لبني جعفر بن أبي طالب. كتيبة: بلفظ كتيبة الجيش، وقال أبو عبيد: بالثاء المثلاثة، حصن بخيبر، كان خمس الله وسهم رسوله صلى الله عليه وسلم وذوي القربى واليتامى والمساكين وطعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل فدك في الصلح. وقال الواقدي بعد ذكر فتح الشق والنطاة: ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تحول إلى الكتيبة بالوطيخ والسلالم، حصن ابن أبي الحقيق الذي كانوا فيه فتحصنوا أشد التحصن، وجاءهم كل فلّ انهزم من النطاة والشق فتحصنوا معهم في القبوص وهو في الكتيبة، وكان حصنا منيعا في الوطيخ والسلالم، وذكر محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لهم أربعة عشر يوما، وهمه بنصب المنجنيق، وسؤالهم الصلح على حقن دماء من في حصونهم وترك الذرية لهم، ويخلون مالهم من مال وأرض والصفراء والبيضاء والكراع والحلقة والبز إلا ثوبا على ظهر إنسان. كدر: بالضم جمع أكدر يضاف إليه «قرقرة الكدر» والقرقرة: أرض ملساء، والكدر: طير في لونه كدرة، يسمى بذلك موضع بناحية المعدن قرب الرحضية. وفي طبقات ابن سعد: قرقرة الكدر، ويقال: قرارة الكدرة بناحية معدن بني سليم قريب من الأرحضية، وراء سد معاوية، خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمع من سليم، فوجد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 الحي خلوفا، فاستاق النعم، ولم يلق كيدا، وبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة السويق يطلب أبا سفيان، وكان سلك النجدية بعد أن أحرق صورا بالعريض. وقال ابن إسحاق في غزوة بني سليم: فبلغ صلى الله عليه وسلم ماء من مياههم يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال. وقال عرام: في حرم بني عوال مياه آبار، منها بئر الكدر، وذلك بجهة الطرف، قال كثير: سقى الكدر فاللعباء فالبرق فالحمى ... فكود الحصى من يعملين فأظلما الكديد: بالفتح ودالين مهملتين بينهما مثناة تحت ساكنة، واد قرب النخيل يقطعه الطريق من فيد إلى المدينة، على ميل منه مسجد تقدم، وقال بعضهم: هو قرب نخل، والمعروف اليوم ما سبق. والكديد أيضا: عين بعد خليص بثمانية أميال لجهة مكة يمنة الطريق. كراع الغميم: في الغين المعجمة. الكر: بالضم، جزيرة على البحر المالح على ستة أميال من الجحفة. كشب: بالمعجمة ككتب، جبل أسود تعرف به ناحيته، وبها ينزل أمراء المدينة أحيانا. الكفاف: بالكسر، موضع قرب وادي القرى. كفت: بالفتح ثم السكون، من نواحي المدينة، شاهده في قرى إضم. كفتة: بزيادة هاء في آخره، اسم لمقبرة بقيع الغرقد؛ لأنها تسرع البلى كما سبق عن الواقدي في الفصل الخامس من الباب الخامس، وقال المجد: سميت به لأنها تكفت الموتى، أي تحفظهم وتحرزهم. الكلاب: بالضم مخففا آخره موحدة. ماء بناحية حمى ضرية، قال الفرزدق: ملوك منهم عمرو بن عمرو ... وسفيان الذي ورد الكلابا أي سفيان بن مجاشع، كان يوم الكلاب أول الناس ورده. كلاف: بالضم آخره فاء، واد من أعمال المدينة. كلب: أطم من آطام المدينة، ورأس الكلب: جبل. كليّة: تصغير كلية، قرية بطريق مكة، وقال الأسدي: وعلى اثنى عشر ميلا من الجحفة إلى القاع بها بئر مالحة يقال لها كلية، فتحها ذراعان وعندها حوانيت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 كملى: ككسرى، اسم بئر ذروان، قال ابن الكلبي في رواية قصة السحر عن ابن عباس: تحت صخرة في بئر كملى، قاله المجد. كنس حصين: بالفتح وسكون النون وإهمال السين، وحصين: تصغير حصن، أطم كان عند المهراس بقباء. كواكب: بضم الكاف الأولى وقد تفتح، وكسر الثانية، جبل بين المدينة وتبوك، سبق في مساجدها، وقال أبو زياد الكلابي: الكواكب جبال عدة في بلاد أبي بكر بن كلاب. كوث: جبل بين المدينة والشام وقرية بالطائف، وكان الحجاج الثقفي معلما بها. كومة: أبي الحمراء الرابض كومة تراب كأنها آطام قريبة من ثمغ في شامي المدينة، وآخر بطن مهزور كومة أبي الحمراء، ثم تصب في قناة كما سبق، ولعلها كومة المدر. كوير: كزبير، جبل بضرية. الكويرة: كالذي قبله بزيادة هاء، من جبال القبلية. كيدمة: بالفتح وسكون المثناة تحت وفتح الدال المهملة والميم ثم هاء، سهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه من أموال بني النضير، تقدمت في بئر أريس، في الأوسط للطبراني بإسناد حسن أن عبد الرحمن بن عوف باع كيدمة من عثمان بأربعين ألف، وأنه قسم ذلك بين بني زهرة وفقراء المسلمين وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم. حرف اللام لأى: بوزن لعا، من نواحي المدينة، قال ابن هرمة: حيّ الديار بمسند فالمنتضى ... فالهضب هضب رواوتين إلى لأى اللابتان تثنية لابة وهي الحرة، وهما حرتا المدينة الشرقية والغربية، وقال الأصمعي: اللابة الأرض التي ألبست الحجارة السود. لأي: كلحي بهمزة ساكنة ثم ياء، من أودية العقيق، وقال المجد: موضع بالعقيق، وهو غير لأي المذكورة أولا، قال معن بن أوس: تغير لأي بعدنا فعتائده ... فذو سلم أنشاجه فسواعده لحيا جمل: بالفتح ثم السكون تثنية لحي وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان السفلى، وجمل: بالجيم للبعير، وروى «لحي جمل» بالإفراد، وروى بكسر اللام، والفتح أشهر، وسبق بيانه في مسجد «لحي جمل» من مساجد طريق مكة، ولحيا جمل أيضا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 جبل بطريق فيد على ستة أميال من الأحرجة، قال الأسدي: سميا بذلك لأنهما نشرا وامتدا واقترب ملتقاهما، فشبها باللحيين، وقال المجد في جمل: ولحى جمل أيضا بين المدينة وفيد على عشرة فراسخ من فيد، ولحى جمل أيضا: موضع بحران وتثليث، ولحيا جمل بالتثنية: جبلان بالمدينة في ديار قشير. لظى: بالقصر والفتح من أسماء النار، وذات لظى: منزل ببلاد جهينة في جهة خيبر، ويقال «ذات اللظى» أيضا. اللعباء: بالموحدة ممدودا، موضع كثير الحجارة بحزم بني عوال، قاله في القاموس، وسبق في عوال ما يخالف، وقال ياقوت: لعباء ماء سماء في حزم بني عوال، جبل لغطفان في أكناف الحجاز، واللعباء: أرض غليظة بأعلى الحمى لبني زنباع من بني أبي بكر بن كلاب. لعلع: بعينين مهملتين، جبل قرب المدينة، وجبل بمكة، وماء بالبادية، ومنزل بين البصرة والكوفة. لفت: بالفتح، وقيل: بالكسر، وقيل: بالتحريك، ثنية بطريق مكة إلى المدينة أقرب، وقيل: واد بجنب هرشى. لقف: بالكسر وسكون القاف ثم فاء، آبار عذبة ليس عليها مزارع ولا نخل، بأعلى قوران واد بناحية السوارقية، وفي لقف ولفت وقع الخلاف في حديث الهجرة، وكلاهما صحيح، هذا موضع وذاك آخر، قاله المجد، والصحة من حيث وجود الموضعين مسلمة، لكن ناحية السوارقية ليست في طريق الهجرة. اللوى: بالكسر والقصر كإلى، أطم ببني بياضة، وواد بمنازل بني سليم، وموضع بين رملة الدملول وبين الجريب على أربعين ميلا من ضرية، وسبق له شاهد في حرة النار، وقال بعضهم: لقد هاج لي شوقا بكاء حمامة ... ببطن اللوى ورقاء تصرخ بالفجر هتوف تبكي ساق حرّ ولا ترى ... لها عبرة يوما على خدها تحرى حرف الميم المابة: مال لبني أنيف بقباء، كان بينه وبين القائم أطمان لهم. الماجشونية: نسبة إلى الماجشون، علم معرب، مال بوادي بطحان بقربه تربة صعيب. المئثب: مهموز كمنبر والثاء مثلاثة، في اللغة: ما ارتفع من الأرض، وكذا الأرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 السهلة، وهو اسم لإحدى صدقات النبي صلى الله عليه وسلم، كما سبق فيها، وفي القاموس: هو جبل أو موضع كان به صدقة النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: ووقع في كتاب يحيى ميثم بميم في آخره بدل الموحدة والأول أصوب. وقال ياقوت: إنه بكسر الميم والياء الساكنة والمثلاثة والباء الموحدة، ومقتضى كلامه أنه غير مهموز، فإنه أورده أواخر الحرف في الميم مع الياء المثناة تحت. المأثول: بضم المثلاثة آخره لام، من نواحي المدينة. مبرك: كمقعد، مكان بركت فيه راحلة النبي صلى الله عليه وسلم ببني غنم عند مسجده، وهو معروف اليوم بالمدرسة الشهابية التي بنيت في موضع دار أبي أيوب كما سبق في الفصل الحادي عشر من الباب الثالث، ومبرك أيضا: نقب يخرج من ينبع إلى المدينة، عرضه نحو أربعة أميال أو خمسة، تنسب إليه ثنية مبرك، وهو معروف اليوم، وإياه عنى كثير بقوله: فقد جعلت أشجان برك يمينها قال المجد: الأشجان المسائل، وبرك هاهنا: نقب يخرج إلى المدينة، وذكر ما تقدم، قال: وكان يسمى مبركا، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن السكيت في قول كثير: إليك ابن ليلى تمتطي العيس صحبتي ... ترامي بنا من مبركين المثاقل أراد مبركا ومناخا فثنى، وهما نقبان ينحدر أحدهما على ينبع بين مضيق يلبل وفيه طريق المدينة، ومناخ على قفا الأشعر. مبضعة: بالضاد المعجمة، بين الجي والرويثة، قال ابن عاديا: ولم أر غيرهن مجلجلات ... كأن ببطن مبضعة كلابا متابع: بالضم والمثناة فوق، جبل عن يمين أمرة بحمى ضرية، وقال ياقوت: متالع بضم الميم وكسر اللام: ماء شرقي الظهران عند الفوارة في جبل القنان، والظهران: جبل في أطراف القنان، وهو غير الوادي الذي قرب مكة. مثعر: بالمثلاثة والعين المهملة كمقعد، ويروى بالغين المعجمة، من أودية القبلية بين الثاجة وحورة، ويدفع فيما بين الفرش والفريش، قال ابن أذينة: عفا بعدنا ذات السليم فمثعر ... ففرق فما حول الجراديج مقفر مثقب: بالكسر ثم السكون وفتح القاف ثم موحدة، اسم الطريق التي بين المدينة ومكة، قيل: سمي باسم رجل من أشراف حمير، بعثه بعض ملوكها على جيش فسلكه، ومثقب أيضا: طريق مكة إلى الكوفة، وعن الأصمعي فتح ميمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 المجتهر: تقدم في حدود الحرم. المجدل: أطم بمزرعة تقابل سقاية سليمان بن عبد الملك، وقال ياقوت: هو بالفتح ثم السكون وفتح الدال المهملة منزل لهذيل. مجر: بالفتح ثم السكون ثم راء، غدير كبير بين هضبات ببطن قوران حول الملحاء بناحية السوارقية، ويقال للهضبات: ذو مجر. المحضة: بالحاء المهملة من المحض للخالص، قرية بلحف جبل آرة. محنب: بالضم ثم الفتح وكسر النون المشددة ثم موحدة، بئر وأرض بناحية طريق العراق. المحيصر: تصغير المحصر من الحصار، موضع قرب المدينة، قال جرير: بين المحيصر والعزاف منزلة ... كالوحي من عهد موسى في القراطيس محيص: بالفتح ثم الكسر والصاد المهملة كمليك، موضع بالمدينة، قال الشاعر: اسل عمّن سلا وصالك عمدا ... وتصابى وما به من تصاب نم لا تنسها على ذاك حتى ... يسكن الحي عند بئر رئاب فإلى ما يلي العقيق إلى الجم ... اوسلع ومسجد الأحزاب فمحيص فواقم فصؤار ... فإلى ما يلي حجاج غراب المخاضة: بالخاء المعجمة، بقاع في حوزة اليمانية. مخايل: بالضم وكسر المثناة تحت آخره لام، من أودية العقيق، وقال الخلصي: مخايل ثلاث عقد، فالعلياء تصب في أفلس، والثنتان على حضير، قال نمير مولى عمر: ألا قالت أثيلة إذ رأتني ... وحلو العيش يذكر في السنين سكنت مخايلا وتركت سلعا ... شقاء في المعيشة بعد لين المختبى: غدير بالفلاج من وادي ذي رولان، سمي بذلك لأنه بين عضاه وسلم وسدر وجلاف، وإنما يؤتى من طرفه دون جنبيه، لأن له حرفين لا يقدر عليه من جهتهما، قاله عرام، ومختبيات فليح: تقدمت في غدر العقيق. مخرى: بالضم ثم الفتح وكسر الراء المشددة اسم فاعل من خرّاه إذا أسلحه، اسم لأحد جبلي الصفراء، واسم الآخر مسلح، ولذلك كره النبي صلى الله عليه وسلم المرور بينهما كما سبق وسبب تسميتهما بذلك أن عبد الغفار كان يرعى بهما غنما فرجع يوما من المراعي فقال له سيده: لم رجعت؟ فقال: هذا الجبل مسلح للغنم، وهذا مخرى لها. مخيض: بلفظ مخيض اللبن، جبل سلك عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم على غراب، وسبق في حدود الحرم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 المدارج: عقبة العرج، قبله بثلاثة أميال مما يلي المدينة، قاله الأسدي، وبها ثنية الغاير وركوبة، وقال الأصمعي: طرف تهامة من جهة الحجاز مدارج العرج، وإذا تصوبت من ثنايا العرج فقد أتهمت، وقال ذو البجاذين في رجزه وقد سلكها مع النبي صلى الله عليه وسلم. تعرضي مدارجا وسومي ... تعرّض الجوزاء للنجوم هذا أبو القاسم فاستقيمي مدجج: بالضم وتشديد الجيم المكسورة كما في النهاية، من «دجّج» إذا لبس السلاح، واد بطريق مكة، زعموا أن دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلكه في سفر الهجرة. مدران: يضاف إليه «ثنية مدران» في مساجد تبوك، ذكره المجد هنا على الصواب، ثم أعاده في مردان بتقديم الراء على الدال، وقال: إنه اسم للموضع المذكور. المدرج: بفتح الراء المشددة من «درّجه» إذا رفعه درجة بعد أخرى، اسم محدث لثنية الوداع، قاله المجد بناء منه على أنها من جهة طريق مكة، فجعلها الثنية التي تنحدر على العقيق. مدعي: بالكسر ثم السكون والعين مهملة مقصورة، وقيل: الذال معجمة، ماء لبني جعفر بن كلاب بناحية ضرية، وقال الهجري: وادي مدعي يصبّ في ذي عثث، وذو عثث من أكرم مياه الحمى، وقال العامري: مدعي ورقا ما آن لغني بينهما ضحوة، وبمدعى بئر لبني جعفر، قال الشاعر: فلن تردي مدعى، ولن تردي رقا ... ولا النقر إلا أن تخلي الأمانيا ولن تسمعي صوت المهيب عشية ... بذي عثث يدعو القلاص الشواليا مدين: نقل المقريزي عن محمد بن أسهل الأحول أنها من أعراض المدينة مثل فدك والفرع ورهاط، قال المقريزي: ومدين على بحر القلزم تحاذي تبوك على نحو ست مراحل، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى عليه الصلاة والسلام لسائمة شعيب وعمل عليها بيتا، انتهى. المذاد: بالفتح ثم ذال معجمة وآخره مهملة من «ذاده» إذا طرده، اسم أطم لبني حرام من بني سلمة غربي مسجد الفتح، به سميت الناحية، وعنده مزرعة تسمى بالمذاد، قال كعب بن مالك يوم الخندق: من سرّه ضرب يرعبل بعضه ... بعضا كمعمعة الأباء المحرق فليأت مأسدة نسل سيوفها ... بين المذاد وبين جزع الخندق المذاهب: موضع بنواحي المدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 مذينب: تصغير مذنب، تقدم في الأودية. المرابد: جمع مربد، موضع بعقيق المدينة، قال معن بن أوس: فذات الحماط خرجها وطلوعها ... فبطن العقيق قاعه فمرابده كذا أورده المجد، والذي في كتاب الزبير: فبطن النقيع قاعه فمرابده مراخ: بالضم آخره خاء معجمة، سبق في أودية العقيق مما يلي القبلة في المغرب، ويقال له «مراخ الصحرة» وبئر معروف اليوم. المراض: كسحاب، موضع بناحية الطرف على ستة وثلاثين ميلا من المدينة، قاله ابن سعد، ويضاف إليه «روضات المراض» ويروى بكسر الميم. مران: بالفتح وتشديد الراء آخره نون، وحكى ضم أوله، موضع على ثمانية عشر ميلا من المدينة، كذا قال عياض، وقال المجد: مران في كتاب مكة، يعني «مرّ الظهران» المتقدم في مساجد طريق مكة بقربها، فإنه يقال فيه «مران» فكأنه ينكر مقالة عياض، لكن في عمل المدينة مران أيضا، وإن لم يكن على المسافة التي ذكرها عياض، فقد سبق في الجموم أنه بين قباء ومران، وليست قباء التي بالمدينة، بل بجهة أفاعية قرب معدن بني سليم، قال عرام: مران قرية غناء كبيرة كثيرة العيون والآبار والنخل والمزارع على طريق البصرة لبني هلال وجزء لبني ماعز، وبها حصن ومنبر، وفيها يقول الشاعر: مررنا على مران يوما فلم نعج ... على أهل آجام به ونخيل ثم ذكر قباء. قلت: وهي بالجهة المعروفة اليوم بكشب. المرواح: بالفتح جمع مروح، أطم بقباء كان لثابت من بني ضبيعة. المربد: بالكسر ثم السكون ثم موحدة مفتوحة ودال مهملة، تقدم في بناء المسجد النبوي أنه كان مربدا، وكذا مسجد قباء، والمرابد كثيرة بالمدينة. مربد النعم: تيمم ابن عمر عنده كما في البخاري، وترجم عليه بالتيمم في الحضر، ورواه الشافعي بسند صحيح بلفظ أن ابن عمر أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم وصلى العصر، فقيل له: أتتيمم وجدران المدينة تنظر إليك؟ فقال: أو أحيا حتى أدخلها؟ ثم دخل المدينة والشمس حية مرتفعة ولم يعد الصلاة. وقال الهجري: مربد النعم على ميلين من المدينة، وقال غيره: على ميل، وهو الأقرب، قال الواقدي في الأصطفاف في وقعة الحرة على أفواه الخنادق: كان يزيد بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 هرمز في موضع ذباب إلى مربد النعم معه الدّهم من الموالي وهو يحمل رايتهم، قال الواقدي: ومربد النعم كانت النعم تحبس فيه زمن عمر بن الخطاب. مربع: كمنبر، أطم في بني حارثة. مرتج: بالفتح ثم السكون وكسر المثناة فوق آخره جيم، واد قرب المدينة لحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنهما، وقيل: موضع قرب ودان. مرجح: بجيم مفتوحة ثم حاء مهملة، موضع بطريق مكة، وقال ابن إسحاق في سفر الهجرة: ثم سلك بهما الدليل مرجح مجاج، ثم تبطّن بهما مرجحا من ذي العضوين، ثم بطن كشد، ثم على الجداجد، ثم ذكر الأجرد وذا سلم وتعهن. وكان المنذر بن ماء السماء الملك نزل على مراد مراغما لأخيه عمرو بن هند، فتجبر عليهم فقلته المكشوح المرادي، وقال: نحن قتلنا الكبش إذ ثرنا به ... بالخل من مرجح قمنا به وقال قيس بن مكشوح لعمرو بن معدي كرب: وأعمامي فوارس يوم لحج ... ومرجح إن شككت ويوم شام مرحب: بالحاء المهملة كمقعد، طريق سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لخيبر، وكان الدليل انتهى به إلى موضع وقال: إن لها طرقا تؤتى منها كلها، فقال: سمّها لي، فقال: طريق يقال لها حزن، قال: لا تسلكها، قال: طريق يقال لها شاش، قال: لا تسلكها، قال: طريق يقال لها حاطب، قال: لا تسلكها، ما رأيت كالليلة أسماء أقبح، قال: لها طريق واحدة لم يبق لها غيرها اسمها مرحب فقال: نعم اسلكها. ذو المرخ: بالخاء المعجمة وسكون الراء، موضع قرب ينبع بساحل البحر. ذو مرخ: بفتحتين وقد تسكن الراء، واد بين فدك والوابشية، قال الحطيئة: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر وأورد المجد هنا شاهد فلجة المتقدم فيها، والظاهر أن الذي فيه إنما هو مزج الآتي غير أنه حرك الزاي، لكن قال ياقوت: ذو مرخ بفتح الراء والخاء المعجمة بالعقيق، قال الزبير: مرخ وذو مرخ في العقيق، وأنشد لأبي وجزة: واحتلت الجو فالأجراع من مرخ وأنشد لابن المولى المدني: هل تذكرين بجنب الروض من مرخ ... يا أملح الناس وعدا شفني كمدا مروان: تثنية مرو للحجارة البيض البراقة، جبل بأكناف الربذة، وقيل: حصن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 ذو المروة: بلفظ أخت الصفا، على ثمانية برد من المدينة كما سبق في مساجد تبوك، وقال المجد: هي قرية بوادي القرى، وهو مأخوذ من قول ياقوت: ذو المروة قرية بوادي القرى، على ليلة من أعمال المدينة، ثم قال المجد: وقيل: بين ذي خشب ووادي القرى. قلت: كونها بين ذي خشب ووادي القرى المشهور هو المعروف، لكن أهل المدينة اليوم يسمون القرى التي بوادي ذي خشب «وادي القرى» فلعله مراد ياقوت. وذكر الأسدي ما يقتضي أن ذا المروة بعد وادي القرى بنحو ثلاث مراحل لجهة المدينة الشريفة، وروى ابن زبالة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بذي المروة وصلّى بها الفجر، ومكث لا يكلمهم حتى تعالى النهار، ثم خرج حتى أتى المروة فأسند إليها ظهره ملصقا، ثم دعا حتى ذرّ قرن الشمس شرقا يدعو، ويقول في آخر دعائه: اللهم بارك فيها من بلاد، واصرف عنهم الوباء، وأطعمهم من الجني، اللهم اسقهم الغيث، واللهم سلمهم من الحاج، وسلم الحاج منهم، وفي رواية أنه نزل بذي المروة فاجتمعت إليه جهينة من السهل والجبل يشكون إليه نزول الناس بهم، وقهر الناس لهم عند المياه، فدعا أقواما فأقطعهم، وأشهد بعضهم على بعض بأبي قد أقطعتهم، وأمرت أن لا يضاموا، ودعوت لكم، وأمرني حبيبي جبريل أن أعدكم حلفاء، وسبق في آخر مساجد تبوك ذكر إقطاعها لبني رفاعة من جهينة. مريح: بالحاء المهملة تصغير مرح وهو الفرح، أطم كان لبني قينقاع، عند منقطع جسر بطحان، يمين قاصد المدينة. مريخ: بالخاء المعجمة تصغير مرخ للشجر المعروف، قرن أسود قرب ينبع، بين برك ورعان. مريسيع: بالضم ثم الفتح وسكون المثناة تحت وسين مهملة مكسورة ثم مثناة تحت وعين مهملة في أصح الروايات وأشهرها، وضبط بالغين المعجمة، وهو بناحية قديد إلى الساحل، قاله ابن إسحاق، وفي حديث للطبراني: هو ماء لخزاعة بينه وبين الفرع نحو يوم، وقال المجد: الفرع على ساعة من المريسيع، وبه غزو بني المصطلق وسبيهم. مزاحم: بالضم وكسر الحاء المهملة، أطم كان بين ظهراني بيوت بني الحبلى، وكان بزقاق ابن حيين سوق يقوم في الجاهلية وأول الإسلام يقال لموضعها مزاحم كما سبق في سوق المدينة. مزج: بالضم ثم السكون ثم جيم، من غدر العقيق، يفضي السيل من حضير إليه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وهو في شق بين صدمتين، يعني حجابين من الحرة يمر به السيل فيحفره لضيق مسلكه ولا يفارقه الماء. المزدلف: بالضم ثم السكون وفتح الدال المهملة وكسر اللام ثم فاء، أطم مالك بن العجلان والد عتبان، عند مسجد الجمعة. المستظل: اسم فاعل من قولك «استظلّ بالظل» أطم كان عند بئر غرس لأحيحة بن الجلاح، ثم صار لبني عبد المنذر في دية جدهم. المستعجلة: وهي المضيق الذي يصعد إليه من قطع النازية قاصدا الخيف والصفراء. المستنذر: جبل سبق في منازل بني الديل من القبائل، والمستنذر الأقصى: تقدم في العير. المسير: بالضم ثم الفتح وسكون المثناة تحت، أطم بني عبد الأشهل، كان لبني حارثة. المسكبة: بالفتح من السكب وهو الصّبّ، موضع شرقي مسجد قباء، كان به أطم يقال له واقم. ال مسلح: بالفتح ثم السكون ثم لام مفتوحة وحاء مهملة، موضع من أعمال المدينة. مسلح: بالضم ثم السكون وكسر اللام، أحد جبلي الصفراء كما سبق في مخرّى. المشاش: واد يصب في عرصة العقيق. مسروح: بالفتح ثم السكون وراء وحاء مهملة، موضع بنواحي المدينة. مشعط: كمرفق، أطم لبني حديلة غربي مسجد أبي بن كعب، وفي موضعه بيت أبي نبيه، ويؤخذ مما سبق في قبور أمهات المؤمنين وفاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهن أنه في غربي البقيع لذكر خوخة أبي نبيه هناك، وسبق حديث «إن كان الوباء في شيء فهو في ظل مشعط» وفي الحديث الآخر «وما بقي منه فاجعله تحت ذنب مشعط» . مشعل: كمنبر، موضع بين مكة والمدينة. المشفق: واد بين المدينة وتبوك. قال ابن إسحاق في منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة: وكان في الطريق ماء يخرج من وشل ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشفق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الوادي فلا يسقين منه شيئا حتى نأتيه، فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه لم ير شيئا، فقال: ألم أنههم، ثم لعنهم ودعا، ثم وضع يده تحت الوشل، فجعل يصب من يده ما شاء الله، ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء الله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 فانخرق من الماء كما يقول من سمعه أن له حسا كحس الصواعق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو من بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يده وما خلفه. وذكره الواقدي بنحوه، إلا أنه قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا، حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة وكان فيه وشل. المشيرب: تصغير مشرب موضع الشرب، سبق في حدود الحرم. مصرّ: بفتحتين وتشديد الراء، واد بأعلى حمى ضرية. مصلوق: ماء من مياه بني عمرو بن كلاب يصدقهم المصدق عليها بعد مدعى، قال ابن هرمة: لم ينس ركبك يوم ذاك مطيهم ... من ذي الحليف فصبحوا مصلوقا المصلّى: بالضم ثم الفتح وتشديد اللام، مصلى العيد بالمدينة، وموضع بعينه في عقيق المدينة، قال المجد منشدا يقول ابن هرمة: ليت شعري هل العقيق فسلع الأبيات المتقدمة في العقيق، وليس المراد منها إلا مصلى العيد. المضيح: بالضم وفتح الضاد المعجمة وتشديد المثناة تحت وإهمال آخره، جبل لهوازن، وماء لمحارب بن خصفة، وماء لبني الأضبط بن كلاب، وجبل بنجد على شط وادي الحريب كان معقلا في الجاهلية في رواية محصن قاله ياقوت. المضيق: بالفتح وكسر الضاد المعجمة ومثناة تحت وقاف، قرية تقدمت مع الفرع في آرة، وبها إحدى عيون الحسين بن زيد، ومضيق الصفراء: هو المستعجلة فما بعدها على ما سبق في المساجد. مطلوب: بئر بعيد القعر قرب المدينة في شاميها، وماء بنملى، وماء كان لحثعم، واتخذ عليه عبد الملك ضيعة من أحسن ضياع بني أمية. مظعن: بالضم وسكون الظاء المعجمة وكسر العين المهملة، واد بين السقيا والأبواء. معجب: وفي بعض النسخ «معجف» بالفاء بدل الموحدة، أحد أودية المدينة المتقدمة، ومعجف: اسم حائط كان لعبد الله بن رواحة جعله لله ورسوله في غزوة مؤتة. معدن الأحسن: ويقال «معدن الحسن» موضع أو قرية من أعمال المدينة لبني كلاب، وقيل: هو من قرى اليمامة. معدن بني سليم: بضم السين، ويقال له: «معدن قران» به قرية كبيرة بطريق نجد بها آبار وبرك على مائة ميل من المدينة، وقال ابن سعد: على ثمانية برد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 معدن المأمون: سيأتي في مغيث. معدن النقرة: على يومين من بطن نخل. المعرس: بالضم ثم الفتح وتشديد الراء المفتوحة وسين مهملة، سبق في مسجد المعرس، والتعريس: نومة المسافر وقت السحر بعد إدلاجه. المعرض: أطم بني قريظة الذي كانوا يلجؤون إليه إذا فزعوا، كان فيما بين الدوحة التي في بقيع بني قريظة إلى النخيل التي يخرج منها السيل. ومعرض أيضا: أطم لبني عمرو وبني ثعلبة من بني ساعدة بدار سويد المواجهة لمسجدهم. المعرقة: بالضم ثم السكون ثم الكسر وبالقاف، طريق كانت قريش تسلكها إذا سارت إلى الشام، تأخذ على ساحل البحر، وفيها سلكت عير قريش حين كانت وقعة بدر، وقال عمر لسلمان رضي الله تعالى عنهما: أين تأخذ أعلى المعرقة أم على المدينة؟ المعصب: بوزن المعرس والصاد مهملة، اسم منازل بني جحجبى كما سبق في العصبة. المغسلة: بالغين المعجمة، قال المجد: هي بكسر السين المهملة كمنزلة: جبّانة بطرف المدينة يغسل فيها، كذا ذكره أصحاب التاريخ، وهي اليوم حديقة كبيرة من أقرب الحدائق الكبار إلى المدينة، انتهى. وهي غربي بطحان، لكنها معروفة اليوم بالمغسلة بفتح السين كمرحلة، وسبق أن مسجد بني دينار يعرف بمسجد الغسالين لأنه كان عند الغسالين وأن الظاهر أنه كان بها. مغلاوان: بالضم ثم الفتح، مغلى الموارد، ومغلى، الحرومة يلتقيان من المعرس، والحرومة: هضبة عظيمة هي على عين ابن هشام، وقال كثير: فليت مغلاوين لم يك فيهما ... طريق يعديه من الناس راكب مغيث: اسم فاعل من «أغاثه» واد بين معدن النقرة والربذة، يعرف بمغيث ماوان، قاله المجد، وسماه الأسدي «مغيثة الماوان» بزيادة هاء، وذكر بها آبارا وبركا، قال: وعلى ميل ونصف منها معدن الماوان، ويقال للجبل المشرف على المعدن: مشقر. مغوثة: بضم الغين المعجمة وفتح الثاء المثلاثة، موضع قرب المدينة. مفحل: بالضم وسكون الفاء وكسر الحاء، من نواحي المدينة، قال ابن هرمة: فكيف إذا حلت بأكناف مفحل ... وحل بوعساء الحليف تبيعها مقاريب: ب الفتح وبعد الألف راء ثم مثناة تحت وباء موحدة، من نواحي المدينة. المقاعد: جمع مقعد، موضع عند باب المدينة، وقيل: مساقف حولها، وقال الداودي: هي الدرج، وقيل: دكاكين عند دار عثمان بن عفان، قاله المجد وعبارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 عياض: قيل: هو موضع عند باب المسجد، وقيل: مساطب حوله، وقال ابن حبيب عن مالك: هي دكاكين عند دار عثمان، انتهى. ودار عثمان عند باب المسجد في المشرق، فيوافق قول الباجي وغيره: هو موضع عند باب المسجد وفي صحيح البخاري عن حمران قال: أتيت عثمان بطهور وهو جالس على المقاعد، فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وهو في هذا المجلس، الحديث. ولأبي داود: لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه في المقاعد. وفي خبر حكاه أبو الفرج النهرواني أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد أن ينشد رجل جاء به شعرا، قاله في الله ورسوله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قوموا بنا إلى المقاعد، فلما آتوا المقاعد أنشد شعره. المقشعر: اسم فاعل من القشعريرة من جبال القبلية. مقمل: بفتح القاف والميم المشددة، ظرب صغير على غلوة من برام بحمى النقيع، عليه مسجد مقمل المتقدم في المساجد. المكرعة: بالفتح، موضع بقباء قرب بئر عذق. المكسر: اسم مفعول من كسّره تكسيرا، وذو المكسر: من أودية العقيق. مكيمن: تصغير مكمن، ويقال: مكيمن الجماء، وهو الجبل المتصل بجماء تضارع ببطن العقيق، وفي أخبار مكة لابن شبة أنه كان بجماء العاقر بعقيق المدينة صنم يقال له المكيمن، فلعله سبب التسمية لقرب جماء العاقر منه، وقد ردّه إلى مكبره سعيد بن عبد الرحمن بن ثابت فقال: عفا مكمن الجماء من أم عامر ... فسلع عفا منها فحرّة واقم ملتذ: بالضم ثم السكون ثم فتح المثناة فوق وذال معجمة، موضع بعقيق المدينة، قال عروة بن أذينة: فروضه ملتذ فجنبا منيرة ... فوادي العقيق انساح فيهن وابله الملحاء: بالحاء المهملة ممدود، من أودية العقيق، قال ابن أذينة: مباعدة بعد أزمامها ... بملحاء ريم وأمهارها الملحة: أطم لبني قريظة دبر مال ابن أبي جديس، وفي أسفل بني قريظة مزرعة إلى جانب ركية وضربة يقال لها «ملحة» بكسر الميم، وبها أطم، فلعله هو. ملحتان: تثنية ملحة للقطعة من الملح، من أودية القبلية بالأشعر مما يلي ظلم من شقه الشامي، وهما ملحة الرمث وملحة الحريض، وبها شعب ضيق بحرض الإبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 ملل: بلامين محرّكا، واد بطريق مكة، على أحد وعشرين ميلا من المدينة، وعن ابن وضاح اثنين وعشرين ميلا، وقيل: ثمانية عشر ميلا، وقيل على ليلتين منها، وفي الموطأ أن عثمان بن عفان صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بملل قال مالك: وذلك للتهجير وسرعة السير، قال بعضهم: ملل واد ينحدر من ورقان جبل مزينة حتى يصب في فرش سويقة، ويقال: فرش ملل، ثم ينحدر من الفرش حتى يصب في إضم، وسبق أنه يلقى إضم بذي خشب، فذلك مراد القائل بأنه على ليلتين من المدينة، ويضاف إليه الفرش والفريش، وجمعه كثير في قوله: إذ نحن بالهضبات من أملال قال ابن الكلبي: لما صدر تبّع عن المدينة نزل ملل وقد أعيا وملّ، فسماه ملل، وقيل لكثير: لم سمي بذلك؟ قال: لأن ساكنه ملّ المقام به، وقيل: سمي به لأن الماشي من المدينة لا يبلغه إلا بعد جهد وملل. وقال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي، وقيل: جعفر الزبيري: أجزنا على ماء العشيرة والهوى ... على ملل بالهف نفسي على ملل وفي كتاب النوادر لابن جني أن رجلا من أهل العراق نزل بملل، فسأل عنه، فأخبر باسمه، فقال: قبح الذي يقول: على ملل يا لهف نفسي على ملل أي شيء كان يتشوق إليه من هذه؟ وإنما هي حرة سوداء، فقالت له صبية كانت تلقط النوى: بأبي أنت وأمي إنه كان والله له بها شجن ليس لك. المناصع: متبرز النساء بالمدينة ليلا، قبل اتخاذ الكنف بالبيوت، على مذاهب العرب، وهو ناحية بئر أبي أيوب، ولعلها المعروفة اليوم ببئر أيوب شرقي سور المدينة شامي بقيع الغرقد، وزقاق المناصع: تقدم في الدور المطيفة بالمسجد من جهة المشرق. المناقب: جبل قرب المدينة، فيه ثنايا طرق إلى اليمن وإلى اليمامة وإلى أعالي نجد، قاله المجد، واستشهد بأبيات فيها ذكره وذكر العقيق. والذي يفهمه كلام الأصمعي أنه بنجد قرب ذات عرق، فليس المراد عقيق المدينة، لأن الأصمعي ذكر قرنا ونخلة اليمانية، ثم قال: ثم يجلس إلى نجد بطلع المناقب، ووصف ثناياه بما سبق، وقال: وإلى أعالي نجد إلى الطائف، قال: وفيه ثلاث مناقب: إحداها عقبة يقال لها الزلالة، بها صخرة، وهي التي أقحم فيها العقيلي ناقته فاقتحمت من شق فيها، وذاك أنهم خاطروه على ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 المنبجس: بالضم ثم السكون ثم موحدة ثم جيم مكسورة ثم سين مهملة، وادي العرج. منتخر: بالضم ثم السكون ثم مثناة فوق وخاء معجمة مكسورة، موضع بفرش ملل بجنب مثعر. المنحنى: بالضم ثم السكون وفتح الحاء والنون الثانية، موضع له ذكر في الغزل بأماكن المدينة، وأهلها اليوم يقولون: إنه بقرب المصلى شرقي بطحان، ولهذا قال الشيخ شمس الدين الذهبي: تولى شبابي كأن لم يكن ... وأقبل شيب علينا تولى ومن عاين المنحنى والنقا ... فما بعد هذين إلى المصلى منشد: بالضم ثم السكون وكسر الشين المعجمة ثم دال مهملة، جبل في الشق الأيسر من حمراء الأسد كما قال الهجري، ولعله المعروف اليوم بحمراء نملة كما سبق، وفيه يقول الأحوص: نظرت رجا بالموقران، وقد أرى ... أكاديس يحتلون خاخا فمنشدا وقال المجد: هو على ثمانية أميال من حمراء المدينة بطريق الفرع، ومنشد أيضا: موضع بين رضوى والساحل، وبلد لتميم، قال زيد الخيل: سقى الله ما بين العقيق فطابة ... فما دون أزمام فما فوق منشد منعج: بالفتح ثم السكون وكسر العين المهملة وروى بفتحها، وسماه الهجري منجع بتقديم الجيم على العين، واد فيه أملاك لغني، بين أضاخ وأمرة، بناحية حمى ضرية، وقال المجد: هو موضع بحمى ضرية، وواد لبني أسد كثير المياه. المنقي: اسم مفعول من نقاه، قال المجد: هو اسم للأرض التي بين أحد والمدينة، قال ابن إسحاق: وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى انتهى بعضهم إلى المنقي دون الأعراض. قلت: فالمنقي ليس اسما لما ذكر المجد لما سبق في الأعوص، بل هو معروف شرقي المدينة في طريق العراق، والمجد ظن أن الانهزام لم يكن إلا للمدينة، وليس كذلك، لما سبق في الشقرة، وفي معارف ابن قتيبة في ترجمة بعضهم أنه انهزم على مسيرة ثلاثة أيام. منكثة: من نكث ينكث إذا نقض، من أودية القبلية، يسيل من الأجرد جبل جهينة في الجلس، ويلقى بوطا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 منور: كمقعد آخره راء، جبل قرب المدينة، وفي القاموس هو موضع أو جبل بظهر حرة بني سليم، قال أبو هريرة: أيكم يعرف دور ومنور؟ فقال رجل من مزينة: أنا، قال: نعم المنزل ما بين دور ومنور لأنها مقانب الخيل، أما والله لوددت أن حظي من دنياكم مسجد بين دور ومنور أعبد الله فيه حتى يأتيني اليقين، ومنور أيضا: أطم لبني النضير كان في دار ابن طهمان. منيع: فعيل، موضع أطم لبني سواد يماني مسجد القبلتين على ظهر الحرة. منيف: اسم فاعل من أناف، أطم لبني دينار بن النجار عند مسجدهم. مهايع: قرية غنّاء كبيرة، بها منبر، قرب ساية، وإليها كان من قبل أمير المدينة. مهجور: ماء بنواحي المدينة. مهراس: بالكسر ثم السكون آخره سين مهملة، ماء بحبل أحد، قاله المبرد، وهو معروف أقصى شعب أحد، يجتمع من المطر في نقر كبار وصغار هناك، والمهراس: اسم لتلك النقر. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش يوم أحد فجاءه علي في درقته بماء من المهراس، فوجد له ريحا فعافه وغسل به الدم عن وجهه وصبّ على رأسه، وفي رواية لأحمد «وجال المسلمون جولة نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار، إنما كان تحت المهراس» ثم ذكر إقبال النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. وفي مغازي ابن عقبة أن الناس أصعدوا في الشعب، وثبت الله نبيه وهو يدعوهم في أخراهم إلى قريب من المهراس في الشعب، ثم ذكر إصعاد النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب يدعوهم. مهروز: بضم الراء وآخره زاي، موضع سوق المدينة كما في معارف ابن قتيبة والفائق. مهزور: بالفتح ثم السكون وضم الزاي وآخره راء، تقدم في أودية المدينة. مهزول: آخره لام، واد في أقبال البئر بحمى ضرية، وقال الزمخشري: إنه في أصل جبل يقال له تنوف. مهيعة: كمعيشة بالمثناة تحت، ويقال «مهيعة» كمرحلة، اسم للجحفة، قال الحافظ المندري: لما أخرج العماليق بني عبيل أخي عاد من يثرب نزلوها، فجاءهم سيل الجحاف بضم الجيم- فجحفهم وذهب بهم، فسميت حينئذ الجحفة، انتهى. وقال عياض: سميت الجحفة لأن السيول أجحفتها وحملت أهلها، وقيل: إنما سميت بذلك من سنة سيل الجحاف سنة ثمانين لذهاب السيل بالحاج وأمتعتهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 الموجا: بالفتح والجيم، أطم لبني وابل بن زيد كان موضع مسجدهم. مياسر: موضع بين الرحبة وسقيا الجزل ببلاد عذرة، قرب وادي القرى. ذو الميثب: بالكسر ثم السكون ثم مثلاثة، من أودية العقيق. ميطان: بالفتح ثم السكون وطاء مهملة وألف ونون، جبل شرقي بني قريظة وهو المذكور في شعرهم في مسلم، وقال عرام: هو حذاء شوران، به ماء بئر يقال لها صعة، وليس به نبات، وهو لسليم ومزينة، وبحذائه جبل يقال له سن، وجبال شواهق يقال لها الحلاء واحدها حلاة، وقال في النهاية: وفي حديث بني قريظة والنضير. وفد كانوا ببلدتهم ثقالا ... كما ثقلت بميطان الصخور وهو- بكسر الميم- موضع في بلاد بني مزينة بالحجاز، انتهى، والمعروف ما سبق. المنفعة: بالكسر ثم السكون وفاء وعين مهملة، موضع بناحية نجد وراء بطن نخل على النقرة قليلا، على ثمانية برد من المدينة، إليه كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي. حرف النون نابع: كصاحب من نبع الماء إذا ظهر، موضع قرب المدينة. ناجية: بالجيم والمثناة التحتية، موضع قرب المدينة على طريق البصرة، قاله المجد، وقال الأصمعي: ماء ببلاد بني أسد أسفل من الحبس. النازية: بالزاي وتخفيف المثناة تحت، موضع واسع به عضاء ومرخ بين المستعجلة وهو مضيق الصفراء وبين مسجد المنصرف وهو مسجد الغزالة، وجعله عياض اسم عين هناك، فقال: هي عين كانت ترد على طريق الآخذ من مكة قرب الصفراء، وهي إلى المدينة أقرب قبل مضيق الصفراء، سدت بعد حروب جرت فيها، انتهى. وتبعه المجد، وقال عرام بعد ذكر الرحضية: ثم يميل نحو مكة مصعدا إلى واد يقال له عريفطان، وحذاءه جبال يقال لها أبلى، وقنة يقال لها السودة لبني حقاق من بني سليم، وماؤهم الضبعية وهي آبار عذاب يزرع عليها، وأرض واسعة، وكانت بها عين يقال لها النازية بين بني حقاف وبين الأنصار، فتضاروا فيها فسدّوها، وهي عين ماؤها عذب كثير، وقد قتل فيها أناس كثيرون بذلك السبب، وطلبها سلطان البلد مرارا بالثمن الكثير فأبوا، ثم ذكر مياه أبلى، وقال: وإذا جاوزت عين النازية وردت ماء يقال له الهديناة، ثم ينتهي إلى السوارقية على ثلاثة أميال منها، انتهى؛ فالنازية التي هي عين وقع فيها حروب ليست فيما بين مضيق الصفراء والمدينة، بل في جهة أبلى والرحضية والسوارقية، ولكن اتفقا في الاسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 النازيين: موضع مرتفع به قبر عبد الله بن الحارث كما سبق في مسجد مضيق الصفراء. الناصفة: بكسر الصاد المهملة، من أودية العقيق، وعدّه الزمخشري في أودية القبلية. ناعم: كصاحب، من حصون خيبر، قتل عنده محمود بن مسلمة يوم خيبر ألقوا عليه رحا وناعم: موضع آخر. الناعمة: حديقة غنّاء بالعوالي، وإلى جنبها النويعمة، ويعرف الموضع بالنواعم. النباع: بالكسر وعين مهملة، موضع بين ينبع والمدينة، وفي أودية العقيق نبعة العشرة، ثم نبعة الطوى، ثم الحيثية، ثم النبعة، قال الزبير عقبه: وفي النباع يقول خفاف بن ندبة: عشقت ديارا ببطن النباع فاقتضى أن النباع ما ذكر. نبيع: كزبير من نبع الماء، موضع قرب المدينة. النبي: بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، اسم جبل قرب المدينة، واسم أماكن أخرى، وقيل: رمل بعينه. نجد: ما بين جرش إلى سواد الكوفة، وحده مما يلي المغرب الحجاز، وعن يسار القبلة اليمن، ونجد كلها من عمل اليمامة، قاله عياض، والصواب أن الذي من عمل اليمامة موضع مخصوص من نجد لاكله. النجير: بالضم وفتح الجيم آخره راء، ماء حذاء صفينة، قاله عرام. النجيل: بالجيم تصغير النجل، من أعراض المدينة قرب ينبع، قال كثير: وحتى أجازت بطن ضاس ودونها ... رعان فهضبا ذي النجيل فينبع وفي القاموس: النجيل كزبير موضع بالمدينة أو من أعراض ينبع. نخال: بالضم، علم مرتجل لواد يصب في الصفراء يقال له شعب، وشاهده في أرابن. نخل: بلفظ اسم جنس النخلة، من منازل بني ثعلبة بنجد، على يومين من المدينة، قال ابن إسحاق: وغزا النبي صلى الله عليه وسلم نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة بن غطفان حتى نزل نخلا، وهي غزوة ذات الرقاع، وقال الحافظ ابن حجر في غزوة ذات الرقاع: قوله «فنزل نخلا» هو مكان على يومين من المدينة بواد، يقال له شدخ، وبالوادي طوائف من قيس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 وفزارة وأشجع وأنمار ذكره أبو عبيد البكري، وذكر الواقدي في سبب غزوة ذات الرقاع ما يقتضي إيجادها مع غزوة أنمار، ونقل البيهقي في الدلائل عن الواقدي أنه قال: ذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد والشقراء وبئر أرما، على ثلاثة أميال من المدينة، انتهى وصوابه ثلاثة أيام لقوله بين السعد والشقراء. نخلى: كجمزى ونسكى، من أودية الأشعر الغورية، تصب في ينبع، وبأسفله عيون لحسن بن علي بن حسن منها ذات الأسيل، وبأسفله البلدة والبليدة. نخيل: تصغير نخل، عين على خمسة أميال من المدينة، قاله المجد، وقال الأسدي: إنه منزل في طريق فيد به مياه وسوق قرية الكديد، وبه عيون كانت للحسين بن علي المقتول بفخ، وذكر ما يقتضي أنه على نيف وستين ميلا من المدينة وأن بالكديد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الوادي الذي به الطريق ذو أمر. وإذا تأملت ذلك مع ما سبق في مساجد الغزوات علمت أن الذي عبر عنه بالنخيل هو نخل؛ لقوله في خبر المسجد «نزل بنخل، ثم أصعد في بطن نخل حتى جاز الكديد بميل» ويؤيده ما سبق في نخل عن الواقدي من تعبيره في ذات الرقاع بالنخيل مصغرا، لكن الأسدي غاير بين بطن نخل وبين النخيل، والنخيل معروف اليوم بقرب الكديد فوق الشقرة. النسار: ككتاب، جبل بحمى ضرية، وقيل: هما نسران جمعا وجعلا موضعا واحدا، وقيل: هو جبل يقال له «نسر» فجمع، وقال أبو عبيد: النسار أجبل متجاورة يقال لها الأنسر وهي النسار. نسر: بلفظ الطائر المعروف، موضع بنواحي المدينة، قال أبو وجزة السعدي: بأجماد العقيق إلى مراخ ... فنعف سويقة فرياض نسر نسع: بالكسر ثم السكون وعين مهملة، موضع حماه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وهو صدر وادي العقيق، قاله المجد، وكأنه اسم لحمى البقيع؛ إذ هو صدر العقيق. النصب: بالضم ثم السكون وصاد مهملة وباء موحدة، موضع قرب المدينة، وقيل: من معادن القبلية. وعن مالك أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة، والنصب بالضم وبالضمتين- الأصنام المنصوبة، قاله المجد، وسبق في ذات النصب أنها بضمتين من معادن القبلية، وهو الذي قاله عياض. النصع: بالكسر وإهمال الصاد والعين، جبال سود بين الصفراء وينبع، والنصيع مصغرا: جبل قرب العذيبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 نضاد: بالفتح وضاد معجمة وآخره دال مهملة، والحجازيون يقولون نضاد كقطام، وتميم تنزله منزلة مالا ينصرف، وهو جبل لغني بحمى ضرية، وكان سراقة السليمي أصاب دما في قومه فانحاز لغني فقال: حللت إلى غنيّ في نضاد ... بخير محلة وبخير حال النضير: بالفتح ثم الكسر ثم مثناة تحت ثم راء، قبيل من يهود تقدموا في منازلهم. نطاة: كقطاة، حصن من حصون خيبر، وقيل: كل أرض خيبر، وقيل: عين ماء وبيئة هناك، والذي يقتضيه كلام الواقدي أنه ناحية من خيبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح حصن ناعم وغيره من حصونه تحوّل أهلها إلى قلعة الزبير، وهو حصن منيع في رأس قلّة، قال: فجاء رجل من يهود للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تؤمنني على أن أدلك على ما تستريح من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشق؟ فامنه، فقال: إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، إن لهم دبولا تحت الأرض يشربون منها، فقطع دبولهم، قال: وكان هذا آخر حصون النّطاة فتحا، ثم تحوّل إلى أهل الشق. نعمان: بالضم والعين المهملة، واد بالمدينة يلقى سيول المدينة هو ونقمي أسفل عين أبي زياد بالغابة، وفي دلائل النبوة للبيهقي عن ابن إسحاق أن المشركين في غزوة الخندق نزلوا باب نعمان إلى جانب أحد، وفي الاكتفاء عن ابن إسحاق أن عيينة بن حصن في غطفان نزلوا إلى جانب أحد بباب نعمان، والذي في تهذيب ابن هشام عن ابن إسحاق نزولهم بنقمي. نعيم: كزبير، موضع قرب المدينة، وجمعه بعضهم في شعره فقال نعائم. نعف مناسير: قال ابن السكيت: نعف هنا ما بين الدوداء وبين المدينة، وهو حد الخلائق خلائق الأحمديين، والخلائق: آبار، وسبق شاهد النعف في حمى النقيع فيما قيل فيه من الشعر، وسبق أيضا ذكر نعف النقيع، ومقتضى إثبات المجد له هنا أن يكون بالغين المعجمة، وإلا لقدمه على ما قبله، ولم يتعرض لذلك في القاموس، بل قال في النعف بالعين المهملة: إنه ما انحدر من حزونة الجبل وارتفع عن منحدر الوادي، ومن الرملة مقدمها وما استدق. وفي الصحاح في مادة العين المهملة أيضا: النعف ما انحدر من حزونة الجبل وارتفع عن منحدر الوادي، فما بينهما نعف وسرو وحنف، والجمع نعاف، انتهى، فالظاهر أن ما سبق كله بالعين المهملة الساكنة مع فتح أوله. النفاع: بالفتح وتشديد الفاء، أطم بمنازل بني خطمة، كان على بئر عمارة. ذو نفر: بالتحريك وقد تسكن الفاء، موضع خلف الربذة، على ثلاثة أيام من السليلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 نفيس: بالفتح ثم الكسر يضاف إليه قصر نفيس المتقدم. النقاب: بلفظ نقاب المرأة، من أعمال المدينة، يتشعب منه طريقان إلى وادي القرى ووادي المياه. النقا: بالفتح والتخفيف مقصور، ما بين وادي بطحان والمنزلة التي بها السقيا المعروفة ببئر الأعجام، قال المطري: النقا المذكور في الأشعار غربي المصلى إلى منزلة الحاج غربي وادي بطحان، والوادي يفصل بين المصلى والنقا، ولمجاورة المكانين قال بعضهم موريا عن الشيب ومصلى الجنائز: ألا يا ساريا في قعر عمرو ... يكاد وفي السرى وعرا وسهلا بلغت نقا المشيب وجزت عنه ... وما بعد النقا إلا المصلى نقب بني دينار: بن النجار- ويقال «نقب المدينة» هو طريق العقيق بالحرة الغربية، وبه السقيا كما سبق عن الواقدي في بقع، وقال ابن إسحاق في المسير إلى بدر: فسلك طريق مكة على نقب المدينة، ثم على العقيق، وقال في موضع آخر: غزا قريشا فسلك على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخبار. نقعاء: كحمراء بالعين المهملة، موضع خلف حمى النقيع من ديار مزينة، نزله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، وهو من أودية العقيق، ولهذا روي في شعر الخنساء كما سبق: وقولي إن خير بني سليم ... وغيرهم بنقعاء العقيق وسمي كثير مرج راهط نقعاء راهط. وفي سير الواقدي ذكر إسراعهم السير في الرجوع من المريسيع، وأنه صلى الله عليه وسلم نزل في اليوم الثالث ماء يقال له نقعاء فوق النقيع، وسرح الناس ظهورهم، فأخذهم ريح شديدة حتى أشفق الناس منها، ثم ذكر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الريح عصفت لموت منافق عظيم النفاق بالمدينة، وكان موته للمنافقين غيظا شديدا، وهو زيد بن رفاعة بن التابوت، مات ذلك اليوم، ولما قدموا المدينة ذكر لهم أهلها أنهم وجدوا مثل ذلك من شدة الريح، حتى دفن عدو الله فسكنت الريح. نقمى: قال المجد: هو مثال نسكى وجمزى موضع بقرب أحد، كان لأبي طالب، قال ابن إسحاق: وأقبلت غطفان يوم الخندق ومن تبعها من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد وروى نقم، اه. وسبق في مجتمع الأودية أن وادي نقمى يلقاها أسفل من عين أبي زياد بالغابة، وروى الزبير عقبه عن عمر بن عبيد الله بن معمر أن اسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 نقمي ليس نقمى، وإنما هو نقمان، أي بالتثنية، وأن اسمه أولا كان عرى فخرج رجلان من العرب لقومهما فرجعا فلم يحمدا فقيل نقمان، أي بالتثنية، فسميا بذلك السبب نقما، انتهى. ومقتضاه أن يكون بكسر القاف. النقيع: بالفتح ثم الكسر وسكون المثناة تحت وعين مهملة، تقدم في حمى النقيع. نقيع الخضمات: بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، قال المجد: نقيع الحمى غير نقيع الخضمات. وكلاهما بالنون، وأما الباء فيهما فخطأ صراح، والخضمة: النبات الناعم الأخضر والأرض الناعمة النبات، كأنهم جمعوها على خضمات تخفيفا، ونقيع الخضمات: موضع قرب المدينة حماه عمر رضي الله تعالى عنه لحيل المسلمين، وهو من أودية الحجاز، يدفع سيله إلى المدينة، وحمى النقيع على عشرين فرسخا، انتهى. وذكر ابن سيد الناس حديث أبي داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك: حدثني سلمة قال: كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته، فقال: كان أول من جمّع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات، ثم قال: نقيع الخضمات وقع في هذه الرواية بالتاء، وقيده البكري بالنون، وقال: هزم النبيت جبل على بريد من المدينة. قلت: هو مردود بقوله في الحديث من حرة بني بياضة؛ لأنها موضع قريتهم من الحرة الغربية، ولهذا قال ابن زبالة في روايته: كان أول من جمّع بنا في هذه القرية في هزمة من حرة بني بياضة، فالصواب قول النووي في تهذيبه: نقيع الخضمان بالنون كما قيده الحارثي وغيره، وهي قرية بقرب المدينة على ميل من منازل بني سلمة، قاله الإمام أحمد كما نقله الشيخ أبو حامد، اه. وقرية بني بياضة على نحو الميل من بني سلمة، فهي المراد، ورأيت بين منازلهم بالحرة أماكن منخفضة يستنقع فيها ماء السيل، والهزم لغة: النقر والحفر، ويحتمل أن يراد به محل الهزيمة؛ فإن النبيت اسم لقبائل من الأوس، وقد وقع بينهم وبين بني بياضة من الخزرج حروب كان الظفر في أكثرهم قبل بعاث للخزرج. نمرة: كعطرة، موضع بقديد، ذكرها صاحب المسالك والممالك في توابع المدينة ومخاليفها. نملى: كجمزى وقلبى ونسكى، عن الجرميّ أنه ماء بقرب المدينة، ويقال نملاء كحمراء، كأنه سمي به لكثرة النمل عنده، وقال الأصمعي عن العامري: نملى جبال حواليها جبال متصلة فيها سواد وليست بطوال. ومن مياه نملى الحنجرة والودكاء، قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 ولأهل نملى ماء آخر بواد يقال له مهزور، ومقتضاه أنه بناحية حمى ضرية، قال: وسمع هاتف في جوف الليل من الجن يقول: وفي ذات آرام حبوب كثيرة ... وفي نملى لو تعلمون الغنائم نهبان: بالفتح ثم السكون، نهب الأسفل ونهب الأعلى، وهما جبلان شامخان لمزينة وبني ليث يقابلان القدسين يمين طريق المصعد، يفرق الطريق بينهما وبين القدسين وورقان، وفي نهب الأعلى ماء في دوار من الأرض وبئر كبيرة غزيرة الماء عليها مباطح وبقول ونخلات يقال لها ذو خيما. النواحان: أطمان لبني أنيف بقباء. النواعم: سبقت في الناعمة، وهي منازل بني النضير في العالية. نوبة: بالضم ثم السكون وباء موحدة، موضع على ثلاثة أميال من المدينة، له ذكر في المغازي، قاله ياقوت، ونوبة أيضا: هضبة حمراء بأرض بني أبي بكر ابن كلاب. نيار: بالكسر آخره راء، أطم أو شخص أضيف إليه أطم نيار بمنازل بني مخدعة من بني حارثة. النير: بالكسر، جبال تقدم ذكرها في حمى ضرية، وقال الأصمعي: النير جبل بأعلى نجد، شرقية لغني، وغربية لفاخرة. نيق العقاب: بالكسر وضم العين، موضع قرب الجحفة، لقي به رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن المغيرة مهاجرين عام الفتح، وفي الاستيعاب أنهما لقياه بين السقيا والعرج، وقيل: بالأبواء. حرف الهاء الهدبية: بفتح أوله وثانيه وكسر الموحدة وتشديد المثناة تحت ثم هاء، ثلاث آبار لبني جفاف ليس عليهن مزارع ولا نخل، بقاع واسع بين حرتين سوداوين، على ثلاثة أميال من السوارقية. هجر: المذكور في حديث القلّتين، قال النووي: هي بفتح الهاء والجيم قرية قرب المدينة النبوية عملت فيها تلك القلال أولا، وليست هي هجر البحرين المدينة المعروفة، اه. قال الزركشي: وقيل هجر البحرين، وبه قال الأزهري، وهو الأسدّ. قلت: ولذا لم يذكرها المجد. الهجيم: بالضم وفتح الجيم، أطم بالعصبة، تقدم في بئر هجيم. الهدار: بالفتح وتشديد الدال المهملة آخره راء مشددا، حساء من أحساء مغار قرب السوارقية، قاله ياقوت، والهدار أيضا: منزل مسيلمة الكذاب من ناحية اليمامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 الهدن: بضمتين وإهمال الدال، ماء وراء وادي القرى. هرشى: كسكرى والشين معجمة، ينسب إليها ثنية هرشي، ويقال: عقبة هرشى. وعلم منتصف طريق مكة دون عقبة هرشى بميل كما سبق في مسجدها. قال عرام: هرشى هضبة ململمة بأرض مستوية لا تنبت شيئا، أسفلها ودان على ميلين مما يلي مغيب الشمس، يقطعها المصعدون من حجّاج المدينة، ويتصل بها عن يمينها، بينها وبين البحر خبت وهو رمل لا ينبت غير الأرطى، وهرشى على ملتقى طريق الشام وطريق المدينة، قال المجد: أراد بطريق الشام طريق مصر اليوم. قلت: وهي طريق حجاج المدينة اليوم، لكن يكون هرشى على يسارهم؛ لأنهم يسيرون في الخبت، وودان أسفل منها إلى رابغ، فإنما كانت ملتقى الطريق قديما، ولها طريقان، وكلّ من سلك واحدا منهما أفضى به إلى موضع واحد، ولذلك قيل: خذا أنف هرشى أو قفاها؛ فإنما ... كلا جانبي هرشى لهن طريق وحكي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه استقرأ عقيل بن علقمة، فقرأ الزلزلة حتى بلغ آخرها فقرأ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فقال عمر: ألم أقل إنك لا تحسن أن تقرأ؟ إن الله قدم الخير وأنت قدمت الشر، فقال: خذا أنف هرشى البيت المتقدم فضحك القوم. هلوان: من أودية العقيق، قال مصعب الزبيري: وما حسنت من رحلة مثل رحلة ... بهلوان لما هيجتها المحاصر هكر: بالفتح ثم السكون ثم راء، موضع معروف، به ماء، على أربعين ميلا من المدينة، ينزله أمراؤها أحيانا، له ذكر في شعر امرئ القيس. هكران: محرك، جبل حذاء قباء التي بالناحية المعروفة بكشب. همج: محرك، ماء عيون عليه نخل من ناحية وادي القرى. هيفاء: بمثناة تحت وفاء، موضع على ميل من بئر المطلب، وفي سرية أبي عبيدة إلى ذي القصة أن سرح المدينة كانت ترعى بهيفا على سبعة أميال من المدينة. حرف الواو وابل: كصاحب، المطر الشديد الوقع، وهو موضع في أعالي المدينة. الواتدة: قرن منتصب شارع على أعلى نقيع الحمى بمدفع شجوى، ورواه الخلصي «الوتدة» بغير ألف، نقله الهجري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وادي: معرفة غير مضاف، علم للوادي الذي به فج الروحاء، وتقدم في مفرش قول ابن عمر: هبطت بطن واد فإذا ظهر من بطن واد مع بيان المزية. وادي أبي كبير: فوق المخرم والمعرس وصدر الحفيرة. وادي أحيليين: بضم الهمزة وسكون الحاء المهملة ثم مثناة تحتية ثم لام ومثناتين كذلك، تقدم في نار الحجاز. وادي الأزرق: بسكون الزاي ثم راء، سبق في جمدان أنه بعد أمج بميل وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال: كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية له جؤار إلى الله بالتلبية، ثم أتى على ثنية هرشى فقال: «كأني أنظر إلى يونس بن متّى» ، الحديث. وقوله: «ثم أتى» يعني في الرجوع إلى المدينة. وادي بطحان: وغيره من الأودية التي بالمدينة سبقت في الفصل الخامس وما قبله. وادي الجزل: بالجيم والزاي، الوادي الذي به الرحبة، وسقيا لجزل قرب وادي القرى، ويلقى وادي إضم في نخيل ذي المروة. وادي دحيل: سبق في حمى النقيع. وادي الدوم: معترض في شمالي خيبر إلى قبلتها، أوله من الشمال غمرة، ومن القبلة القصيبة، وهو فاصل بين خيبر والعراص. وادي السّمك: بفتح السين المهملة ثم السكون، بناحية الصفراء، يسلكه الحاج أحيانا، ذكره المجد في السين. وادي القرى: واد كثير القرى، بين المدينة والشام، وقال الحافظ ابن حجر: هي مدينة قديمة بين المدينة والشام، وأغرب ابن قرقول فقال: إنها من أعمال المدينة، انتهى. ولا إغراب فيه لتصريح صاحب المسالك به كما سبق في تبوك، وسبق أن دومة الجندل من أعمال المدينة، وأنها بوادي القرى، بل يظهر أنها أبعد منه لأنها على خمس عشرة أو ست عشرة ليلة من المدينة، وأما وادي القرى ففي طبقات ابن سعد أن أسامة بن زيد لما رجع من غزوة الروم أجدّ السير، فورد وادي القرى في سبع ليال، ثم قصد يعدو في السير فسار إلى المدينة ستا، وسبق أن حجر ثمود على يوم من وادي القرى، وأن العلا بناحية وادي القرى. وروى البيهقي: من طريق الواقدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، فلما نزلنا إلى وادي القرى انتهينا إلى يهود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 وقد ثوى إليها ناس من العرب، وذكر استقبال يهود لهم بالرمي وهم يصيحون في آطامهم وقتالهم حتى أمسوا، قال: وغدا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم. وفتحها عنوة، وغنمه الله أموالهم، أصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب، وترك الأرض والنخل بأيدي يهود، وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفدك ووادي القرى صالحوه على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم فلما كان عمر أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام ويروى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، وأن ما وراء ذلك من الشام فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ترفع من خيبر ومن وادي القرى، وقال أحمد بن جابر: قيل: إن عمر أجلى يهود وادي القرى، وقيل: لم يجلهم. وسبق في ذي المروة أن بعضهم عده من وادي القرى، وأنه إن ثبت فهو غير وادي القرى المذكور، وسبق في بلاكث وبرمة ما يؤيده، وعليه أهل المدينة اليوم؛ لأنهم يسمون ناحية ذي المروة وناحية ذي خشب وادي القرى، ولعلها قرى عرينة. واردات: هضبات صغار بحمى ضرية، فيها يقول الأخطل: إذا ما قلت قد صالحت بكرا ... أبي الأضغان والنسب البعيد ومهراق الدماء بواردات ... تبيد لمجريات ولا تبيد واسط: أطم لبني خدرة، وأطم آخر لبني خزيمة رهط سعد بن عبادة، وآخر لبني مازن بن النجار، وموضع بين ينبع وبدر، وجبل تنتطح سيول العقيق عنده ثم يفضي إلى الجثجاثة، وفيه يقول كثير: أقاموا، فأما آل عزة غدوة ... فبانوا، وأما واسط فمقيم واقم: كصاحب، أطم بني عبد الأشهل، نسبت إليه حرّتهم، وله يقول شاعرهم: نحن بنينا واقما بالحره ... بلازب الطين وبالأصرّه وواقم أيضا: أطم بالمسكبة شرقي مسجد قباء لأبي عويم بن ساعدة، وأطم آخر في موضع الدار التي يقال لها واقم بقباء كان لأحيحة قبل تحوله للعصبة. الوالج: كان به الشيخان، وهما أطمان كما سبق، وبطرفه مما يلي قناة أطم يقال له الأزرق. الوبرة: بسكون الموحدة، قرية على عين من جبال آرة، وجاء ذكرها في حديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 أهبان الأسلمي أنه كان يسكن يين وهي من بلاد أسلم: يينا هو يرعى بحرة الوبرة عدا الذئب على غنمه، الحديث، قاله المجد تبعا لياقوت، وهو وهم؛ لأن الوبرة هذه بالفرع كما يؤخذ مما سبق في آرة، على أربعة أيام من المدينة ويين على بريد من المدينة كما سيأتي، وتقدم عن المجد في حرة الوبرة ما يخالف المذكور هنا، وهو الصواب، وقد وقع الموضعان كذلك في كلام ياقوت فتبعه المجد. وبعان: بالفتح ثم الكسر وإهمال العين آخره نون، ويقال باللام بدل الباء، قرية على أكناف آرة، قاله المجد. وجمة: بالفتح وسكون الجيم، جبل يدفع سيله في عنقه. الوحيدة: مؤنث الوحيد للمنفرد، من أعراض المدينة بينها وبين مكة. ودّان: بالفتح ودال مهملة مشددة آخره نون، قرية من نواحي الفرع لضمرة وغفار وكنانة، على ثمانية أميال من الأبواء، أكثر نصيب من ذكرها قال: أقول لركب قافلين عشية ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب قفوا أخبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودّان راغب فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب وقال أبو زيد: ودّان من الجحفة على مرحلة، بينها وبين الأبواء ستة أميال وبها كان أيام مقامي بالحجاز رئيس لبني جعفر بن أبي طالب، ولهم بالفرع وساية ضياع وعشيرة، وبينهم وبين الحسنيين حروب، ولم يزل كذلك حتى استولت طائفة من اليمن تعرف ببني حرب على ضياعهم. ودعان: بالفتح ثم السكون وعين مهملة آخره نون، موضع بينبع. هضب الوراق جبل تقدم في حمى ضرية. ورقان: بالفتح ثم الكسر وقد تسكن وبالقاف، جبل عظيم أسود على يسار المصعد من المدينة، وينقاد من سيالة إلى الجي بين العرج والرويثة، وبسفحه عن يمينه سيالة ثم الروحاء ثم الرويثة ثم الجي، وفي ورقان أنواع الشجر المثمر وغير المثمر والقرظ والسماق، وفيه أوشال وعيون، سكانه بنو أوس من مزينة قوم صدق أهل عمود، قاله عرام. وقال الأسدي: إنه على يسار الطريق حين يخرج من السيالة، ويقال: إنه يتصل إلى مكة، انتهى. وذكر عرام أن الذي يليه عند الجي القدسان، يفصل بينه وبينهما عقبة ركوبة، وسبق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 في فضل أحد من حديث الطبراني أن ورقان من جبال الجنة، وحديث «خير الجبال أحد والأشعر وورقان» وأنه أحد الأجبل التي وقعت بالمدينة من الجبل الذي تجلى الله تعالى له، وفي رواية أنه أحد الأجبل التي بنيت الكعبة منها، وسبق في مسجد عرق الظبية قوله صلى الله عليه وسلم «هل تدرون ما اسم هذا الجبل» يعني ورقان «هذا حمت، جبل من جبال الجنة، اللهم بارك فيه وبارك لأهله» ثم قال «هذا سجاسج للروحاء، هذا واد من أودية الجنة» قال ابن شبة: يقال يوم حمت؛ إذا كان شد الحر: أي هو قوى شديد. الوسباء: بالفتح وسكون السين المهملة ثم باء موحدة وبالمد، ماء لبني سليم بلحف أبلى. وسط: ج بل بحمى ضرية، ينسب إليه دارة وسط بناحيته اليسرى. وسوس: من الوسواس من أودية القبلية، يصب من الأجرد على الحاضرة والنكباء، وهما فرعان بهما نخل لجهينة وغيرهم، والحاضرة عين لبني عبد العزيز بن عمر في صدر الحرار. الوشيجة: بالفتح وكسر الشين المعجمة ثم مثناة تحت وجيم وهاء، من أودية العقيق ذو وشيع بالفتح ثم الكسر آخره عين مهملة، من أموال المدينة. الوطيح: بالفتح وكسر الطاء المهملة وياء وحاء مهملة، من أعظم حصون خيبر، سمي بوطيح بن مازن رجل من ثمود، وفي كتاب أبي عبيدة «الوطيحة» بزيادة هاء. وظيف الحمار: بالظاء المعجمة والمثناة تحت والفاء، ستدق الذراع والساق من الحمار ونحوه، هو من العقيق ما بين سقاية سليمان بن عبد الملك إلى زغابة. وفي طبقات ابن سعد في قصة ما عز: أنه لما مسّته الحجارة فر يعدو قبل العقيق فأدرك بالمكيمن، وكان الذي أدركه عبد الله بن أنيس بوظيف الحمار، فلم يزل يضربه حتى قتله، انتهى. والمكيمن: بالعقيق، لكنه بعيد من الموضع المذكور وعيرة: بالفتح وكسر العين المهملة وسكون المثناة تحت وفتح الراء ثم هاء، جبل شرقي ثور، أكبر منه وأصغر من أحد. ولعان: لغة في وبعان كما سبق. حرف الياء يتيب: بالفتح ثم كسر المثناة فوق ثم مثناة تحت ثم موحدة، جبل له ذكر في حدود الحرم، وفي نزول أبي سفيان به حين حرق صورا من صيران العريص كذا قاله المجد، وسبق في حدود الحرم ما يخالفه في الضبط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 يثرب: تقدم في أسماء المدينة، وقال ابن زبالة: يثرب أم قرى المدينة، وهي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، أي هذا حدها من المشرق والمغرب وما بين المال الذي يقال له البرني إلى زبالة أي من الشام والقبلية، وفي شامي الموضع المعروف اليوم بيثرب نخل يعرف بالمال، وزبالة تقدم بيانها. ذو يدوم: من أودية العقيق. يديع: بالفتح وكسر الدال المهملة ومثناة تحتية ثم عين مهملة، ناحية بين فدك وخيبر، بها مياه وعيون لفزارة وغيرهم. يراجم: غدير ببطن قاع النقيع في صير الجبل نصيف روى الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من غدير يراجم بالنقيع وقال: إنكم ببقعة مباركة، وقال تبع الملك: ولقد شربت على يراجم شربة ... كادت بباقية الحياة تذيع يرعة: محركة والعين مهملة، في ديار فزارة، بين ثوابة والحراضة. يلبن: بالفتح ثم السكون ثم موحدة مفتوحة ثم نون، غدير بنقيع الحمى في صير، وقال ابن السكيت: هو قلت «1» عظيم بالنقيع من حرة سليم، قال الهجري: ويقول الفصحاء فيه «ألبن» بهمزة بدال الياء و «يلبن» بالياء، وقال المجد: هو جبل قرب المدينة، وقيل: غدير بها. اليسيرة: بئر بني أمية بن زيد، تقدمت في الآبار. يليل: بياءين مفتوحتين بينهما لام وآخره لام، واد بناحية ينبع والصفراء، يصب في البحر، وبه عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أغزر ما يكون من العيون، وتجري في الرمل فلا يستطيعون الزراعة عليها إلا في أحياء الرمل، وبها نخل وبقول، وتسمى النجير، ويتلوها الجار، وهو على شاطئ من النجير، قاله عرام. وفي غزوة بدر أن قريشا نزلت بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل ويليل بين بدر وبين العقنقل، فيليل هذا غير يليل السابق ذكره في الخلائق؛ لأن ذاك عند الضبوعة، ومن مجتمعها تخرج إلى فرش ملل. وروي برجال وثقوا عن سبرة بن معبد قال: رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سحابة، فقالوا: يا رسول الله كنا نرجو أن تمطرنا هذه السحابة، فقال: إن هذه أمرت أن تمطر بيليل، يعني واديا يقال له يليل.   (1) القلت: النقرة في أرض أو بدن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 ينبع: بالفتح ثم السكون وضم الموحدة وإهمال العين مضارع «نبع الماء» أي: ظهر، من نواحي المدينة على أربعة أيام منها، وإنما أفردت عنها في الأعصر الأخيرة، سميت به لكثرة ينابيعها، قال بعضهم: عددت بها مائة وسبعين عينا. ولما أشرف عليها علي رضي الله تعالى عنه ونظر إلى جبالها قال: لقد وضعت على نقي من الماء عظيم، وسكانها جهينة وبنو ليث والأنصار، وهي اليوم لبني حسن العلويين. وروى ابن شبة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أقطع عليا بينبع، ثم اشترى عليّ إلى قطيعة عمر شيئا. وروى أيضا عن كشد بن مالك الجهني قال: نزل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عليّ بالمنحار وهو موضع بين حوزة السفلى وبين منحوين على طريق تجار الشام يرقبان عير أبي سفيان، فأجازهما كشد، فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبع أقطعها لكشد، فقال: إني كبير، ولكن أقطعها لابن أخي، فأقطعها له، فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد الأنصاري بثلاثين ألف درهم، فخرج عبد الرحمن إليها وأصابه صافيها وربحها، فقدرها، وأقبل راجعا، فلحق علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دون ينبع، فقال: من أين جئت؟ فقال: من ينبع، وقد سئمتها، فهل لك أن تبتاعها؟ قال علي: قد أخذتها بالثمن، قال: هي لك، فكان أول شيء عمله علي فيها البغيبغة. وعن عمار بن ياسر قال: أقطع النبي صلى الله عليه وسلم عليّا بذي العشيرة من ينبع، ثم أقطعه عمر بعد ما استخلف قطيعة، واشترى عليّ إليها قطيعة، وكانت أموال علي بينبع عيونا متفرقة تصدق بها. وروى أحمد بن الضحاك أن أبا فضالة خرج عائدا لعلي بينبع، وكان مريضا، فقال له: ما يسكنك هذا المنزل؟ لو هلكت لم يلك إلا الأعراب أعراب جهينة، فاحتمل إلى المدينة فإن أصابك قدر وليك أصحابك، فقال علي: إني لست بميت من وجعي هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ أن لا أموت حتى أضرب ثم تخضب هذه يعني لحيته من هذه، يعني هامته. يهيق: موضع قرب المدينة، قال المجد: لم أر من تعرض له، وفي الحديث «ليوشكن أن يبلغ بنيانهم سيفا» يعني أهل المدينة. يين: بياءين مفتوحة ثم ساكنة ثم نون، وليس في كلامهم ما فاؤه وعينه ياء غيره، وضبطه الصغاني بفتح الياءين. قال نصر: يين واد به عين من أعراض المدينة، على بريد منها، وهي منازل أسلم من خزاعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 وقال الزمخشري: يين عين بواد يقال له حورتان، لبني زيد الموسوي من بني الحسن. وفي سر الصناعة: يين واد بين ضاحك وضويحك، جبلان بأسفل الفرش. قلت: وسيلهما يصب في حورتين، فلا تخالف، وأثر العين والقرية اليوم موجود هناك، وكان بها فواكه كثيرة، حتى نقل الهجري أن يين بلد فاكهة المدينة، وكانت تعرف من قريب بقرية بني زيد، فوقع بينهم وبين بني يزيد حروب، فجلا بنو زيد عنها إلى الصفراء، وبنو يزيد إلى الفرع، فخربت، وكانت منازل بني أسلم قديما. وعن أسماء بن خارجة الأسلمي قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، فقال: أصمت اليوم يا أسماء؟ فقلت: لا، قال: فصم، قلت: قد تغديت، قال: صم ما بقي من يومك، وأمر قومك يصومونه، قال: فأخذت نعلي بيدي فما دخلت رجلي حتى وردت يين على قومي، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تصوموا بقية يومكم. وفي حديث أهبان الأسلمي ثم الخزاعي أنه كان يسكن يين، فبينما هو يرعى بحرة الوبرة عدا الذئب على غنمه، الحديث. وقال ابن هرمة: أدار سليمي بين يين فمثعر ... أبيني، فما استخبرت إلا لتخبري ومحجة يين طريق درب الفقرة التي في شامي الجمّاوات: لأن يين على يمين طريق مكة قرب ملل، وقال الهجري: قال أبو الحسن: عبود جبل بين مدفع مريين وبين ملل ومريين طريق، أي يسلك هناك ويريد مريين بطريق عبود. وقال ابن إسحاق، في المسير إلى بدر: ثم مر على تربان، ثم على ملل، ثم علي عميس الحمام من مريين ثم علي صخيرات الثمام، ويين أيضا: بئر بوادي بوادي عياش، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 الباب الثامن في زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه أربعة فصول الفصل الأول في الأحاديث الواردة في الزيارة نصّا الحديث الأول روى الدارقطني والبيهقي وغيرهما، قال الدارقطني: حدثنا القاضي المحاملي، حدثنا عبيد بن محمد الوراق، حدثنا موسى بن هلال العبدي، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زار قبري وجبت له شفاعتي» . قال السبكي: كذا في عدة نسخ معتمدة من سنن الدارقطني عبيد الله مصغرا، وكذلك الدارقطني في غير السنن، واتفقت رواياته من طريق محمد بن أحمد بن محمد ومحمد بن عبد الملك بن بشران وأبي النعمان تراب بن عبيد كلهم عن الدارقطني عن المحاملي علي عبيد الله مصغرا، ورواه غير الدارقطني عن غير المحاملي كما رواه البيهقي من طريق محمد بن رنجويه القشيري، قال: حدثنا عبيد بن محمد بن القاسم بن أبي مريم الوراق، حدثنا موسى بن هلال العبدي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، الحديث؛ فثبت عن عبيد بن محمد وهو ثقة روايته على التصغير، ورواه جماعة غيره عن موسى بن هلال منهم جعفر بن محمد البزوري حدثنا محمد بن هلال البصري عن عبيد الله مصغرا رواه العقيلي ومنهم محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، واختلف عليه؛ فروي عنه مصغرا كغيره، وروي عنه مكبرا، ومرّض ذلك الحافظ يحيى بن علي القرشي، وصوب التصغير، وفي تاريخ ابن عساكر بخط البرزالي: لمحفوظ عن ابن سمرة «عبيد الله» وفي كامل ابن عدي «عبد الله أصح» قال السبكي: وفيه نظر، والذي يترجح «عبيد الله» لتضافر روايات عبيد بن محمد كلها وبعض روايات ابن سمرة، ولما سيأتي في الحديث الثالث من متابعة مسلمة الجهني لموسى بن هلال، ويحتمل أن موسى سمع الحديث من عبيد الله وعبد الله جميعا، وحدث به عن هذا تارة وعن هذا أخرى. وممن رواه عن موسى عن عبد الله مكبرا الفضل بن سهل؛ فإن صح حمل على أنه عنهما، إذ لا منافاة، على أن المكبر روى له مسلم مقرونا بغيره، وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 أحمد: صالح، وقال أبو حاتم: رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه، وقال يحيى بن معين: ليس به بأس، يكتب حديثه، وقال: إنه في نافع صالح، وقال ابن عدي: لا بأس به، صدوق. وقال ابن حبان ما حاصله: إن الكلام عليه لكثرة غلطه لغلبة الصلاح عليه، حتى غلب عن ضبط الأخبار. قال السبكي: وهذا الحديث ليس في مظنة الالتباس عليه، لا سندا ولا متنا؛ لأنه في نافع، وهو خصيص به، ومتنه في غاية القصر والوضوح، والرواة إلى موسى بن هلال ثقات، وموسى قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقد روى عنه ستة منهم الإمام أحمد، ولم يكن يروي إلا عن ثقة، فلا يضره قول أبي حاتم الرازي: إنه مجهول، وقول العقيلي: لا يتابع عليه، وقول البيهقي: سواء قال عبيد الله أم عبد الله فهو منكر عن نافع، لم يأت به غيره، فهذا وشبهه يدلك على أنه لا علة لهذا الحديث إلا تفرد موسى به، وأنهم لم يحتملوه له لخفاء حاله، وإلا فكم من ثقة ينفرد بأشياء وتقبل منه. قلت: ولهذا قال بعض الحفاظ ممن هو في طبقة ابن منده: هذا الخبر رواه عن موسى بن هلال محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، ومحمد بن جابر المحاربي، ويوسف بن موسى القطان، وهرون بن سفيان، والفضل بن سهل، والعباس بن الفضل، وعبيد بن محمد الوراق، وبعض هؤلاء قال في حديثه: عن عبيد الله بن عمر، ذكرناه بأسانيده في الكتاب الكبير، ولا نعلم رواه عن نافع إلا العمري، ولا عنه إلا موسى بن هلال العبدي، تفرد به، انتهى. قال السبكي عقب ما تقدم: وأما بعد قول ابن عدي في موسى ما قال ووجود متابع فإنه يتعين قبوله، ولذلك ذكره عبد الحق في الأحكام الوسطى والصغرى، وسكت عليه مع قوله في الصغرى «إنه تخيرها صحيحة الإسناد، معروفة عند النقاد» وقد نقلها الأثبات، وتداولها الثقات، وذكر نحوه في الوسطى المعروفة اليوم بالكبرى، وسبقه ابن السكن إلى تصحيح الحديث الثالث كما سيأتي، وهو متضمن لمعنى هذا، وأقل درجات هذا الحديث الحسن إن نوزع في صحته لما سيأتي من شواهده، وتضافر الأحاديث يزيدها قوة، حتى إن الحسن قد يترقى بذلك إلى درجة الصحيح. وقال الذهبي: طرق هذا الحديث كلها لينة يقوى بعضها بعضا؛ لأنه ما في رواتها متهم بالكذب، قال: ومن أجودها إسنادا حديث حاطب «من رآني بعد موتي فكأنما رآني في حياتي» أخرجه ابن عساكر وغيره، انتهى. ومعنى قوله «وجبت» أنها ثابتة لا بد منها بالوعد الصادق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 وقوله «له» إما أن يراد بخصوصه فيخص الزائر بشفاعة لا تحصل لغيره، وإما أن يراد أنه تفرد بشفاعة مما يحصل لغيره، والإفراد للتشريف والتنويه بسبب الزيارة، وإما أن يراد أنه بعدم تركه الزيارة يجب دخوله فيمن تناله الشفاعة؛ فهو بشرى بموته مسلما، فيجري على عمومه، ولا يضم فيه شرط الوفاة على الإسلام، بخلافه على الأولين. وقوله «شفاعتي» في هذه الإضافة تشريف، فإن الملائكة والأنبياء والمؤمنين يشفعون، والزائر له نسبة خاصة فيشفع هو فيه بنفسه، والشفاعة تعظم بعظم الشافع. الحديث الثاني روى البزار من طريق عبد الله بن إبراهيم الغفاري: حدثنا عن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من زار قبري حلّت له شفاعتي» . قال البزار: عبد الله بن إبراهيم حدث بأحاديث لم يتابع عليها، وإنما يكتب من حديثه ما لا يحفظ إلا عنه، وقال أبو داود: إنه منكر الحديث. قال السبكي: وهذا الحديث هو الأول، ولذلك عزاه عبد الحق للدار قطني والبزار، إلا أن في الأول «وجبت» وفي هذا «حلت» فلذلك أفردته، والقصد تقوية الأول به، فلا يضره ما قيل في الغفاري، وكذا ما قيل في عبد الرحمن بن زيد، إذ ليس راجعا إلى تهمة كذب ولا فسق، ومثله يحتمل في المتابعات والشواهد، وقد روى الترمذي وابن ماجه لعبد الرحمن بن زيد، وقال ابن عدي: إن له أحاديث حسانا، وإنه ممن احتمله الناس وصدقه بعضهم، وإنه ممن يكتب حديثه، وصحح الحاكم حديثا من جهته في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم. الحديث الثالث روى الطبراني في الكبير والأوسط، والدارقطني في أماليه، وأبو بكر بن المقرئ في معجمه، من رواية مسلمة بن سالم الجهني قال: حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جاءني زائرا لا تحمله حاجة إلا زيارتي كان حقّا عليّ أن أكون له شفيعا يوم القيامة» وفي معجم ابن المقرئ عن مسلمة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من جاءني زائرا كان له حقا على الله عز وجل أن أكون له شفيعا يوم القيامة» فقد تابع مسلمة الجهني موسى بن هلال في شيخه عبيد الله العمري، والطرق كلها في روايته متفقة على عبيد الله المصغر الثقة، إلا أن مسلمة بن حاتم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 الأنصاري رواه عن مسلمة عن عبد الله مكبرا، وأورد الحافظ ابن السكن هذا الحديث في باب «ثواب من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم» من كتابه المسمى بالسنن الصحاح المأثورة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو إمام حافظ ثقة مات بمصر سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وكتابه هذا محذوف الأسانيد، ومقتضى ما شرطه في خطبته أن يكون هذا الحديث مما أجمع على صحته. قلت: ولهذا نقل عنه جماعة منهم الحافظ زين الدين العراقي أنه صححه، فإما أن يكون ثبت عنده من غير طريق مسلمة أو أنه ارتقى إلى ذلك بكثرة الطرق، وتبويبه دال على أنه فهم من هذا الحديث الزيارة بعد الموت، أو أن ما بعد الموت داخل في العموم، قال السبكي: وهو صحيح. الحديث الرابع روى الدارقطني، والطبراني في الكبير والأوسط، وغيرهما من طريق حفص بن داود القارئ عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي» . ورواه ابن الجوزي في «مثير الغرام الساكن» من طريق الحسن بن الطيب: حدثنا علي بن حجر حدثنا حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبه» قال أبو اليمن بن عساكر: تفرد بقوله «وصحبتي» الحسن بن الطيب عن علي بن حجر، وفيه نظر، وهي زيادة منكرة، قال السبكي: ولم ينفرد بها ابن الطيب؛ فقد رواه كذلك ابن عدي في كامله من طريق الحسن بن سفيان عن علي بن حجر بالسند المتقدم، ورواه أبو يعلى من طريق حفص بن سليمان عن كثير بن شنطير عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر بدون قوله «وصحبني» . قلت: والتشبيه بمن صحبني لا يقتضي التشبيه به من كل وجه حتى يناقضه قوله «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا الحديث» كما زعمه بعضهم. وروى بعض الحفاظ المعاصرين لابن منده هذا الحديث من طريق حفص بن سليمان عن ليث بلفظ «من حج فزارني في حياتي» قال السبكي: وحفص بن أبي داود وثّقه أحمد، ثم روى ذلك عنه من طريقين، قال: وذلك مقدم على من روى عنه تضعيفه، وضعفه جماعة، وهم حفص بن سليمان القارئ الغاضري على ما قاله البخاري وابن أبي حاتم وابن عدي وابن حبان وغيرهم، وهو لم ينفرد بهذا الحديث، ودعوى البيهقي انفراده به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 بحسب اطلاعه؛ فقد جاء في الكبير والأوسط للطبراني متابعته؛ فإنه رواه من طريق عائشة بنت يونس امرأة الليث عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» قال الهيتمي: فيه عائشة بنت يونس، ولم أجد من ترجمها. الحديث الخامس روى ابن عدي في الكامل من طريق محمد بن محمد بن النعمان حدثني جدي قال: حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» قاله ابن عدي: ولا أعلم رواه عن مالك غير النعمان بن شبل، ولم أر في أحاديثه حديثا غريبا قد جاوز الحد فأذكره، وروى في صدر ترجمته عن عمران بن موسى أنه وثقه وعن موسى بن هارون أنه متهم، قال السبكي: هذه التهمة غير مفسدة، فالحكم بالتوثيق مقدم عليها، والحديث ذكره الدارقطني في غرائب مالك بالسند المتقدم وقال: تفرد به هذا الشيخ وهو منكر، والظاهر أن ذلك بحسب تفرده، وعدم احتماله له بالنسبة إلى الإسناد المذكور، ولا يلزم أن يكون المتن في نفسه منكرا ولا موضوعا، وذكر ابن الجوزي له في الموضوعات سرف منه. الحديث السادس روى الدارقطني في السنن في الكلام على حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «من استطاع أن يموت في المدينة فليفعل» من طريق موسى بن هارون عن محمد بن الحسن الجيلي عن عبد الرحمن بن المبارك عن عون بن موسى عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زارني إلى المدينة كنت له شهيدا وشفيعا» قيل للجيلي: إنما هو سفيان بن موسى، قال: اجعلوه علي بن موسى. قال موسى بن هارون: ورواه إبراهيم بن الحجاج عن وهيب عن أيوب عن نافع مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا أدري أسمعه إبراهيم بن الحجاج أولا؟ قلت: والصواب أنه من رواية سفيان بن موسى، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. قيل: وأخطأ راويه في متنه، والمعروف من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة- الحديث» وفيه نظر. الحديث السابع روى أبو داود الطيالسي قال: حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي قال: حدثني رجل من آل عمر، عن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 زار قبري أو قال من زارني- كنت له شفيعا، أو شهيدا، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله عز وجلّ في الآمنين يوم القيامة» . قال السبكي: سوّار بن ميمون روى عنه شعبة، فدل على ثقته عنده، فلم يبق من ينظر فيه إلا الرجل الذي من آل عمر، والأمر فيه قريب، لا سيما في هذه الطبقة التي هي طبقة التابعين. الحديث الثامن روى أبو جعفر العقيلي من رواية سوّار بن ميمون المتقدم عن رجل من آل الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة» وفي رواية أخرى عن هارون بن قزعة عن رجل من آل الخطاب مرفوعا نحوه، وزاد عقب قوله في جواري يوم القيامة «ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت له شهيدا، أو شفيعا، يوم القيامة» وقال في آخره «من الآمنين يوم القيامة» بدل «في الآمنين» . وهارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات، والعقيلي لم يذكر فيه أكثر من قول البخاري: إنه لا يتابع عليه، فلم يبق فيه إلا الرجل المبهم وإرساله. وقوله فيه «من آل الخطاب» يوافق قوله في رواية الطيالسي «من آل عمر» وقد أسنده الطيالسي عن عمر رضي الله تعالى عنه، لكن البخاري لما ذكره في التاريخ قال: هارون بن قزعة عن رجل من ولد حاطب عن النبي صلى الله عليه وسلم «من مات في أحد الحرمين» روى عنه ميمون بن سوار لا يتابع عليه، وقال ابن حبان: إن هارون بن قزعة روى عن رجل من ولد حاطب المراسيل، وعلى كلا التقديرين فهو مرسل جيد، وسيأتي عن هارون بن قزعة أيضا مسندا بلفظ خر في الحديث التاسع ، قاله السبكي. الحديث التاسع روى الدارقطني وغيره من طريق هارون بن قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة» وفي رواية أحمد بن مروان صاحب المجالسة عن هارون بن أبي قزعة مولى حاطب عن حاطب، والرواية «عن رجل عن حاطب» كما سبق أولى الصواب. الحديث العاشر روى أبو الفتح الأزدي في الثاني من فوائده من طريق عمار بن محمد: حدثني خالي سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 صلى الله عليه وسلم «من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة، وصلى في بيت المقدس، لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه» . قال السبكي: وعمار هو ابن أخت سفيان، روى له مسلم والحسن بن عثمان الزيادي، ووثقه الخطيب، والراوي عنه ما علمت من حاله شيئا. وصاحب الخبر أبو الفتح من أهل العلم والفضل، وكان حافظا، ذكره الخطيب وابن السمعاني. وأثنى عليه محمد بن جعفر بن علان، وقال أبو النجيب الأرموي: رأيت أهل الموصل يوهّنونه جدا، وسئل البرقاني عنه، فأشار إلى أنه كان ضعيفا، وذكر غيره كلاما أشد من هذا الحديث. الحديث الحادي عشر روى أبو الفتوح سعيد بن محمد اليعقوبي في جزئه رواية إسماعيل المشهور بابن الأنباطي عنه قال فيه من طريق خالد بن يزيد: حدثنا عبد الله بن عمر العمري قال: سمعت سعيدا المقبري يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حيّ، ومن زارني كنت له شهيدا، أو شفيعا، يوم القيامة» . وخالد بن يزيد إن كان العمري فقد قال ابن حبان: إنه منكر الحديث. الحديث الثاني عشر روى ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل بن أبي فديك عن سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من زارني بالمدينة كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة» وفي رواية «كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» ورواه البيهقي بهذا الطريق، ولفظه «من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة، ومن زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة» . وإسماعيل مجمع عليه، وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: إنه منكر الحديث ليس بقوى. قلت: وزعم ابن عبد الهادي أن روايته عن أنس منقطعة، وأنه لم يدركه، فإنه إنما يروى عن التابعين وأتباعهم. الحديث الثالث عشر روى ابن النجار في أخبار المدينة له، قال: أنبأنا أبو محمد بن علي أخبرنا أبو يعلى الأزدي أخبرنا أخبرنا أبو إسحاق البجلي أخبرنا أبو سعيد بن أبي سعيد النيسابوري أخبرنا إبراهيم بن محمد المؤدب حدثنا محمد بن محمد حدثنا محمد بن مقاتل حدثنا جعفر بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 هارون حدثنا سمعان بن المهدي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زارني ميتا فكأنما زارني حيا، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة، وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر» . قلت: لم يتكلم عليه السبكي، وقال الذهبي: سمعان بن مهدي عن أنس لا يعرف، ألصقت به نسخة مكذوبة، رأيتها، قبح الله من وضعها، انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وهي من رواية محمد بن مقاتل عن جعفر بن هارون الواسطي عن سمعان، وهي أكثر من ثلاثمائة حديث، أكثر متونها موضوعة، انتهى. الحديث الرابع عشر روى أبو جعفر العقيلي في الضعفاء في ترجمة فضالة بن سعيد بن زميل المازني من طريقه عن محمد بن يحيى المازني عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا، أو قال شفيعا» وذكره ابن عساكر من جهته بإسناده إلا أنه قال «من رآني في المنام كان كمن رآني في حياتي» والباقي سواء. وفضالة قال العقيلي: حديثه غير محفوظ، لا يعرف إلا به، قال السبكي: كذا رأيته في كتاب العقيلي. ونقل ابن عساكر عنه أنه قال: لا يتابع على حديثه من جهة تثبت، ولا يعرف إلا به. ومحمد بن يحيى المازني قال ابن عدي: أحاديثه مظلمة منكرة، ولم يذكر ابن عدي هذا الحديث في أحاديثه، ولم يذكر فيه ولا العقيلي في فضالة شيئا من الجرح سوى التفرد والنكارة. الحديث الخامس عشر روى بعض الحفاظ في زمن ابن منده قال: حدثنا أبو الحسن حامد بن حماد بن المبارك بسرّ من رأى بنصيبين حدثنا أبو أيوب إسحاق بن يسار بن محمد النصيبي حدثنا أسيد بن زيد حدثنا عيسى بن بشير عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان» وهو في مسند الفردوس، ولم يذكره السبكي. وأسيد بن زيد هو الجمال، قال الحافظ ابن حجر: هو ضعيف، أفرط ابن معين فكذبه، وله في البخاري حديث واحد معروف بغيره، انتهى، فهو ممن يستشهد به. وعيسى بن بشير: مجهول، ومن بعده ثقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 الحديث السادس عشر روى يحيى بن الحسن بن جعفر الحسيني في أخبار المدينة له من طريق النعمان بن شبل قال: حدثنا محمد بن الفضل مديني سنة ست وسبعين عن جابر عن محمد بن علي عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزرني فقد جفاني» ولم يتكلم السبكي عليه. والنعمان بن شبل: تقدم الكلام عليه في الحديث الخامس، وعن محمد بن الفضل قال: إنه مديني، فهو غير محمد بن الفضل بن عطية الذي كذبوه، خلاف قول ابن عبد الهادي إنه هو؛ لأن ذاك كوفي، ويقال: مروزي نزل بخارى. وجابر إن كان الجعفي كما قال ابن عبد الهادي فهو ضعيف، فيه كلام كثير وثقة شعبة والثوري. ومحمد بن علي إن كان أبا جعفر الباقر فالسند منقطع؛ لأنه لم يدرك جده علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وإن كان ابن الحنفية فقد أدرك أباه عليا، وقد قال أبو سعيد عبد الملك بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الجركوسي في شرف المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم: روى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن لم يزر قبري فقد جفاني» . وعبد الملك هذا توفي سنة ست وأربعمائة بنيسابور، وقبره فيها مشهور يزار، قاله السبكي، قال: وقد روى حديث علي من طريق أخرى ليس فيها تصريح بالرفع، ذكرها ابن عساكر من طريق عبد الملك بن هرون بن عنترة عن أبيه عن جده عن علي رضي الله تعالى عنه قال: من سأل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الدرجة والوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة، ومن زار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الملك بن هارون بن عنترة فيه كلام كثير، رماه يحيى بن معين وابن حبان، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أحمد: ضعيف الحديث، اه. قلت: وقد رأيت في نسخة من كتاب يحيى رواية ابنه طاهر بن يحيى عنه عقب حديث عليّ المتقدم ما لفظه: حدثنا أبو يحيى محمد بن الفصل بن نباتة النميري قال: حدثنا الجمالي قال: حدثنا الثوري عن عبد الله بن السائب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله، اه. ولم أر ذلك في النسخة التي هي رواية ابن ابنه الحسين بن محمد بن يحيى عن جده يحيى. الحديث السابع عشر روى يحيى أيضا قال: حدثنا محمد بن يعقوب حدثنا عبد الله بن وهب عن رجل عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 بكر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى المدينة زائرا لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمنا» ولم يتكلم عليه السبكي. ومحمد بن يعقوب هو أبو عمر الزبيري المدني، صدوق. وعبد الله بن وهب ثقة، ففيه الرجل المبهم. وبكر بن عبد الله إن كان المزني فهو تابعي جليل؛ فيكون مرسلا، وإن كان هو بكر بن عبد الله بن الربيع الأنصاري فهو صحابي. الفصل الثاني في بقية أدلة الزيارة، وإن لم تتضمّن لفظ الزيارة نصّا وبيان تأكد مشروعيتها وقربها من درجة الوجوب، حتى أطلقه بعضهم عليها، وبيان حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره، ومشروعية شدّ الرحال إليه، وصحة نذر زيارته صلى الله عليه وسلم، والاستئجار للسلام عليه. روى أبو داود بسند صحيح كما قال السبكي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يسلم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» وقد صدّر به البيهقي باب زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، واعتمد عليه جماعة من الأئمة فيها منهم الإمام أحمد، قال السبكي: وهو اعتماد صحيح؛ لتضمنه فضيلة رد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهي عظيمة. وذكر ابن قدامة الحديث من رواية أحمد بلفظ «ما من أحد يسلّم عليّ عند قبري» فإن ثبت فهو صريح في تخصيص هذه الفضيلة بالمسلم عند القبر، وإلا فالمسلّم عند القبر امتاز بالمواجهة بالخطاب ابتداء وجوابا، ففيه فضيلة زائدة على الرد على الغائب، مع أن السلام عليه صلى الله تعالى عليه وسلم على نوعين: الأول ما يقصد الدعاء منا بالتسليم عليه من الله، سواء كان بلفظ الغيبة أو الحضور، كقولنا: صلى الله تعالى عليه وسلم، والصلاة والسلام عليك يا رسول الله، سواء كان من الغائب عنه أو الحاضر عنده، وهذا هو الذي قيل باختصاصه به صلى الله عليه وسلم عن الأمة، حتى لا يسلم على غيره من الأمة إلا تبعا كالصلاة عليه، فلا يقال: فلان عليه السلام. الثاني: ما يقصد به التحية كسلام الزائر إذا وصل إلى قبره، وهو غير مختص، بل يعم الأمة، وهو مبتدع للرد على المسلم بنفسه أو برسوله فيحصل ذلك منه عليه السلام. وأما الأول فالله أعلم، فإن ثبت امتاز الثاني بالقرب والخطاب، وإلا فقد حرم من لم يزر هذه الفضيلة، وهو مقتضي ما فسر به الحديث الإمام الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله بن زيد المقبري أحد أكابر شيوخ البخاري، حيث قال في قوله «ما من أحد يسلم عليّ الحديث": هذا في الزيارة إذا زارني فسلّم عليّ رد الله عليّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 روحي حتى أرد عليه، وأما حديث «أتاني ملك فقال يا محمد أما يرضيك أن لا يصلي عليه أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، أو لا يسلم عليك إلا سلمت عليه عشرا؛ فالظاهر أنه في السلام بالنوع الأول. وروى النسائي وإسماعيل القاضي بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض يبلّغون من أمتي السلام، وجاءت أحاديث أخرى في عرض الملك لصلاة الأمة وسلامها على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في حق الغائب. وأما الحاضر عند القبر، فهل يكون كذلك أو يسمعه صلى الله تعالى عليه وسلم بلا واسطة؟ فيه حديثان: أحدهما: «من صلى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيا بلّغته» رواه جماعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا من طريق أبي عبد الرحمن محمد بن مروان السدي الصغير، وهو ضعيف. قال الطيالسي: حدثنا العلاء بن محمود حدثنا أبو عبد الرحمن قال البيهقي: أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر، انتهى. قلت: وروى نحوه أبو محمد عبد الرحمن بن حمدان بن عبد الرحمن بن المرزبان الخلال من طريق أبي البحتري، وهو ضعيف جدا، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «من صلى عليّ عند قبري رددت عليه، ومن صلى علي في مكان آخر بلغونيه» . والحديث الثاني وهو أضعف من الأول عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضا «من صلى علي عند قبري وكّل الله بها ملكا يبلغني، وكفى أمر آخرته، وكنت له شهيدا وشفيعا» وفي رواية «ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكل الله بها ملكا يبلغني، وكفى أمر آخرته ودنياه، وكنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة» فإن ثبت الأول فكفى بذلك شرفا، وإلا فهو مرجو، فينبغي الحرص عليه، قال السبكي: وسيأتي ما يدل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يسمع من يسلم عليه عند قبره ويرد عليه عالما بحضوره عند قبره. وكفى بهذا فضلا حقيقا بأن ينفق فيه ملك الدنيا حتى يتوصل إليه من أقطار الأرض. قلت: روى عبد الحق في الأحكام الصغرى وقال: إسناده صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه إلا عرفه، ورد عليه السلام» ورواه ابن عبد البر وصححه كما نقله ابن تيمية، لكن بلفظ «ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام» وقال عبد الحق في كتاب العاقبة: ويروى من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها «ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 إلا استأنس به حتى يقوم» وروى ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام. والآثار في هذا المعنى كثيرة، وقد ذكر ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم- كما نقه ابن عبد الهادي- أن الشهداء بل كل المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلّم عليهم عرفوا به، وردوا عليه السلام، فإذا كان هذا في آحاد المؤمنين فكيف بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؟ وذكر البارزي في «توثيق عرى الإيمان» عن سليمان بن سحيم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: وأرد عليهم. وروى ابن النجار عن إبراهيم بن بشار، قال: حججت في بعض السنين، فجئت المدينة فتقدمت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فسمعت من داخل الحجرة: وعليك السلام، وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من الأولياء والصالحين. ولا شك في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء في قبورهم حياة أكمل من حياة الشهداء التي أخبر الله تعالى بها في كتابه العزيز، ونبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم سيد الشهداء، وأعمال الشهداء في ميزانه، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم «علمي بعد وفاتي كعلمي في حياتي» رواه الحافظ المنذري. وروى ابن عدي في كامله عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون» ورواه أبو يعلى برجال ثقات، ورواه البيهقي وصححه، وروى من طريق ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ- عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال «إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكن يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور» قال البيهقي: وإن صح بهذا اللفظ فالمراد والله أعلم- لا يتركون لا يصلون إلا هذا المقدار، ثم يكونوا مصلين فيما بين يدي الله تعالى. قال البيهقي: ولحياة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم- بعد موتهم شواهد من الأحاديث الصحيحة، ثم ذكر حديث «مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره» وغيره من أحاديث لقاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأنبياء وصلاته بهم، وحديث الصحيحين «فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 استثنى الله عز وجل» قال البيهقي: وهذا إنما يصح على أن الله عز وجل يردّ على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا فيمن صعق، ثم لا يكون ذلك موتا في جميع معانيه، إلا في ذهاب الاستشعار في تلك الحالة. ويقال: إن الشهداء ممن استثنى الله عز وجل بقوله: (إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) قال: وروينا في ذلك خبرا مرفوعا، وذكر أيضا حديث أوس بن أوس مرفوعا «أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون بليت، فقال «إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» أخرجه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه، وذكر البيهقي له شواهد، ثم ذكر حديث «إن لله ملائكة سيّاحين يبلغون عن أمتي السلام» وغيره. وروى ابن ماجه بإسناد جيد- كما قال المنذري- عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحد يصليّ علي إلا عرضت عليّ صلاته حين يفرغ منها» قال: قلت: وبعد الموت؟ قال «وبعد الموت، إن الله حرم عليّ الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» فنبي الله صلى الله عليه وسلم حي يرزق، هذا لفظ ابن ماجه، قال السبكي: وفي إسناده زيد بن أيمن عن عبادة بن نسئ، إلا أنه بتقوى باعتضاده بغيره. وروى البزار برجال الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن لله ملائكة سيّاحين يبلغونّي عن أمتي» قال: وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم» . وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي في أجوبة مسائل الجاجرميين: قال المتكلمون المحققون من أصحابنا: إن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم حي بعد وفاته، يسرّ بطاعات أمته، وإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يبلون، وسيأتي في الفصل الثالث قول ابن حبيب: فإنه صلى الله عليه وسلم يسمع ويعلم وقوفك بين يديه. وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد ما قبضوا ردّت إليهم أرواحهم؛ فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد رأى نبيّنا صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة المعراج جماعة منهم، قال: وقد أفردنا لإثبات حياتهم كتابا. قلت: ويؤيد ذلك حديث «إن عيسى ابن مريم عليه السلام مار بالمدينة حاجا أو معتمرا، وإن سلم عليّ لأردّنّ عليه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 فإن قيل: قوله في الحديث المصدر به هذا الفصل «إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه» دال على عدم استمرار الحياة. فالجواب من وجوه: الأول: أن البيهقي استدل به على حياة الأنبياء، قال: وإنما أراد والله أعلم إلا وقد رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه، الثاني: أن السبكي قال: يحتمل: أن يكون ردّا معنويا، وأن تكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة والملأ الأعلى عن هذا العالم؛ فإذا سلم عليه أقبلت روحه على هذا العالم لتدارك السلام وترد على المسلّم، يعني أن رد روحه الشريفة التفات روحاني، وتنزّل إلى دوائر البشرية من الاستغراق في الحضرة العلية. الثالث: قال بعضهم: هو خطاب على مقدار فهم المخاطبين في الخارج من الدنيا أنه لا بد من عود روحه حتى يسمع ويجيب، فكأنه قال: أنا أجيب ذلك تمام الإجابة، وأسمعه تمام السماع، مع دلالته على رد الروح عند سلام أول مسلّم، وقبضها بعد لم يرد، ولا قائل بتكرر ذلك، إذ يفضي ذلك إلى توالي موتات لا تحصر، مع أننا نعتقد ثبوت الإدراكات كالعلم والسماع لسائر الموتى، فضلا عن الأنبياء، ويقطع بعود الحياة لكل ميت في قبره، كما ثبت في السنة، ولم يثبت أنه يموت بعد ذلك موتة ثانية، بل ثبت نعيم القبر وعذابه، وإدراك ذلك من الأعراض المشروطة بالحياة، لكن يكفي فيه حياة جزء يقع به الإدراك، فلا يتوقف على البنية كما زعم المعتزلة. وأما أدلّة حياة الأنبياء فمقتضاها حياة الأبدان كحالة الدنيا، مع الاستغناء عن الغذاء، ومع قوة النفوذ في العالم، وقد أوضحنا المسألة في كتابنا المسمى «بالوفا، لما يجب لحضرة المصطفى» صلى الله تعالى عليه وسلم. وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الملك المرجاني في أخبار المدينة له: قال صاحب الدر المنظم: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما مات ترك في أمته رحمة لهم، روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما من نبي دفن إلا وقد رفع بعد ثلاث غيري، فإني سألت الله عز وجل أن أكون بينكم إلى يوم القيامة، اه وقال الحافظ ابن حجر: إن حديث «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث» ذكره الغزالي لا أصل له، اه. وروى عبد الرزاق أن سعيد بن المسيب رأى قوما يسلمون على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين، ثم روى عبد الرزاق إليّ حديث «مررت بموسى ليلة أسرى بي وهو قائم يصلي في قبره» كأنه أراد ردّ ما روي عن ابن المسيب، وهو رد صحيح، ولو صح قول ابن المسيب لم يقدح في مشروعية زيارة القبر؛ لشرفه بنسبته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلاقته به، وابن المسيب لم ينكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 التسليم، وإنما أفاد تلك الفائدة، مع أنا قد قطعنا بوضع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قبره الشريف، والأصل استمراره؛ فيستمر على ذلك حتى يقوم قاطع على خلافه، مع أنه جاء عن غير ابن المسيب ما يقتضي الاستمرار، فعن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه لما حصر أشار بعض الصحابة عليه أن يلحق بالشام، فقال: لن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيها، وقصة سعيد بن المسيب في سماعه الأذان والإقامة من القبر الشريف أيام الحرة مشهورة. وقال يحيى: حدثنا هرون بن عبد الملك ابن الماجشون أن خالد بن الوليد بن الحارث بن الحكم بن العاص وهو ابن مطيرة قام على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة فقال: لقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو يعلم أنه خائن، ولكن شفعت له ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها، وداود بن قيس في الروضة، فقام فقال: أس، أي بسكته، قال: فمزق الناس قميصا كان عليه شقائق حتى وتروه، وأجلسوه حذرا عليه منه، وقال: رأيت كفّا خرجت من القبر قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يقول: كذبت يا عدوّ الله، كذبت يا كافر، مرارا. وممن سافر إلى زيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الشام إلى قبره عليه السلام بالمدينة بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كما رواه ابن عساكر بسند جيد عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، قال: لما رحل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من فتح بيت المقدس فصار إلى جابية، سأله بلال أن يقره بالشام، ففعل، وذكر قصة في نزوله بداريا، قال: ثم إن بلالا رأى في منامه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟ فانتبه حزينا وجلا خائفا، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: يا بلال، نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد، ففعل، فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال «الله أكبر الله أكبر» ارتجّت المدينة، فلما أن قال: «أشهد أن لا إله إلا الله» ازدادت رجتها، فلما أن قال «أشهد أن محمدا رسول الله» خرجت العواتق من خدورهن، وقالوا: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما رؤي يوم أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك اليوم، كذا ذكر ابن عساكر فيما نقل السبكي، فقال الحافظ عبد الغني وغيره في ترجمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 بلال: ولم يؤذن بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما روي إلا مرة واحدة في قدومه المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد طلب إليه الصحابة ذلك، فأذن ولم يتم الأذان، وقيل: إنه أذن لأبي بكر رضي الله تعالى عنه في خلافته، قال السبكي: ليس اعتمادنا يعني في الأخذ بذلك في السفر للزيارة على رؤيا المنام فقط، بل على فعل بلال، سيما في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، والصحابة متوافرون ولا تخفى عنهم هذه القصة، ورؤيا بلال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مؤكدة لذلك. وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه كان يبرد البريد من الشام يقول: سلم لي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك في زمن صدر التابعين. وممن ذكره عنه الإمام أبو بكر بن عمرو بن عاصم النبيل، ووفاته في المائة الثالثة، قال في مناسكه له «ألتزم له الثبوت» وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصدا من الشام إلى المدينة ليقرئ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم السلام ثم يرجع، انتهى. وفي فتوح الشام أن عمر رضي الله تعالى عنه لما صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح بإسلامه قال له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتتمتع بزيارته؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك، ولما قدم عمر المدينة كان أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. وفي الموطأ رواية يحيى بن يحيى أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقف على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وعند ابن القاسم والقعنبي: ويدعو لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. وعن ابن عون قال: سأل رجل نافعا: هل كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسلم على القبر؟ قال: نعم، لقد رأيته مائة مرة أو أكثر من مائة، كان يأتي القبر فيقوم عنده فيقول: السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي. وفي مسند أبي حنيفة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: من السنة أن تأتي قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل القبلة، وتجعل ظهرك إلى القبلة، وتستقبل القبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 بوجهك، ثم تقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، أخرجه الحافظ طلحة بن محمد في مسنده عن صالح بن أحمد عن عثمان بن سعيد عن أبي عبد الرحمن المقرئ عن أبي حنيفة عن نافع عن ابن عمر. قلت: وقد تقرر أن قول الصحابي «من السنة كذا» محمول على سنته صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فله حكم المرفوع. وروى أحمد بسند حسن كما رأيته بخط الحافظ أبي الفتح المراغي المدني قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو قال: حدثنا كثير بن زيد عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوما، فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر، فأخذ مروان برقبته ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه، فقال: نعم إني لم آت الحجر، إنما جئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله، قال الهيتمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه كثير بن زيد، وثقة جماعة وضعفه النسائي وغيره. قلت: هو كما قال في التقريب- صدوق يخطئ، وسيأتي في الفصل بعده أن يحيى رواه من طريقه، وأن السبكي اعتمد توثيقه. وذكر المؤرّخون والمحدّثون منهم ابن عبد البر وأحمد بن يحيى البلاذري وابن عبد ربه أن زياد بن أبيه أراد الحج، فأتاه أبو بكرة وهو لا يكلمه، فأخذ ابنه فأجلسه في حجره ليخاطبه ويسمع زيادا، فقال: إن أباك فعل وفعل، وإنه يريد الحج، وأم حبيبة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هناك، فإن أذنت له فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإن هي حجبته فأعظم بها حجّة عليه، فقال زياد: ما تدع النصيحة لأخيك، وترك الحج تلك السنة فيما قاله البلاذري. وحكى ابن عبد البر ثلاثة أقوال: أحدها أنه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة. والثاني أنه دخل المدينة وأراد الدخول على أم حبيبة رضي الله تعالى عنها فذكر قول أبي بكرة فانصرف. والثالث أن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها حجبته. قال السبكي: والقصة على كل تقدير تشهد لأن زيارة الحاج كانت معهودة من ذلك الوقت، وإلا فكان زياد يمكنه الحج من غير طريق المدينة، بل هي أقرب إليه؛ لأنه كان بالعراق، ولكن كان إتيان المدينة عندهم أمرا لا يترك. وتقدم في سابع فصول الباب الثاني عند ذكر الخاصة الثمانين اختلاف السلف في أن الأفضل البداءة بالمدينة قبل مكة أو بمكة قبل المدينة، وأن ممن اختار البداءة بالمدينة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 علقمة والأسود وعمرو بن ميمون من التابعين، ولعل سببه عندهم كما قال السبكي إيثار الزيارة، وممن اختار البداءة بمكة ثم إتيان المدينة والقبر الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، ففي فتاوى أبي اللّيث السّمرقندي: روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: الأحسن للحاج أن يبدأ بمكة، فإذا قضى نسكه مر بالمدينة، وإن بدأ بها جاز، فيأتي قريبا من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقوم بين القبر والقبلة. وقد أوضح السبكي أمر الإجماع على الزيارة قولا وفعلا، وسرد كلام الأئمة في ذلك، وبين أنها قربة بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. أما الكتاب فقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ [النساء: 64] الآية دالة على الحث بالمجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والاستغفار عنده، واستغفار لهم وهذه رتبة لا تنقطع بموته صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد حصل استغفاره لجميع المؤمنين؛ لقوله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] فإذا وجد مجيئهم فاستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ولرحمته. وقوله: (اسْتَغْفَرَ لَهُمُ) معطوف على قوله: (جاؤُكَ) فلا يقتضي أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم مع أنا لا نسلم أنه لا يستغفر بعد الموت؛ لما سبق من حياته ومن استغفاره لأمته بعد الموت عند عرض أعمالهم عليه، ويعلم من كمال رحمته أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفرا ربه. والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة، واستحبوا لمن أتى القبر أن يتلوها ويستغفر الله تعالى، وحكاية الأعرابي في ذلك نقلها جماعة من الأئمة عن العتبي، واسمه محمد بن عبيد الله بن عمرو، أدرك ابن عيينة وروى عنه، وهي مشهورة حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب، واستحسنوها، ورأوها من أدب الزائر، وذكرها ابن عساكر في تاريخه، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن، وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي، قال: دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إلى قوله رَحِيماً وإني جئتك مستغفرا ربك من ذنوبي، متشفعا بك، وفي رواية: وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي، ثم بكى وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 ثم استغفر وانصرف، قال: فرقدت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في نومي وهو يقول: الحق الرجل وبشّره بأن الله غفر له بشفاعتي، فاستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده. قلت: بل قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان في كتابه مصباح الظلام: إن الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه وما وعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ [النساء: 64] الآية، وقد ظلمت وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: إنه قد غفر لك، انتهى. وروى ذلك أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله الكرخي عن علي ابن محمد بن علي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي قال: حدثني أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن ابن صادق عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فذكره. وأما السنة فما سبق من الأحاديث في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بخصوصه وقد جاء في السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم سيد القبور وداخل في عموم ذلك. وأما الإجماع فقال عياض رحمه الله تعالى: زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة بين المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها، انتهى. وأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي، بل قال بعض الظاهرية بوجوبها. وقد اختلفوا في النساء، وقد امتاز القبر الشريف بالأدلة الخاصة به كما سبق، قال السبكي: ولهذا أقول: إنه لا فرق في زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم بين الرجال والنساء، وقال الجمال الريمي في التقفية: يستثنى أي من محل الخلاف- قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فإن زيارتهم مستحبة للنساء بلا نزاع، كما اقتضاه قولهم في الحج: يستحب لمن حج أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فيقال معاياة: قبور يستحب زيارتها للنساء بالاتفاق، وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين وهو الدمنهوري الكبير، وأضاف إليه قبور الأولياء والصالحين والشهداء، انتهى. وأما القياس فعلى ما ثبت من زيارته صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع وشهداء أحد، وإذا استحب زيارة قبر غيره فقبره صلى الله عليه وسلم أولى؛ لما له من الحق ووجوب التعظيم، وليست زيارته إلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 لتعظيمه والتبرك به، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه عند قبره بحضرة الملائكة الحافين به، وذلك من الدعاء المشروع له. والزيارة قد تكون لمجرد تذكر الآخرة، وهو مستحب؛ لحديث «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» . وقد تكون للدعاء لأهل القبور كما ثبت من زيارة أهل البقيع، وقد تكون للتبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الصلاح، وقال أبو محمد الشارمساحي المالكي: إن قصد الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم وقبور الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال السبكي: وهذا الاستثناء صحيح، وحكمه في غيرهم بالبدعة فيه نظر. قلت: قد ذكر هذا الاستثناء ابن العربي أيضا، فقال: ولا يقصد يعني زائر القبر الانتفاع بالميت فإنها بدعة، وليس لأحد على وجه الأرض إلا لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، نقل ذلك عنه الحافظ زين الدين الحسيني الدمياطي، ثم تعقبه بأن زيارة قبور الأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء وسائر المرسلين للبركة أثر معروف. وقد قال حجة الإسلام الغزالي: كلّ من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد موته، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، انتهى. وقد تكون الزيارة لأداء حق أهل القبور، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «آنس ما يكون الميت في قبره إذا زاره من كان يحبه في دار الدنيا» وسبق عن ابن عباس مرفوعا «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام» ورأيت بخط الأقشهري: روى بقيّ بن مخلد بسنده إلى محمد بن النعمان عن أبيه مرفوعا «من زار قبر أبويه في كل جمعة أو أحدهما كتب بارا وإن كان في الدنيا قبل ذلك بهما عاقا» . قال السبكي: وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم فيها هذه المعاني الأربعة فلا يقوم غيرها مقامها. وقد قال عبد الحق الصقلي عن أبي عمران المالكي، قال: إنما كره مالك أن يقال «زرنا قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم» لأن الزيارة من شاء فعلها ومن شاء تركها، وزيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واجبة، قال عبد الحق: يعني من السنن الواجبة، انتهى. واختار عياض أن كراهة مالك لذلك لإضافة الزيارة إلى القبر، وأنه لو قال «زرنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم» لم يكره؛ لحديث «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر قطعا للذريعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 قال السبكي: ويشكل عليه حديث «من زار قبري» إلا أن يكون لم يبلغ مالكا، أو لعله يقول: المحذور في قول غيره صلى الله تعالى عليه وسلم، مع أن ابن رشد نقل عن مالك أنه قال: وأكره ما يقول الناس زرت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأعظم ذلك أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يزار. قال ابن رشد: ما كره مالك هذا إلا من وجه أن كلمة أعلى من كلمة، فلما كانت الزيارة تستعمل في الموتى وقد وقع من الكراهة ما وقع كره أن يذكر مثل ذلك في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: كرهه لأن المضي إلى قبره ليس ليصله بذلك ولا لينفعه، وإنما هو رغبة في الثواب، انتهى ملخصا. والأخير هو المختار في تأويل كلام مالك كما قاله السبكي، قال: والمختار عندنا أنه لا يكره إطلاق هذا اللفظ. ويستدل أيضا بقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية، على مشروعية السفر للزيارة وشدّ الرحال إليها، على ما سبق تقريره بشموله المجيء من قرب ومن بعد، وبعموم قوله «من زار قبري» وقوله في الحديث الذي صححه ابن السكن «من جاءني زائرا» وإذا ثبت أن الزيارة قربة فالسفر إليها كذلك، وقد ثبت خروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة لزيارة قبور الشهداء، فإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد، وحينئذ فقبره صلى الله تعالى عليه وسلم أولى، وقد انعقد الإجماع على ذلك؛ لإطباق السلف والخلف عليه. وأما حديث «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فمعناه لا تشدوا الرحال إلى مسجد إلا إلى المساجد الثلاثة، إذ شدّ الرحال إلى عرفة لقضاء النسك واجب بالإجماع، وكذلك سفر الجهاد والهجرة من دار الكفر بشرطه، وغير ذلك، وأجمعوا على جواز شد الرحال للتجارة ومصالح الدنيا. وقد روى ابن شبة بسند حسن أن أبا سعيد يعني الخدري رضي الله تعالى عنه- ذكر عنده الصلاة في الطور، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمطيّ أن تشدّ رحالها إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» فهذا الحديث صريح فيما ذكرناه، على أن في شدّ الرحال لما سوى هذه المساجد الثلاثة مذاهب: نقل إمام الحرمين عن شيخه أنه أفتى بالمنع، قال: وربما كان يقول: يكره، وربما كان يقول: يحرم، وقال الشيخ أبو علي: لا يكره ولا يحرم، وإنما أبان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن القربة المقصودة في قصد المساجد الثلاثة، وما عداها ليس قربة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 قال السبكي: ويمكن أن يقال: إن قصد بذلك التعظيم فالحق ما قاله الشيخ أبو محمد؛ لأنه تعظيم لما لم يعظمه الشرع، وإن لم يقصد مع عينه أمر آخر فهذا قريب من العبث؛ فيترجح ما قاله أبو علي. وذهب الداودي إلى أن ما قرب من المساجد الفاضلة من المصر فلا بأس بإتيانه مشيا وركوبا، استدل بمسجد قباء لأن شد الرحال لا يكون لما قرب غالبا، ونقل عياض أنه إنما يمنع إعمال المطيّ للناذر، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يصح نذر ما سوى المساجد الثلاثة، ومذهب ليث بن سعد صحة ذلك مطلقا، وقال بعضهم: يلزم ما لم يكن شد رحل كمسجد قباء وهو قول محمد بن مسلمة المالكي. وروى مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما سئل عمن جعل على نفسه مشيا إلى مسجد قباء وهو بالمدينة، فألزمه ذلك، وأمره أن يمشي، قال ابن حبيب في الواضحة: فكذلك من نذر أن يمشي إلى مسجده الذي يصلي فيه مكتوبته، وليس بلازمه فيما نأى عنه من المساجد لا ماشيا ولا راكبا. قال السبكي: هذا كله في قصد المكان لعينه، أو قصد عبادة فيه تمكن في غيره، أما قصده بغير نذر لغرض فيه كالزيارة وشبهها فلا يقول أحد فيه بتحريم ولا كراهة، مع أن السفر بقصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم غايته مسجد المدينة؛ لأنها إنما تكون فيه لمجاورته القبر الشريف، وغرض الزائر التبرك بالحلول في ذلك المحل، والتسليم على من بذلك القبر الشريف، وتعظيم من فيه كما لو كان حيا بالحياة المألوفة فسافر إليه، وليس القصد تعظيم بقعة القبر لعينها. وقال الماوردي: قال أصحابنا عند ذكر من يلي أمر الحج: فإذا قضى الناس حجهم أمهلهم الأيام التي جرت عادتهم بها، فإذا رجعوا سار بهم على طريق مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رعاية لحرمته، وقياما بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبة، وعبادات الحجيج المستحسنة، وقال القاضي الحسين: إذا فرغ من الحج فالسنة أن يقف بالملتزم ويدعو، قال: ثم يأتي المدينة، ويزور قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وقال القاضي أبو الطيب: ويستحب أن يزور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن يحج ويعتمر، وقال المحاملي في التجريد: ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: الأحسن للحاج أن يبدأ بمكة، فإذا قضى نسكه مر بالمدينة إلى آخره. والحنفية قالوا: إن زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أفضل المندوبات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 والمستحبات، بل تقرب من درجة الواجبات، وكذلك نص عليه المالكية والحنابلة، وأوضح السبكي نقولهم وسردها في كتابه في الزيارة، ولا حاجة إلى تتبع ذلك مع الإجماع عليه. فإن قيل: روى عبد الرزاق أن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم رأى قوما عند القبر، فنهاهم، وقال: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا عليّ حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني» وروى أبو يعلى عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما، أنه رأى رجلا يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيدخل فيها فيدعوه، فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» وروى القاضي إسماعيل في الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن سهل بن أبي سهيل قال: جئت أسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم وحسن بن حسن رضي الله تعالى عنهما يتعشى، وبيته عند بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي رواية: رآني الحسن بن الحسن رضي الله تعالى عنهما عند القبر، وهو في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها يتعشى فقال: هلمّ إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ وفي رواية: مالي رأيتك وقفت؟ قلت: وقفت أسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت فسلم عليه وفي رواية «إذا دخلت المسجد فسلم عليه» ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم مقابر الحديث» ثم قال: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. قلنا: روى القاضي إسماعيل أيضا في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بسنده إلى عليّ بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم أن رجلا كان يأتي كل غداة؛ فيزور قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ويصلي عليه، ويصنع من ذلك ما انتهره عليه علي بن الحسين، فقال له علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: ما يحملك على هذا؟ قال: أحب التسليم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما، هل لك أن أحدثك حديثا عن أبي؟ قال: نعم، قال له علي بن الحسين رضي تعالى عنهما: أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تجعلوا قبري عيدا الحديث» . فهذا يبين أن ذلك الرجل زاد في الحد، فيكون علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما موافقا لما سيأتي عن مالك من كراهة الإكثار من الوقوف بالقبر، وليس إنكارا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 لأصل الزيارة، أو أنه أراد تعليمه أن السلام يبلغه مع الغيبة لما رآه يتكلف الإكثار من الحضور. وعلى ما ذكرناه يحمل ما ورد عن حسن بن حسن رضي الله تعالى عنه، بدليل قوله «إذا دخلت فسلم عليه» ولأن يحيى الحسيني روى في كتابه عن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جده أنه كان إذا جاء يسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقف عند الأسطوانة التي تلي الروضة، ثم يسلم، ثم يقول: هاهنا رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المطري وغيره: وهذا موقف السلف قبل إدخال الحجر في المسجد. وسبق في الكلام على المسمار المواجه للوجه الشريف بيان الموضع الذي كان يقف عنده علي بن الحسين من جهة الوجه الشريف أيضا، وقال يحيى في أخبار المدينة له: حدثنا هرون بن موسى الفروي قال: سمعت جدي أبا علقمة يسأل: كيف كان الناس يسلّمون علي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يدخل البيت في المسجد؟ فقال: كان يقف الناس على باب البيت يسلمون عليه، وكان الباب ليس عليه غلق، حتى هلكت عائشة رضي الله تعالى عنها. قلت: وكيف يتخيل في أحد من السلف المنع من زيارة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى، فضلا عن زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم؟ وما روي عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أنه قال «ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يكره إتيانه» محمول على تقدير صحته على ما سيأتي عن مالك من كراهة الوقوف بالقبر لمن لم يقدم من سفر. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا قبري عيدا» قال الحافظ المنذري: يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن لا يهمل حتى لا يزار إلا في بعض الأوقات كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين، قال: ويؤيده قوله «لا تجعلوا بيوتكم قبورا» أي لا تتركوا الصلاة فيها حتى تجعلوها كالقبور التي لا يصلى فيها، قال السبكي: ويحتمل أن يكون المراد لا تتخذوا له وقتا مخصوصا لا تكون الزيارة إلا فيه، ويحتمل أيضا أن يراد لا تتخذوه كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد، بل لا يأتي إلا للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه. قلت: وقد كانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته للزيارة، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم حي الدارين، بل روى أحمد بإسنادين أحدهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 برجال الصحيح عن يعلى بن مرة من حديث قال فيه: ثم سرنا فنزلنا منزلا، فنام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له، فقال: هي شجرة استأذنت ربها عز وجل أن تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها. فإذا كان هذا حال شجرة فكيف بالمؤمن المأمور بتعظيم هذا النبي الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم الممتلئ بالشوق إليه؟ وحديث حنين الجذع تقدم ذكره في محله. وقال القاضي ابن كج من أصحابنا: إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فعندي يلزمه الوفاء وجها واحدا، وإذا نذر أن يزور قبر غيره ففيه وجهان. قال السبكي: لم ير لغيره من أصحابنا خلافه، والقطع بذلك هو الحق؛ للأدلة الخاصة في ذلك، ومن يشترط في النذر أن يكون مما وجب جنسه بالشرع ويقول «إن الاعتكاف كذلك؛ لوجوب الوقوف» فقد يقول: إن زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب جنسها وهي الهجرة إليه في حياته. ووجه الخلاف في قبر غيره تشبيهه بزيارة القادمين وإفساد السلام ونحو ذلك مما لم يوضع قربة مقصودة وإن كان قربة من حيث ترغيب الشرع فيه لعموم فائدته، وعلى هذا يكون الأصح لزومه بالنذر كما في تلك المسائل. وقال العبدي من المالكية في شرح الرسالة: وأما النذر للمشي إلى المسجد لحرام والمشي إلى مكة فله أصل في الشرع وهو الحج والعمرة، والمشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس، وليس عنده حج ولا عمرة، فإذا نذر المشي إلى هذه الثلاثة لزمه، فالكعبة متفق عليها، ويختلف أصحابنا وغيرهم في المسجدين الآخرين، قال السبكي: والخلاف الذي أشار إليه في نذر إتيان المسجدين الآخرين لا في الزيارة. وفي كتاب تهذيب الطالب لعبد الحق: رأيت في بعض المسائل التي سئل عنها الشيخ أبو محمد بن أبي زيد، قيل له في رجل استؤجر بمال ليحج به وشرطوا عليه الزيارة، فلم يستطع تلك السنة أن يزور لعذر منعه من ذلك. قال: يردّ من الأجرة بقدر مسافة الزيارة، قال الحاكي لذلك عنه: وقال غيره من شيوخنا: عليه أن يرجع ثانية حتى يزور، وقال ابن عبد الحق: انظر، إن استؤجر للحج لسنة بعينها فهاهنا يسقط من الأجرة ما يخص الزيارة، وإن استؤجر على حجة مضمونة في ذمته فهاهنا يرجع ويزور، وقد اتفق النقلان، قال السبكي: وهذا فرع حسن، والذي ذكره أصحابنا أن الاستئجار على الزيارة لا يصح؛ لأنه عمل غير مضبوط ولا مقدر بشرع، والجعالة إن وقعت على نفس الوقوف لم يصح أيضا؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 لأن ذلك مما لا يصح فيه النيابة عن الغير، وإن وقعت الجعالة على الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم كانت صحيحة؛ لأن الدعاء مما يصح النيابة فيه، والجهل بالدعاء فيه لا يبطلها، قاله الماوردي في الحاوي. قال السبكي: وبقي قسم ثالث لم يذكره، وهو إبلاغ السلام، ولا شك في جواز الإجارة والجعالة عليه كما كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يفعل، وأن الظاهر أن مراد المالكية هذا، وإلا فمجرد الوقوف من الأجير لا يحصل للمستأجر غرضا، انتهى. وذكر الديلمي في التقفية: أن حاصل ما في مسألة الاستئجار للزيارة ثلاثة أوجه للصحاب: أصحها فيما حكاه ابن سراقة في مختصره جواز ذلك، واختاروه الإمام محمد بن أبي بكر الأصبحي صاحب الإيضاح والمفتاح وأفتى به، والثاني لا يجوز، وبه قطع الماوردي، قال: لأنه عمل غير مضبوط، والثالث وبه قال الإمام عليّ بن قاسم الحكمي، واختاره صاحب الأصبحي أنه يا بني على ما إذا حلف لا يكلم فلانا فكاتبه أو راسله، والصحيح عند الأكثرين أنه لا يحنث، فلا يصح الاستئجار، وإن قلنا يحنث صح الاستئجار. قلت: وهذا البناء ضعيف؛ لأن مبنى الأيمان على العرف، وأما ذلك فقربة مقصودة كما أن المكاتبة والمراسلة يحصل بهما التودد والصّلة، وإن لم يسم كلاما، والله سبحانه وتعالى أعلم. الفصل الثالث في توسّل الزائر، وتشفعه به صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ربه تعالى، واستقباله صلى الله عليه وسلم في سلامه وتوسله ودعائه. اعلم أن الاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم وبجاهه وبركته إلى ربه تعالى من فعل الأنبياء والمرسلين، وسير السلف الصالحين، واقع في كل حال، قبل خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم وبعد خلقه، في حياته الدنيوية ومدة البرزخ وعرصات القيامة. الحال الأول: ورد فيه آثار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولنقتصر على ما رواه جماعة منهم الحاكم وصحح إسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحبّ الخلق إليك، فقال الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 تعالى: صدقت يا آدم إنه لأحبّ الخلق إليّ، إذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك» رواه الطبراني وزاد «وهو آخر الأنبياء من ذريتك» . قال السبكي: وإذا جاز السؤال بالأعمال كما في حديث الغاز الصحيح وهي مخلوقة فالسؤال بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أولى، وفي العادة أن من له عند شخص قدر فتوسل به إليه في غيبته فإنه يجيب إكراما للمتوسّل به، وقد يكون ذكر المحبوب أو المعظم سببا للإجابة، ولا فرق في هذا بين التعبير بالتوسل أو الاستغاثة أو التشفع أو التوجه، ومعناه التوجه به في الحاجة، وقد يتوسل بمن له جاء إلى من هو أعلى منه. الحال الثاني: التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد خلقه في مدة حياته في الدنيا. منه ما رواه جماعة منهم النسائي والترمذي في الدعوات من جامعه عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهم شفعه فيّ. قال الترمذي. حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وصححه البيهقي، وزاد: فقام وقد أبصر، وفي رواية: ففعل الرجل فبرأ. الحال الثالث: التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته، روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف المتقدم أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في حاجة له، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له ابن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن تقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان، فجاءه البواب حتى أخذ بيده، فأدخل على عثمان رضي الله تعالى عنه، فأجلسه معه على الطّنفسة، فقال: حاجتك، فذكر حاجته وقضاها له ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي ابن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته فيّ، فقال ابن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت دعوت أو تصبر، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال له النبي صلى الله تعالى عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 وسلم: ائت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات، قال ابن حنيف فو الله ما تفرقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط، ورواه البيهقي من طريقين بنحوه. قال السبكي: والاحتجاج من هذا الأثر بفهم عثمان ومن حضره الذين هم كانوا أعلم بالله ورسوله وبفعلهم. قلت: وقد سبق في قبر فاطمة بنت أسد رضي الله تعالى عنها قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في دعائه إليها «بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي» وأن في سنده روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، وفيه دلالة ظاهرة للحال الثاني بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وكذا للحال الثالث، لقوله صلى الله عليه وسلم «الأنبياء الذين من قبلي» . وقد يكون التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة بمعنى طلب أن يدعو كما كان في حياته، وذلك فيما رواه البيهقي من طريق الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار، ورواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن مالك الدار، قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا رسول الله، استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام فقال: ائت عمر فاقرئه السلام وأخبره أنهم مسقون، وقل له: عليك الكيس الكيس، فأتى الرجل عمر رضي الله تعالى عنه فأخبره، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه ثم قال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه. وروى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ومحل الاستشهاد طلب الاستسقاء منه صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في البرزخ ودعاؤه لربه في هذه الحالة غير ممتنع، وعلمه بسؤال من يسأله قد ورد، فلا مانع من سؤال الاستسقاء وغيره منه كما كان في الدنيا. وسبق في الفصل الحادي والعشرين من الباب الرابع ما رواه أبو الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: فانظروا إلى قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فاجعلوا بينه كوّة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا الخبر المتقدم. وقد يكون التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم بطلب ذلك الأمر منه، بمعنى أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 صلى الله تعالى عليه وسلم قادر على التسبب فيه بسؤاله وشفاعته إلى ربه فيعود إلى طلب دعائه وإن اختلفت العبارة. ومنه قول القائل له: أسألك مرافقتك في الجنة الحديث، ولا يقصد به إلا كونه صلى الله تعالى عليه وسلم سببا وشافعا. الحال الرابع: التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم في عرصات القيامة فيشفع إلى ربه تعالى، وذلك مما قام الإجماع عليه وتواردت به الأخبار. وروى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أوحى الله إلى عيسى: يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركته من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا أني خلقت محمدا ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن. قلت: فكيف لا يستشفع، ولا يتوسل بمن له هذا المقام والجاه عند مولاه؟ بل يجوز التوسل بسائر الصالحين كما قاله السبكي، وإن نقل بعضهم عن ابن عبد السلام ما يقتضي أن سؤال الله بعظيم من خلقه ينبغي أن يكون مقصورا على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد روى ابن النعمان في مصباح الظلام قصة استسقاء عمر رضي الله تعالى عنه بالعباس عم رسول الله صلى الله عليه وتعالى وسلم نحو ما في الصحيح، وأن الحافظ أبا القاسم هبة الله بن الحسن رواها من طرق، وفي بعضها عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا قحط استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، ويقول: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فاسقنا، قال: فيسقون. وفي رواية له عن ابن عباس أن عمر رضي الله تعالى عنهم قال: اللهم إنا نستسقيك بعم نبيك صلى الله عليه وسلم، ونستشفع إليك بشيبته، فسقوا وفي ذلك يقول عباس بن عتبة بن أبي لهب: بعمي سقى الله الحجاز وأهله ... عشية يستسقي بشيبته عمر وروي أن العباس رضي الله تعالى عنه قال في دعائه: وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم. وقال عياض في الشفاء بسند جيد عن ابن حميد أحد الرواة عن مالك فيما يظهر قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدّب قوما فقال: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] الآية، ومدح قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الحجرات: 3] الآية، وذم قوما فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) الآية، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله تعالى وسلم؟ فقال: لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله تعالى قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [النساء: 64] الآية. فانظر هذا الكلام من مالك، وما اشتمل عليه من أمر الزيارة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم واستقباله عند الدعاء، وحسن الأدب التام معه. وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب: باب زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وذكر آداب الزيارة، وقال: ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته، ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره، وذكر كيفية السلام والدعاء. منه: اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك عليه السلام وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ الآية، وإني قد أتيت نبيك مستغفرا، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم، وذكر دعاء طويلا. وقال أبو منصور الكرماني من الحنفية: إن كان أحد أوصاك بتبليغ التسليم تقول: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان، يستشفع بك إلى ربك بالرحمة والمغفرة فاشفع له. وقال عياض: قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو، ويسلم ولا يمس القبر بيده، وفي رواية نقلها عياض عن المبسوط أنه قال: لا أرى أن يقف عند القبر يدعو، لكن يسلم ويمضي. قلت: وهي مخالفة أيضا لما تقدم في مناظرة المنصور لمالك، وكذا لما نقله ابن الموار في الحج فيما جاء في الوداع، فإنه قال: قيل لمالك: فالذي يلتزم أترى له أن يتعلق بأستار الكعبة عند الوداع؟ قال: لا، ولكن يقف ويدعو، قيل له: وكذلك عند قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال: نعم، انتهى. وحمل بعضهم رواية المبسوط على من لم يؤمن منه سوء الأدب في دعائه عند القبر. نقل ابن يونس المالكي عن ابن حبيب في باب فرائض الحج ودخول المدينة أنه قال: ثم اقصد إذا قضيت ركعتيك إلى القبر من وجاه القبلة، فادن منه وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثن عليه وعليك السكينة والوقار، فإنه صلى الله عليه وسلم يسمع ويعلم وقوفك بين يديه، وتسلم على أبي بكر وعمر وتدعو لهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 وقال النووي في رؤوس المسائل: عن الحافظ أبي موسى الأصبهاني أنه روى عن مالك أنه قال: إذا أراد الرجل أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيستدبر القبلة، ويستقبل النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي عليه ويدعو. وقال إبراهيم الحربي في مناسكه: تولى ظهرك القبلة، وتستقبل وسطه- يعني القبر-. وروى أبو القاسم طلحة بن محمد في مسند أبي حنيفة بسنده عن أبي حنيفة قال: جاء أيوب السختياني فدنا من قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فاستدبر القبلة، وأقبل بوجهه إلى القبر، وبكى بكاء غير متباك. وقال المجد اللغوي: روى عن الإمام الجليل أبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول: قدم أيوب السختياني وأنا بالمدينة فقلت: لأنظرنّ ما يصنع، فجعل ظهره مما يلي القبلة ووجهه مما يلي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى غير متباك، فقام مقام رجل فقيه. قلت: فهذا يخالف ما ذكره أبو الليث السمرقندي في الفتاوى عطفا على حكاية حكاها الحسن بن زياد عن أبي حنيفة من أن المسلّم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستقبل القبلة، وقال السروجي الحنفي: يقف عندنا مستقبل القبلة، قال الكرماني الحنفي منهم: ويقف عند رأسه ويكون وقوفه بين المنبر والقبر مستقبل القبلة. وعن أصحاب الشافعي وغيره: يقف وظهره إلى القبلة ووجهه إلى الحظيرة، وهو قول ابن حنبل، انتهى. وقال محقق الحنفية الكمال بن الهمام: إن ما نقل عن أبي الليث من أنه يقف مستقبل القبلة مردود بما روى أبو حنيفة في مسنده عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: من السنة أن تأتي قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل القبلة، وتجعل ظهرك إلى القبلة، وتستقبل القبر بوجهك، ثم تقول: السلام عليك أيها النبي الكريم ورحمة الله وبركاته. وقال ابن جماعة في منسكه الكبير: ومذهب الحنفية أنه يقف للسلام والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند الرأس المقدس بحيث يكون عن يساره، ويبعد عن الجدار قدر أربعة أذرع، ثم يدور إلى أن يقف قبالة الوجه المقدس مستدبر القبلة، فيسلم ويصلي عليه صلى الله عليه وسلم. وشذ الكرماني من الحنفية فقال: إنه يقف للسلام عليه صلى الله عليه وسلم مستدبر القبر المقدس مستقبل القبلة، وتبعه بعضهم، وليس بشيء، فاعتمد على ما نقلته، انتهى. واعتمد السبكي ما تقدم من نسبة ما قاله الكرماني للحنفية، قال: واستدلوا بأن ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 جمع بين العبارتين، قال: وقول أكثر العلماء هو الأحسن: فإن الميت يعامل معاملة الحي، والحي يسلم عليه مستقبلا، فكذلك الميت، وهذا لا ينبغي أن يتردد فيه، انتهى. وذكر المطري أن السلف كانوا إذا أرادوا السلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل إدخال الحجرات في المسجد وقفوا في الروضة مستقبلين السارية التي فيها الصندوق الخشب، أي لكونها في جهة الرأس الشريف، مستدبرين الروضة وأسطوان التوبة. وتقدم من رواية يحيى عن زين العابدين علي بن الحسين أنه كان يفعل نحو ذلك، وروى يحيى بسند جيد عن أبي علقمة الغروي الكبير قال: كان الناس قبل أن يدخل البيت في المسجد يقفون على باب البيت يسلمون. قلت: وذلك لتعذر استقبال الوجه الشريف حينئذ، ولذا قال المطري: فلما أدخل بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد وأدخلت حجرات أزواجه رضوان الله عليهن وقف الناس مما يلي وجه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، واستدبروا القبلة للسلام عليه، فاستدبار القبلة في الحالة مستحب كما في خطبة الجمعة والعيدين وسائر الخطب المشروعة كما قاله ابن عساكر في التحفة. وروى ابن زبالة عن سلمة بن وردان قال: رأيت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما إذا سلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي فيقوم أمامه. وفي كلام أصحابنا أن الزائر يستقبل الوجه الشريف في السلام والدعاء والتوسل، ثم يقف بعد ذلك مستقبل القبلة والقبر عن يسار والمنبر عن يمينه فيدعو أيضا كما سنشير إليه. خاتمة: في نبذ مما وقع لمن استغاث بالنبي ص أو طلب منه شيئا عند قبره، فأعطى مطلوبه ونال مرغوبه، مما ذكره الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابة «مصباح الظلام، في المستغيثين بخير الأنام» . فمن ذلك ما قال: اتفق الجماعة من علماء سلف هذه الأمة من أئمة المحدّثين والصوفية والعلماء بالله المحققين، قال محمد بن المنكدر: أودع رجل أبى ثمانين دينارا وخرج للجهاد، وقال لأبي: إن احتجت أنفقها إلى أن أعود، وأصاب الناس جهد من الغلاء، فأنفق أبي الدنانير، فقدم الرجل وطلب ماله، فقال له أبي: عد إليّ غدا، وبات في المسجد يلوذ بقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرة وبمنبره مرة، حتى كاد أن يصبح، يستغيث بقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فبينما هو كذلك وإذا بشخص في الظلام يقول: دونكها يا أبا محمد، فمد أبي يده فإذا هو بصرّة فيها ثمانون دينارا، فلما أصبح جاء الرجل فدفعها إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 وقال الإمام أبو بكر بن المقرئ: كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا على حالة، وأثّر فينا الجوع، وواصلنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرت قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت: يا رسول الله الجوع، وانصرفت، فقال لي أبو القاسم: اجلس، فإما أن يكون الرزق أو الموت، قال أبو بكر: فقمت أنا وأبو الشيخ والطبراني جالس ينظر في شيء، فحضر بالباب علوى، فدقّ ففتحنا له، فإذا معه غلامان مع كل واحد زنبيل فيه شيء كثير، فجلسنا وأكلنا وظننا أن الباقي يأخذه الغلام، فولى وترك عندنا الباقي، فلما فرغنا من الطعام قال العلوي: يا قوم أشكوتم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فأمرين أن أحمل بشيء إليكم. وقال ابن الجلاد: دخلت مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبي ناقة، فتقدمت إلى القبر وقلت: ضيفك، فغفوت فرأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأعطاني رغيفا، فأكلت نصفه، وانتبهت وبيدي النصف الآخر. وقال أبو الخير الأقطع: دخلت مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا بفاقة، فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقا، فتقدمت إلى القبر، وسلمت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر، وقلت: أنا ضيفك يا رسول الله، وتنحّيت ونمت خلف القبر، فرأيت في المنام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعلي بن أبي طالب بين يديه، فحركني عليّ وقال: قم، قد جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقمت إليه وقبلت بين عينيه، فدفع إليّ رغيفا، فأكلت نصفه، وانتبهت فإذا في يدي نصف رغيف. وقال أبو عبد الله محمد بن أبي زرعة الصوفي: سافرت مع أبي ومع أبي عبد الله بن خفيف إلى مكة، فأصابتنا فاقة شديدة، فدخلنا مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وبتنا طاوين، وكنت دون البلوغ، فكنت أجئ إلى أبي غير دفعة وأقول: أنا جائع، فأتى أبي الحظيرة وقال: يا رسول الله أنا ضيفك الليلة، وجلس على المراقبة، فلما كان بعد ساعة رفع رأسه وكان يبكي ساعة ويضحك ساعة، فسئل عنه فقال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فوضع في يدي دراهم، وفتح يده، فإذا فيها دراهم، وبارك الله فيها إلى أن رجعنا إلى شيراز، وكنا ننفق منها. وقال أحمد بن محمد الصوفي: تهت في البادية ثلاثة أشهر، فانسلخ جلدي، فدخلت المدينة، وجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وعلى صاحبيه ثم نمت فرأيته صلى الله عليه وسلم في النوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 فقال لي: يا أحمد، جئت؟ قلت: نعم، وأنا جائع وأنا في ضيافتك، قال: افتح كفيك، ففتحتهما فملأهما دراهم، فانتهت وهما مملوءتان، وقمت فاشتريت خبزا حواريا وفالوذجا، وأكلت، وقمت للوقت ودخلت البادية. وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه بسنده إلى أبي القاسم ثابت بن أحمد البغدادي، قال: إنه رأى رجلا بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم أذن للصبح عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فيه: الصلاة خير من النوم، فجاءه خادم من خدم المسجد فلطمه حين سمع ذلك، فبكى الرجل، وقال: يا رسول الله في حضرتك يفعل بي هذا الفعل؟ ففلج الخادم، وحمل إلى داره فمكث ثلاثة أيام ومات. قلت: والواقعة التي نقلها ابن النعمان عن أبي بكر المقرئ رواها ابن الجوزي في كتابه الوفاء بإسناده إلى أبي بكر المقري، وبقية الوقائع المذكورة ذكرها غيره أيضا. ومن ذلك ما ذكر ابن النعمان أنه سمعه ممن وقع له أو عنه بواسطة فقال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد يقول: كنت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ثلاثة من الفقراء فأصابتنا فاقة، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله ليس لنا شيء، ويكفينا ثلاثة أمداد من أي شيء كان، فتلقاني رجل فدفع إليّ ثلاثة أمداد من التمر الطيب. وسمعت الشريف أبا محمد عبد السلام بن عبد الرحمن الحسيني الفاسي يقول: أقمت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام لم أستطعم فيها، فأتيت عند منبره صلى الله عليه وسلم فركعت ركعتين وقلت: يا جدي جعت وأتمنى عليك ثردة، ثم غلبتني عيني فنمت، فبينا أنا نائم وإذا برجل يوقظني، فانتبهت فرأيت معه قدحا من خشب وفيه ثريد وسمن ولحم وأفاويه، فقال لي: كل، فقلت له: من أين هذا؟ فقال: إن صغاري لهم ثلاثة أيام يتمنون هذا الطعام، فلما كان اليوم فتح الله لي بشيء عملت به هذا، ثم نمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول: إن أحد إخوانك تمنى على هذا الطعام فأطعمه منه. وسمعت الشيخ أبا عبد الله محمد بن أبي الأمان يقول: كنت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم خلف محراب فاطمة رضي الله تعالى عنها، وكان الشريف مكثر القاسمي قائما خلف المحراب المذكور، فانتبه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعاد علينا متبسما، فقال له شمس الدين صواب خادم الضريح النبوي: فيم تبسمت؟ فقال: كانت بي فاقة، فخرجت من بيتي فأتيت بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها، فاستغثت بالنبي صلى الله عليه وسلم وقلت: إني جائع، فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني قدح لبن فشربت حتى رويت، وهذا هو فبصق اللبن من فيه في كفي، وشاهدناه من فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وسمعت عبد الله بن الحسن الدمياطي يقول: حكى لي الشيخ الصالح عبد القادر التنيسي بثغر دمياط قال: كنت أمشي على قاعدة الفقير، فدخلت إلى مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وشكوت له ضرري من الجوع، واشتهيت عليه الطعام من البر واللحم والتمر، وتقدمت بعد الزيارة للروضة فصليت فيها، وبت فيها، فإذا شخص يوقظني من النوم، فانتبهت ومضيت معه، وكان شابا جميلا خلقا وخلقا، فقدم إلى جفنة تريد وعليها شاة وأطباق من أنواع التمر صيحاني وغيره وخبزا كثيرا من جملته خبز أقراص سويق النبق، فأكلت فملأ لي جرابي لحما وخبزا وتمرا، وقال: كنت نائما بعد صلاة الضحى فرأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام وأمرني أن أفعل لك هذا، ودلّني عليك، وعرفني مكانك بالروضة، وقال لي: إنك اشتهيت هذا وأردته. وسمعت صديقي علي بن إبراهيم البوصيري يقول: سمعت عبد السلام بن أبي القاسم الصقلي يقول: حدثني رجل ثقة نسي اسمه، قال: كنت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لي شيء، فضعفت، فأتيت إلى الحجرة وقلت: يا سيد الأولين والآخرين، أنا رجل من أهل مصر ولي خمسة أشهر في جوارك، وقد ضعفت، فقلت: أسأل الله وأسألك يا رسول الله أن يسخر لي من يشبعني أو يخرجني، ثم دعوت عند الحجرة بدعوات، وجلست عند المنبر فإذا برجل قد دخل الحجرة فوقف يتكلم بكلام، ويقول: يا جداه يا جداه، ثم جاء إلي وقبض على يدي وقال لي: قم، فقمت وصحبته، فخرج بي من باب جبريل، وعدا إلى البقيع وخرج منه فإذا بخيمة مضروبة وجارية وعبد، فقال لهما: قوما فاصنعا لضيفكما عيشه فقام العبد وجمع الحطب وأوقد النار، وقامت الجارية وطحنت وصنعت ملة، وشاغلني بالحديث حتى أتت الجارية بالملة فقسمها نصفين وأتت الجارية بعكّة فيهما سمن فصبّ على الملة وأتت بتمر صيحاني فصنعها جيدا، وقال لي: كل، فأكلت شيئا قليلا، فصدرت، فقال لي: كل، فأكلت، ثم قال لي: كل، فقلت: يا سيدي لي أشهر لم آكل فيها حنطه، ولا أريد شيئا، فأخذ النصف الثاني وضم ما فضل مني من الملة وأتى بمزود وصاعين من تمر فوضعهما في المزود، وقال لي: ما اسمك؟ فقلت: فلان، فقال: بالله عليك لا تعد تشكو إلى جدي فإنه يعز عليه ذلك، ومن الساعة متى جعت يأتيك رزقك حتى يسبب الله لك من يخرجك، وقال للغلام: خذه وأوصله إلى حجرة جدي، فغدوت مع الغلام إلى البقيع، فقلت له: ارجع قد وصلت، فقال: يا سيدي الله الأحد ما أقدر أفارقك حتى أوصلك إلى الحجرة لئلا يعلم النبي صلى الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 تعالى عليه وسلم سيدي بذلك، فأوصلني إلى الحجرة، وودعني ورجع، فمكثت آكل من الذي أعطاني أربعة أيام، ثم جعت بعد ذلك، فإذا بالغلام قد أتاين بطعام، ثم لم أزل كذلك كلما جعت أتاني بطعام حتى سبب الله لي جماعة خرجت معهم إلى ينبع. وروى ابن النعمان أيضا بسنده إلى أبي العباس بن نفيس المقرئ الضرير قال: جعت بالمدينة ثلاثة أيام، فجئت إلى القبر وقلت: يا رسول الله، جعت، ثم نمت ضعيفا، فركضتني جارية برجلها، فقمت إليها فقالت: أعزم، فقمت معها إلى دارها، فقدمت إلي خبز برّ وتمرا وسمنا وقالت: كل يا أبا العباس، قد أمرني بهذا جدي صلى الله عليه وسلم، ومتى جعت فأت إلينا. قال أبو سليمان داود في مصنفه في الزيارة بعد روايته لذلك كله: إنه قد وقع في كثير مما ذكر وأمثاله أن الذي يأمره صلى الله عليه وسلم في ذلك إنما يكون من الذرية الشريفة، لا سيما إذا كان المتناول طعاما؛ لأن من تمام جميل أخلاق الكرام إذا سئلوا القرى البداءة بأنفسهم، ثم بمن يكون منهم، فاقتضى خلقه الكريم أن إعطاء سائل القرى يكون منه ومن ذريته الكريمة. قلت: والحكايات في هذا الباب كثيرة، بل وقع لي شيء منها: أني كنت بالمسجد النبوي عند قدوم الحاج المصري للزيارة، وفي يدي مفتاح الخلوة التي فيها كتبي بالمسجد: فمر بي بعض علماء المصريين ممن كان يقرأ على بعض مشايخي، فسلمت عليه، فسألني أن أمشي معه إلى الروضة الشريفة وأقف معه بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ففعلت، ثم رجعت فلم أجد المفتاح، وتطلبته في الأماكن التي مشيت إليها فلم أجده، وشق علي ذهابه في ذلك الوقت الضيق مع حاجتي إليه، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: يا سيدي يا رسول الله، ذهب مفتاح الخلوة، وأنا محتاج إليه وأريده من بابك، ثم رجعت فرأيت شخصا قاصدا الخلوة، فظننته بعض من أعرفه، فمشيت إليه، فلم أجده إياه، ووجدت صغيرا لا أعرفه بقرب الخلوة بيده المفتاح، فقلت له: من أين لك هذا؟ فقال: وجدته عند الوجه الشريف، فأخذته منه. ومن هذا النوع ما اتفق لي في سكناي تلك الخلوة في ابتداء الأمر وغير ذلك مما يطول ذكره. وأنشدت مرة بين يديه صلى الله عليه وسلم في قضية أوذيت فيها قصيدة أولها: يضام بحيكم يا عرب رامه ... نزيل أنتم صرتم مرامه ويعدو من أعاديه عليه ... عداة صار قصدهم اهتضامه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 وأنتم عز من ينمي إليكم ... ومن أبوابكم حاز احترامه وفي حرم بساحتسكم مقيم ... فلا يبغي العراق ولا شامه وحبكم تحكم في حشاه ... وحبكم لذا أضحى غرامه وليس له ملاذ أو نصير ... يجرد دون نصرته حسامه سواكم آل غالب الموالي ... حماة الجار إن لحقته ضامه ليوث الحرب إن مدت حراب ... غيوث المحل إن يخلب غمامه بحقكم وذاك أجل حقّ ... له انتصروا فأنتم من تهامه كرام مكرمون بخير رسل ... عظيم الجار موفيه ذمامه وهي طويلة تزيد على ستين بيتا، ومنها: له حرم به كرم مفاض ... لساكنه فقد حاز الكرامه به قد صار عندكم نزيلا ... ويرجو نصركم فيما أضامه جواركم عدت فيه الأعادي ... عليه إذ رأوا منه الإقامة بحضرتكم فلا يبغي انتقالا ... ولكن قد أطال لها التزامه وكادوه بما لم يخف عنكم ... ليقصوا عن عراصكم خيامه فأنجز لي رسول الله نصري ... لتهنأ لي بذا الحرم الإقامه ويكبت من عداتي شامتوهم ... وتعظم في قلوبهم الندامة فقد أملت جاهك يا ملاذي ... لذا ولكل هول في القيامة وحاشا أن تخيب لي رجاء ... وأنت الغوث من عرب برامه كريم إن أضيم له نزيل ... فنصر الله يقدمه أمامه ومن عاداته نصري وجبري ... وعادة مثله أبدا مدامه فرأيت عقب ذلك مناما يؤذن بالنصر العظيم، ثم رأيته في اليقظة، ولله الحمد والمنة. وقال الفقيه أبو محمد الإشبيلي في مؤلفه في فضل الحج: إنه نزل برجل من أهل غرناطة علة عجز عنها الأطباء وأيسوا من برتها، فكتب عنه الوزير أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال كتابا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسأله فيه الشفاء لدائه والبرء مما نزل به، وضمنه شعرا، وهو: كتاب وقيذ من زمانة مستشف ... بقبر رسول الله أحمد يستشفي لقد قدم قد قيّد الدهر خطوها ... فلم يستطع إلا الإشارة بالكف ولما رأى الزوار يبتدرونه ... وقد عاقه عن ظعنه عائق الضعف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 بكى أسفا واستودع الركب إذ غدا ... تحية صدق تفعم الركب بالعرف فيا خاتم الرسل الشفيع لربه ... دعاء مهيض خاشع القلب والطرف عتيقك عبد الله ناداك ضارعا ... وقد أخلص النجوى وأيقن بالعطف رجاك لضر أعجز الناس كشفه ... ليصدر داعيه بما جاء من كشف لرجل رمى فيها الزمان فقصرت ... خطاه عن الصف المقدم في الزحف وإني لأرجو أن تعود سوّية ... بقدرة من يحيي العظام ومن يشفي فأنت الذي نرجو حيا وميتا ... لصرف خطوب لا تريم إلى صرف عليك سلام الله عدة خلقه ... وما يقتضيه من مزيد ومن ضعف قال: فما هو إلا أن وصل الركب إلى المدينة، وقرئ على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هذا الشعر، وبرأ الرجل في مكانه، فلما قدم الذي استودعه إياه وجده كأنه لم يصبه ضر قط. الفصل الرابع في آداب الزيارة والمجاورة، وهي كثيرة منها الآداب المتعلقة بسفرها، وهي كما في سائر الأسفار: من الاستخارة، وتجديد التوبة، والخروج من المظالم، واستحلال المعاملين، والتوصية، وإرضاء من يتوجه إرضاؤه، وإطابة النفقة، والتوسعة في الزاد على نفسه ورفيقه وجماله، وعدم المشاركة فيه، وتوديع الأهل والإخوان والتماس أدعيتهم، وتوديع المنزل بركعتين، ويقرأ بعد السلام آية الكرسي ولإيلاف قريش، ثم يدعو ويسأل الإعانة والتوفيق في سائر أموره، ويقول: اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكابة المنظر وسوء المنقلب، اللهم اقبض لنا الأرض وهون علينا السفر، فإذا نهض من جلوسه قال: اللهم بك انتشرت، وإليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي، اللهم اكفني ما أهمني، وما أهتم له، وما أنت أعلم به مني، اللهم زودني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير حيثما توجهت. ويستحب أن يتصدق عند الخروج من منزله بشيء وإن قل، وأن يحرص على رفيق موافق، راغب في الخير، كاره للشر، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، إلى غير ذلك من آداب السفر. ومنها: إخلاص النية، وخلوص الطوية، فإنما الأعمال بالنيات، فينوي التقرب إلى الله تعالى بزيارة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 ويستحب أن ينوي مع ذلك التقرب بالمسافرة إلى مسجده صلى الله تعالى عليه وسلم، وشد الرحل إليه، والصلاة فيه، كما قاله أصحابنا منهم ابن الصلاح والنووي، قال ابن الصلاح: ولا يلزم من هذا خلل في زيارته على ما لا يخفى. ونقل شيخ الحنفية الكمال بن الهمام من مشايخهم أنه ينوي مع زيارة القبر زيارة المسجد، ثم قال: إن الأولى عنده تجريد النية لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، ثم إن حصل له إذا قدم زيارة المسجد أو يستفتح فضل الله في مرة أخرى ينويهما فيها؛ لأن ذلك زيادة تعظيمه وإجلاله صلى الله تعالى عليه وسلم، وليوافق ظاهر قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا تحمله حاجة إلا زيارتي» انتهى. وفيه نظر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حث أيضا على قصد مسجده، ففي امتثاله تعظيمه أيضا. وقوله «لا تحمله حاجة» أي لم يحث الشرع عليها، وقد لا يسمح له الزمان بزيارة المسجد، فليغتنم قصد ذلك مع الزيارة، بل ينوي أيضا الاعتكاف فيه ولو ساعة، وأن يعلّم فيه خيرا أو يتعلمه، وأن يذكر الله فيه ويذكر به. ويستحب إكثار الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، وختم القرآن إن تيسر، والصدقة على جيرانه صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما يستحب للزائر فعله؛ فينوي به التقرب أولا ليثاب على القصد، فنية المؤمن خير من عمله، وينوي اجتناب المعاصي والمكروهات حياء من الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. ومنها: أن يكون دائم الأشواق إلى زيارة الحبيب الشفيع كل عام بالوصول إلى ذلك الجناب الرفيع؛ فالشوق إلى لقائه وطلب الوصول إلى فنائه من أظهر علامات الإيمان. وأكثر وسائل الفوز يوم الفزع الأكبر بالأمن والأمان، وليزدد شوقا وصبابة وتوقا، وكلما ازداد دنوا ازداد غراما وحنوا. ومنها: أن يقول إذا خرج من بيته: بسم الله، وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إليك خرجت وأنت أخرجتني، اللهم سلمني وسلم مني، وردّني سالما في ديني كما أخرجتني، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضلّ، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ، عزّ جارك وجل ثناؤك وتبارك اسمك ولا إله غيرك، وكذا يقول الدعاء المستحب لقاصد المسجد. ومنها: الإكثار في المسير من الصلاة والتسليم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يستغرق أوقات فراغه في ذلك وغيره من القربات. ومنها: أن يتتبع ما في طريقه من المساجد والآثار المنسوبة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فيحيّيها بالزيارة، ويتبرك بالصلاة فيها، وقد استقصيناها فيما سبق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 ومنها: إذا دنا من حرم المدينة وشاهد أعلامها ورباها وآكامها فليستحضر وظائف الخضوع والخشوع مستبشرا بالهنا وبلوغ المنى، وإن كان على دابة حرّكها أو بعير أوضعه تباشرا بالمدينة، ولله در القائل: قرب الديار يزيد شوق الواله ... لا سيما إن لاح نور جماله أو بشّر الحادي بأن لاح النّقا ... وبدت على بعد رؤوس جباله فهناك عيل الصّبر من ذي صبوة ... وبدا الذي يخفيه من أحواله وليجتهد حينئذ في مزيد الصلاة والسلام، وترديد ذلك كلما دنا من الربا والأعلام. ولا بأس بالترجّل والمشي عند رؤية ذلك المحلّ الشريف والقرب منه، كما يفعله بعضهم؛ لأن وفد عبد القيس لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم نزلوا عن الرواحل، ولم ينكر عليهم، وتعظيمه بعد الوفاة كتعظيمه في الحياة. وقال أبو سليمان داود المالكي في الانتصار: إن ذلك يتأكد فعله لمن أمكنه من الرجال، وإنه يستحب تواضعا لله تعالى وإجلالا لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم. وحكى عياض في الشفا أن أبا الفضل الجوهري لما ورد المدينة زائرا وقرب من بيوتها ترجّل باكيا منشدا: ولمّا رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبّا نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلمّ به ركبا ومنها: إذا بلغ حرم المدينة الشريفة فليقل بعد الصلاة والتسليم: اللهم هذا حرم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي حرمته على لسانه، ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة مثلي ما هو في حرم البيت الحرام، فحرمني على النار، وآمنّي من عذابك يوم تبعث عبادك، وارزقني من بركاته ما رزقته أولياءك وأهل طاعتك، ووفقني لحسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات. ثم تشتغل بالصلاة والتسليم. وإن كان طريقه على ذي الحليفة فلا يجاوز المعرس حتى ينيخ به، وهو مستحب، كما قاله أبو بكر الخفاف في كتاب الأقسام والخصال والنووي وغيرهما. وقال صاحب الطراز من المالكية: من آداب الزائر الغسل، ولباس أنظف الثياب. وقال أبو عبد الله السامري الحنبلي في باب الزيارة من المستوعب: وإذا قدم مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم استحبّ له أن يغتسل لدخولها. وقال في الإحياء: وليغتسل قبل الدخول من بئر الحرة، وليتطيب، وليلبس أحسن ثيابه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وقال الكرماني من الحنفية: فإن لم يغتسل خارج المدينة فليغتسل بعد دخولها. وفي حديث قيس بن عاصم أنه لما قدم مع وفده أسرعوا هم بالدخول، وثبت هو حتى أزال مهنته وآثار سفره ولبس ثيابه، وجاء على تؤدة ووقار، ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فرضي له ذلك وأثنى عليه بقوله «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة» . وفي حديث المنذر بن ساوي التميمي أنه وفد من البحرين مع أناس، فذهبوا مع سلاحهم فسلموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووضع المنذر سلاحه ولبس ثيابا كانت معه ومسح لحيته بدهن، فأتى نبي الله صلى الله عليه وسلم الحديث. ويتجنب ما يفعله بعض الجهلة، من التجرد عن المخيط تشبها بحال الإحرام. ومنها: إذا شاهد القبة المنيفة، وشارف المدينة الشريفة، فيلزم الخشوع والخضوع مستحضرا عظمتها، وأنها البقعة التي اختارها الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وحبيبه وصفيه، ويمثل في نفسه مواقع أقدام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ترداده فيها، وأنه ما من موضع يطؤه إلا وهو موضع قدمه العزيزة، فلا يضع قدمه عليه إلا مع الهيبة والسكينة، متصوّرا خشوعه صلى الله تعالى عليه وسلم وسكينته في المشي وتعظيم الله عز وجل له حتى قرن ذكره بذكره وأحبط عمل من انتهك شيئا من حرمته، ولو برفع صوته فوق صوته، ويتأسف على فوت رؤيته في الدنيا، وأنه من رؤيته في الآخرة على خطر لسوء صنعه وقبح فعله، ثم يستغفر لذنوبه، ويلتزم سلوك سبيله، ليفوز بالإقبال عند اللقاء ويحظى بتحية المقبول من ذوي البقاء. ومنها: أن لا يخل بشيء مما أمكنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب عند انتهاك حرمة من حرمه أو تضييع شيء من حقوقه صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن من علامات المحبة غيرة المحبّ لمحبوبه، وأقوى الناس ديانة أعظمهم غيرة، وإذا خلا القلب من الغيرة فهو من المحبة أخلى، وإن زعم المحبة فهو كاذب. ومنها: أن يقول عند دخوله من باب البلد: بسم الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، حسبي الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا إليك، فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 وليحرص على ذلك كلما قصد المسجد؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مرفوعا أن من قال ذلك في مسيره إلى المسجد وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، ويقبل الله عليه بوجهه. ثم ليقو في قلبه شرف المدينة وأنها حوت أفضل بقاع الأرض بالإجماع، وأن بعض العلماء قال: إن المدينة أفضل أمكنة الدنيا. أرض مشى جبريل في عرصاتها ... والله شرّف أرضها وسماءها ومنها: أن يقدم صدقة بين يدي نجواه، ويبدأ بالمسجد الشريف قبل أن يقدم على أمر من الأمور، أو شيء هو إلى مباشرته في ذلك الوقت غير مضطر أو مضرور؛ فإذا شاهد المسجد النبوي والحرم الشريف المحمدي فليستحضر أنه آت مهبط أبي الفتوح جبريل، ومنزل أبي الغنائم ميكائيل، والموضع الذي خصه الله بالوحي والتنزيل، فليزدد خضوعا وخشوعا يليق بهذا المقام، ويقتضيه هذا المحلّ الذي ترتعد دونه الأقدام، ويجتهد في أن يوفى للمقام حقه من التعظيم والقيام. ومنها: ما قاله القاضي فضل الدين بن النصير الغوري من أن دخول الزائر من باب جبريل أفضل أيضا، أي لما سبق فيه عند ذكر الأبواب، وجرت عادة القادمين من ناحية باب السلام بالدخول منه، فإذا أراد الدخول فليفرغ قلبه، وليصف ضميره، ويقدم رجله اليمنى، ويقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبنوره القديم، من الشيطان الرجيم، بسم الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، رب وفّقني وسددني وأصلحني وأعنّي على ما يرضيك عني، ومنّ عليّ بحسن الأدب في هذه الحضرة الشريفة، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ولا يترك ذلك كلما دخل المسجد أو خرج منه، إلا أنه يقول عند خروجه: وافتح لي أبواب فضلك، بدل قوله «أبواب رحمتك» . ومنها: إذا صار في المسجد فلينو الاعتكاف مدة لبثه به وإن قلّ على مذهب الشافعي؛ ليحوز ما فيه من الفضل، ثم ليتوجه إلى الروضة المقدسة، وإن دخل من باب جبريل فليقصدها من خلف الحجرة الشريفة مع ملازمة الهيبة والوقار، وملابسة الخشية والانكسار، والخضوع والافتقار، ثم ليقف في مصلّى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إن كان خاليا، وإلا ففيما يلي المنبر من الروضة وإلا ففي غيرهما، فيصلي تحية المسجد ركعتين خفيفتين، قال الكرماني: يقرأ في الأولى بعد الفاتحة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 الثانية الإخلاص، فإن أقيمت مكتوبة أو خاف فوتها بدأ بها، وحصلت التحية بها، فإذا فرغ حمد الله، وأثنى عليه على ما منحه من هذه النعمة العظيمة، والمنة الجسيمة. قال الكرماني وصاحب الاختيار من الحنفية: إنه يسجد بعد الركعتين شكرا لله تعالى، ويبتهل إليه في أن يتمم له ما قصد من الزيارة مع القبول، وأن يهب له من مهمات الدارين نهاية السّول. ونقل الزين المراغي عن بعض مشايخه أن محل تقديم التحية على الزيارة إذا لم يكن مروره قبالة الوجه الشريف، فإن كان ذلك استحبت الزيارة أولا، مع أن بعض المالكية رخّص في تقديم الزيارة على الصلاة، وقال: كل ذلك واسع. والحجة في استحباب تقديم التحية ما نقله البرهان ابن فرحون عن ابن حبيب أنه قال في كتاب الصلاة: حدثني مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسلم عليه وهو بفناء المسجد، فقال: أدخلت المسجد فصليت فيه؟ قلت: لا، قال: فاذهب فادخل المسجد وصل فيه ثم ائت فسلم علي. وقال اللخمي في التبصرة في باب من جاء مكة ليلا: ويبتدئ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بتحية المسجد قبل أن يأتي القبر ويسلم، هذا قول مالك. وقال ابن حبيب: يقول إذا دخل: بسم الله، والسلام على رسول الله، يريد أن يبتدئ بالسلام من موضعه، ثم يركع، ولو كان دخوله من الباب الذي بناحية القبر ومروره عليه فوقف فسلم ثم عاد إلى موضع يصلي فيه لم يكن ضيقا، انتهى. قلت: وليس في كلام ابن حبيب مخالفة لما ذكره مالك؛ إذ مراده أن الداخل من باب المسجد يستحب له الصلاة عليه؛ لما روى ابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وليصل، وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم» ولأن ابن حبيب ذكر بعد ذلك صلاة التحية، ثم الوقوف بالقبر، والسلام، والله تعالى أعلم. ومنها: أن يتوجه بعد ذلك إلى القبر الكريم، مستعينا بالله تعالى في رعاية الأدب في هذا الموقف العظيم، فيقف بخشوع وخضوع تامين تجاه مسمار الفضة الذي بجدار الحجرة المتقدم بيانه في محله لجعله في موضع محاذاة الوجه الشريف، وربما منع باب المقصورة التي حول الحجرة الشريفة الواقف للزيارة خارجها من مشاهدة ذلك المسمار إلا بتأمل يشغل القلب ويذهب الخشوع فليقصد المصرعة الثانية من باب المقصورة القبلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 الذي على يمين مستقبل القبر الشريف، فإذا استقبلها كان محاذيا له، والزيارة من داخل المقصورة أولى؛ لأنه موقف السلف. والمنقول أن الزائر يقف على نحو أربعة أذرع من رأس القبر، وقال ابن عبد السلام: على نحو ثلاثة أذرع، وعلى كل حال فذلك من داخل المقصورة بلا شك. وقال ابن حبيب في الواضحة: واقصد القبر الشريف من وجاه القبلة وادن منه. وقال في الإحياء بعد بيان موقف الزائر بنحو ما قدمناه: فينبغي أن تقف بين يديه كما وصفنا، وتزوره ميتا كما كنت تزوره حيا، ولا تقرب من قبره إلا ما كنت تقرب من شخصه الكريم لو كان حيا، اه. ولينظر الزائر في حال وقوفه إلى أسفل ما يتقبل من جدار الحجرة الشريفة، ملتزما للحياء والأدب التام في ظاهره وباطنه، قال الكرماني من الحنفية: ويضع يمينه على شماله كما في الصلاة. وقال في الإحياء: واعلم أنه صلى الله عليه وسلم عالم بحضورك وقيامك وزيارتك، وأنه يبلغه سلامك وصلاتك، فمثل صورته الكريمة في خيالك، وأخطر عظيم رتبته في قلبك؛ فقد روى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله تعالى وكّل بقبره ملكا يبلغه السلام ممن يسلم عليه من أمته، هذا في حق من لم يحضر قبره، فكيف بمن فارق الوطن وقطع البوادي شوقا إليه واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاته مشاهدة غرته الكريمة؟ انتهى. ثم يسلم الزائر، ولا يرفع صوته ولا يخفيه، بل يقتصد فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك وأزواجك وأصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وجميع عباد الله الصالحين، جزالك الله عنا يا رسول الله أفضل ما جزى به نبيا ورسولا عن أمته، وصلّى عليك كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون أفضل وأكمل ما صلي على أحد من الخلق أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمّة، وجاهدت في الله حق جهاده، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون، اللهم صلّ على سيدنا محمد نبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آل سيدنا محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 وعلى آل إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. ومن عجز عن حفظ هذا أو ضاق الوقت عنه اقتصر على بعضه كما قاله النووي، قال: وأقله السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وغيره من السلف الاقتصار جدا، وعن مالك «يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» . ونقل البرهان ابن فرحون عن أبي سعيد الهندي من المالكية قال فيمن وقف بالقبر: ولا يقف عنده طويلا، ثم ذكر سلام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ثم قال: وهذه طريقة ابن عمر، وتبعه مالك في ترك تطويل القيام، واختار بعضهم التطويل في السلام، وعليه الأكثرون. وقال ابن حبيب فيما نقل عياض: ثم تقف بالقبر متواضعا متوافرا، فتصلي عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وتثني بما يحضرك، قال ابن فرحون: وقال ابن حبيب: يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، صلى الله عليك وسلم يا رسول الله أفضل وأزكى وأعلى وأنمى صلاة صلاها على أحد من أنبيائه وأصفيائه أشهد يا رسول الله أنك قد بلغت ما أرسلت به، ونصحت الأمة، وعبدت ربك حتى أتاك اليقين، وكنت كما نعتك الله في كتابه حيث قال لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] فصلوات الله وملائكته وجميع خلقه في سمواته وأرضه عليك يا رسول الله، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يا أبا بكر ويا عمر، جزاكما الله عن الإسلام وأهله أفضل ما جزى وزيري نبي على وزارته في حياته وعلى حسن خلافته إياه في أمته بعد وفاته؛ فقد كنتما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزيري صدق في حياته، وخلفتماه بالعدل والإحسان في أمته بعد وفاته، فجزاكما الله على ذلك مرافقته في جنته وإيانا معكم برحمته، انتهى. وذكر المطري والمجد تسليما يشتمل على أوصاف كثيرة، وأوصافه صلى الله تعالى عليه وسلم غير منحصرة، وهي شهيرة، والحال يضيق عن الاستقصاء؛ فلذلك اقتصرنا على ما قدمناه. وقال النووي عقب ما تقدم عنه: ثم إن كان قد أوصاه أحد بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان، أو فلان بن فلان يسلم عليك يا رسول الله، ونحوه من العبارات، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيصير تجاه أبي بكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 رضي الله تعالى عنه فيقول: السلام عليك يا أبا بكر صفيّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وثانيه في الغار، ورفيقه في الأسفار، جزالك الله عن أمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خير الجزاء، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيقول: السلام عليك يا عمر الفاروق، الذي أعز الله به الإسلام، جزاك الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء. هذا ما ذكره النووي وغيره من أصحابنا وغيرهم. ولعل ابن حبيب- حيث ذكر التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ضجيعيه جملة يرى اصطفاف القبور سواء كما هو إحدى الروايات المتقدمة. قال النووي وغيره: ثم يرجع الزائر إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فيتوسل به في حق نفسه، ويستشفع إلى ربه سبحانه وتعالى. قال: ومن أحسن ما يقول ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له، وسبق له ذكر في الفصل الثاني. قلت: وليجدد التوبة في ذلك الموقف، ويسأل الله تعالى أن يجعلها توبة نصوحا، ويستشفع به صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ربه في قبولها، ويكثر الاستغفار والتضرع بعد تلاوة قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إلى قوله رَحِيماً [النساء: 64] مع ما سبق في حكاية العتبي، ويقول: نحن وفدك يا رسول الله وزوّارك، جئناك لقضاء حقك، والتبرك بزيارتك، والاستشفاع بك إلى ربك تعالى، فإن الخطايا قد أثقلت ظهورنا، وأنت الشافع المشفع الموعود بالشفاعة العظمى والمقام المحمود، وقد جئناك ظالمين لأنفسنا، مستغفرين لذنوبنا، سائلين منك أن تستغفر لنا إلى ربك، فأنت نبينا وشفيعنا فاشفع لنا إلى ربك، واسأله أن يميتنا على سنتك ومحبتك، ويحشرنا في زمرتك، وأن يوردنا حوضك غير خزايا ولا نادمين. وروى يحيى الحسيني وغيره عن ابن أبي فديك قال: سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] صلى الله تعالى على محمد وسلم، وفي رواية: صلى الله عليك يا محمد، يقولها سبعين مرة، ناداه ملك، صلى الله عليك يا فلان، لم تسقط لك اليوم حاجة. قلت: فينبغي تقديم ذلك على الدعاء والتوسل، قال بعضهم: لكن الأولى أن يقول: صلى الله وسلم عليك يا رسول الله، وإن كانت الرواية «يا محمد» تأدبا؛ أي لأن من خصائصه صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا ينادى باسمه، بل يقال: يا رسول الله، يا نبي الله، ونحوه، والذي يظهر أن هذا في نداء لا يقترن به الصلاة والسلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 قال المجد: وروينا عن الأصمعي قال: وقف أعرابي مقابل قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: اللهم إن هذا حبيبك وأنا عبدك والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سرّ حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك، وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك وترضي عدوك وتهلك عبدك، اللهم إن العرب الكرام إذا مات فيهم سيد أعتقوا على قبره، وإن هذا سيد العالمين فأعتقني على قبره، قال الصمعي فقلت: يا أخا العرب إن الله قد غفر لك وأعتقك بحسن هذا السؤال. قال المجد: ويجلس إن طال القيام به، فيكثر من الصلاة والتسليم. ونقل في شرح المهذب عن كتاب آداب زيارة القبور لأبي موسى الأصفهاني أن الزائر بالخيار، إن شاء زار قائما، وإن شاء قعد كما يزور الرجل أخاه في الحياة، فربما جلس عنده وربما زار قائما ومارا، انتهى. قال المجد: ويأتي بأتم أنواع الصلاة وأكمل كيفياتها، والاختلاف في ذلك مشهور، قال: والذي اختاره لنفسي: اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه، الصلاة المأثورة، أي التي أخبر بها السائل عن كيفية الصلاة عليه: عدد ما خلقت وعدد ما أنت خالق، وزنة ما خلقت وزنة ما أنت خالق، وملء ما خلقت وملء ما أنت خالق، وملء سمواتك وملء أرضك، ومثل ذلك، وأضعاف ذلك، وعدد خلقك، وزنة عرشك، ومنتهى رحمتك، ومداد كلماتك، ومبلغ رضاك، وحتى ترضى، وعدد ما ذكرك به خلقك في جميع ما مضى، وعدد ما هم ذاكروك فيما بقي في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات ونسم ونفس ولمحة وطرفة من الأبد إلى الأبد أبد الدنيا والآخرة وأكثر من ذلك، لا ينقطع أوله ولا ينفد آخره، ثم يقول ذلك مرة أو ثلاث مرات، ثم يقول: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كذلك، ثم يتلو بين يدي سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما تيسر من القرآن المجيد، ويقصد الآي والسور الجامعة لصفات الإيمان ولمعاني التوحيد، انتهى. وقال النووي عقب ما تقدم عنه: ثم يتقدم يعني بعد فراغ الدعاء والتوسل قبالة الوجه الشريف إلى رأس القبر، فيقف بين القبر والأسطوانة التي هناك، ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويمجده، ويدعو لنفسه بما أهمه وما أحبه، ولوالديه، ولمن شاء من أقاربه وأشياخه وإخوانه وسائر المسلمين. وفي كتب الحنفية وغيرهم نحو هذا. وقال العز بن جماعة: وما ذكروه من العود إلى قبالة الوجه الشريف ومن التقدم إلى رأس القبر المقدس للدعاء عقب الزيارة لم ينقل عن فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين رحمهم الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 قلت: أما الدعاء والتوسل هناك فله أصل عنهم، والذي لم ينقل إنما هو هذا الترتيب المخصوص والظاهر أن المراد بذلك تأخير الدعاء عن السلام على الشيخين والجمع بين موقفي السلف: الأول الذي كان قبل إدخال الحجر، والثاني الذي كان بعده، وهو حسن، بل سبق أوائل سادس فصول الباب الخامس من رواية ابن شبة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين فرغ من دفن ابنه إبراهيم قال عند رأسه: السلام عليكم، وهو ظاهر في السلام من جهة الرأس. ومنها: أن يأتي المنبر الشريف، ويقف عنده، ويدعو الله تعالى، ويحمده على ما يسّر له، ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويسأل الله سبحانه وتعالى من الخير أجمع، ويستعيذ به، كما قاله ابن عساكر، زاد الأقشهري عقبه: كما كانت الصحابة تفعل. يشير إلى ما رواه عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد يأخذون برمانة المنبر الصلعاء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسكها بيده، ثم يستقبلون القبلة ويدعون. وفي الشفاء لعياض عن أبي قسيط والعتبي رحمهما الله: كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم إذا خلا المسجد حبسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون. وقال النووي عقب ما تقدم عنه: ثم يأتي الروضة فيكثر فيها من الدعاء والصلاة، ويقف عند القبر ويدعو. قلت: ويقف أيضا ويدعو عند أسطوان المهاجرين، ويتبرك بالصلاة عندها وكذا أسطوان أبي لبابة، وأسطوان المحرس، وأسطوان الوفود، وأسطوان التهجد بعد أن يسلم على فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها عند المحراب الذي في بيتها داخل المقصورة؛ للقول بدفنها هناك كما سبق. ومنها: أن يجتنب لمس الجدار، وتقبيله، والطواف به، والصلاة إليه، قال النووي: لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله تعالى عليه وسلم، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر، قاله الحليمي وغيره، قال: ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته، هذا هو الصواب، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء، انتهى. وفي الإحياء: مسّ المشاهد وتقبيلها عادة النصارى واليهود، وقال الأقشهري: قال الزعفراني في كتابه: وضع اليد على القبر ومسّه وتقبيله من البدع التي تنكر شرعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وروي أن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه رأى رجلا وضع يده على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فنهاه، وقال: ما كنا نعرف هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنكره مالك والشافعي وأحمد أشدّ الإنكار. وقال بعض العلماء: إنه إن قصد بوضع اليد مصافحة الميت يرجى أن لا يكون به حرج، ومتابعة الجمهور أحق، انتهى. وفي تحفة ابن عساكر: ليس من السنة أن يمس جدار القبر المقدس، ولا أن يقبّله، ولا يطوف به كما يفعله الجهال، بل يكره ذلك، ولا يجوز، والوقوف من بعد أقرب إلى الاحترام، ثم روى من طريق أبي نعيم قال: أنبأنا عبد الله بن جعفر بن فارس حدثنا أبو جعفر محمد بن عاصم حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله بن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يكره أن يكثر مس قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. قال البرهان بن فرحون بعد ذكره: وهذا تقييد لما تقدم، وهو عن ابن عمر في القبر نفسه، فالجدر الظاهرة أخف، إذا لم يكثر منه، قال: وهو دال على قرب موقف الزائر، ويفسر معنى الدنو الذي عبر به مالك، انتهى. وقال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل- قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يلمس ويتمسح به؟ قال: لا أعرف هذا، قلت: فالمنبر، قال: أما المنبر فنعم، قد جاء فيه شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه مسح المنبر، ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة، أي رمانة المنبر قبل احتراقه. ويروى عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا، فرأيته استحسن ذلك، قلت لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر، وقلت له: ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه، ويقومون ناحيته، ويسلمون، فقال أبو عبد الله: نعم، وهكذا كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعل ذلك، نقله ابن عبد الهادي عن تأليف ابن تيمية. وقال العز بن جماعة بعد ذكر ما سبق عن النووي: وقال السروجي الحنفي: لا يلصق بطنه بالجدار، ولا يمسه بيده، وقال عياض في الشفاء: ومن كتاب أحمد بن سعيد الهندي فيمن وقف بالقبر: لا يلصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا، وقال ابن قدامة من الحنابلة في المغني: ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يقبله، قال أحمد: ما أعرف هذا، قال الأثرم: رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 يمسون قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل يقومون من ناحيته فيسلمون، قال أبو عبد الله: وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعل ذلك، انتهى. قال العز: في كتاب العلل والسؤالات لعبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه رواية أبي علي بن الصوف عنه، قال عبد الله: سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبرك بمسه، ويقبله، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى، قال: لا بأس به، قال العز بن جماعة: وهذا يبطل ما نقل عن النووي من الإجماع. قلت: النووي لم يصرح بنقل الإجماع، لكن قوة كلامه تفهمه. وقال السبكي في الرد على ابن تيمية في مسألة الزيارة: إن عدم التمسّح بالقبر ليس مما قام الإجماع عليه؛ فقد روى أبو الحسين يحيى بن الحسين بن جعفر بن عبيد الله الحسيني في أخبار المدينة قال: حدثني عمر بن خالد حدثنا أبو نباتة عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: أقبل مروان بن الحكم. فإذا رجل ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فقال: نعم، إني لم آت الحجر، ولم آت اللّبن، إنما جئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله، قال المطلب: وذلك الرجل أبو أيوب الأنصاري. قال السبكي: وأبو نباتة يونس بن يحية، ومن فوقه ثقات، وعمر بن خالد لم أعرفه، فإن صح هذا الإسناد لم يكره مس جدار القبر، وإنما أردنا بذكره القدح في القطع بكراهة ذلك، انتهى. قلت: سبق في الفصل قبله أن أحمد رواه بأتم من ذلك عن عبد الملك بن عمرو وهو ثقة عن كثير بن زيد، وقد حكم السبكي بتوثيقه، فإنه الذي فوق أبى نباتة في إسناد يحيى، وقد وثقه جماعة، لكن ضعفه النسائي كما سبق. وتقدم أيضا أن بلالا رضي الله تعالى عنه لما قدم من الشام لزيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أتى القبر، فجعل يبكي عنده، ويمرغ وجهه عليه، وإسناده جيد كما سبق. وفي تحفة ابن عساكر من طريق طاهر بن يحيى الحسيني قال: حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لما رمس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها، فوقفت على قبره صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعت على عينيها وبكت، وأنشأت تقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا صبّت عليّ مصائب لو أنها ... صبّت على الأيام عدن لياليا ذكر الخطيب بن حملة أنّ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف، وأن بلالا رضي الله تعالى عنه وضع خديه عليه أيضا، ثم قال: ورأيت في كتاب السؤالات لعبد الله بن الإمام أحمد، وذكر ما تقدم عن ابن جماعة نقله عنه، ثم قال: ولا شك أن الاستغراق في المحبة يحمل على الإذن في ذلك، والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم، والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته، فأناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم بل يبادرون إليه، وأناس فيهم أنة يتأخرون، والكل محل خير، انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي فسبق في الأدب، وأما غيره فنقل عن أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقبره، فلم ير به بأسا، واستبعد بعض أتباعه صحته عنه. ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين. ونقل الطيب الناشري عن المحب الطبري أنه يجوز تقبيل القبر ومسه؟ قال: وعليه عمل العلماء الصالحين، وأنشد: لو رأينا لسليمى أثرا ... لسجدنا ألف ألف للأثر وقال آخر: أمرّ على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا ونقل بعضهم عن أبي خيثمة قال: حدثنا مصعب بن عبد الله حدثنا إسماعيل بن يعقوب التيمي قال: كان ابن المنكدر يجلس مع أصحابه، قال: وكان يصيبه الصمات، فكان يقوم كما هو يضع خده على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع، فعوتب في ذلك، فقال: إنه يصيا بني خطرة، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يأتي موضعا من المسجد في الصحن فيتمرغ فيه ويضطجع، فقبل له في ذلك، فقال: إني رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الموضع، أراه قال «في النوم» انتهى. ومنها: اجتناب الانحناء للقبر عند التسليم، قال ابن جماعة: قال بعض العلماء: إنه من البدع، ويظن من لا علم له أنه من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض للقبر، لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعه، ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم، قال: وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف، واستشهد لذلك بالشعر، انتهى. قلت: وقد شاهدت بعض جهال القضاة فعل ذلك بحضرة الملأ، وزاد عليه وضع الجبهة كهيئة الساجد، فتبعه العوام، ولا قوة إلا بالله. ومنها: أن لا يمر بقبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقف ويسلم عليه، سواء مر من داخل المسجد أو من خارجه، ويكثر من قصده وزيارته. روى الأقشهري بسنده لابن أبي الدنيا قال: حدثني الحسين بن عبد العزيز قال: حدثنا الحارث بن سليمان قال: أنبأنا ابن وهب قال: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد أن أبا حازم حدثه أن رجلا أتاه فحدثه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي حازم: أنت المارّ بي معرضا لا تقف تسلم عليّ؟ فلم يدع ذلك أبو حازم منذ بلغته هذه الرؤيا. وفي كتاب الجامع من البيان لابن رشد شرح العتبية، ما لفظه: وسئل- يعني مالكا عن المار بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أترى أن يسلم كلما مر؟ قال: نعم، أرى ذلك، عليه أن يسلم كلما مر به، وقد أكثر الناس من ذلك، فإذا لم يمر به فلا أرى ذلك، وذكر حديث «اللهم لا تجعل قبري وثنا» الحديث. قال: فقد أكثر الناس من هذا، فإذا لم يمر عليه فهو في سعة من ذلك، قال: وسئل عن الغريب يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم، فقال: ما هذا من الأمر، ولكن إذا أراد الخروج، قال ابن رشد: المعنى في ذلك أنه يلزمه أن يسلم عليه كلما مر به متى ما مر، وليس عليه أن يأتي ليسلم عليه إلا للوداع عند الخروج، ويكره أن يكثر المرور به، والسلام عليه، والإتيان كل يوم إليه؛ لئلا يجعل القبر بفعله ذلك كالمسجد الذي يؤتى كل يوم للصلاة فيه، وقد نهى صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك بقوله «اللهم لا تجعل قبري وثنا» الحديث. وقال عياض في الشفاء: قال مالك في كتاب محمد: ويسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دخل وخرج، يعني في المدينة، وفيما بين ذلك، وقال مالك في المبسوط: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء، وقال فيه أيضا: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فيصلي عليه، ويدعو له ولأبي بكر وعمر رضي الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 تعالى عنهما، فقيل له: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه ويفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة أو المرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. قال الباجي: ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم. قال السبكي: والمتلخّص من مذهب مالك أن الزيارة قربة، ولكنه على عادته في سد الذرائع يكره منها الإكثار الذي قد يفضي إلى محذور، والمذاهب الثلاثة يقولون باستحبابها واستحباب الإكثار منها؛ لأن الإكثار من الخير خير. وقال النووي في زيارة القبور من الأذكار: ويستحب الإكثار من الزيارة، وأن يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل. وسبق في الفصل العشرين من الباب الرابع قول عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في خبر هدم جدار الحجرة: كنت أخرج كل ليلة من آخر الليل حتى آتي المسجد فأبدأ بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم عليه، ثم آتي مصلاي فأجلس به حتى أصلي الصبح. وروى ابن زبالة عن عبد العزيز ببن محمد قال: رأيت رجلا من أهل المدينة يقال له محمد بن كيسان يأتي إذا صلّى العصر من يوم الجمعة- ونحن جلوس مع ربيعة بن أبي عبد الرحمن فيقوم عند القبر فيسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ويدعو حتى يمسي، فيقول جلساء ربيعة: انظروا إلى ما يصنع هذا؟ فيقول: دعوه فإنما للمرء ما نوى. وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال ابن عجلان لبعض الأمراء: إنك تطيل ثيابك، وتطيل الخطبة، وتكثر المجئ إلى قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلو كان فيه العجلان ما أتيته. ومنها: إكثار الصلاة والتسليم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإيثار ذلك على سائر الأذكار، ما دام هناك. ومنها: اغتنام ما أمكن من الصيام ولو يسيرا من الأيام. ومنها: الحرص على فعل الصلوات الخمس بالمسجد النبوي في الجماعة، والإكثار من النافلة فيه، مع تحري المسجد الذي كان في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم، إلا أن يكون الصفّ الأول خارجه فهو أولى، وإن أمكنه ملازمة المسجد، وأن لا يفارقه إلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 لضرورة، أو مصلحة راجحة، فليغتنم ذلك، وكلما دخله فليجدد نية الاعتكاف، ولله در القائل: تمتع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصّل ما استطعت من ادخار قال ابن عساكر: وليحرص على المبيت في المسجد ولو ليلة يحييها بالذكر والدعاء وتلاوة القرآن والتضرّع إلى الله تعالى والحمد والشكر على ما أعطاه، وعلى أن يختم القرآن العزيز في المسجد لأثر فيه، اه. وقال أبو مخلد: كانوا يحبون لمن أتى المساجد الثلاثة أن يختم فيها القرآن قبل أن يخرج: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس، وأخرجه سعيد بن منصور. ومنها: أن لا يستدبر القبر المقدس في صلاة ولا في غيرها من الأحوال، ويلتزم الآداب شريعة وحقيقة في الأقوال والأفعال. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: وإذا أردت صلاة فلا تجعل حجرته صلى الله تعالى عليه وسلم وراء ظهرك، ولا بين يديك، قال: والأدب معه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته مثله في حياته، فما كنت صانعه في حياته فاصنعه بعد وفاته: من احترامه، والإطراق بين يديه، وترك الخصام، وترك الخوض فيما لا ينبغي أن يخوض فيه في مجلسه، فإن أبيت فانصرافك خير من بقائك. ومنها: أن يجتنب ما يفعله جهلة العوام من التقرب بأكل التمر الصيحاني في المسجد وإلقاء النوى به. قال النووي وغيره: من جهالات العمة وبدعتهم تقر بهم بأكل التمر الصيحاني في الروضة الكريمة، وقطعهم شعورهم، ورميها في القنديل الكبير، وهذا من المنكرات المستشنعة. ومنها: إدامة النظر إلى الحجرة الشريفة؛ فإنه عبادة قياسا على الكعبة المعظمة كما قاله المجد، قال: فينبغي لمن كان بالمدينة إدامة ذلك إذا كان في المسجد: وإدامة النظر إلى القبة الشريفة إذا كان خارجا مع المهابة والحضور. ومنها: ما قاله النووي أنه يستحب الخروج كل يوم إلى البقيع، ويكون ذلك بعد السلام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا انتهى إلى البقيع قال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، هذا محصل ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 ورد، زاد القاضي حسين: اللهم رب هذه الأجساد البالية والعظام النّخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أدخل عليها روحا منك وسلاما مني، اللهم برد مضاجعهم عليهم واغفر لهم. ثم يزور قبور السّلف الظاهرة بالبقيع، كقبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعثمان والعباس والحسن بن علي وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وغيرهم، رضي تعالى عنهم، ويختم بصفية عمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، انتهى. وقال العلامة فضل الدين بن القاضي نصير الدين الغوري: وإذا أراد زيارة البقيع يخرج من باب البلد، ويأتي قبة العباس بن عبد المطلب والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم، وذكر بعده إتيان بقية القبور، ثم قال: ثم يختم زيارة البقيع بالسلام على صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. فاقتضى سياقه البداءة بسيدنا العباس ومن عنده من الحسن وغيره رضي الله تعالى عنهم، ولعله لكون مشهدهم أول المشاهد التي يلقاها الخارج من البلد، فإنه يكون على يمينه، فمجاوزتهم من غير سلام عليهم جفوة، فإذا سلك تلك الطريق سلم على من يمر به بعدهم، فيكون مروره على صفية رضي الله تعالى عنها في رجوعه فيختم بها. وقال البرهان بن فرحون: أول المشاهد وأولاها بالتقديم مشهد سيدنا أمير المؤمنين عثمان بن عفان؛ لأنه أفضل الناس بعد أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم، قال: واختار بعضهم البداءة بقبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى. فتلخّص فيمن يبدأ به ثلاثة آراء، وسبق أن مشهد سيدنا إسماعيل بن جعفر الصادق غربي مشهد العباس، إلا أنه صار داخل سور المدينة، ومشاهد البقيع كلها خارج السور، فليختم الزائر به إذا رجع، ويذهب إلى زيارة مشهد سيدنا مالك بن سنان ومشهد النفس الزكية فإنهما ليسا بالبقيع كما سبق. ومنها: أنه يستحب أن يأتي قبور الشهداء بأحد، قال النووي وغيره: وأفضلها يوم الخميس. قلت: ولم يظهر لي وجه تخصيصه، ثم رأيت الغزالي في الإحياء في زيارة القبور قال: كان محمد بن واسع يزور يوم الجمعة، فقيل له: لو أخرت إلى يوم الإثنين، فقال: بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبله ويوما بعده، انتهى. فلما كان المطلوب في يوم الجمعة التبكير للجمعة وقبور الشهداء بعيدة، والمطلوب في يوم السبت الذهاب لمسجد قباء كما سيأتي، فاختص الخميس بذلك، ويبدأ بحمزة عم رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 صلى الله تعالى عليه وسلم، ويبكر بعد صلاة الصبح في مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى يعود ويدرك جماعة الظهر فيه، قال الكمال بن الهمام محقق الحنفية: ويزور جبل أحد نفسه؛ ففي الصحيح «أحد جبل يحبنا ونحبه» . ومنها: أنه يستحب استحبابا متأكدا كما قال النووي- أن يأتي مسجد قباء، وفي يوم السبت أولى، ناويا التقرب بزيارته والصلاة فيه، وإذا قصد إتيانه توضأ وذهب، ولا يؤخر الوضوء حتى يصل إليه. ومنها: أن يأتي بقية المساجد والآثار المنسوبة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة مما علمت عينه أو جهته، وكذا الآبار التي شرب منها صلى الله تعالى عليه وسلم أو توضأ أو اغتسل، فيتبرك بمائها، صرح جماعة من الشافعية وغيرهم باستحباب ذلك كله، وقد كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يتحرّى الصلاة والنزول والمرور حيث حل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونزل وغير ذلك. ومأخذ ما نقل عن مالك مما يخالف هذا سدّا للذريعة، تبعا لعمر رضي الله تعالى عنهما، ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن المعرور بن سويد أنه خرج مع عمر رضي الله تعالى عنه في حجة حجها، فلما رجع من حجّته رأى الناس ابتدروا المسجد، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار الأنبياء بيعا، من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل، ومن لم تعرض له فليمض. وقال عياض في الشفاء: ومن إعظامه صلى الله تعالى عليه وسلم وإكباره إعظام جميع أشيائه، وإكرام جميع مشاهده وأمكنته ومعاهده، وما لمسه صلى الله تعالى عليه وسلم بيده أو عرف به، انتهى. قلت: ذلك بزيارة تلك المشاهد والتبرك بها، ولله در القائل: خليليّ هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما، ثم انزلا حيث حلّت ومسّا ترابا طال ما مسّ جلدها ... وظلّا وبيتا حيث باتت وظلّت ولا تيأسا أن يمحو الله عنكما ... ذنوبا إذا صلّيتما حيث صلّت وذكر خليل المالكي في منسكه استحباب زيارة البقيع، ومسجد قباء، وغير ذلك، ثم قال: وهذا إنما يكون فيمن كثرت إقامته بالمدينة، وإلا فالمقام عنده عليه الصلاة والسلام أحسن؛ ليغتنم مشاهداته صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد قال ابن أبي جمرة: لما دخلت مسجد المدينة ما جلست إلا الجلوس في الصلاة، وما زلت واقفا هناك حتى رحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 الركب، ولم أخرج إلى بقيع ولا غيره، ولم أر غيره صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد كان خطر لي أن أخرج إلى البقيع، فقلت: إلى أين أذهب؟ هذا باب الله تعالى مفتوح للسائلين والمتضرعين، وليس ثمّ من يقصد مثله. قلت: والحق أن من منح دوام الحضور والشهود وعدم الملل فاستمراره هناك أولى وأعلى، وإلا فتنقّله في تلك البقاع أولى، وبه يستجلب النشاط ودفع الملل، ولذلك نوّع الله لعباده الطاعات، والله أعلم. ومنها: أن يلاحظ بعقله مدة إقامته بالمدينة جلالتها، وأنها البلدة التي اختارها الله لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم في الحياة وبعد الوفاة، ويستحضر تردّده صلى الله تعالى عليه وسلم فيها، ومشيه في بقاعها، ومحبته لها، وتردد جبرائيل عليه السلام فيها بالوحي، فيحبها وسائر منازلها وأوديتها وجبالها، سيما ما أثبت له صلى الله تعالى عليه وسلم المحبة من ذلك. ومنها: أن لا يركب بها دابة مهما قدر على المشي، بل يؤثره على الركوب، كما رأى ذلك مالك رحمه الله تعالى؛ فإنه كان لا يركب بها دابة، ويقول: أخشى أن يقع حافرها في محل مشي فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وفي رواية عن الشافعي رحمه الله تعالى قال: رأيت على باب مالك كراعا من أفراس خراسان وبغال مصر، ما رأيت أحسن منها، فقلت له: ما أحسنها فقال: هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله، فقلت: دع لنفسك منها دابة تركبها، فقال: أستحيي من الله أن أطأ تربة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحافر دابة. ومنها: محبة أهل المدينة وسكانها، ومحبة مجاوريها وقطّانها، وتعظيمهم، سيما العلماء والصلحاء والأشراف والفقراء وسدنة الحجرة وخدّامها، قال المجد: وهلم جرا إلى عوامها وخواصها، وكبارها وصغارها، وزراعها وجرافها، وباديتها وحاضرتها، كل منهم على حسب حاله ورتبته وقرابته ودنوه من قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتربته، وتعظيمه لشعار دينه وشريعته، وقيامه بمصالح أمته ومناجح ملته، إلى من لا يبقى له مزية سوى كونه في هذا المحل العظيم، وجارا لهذا النبي الكريم، صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخلق بها مزية أن يجلّ صاحبها، قال: وهؤلاء يثبت لهم حق الجوار، وإن عظمت إساءتهم فلا يسلب عنهم اسم الجار، وقد عمّم صلى الله عليه وسلم في قوله «مازال يوصيني جبرائيل بالجار» ولم يخصص جارا دون جار، قال: وكل ما احتج به محتج من رمي عوامهم بالابتداع وترك الاتباع فإنه إذا ثبت في شخص مثلا لا يترك إكرامه، فإنه لا يخرج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 إكرامه عن حكم الجار ولو جار، ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيف دار، بل يرجى له أن يختم له بالحسنى، ويمنح ببركة هذا القرب الصوريّ قرب المعنى. فيا ساكني أكناف طيبة كلّكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب ومنها: أن يتصدق عليهم بما أمكنه، فإنه مستحب كما ذكره النووي وابن عساكر وغيرهما، وسبق ما يقتضي مضاعفة الصدقة بالمدينة، قال النووي في شرح المهذب: ويخص أقاربه صلى الله عليه وسلم بمزيد؛ لحديث زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أذكّركم الله في أهل بيتي» رواه مسلم، وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه قال: ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته، رواه البخاري. ومنها: المجاورة بها فإنها مستحبة لمن قدر مع رعاية الأدب كما تقدم في ثاني فصول الباب الثاني عن النووي. ومنها: انشراح الصدر ودوام السرور واستمرار الفرح بمجاورة هذا النبي الكريم والحلول بحضرته الشريفة، والإكثار من الدعاء بالتوفيق بشكر هذه النعمة، مع قرنها بحسن الأدب اللائق بتلك الحضرة، والرغبة إلى الله تعالى في جبر التقصير عن القيام بواجب حقها، والاعتراف بالقصور عن حال السلف الماضين، وكثرة التفكر في حالهم ومناقبهم وآدابهم. ومنها: أن يزمّ نفسه مدة مقامه في ذلك المحل الشريف بزمام الخشية والتعزيز والتعظيم، ويخفض جناحه ويغض من صوته في ذلك الموطن الشريف العظيم، ويلحظ قول الله عز وعلا إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات: 3] وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إلى قوله: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] قال ثابت بن قيس: أنا والله كنت أرفع صوتي عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإني أخشى أن يكون الله تبارك وتعالى قد غضب عليّ، قال: فحزن واصفر، قال: ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقيل: يا نبي الله إنه يقول: أخشى أن أكون من أهل النار، قال: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجلا من أهل الجنة. وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: لما نزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ قال أبو بكر: آليت أن لا أكلّم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا كأخي السرار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 وقد تقدم قول مالك رضي الله تعالى عنه في مناظرة المنصور، وأن حرمته صلى الله تعالى عليه وسلم ميتا كحرمته حيا. ومنها: الحرص على فعل أنواع الخيرات بحسب الإمكان في ذلك المكان، من عيادة مريض، وتشييع جنازة، ومعونة ضعيف، وإغاثة ملهوف، والإحسان إلى المقيمين والواردين، وإكرام الزائرين، ومواسة فقرائهم ولو بلقمة أو تمرة أو سقي الماء إن أمكنه، إلى غير ذلك من أنواع الخير والمعروف. ومنها: أن لا يضيق على من بها من الفقراء والمحتاجين، بسكنى الأربطة والأخذ من الصدقات، إلا أن يحتاج لذلك فيقتصر على قدر الحاجة، قاله الأقشهري، وهو حسن، قال: ولا ينتحل نحلة صورتها صورة عبادة ومحصولها فائدة دنيوية كإمامة وأذان وتدريس وقراءة ختمة أو خدمة في الحرم، إلا أن يخلص النية في ذلك، أو يكون عاجزا عن قوته، فيأخذ من الصدقات قوته، وما لا بد منه، من غير تعرض لها ولا إشراف نفس. ومنها: أنه متى اختار الرجوع، وعزم على النهوض إلى وطنه أو غيره، فالمستحب كما قاله النووي وغيره- أن يودع المسجد الشريف بركعتين، ويكون ذلك في المصلى الشريف النبوي، أو ما قرب منه من الروضة الشريفة، ثم يحمد الله تعالى، ويصلى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، ويدعو بما أحب، ويقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البرّ والتقوى، ومن العمل ما تحب وترضى. اللهم كن لنا صاحبا في سفرنا، وخليفة على أهلنا. اللهم ذلّل لنا صعوبة سفرنا، وأطو عنا بعده. اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكابة المنظر، وسوء المنقلب في الأهل والمال. اللهم اصحبنا بنصح، واقبلنا بذمة. اللهم اكفنا ما أهمّنا وما لا نهتم له، وارجعنا سالمين مع القبول والمغفرة والرضوان، ولا تجعله آخر العهد بهذا المحل الشريف، ويعيد السلام والدعاء المتقدم في الزيارة، ويقول بعده اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بحرم رسولك صلى الله تعالى عليه وسلم وحضرته الشريفة، ويسّر لي للعود إلى الحرمين سبيلا سهلة، وارزقني العفو والعافية في الدنيا والآخرة. وقال الكرماني من الحنفية: إذا اختار الرجوع يستحب له أن يأتي القبر الشريف ويقول بعد السلام والدعاء: ودّعناك يا رسول الله غير مودّع ولا سامحين بفرقتك، نسألك أن تسأل الله تعالى أن لا يقطع آثارنا من زيارة حرمك، وأن يعيدنا سالمين غانمين إلى أوطاننا، وأن يبارك لنا فيما وهب لنا، وأن يرزقنا الشكر على ذلك. اللهم لا تجعل هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 آخر العهد من زيارة قبر نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: ثم يتوجه إلى الروضة، ويصلي ركعتين عند الخروج، ويسأل الله العود مع السلامة والعافية. قلت: وهو صريح في تقديم وداع النبي صلى الله عليه وسلم على توديع المسجد بالركعتين، ومقتضى كلام النووي وغيره ما قدمناه، وممن صرح بمقتضاه في تقديم الصلاة على توديعه صلى الله تعالى عليه وسلم أبو سليمان داود الشاذلي من المالكية في كتابه النيات والانتصار، والأصل في ذلك كما أشار إليه ابن عساكر حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «كان لا ينزل منزلا إلا ودّعه بركعتين» . ومنها: أن ينصرف عقب ذلك تلقاء وجهه، ولا يمشي القهقرى إلى خلفه، ويكون متألما متحزنا على فراق الحضرة النبوية، متأسفا على ما يفوته من تركه ملازمتها، وهناك تظهر من المحبين سوابق العبرات، ويتصعد من بواطنهم لقوة الوجد لواحق الزفرات. وأنشد أبو الفضل الجوهري في توديعه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت كيف نكرر التوديعا لعلمت أن من الدموع محدّثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا وقال العز بن جماعة: أنشدني والدي يعني البدر بن جماعة- لنفسه وهو يبكي عند وداعه لسفره من المدينة الشريفة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام: أحنّ إلى زيارة حيّ ليلى ... وعهدي من زيارتها قريب وكنت أظن قرب الدار يطفي ... لهيب الشوق فازداد اللهيب ولله در القائل: أرسلت أعيني دموعا غزارا ... وحوت أضلعي لهيبا ونارا وتناآى صبري وهل بعد بعد ... يجد الصب سلوة واصطبارا يا ديار الأحباب كان اختياري ... أن أراك المساء والأبكارا ذاك لو يسمح الزمان، ولكن ... ليس لي أن أعارض الأقدارا ليس نأيي رضى وعن طيب نفس ... إنما كان بالقضاء اضطرارا واختياري أن لا أفارقك الده ... ر ولكن لا أملك الاختيارا فعسى الله أن يمن بعود ... فعساه يطفي لهيبا ونارا ومنها: أن يستصحب منه هدية ليدخل بها السرور على أهله ومعارفه، من غير أن يتكلفها، سيما ثمار المدينة ومياه آبارها النبوية، ولا يستصحب شيئا من تراب حرم المدينة ولا من الأكر المعمولة منه، قال النووي: وكذا الأباريق والكيزان وغير ذلك من التراب والأحجار فإنه لا يجوز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 قلت: وقد سبق واضحا في الحرم، واستدلوا لاستحباب استصحاب الهدية بحديث ضعيف رواه الدارقطني عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال «إذا سافر أحدكم فليهد لأهله، وليطرفهم ولو كانت حجارة» وذكر الغزالي في الإحياء سببا لذلك، وهو تشوف النفوس إلى ذلك، خصوصا الأولاد ونحوهم. ومنها: أن يتصدق بشيء مع خروجه من المدينة الشريفة، وينوي حينئذ ملازمة التقوى، والاستعداد للقاء الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم في يوم الميعاد، وليحذر كل الحذر بعد ذلك من مقارفة الذنوب، فإن النّكسة أشد من المرض، وليحافظ على الوفاء بما عاهد الله تبارك وتعالى عليه، ولا يكون خوّانا أثيما فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما. ومنها: أن يكون مع ذلك دائم الأشواق لذلك المزار، ومشاهدة عظيم تلك الآثار، متعلق القلب بالعود إلى تلك الديار، ينمي شوقه بتأمل ما نقل في ذلك من الأخبار والآثار، وما نظم فيه من نفائس الأشعار. ومن أعذبها وأعجبها قصيدة الإمام الولي العارف بالله أبي محمد البكري، وقد أخبرني بها جماعة من المشايخ الأجلّاء المسندين منهم شيخنا الشيخ الإمام العلامة شيخ المحدثين بالمسجد النبوي ناصر الدين أبو الفرج محمد ابن الإمام العلامة قاضي طيبة زين الدين أبي بكر بن الحسين العثماني المراغي سماعا عليه بالروضة الشريفة النبوية، قال: أخبرني والدي إذنا إن لم يكن سماعا قال: أخبرني شيخنا الحافظ أبو السيادة عبد الله عفيف الدين بن محمد بن أحمد المطري قراءة عليه، قال: أخبرني الشيخ الإمام العارف أبو محمد عبد الله بن عمر بن موسى البكري سماعا غير مرة، قال: دار الحبيب أحقّ أن تهواها ... وتحنّ من طرب إلى ذكراها وعلى الجفون متى هممت بزورة ... يا ابن الكرام عليك أن تغشاها فلأنت أنت إذا حللت بطيبة ... وظللت ترتع في ظلال رباها مغنى الجمال مني الخواطر والتي ... سلبت عقول العاشقين حلاها لا تحسب المسك الذكي كتربها ... هيهات أين المسك من ريّاها طابت فإن تبغي التطيب يا فتى ... فأدم على الساعات لثم ثراها وابشر ففي الخبر الصحيح مقررا ... أن الإله بطابة سماها واختصها بالطيبين لطيبها ... واختارها ودعا إلى سكناها لا كالمدينة منزل، وكفى لها ... شرفا حلول محمد بفناها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 حظيت بهجرة خير من وطئ الثرى ... وأجلهم قدرا، فكيف ثراها؟ كل البلاد إذا ذكرت كأحرف ... في اسم المدينة لا خلت معناها حاشى مسمى القدس فهي قريبة ... منها، ومكة إنها إياها لا غرو إلا أن تم لطيفة ... مهما بدت يجلو الظلام سناها جزم الجميع بأن خير الأرض ما ... قد حاط ذات المصطفى وحواها ونعم، لقد صدقوا، بساكنها علت ... كالنفس حين زكت زكى مأواها وبهذه ظهرت مزية طيبة ... فغدت وكل الفضل في معناها حتى لقد خصت بروضة جنة ... الله شرفها بها وحباها ما بين قبر للنبي ومنبر ... حيا الإله رسوله وسقاها هذي محاسنها فهل من عاشق ... كلف شحيح باخل بنواها إني لأرهب من توقّع بينها ... فيظل قلبي موجعّا أوّاها ولقلما أبصرت حال مودّع ... إلا رثت نفسي له وشجاها فلكم أراكم غافلين جماعة ... في إثر أخرى طالبين هواها قسما لقد أذكى فؤادي بينكم ... نارا، وفجر مقلتيّ مياها إن كان مزعجكم طلاب معيشة ... فالخير كل الخير في مثواها أو خفتم ضرا بها فتأملوا ... بركات بلغتها فما أزكاها إلا إذا يبغى الكثير لشهوة ... ورفاهة لم يدر ما عقباها والعيش ما يكفي، وليس هو الذي ... يطغى النفوس ولا خسيس مناها يا رب أسأل منك فضل قناعة ... بيسيرها وتحببا لحماها ورضاك عني دائما، ولزومها ... حتى توافى مهجتي أخراها فأنا الذي أعطيت نفسي سؤلها ... وقبلت دعوتها، فيا بشراها بجوار أوفى العالمين بذمة ... وأعز من بالقرب منه يباهى من جاء بالآيات والنور الذي ... داوى القلوب من العمى فشفاها أولى الأنام بخطة الشرف التي ... تدعى الوسيلة خير من يعطاها إنسان عين الكون، سر وجوده ... يس إكسير المحامد طه حسبي، فلست أفي بذكر صفاته ... ولو أن لي عدد الحصا أفواها كثرت محاسنه فأعجز حصرها ... وغدت وما نلفي لها أشباها إني اهتديت من الكتاب باية ... فعلمت أن علاه ليس يضاهى ورأيت فضل العالمين محددا ... وفضائل المختار لا تتناهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 كيف التقصي والوصول لمدح من ... قال الإله له وحسبك جاها (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما) ... فيما يقول (يُبايِعُونَ اللَّهَ) هذا الفخار فهل سمعت بمثله ... واها لنشأته الكريمة واها صلوا عليه وسلموا؛ فبذلكم ... تهدى النفوس لرشدها وغناها صلى عليه الله غير مقيد ... وعليه من بركاته أنماها وعلى الأكابر آله سرج الهدى ... أحبب بعترته ومن والاها وكذا السلام عليه، ثم عليهم ... وعلى عصابته التي زكاها أعني الكرام أولي النهي أصحابه ... فئة التقي ومن اهتدى بهداها والحمد لله الكريم، وهذه ... نجزت وظني أنه يرضاها قال البدر بن فرحون أحد أصحاب ناظمها سيدي أبي محمد البكري: إن بعض الصالحين رأى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام، قال البدر: وأشك هل كان هو الشيخ أو غيره، وأنشد هذه القصيدة، فلما بلغ آخرها قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «رضيناها رضيناها» . قلت: فلذلك ختمت بها كتابي هذا عسى أن يكون مرضيا عند سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فيلحظه بعين القبول، لأنال منه من الرضوان غاية المأمول، ولله در القائل: إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا عليّ لئامها اللهم جد علينا برضوانك، واجعلنا في حرزك وأمانك، وتفضل علينا بجودك وإحسانك، بمجاورة حبيبك المصطفى في الدارين، والفوز من اتباع سنته بما تقربه العين، وثبت قلوبنا على الهدى، وسلمها من الزيغ والرّدى، ونجنا من الفتن والبلوى، وخلصنا من كدورات هذه الحياة الدنيا، ووفقنا للقيام بما أمرتنا قولا وفعلا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وسامحنا بجودك وكرمك إنك أنت الجواد الكريم، وافعل ذلك بوالدينا ومشايخنا وأحبابنا وجميع المسلمين، سيما من اشتغل بهذا الكتاب، ورغب فيه من الطلاب، جعله الله خالصا لوجهه الكريم، موصّلا للفوز بجنات النعيم، وحفظه من الحاسدين، بالكرام الكاتبين، وحماه من السراق، كما من بسلامته من الاحتراق. وقد سلكت فيه إيضاح العبارات، مع سلامتها من الركّة والغرابات، ليسهل تناوله، وتورد على العموم مناهله، وحذفت الأسانيد من أحاديثه اكتفاء بتخريجها، والكلام على ما يحتاج إلى الكلام عليه منها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 وكأني بمن لا يميل طبعه المنحرف إلى الفقيهات، قد عاب علينا بما أوردناه فيه، من أحكام الحرم وغيره، وكذا ما ذكرناه من منازل المهاجرين والأنصار والدور المباركات، وأسماء البقاع والجهات البعيدات، وإن كانت من التوابع والمضافات، وما درى موقع ذلك عند ذوي العنايات، والهمم العاليات، ومن جهل شيئا عاداه، والحمد لله على ما أولاه. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: فرغت من تأليفه في اليوم المبارك الرابع والعشرين من جمادى الآخرة عام ست وثمانين وثمانمائة بالمدينة الشريفة، ثم بلغني بعد الرحلة إلى مكة المشرفة في شهر رمضان منها ما أصيب به المسلمون من حريق المسجد فألحقته في محله، وسأتبعه بما يتعلق به من العمارة المتوقعة إن شاء الله تعالى. قال مؤلفه: وكان الفراغ من تبييضه على يد مؤلفه بالمسجد الحرام المكي تجاه الكعبة المعظمة في سلخ شوال المبارك، عام ست وثمانين وثمانمائة، ثم ألحقت فيه ما سبق ذكره من العمارة المتجددة، وما ترتب عليها في محالها بعد رجوعي إلى المدينة الشريفة سنة ثمان وثمانين وثمانمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأكرمين، رضوان الله عليهم أجمعين. وقد تم بحمد ذي القدرة والجبروت، الذي بيده ملكوت السموات والأرض- تحقيق هذا الكتاب المبارك إن شاء الله في شهر رمضان المعظم من سنة 1374 هـ، والله سبحانه ولي التوفيق والسداد، وكان من عجائب المصادفات أن شرعت حكومة المملكة العربية السعودية بأمر كريم صدر من جلالة الملك المعظم سعود بن عبد العزيز آل سعود، في ترميم بعض مواطن من حرم النبي صلى الله عليه وسلم وعظم وبارك وكرم وتوسعته، فأحببنا أن نضيف تفصيل ذلك إلى هذا الكتاب كما أضاف المؤلف تفاصيل العمارة التي حدثت في زمانه، وجعلنا إضافتنا في أخريات الكتاب؛ لأننا لا نرى من حقنا أن نضيف في أثناء الكتاب ما ليس من عمل صاحبه، والله يتقبل منا ويجزينا بما هو أهله من الكرم والجود والإحسان، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 فهرس الجزء الرابع الفصل الثامن 3 حرف الألف 3 حرف الباء 16 حرف التاء 34 حرف الثاء 39 حرف الجيم 44 حرف الحاء 51 حرف الخاء 63 حرف الدال 73 حرف الذال 75 حرف الراء 76 حرف الزاي 85 حرف السين 87 حرف الشين 95 حرف الصاد 101 حرف الضاد 106 حرف الطاء 107 حرف الظاء 108 حرف العين 109 حرف الغين 120 حرف الفاء 123 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 حرف القاف 127 حرف الكاف 134 حرف اللام 136 حرف الميم 137 حرف النون 151 حرف الهاء 157 حرف الواو 158 حرف الياء 162 الباب الثامن: في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أربعة فصول 166 الفصل الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة نصا 166 الحديث الأول 166 الحديث الثاني 168 الحديث الثالث 168 الحديث الرابع 169 الحديث الخامس 170 الحديث السادس 170 الحديث السابع 170 الحديث الثامن 171 الحديث التاسع 171 الحديث العاشر 171 الحديث الحادي عشر 172 الحديث الثاني عشر 172 الحديث الثالث عشر 172 الحديث الرابع عشر 173 الحديث الخامس عشر 173 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 الحديث السادس عشر 174 الحديث السابع عشر 174 الفصل الثاني: في بقية أدلة الزيارة، وإن لم تتضمن لفظ الزيارة نصا 175 الفصل الثالث: في توسل الزائر 191 الفصل الرابع: في آداب الزيارة والمجاورة، وهي كثيرة 203 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234